الأصحاح ٨
أعمال الملك
أما وقد استمعنا إلى تعاليم الملك وهو يُعلِن شرائع ملكوته, فإننا مدعوون الآن لنتمعن في أعماله. لعلّه يمكننا أن نفكر في هذه كأوراق اعتماد ملَكيّة، تبرهن على أنه بالحقيقة المسيا الموعود الذي كان سيأتي بالشفاء والوفرة لبني إسرائيل، فيحكم في البر والسلام (مزمور ٧٢: ٧). مكتوبٌ عن الأعجوبة الأولى التي قام بها الرب يسوع المسيح أنه بقيامه بها قد "أظهر مجده" (يوحنا ٢: ١١). كانت هذه إحدى الآيات المُذهِلة التي قام بها. وكلُّ واحدةٍ أظهرت بشكلٍ من الأشكال سرّ التجسّد، "إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩).
"ألا تجد صعوبة تتعلق بالمعجزات؟" سأل أحد العلماء عالِماً آخر. كان الأول من الذين يعترف بالـ "لا أدري" ١. أما صديقه فقد أتى في وقت متأخر إلى الاعتراف بإيمانه الشخصي بالرب يسوع المسيح. وكان جوابه: "ليس بعد أن عرفتُ يسوع كابن الله. فمنذ تلك اللحظة التي أُعطيتُ فيها القدرة على أن أومن به على أنه الأعجوبة الأسمى- الله وقد صار إنساناً من أجل الفداء- صار من السهل أن أقبل أيّ معجزة أخرى يخبرني الكتاب المقدس أنه أنجزها. فإذ إني أعرفه، ما عاد شيءٌ مما فعله يمكن أن يُقال أنه غير معقول".
في كل أعمال قدرته، كان يسوع المسيح إنما يُظهِر مجده الشخصي. لقد كانت الأدلة على مسيانيّته، لأنه عملها كلها، ليس فقط بملء اختياره وإرادته، كونه الإله الأبدي المُحتَجَب في الناسوت، بل كالابن المُطيع، الذي يقوده الروح القدس (أعمال ١٠: ٣٨). لقد اختار في كل الأشياء أن يكون خاضعاً للآب، وبالروح القدس عمل الآب كل أعماله تلك في ومن خلال الابن (يوحنا ٥: ١٧- ١٩). وخلال ذلك الوقت، حيث كانت "أيام جسده"، كان يسوع المسيح خادماً فعّالاً للألوهية هنا على الأرض ولأنه هكذا فلسنا في حاجة لأن نتعجب من الأعمال المقتدِرة التي كانت تميّز خدمته. لكان الأمر أكثر غرابة لو لم يكن على هذا النحو. كان سيصعب أن نتخيل أن الله، الذي نـزل إلى الأرض وأخذ ناسوتاً من جسدٍ ودم في اتحاد مع لاهوته، أمكنه أن يمرَّ عبر هذا العالم دون أن يتأثر بآلام البشر وألا يفعل شيئاً ليريحهم. لقد كان يسوع أعظم من أي شيء فعله. عندما تصرّفَ باقتدار، مُنجزاً ما ندعوه نحن بفهمنا المحدود على أنه معجزات، فقد كان إنما يفعل ذلك بشكلٍ كامل بما يتلاءم مع شخصه الإلهي-الإنساني.
