الأصحاح ١٩
الشريعة الجديدة للملكوت
بعد قطع العلاقة مع إسرائيل بحسب الجسد، للوقت الراهن، حيث الملكوت الذي يتنبأ عنه الأنبياء هو في حالة تعطل مؤقت، شرع يسوع يتحدث بسلطان حول أمور تتطلب تعليمات محددة لإرشاد أتباعه خلال سنوات هذه الفترة الفاصلة إلى أن تُكشف أسرار الملكوت.
وإذ غادر الجليل تابع طريقه نحو أورشليم ماراً عبر بيرية شرق الأردن.
"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاكَ" (الآيات ١- ٢).
من العبارة "تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ" علينا أن نفهم أنها المنطقة المتاخمة لليهودية. بينما هو يتحرك بجلال نحو موته، تابع (الرب) منح رحمته وأعمال قدرته نحو كل الذين كانوا يجيئون إليه طالبين شفاء الجسد، وبهذا أظهر حقيقة أنه الممسوح من قِبَلِ الله (أعمال ١٠: ٣٨)، رغم أن قادة الدين وحكام الشعب لم يعرفوه أو يتعرفوا عليه.
بعض هؤلاء الفريسيين المتكبرين المتعجرفين جاؤوا إليه وطرحوا عليه سؤالاً يتعلق بالطلاق، وهذا أتاح له الفرصة ليوضحَ النظام الجديد الذي يجب أن يسود وسط أولئك الذين سيخضعون لسلطانه في الأيام القادمة.
"وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟» وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». قَالُوا لَهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلَكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي». قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هَكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هَذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هَكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ»" (الآيات ٣- ١٢).
إن السؤال الذي طرحه الفريسيون كان يُقصد به, بشكل واضح, وضع يسوع في موقف تعارض مع ناموس موسى؛ ولكن في إجابته عليهم أعاد التشريع السينائي أو اللاوي إلى الناموس الأصلي للزواج, والذي كان يجب أن يكون القانون لتلاميذه في المستقبل.
لقد سأله الفريسيون: "«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟»". لقد كانت بعض تعاليم الربانيين الليبرانيين رخوةً جداً بخصوص هذا الموضوع, ولذلك كان يمكن للرجل أن يتبرأ من زوجته ويطلّقها لأدنى سبب أو ذريعة. فأشار يسوع كمرجع إلى ما كان قد كُتب في تكوين ٢: ٢٤: "مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى". هذا هو المثال الإلهي: رجل واحد لامرأة واحدة في علاقة زواج مقدسة. إن الجنس البشري برمته نشأ عن أول زوجين خلقهما الله, وهذا كان يرمز, كما تُشير طقوس الزواج, إلى الاتحاد السري الذي يوجد بين المسيح وكنيسته (أفسس ٥: ٣١, ٣٢). "وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً". لاحظوا, لا يقول "الثلاثة" أو الخمسة, أو أي عدد آخر, بل ببساطة يقول "الاثنان". وكل ما عدا ذلك هو انحراف مخالف للقصد الأصلي الذي أراده الخالق. "فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ". ومن هنا, وفي فجر تاريخ الإنسان (والعائلة), لدينا عقد الزواج الذي لا يمكن التملّص منه وقد كُشِفَ, وذلك بحسب مشيئة الله. فمن يحطّم هذا الاتحاد إنما يعصى كلمة الرب.
فمن الطبيعي أن يسأله مناوئوه: "«فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟»". أوضح يسوع أن هذا كان تدبيراً مؤقتاً أُعطي لموسى السلطان لأن يسمح به بسبب قساوة فؤاد الرجال. لقد كان بغاية حماية المرأة من القسوة والجهد في سعيها إلى الاستمرار في الحياة في منـزلٍ حيث لا تكون محبوبة أو مرغوبة أو تكون خاضعة لمعاملة قاسية. فمن الأفضل بكثير إعادتها إلى منـزل والديها أفضل من جعلها عبدةً لنـزوات الزوج القاسي.
