الأصحاح ١٢
نكران سلطة الملك
الأحداث المدونة في هذا الأصحاح تأتي بنا إلى ختام هذا القسم الأول الكبير من الإنجيل، حيث تم عرض أو تقديم الملك والملكوت لبني إسرائيل. هنا نجد قادة الشعب يرفضون يسوع عن عمد وينسبون أعمال قدرته لبعلزبول تحديداً. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي استخدموها ليفسروا فيها المعجزات العظيمة التي قام بها يسوع مع رفضهم لأن يروا فيها أوراق اعتماده كونه الملك الموعود.
في الآيات الثمانية الأولى لدينا تدوين لحادثة تعليمية وممتعة للغاية. فهنا يُعلن يسوع أنه رب السبت، ولهذا يُصادق من جديد على إدراكه لألوهيته؛ لأن السبت كان شهادة الرب (يهوه) على قدرته الخلْقية (خروج ٢٠: ١٠، ١١) وتحرير إسرائيل من العبودية في مصر (تثنية ٥: ١٤، ١٥). لقد كان "سبت الرب" بشكل واضح مميز. إن رب العهد القديم هو يسوع العهد الجديد، وهو رب السبت، ورب كل شيء آخر.
"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: «هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللَّهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟ أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَهُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً" (الآيات ١- ٨).
"ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ". بينما كانوا يسيرون بهدوء في الريف، مر يسوع وتلاميذه عبر حقل حنطة؛ ونعلم هنا أن التلاميذ، وإذ كانوا جياعاً، راحوا يقطفون سنابل القمح ليأكلوها. وكان هذا يتناسب مع قواعد حفظ الناموس وتدبيره، إذ في تثنية ٢٣: ٢٥ نقرأ: "إِذَا دَخَلتَ زَرْعَ صَاحِبِكَ فَاقْطِفْ سَنَابِل بِيَدِكَ وَلكِنْ مِنْجَلاً لا تَرْفَعْ عَلى زَرْعِ صَاحِبِكَ". هذه الحادثة جرت في يوم السبت، ووجد فيها الفريسيون مناسبة للانتقاد فقالوا: "هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ". لم يكن في ناموس موسى ما يُحظر القيام بذلك، ولكن في تقاليد الشيوخ كانت هناك نواميس عديدة وتشريعات كثيرة قد أُضيفت حتى جعلت من المستحيل تقريباً على الإنسان العادي أن يعرف إذا ما كان ينتهك إحداها أم لا. ومن بين هذه القوانين كان حظر التقاط الثمر أو الحبوب من أي نوع في يوم السبت، أو حتى فركها باليد كما كان التلاميذ يفعلون والذي بدا بالنسبة لهؤلاء الفريسيين على أنه تعدٍّ على ما كانوا يعتبرونه مقدساً.
لقد دافع الرب عن أتباعه، بأن أوضح أن سد حاجة الإنسان تهم الله أكثر من إطاعة تقييدات وتشريعات ناموسية. فأورد على سبيل المثال حالة داود ورجاله عندما كانوا جائعين، وسألوا رئيس الكهنة إن أمكن أن يُسمح لهم لأكل خبز التقدمة الذي كان يُؤخذ عن المائدة المقدسة أمام الرب. في الظروف العادية، لم يكن يحق لأحد أن يأكل من هذا الخبز إلا الكهنة أنفسهم. ولكن عندما رُفِضَ ملكُ الله الممسوح ووقع أتباعُه في حاجة، فإن حاجتهم صارت أعلى من أي حظر ناموسي.
وذكَّر الرب أيضاً منتقديه بأن الكهنة في الهيكل كانوا يعملون في يوم السبت، ولذلك فلعله يمكن القول أنهم انتهكوا الناموس أيضاً، ولكنهم كانوا بلا لوم في قيامهم بذلك.
ثم أضاف الإعلان المميز اللافت أن: "إِنَّ هَهُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ". كم كان فهمهم ضئيلاً لكلماته. كل ما في ذلك الهيكل، والذي كان قد ترتب بحسب كلمة الله، كان يدل عليه وعلى عمله الفدائي؛ ولكن رغم أنه جاء شخصياً إلى ما دعاه بنفسه بيت أبيه، فقد أخفقوا في أن يُدرِكوا أنه هو ذاك الذي كان يسير بينهم. لم تكن كلماته مجرد تعبير عن ألوهيته فحسب، بل كان يجب أن يفهم الفريسيون منها أن الإنسان نفسه يعني الله أكثر من أي بناء مهما كان مقدساً؛ أو أوامر ونواهي، مهما كانت مُشَرْعَنة جيداً. لو أنهم فكروا بكلمات النبي هوشع (٦: ٦)، "إ نِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً وَمَعْرِفَةَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ"، لكانوا قد فهموا ذلك ولما كانوا قد أدانوا التلاميذ على قيامهم بذلك العمل الذي هو بريء تماماً بحد ذاته.