إذ نتأمّل هذا الأصحاح والأصحاحات التي تليه فإننا ننصعق من حقيقة أننا نجد الآية المعجزيّة تلي الأخرى في تعاقبٍ سريع، وكلّها على حدٍّ سواء تشهد لحنوّ ومحبة يسوع وأيضاً قدرته. لقد "جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً" (أعمال ١٠: ٣٨). لا نقرأ أبداً عنه أن كان يجترح المعجزات فقط لكي يثير دهشة أولئك الذين تبعوه. كل المعجزات كانت مُوجَّهة عن قصد لتريح البشر من آلامهم ولتخدم حاجات البشرية. في الأصحاحين ٨ و٩، المرتبطين معاً بشكل وثيق، نراه يُطهّر الأبرص (٨: ١- ٤), ويشفي خادم قائد المئة (الآيات ٥- ١٣)، ويقيم حماة بطرس من سرير مرضها (الآيات ١٤, ١٥)، ويُهدّئ البحر الهائج ليُنقذَ حياة تلاميذه (الآيات ٢٣- ٢٧)، ومُعتِقاً المجنونَين في كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ (الآيات ٢٨٠ ٣٤), ومُعطياً قوة جديدة للمفلوج (٩: ١-٨), ويشفي المرأة النازفة الدم التي لمستْ ثوبه؛ ويقيم ابنة الحاكم؛ ويشفي الأعمَيين؛ ويطرد الأرواح الشريرة من الأخرس (الآيات ١٨- ٣٤)، ويُخلِّص من عِلَلٍ جسدية متنوعة ذلك الحشد المتنوع الذي كان يسعى طالباً معونته (الآيات ٣٥- ٣٨). بشكل متناثر بين رواية أعمال الرحمة هذه، لدينا تعليم هام يتعلّق بالتلمذة (٨: ١٩- ٢٢)، ودعوة متى (٩: ٩)، وتوبيخه الشديد للنفاق والرياء في الآيات ١٠ إلى ١٥، و مَثَل الثوب الجديد والزُقاق الجديدة في الآيات ١٦ و١٧.
دعونا نتمعّن أولاً في حادثة تطهير الأبرص.
"وَلَمَّا نـزلَ مِنَ الْجَبَلِ تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: «أُرِيدُ فَاطْهُرْ». وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدَّمِ الْقُرْبَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ»" (الآيات ١- ٤).
لو كان بنو إسرائيل على علاقة سليمة مع الله لما وُجِدَ مرضٌ بينهم (خروج ١٥: ٢٦). كل مريض في فلسطين كان شهادةً مُحزنة على الحالة الساقطة للشعب الأثير. أينما ذهب يسوع كان يجد رجالاً ونساءً يعانون من الأمراض من مختلف الأنواع. كلٌّ منهم كان يُجسّد صورةً لتبعات الخطيئة بشكل أو بآخر.
البَرَص يشير إلى النجاسة والاشمئزاز في الخطيئة. إنه مرضٌ بنيويٌّ، يسبب دماراً مُخيفاً لأجساد ضحاياه، كما الخطيئة تعمل بشكل مرعب في نفوس أولئك الذين هم تحت سطوتها. لم يكن الإنسان أبرصاً لأنه كان متشوِّهاً بسبب تقرّحاتٍ وقروح مؤلمة. فهذه الأشياء لم تكن إلا شهادةً على المرض الذي كان مُتفشّياً في داخله. ومع ذلك، فإن الإنسان ليس خاطئاً لأنه يخطئ: بل إنه يُخطئ لأنه خاطئ.
هنا نقرأ عن أبرص بائس فقير جاء إلى الرب يسوع وسجدَ له أو أعلن الولاء له، مُناشداً إياه أن يُخلِّصه من مرضه، ومع ذلك لم يكن واثقاً من استعداد يسوع لأن يمنحه ما يطلبه. فقال: "«يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي»". وفي الحال جاءه الجواب, إذ مدَّ يسوع يده ولمسه: "أُرِيدُ فَاطْهُرْ". وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ. وعندها طلبَ منه الرب أن يذهبَ إلى الكاهن في الهيكل وأن يقرب التقدمة التي كان موسى قد أوصى بها, كما يُدوِّن لنا (لاويين ١٤). كانت هذه لتُشكّل شهادة للكاهن عن أن الله كان يعمل في شعب إسرائيل.
الحادثة التالية المُسجَّلة هي شفاء خادم قائد المئة.
"وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ كَفْرَنَاحُومَ جَاءَ إِلَيْهِ قَائِدُ مِئَةٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «يَا سَيِّدُ غُلاَمِي مَطْرُوحٌ فِي الْبَيْتِ مَفْلُوجاً مُتَعَذِّباً جِدَّاً». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ». فَأَجَابَ قَائِدُ الْمِئَةِ وَقَال: «يَا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهَذَا: اذْهَبْ فَيَذْهَبُ وَلآخَرَ: ايتِ فَيَأْتِي وَلِعَبْدِيَ: افْعَلْ هَذَا فَيَفْعَلُ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ تَعَجَّبَ وَقَالَ لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ». ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ: «ﭐذْهَبْ وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ». فَبَرَأَ غُلاَمُهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ" (الآيات ٥- ١٣).
