الأصحاح ١٥

الملك يشجب الرياق

والآن نقرأ عن توبيخ الملك لكثيرين من الذين كانوا يعارضون أقوالهِ كَرَبٍّ والملكوت الذي أعلن عنه. كانت هناك بقيّةٌ قلوبها منفتحة إلى الحق وكانوا يقتبلون ربّنا بسرور على أنه المسيا الموعود. ولكن كان من الصعب على كثيرين أن يروا في هذا الرجل الهادئ المتواضع الذي من الناصرة ما يُقابل توقعاتهم بحاكم عالميٍّ عظيم سيحرر الشعب اليهودي من نير الرومان ويجعلهم شعباً عظيماً من جديد كما كانوا في أيام داود وسليمان. لقد كانت مفاهيمهم عن الملكوت دنيوية زمنية كلياً، لأنهم كانوا مجرد بشرٍ طبيعيين لم يعرفوا شيئاً عن الحقائق الروحية. وبالتالي، فقد أخفقوا بأن يدركوا أنه قبل النبوءات باستعادة مكانتهم كشعب لا بدَّ من توبة من جهة هذا الشعب وعودة أكيدة إلى الله أفراداً وجماعة.

"حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ الَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «وَأَنْتُمْ أَيْضاً لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ». ثُمَّ دَعَا الْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐسْمَعُوا وَافْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (الآيات ١- ١١).

كان للسؤال الذي طرحه عليه منتقدوه علاقة بغسل طقوسيٍّ معين للأيدي، كان يُفتَرض أن يمارسه كل يهودي قبل أن يتناول الطعام. كان هذا أكثر بكثير من مجرد تطهير للأيدي لكي يتحرروا من النجاسة قبل أن يجلسوا إلى مائدة الطعام؛ لقد كان هذا الغُسْل يتضمن طقساً طويل المدة، ولذلك طرحَ الفريسيُّون السؤال أن: "لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ". أي أنهم تجاهلوا الفرائض الناموسية. وكمثل عادته في أغلب الأحيان، أجاب الرب عن السؤال بسؤالٍ مباشر وجّهه لهم: "وَأَنْتُمْ أَيْضاً لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟". ثم يذكر نص الوصية الناموسية التي تبدأ بـ "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ"؛ وأيضاً الدينونة التي يفرضها الناموس والمتعلقة بأولئك الذين يلعنون أباهم أو أمهم كما توجد في خروج ٢١: ٧. بينما كانوا يعترفون بتكريمهم لكلمة الله، إلا أنهم جعلوها بلا تأثير بسبب أحد تقاليدهم الخاصة، والتي بها جعلوا من الممكن لأي إنسان أن يتجاهل حاجات والديه وأن يرفض حمل مسؤولية بأي شكل من الأشكال من ناحية العطاء لهم، إن كان قد كرَّسَ أغراضهُ للرب بقوله لوالديه: "إنه قُرْبَانٌ"- أي "تقدمة". فعندها كان يُفتَرض في الوالدين ألا يطالبوا بهذه الأغراض، وهكذا ما كان يتم إكرامهم كما يجب بل العكس؛ وهكذا صارت وصية الله مُعطَّلة مُبطَلة. قيل بلسان النبي أشعياء (٢٩: ١٣): "يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ (يعترفون بإيمان عظيم بالله)، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ". لم يقدموا له إطاعة وولاء القلب. تلك العبادة التي كانوا يقرّون بتقديمها له كانت فارغة وشكلية، إذ بدلاً من إطاعة كلمة الله استبدلوها بوصايا البشر.