إن توكيد يسوع اللافت، كما يرد في الآية ٨، يُفهم منه على الأقل أنه كان يُعلِن أنه الله المتجسد. لقد قال: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً". ما من إنسان بشري وحسب كان لِيُمكن أن يكون لديه الحق بأن يستخدم هكذا لغة. ولكن ذاك الذي وقف في وسطهم ذلك اليوم كان هو الشخص الذي تُشير إليه كل السبوت الناموسية، وأنه صاحب السلطان المطلق عليها.
عندما نتأمل القسم التالي نجد ربنا يتصرف من جديد بعكس تبجحات أعدائه بخصوص السبت.
"ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ فَسَأَلُوهُ قَائِلين: «هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟» لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ فَإِنْ سَقَطَ هَذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ فَالإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذاً يَحِلُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي السُّبُوتِ!» ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَلَمَّا خَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ" (الآيات ٩- ١٤).
وبينما هو داخل إلى مجمعٍ في قرية رأى يسوع رجلاً بيد يابسة. فطُرِح سؤال اختباري بين أولئك الذين كانوا يتجمعون هناك، تاركين له أن يُجيب عليه. فسألوه: "هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟". فأحال السؤال عليهم. إن قالوا "لا"، فهذا سيدل على أنهم لا مبالين أبداً بآلام البشر؛ وإن ردوا بالإيجاب فإنهم إنما يُدينون أنفسهم؛ ولذلك فقد تمنعوا عن الإجابة. (انظر مرقس ٣: ٤؛ لوقا ٦: ٩).
ثم سألهم سؤالاً آخر- سيرافق الكثيرين منهم إلى منازلهم: "أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ فَإِنْ سَقَطَ هَذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟". لعل كثيرين منهم كانوا قد فعلوا هذا الأمر نفسه في مناسبات عديدة. كانت الخراف تشكل بالنسبة لهم الممتلكات، والممتلكات يجب أن يُعنى بها حتى في يوم السبت.
وبدون انتظار للجواب، ردَّ يسوع على أسئلتهم بأن أوضح أن الإنسان أفضل بكثير من الخروف، وإنه ليتوافق مع الناموس دائماً أن يفعل الإنسان خيراً في أيام السبت. ولذلك، فقد التفت نحو الرجل الذي كان ينظر إليه مترقباً، وأمره أن يمد يده. وفي ثانية دخلت حياة جديدة إلى ذلك العضو اليابس، وشُفِيَت اليد وعادت صحيحة مثل الأخرى. قد يعتقد المرء أنه لا بدَّ لهذا أن يُقنع حتى أشد الفريسيين إجحافاً وإنكاراً بأن مَلِكَ الله كان في وسطهم؛ ولكنهم، وبدلاً من ذلك، كانوا متعصبين جداً لدرجة أنهم خرجوا وعقدوا اجتماع تشاور بينهم متآمرين ضده، وسيسعون لتدبير طريقة ما يُهلِكونه بها.
لقد كان يسوع يعرف ما في أذهانهم، ولذلك انسحب من بينهم ومضى إلى مكان آخر.
"فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً. وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ" (الآيات ١٥- ٢١).
تبعت يسوعَ جماهيرُ غفيرة من عامة الشعب. كثيرون منهم كانوا مرضى، ويُقالُ لنا هنا أنه قد شفاهم جميعاً. ولكنه أوصاهم ألا يُذيعوا أنباء قدرته المذهلة العجيبة. فهو لم يأتِ، كما نَوَّهْنا في فصل سابق، لكي يُثير دهشة في أذهان الناس بقدرته على صنع المعجزات؛ بل جاء ليُظهِر تلك الوداعة والتواضع اللذين كان أشعياء النبي قد تنبأ بأنهما سيتجليان في المسيا عندما يظهر. إن الاقتباس المستخدم في الآيات ٨- ٢١ هو من أشعياء ٤٢: ١- ٤.
بعد هذه الحوادث نجد ربنا يُظهِر من جديد سلطته على الشياطين.
"حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ حَتَّى إِنَّ الأَعْمَى الأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ. فَبُهِتَ كُلُّ الْجُمُوعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟» أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ. فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَانَ فَقَدِ انْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذَلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللَّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (الآيات ٢٢- ٣٠).
هنا نصل إلى أزمة تتعلق بتقديم الملك نفسه لإسرائيل. كان قد أعطاهم دليلاً تلو الآخر على مسيانيته، ولكن أولئك الذين كان يجب أن يكونوا أول من يعترف به ويعرفه كانوا مصممين على ألا يفعلوا ذلك. وها الآن يُظهر مرة أخرى سيادته على العلم غير المنظور بطرده شيطاناً كان قد جعل الإنسان الذي يسكنه أعمى وأخرس بآن معاً. عندما طرد يسوع الروح الشرير تكلم الرجل وأبصر أيضاً. وانذهلت الحشود التي كانت متجمهرة حول الرب وهتفت: "«أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟»". لقد رأوا في الأعجوبة دليلاً على أن يسوع كان من سلسلة نسب داود وقد جاء ليفتدي إسرائيل؛ ولكن الفريسيين أسكتوهم بقولهم: "«هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ»". كانت هذه هي المرة الثانية التي يتهمونه هكذا. كان من الواضح الآن أنه لم يكن هناك احتمال لأن يتوبوا: فهؤلاء القادة الدينيين كانوا عازمين على إهلاك ذاك الذي أعلنه الناس لتوهم على أنه "ابن داود". أما يسوع، وقد عرف بأفكارهم ولم يكن في حاجة لأن يخبره أحد عما كان في أذهانهم، فقد التفت إليهم وقال: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ". إن الشيطان الآن هو رأس مملكة شرٍ عظيمة. ومن هنا قصد الرب أن يقول أنه إن كان شيطانٌ يطردُ شيطاناً، فهذا يعني أنه منقسمٌ على ذاته. فيطرح السؤال: "فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟". كان بين الحشود بعضٌ من أقارب التلاميذ الذين كان الرب قد أعطاهم قوة لإخراج الشياطين. ولذلك سأل يسوع: "إِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟". ما كانوا يريدون أن يُقال عن هؤلاء (أي عن التلاميذ) ما قيل عنهم، ولكنهم أنفسهم أوضحوا أن يسوع إما أنه كان يُظهِر قدرة الله الكبيرة، أو يخدع الناس بتأثير شيطاني. وكان عليهم أن يحددوا أي الأمرين يجب أن يصدقوا. فدعاهم إلى الاعتراف بحقيقة الأمور بقوله: "إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللَّهِ (وبالطبع كان يفعل ذلك) أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ!". لقد كان هذا ما يريدهم أن يفهموه: الملك كان هناك ومجموعة تلاميذه الصغيرة كانت رعاياه المُعتَرف بهم؛ ولذلك فإن الملكوت بحالته الجنينية كان فعلياً في وسطهم. فهل سيقتبلونه، أم سيرفضون نعمة الدخول إليه؟
ما من أحد كان ليمكن أن يدخل إلى بيت رجل قوي وينهب أغراضه ما لم يكن قادراً على أن يتغلب على صاحب البيت. كان يسوع قد قابل القويَّ، ألا وهو الشيطان، في البرية وتغلب عليه. ومنذ ذلك الحين راح يجول في كل أرجاء إسرائيل ينهب أغراضه وممتلكاته. والآن جاء الوقت الذي يجب فيه على أولئك الذين سمعوه أن يتخذوا موقفاً محدداً: فيجب أن يكونوا له أو ضده؛ والحياد غير مقبول. أولئك الذين لم يكونوا معه، الذين لم يعلنوا أنهم إلى جانبه، كانوا فعلياً ضده؛ لأن كل الذين لا يتجمعون حوله سيتفرقون في أرجاء الأرض.
في الآيتين التاليتين لدينا مسألة أزعجت عدداً كبيراً من الناس، رغم أنها، إن فُهِمَت بشكل صحيح، ينبغي ألا تُزعِج سوى أولئك الذين كانوا مصممين على رفض شهادة الروح القدس فيما يتعلق بشخص الرب يسوع المسيح.
"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي" (الآيات ٣١- ٣٢).