نجد هنا قائدَ مئةٍ روماني، ومن الواضح أنه قد جاء إلى معرفة إله إسرائيل، وكان خادمه مفلوجاً. في هذا الرجل المشلول لدينا صورة عن عجز الإنسان الخاطئ. فهكذا كانت حالة جميعنا إلى أن خلّصتْنا النعمة. لقد كُنّا سنبقى هكذا بلا حول ولا قوة لولا أن المسيح قد أفادنا بموته.
إشفاقاً على خادمه العاجز، جاء قائد المئة يطلب من يسوع أن يشفي المريض. وكان تجاوب يسوع فورياً. فقال: "«أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ»". ولكن قائد المئة اعترض بأنه لا يستحق هكذا إكرام. فقال: "قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي". لقد قال الناس عن قائد المئة: "إنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا" (لوقا ٧: ٤)؛ وأما هو فقال: "لَسْتُ مُسْتَحِقّاً"، لأنه كان يعرف قلبَه نفسه جيداً ويعرف أنه لا يستطيع ادّعاء أي استحقاق شخصي. لقد كان هذا إظهاراً منه لإيمانه الكامل بقدرة الرب. فكما أنه، وهو الضابط في الجيش الروماني، كان قادراً على أن يأمر أولئك التابعين له، هكذا كان مُتأكداً بأن يسوع كان في مقدوره أن يأمر بأن يُفارِق ذلك المرضُ خادمَه فيُطاع. هكذا ثقة تُبهجُ قلبَ يسوع. فلم يجد في إسرائيل مثل هكذا إيمان. لقد رأى في هذا استباقاً للحصاد الأُمميّ العظيم الذي كان سوف يُجمَع عما قريب، عندما سينضمُّ خُطاة مؤمنين من كل الأمم إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب فيشاركونهم في إعطاء المجد لله. ولكن الكثيرين من "بني الملكوت"- أولئك الذين كانوا من نسل إبراهيم بالتوالد الطبيعي ولكن كان يُعوزهم إيمان إبراهيم- سوف يُرفَضون وسوف يذهبون إلى الظُلمة البرّانيّة، ليُغلَقَ عليهم دون مسرّات الملكوت الذي طالما انتظروه. بالنسبة لهم سيكون هناك بكاءٌ وصرير أسنان: الأول يرمز إلى الحزن الذي سيعانونه، والآخر يرمز إلى الامتعاض الذي في قلوبهم، في إشارة إلى أنهم سيبقون غير تائبين.
وبعد ذلك يعطي الرب رسالة تطمين وتوكيد لقائد المئة طالباً منه أن يتابع سيره قُدُماً، فطالما آمنَ سيكون له ذلك. فعاد ليجدَ خادمه قد شُفيَ، لأنه "حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ" (جامعة ٨: ٤)، وها هو الملك الممسوح من الله في وسط شعب إسرائيل.
لدينا صورة اضطراب الخطيئة الذي يُشبه حُمّى في النفس، والذي يتجاوب في الحال مع لمسة شفاء المُخلِّص، وذلك في الآيات ١٤ و١٥.
"وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ".
"حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً". كان بطرس رجُلاً متزوّجاً، ويبدو أن والدة زوجته كانت تُشكِّل جزءاً من جماعة العائلة. هذه السيدة كانت قد أُصيبَت بحمّى وكانت تتقلّبُ على فراشها مُضطجعة في محنةٍ؛ ولكن عندما جاء يسوع كل شيء تبدّلَ وتغيَّر.
"فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى". كان هناك شفاءٌ في تلك اللمسة من القدرة. فتلاشى المرض أمامها، فقد كان ذاك هو ربُّ الحياة، وقامت المرأة المُعافاة في الحال وحاولت أن تُظهِر امتنانها من خلال الخدمة. "فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ". عندما يُوبّخُ يسوع حُمّى الخطية، فإن الخدمة تُصبح فرحاً وخبرةَ حياةٍ سعيدةٍ.