إذ تحوَّلَ يسوع من الفريسيين إلى الجموع الذين كانوا مُتجمهرين حوله، وكانوا قد سمعوا كلماته إلى أولئك الذين كانوا يسعون لإيجاد علَّة فيه، فإنه خاطب الحشد الأكبر، طالباً منهم أن ينتبهوا بشكلٍ خاص إلى حقيقة أن المرء لا يتنجَّسُ بما يأكل. فليس الطعام الذي يدخل إلى الفم يجعل الإنسان نجساً، بل ما يخرج من فمه، "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ" (١٢: ٣٤). إن الكلمات النجسة والشريرة هي التي تنجّس المتكلم، وليس مجرد تجاهل للتشريعات المتعلقة باستعداد المرء لتناول الطعام. من الواضح أن الفريسيين كانوا مُستائين جداً من طريقة تعامل الرب معهم، ولكن بدلاً من تأييدهم فإن الرب أكّد بشكل واضح قاطع حقيقة أرادها أن تترسخ في أذهانهم.

"حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟» فَأَجَابَ وَقَال: «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ». فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يَمْضِي إِلَى الْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى الْمَخْرَجِ وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْبِ يَصْدُرُ وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ لأَنْ مِنَ الْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ زِنىً فِسْقٌ سِرْقَةٌ شَهَادَةُ زُورٍ تَجْدِيفٌ. هَذِهِ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. وَأَمَّا الأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ" (الآيات ١٢- ٢٠).

لا بدَّ أنها كانت خيبة أمل للتلاميذ أن يكون تعليم معلِّمهم قد افتضح أمر الفريسيين، قادتهم الدينيين. على الأرجح أنهم كانوا يرجون أن يأتي هؤلاء الرجال كمتسائلين صادقين عساهم يقتبلون الملكوت ويدخلون فيه. لقد كانوا أناساً مهمين في المجتمع، ولا بدَّ أنه بدا من المثير للشفقة عند بعض الرسل أن هؤلاء قد ارتبكوا وزلُّوا وأشاحوا بوجههم، ولكن الرب أجاب قائلاً: "كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ". بمعنى آخر، وحدُهم الخاضعون في قلوبهم لله وكلمته يبقون تلاميذَ للرب؛ أما البقيّة، ومهما كان موقفهم مُشجِّعاً في البداية، فإنهم سيتراجعون في نهاية الأمر. فبالنسبة لهؤلاء يمكن للمرء أن يتركهم يمضون في سبيلهم وحسب؛ إنهم مُوطَّدوا العزم على الاستمرار في نهجهم الرديء ويمكن اعتبارهم عمياناً يقودون عميان. وهؤلاء الذين كانوا يتبعونهم، ويقبلون تعليمهم سيهلكون مع المعلمين أنفسهم في يوم تعامل الرب معهم.

طرحَ بطرس سؤالاً يتعلق بما كان الرب قد قاله عن النجاسة. فبحسب الأحكام اليهودية الطبيعية المُسبَقة التي لديه، كان بطرس ولا شك يُفكِّر بالنجاسة الطبيعية أكثر من تلك الروحية، ولذلك فقد التمس من الرب شرحاً فسأله: "«فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ»". لقد اعتبر أن كلمات المسيح رمزيةً أكثر منها حرفية. فشرح يسوع بشكلٍ محدد جداً وأكمل المعنى المقصود، في حين وبَّخَ بطرس على نقص فهمه. فأوضح أنه ما من نفسٍ بشرية تتنجَّس بما يُؤكَل. إن الطعام يمر عبر عملية الهضم إلى الجسد ولكنه لا يؤثر على روح أو نفس الإنسان. من جهةٍ أخرى، تلك الأشياء التي تأتي من القلب والتي يتم التعبير عنها بالكلام غالباً هي التي تنجّس الإنسان بالفعل، لأن لها علاقة بكل نهج التفكير، ولذلك فإنها تجعل الفكر والروح نجسين. "مِنَ الْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ". فهذه الأشياء النجسة هي التي تنجّس الإنسان؛ وما كان للأكل بأيدٍ غير مغسولة أو نظيفة أن ينجس أحداً. وعلى ها النحو إذاً أعاد الرب كل شيءٍ إلى مصدره . نقرأ في سفر الأمثال (٤: ٢٣): "فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ". ونقرأ أيضاً: "كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا هُوَ" (أمثال ٢٣: ٧).