لقد كانت هذه خطيئة تشريعية يمكن الإعفاء عنها، ولعله يمكننا القول بأنها لا يمكن أن يرتكبُها الناس اليوم، على الأقل بنفس الطريقة تماماً. لقد كان يسوع قد جاء بقوة الروح القدس، مُقدِماً نفسه لبني إسرائيل كملك شرعي عليهم. وإن أعمال قدرته، كما رأينا، قد صادقت على شهادته. الطريقة الوحيدة التي أمكن للناس أن يرفضوا الإقرار بنعمته ومع ذلك الاعتراف بقدرته كانت أن ينسبوا كل أعماله المقتدرة إلى الشيطان. أولئك الذين فعلوا ذلك قدموا دليلاً على أنهم كانوا قد خطِئوا للغاية حتى تقسَّت ضمائرُهم كما بحديد مُحمى. لقد تجاوزوا حد الإصلاح، إن أمكنني أن أستخدم الاستعارة المعروفة؛ ليس بأن الله ما كان ليكون رحيماً معهم إذا ما تابوا، بل لأنهم كانوا مصرين بعناد على خطيئتهم لدرجة أنه لم يكن هناك أية بارقة أمل عن أية رغبة لهم في التوبة. لو أنهم جدفوا على ابن الإنسان فقط، لكان يسوع قد قال أن ذلك سيُغفر لهم؛ ولكنه أضاف بجلالٍ قائلاً: "مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي". لم يكن في ذلك يُلَمِّح، كما يقول لنا الكاثوليك الروميين، إلى أن هناك مغفرة للبعض في عالم آخر، رغم أنهم يغادرون هذا العالم والخطيئة لا تزال في أرواحهم؛ بل إن الرب كان يتحدث عن عصرين: العصر الذي كان على وشك أن يُختَم، والدهر الآتي، والذي هو على الأرجح الحكم الألفي. لقد كان الدهر الحالي مخفياً عنهم في ذلك الوقت في ذهن الله، ومع ذلك فيمكن للمرء أن يطبق هذه الكلمات على هذا الدهر أيضاً، لأن أولئك الذين يرفضون متعمدين شهادة الروح القدس عن المسيح لا يمكن أن يُغفَر لهم لا في زمن اليهود ولا في هذا الدهر أو أي دهر آتٍ.
إن نفوساً عديدة كثيرة عذبوا أنفسهم أو عذبهم الشيطان بالفكرة المريعة بأنهم مذنبون بالخطيئة التي توصف هنا؛ بينما هم في أعماق قلوبهم يُقرون بشكل كامل بألوهية الرب يسوع وليس لديهم أية فكرة بأن ينسبوا إلى الشيطان تلك القدرة التي كانت تعمل فيه.
في القسم التالي يستخدم يسوع أشد لهجة مدونة عنه، وذلك في مخاطبته للقادة المتدينين المرائين الذين كانوا مصممين على رفضه مهما كلَّف الأمر.
"اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً لأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ. يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنـز الصَّالِحِ فِي الْقَلْبِ يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنـز الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ الدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ" (الآيات ٣٣- ٣٧).
إنه يدعوا إلى تمييز واضح فاصل بين الشر والخير. كل شجرة تُعرَف من ثمارها. حياته الحافلة بالقداسة كانت الشهادة على صدق ما يقول. وحياتهم الشريرة كانت الدليل على قلوبهم الفاسدة.
"يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي!". لقد كانوا أولاد الحية، وأظهروا طبيعة تلك الحية القديمة، التي هي الشيطان، من خلال موقفهم نحو مسيح الله. فمن فيض قلوبهم كانت أفواههم تتكلم.
وهكذا فإن كلماتنا تشير إلى حالة إنساننا الداخلي: فالإنسان الصالح، الذي يصير صالح النعمة، يُخرِج من كنـز قلبه كلماتٍ صالحة؛ والإنسان الشرير بالفطرة يُظهِر شره بكلمات تخرج من شفتيه. في يوم الدينونة سيحاسب الله الناس بحسب ما تكلموا به. وسيُقدم حساب عن كل كلمة، وبهذه الكلمات سيُعتبرون إما مُبررين أو مُدانين.
زادَ عددٌ من الكتبة والفريسيين الطينَ بلةً بمجيئهم إلى الرب وطلبهم آية منه، هذه التي رفض أن يُعطيها. ولفت انتباههم إلى الأحداث الماضية التي كانت ستزيد من دينونتهم في ذلك اليوم الذي سيقدمون فيه حساباً لله.
"حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلين: «يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». فَأَجَابَ وقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ. رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هَهُنَا!" (الآيات ٣٨- ٤٢).