في كل هذه الحوادث نرى الدليل على أن ربنا يسوع هو الكافي، والذي فيه كل الموارد اللامتناهية التي تسدّ كل حاجة وكل عجزٍ. ما من شيء يُفاجئه، وليس من حاجة أعظم مما يستطيع تلبيته. لقد كانت حياته على الأرض إظهاراً لمحبته الإلهية وحنوّه، مُعطياً البشر فهماً جديداً كليّةً لصلاح الله وخيريّته وعنايته بأولاده. وما كان على الأرض فهو في المجد: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عبرانيين ١٣: ٨). إنه لا يبذل قدرته دائماً بنفس الطريقة، ولكن ما من شيء يُغيّر اهتمامه واعتناءه بخاصته. لقد كانت قدرته غير محدودة. ما من حالة كانت تستعصي عليه. وخلافاً لبعض الذين أسّسوا طوائفَ دينيةٍ في محاولةٍ لإراحة الناس من الاعتلال الجسدي، فهو لم يُميّز بين الحالات التي جاءت إليه طالبة الشفاء. مهما كان المرض أو شكل الوباء، فقد كان يشفيها جميعاً. وعلى هذا الشكل أظهر قدرته الخَلْقيَّة، وعطفه وحنوّه نحو البشر.
ما من شكٍّ أنه بسبب انتقال أخباره قد تراكمت أمامه كل هذه الحالات المرضية اللافتة التي تطلبُ الشفاء إذ أن الناس جاؤوا من كل المناطق المجاورة القريبة، يطلبون انعتاقاً من أمراضهم الكثيرة. فنقرأ بعد ذلك أن:
"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا». وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حَوْلَهُ أَمَرَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْعَبْرِ" (الآيات ١٦- ١٨).
"جَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ". ما من أحدٍ تقدّمَ إليه وخاب في مطلبه. لقد كان قلبه ممتلئاً بالمحبة؛ وهكذا أعتق كل الذين جاؤوا، أياً كان مرضهم الذي يسبب لهم الألم والمعاناة.
"مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ". إن تنبّؤ أشعياء (٥٣: ٤) كان قد تحقّق حرفياً في خدمته اليومية إذ حمل أمراض وأوجاع وأسقام الناس في تعاطفه العميق. من الخطأ أن نفترض أن هذا يشير إلى عمل الصليب الذي مُسِحَ لأجله. لقد كان هنا على الأرض، وهو يجول وسط آلام البشرية، فحمل أوجاعنا، وأخذ عن الناس أمراضهم وآلامهم. ليس هناك أية فكرة يطرحها الكتاب المقدس بأن المسيح قد عمل كفّارة من أجل المرض، كما من أجل الخطية. إن المرض هو نتيجةٌ قضائية قصاصية للخطيئة وهي لا تستدعي الكفّارة. وعلى كل حال, إنه صحيحٌ أن نتيجة عمل المسيح الذي قام به عند الصليب سيُفتَدى جسد المؤمن ويتمجد عندما يعود المسيح من أجل خاصّته. "لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ" (١ كورنثوس ١٥: ٥٣). وإلى أن يحين ذلك الوقت تبقى أجسادنا خاضعة للمرض والموت كمثل أولئك الغير مُخلَّصين.
أما وقد قام بأعمال مُقتَدِرة كثيرة جداً في كفرناحوم والمناطق المجاورة، فإننا نقرأ "أعطى الأمر للمرض بأن يغادرهم". لم تكن خدمته للقلّة الأثيرة بل لجميع أولئك الموجَعين. ولذلك فقد مضى أيضاً إلى الجماعات الأخرى التي في حاجة إليه.
بينما كانوا يسيرون نحو شاطئ البحر ليأخذوا السفينة التي كانت ستحملهم إلى بلدة الجرجسيّين والعشر المدن، من الواضح أنه تحدث إلى أولئك الذين احتشدوا حوله فيما يتعلّق بموضوع التلمذة، وبنتيجة هذه الحادثة عبّرَ رجُلان عن اهتمامهما؛ أحدهما اعتذر عن اتخاذ قرار فوري باتّباع يسوع لخدمة كاملة. وعن هذين نقرأ في الآيات ١٩- ٢٢:
"فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐتْبَعْنِي وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»".
"يَا مُعَلِّمُ أَتْبَعُكَ". إن الكاتب الذي قال هذا بشكل عفوي ارتجالي ما كان يُدرك تماماً ما يعنيه إتباعُ المعلم حقاً. لقد تأثر بالإعجاب الحماسي بيسوع، ولكن لم يكن لديه إدراك بالرفض الذي سيُعانيه.
"لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". ذاك الذي كان قد خلقَ كل الأشياء كان بلا مَسْكِن ولا مأوى في عالمه الخاص ووسط خاصته أنفسهم. أن تتبعه كان يعني أن تشاركه آلامه. ما كان يسوع ليريد لأي إنسان أن يتخذ قراراً سريعاً مُفاجئاً دون أن يحسب النفقة، لأنَّ مَن سيتبعه يجب أن يكون مُستعدّاً لأن يسير نفس الطريق من العُزلة والرفض الذي سيسلك هو نفسه فيه.
"ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". يجب ألا نفترض أن والده كان ميتاً، ولكن هذا الشاب كان يضعُ حُجَجَ الروابط الطبيعية كَعُذرٍ لئلا يتبع يسوع في الحال. أن نتحدّث عن إتّباع يسوع بشروطنا الخاصة يعني أن نخفق في إدراك أنه ربُّ الجميع وربُّ كل شيء. فهل نحن نسعى لأن نُساومه، أم أننا نُسلّم أنفسنا بدون تحفُّظ لسلطانه؟ لاحظوا جواب ربّنا لهذا الرجل.
"دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ". أي، دع أولئك الأموات روحياً يحضرون دفنَ بقايا الميّت جسدياً. إن الأمر الأعظم في الحياة هو إتّباعه.
في القسم التالي، المؤلَّف من الآيات ٢٣ إلى ٢٧، نرى قوة المسيح مُتجلِّيةً كربِّ الخليقة. فذاك الذي خلقَ الكون يُهدِّئ الرياح والأمواج. وكل الطبيعة تخضعُ لكلمته.
"وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَإِذَا اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ الأَمْوَاجُ السَّفِينَةَ وَكَانَ هُوَ نَائِماً. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!» فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟» ثُمَّ قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. فَتَعَجَّبَ النَّاسُ قَائِلِينَ: «أَيُّ إِنْسَانٍ هَذَا! فَإِنَّ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعاً تُطِيعُهُ»" (الآيات ٢٣- ٢٧).
"لَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ". هذا يعني، أنهم كانوا سيعبرون البحر إلى الجانب الشرقي, حيث كان يصحبه تلاميذه، ليذهبوا من كفرناحوم إلى كورة الجرجسيّين؛ إذ كانت كفرناحوم على الشاطئ الشمالي الغربي.
"اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ" ٢. هل كان رئيس سلطان الهواء هو الذي يسعى هكذا لأن يهلكه قبل أن تأتي ساعته؟ ما من عاصفة كان ليمكن أن تُغرِق السفينة التي كان يُبحر فيها.
رغم أن بحر الجليل ما هو إلا حوضٌ مائيٌّ صغير، ومع ذلك وبسبب مكانه العميق بين التلال المرتفعة، فقد كان خاضعاً لعواصفَ مفاجئة ذات قوة شديدة، كانت تسبب تحرّك طبقة الجو والرياح المُثقَلَة الآتية عبر الشعاب الجبليّة بسرعة هائلة. هذه العواصف كانت تتشكّل بسرعة كبيرة جداً وغالباً بدون إنذار.
"«يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!»". لقد كان هذا بدافع الخوف الذي ولَّدَه عدم الإيمان الذي قاد التلاميذ إلى أن يصرخوا هكذا. كان الإيمان ليمكّنهم من أن يستريحوا مُستندين إلى حقيقة حضورهم معه. في إنجيلٍ آخر نقرأ أن يسوع قال لتلاميذه: "«لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ»" (مرقس ٤: ٣٥). لا بدَّ أن هذا كان ليكون أساس ثقتهم. لم يطلب منهم أن يدخلوا إلى السفينة لكي يغرقوا في البحيرة، بل ليذهبوا معه إلى الجانب الآخر. لو أنهم تذكّروا هذه الكلمات فإن إيمانهم ما كان ليخزى.
"قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ". في البداية وبّخهم على عدم إيمانهم. ثم وبّخَ العناصر في الطبيعة. يخبرنا مرقس أنه أعطى أمراً مباشراً للرياح العاصفة والأمواج أن: "«اسْكُتْ. ابْكَمْ»"، كما يأمرُ المرءُ أيَّ كلبٍ غاضبٍ. وفي الحال هدأتْ عناصر الطبيعة وتوقّفت العاصفة الهوجاء. لقد عرفت الرياح والبحر صوت سيّدها عندما وبّخهم يسوع، لأن ذاك الذي كان نائماً من التعب الجسدي كان هو نفسه خالق الكون.