أما الآن فمَلِكُ إسرائيل والفادي قد جاء، وأعلن أن: " إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي»". في هذه الكلمات أكد يسوع قداسة علاقة الزواج. لقد قصد به الله أن يكون اتحاداً مدى الحياة. المؤمن الخاضع لله سوف لن يحطمه. فإن انتهك أحدهم هذا الرابط بسلوك غير عفيف- أي, بعلاقات غير شرعية مع طرف ثالث- فإن الطرف البريء له الحرية أن يطلّق الشخص غير المخلص وأن يتزوج شخصاً ما آخر.
كثيرون تساءلوا وشككوا في هذا التفسير لكلمات ربنا, ولكن ليس لديهم أي معنى آخر. فالقول, كما ادعى البعض, بأن الرب كان يُشير إلى الزنا المُرتكب قبل الزواج (كما في تثنية ٢٢: ١٣, ١٤, ٢٠, ٢١), وأن ليس في هذا إشارة إلى هكذا خطيئة تُرتكب بعد الزواج, سيكون هذا التفسير هو بمثابة وضع فرق قيمة للخيانة الزوجية, وكأنها أقل شراً من نفس النوع من الإثم الذي يُرتكب من قِبَل أولئك الذين لم يتزوجوا بعد. لتأييد هذه النظرية أكد البعض أن كلمة "زنا" تشير فقط إلى اللاطهارة الجنسية من طرف الناس العازبين. ولكن ١ كورنثوس ٥ تنفي ذلك. إن الرجل الذي يرتكب سفاح القربى هناك كان يعيش مع زوجة أبيه, وقد اتُهم بالزنا.
بينما هناك تأكيد على الطابع الرفيع والمقدس للزواج بحسب كلمة الله, لا يريد يسوع أن يضع على الطرف البريء المُطلَّق عبئ المُضي في الحياة لوحده, بسبب خيانة الشريك الشرير.
تفسير آخر أُعطي هو في إبطال وإلغاء نفس التعليم الواضح الذي قدمه يسوع في هذا الموضوع: وأقصد, أنه قد تحدث كمن هو تحت الناموس, ولذلك فإن الاستثناء الذي يُذكر هنا لا ينطبق على هذا الدهر التدبيري من النعمة. أولئك الذين يؤمنون بهذا الرأي ينسون أنه بينما جاء يسوع تحت الناموس, "فإن الناموس والأنبياء كانوا حتى يوحنا". إن التعليم التمهيدي للدهر التدبيري الجديد قد أُعطي بيسوع, لأن "النعمة والحق أتيا به" (يوحنا ١: ١٧).
لقد كان يضع حجر أساس للمبادئ المتعلقة بالزواج والطلاق التي كانت يجب أن تسود منذ ذلك اليوم فصاعداً. إن هذا ما أربك وأقلق التلاميذ, الذين قالوا أنه إن كانت هذه الأشياء هكذا فلعله من الأفضل للمرء ألا يتزوج أبداً, إذ بدا أن الزواج يضع قيوداً ثقيلةً على الميول الطبيعية للطبيعة البشرية.
لقد أقرَّ الرب بأنه ليس كل الناس يقتبلون ذلك, ولكنه من أجل الذين أُعطي لهم- لؤلئك الذين هم على استعداد لأن يكونوا خاضعين لمشيئة الله, مدركين قداسة علاقة الزواج, أو من أجل الآخرين, كما قال بولس في يوم لاحق, أنه كان لديهم هكذا تمالك لأنفسهم حتى أنهم كان بمقدورهم أن يحفظوا أنفسهم أنقياء ولو غير متزوجين. مثل هؤلاء كانوا مخصيين من أجل ملكوت السموات. ولكن يسوع ما كان ليضع أي أحد تحت عبودية كمثل هذه. فبالنسبة له لقد كان من أجل ذلك القادر لكي يقتبله.
