الأصحاح ١٠
رسل الملك
لكي نفهم بشكل صحيح دعوة وتفويض الإثني عشر قبل صلب ربنا, نحتاج لأن نضع في أذهاننا أن الرب يسوع المسيح كان يقدم نفسه لإسرائيل كملك موعود لهم. لقد كان الله يتعامل معهم كشعب, مُعطياً إياهم فرصة كاملة للإقرار بمطالب ابنه. لقد اخْتِيرَ الإثنا عشر كرسل له إلى الشعب على هذا النحو, وكانت خدمتهم, كمثل خدمته, موجهة بشكل رئيسي إلى "خِرَاف ِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (الآيات ٥, ٦).
لقد كان الإثنا عشر تلاميذَ قبل أن يصبحوا رسلاً. أي أنهم كانوا تلاميذ يتعلمون في مدرسة المسيح قبل أن فُوِّضوا كرسل وبُعِثوا كرسل للملك, ليُعلِنوا أن الملكوت السماوي الذي طال انتظاره قد اقترب. ويُعطى التفويض لهم في هذا الأصحاح العاشر. وهو يختلف كثيراً عن ذاك الذي يُعطى لهم في ختام هذا الإنجيل, بعد أن يكون الملك قد رُفِضَ, وعندما كان على وشك أن يرجع إلى الآب. هذا التفويض الباكر كان له علاقة بخدمتهم لبني إسرائيل فقط. أما الأخير فقد كان لكل الأمم.
كرسل للملك إلى الشعب المختار, كان عليهم أن يذهبوا معتمدين على الرعية المخلصة للملك لتؤمن لهم الضيافة والاستقبال ولتؤيدهم في سبيله؛ ومن هنا فقد كان عليهم أن يذهبوا بدون كيس نقود أو حقيبة أو أي زاد آخر, كما يفعل من يذهب في رحلة طويلة. فإن قُبِلوا بسلام, يتوجب عليهم أن يكرزوا بإنجيل الملكوت وأن يشفوا المرضى, معززين بقوة الرب. وإن رُفِضوا, كان عليهم أن يُعلِنوا أن دينونة على وشك أن تقع, وأن يتابعوا سيرهم إلى بلدات وقرى أخرى. لقد حذرهم الرب يسوع مسبقاً من المعاملة السيئة التي كانت في انتظارهم في بعض الأماكن, ولكنه أعلن لهم أن الآب السماوي سيحرسهم. بعد الصليب تغير كل هذا, وأخذوا تفويضاً ليذهبوا إلى كل العالم وأن يتلمذوا جميع الأمم. هذا التفويض لم يُلْغَ أبداً, وهو فاعلٌ اليوم, رغم أنه لم يكن قد نُفِّذَ بشكل كامل. إن لم نرَ هذا الفارق فإننا سنتشوش على الأرجح, لأن تعليمات مخالفة تماماً نجدها في الأناجيل تتعلق بمسؤولية الرسل في كل حادثة. صحيح أن الغالبية العظمى من بني إسرائيل لم يكن لديهم استعداد قلبي لأن يتجاوبوا مع الرسالة, ولكن الظروف كانت مختلفة تماماً. كان الله قد رأى مسبقاً الرفض الذي سيلاقيه ابنُه, وكان موته الكفاري هو أساس المخطط الإلهي لبركة العالم, ولكن هذا لم يُقلل من مسؤولية بني إسرائيل, كما أعلن بطرس فيما بعد (أعمال ٢: ٢٣). لقد كان ملائماً أن يُقدَّمَ عرض الملكوت أولاً لبني إسرائيل, لأنهم كانوا أبناء الملكوت بسبب الولادة الطبيعية. فلهم كانت الوعود قد أُعطِيَت؛ وكانوا يترقبون منذ قرون مجيء الملك واستعلان سيادته على كل الأرض, ويكون إسرائيل شعبه المختار, الذين منهم ستأتي البركة إلى كل العالم (أشعياء ٦٠: ١- ١٦). وعندما رفضوا أن يُطيعوا الرسالة التي أعطاها لهم الرب ورسله, أُخِذَ الملكوت منهم وأُعطيَ لشعب آخر (متى ٢١: ٤٣).
"ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هَذِهِ: الأَََوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. فِيلُبُّسُ وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُو ا بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَاف ِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. ﭐِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا. لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ. «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ" (الآيات ١- ١٥).
كانت دعوة الرسل هي العمل الأولي في خدمة جديدة وأكثر اتساعاً. لقد كان يسوع يدربهم لبعض الوقت, وعُرِفوا كتلاميذ له وسط الشعب. والآن فوضهم لأن يذهبوا اثنين اثنين ليعلنوا في كل أرجاء إسرائيل أن ملكوت السموات قد اقترب.
"ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً". هؤلاء الإثني عشر كانوا معه منذ فترة من الزمن. والآن فرزهم عن الآخرين من أتباعه, مُعيِّناً إياهم رسلاً رسميين له. في الآية ٢ يوصفون, ولأول مرة, على أنهم "رسل"؛ أي "مُرسلين" أو "مُفوَضين". وفي الآيات ٢- ٤ تُعطى أسماؤهم. لقد كان يسوع قد وجدهم في مسالك متنوعة في الحياة, ودعاهم ليكونوا رفقاءَه استعداداً للعمل العظيم الذي كان سيُوكِله إليهم. وقد أثبت الجميع, باستثناء يوحنا الإسخريوطي, إخلاصهم للثقة التي منحهم إياها.
"إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا". يجب أولاً أن يُقدَّمَ الملكُ إلى إسرائيل ويُعرضُ الملكوت عليهم. فقبل رفضهم لكليهما, لم يكن الإنجيل قد امتد إلى كل العالم وكل الأمم (متى ٢٨: ١٩؛ مرقس ١٦: ١٥؛ لوقا ٢٤: ٤٦, ٤٧؛ أعمال ١: ٨).
"بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَاف ِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ". لقد كان ينبغي على الإثني عشر أن يسعوا وراء هؤلاء, مُعطين لبني إسرائيل الفرصة للتوبة عن خطاياهم واقتبال ملكهم, وهكذا يكونون مستعدين لدخول ملكوته.
"وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا". إن الرسالة التي كانوا سيحملونها أو الإعلان الذي كانوا سينقلونه كان موجزه أن "قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ". فهذا الملكوت كان الشعب قد انتظره طويلاً. وها هو الآن يُقدَّمُ لهم ليقبلوه أو يرفضوه.
"مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا". لقد كانت قوى معجزية تُمنح لرسل الملك للمصادقة على ما يزعمونه. ولكن ما كان عليهم أن يُسيئوا استخدام الأشياء لأجل غناهم الشخصي. كان عليهم أن يُعطوا مما أُعطِيَ لهم, دون أن يطلبوا مقابل لأنفسهم.
"لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ". لقد أرسل الرب الاثني عشر بدون ذهب أو فضة لنفقاتهم, وبدون رداء إضافي يرتدونه. لقد كانوا رسل الملك وممثليه, وقد ذهبوا إلى خاصته, ولذلك فقد كان لهم الحق بأن يتوقعوا بأن يُعنى بهم المخلصون من بني إسرائيل الذين كانوا ينتظرون الملك. وإذ كانوا يذهبون من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى فقد كانوا يستعلمون في كل مكان عمن كان مُستحقاً: أي عمن كان يُعتبر رجل تقوى وحياة بارة ينتظر افتداء إسرائيل. فإن رُفِضوا كان عليهم أن يتابعوا سيرهم وأن ينفضوا الغبار عن نعالهم كشهادة ضد ذلك البيت. فمن اقتبلهم كان سيجد بركة. وأولئك الذين رفضوهم سينالون دينونة- دينونة شديدة لدرجة أن تلك التي وقعت على سدوم وعمورة ستكون ضئيلة مقارنة بها. كان ذلك بسبب أن النور يزيد المسؤولية. لقد كانوا يتمتعون بامتيازات لم يعرفها سكان المدن من الناس البسطاء العاديين, ولذلك فقد كانت عقوبتهم أشد إذا ما رفضوا اقتبال الملك وأهانوا رسله.