"أَيُّ إِنْسَانٍ هَذَا!". ومع ذلك فَهُم لم يفهموا بعد سرّ التجسّد. لقد كان هو من عمل وسطهم في قوة واقتدار لكي يفتح أذهانهم لمعرفة مَن كان بالحقيقة. وفي خشيةٍ وارتياع, نظروا إلى مُعلِّمهم بانذهال، مُتعجّبين من السلطة والقدرة التي أظهرها والتي شهدوها لتوّهم. وإذ أدركوا أنهم كانوا في حضرة ذاك الذي تُطيعه الرياح والعواصف حتى، فقد تعجّبوا إذ رأوا قدرته العجيبة وشخصه.
في كورة الجرجسيّين، حدثت سلسلة من الحوادث التي أظهرت قدرة ربنا وقوته على الأرواح الشريرة؛ ولكنها أخفقت في التأثير على الناس في ذلك الوقت، رغم أنهم فيما بعد بدّلوا موقفهم بفضل شهادة الرجل الممسوس الذي أُعتِقَ من آلاف الأرواح الشريرة التي كانت ساكنة فيه. ونقتبس الآيات من ٢٨ إلى ٣٤:
"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدَّاً حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ. وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» وَكَانَ بَعِيداً مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى. فَالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ». فَقَالَ لَهُمُ: «ﭐمْضُوا». فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ. أَمَّا الرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَعَنْ أَمْرِ الْمَجْنُونَيْنِ. فَإِذَا كُلُّ الْمَدِينَةِ قَدْ خَرَجَتْ لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ. وَلَمَّا أَبْصَرُوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ".
"اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ". وحده متى يذكر ممسوسَين. أما مرقس ٥: ٢ ولوقا ٨: ٢٧ فيتحدثان عن واحد فقط. بالطبع ليس من تناقضٍ هنا. كان هناك هذان الاثنان التعيسان العاثري الحظ، والذي كان الرب يسوع قد حرّرهما من اللعنة الفظيعة التي كانت تفصلهما عن المجتمع وتجعلهما ينـزويان في القبور، ولكن كان أحدهما قد مرَّ بخبرة كانت مميزة بشكل خاص وأثّرَ شفاؤُه بشكل كبير على الجرجسيين، كما يسمّيهم متى.
"«مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟»". بينما هناك سرٌّ غامضٌ كبير يتعلّق بالمسّ بالأرواح الشريرة، من الواضح أن هذه كانت أرواح ساقطة واقعة تحت سلطان وسطوة الشيطان. لم تكن قد قُيِّدَتْ بعد في الجحيم، ولكنها كانت قادرة على أن تسيطر على الرجال والنساء لتُهلكهم. لقد عرفوا يسوع في الحال وأدركوا أنه الديّان الذي سيطلق الحكم الأخير عليهم. ومن هنا انكمشوا وتراجعوا مُرتعبين.
هل المسّ الشيطاني ممكن اليوم؟ بلا شكّ هو أمرٌ ممكن. هناك حالات كثيرة موثقة عن هذه البلوى المريعة يرويها خُدَّامٌ للمسيح قد احتكّوا مع هذه الحالات شخصياً. وعلى كل حال، فإن هذه الحالات كانت حقيقية في العالم الوثني حيث كان الشيطان يتمتع بسطوة كبيرة. ولكن عندما يأتي الإنجيل، فإن قوى الجحيم تحتشد لتحارب رسالة الصليب. هناك حالات كثيرة من طرد الأرواح الشريرة، والانعتاق الكامل لأولئك الذين كانوا خاضعين لسطوتهم.
"قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى". هذه البهائم النّجسة لم تكن تُعتبر مناسبة للطعام، بحسب الناموس الموسويّ (لاويين ١١: ٧). ولكن كان هناك يهود منحطّون متدنّيوا المستوى يُعنَون بها من أجل بيعها للأمميين. لقد صارت هذه مهنة ذلك الابن الضال (لوقا ١٥: ١٥). بحسب الناموس، هكذا مهنة كانت غير شرعية تماماً ومخالفة للناموس وسط بني إسرائيل.