حسنٌ أن نتذكر أن الهدف الحقيقي من الزواج هو إنجاب الأولاد, وبالتالي تأسيس بيت تقي يكون شهادةً مذهلةً عن المسيح وسط عالم فاسد. إن كلمة "بيت" هي إحدى أعز الكلمات على قلب ملايين الناس. كم من ذكريات تحرك تلك الكلمة! كم تثير القلوب, وأي شكر نرفع لله ونحن نتذكر دائرة البيت السعيد ونتكل على الانطباعات التي ترسَّخت في أذهاننا الفتية منذ الصبا. إذ ورغم أننا نكون قد تجولنا وجُلنا كثيراً, يبقى البيت هو أكثر الأماكن قداسةً التي نكون قد عرفناها على الأرض. ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من الناس لم يعرف أبداً السر الخفي الكامن وراءه. وفي لغات عديدة كثيرة على الأرض ليس من كلمة تكافئ المعنى الذي نُعطيه لكلمة "بيت". فقلةٌ من القبائل الوثنية لديهم مرادفات لها. إنهم يتحدثون عن منـزل, ومسكن, أو مأوى؛ ولكن بالنسبة لهم, فإن البيت, كما نفهمه, هو شيء لم يعرفوه البتة. ومع ذلك، "اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ" (مز ٦٨: ٦)، فقد أسس منازل للبشر قبل زمن طويل من وجود الحكومات والدول وقبل ظهور الكنيسة إلى الوجود.
إنه أكثر من أربعة جدران وأثاث مريح. البيت, بأدق معانيه, هو حيث يسود الحب. إن البيت المثالي الذي في الكتاب المقدس هو المسكن, سواء كان خيمة الحجاج أو قصراً عظيماً, حيث العائلة تسكن معاً في محبة وانسجام, كلٌ يتمتع بصحبة الآخرين, والجميع يسعون لخير الكل. هكذا بيوت وُجِدت عند بني إسرائيل عندما كان كل العالم منغمسٌ في الوثنية, وحيث كان الخوف يسود بدل المحبة. لقد رفع يسوع حياة البيت إلى مستويات أعلى بكثير, جاعلاً منه مكاناً لأعمق العلاقات الروحية وأيضاً للمحبة الحانية. إن البيت المسيحي هو المكان الذي يتمتع به الأب والأم والأولاد معاً بالعطف الإلهي والحماية الإلهية, وحيث تكون العائلة كلها تكرم المسيح كمخلّص ورب. من هكذا بيت يصعد صوت الصلاة والتسبيح كذبيحة مستمرة دائمة يوماً فيوماً.
إن الإرخاء والتمييع لمفهوم ورابط الزواج وانتقاص المُثل البيتية هي على ما أعتقد أسوء الشرور في عصرنا. إن حالات الطلاق هي في ازدياد بمعدل يُنذر بالخطر إذ أن الناس آخذون في انتقاص من والاستخفاف بتعاليم الكتاب المقدس أكثر فأكثر ويقللون من احترام الطابع المقدس للزواج, ويطلقون العنان للمشاعر الجامحة والرغبات الأنانية. إن الأولاد هم أكثر من يعاني من انكسار وتحطم البيت. إننا نـزرع الريح كشعب, ويُقدَّر لنا أن نحصد الزوبعة ما لم نلتجئ إلى الله في توبة ونسعى للسير في إطاعة متواضعة لكلمته.
بهكذا معدل متزايد للطلاق في هذا العالم وفي حياة عائلات أخرى في مختلف الأماكن سيكون هذا الأمر منتشراً بكثرة عند غير المخلّصين. إن أبناء الله يجب أن يتحاشوا أي تعقيد من ناحية هذا الشر وذلك باللجوء إلى طاعة مطلقة لتعليم ربنا في ما يتعلق بديمومة العلاقة الزوجية التي كان يقصدها الله أساساً.
بعد هذا الاستطراد المطوّل نوعاً ما, علينا أن ننتقل إلى التأمل في الحادث التالي, الذي يليه في تتابع أخلاقي جميل؛ - الإتيان بالأولاد ليسوع لكي يباركهم.
"حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلاَدٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ فَانْتَهَرَهُمُ التَّلاَمِيذُ. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ». فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ" (الآيات ١٣- ١٥).