بعد هذا الحوار، أولاً مع الفريسيين ومن ثم مع بطرس، بارحَ يسوع المكان وصعد إلى الجزء الشمالي من الأرض إلى تخوم منطقة الأمميين. وهنا قام بمعجزةٍ لافتة من أجل ابنة امرأة أممية.

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ﭐرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «ﭐصْرِفْهَا لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَال: «لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». فَقَالَتْ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ" (الآيات ٢١- ٢٨).

كانت صور وصيداء مدناً أدانها الله بسبب فسادها ونجاستها، ولكن أُعيدَ بناؤها وأُعيدَ السكن فيها- ليست المدن الأصلية بل المنطقة المجاورة لها. ومن هذه المنطقة جاءت امرأةٌ كنعانية كانت قد سمعت عن يسوع، وشعرت يقيناً أنه سيريح ابنتها من الحالة المريعة التي تعانيها. فأتت صارخةً: "«ﭐرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً»". ولدهشتها بالتأكيد، وربما لدهشة الآخرين أيضاً، لم يردّ يسوع عليها. لم تكن فظاظة من جهته، لأنه كان قدوس الله، بل كان ذلك لكي يعلمها درساً هي في حاجة إليه. فكابنٍ لداود، جاء ليخدم إسرائيل ويملك في نهاية الأمر كملك على عرش داود. ومن هنا، وللوقت الراهن، ليس للمرأة الأممية أي حق بالمطالبة بشيء؛ ولذلك لم يَنبُس ببنت شفة رداً على كلامها. فتابعت في التضرّع إليه حتى انـزعج التلاميذ ورجوه أن يصرفها. فأجاب ببساطة قائلاً: "«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»". لا بدَّ أن هذا ظهر لأول وهلة على أنه توبيخٌ للأم البائسة القلقة المضطربة؛ ولكن بدلاً أن تتنحَّى جانباً بيأس، سجدت له مُتعبِّدةً، وتوسَّلت إليه قائلةً: "«يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!»". فأجاب قائلاً: "«لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ»". لقد كان هذا القول قاسياً، ولكن قصدَ به أن يظهر الموقف الحقيقي في نفسها. لقد أجابت بتواضعٍ وإيمان قائلةً: "«نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا»". إن الكلمة المُستَخدَمة محل "الكلاب" هنا هي صيغة تصغير- أي الجراء. كان هذا هو كل ما تطلبه، بعضُ فتاتٍ من بركةٍ أمكن أن تُقدَّم من الفائض لأنه كان قد تعامل بسخاءٍ كبير مع إسرائيل.

ابتهجَ قلبُ يسوع لرؤيته هكذا دليل على الثقة والإيمان المرتبط بتواضع الروح. فمنحها سُؤْلها في الحال قائلاً: "يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ". ونعرف من الإنجيل أن ابنتها قد شُفيَت في الحال. فمنذ تلك الساعة طُرِدَ الروح الشرير منها.

"ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِبِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ حَتَّى تَعَجَّبَ الْجُمُوعُ إِذْ رَأَوُا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ" (الآيات ٢٩- ٣١).

"ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ ....... وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ". أما وقد أكملَ دائرةً من كفرناحوم إلى الجزء الشمالي من الجليل وإيتوريا (التي كانت منطقة حكم فيلبس، زوج هيروديا)، فقد انعطف يسوع إلى منطقة بحر الجليل، وصعد إلى جبلٍ مع تلاميذه.

"فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ". حالما عرفوا أنه صار من جديد في جوارهم، احتشدت جموعٌ غفيرةٌ من الناس على الطرقات وصعدوا الجبل الذي كان يجلس عليه، وقد أحضروا معهم أصدقاءهم وأقرباءهم المرضى والمُقعَدين. فقابلهم جميعاً في رحمةٍ ونعمةٍ وشفى الكل، مُظهراً بذلك ومن جديد سلطته المسيانية (أشعياء ٣٥: ٤- ٦).

"مَجَّدُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ". إذ رأى هؤلاء القرويُّون أصدقاءهم وأقرباءهم يُشفَون من الشلل والعرَج والعمى ومختلف الأمراض، اقتنعوا في قلوبه بأ الله قد افتقد شعبه، ومجّدوه إذ ميَّزوا في أعمال قدرته هذه أوراق اعتماد ذاك الذي كان يُفتَرَض أن يكون مخلِّصَ إسرائيل. الشعب الذين شعروا بالحاجة والتوق إلى الانعتاق من الخطيئة وتأثيراتها هم الذين اقتبلوا بفرحٍ إنجيل الملكوت كما أعلنه يسوع.

في الجزء الختامي من الأصحاح نقرأ عن مناسبة أخرى أطعم فيها الرب يسوع جموعاً كثيرةً بما بدا لأول وهلة مؤونة صغيرة جداً. هذه المرة كان العدد أربعة آلاف رجل في حين كان خمسة آلاف قبلاً، إضافة إلى النساء والأطفال.

"وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ  يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ». فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هَذَا عَدَدُهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ وَﭐلآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ. ثُمَّ صَرَفَ الْجُمُوعَ وَصَعِدَ إِلَى السَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ" (الآيات ٣٢- ٣٩).

ومرة أخرى نرى قلبَ ربنا المبارك يتعطَّفُ على الجموع الجائعة في محبة وحنوّ. وفي هذه المناسبة كانوا يستمعون إليه لثلاثة أيام، فاستنفذوا بالتأكيد كل الزاد الذي كان معهم. لم يكن يسوع يرغب بأن يصرفهم صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ. من الغريب، وبعد خبرتهم السابقة، أن التلاميذ طرحوا السؤال أن: "«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هَذَا عَدَدُهُ؟»". كان الرب قد أثبتَ لهم للتوّ قدرته على مضاعفة الأرغفة والأسماك، ولعلَّ المرء يعتقد أنه كان ينبغي عليهم الاعتماد على إظهاره لنفس القدرة هذه المرة، ولكن المفارقة أنهم بدوا وكأنهم قد نسيوا ما فعله في الماضي.

رداً على سؤاله: "«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟»" أجابوا: "«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ»". وكما في المرات السابقة، أمرَ الجموع أن يجلسوا على الأرض. ومن ثم أخذ بيديه الكمية الضئيلة من الطعام التي حصل عليها التلاميذ وشكرَ وكسرَ الأرغفة والأسماك، ووزَعها على التلاميذ ليعطوها بدورهم للجموع. ونقرأ أنه: "أَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ". تُستَخدم كلمتان مختلفتان للإشارة إلى السلال المُستَخدمة في روايتي إطعام المجموعتين: في الحادثة الأولى، حيثُ أطعم الرب خمسة آلاف شخص، الكلمة المستخدمة المترجمة بـ "سلال" تعني سلة مجدولة من الأغصان تُستَخدم خلال السفر، كمثل تلك التي يحملها الناس معهم لنقل الأغراض الصغيرة عندما يكونون في رحلة أو سفر. وأما الكلمة المُستخدمة هنا فتعني السَّبَتْ، وهي سلة تسوّق كبيرة، كتلك التي اعتِيد استخدامُها عموماً من قبل الذين كانوا يخرجون لشراء مؤونة للأسرة. هذه المرّة كان هناك سبعٌ من هذه السلال الكبيرة ممتلئة بكِسَر الخبز والسمك لتؤمّن طعاماً لجماعة الرسل قد تكفيهم يوماً كاملاً آخر.

لا نعلم كم من الناس قد اشتركوا في هبة الرب السخيّة ذلك اليوم. تقول الروايات أنه كان هنالك أربعة آلاف رجل، إضافة إلى النساء والأطفال. لعله لم يكن هناك بعد نمط الصفوف التي درجت لاحقاً؛ ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك عدد من النساء قد جئنَ مع أزواجهن، وعدد من الأطفال الذين رافقوا والديهم.

بعد أن صَرَفَ الْجُمُوعَ، َصَعِدَ يسوع إِلَى السَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ، المنطقة التي كانت تعيش فيها مريم المجدلية، والتي منها أخذت اسمها.