"«إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ»". يبدو أن ذلك الروح الشرير كان يسعى للدخول إلى جسدٍ ما بشكلٍ ما. وإذ كانوا سيُطرَدون من البشر الذين يسكنون فيهم، فقد طلبوا أن يُسمَح لهم بأن يتملّكوا أجساد الخنازير النجسة.
"وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ". لقد كانت دينونة في محلّها تُلقَى على مالكي الخنازير الفاسدين، عندما تُدمَّر السلع التي يتاجرون بها. ليس من الضروري أن نفسّر الحادثة بحدّ نفسها، ولا دور الأرواح الشريرة التي كانت فيها. ما تؤكّد عليه الرسالة هو القدرة الهائلة عند البشر لصنع الشر. ألفي خنـزير (مرقس ٥: ١٣) ما كنت كافية لتحوي الأرواح الشريرة التي كانت قد وَجَدت مكان إقامة في رَجُلَين رديئَين مُنحَطَّين.
"أَمَّا الرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ". لقد سارع مربّوا الخنازير في انذهال ورعب راجعين إلى بلدتهم، حيث رووا الأنباء الغريبة التي حدثت لهم، مستندين إلى تحرر الممسوسَين المجنونَين وهلاك الخنازير.
"طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ". إذ غضبوا بسبب الخسارة المالية، وبدافع الخوف من تأثيرات سيئة أخرى قد تصيبهم إذا ما جاء الرب يسوع لمعرفة المزيد من شرّهم وإثمهم، فإن الجرجسيين طلبوا إليه أن يغادرهم في الحال. لقد كان أمراً يدعو إلى الإشفاق أن يرفضوا ذاك الذي كان سيأتيهم ببركةٍ لا حدَّ لها، ولكن بالنسبة للجرجسيين كانت خنازيرهم ذات قيمة أعظم بكثير من نفوس الناس.
لا يذكر متى أن واحداً من الذين شُفيوا من الأرواح الشريرة قد طلبَ من يسوع أن يبقى معه؛ ولكن الرب كان لديه مُخطّط آخر له: لقد كان يريد له أن يشهدَ لأصدقائه في دياره عن قوة المسيح المُقتدِرة، التي حررته. ذلك امتياز ومسؤولية تُلقى على كاهل كل الذين يخلصون. إن عرفنا الرب يسوع مُخلِّصاً لنا، فهل نحن نشهد له بإخلاص للآخرين، لكيما يختبروا هم أيضاً خلاصه؟ يعطينا مرقس ولوقا معلومات تتعلّق بذلك الممسوس الذي صار تلميذاً ليسوع، ويخبرانِنا عن الطريقة التي نشر فيها ذلك الرجل النبأ السار عن البَرَكة التي أفاضها المسيح عليه. لقد حمل الرسالة إلى كل أرجاء العشر المدن، على الجانب الشرقي من بحر الجليل. عندما رجع يسوع إلى تلك المنطقة بعد برهةٍ من الزمن استقبله الناس بترحيب، وهذا كان يتناقض مع الموقف الذي واجهوه به سابقاً (مرقس ٦: ٥٣- ٥٦).
إذ نتأمّل في المعجزات العديدة المتنوعة المُدوَّنة في هذا الأصحاح تنتعش قلوبنا وتتحرك نحو العبادة والتسبيح في حين نتأمّل في محبة يسوع للبشرية البائسة المُبتلية. ونتذكّر أن الله هو الذي يتكلّم ويسلك من خلال ابنه على الدوام. إن الله يجد مسرّته في خدمة المحتاجين من خلائقه، وفي تحريرهم من الظروف المُكربة الموجعة التي تملأ نفوسهم بالخوف، وأن يحررهم من استعباد الشيطان، بأي شكل من الأشكال. وبما أن يسوع هو الله مُتجلّياً في الجسد، فإن أعماله هي أعمال الله، وتُظهِر أبداً العناية الإلهية نحو البشر وموقف الله منهم. علينا أن نتعلَّم أن نثق به بشكلٍ أكمل، وإذ نفعل ذلك، فإننا سنعرف بالخبرة العمليّة كم هو حقيقي وصادقٌ ومُؤكَّدٌ اهتمامُه بأولئك الذين يثقون بمحبّته ويتّكلون على إعماله لقدرته. يسوع هو التعبير الدقيق عن الشخص الإلهي (عبرانيين ١: ٣)، وفي أعمال نعمته نرى قلب الله ينكشف أمامنا.