لقد دلَّ على إيمان حقيقي برحمة ونعمة وقوة الرب, عندما جلب الأهل أولادهم الصغار طالبين منه أن يضع يديه المقدستين عليهم وأن يمنحهم بركته. بالنسبة إلى التلاميذ, بدا هذا تطفلاً وإزعاجا ليس في محله من ناحية الوقت ومن ناحية مراعاتهم لمعلمهم, وحاولوا أن يمنعوا هؤلاء الذين كانوا يرغبون بأن يمنح صغارهم التفاتةً لطيفةً.
تدخّل يسوع مباشرة، وشجّع الأهل قائلاً: "«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»". لقد أظهر وأعلن قبل ذلك, وبسبب إيمانهم البسيط, أن الأولاد هم الرعية المثاليين للملكوت. وهنا نجده يعيد تأكيد ذلك, وبهذه الكلمات يُعطي شجاعةً لؤلئك الأهالي في كل مكان الذين يؤمنون به, لكي ما يأتون بصغارهم إليه, وهم على ثقة بأن بركته ستكون عليهم, كآباء يسعون لأن يربوا أولادهم بحسب التنشئة والتأديب الذي يريده الرب.
بعد وضع يديه على أولئك, غادر يسوع ذلك المكان ليمضي نحو أورشليم حيث كان سيبذل حياته كذبيحة عن الخطيئة.
لكي نفهم الحادث التالي بشكل صحيح, نحتاج لأن نميز بانتباه بين الخلاص والتلمذة. إن خلاص الله مجاني تماماً. إنه يُقدَّم إلى الناس على أساس النعمة الصرفة والتي لا تنتظر استحقاقاً. ولكن التلمذةَ هي على أساس آخر مختلف تماماً. إنها تكلِّف حرفياً كل ما يملكه المرء- أي تدفعه إلى خسران كل الأشياء (فيليبي ٣: ٧, ٨؛ لوقا ١٤: ٣٣). ما من أحد يمكن أن يكون تابعاً حقيقياً للمسيح ولا يحمل صليبه- ذاك الذي يرمز إلى موت الجسد- ويتبع الرب يسوع في نفس الطريق من الرفض الذي عاناه من قِبَل العالم والتكرّس لمشيئة الآب.
إن العالم يكون ضئيلاً وتافهاً عندما نجعل المسيح في الدرجة الأولى في حياتنا. يجب أن نكون له حصرياً, فهو يطلب منا أن نقدم له كل كياننا وأن يسود هو على كل حياتنا. ما من أحدٍ, مهما كان مقرباً, يُسمح له بأن يأتي عائقاً بيننا وبين ولاءنا له (لله) (لوقا ١٤: ٢٦, ٢٧). إن محبتنا للمسيح يجب أن تكون متقدةً جداً حتى أن عواطفنا لأقرب الأصدقاء إلينا أو أقاربنا ستبدو وكأنها بغضاء بالمقارنة, إن كانوا سيسعون لتنحيتنا عن طريق التكرّس لله.
بالنسبة للجسد, قد يكون هذا مطلباً قاسياً وصعباً تقريباً, ولكن النفس المستسلمة لله والصادقة تجد سعادةً أعمق في إذعانها وخضوعها كلياً لذاك الذي اشترانا بدمه, أكثر من العيش لإرضاء ذواتنا. لقد قاوم كثيرون ولسنوات الدعوة إلى هكذا حياة من الإخلاص والولاء القلبي الصادق, ولم يتعلموا إلا في النهاية بأنهم خسروا بشكل لا حد له وذلك برفضهم أن يُقرّوا بدعوة الرب يسوع لهم لإقصاء كل شيء سواه.
أن نحمل الصليب ونتبعه في الطريق الذي سار فيه حيث رفضَه العالم قد يبدو بأنه يتضمن تضحيات عظيمة جداً يصعب على اللحم والدم أن يتحملها, ولكن عندما يتم التسليم والخضوع لله وعندما يُقبل الصليب, فإننا سنكتشف, كما عبّرَ روثرفورد الورِع بأن "ذلك الصليب هو عبئٌ كمِثل الزعانف للسمكة أو الأجنحة للطير".
"وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنـز فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ». فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: «إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «هَذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ»" (الآيات ١٦- ٢٦).