ربما يفكر المرء بأن احترام الكتبة والفريسيين لأنفسهم سيمنعهم من طلب آية أخرى بعد أن رأوا الكثير منها ورفضوها كلها. ورداً على مطلبهم أجاب يسوع أن ذلك الجيل الذي كان يطلب آية جيل شرير وفاسق. ولهكذا جيل لا يجب أن تُعطى أية آية سوى آية النبي يونان. وأشار يسوع إلى قيامته من بين الأموات التي كانت ستحدث عما قريب، والتي نعلم أنها لم تُفلِح في إقناع هؤلاء الناس بالحماقة والشر الذي في نهجهم.
مهما قال البعض، فإن يسوع لم تكن لديه أية شكوك في موثوقية أو صحة ما ورد في سفر يونان، وهو الإله المتجسد، الذي كان يعرف كل الأشياء. يقول أن يوحنا كان في بطن الحوت لثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، وبهذا يصير علامة أو آية عن ابن الإنسان الذي سيبقى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ في بطن الأرض- أي في القبر. إضافة إلى ذلك، صادق ربنا على توبة نينوى. لقد أعلن أن هؤلاء الناس سيقومون في يوم الدينونة مع ذلك الجيل الشرير الذي رفض شهادته وسيدينونه لأنهم تابوا بفضل كرازة يونان، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ كان أمامهم.
واستخدم أيضاً شاهداً آخر من العهد القديم، وهو ملكة سبأ، التي يدعوها مَلِكَة التَّيْمَنِ (أو الجنوب). لقد جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، لأنها علمت أنه كان يستطيع أن يكشف لها الأمور القيمة المتعلقة باسم الرب، التي كانت نفسُها تتوق لفهمها. لم تُبالِ بالرحلة الطويلة التي تبلغ حوالي ألفَ ميل في سعيها لأن تسمع حكمة سليمان. أما هؤلاء الناكرون للحق فلم يتأثروا، رغم أن رب سليمان نفسه كان في وسطهم. وعندما سيقفون في نهاية المطاف مرتجفين في خطاياهم أمام منصة محكمة الله، فإن ملكة التيمن ستظهر لتوبخهم بقسوة بسبب رفضهم المتعمد للنور؛ بينما هي تبعت الومضة من أقصى أقاصي الأرض لكي يكون لها ذلك النور إلى الأبد.
ثم لدينا مثلٌ لافتٌ يدل على جحود وعدم إيمان شعب إسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل.
"إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذَلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهَذَا الْجِيلِ الشَّرِّيرِ" (الآيات ٤٣- ٤٥).
إن الروح النجس الذي يُصوَّرُ هنا هو روح الوثنية أو الصنمية التي طُرِدت من وسط الشعب اليهودي كنتيجة للسبي إلى بابل. منذ عودتهم من بابل كانوا كمثل بيت فارغ مكنوس ومُزيَّن. لقد تحرروا من الوثنية؛ ولكن من جهة أخرى، لم يقتبلوا الرب نفسه ليسكن في وسطهم. وفي يوم ما آتٍ، هذه الروح الشريرة للوثنية ستأخذ معها سبعة أرواح أخرى أكثر شراً منها، وسيدخلون ويسكنون في الشعب المرتد العاق. وهذا سيؤدي إلى الاعتراف بضد المسيح، كملك شرعي عليهم معتبرين أنه المسيا، وهكذا ستكون حالتهم الأخيرة أسوأ بكثير من الأولى. فالجيل الشرير الذي رفض يسوع سيكون واضحاً ظاهراً في ساعة الضيقة تلك.
مع ختام الأصحاح نرى أم وإخوة الرب يقتربون بينما كان يتكلم إلى الناس. ويظهر رسول من قِبلهم يخبره بقدومهم، ولنلاحظ جوابه:
"وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِل لَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟» ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي" (الآيات ٤٦- ٥٠).
لا نستطيع أن نقول أن والدته أخفقت في فهم سر ابنها، ولكننا نعرف أن إخوته لم يؤمنوا به إلا بعد قيامته. لقد قاطعوه وهو يُعلِّم بإرسال أحدهم إليه ليُعلِن وجودهم، ومن الواضح أنهم كانوا يريدون منه بذلك أن يتوقف عن التعليم وأن يأتي إليهم. ولكنه مد يده نحو أولئك الذين كانوا على استعداد ليتعلموا من كلماته، وقال لهم: "هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي". وأضاف أن كل الذين كانوا يفعلون إرادة الآب في السماء كانوا إخوته وأخواته وأمه. لقد كان في هذا إنكار لكل الروابط بحسب الجسد. لقد كانت القطيعة مع إسرائيل قد اكتملت عملياً: لقد كان يتطلع نحو نظام جديد كلياً للأشياء.