يبدو واضحاً أن كلمات الرب المتعلّقة بالبلايا والمآسي التي كان سيواجهها هؤلاء الرسل تذهب إلى ما وراء ما اختبروه خلال الفترة القصيرة من شهادتهم في الجليل، وكان يُقصَد بها إعدادهم لما سيُدعَون لمواجهته، بعد صلب المسيح وقيامته، عندما سيتابعون الشهادة أولاً لبني إسرائيل ومن ثم للأمميين. من جهة أخرى علينا أن نتذكر أن الكتاب المقدس يشير إلى شهادة مستقبلية لبني إسرائيل من خلال مجموعة من المؤمنين اليهود المُخلصين الأتقياء، الحكماء الذين تحدث عنهم دانيال ١٢، في فترة الضيقة بين اختطاف الكنيسة واستعلان ابن الإنسان في مجيئه الثاني. فخلال تلك الساعة الحالكة من سيطرة ضد المسيح ستكون هذه الآيات دليلاً وتعزية للشهود الذين سينطلقون عندها ليعلنوا عودة الملك الذي كان مرفوضاً يوماً.
"«هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ. وَلَكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ وَالأَبُ وَلَدَهُ وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلَكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ. وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (الآيات ١٦- ٢٣).
"هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ". إن يسوع لا يريد لأتباعه أن يعيشوا في الوهم فيما يتعلّق بتمثيله وسط شعب كان في الماضي قد قتل أنبياءَه وقاوم مُطالباتهم له بالعودة إلى الرب. كان التلاميذ سينطلقون لمواجهة أعداء كارهين لهم كانوا سيتوقعون منهم أن يكونوا أصدقاء ودودين. ففي هكذا ظروف كم هم في حاجة إلى الحكمة التي تنحدر من العلاء.
عندما يُقبَض عليهم ويُدعَون أمام المحاكم المدنية أو الكنسية عليهم ألا يكونوا قلقين أو مرتبكين أو محتارين في طريقة الدفاع عن أنفسهم، لأنهم يُعطَون "في تلك الساعة" ما يقولونه بروح الآب الناطق فيهم. إن تعبير "روح الآب" غير اعتيادي، ولا يدل بالضرورة على الحقيقة الكاملة بسُكْنى المُعزّي، الذي ما كان سيأتي حتى يتمجَّد يسوع. ولذلك، فإن الرب يستخدم هذا التعبير الغامض نوعاً ما، الذي سيبقى قابلاً للتطبيق عندما سيأتي الدهر التدبيري للروح القدس.
كان عليهم أن يكونوا مستعدّين لتحمّل سوء الفهم من العائلة والعداوة من الأسرة هذه التي ستنشأ عن إيمانهم بالمسيح وإخلاصهم له. إن مقاومة العالم لملكهم الحق ستكون على تلك الدرجة من الشدّة والمرارة حتى أن أولئك المخلصين له سيلاقون البغضاء من كل الناس من أجل اسمه، وهكذا عليهم أن يتوقعوا المعاناة والألم والاضطهاد هذه التي ستُنحّي جانباً النفوس ذات الإيمان السطحي وغير الصادق؛ وأما الذي يتحمّل إلى النهاية فالخلاص مضمون له. هذا لا يعني أننا نخلص بولائنا أو تكرّسنا الشخصي. كل شيء هو بالنعمة. ولكن حيث يكون هناك عمل حقيقي لله في النفس يكون هناك حفظٌ أخير، سواء في أيام الضيقة العظيمة التي ستأتي مستقبلاً أو في هذا العصر الحالي الشرير.
ومع ذلك فإن تلميذ المسيح يجب ألا يتسبب لنفسه بالاضطهاد أو يعرّض نفسه بدون داعٍ وبطريقة طائشة متهورة للمخاطر. فإن اضطُهِدَ في مدينة ما, عليه أن يهرب إلى أخرى، كما فعل بولس بعد سنين عندما ترك تسالونيكي وذهب إلى بيرية بسبب الاضطهاد، وهرب فيما بعد من بيرية إلى كورنثوس وأثينة عندما حرّض اليهودُ شعبَ بيرية عليه.
