الأصحاح ١٧
مجد الملكوت
إنه لمن المؤسف جداً، كما أشرنا في تعليقاتنا الختامية على الأصحاح السابق، أن الآية الأخيرة كان يجب أن تكون الأولى في الأصحاح السابع عشر. في الروايات الموافقة الواردة في كل من إنجيل مرقس ولوقا، إعلان ربنا مرتبط مباشرةً مع مشهد التجلّي. وهذا، في الواقع، المفتاح إلى فهمٍ حقيقي لهذه الرؤيا المجيدة التي عُنيَ بها أن تكون تمثيلاً لـ "ملكوت الله آتياً بقوةٍ". هذا يؤكّده لنا الرسول بطرس، الذي يقول في رسالته الثانية: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ... إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ" (٢ بطرس ١: ١٦، ١٨). فهناك ظهرَ المخلِّص في ذلك المجد الذي سيُستَعلن به عندما يعود ليستلم سلطته العظيمة ويملك (رؤيا ١١: ١٧). إن القديسَين السماويين اللذين ظهرا معه في المجد يصوران مجموعتين من المؤمنين، أولئك الذين سيشتركون في الملكوت معه. موسى يمثل أولئك الذين ماتوا وسيقامون في أجساد ممجدة، وإيليا يمثل صورة عن جميع المؤمنين، الذين سيُختطفون، عند الاختطاف، إلى السماء بدون أن يمروا بالموت (١ تسالونيكي ٤: ١٣- ١٨). الرسل الثلاثة المأثورون الذين عاينوا مجده وسمعوا صوت الآب، يرمزون إلى إسرائيل المستعاد إلى الرب في يوم لاحق وهكذا يدخلون إلى بركة الملكوتين. المشهد عند سفح الجبل يُظهر تأثير المجيء الثاني، وتقييد الشيطان وتحرير الشعوب المضطربة المنـزعجة من سلطانه.
إضافةً إلى هذه الصورة التدبيرية، لدينا أيضاً تطبيق أخلاقي وروحي مبارك جداً. الانشغال بالمسيح الممجد هو التمهيد إلى خدمته في عالمٍ تظهر فيه خصومة وعداوة الشيطان أمام كل ما يفعله الله. وهذا يمكن التغلب عليه فقط بالاتكال على الرب كما أشار عن طريق الصلاة والصوم. ما من إنسان كفؤ ليواجه الشيطان بقوته الذاتية. الصلاة هي التعبير عن الاتكال على الله، والذي وحده يعطي النصر والغلبة. والصوم هو الدليل على هكذا اهتمام بالبركة الروحية المتأتية عن ضبط وتعطيل الرغبات الدنيوية.
"وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ». وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً. فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا». فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ" (الآيات ١- ٨).
"وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ". كان الرب يسوع المسيح قد أشار قبل أسبوع إلى أن البعض لن يرَ الموت إلى أن يعاين ملكوت الله آتياً بقوة. وها هو الآن يأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا صاعداً إلى جبلٍ عالٍ (جبل حرمون) حيث كان سيريهم الملكوت كما سيُستعلَن.
"وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ". لقد كان هذا تحولاً أو استحالة، تغيراً من الداخل؛ مجد بنوَّة المسيح الأبدي وقد أشرق خلال حجاب جسده لكيما يرى التلاميذ الدليل العيني على شخصيته الحقيقية كعمانوئيل- الله والإنسان في شخص واحد.
"وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ". هذان الرجلان من الدهر التدبيري الماضي يمثلان، كما ذكرنا، مجموعتين من المؤمنين: الأولى هم أولئك الذين يموتون قبل مجيء الملكوت؛ والأخرى هم أولئك الذين سيتغيرون وسيُختطفون، دون أن يجتازوا عبر الموت، لدى عودة الرب لأجل خاصته، تمهيداً لتأسيس المجد الألفي (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦). إنهما يرمزان أيضاً إلى الناموس والأنبياء، اللذان يحملان كلاهما الشهادة على موت المسيح الكفاري، والذي بوساطته يقدر الله أن يقدِّم البر للناس الذين ليس لهم برٌ ذاتي (رومية ٣: ٢١، ٢٤، ٢٥). إننا نعلم عن موضوع حديثهم في لوقا ٩: ٣٠، ٣١. لقد كانوا منشغلين بالحديث عن عمل الرب الفدائي، الذي سيُنجز عما قريب.
"إِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ". جاء اقتراح بطرس بدون تفكير حقيقي. لقد كان متأثراً جداً بمشهد رؤيا المجد تلك حتى أنه رغب بسرور أن يبقى على الجبل مع هذه الصحبة الرائعة. ولكنه أخطأ في وضعه موسى وإيليا، رغم أنهما خادمين بارزين لله، على قدم المساواة مع يسوع، ابن الله الذي صار إنساناً.
"«هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا»". ظللت سحابة هؤلاء الرجال المحترمين الموقرين من العهد القديم، وتُرِك يسوع لوحده. وتكلم الله من السماء للمرة الثانية، مصادقاً على كمال ابنه وسروره به، بصوت طُلِبَ إليهم أن ينتبهوا له.
"لَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً". مروعين بما شاهدوا وسمعوا، سقط الثلاثة راكعين ساجدين، في حضور الله كما تبدى في الرب يسوع المسيح.
"فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا»". بسط الرب يسوع يدَه المُحبة، فلمس كل تلميذ مطمئناً، وأمرهم أن يقفوا، وألا يخافوا. كان الرب ليريد أن يشعروا بارتياح في حضوره، إذ رغم أنه رب الجميع، فهو أيضاً فادينا وقريبنا، الذي اتخذ طبيعتنا البشرية، ما عدا الخطيئة، لكي يأتي بنا إلى الله.
"لَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ". لم يكن هناك مجال للفكرة بثلاث مظال الآن، لأن موسى، مانح الناموس، وإيليا، الذي يرد كل شيء، قد تلاشيا، وبقي الرب يسوع وحده، الذي هو نفسه أمس، واليوم، وإلى الأبد (عبرانيين ١٣: ٨).
ليس يسوع مجرد إنسان صار، بفضل قوة الاستنارة الروحية والاستسلام لمشيئة الآب، أكثر ألوهية من أي إنسان آخر. إنه الله الابن، المتحد مع الثالوث القدوس الأبدي في شخص واحد، متجلياً بالجسد ومن هنا فهو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان. إن اعتراف بطرس وصوت الآب بعد التجلي يخبراننا عن القصة المباركة نفسها. كان على يسوع أن يكون كما كان لكي يفعل ما فعل. وما من أحدٍ أقل من ابن الله كان ليمكنه أن يصنع كفارة عن خطايانا (١ يوحنا ٤: ١٠).
مرَّت الرؤيا، ولكن يسوع بقي. وعندما حل الصباح نـزل مع تلاميذه عن ذلك الجبل ذي الامتياز الخاص ليواجه آثار الخطيئة المرعبة المروعة في الوادي في الأسفل، إذ لم تأتي الساعة بعد لاستعلان الملكوت في مجدٍ واقتدارٍ عالميين.
"وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ». وَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِين: «فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذَلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضاً سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ». حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (الآيات ٩- ١٣).
"لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ". إذ كان يرى مسبقاً رفض (اليهود) له فقد طلب من الثلاثة المختارين أن لا يقولوا شيئاً لأحد عما رأوه في تلك الحادثة التي لا يمكن أن تُنسى، حتى يكون قد قام من الموت. فالصليب يجب أن يأتي قبل الملكوت.
"لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟". من أجل هذا كان لهؤلاء المعلمين سلطة كبيرة، لأن ملاخي ٤: ٥، ٦ أعلن بوضوح أن: "هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ. فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ". إن الملكوت سيلي يوم الرب العظيم والمخيف. في الواقع سيكون استمراراً لذلك اليوم، بعد انتهاء الدينونات الأولية فيه. فماذا عن إيليا عندئذٍ؟ هل سيُبحث عنه أو يُتوقع أولاً؟
أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: "إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ". ولكنه شرح لهم بأنه قد جاء لتوه وأن شهادته قد رُفِضَت، وأنه، هو نفسه، قد أُزيح من الطريق: "عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا". وتماماً كما عاملوا السابق (يوحنا المعمدان)، هكذا سيعاملون ابن الإنسان.
ونعلم بعد ذلك أن التَّلاَمِيذ فَهِموا "أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ". فقد جاء بروح وقوة إيليا (لوقا ١: ١٧) ليعدَّ طريق المسيا.
يبدو واضحاً من الكتابات النبوية أن شهادة مشابهة لإيليا ستُعطى في الأيام المظلمة من الضيقة العظيمة قبل استعلان الرب في الدينونة. وإن رؤيا الشاهدين في رؤيا ١١ ستظهر لتؤكد هذا.
بينما راحوا يتحدثون وصلوا إلى حشد كبير من الناس المضطربين المتضايقين كما تصفهم بضعة الآيات التالية.
"وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِياً لَهُ وَقَائِلاً: «يَا سَيِّدُ ارْحَمِ ابْنِي فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيداً وَيَقَعُ كَثِيراً فِي النَّارِ وَكَثِيراً فِي الْمَاءِ. وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ الْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هَهُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هَذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (الآيات ١٤- ٢١).
بعد أن نـزلوا إلى السهل إثر ليلة الرؤيا تلك، وجدوا الأب المخبل، الذي كان قد أتى بابنه الممسوس بالشيطان إلى بقية التلاميذ التسعة، مناشداً إياهم المساعدة. ولكنهم عجزوا عن فعل أي شيء، رغم أنهم مفوضون بطرد الشياطين (١٠: ٨)، فوجدوا أنفسهم عاجزين أما هذه الحالة بالذات. وإذ خاب أمله بالخدام، عرف الأبُ المكروب المحزون المعلمَ عندما اقترب منهم، فتوسل إليه في الحال أن يحرر ابنه من الشيطان. جاثياً على قدميه، توسل إلى الرب أن يرحمه وأن يشفي ابنه، شارحاً بأنه كان قد أحضره إلى التلاميذ ولم يستطيعوا أن يشفوه. يمكن للمرء أن يفهم كم كان حزن هذا الأب شديداً وكم كان حزيناً وخائباً عندما لم يستطع التلاميذ تقديم المساعدة؛ ولكن بأمل القلب يلتفت إلى الرب يسوع مناشداً إياه، كما فعل آباء آخرون كثيرون، من أجل إعتاق أبائهم الذين وقعوا تحت سطوة الشرير بأشكال مختلفة.
"قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هَهُنَا!". بعد توبيخ التسعة على نقص إيمانهم، نادى يسوع أن يأتوا إليه بالفتى. لقد تأثر قلبُه بمطلب الأب. وإذ التفت نحو الشاب الممسوس بالشيطان، وبَّخ يسوعُ الروح الشرير فغادر الغلام، وشُفيَ ذاك من تلك الساعة.
على الجبل، ائتمن الله التلاميذَ وأعطاهم نظرة مسبقة عن الملكوت الذي سيتأسس بقوة وجلال عند المجيء الثاني لربنا. وفي السهل، عاينوا من جديد إحدى التخريبات الناجمة عن الخطيئة والشيطان، التي كان هذا العالم البائس لا يزال يعاني ويئن منها، والتي سيتحرر منها كلياً فقط عند عودة المسيح. ولكن خلال دهر الشر الحالي هذا، الرب يسوع هو الذي يسمع صلاة الإيمان ويحرر أولئك الذين يضعون ثقتهم بكلمته. ما من حالة مستعصية عليه. تلاميذه غالباً ما يكون بلا حول ولا قوة لهم بسبب عدم إيمانهم وإخفاقهم في إدراك عجزهم عن العمل بمعزل عن ذاك الذي يفوضهم ليمثلوه في هذا العالم.
عندما صاروا لوحدهم مع الرب، بعيداً عن الجموع، سأله التلاميذ الحائرون عن سبب عجزهم عن طرد الشيطان في هذه الحالة. وكان الجواب: "لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ". من جديد أعلن الرب أنه لو كان لهم إيمان مثل حبة خردل لأمكنهم أن يزيلوا جبال الصعاب، وأنه ما من شيء على الإطلاق كان مستحيلاً أمامهم. ولكن الإيمان الحقيقي والانغماس في الذات لا يمكن أن يتواجدا معاً؛ ولذلك فقد أضاف قائلاً: "هَذَا الْجِنْسُ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ". إن الجسد وشهواته يجب أن تبقى في حالة خضوع وقيد السيطرة لكي ينتعش الإيمان. إضافةً إلى ذلك، فيجب أن يكون هناك اتكال على الله بمعنى حقيقي تعبر عنه الصلاة. ألا نرى في كلمات الرب هذه السبب في عدم الاستجابة للكثير من صلواتنا؟
ومن جديد حذَّر يسوع التلاميذ مما كان سيختبره عن قريب، ولكن رغم أن قلوبهم كانت محزونة لم يفهموا المغزى الكامل وراء كلماته.
"وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐبْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». فَحَزِنُوا جِدّاً" (الآيات ٢٢- ٢٣).
لقد قاربت خدمة الملك غير المُعترف به في الجليل أن تصل إلى نهايتها. لقد تنبأ بكل ما سيتعرض له على يد الإنسان، ولكنه نظر بعين نبوية إلى ما وراء ذلك إلى قيامته عندما سيقيمه الله من بين الأموات. لقد كان يتحدث بشكل واضح عن هذه الأمور ولذلك فقد كان أمراً لا يُصدق أن التلاميذ أخفقوا في إدراك معنى ما يقول. ولكن هكذا كانت الحال. فهم لم يتذكروا أو يفهموا ما قاله بشكل واضح ومحدد حتى حدث كل شيء.
الحادثة التي يُختتم بها هذا الأصحاح تكشف جانباً آخر من اندفاع بطرس وأيضاً نعمة الرب العجيبة.
"وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟» قَالَ: «بَلَى». فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟» قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ الأَجَانِبِ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلاّ نُعْثِرَهُمُ اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ»" (الآيات ٢٤- ٢٧).
مال الجزية المشار إليه هنا كان النصف شاقل من الفضة الذي بحسب خروج ٣٠ كان مطلوباً دفعه كمال افتداء عند كل إحصاء للشعب. وعلى مر الأيام صار يعتبر ويُجنى كضريبة رؤوس لدعم خدمات الهيكل. جاء جامعوا هذه الضريبة إلى بطرس وسألوه فيما إذا كان يسوع قد دفعها. وبدون استشارة معلمه، أجاب بطرس بالإيجاب. عندما دخل المنـزل في كفرناحوم بعد قليل (وعلى الأرجح أن يكون هذا منـزله) سبقه يسوع فطرح السؤال عليه: "«مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟»". أجاب بطرس بدون تردد أن من الأجانب. كان ذلك قبل برهة قصيرة من اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. ولذلك، فلم يكن معفياً من دفع هذه الضريبة المعينة؛ ولذلك فقد قال يسوع: "فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ". ولكن بدافع اهتمامه بالآخرين، ولئلا يعثر أحد ممن لم يفهم من كان أمر بطرس أن يذهب إلى بحر الجليل وأن يلقي الصنارة ويأخذ السمكة التي يصطادها، وأضاف قائلاً له: "مَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ". ليس بالضرورة أن نفترض أن العملة المعدنية كانت قد خُلِقت بطريقة عجائبية في تلك اللحظة، بل بالحري أنها كانت قد سقطت إلى الماء، وانجذبت السمكة إلى هذه المادة اللامعة البراقة فحاولت ابتلاعها، ولكن الشاقل علق في حنجرتها؛ ولذلك فعندما اجتذبها بطرس إلى اليابسة كانت العملة النقدية هناك كما قال يسوع، وأمكن استخدامها لتجنب أي انتقاد. هل كان يسوع في ذلك الوقت فقيراً جداً حتى أنه لم يكن لديه أي مال آخر يدفع منه هذه الضريبة؟ من الممكن ذلك، أو لعله اختار هذه الطريقة ليؤكد لبطرس حقيقة أنه رب كل الخليقة.