"«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟»". هذا السؤال يدل ضمناً على قدرة المرء على أن ينال الحياة الأبدية عن طريق الأفعال. لم يكن هذا الشاب قد تعلّم بعد عن الإثم الكامل فيه والعجز المطلق.
"لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ". بمخاطبته يسوع المسيح قائلاً له "المعلم الصالح", من الواضح أن الشاب أراد أن يقدم له الإكرام, ولكن يسوع أوضح حقيقة أن الله وحده هو الصالح. كل الناس خطأة (رومية ٣: ١٢). ولذلك, لو كان يسوع إنساناً فقط, فما كان ليكون صالحاً, بهذا المعنى المطلق. وإن كان حقاً صالحاً, فعندها هو الله. بعد هذا الإعلان الجديل المهيب, أخذ الرب يسوع السائل على الأساس الذي طرحه. لقد كان الناموس يعدُ بحياة لؤلئك الذين يحفظونه (لاويين ١٨: ٥؛ غلاطية ٣: ١٢). ولذلك أجاب الرب: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا". هذا الإعلان كان مقصود به أن يُظهر للرجل عجزه عن الحصول على الحياة على ذلك الأساس, لأنه إن كان الضمير حياً فعالاً, سوف يُدرك أنه قد انتهك الناموس.
"قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟»". كانت هذه محاولة واضحة للتملص من قوة كلمات يسوع الكاملة. وفي الجواب, اقتبس يسوع خمساً من الوصايا الرئيسية وختمها بتلخيص كل هؤلاء لتشير إلى واجباتنا نحو إخوتنا البشر مستشهداً من لاويين ١٩: ١٨: "أَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". هذه تشير إلى حالة النفس المتيقظة إن أمكن للمرء أن يواجه كل هذه ويقول أنه ليس مذنباً.
إن أراد الناس أن يسعوا للحصول على الحياة الأبدية بأن يفعلوا الصلاة, فإن الناموس يتحداهم أن يبرهنوا على طاعة كاملة. لأن الجميع أخطئوا, وليس من الممكن لأي أحد أن يتبرر بأعمال الناموس. إن الناموس يتحدث بقوة مخيفة عن ضميرٍ يقظٍ حي, يجعل المرء يدرك عجزه عن إحراز الحياة الأبدية عن طريق الأهلية البشرية أو الاستحقاق البشري.
"هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". ما من شك في أن هذه الكلمات قد جاءت من قلب مخلص, ولكنها تقدم دليلاً على نقص الخبرة الحقيقية للضمير. فمن يستطيع أن يتحدث هكذا وهو عارفٌ بنفسه؟ ظاهرياً, قد تكون الحياة بلا لوم, ولكن إن كان الضمير حياً فاعلاً فلا بد من الاعتراف بالخطيئة. إن البر الذاتي المعتد بنفسه هو الذي يجعل المرء يفتخر بذاته متباهياً بأخلاقيته فلا يدرك فساد قلبه. السؤال: "فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟" بحدّ ذاته يشير إلى أية درجة كان ذاك الشاب راضياً عن نفسه.
"«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنـز فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي»". لقد تحدث يسوع هكذا ليخرجه من حالة الثقة القائمة على أساس ضعيف مريض. كيف كان يمكن لأي شخص, الذي كان قانعاً بأن يكون ثرياً, أن يعترف أنه يحب قريبه كنفسه بينما الناس المحتاجين والفقراء كانوا يعانون في كل لحظة ومن كل جهة حوله. لكي تصير تلميذاً للمسيح- لتعيش من أجل الآخرين- وهكذا تكنـز لك "كنـزاً في السماء", فإنك لا يمكن أن تنجذب إلى هذا الشخص الذي يتحدث بشكل عفوي قائلاً عن إطاعة كاملة لوصايا الله منذ صباه.
بدعوته للشاب الغني الذي طرح السؤال لأن يبيع كل ما يملك ويعطيه للفقراء, لكي يكون له كنـز في السماء, كان ربنا يسعى ليُظهر كلاً من الخداع والأنانية التي في قلب الإنسان. إن الدعوة إلى التخلي عن كل شيء وإتباع المسيح كانت دعوة للإذعان كلياً إلى سلطانه, وهكذا نصبح تلاميذ بالفعل وبالحق.
"مَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ". لقد حَسُنَ القول عن تلك الحالة أنها كانت الرفض الكبير. فرغم كل إعجاب أبداه هذا الرجل بالرب يسوع المسيح, ورغم كل التوق الداخلي الذي كان لديه لأن يسعى وراء حياة روحية, فإنها كلها كانت أضعف من محبته لثروته والمكانة التي أعطاها للدوائر الاجتماعية في أيامه. إن "ممتلكاته الكثيرة" وقفت حائلاً بينه وبين خلاص نفسه. لقد كانت ثرواته تعني له أكثر بكثير من معرفة الحياة الأبدية.
"إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ". كما رأينا لتوّنا ملكوت السموات ليس السماء نفسها. بل إنه يتطلب اعترافاً بسلطة السماء والخضوع لها بينما نحن لا نـزال على الأرض. فيصعب على أولئك, الذين ائتمنهم الله على ثروة كبيرة, أن يعتبروا كل شيء مما يمتلكوه كوكالة أُنيطت بهم, يكونون مسؤولين عن استخدامها لمجده. لم يكن خلاص نفسِ هذا الشاب فقط هو الذي على المحك: لقد كان يسوع يشير إلى الطريق إلى التلمذة الحقيقية.
"فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: «إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟»". لقد كانوا يظنون بشكل طبيعي أنه من الأيسر لؤلئك الذين يعيشون في ظروف مريحة أن يتبعوا يسوع أكثر من الفقراء والمحتاجين, ولكن في كل تاريخ المسيحية غالباً ما نرى أن الفقراء في هذا العالم هم الذين كانوا أغنى بالإيمان. "عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ". إن قدرة الله الكلية هي وحدها التي تقود أي إنسان, سواء كان غنياً أو فقيراً, إلى الإيمان بالمسيح كمخلّص وتقديم الطاعة له كرب. إن كل اهتداء, وكل حياة مكرسة مقدسة هي معجزة للنعمة. سواء كان الناس أغنياء أم في فقر مدق, أو من الطبقة المتوسطة المرتاحة نوعاً ما, فإنهم يُدانون فقط بخسران حالتهم بالروح القدس لأنهم لم يلتجئوا إلى المسيح من أجل الانعتاق والخلاص. فيه تتلاشى كل الفروقات الطبقية, والجميع يقفون على قدم المساواة أمام الله.
لا نعلم ما الذي قاد ذلك الشاب الغني إلى أن يتحدث إلى الرب يسوع. لربما شعر في داخل نفسه أن ها هنا إنسان أمكنه أن يتحدث بكل سلطان ولذلك فكان له الحق أن يطالب بالخضوع لكلماته. ولكن من الواضح أن هذا الشاب لم يكن لديه إدراك إلى حاجته الذاتية في كونه خاطئ. لقد فكر في يسوع كمعلّم, وليس كمخلّص. ولذلك فهو لم يكن مستعداً لأن يضع المسيح أولاً في حياته, ومثل عدة آلاف من الناس الذين انجذبوا إلى الرب يسوع, مضى حزيناً عندما عَرَفَ شروط التلمذة.
الاستخدام الصحيح للثروة: إنها ليست خطيئة أن تكون غنياً. إن الخطيئة هي أن تجعل الثروة أساس للثقة الزائدة وأن تتمتع بوسائل الراحة التي تقدّمها الثروة بينما تنسى آلام ومعاناة الفقراء والمحتاجين. عندما يعهد الله بثروة لأي إنسان فإن هذا يكون بمثابة وكالة وضِعَت بين يديه ليديرها ويدبرها لمجد من أعطاه إياها. إن محبة المال, وليس المال بحد ذاته, هي الشر (ا تيموثاوس ٦: ١٠). قد يصبح المال وسيلةً لبركاتٍ لا حد لها إذا ما استُخدِمَ بالتوافق مع المسيح (١ تيموثاوس ٦: ١٧- ١٩). لقد كان التلاميذ متفرجين صامتين ومستمعين خلال هذا الحديث الذي دار بين الرب والشاب الغني. أما الآن وقد انتحى الشاب الغني وقرر أن يمضي في طريق أنانيته, فإن بطرس تحدث بالنيابة عن الجميع, وعبّر عن قلقل أو اهتمام قلوبهم عمّا ستكون عليه النتيجة النهائية لنكرانهم وتخليهم عن كل شيء من أجل اسم المسيح.
"فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلَكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ»" (الآيات ٢٧- ٣٠).
"«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟»". لقد بدا سؤالاً طبيعياً, وهو نوعاً ما كذلك. في عيني العالم كانوا قد فقدوا كل رجاء بالغنى أو بتحسين أحوالهم. لقد جازفوا بكل شيء إيماناً منهم بأن يسوع كان المسيّا الموعود. ومع ذلك فقد تحدث بشكل قاتم عن الرفض, والألم والمعاناة, والموت. فما الذي سيرتقبونه في الأيام التالية؟
إجابةً على ذلك أكدَّ لهم يسوع أنه عندما سيُعتَلَن الملكوت بشكل كامل, في أيام تجديد الأرض, أو الولادة الجديدة, فإن أولئك الذين كانوا قد تمثلوا به واتحدوا به خلال رفض العالم له سيكرَّمون ويُعترف بهم بطريقة بارزة ذات مغزى: فسوف يُجلسونَ على الكراسي الإثني عشر, ويدينون أصوات إسرائيل. بقول هذا لم يغفل عن ارتداد يهوذا المُتنبئ عنه, ولكن رتب بمشورات الله أن يأخذ متيّا مكانه. وإن رسولية بولس في ما بعد كانت على أساس وترتيب مختلف كلياً. لم يُحصى بين الإثني عشر, ولكنه كان الأداة المختارة لينقل سر جسد المسيح الذي ليس فيه تمييز بين يهودي أو أممي, كما يخبرنا في الأصحاح ٣ من رسالته إلى أهل أفسس.
ليس فقط أن الإثني عشر كانوا متأكدين من المكافأة، بل أيضاً أعلن يسوع ذلك قائلاً: "كُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ". ما من أحد يضِل أبداً بتكرسه الزائد للمسيح. كل ما يُنكر من أجل اسمه سوف يُعوّض على صاحبه بوفرة, في كل من هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. وسيكون هناك كثيرون ممن اعترفوا بهكذا نكران لمنفعة دنيوية من أجله والذين سيكونون مثل, ديماس, قد أخفقوا في الحصول على المكافأة بسبب عدم إخلاصهم. وآخرون قد لا يكونون قد احتملوا الكثير من أجله ولكن كانوا صادقين في قلوبهم في الوقت الذي شاركوه فيه الرفض وهؤلاء سوف يُميَّزون وسيُعترف بهم في ذلك اليوم. ومن هنا, فإن الأول يكون أخيراً والأخير يصير أولاً.
عندما يملأ المسيح فكر الإنسان, فإنه يصير من السهل أن يتخلى الإنسان عن كل شيء من أجل اسمه. ولكن ما لم يُعرف, أولاً كمخلّص, ثم كرب, فإن أمور هذه الأرض ستبقى على ما يبدو أعظم بكثير في قيمتها وأهميتها من أمور الحياة الأبدية. ما لم يتعلّم المرء الدرس من إثمه ومن عبثيّته وتفاهته, فإنه لن يتحول إلى الرب يسوع من تلقاء ذاته من أجل الانعتاق والخلاص ولن يكون مستعداً للاعتراف بسلطانه في كل مجال من حياته الأرضية هذه. إن المحبة نحو المسيح تجعل تسليم الذات أمراً سهلاً, ومحبة الذات تجعل الأمر مستحيلاً.
يأتي التناقض بشكل واضح عندما نرى الرفض الكبير الذي أبداه الشاب الغني, والإخلاص المُكرّس من جهة الجماعة الرسولية, الذين كانوا قد تركوا كل شيء ليتبعوا ربهم ومعلّمهم, رغم الكثير من سوء الفهم والإخفاق.