الجملة الأخيرة في هذا الجزء من فحوى المهمّة التي يُوكلهم بها الرب، كما لاحظنا، يصعب تطبيقها ما لم نرَ، في ساعة الضيقة المستقبلية، وجودَ جماعة مُحتَرمة من الشهود يسلكون وفق هذه المهمة. إن الدعوى موجَّهة إلى الكنيسة مرحلياً للوقت الحالي. وعندما يكتمل عمل الله الخاص هذا ستُنقَل إلى السماء, وستُستَأنفُ الشهادة للملكوت التي انقطعت.
في الآيات ٢٤ إلى ٣٩ يُخبرنا الرب عن عناية الآب بكل الذين ارتضوا أن يتطابقوا معه في يوم رفضهِ.
"«لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَلاَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ.يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ وَالْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ! فَلاَ تَخَافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ. فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا" (الآيات ٢٤- ٣٩).
"لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ". إن التلميذ مُتَعلّم. وهذا يفترضُ تواضعاً. فكخُدّام وتلاميذ للمسيح تقع عليه مسؤولية إطاعة كلمته. فلماذا سيتوقعون إذاً معاملةً أفضل من تلك التي تلقاها معلّمُهم.
"لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ". بحسب الفكر اليهودي, بَعْلَزَبُولَ (وعلى الأرجح أنها كلمة فلسطينية) كان رئيس الشياطين. كان هناك أناس أطلقوا على يسوع هذا الاسم مجدفين.
"لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ". هذه نقطة مهمة جداً. كل الدوافع والأعمال المخفية ستأتي إلى النور في ذلك اليوم الذي سيُدين فيه الله أسرار الناس (رومية ٢: ١٦).
"نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ". ما تعلموه من يسوع بالسر, في تلك الساعات من الشركة الرائعة مع رئيس المعلمين, كان عليهم أن يُعلنوه بجرأة في الأماكن العامة.
"وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا". إن موت الجسد لا ينجم عنه موت الروح. فبعد أن يموت الجسد تستمر النفس بالحياة حتى تتحد من جديد بالجسد في القيامة, وفي حالة غير التائب, تُلقى في الجحيم. في الكتاب المقدس تأتي العبارتان "فانٍ", و"خالد" مرتبطتين بالجسد (رومية ٨: ١١؛ ا كورنثوس ١٥: ٥٣). ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن النفس التي تحيا بعد الجسد تموت؛ وهذا هو ما يُقصد به عندما يتحدث الناس عن خلود النفس. إن كلمات ربنا, في الآية ٢٨, واضحة ومحددة في هذا الخصوص. فهناك في الإنسان ما لا يستطيع المرض أن يؤثر عليه, وما لا يستطيع سلاح القاتل أن يُهلكه. ما من إنسان يستطيع أن يقتل النفس. وإن الله سيتعامل مع نفس الإنسان ببره الذاتي غير المحدود.
"أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ". لقد كان الفلس عملة ضئيلة القيمة؛ ومع ذلك فقد عصفوران يُباعان في الأسواق بهذا المبلغ. لقد كانت العصافير تستخدم كطعام لأفقر الناس. ومع ذلك فإن الله كان ينتبه إلى سقوط أي عصفور.
"فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ". ما من شيء ولو كان تافهاً يمكن ألا يلاحظه الله, وإن عنايته تمتد إلى أدق تفاصيل حياتنا.
"أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ". إن الله يُعنى بجميع مخلوقاته, ولكن الإنسان له مكانة خاصة في قلبه, ويقدِّره أكثر من كل الكائنات الحية الأخرى.
"مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ". يدعي المسيح سلطة مطلقة على حياتنا. علينا أن نعترف به علانية أمام الآخرين, وسيعترف بأسمائنا التافهة في يوم ظهورنا أمام الله.
"أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً". إن كنا نرفض أن نعترف بالمسيح الآن كمخلّص ورب, فإنه سينكرنا في يوم الدينونة.
"مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً". تبدو هذه العبارة غريبة عما جاء في رسالة الملائكة عند مولده (لوقا ٢: ١٤). ولكنه كان قد رأى مسبقاً الرفض الذي سيلاقيه وعرف أن الصراع بين الخير والشر سيستمر حتى رجوعه. وعلى خدامه أن يكونوا مستعدين لأن يحاربوا الإثم بشجاعة.
"لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ". إن مطالب المسيح أسمى من كل الآخرين. يجب على تلاميذه أن يكونوا مستعدين لمواجهة المعارضة حتى داخل منازلهم أنفسهم وحتى من قِبَل أقرب أقربائهم.
"أَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ". كان هذا صحيحاً ليس فقط بنتيجة إرسالية الإثني عشر في ذلك اليوم, بل كان يتحقق منذ ذلك الحين وللأسف طوال الأيام وعلى مدى قرون.
"فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي". لو كان يسوع أقل من الله, فكم ستغدو هذه الأقوال التي نراها هنا مستحيلة! إنه يطلب المكانة الأسمى في قلوبنا. علينا أن نؤثِرَ محبتنا له على محبتنا للأب أو الأم أو الأخت أو الأخ.
"يَتْبَعُنِي". أن نحمل الصليب يعني أن نُقِرَّ بتطابقنا معه ذاك المرفوض المنبوذ. الإنسان الذي كان يحمل صليبه هو إنسان مكرس للموت. وإننا مدعوون لأن نموت كل يوم (١ كورنثوس ١٥: ٣١) لكي يتمجد هو فينا.
"َمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا". أن نحيا من أجل الذات هو إخفاق في إدراك الهدف من وراء خلقِنا. ولكن إن تخلينا عن كل ما يعتبره أناسُ هذا العالم قيِّماً, من أجل اسمه, فإننا نربح الأبدية. في موضع آخر قال الرب يسوع المسيح: " إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير"ٍ (يوحنا ١٢: ٢٤). تشكل هذه الكلمات تعليقاً يثير الإعجاب حول تعليمه المتعلق بربح وخسارة حياة المرء. إنَّ حبة الحنطة إن بقيتْ ولم تُزرع فهي ضائعة مهدورة. وأما ما يُفقَدْ بالغرس فإنه يبقى إلى الحصاد التالي.
إن المكافأة الأكيدة التي تنتظر كل الذين يقبَلونَ رسلَ المسيح ويساعدونه في شهادتهم, يتم الحديث عنها في الآيات التالية:
"مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً بِاسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ وَمَنْ يَقْبَلُ بَارّاً بِاسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَارٍّ يَأْخُذُ وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ»" (الآيات ٤٠- ٤٢).
إنه لأمر يغبِّط القلبَ أن نلاحظ كيف يُطابق الرب نفسه كلياً مع ممثليه ومندوبيه؛ ومن هنا فإن قبول أحد الذين يرسلهم هو قبولٌ لهم بالذات, والعكس بالعكس. أن نُرحبَ بنبي على أنه يتحدث باسم الله يعني أن نشارك في مكافأة النبي, ونفس المبدأ صحيح فيما يتعلق بقبول الإنسان البار. إن ما نفعله للخادم يقدِّره المعلّم أو السيد. فحتى كأس ماء بارد يُعطى لأحد إخوة المسيح الصغار سوف لن يمر دون مكافأة. إنه يعتبر أنَّ كل ما يُصنع لأجلهم يُصنع له. من يعرف هذا الرب الكريم أفلن يخدمه بسرور قلبٍ؟
إن الطاعة هي محك التكرس والإخلاص. فإن كنا نحب ربنا حقاً فإننا سنسرُّ بأن نقدِّم له كُليَّتنا وكل ما نملك لأجل خدمته. لقد عَهِدَ إلينا نحن المُخلَّصين برسالة إنجيله. ولكن هذا لا يعني أننا جميعاً مدعوون لأن نكون كارزين مُبشرين أو مُرسَلين, بل يُطلب إلينا أن نعترف به أمام الناس لكي ينجذب الآخرون إليه كما حدث معنا. وسنجد الحياة في قمة غناها وأفضل أحوالها إذا ما لبيّنا دعوته مهما كان الثمن. إن حياةً مبذولة لمجده هي حياةٌ باقية مُخلّصةٌ. والحياة المكرسة لخدمة الخطيئة أو الذات هي حياة مهدورة ضائعة. ما من تضحية نقدمها تُعتبر كبيرة أمام ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا.