الأصحاح ٢٨

الملك القائم، والتفويض الملكي

في صباح عيد البواكير، وهو أول يوم في الأسبوع الذي يلي أول سبت بعد الفصح، قام يسوع من بين الأموات وصار باكورة للراقدين (لاويين ٢٣: ٩- ١٤؛ ١ كورنثوس ١٥: ٢٠، ٢٣).

إن قيامته هي الدليل على أن الفداء قد أُنجِز. لأنه كان راضٍ تماماً عن عمل ابنه، أقامه الله من بين الأموات (أعمال ٤: ٢) وأجلسه إلى يمينه، كنوع من الإقرار بأنه الرب والمسيح (أعمال ٢: ٣٣، ٣٦). لو لم يقم جسد الرب يسوع المسيح من القبر، لكان هذا دليل صامت على أنه كان إما مخادعاً أو مخدوعاً عندما أعلن أنه كان سيبذل حياته فديةً عن كثيرين (٢٠: ٢٨). لولا القيامة لكان ببساطة مجرد شهيد آخر في سبيل ما آمن أنه الحقيقة، أو شهيد طموحاته الشخصية. ولكن قيامته، بالتوافق مع ما تنبأ به بأنها ستكون في اليوم الثالث، أكدت أقواله وأثبتت أن موته كان بالفعل كفارة عن الخطية وأن الله قد قبلها على هذا النحو.

على الجلجثة، كما رأينا، أخذ الرب يسوع المسيح مكان خاطئ واحتمل الدينونة التي كنا نستحقها. تلك الدينونة كانت تشتمل على انفصال الخاطئ الشرير أبدياً عن الله. وإذ جُعِلَ خطيئة، صرخ الرب يسوع إلى الله قائلاً: "لماذا تركتني؟" بما أنه غير محدود ونحن إنما محدودين، كانت ذبيحته وآلامه كفارة كافية وافية عن خطايا العالم. عندما صُنِعت الكفارة، تعين على الله الآب أن يعيد يسوع من بين الأموات، مُبرئاً إياه بذلك على نحو كامل من أي تهمة بخلل أو إخفاق شخصي يتسبب في جعله "مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولاً" (أشعياء ٥٣: ٤). كل آلامه الكفارية كانت من أجلنا، وليست عقاباً بسبب سوء استحقاق منه. وفي إقامته من الموت، صادق الآب على كمال عمل ابنه.

قبر يسوع الفارغ هو شاهد صامت ولكن فعلي مؤثر على حقيقة قيامته. لو أمكن إيجاد جسه، لكان تلاميذه سيقتبلونه ويقدمون له مراسم دفن لائقة من جديد. وإن كان أعداءه قد أخرجوه، لكانوا قد عرضوه ولطبَّلوا وزمَّروا مقدمين إياه كدليل في نظرهم على أن تنبؤه- في أنه سيقوم في اليوم الثالث- لم يكن سوى أكذوبة تماماً. ولكن ما من صديق أو عدو أمكنه أن يحدد موضعه، لأن الله أقام ابنَه من الموت دلالةً على رضائِه الكامل عن الذبيحة التي قُدِمت على الصليب. كان القبر فارغاً في صباح يوم الرب الأول، ليس لأن التلاميذ كانوا قد جاؤوا ليلاً وسرقوا الجثمان بينما كان الجنود نيام، ولا لأن رؤساء الكهنة وجواسيسهم وحراسهم قد تجرأوا على كسر الختم الروماني على الحجر الذي كان يسد مدخل القبر المنحوت في الصخر، بل لأن يسوع كان قد حقق ما سبق فقال بأنهم إذا ما هدموا هيكل جسده، فإنه سيقيمه من جديد في ثلاثة أيام. إن فعل القيامة يُنسب إلى الآب (عبرانيين ١٣: ٢٠)، والابن (يوحنا ٢: ١٩- ٢١؛ ١٠: ١٧، ١٨)، والروح القدس (رومية ٨: ١١). لقد شارك الثالوث القدوس جميعهم في هذا الحادث المجيد، الأعجوبة الأسمى على مر الدهور، عندما قام ذاك الذي مات عن خطايانا لأجل تبريرنا. لم يدرك يوسف الذي من راما إلا قليلاً مقدار ذلك الشرف الذي سيكون له عندما أعد القبر الجديد الذي صار مسكناً لبضع ساعات لذلك الجسد الذي مات والذي يحيا الآن إلى الأبد.

"وَبَعْدَ السَّبْتِ عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: «لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَﭐذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا». فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لاَ تَخَافَا. اذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي»" (الآيات ١- ١٠).

"وَبَعْدَ السَّبْتِ". كان سبت اليهود قد انقضى الآن. وها هي حقبة جديدة على وشك أن تبدأ، وتتميز بيوم جديد. "عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ". ففي الصباح الباكر من اليوم الذي يلي السبت، ذهبت المريمتان "لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ"، وذلك لتطيبا الجسد الذين كان قد دُفِنَ على عجالةٍ في يوم موته.

"مَلاَك الرَّبِّ نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ".  لم يكن ذلك الحجر قد دُحرِجَ ليسمح للرب القائم بالخروج، لأنه كان قد غادر القبر لتوه. فما من حواجز كانت لتعيقه في جسد قيامته. لقد فُتِحَ القبر من أجل السماح للنساء والتلاميذ بالدخول.

"وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ". الملائكة كائنات فائقة الطبيعة، أرواح صرفة، يتخذون هيئة بشرية عندما يشاؤون ويمكن أن يختفوا بشكل مفاجئ. إن عبارة "كالبرق" موحية وتعبر فعلاً عن أولئك الذين قيل عنهم أنهم كـ "لهيب نار" (عبرانيين ١: ٧).

"مِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ". في خوفهم لدى ظهور هذا الرسول السماوي، لاذَ الجنود الحراس الشديدوا البأس والقساة بالفرار عاجزين عن النظر إلى محيَّاه المخيفة.

"فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا". في محاولة لتهدئة مخاوف المرأتين، أعطى الملاك لهما الفهم بأنه كان يعرف مطلبهما بالضبط. ولكنه نقل لهما نبأً ساراً.

"لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ". هذا أساس كل رجائنا. فليس صحيحاً، كما كتب آرلوند، أن جسد يسوع لا يزال راقداً في قبر سوري. إن القبر فارغ. "الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ" كان يحوي دليلاً صامتاً على قيامته من خلال الأَكْفَان المَوْضُوعَة التي كانت تلفّ جسده (يوحنا ٢٠: ٣- ٨). توجه انتباه المريمين إلى سرداب المدفن الفارغ، حيث كان ذلك الجسد الثمين قد رقد وكأنه في برودة الموت. ما من أيدٍ دنيوية رفعته أو نقلته. لقد قام يسوع في الساعة التي حددها الله وترك القبر مخلفاً إياه وراءه إلى الأبد.

"ﭐذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ". لقد كان امتيازاً لهاتين المرأتين التقيتين أن تكونا أول مبشرتين في الدهر التدبيري الجديد- أن تحملن النبأ السار بقيامة المخلص إلى التلاميذ المتألمين المحزونين بسبب عدم إيمانهم. قبل مضيه إلى الصليب، كان يسوع قد أخبرهم قائلاً: "بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ". وإلى مكان اللقاء هذا طلب يسوع من المرأتين أن تخبرا التلاميذ كي يذهبوا إلى هناك، وهكذا يلتقي الرب القائم بهم مجموعين.

"خَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ". المحبة والفرح منحا قدمي المرأتين أجنحة وهما تسارعان لنقل النبأ السار. لم يكن في فكرهما أي شك في حقيقة الرسالة التي نقلها الملاك.

"وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا»". لقد ظهر لهما بنفسه، وهكذا فليس لديهما الآن فقط كلمة الملاك ورؤية القبر الفارغ لتستندا عليه، بل أمكنهما أيضاً أن تشهدا بأنهما قد رأتا الرب نفسه في جسد قيامته، وهكذا تحول إيمانهما إلى شيء مرئي. أشار إليهما يسوع بأن تنقلا الخبر السار وأن تطلبا منهم أن يذهبوا إلى الجليل إلى اللقاء المعين، حيث كان قد وعد بأن يقابلهم.

وبينما كانت المرأتان تهرعان لنقل نبأ انتصار المسيح على الموت إلى التلاميذ، كان الجنود الرومان في حالة اضطراب وتشوش بسبب أحداث ذلك الصباح الباكر، وكانوا قد شقوا طريقهم إلى المدينة ليخبروا رؤساء الكهنة عما حدث.

"وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ الْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَاجْتَمَعُوا مَعَ الشُّيُوخِ وَتَشَاوَرُوا وَأَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: «قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ». فَأَخَذُوا الْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ فَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ" (الآيات ١١- ١٥).

ما من حدٍّ لمدى الخداع والحيلة الدنيئة عند المتعصبين الدينيين العازمين بإصرار على متابعة نهجهم حتى النهاية المريرة، مهما اقتضى الأمر. عندما شرح الجنود ما حدث، أولئك الكهنة، والشيوخ الذين انضموا إليهم، أشاروا على الجنود أن يقولوا بأن تلاميذ يسوع قد جاؤوا ليلاً، والجنود نيام، وسرقوا الجسد.

هكذا إقرار من قِبَل الجنود، لو كان صحيحاً لكان سيعرضهم إلى أقصى العقوبات، ولكن رؤساء الكهنة وعدوا بأن يتشفعوا لأجلهم إذا ما وصل النبأ إلى مسامع الوالي الحاكم. فأعطوا الجنود رشوة كبيرة ليضمنوا تعاونهم في المسألة. ولذلك انطلقوا وأشاعوا هذا الخبر كما قيل لهم، وشاع هذا القول، كما يقول متى، "إلى هذا اليوم".

"وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (الآيات ١٦- ٢٠).

"فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ". خلال أيامه الأخيرة مع تلاميذه، وبينما كانوا يقتربون من أورشليم، كان يسوع قد أخبرهم عن موته الوشيك وقيامته، وذكر جبلاً معيناً في الجليل كان سيلاقيهم فيه بعد أن يتم كل شيء (متى ٢٦: ٣٢؛ ٢٨: ٧؛ مرقس ١٦: ٧). رغم أنه ظهر قبلاً إلى أفراد ومجموعات متنوعة، إلا أنه في الجليل أظهر نفسَه "دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ" (١ كورنثوس ١٥: ٦). على الأقل، يتفق معظم النقاد والمفسرين في الرأي على أنه التقى أولاً بالأحد عشر تلميذاً في هذه المناسبة، قبل أن يتراءى للعدد الأكبر.

"سَجَدُوا لَهُ". عندما رأوه وعرفوا أنه كان حقاً المسيح المُقام الذي كانوا ينتظرونه، سجدوا له، عارفين أنه ابن الله وقد نهض من القبر منتصراً ظافراً (رومية ١: ٤). "وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا". يا له من دليل على الشر القيم الراسخ في قلب البشر! إن عدم الإيمان لا يمكن أن يُغلَب إلا بقوة الروح القدس. فمنذ برهة وجيزة كانت جماعة التلاميذ الصغيرة تلك كلها مؤمنة (مرقس ١٦: ١٤).؟ ولعل هذا يساعدنا على أن نفهم (مرقس ١٦: ١٧). لقد كان الوعد فقط للرسل المؤمنين أن آيات عجائبية ستتبع شهادتهم وتصادق عليها بالتالي.

"دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ (سلطةٍ) فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ". بما أنه المطيع، الذي وضع نفسه حتى موت الصليب، تمجَّد يسوع كإنسان من قِبَل الآب ورُفِّعَ إلى مكانة تسمو فوق كل الأشياء (فيلبي ٢: ٩- ١١). لقد أُقيم ابناً على بيته (عبرانيين ٣: ٦)، والذي له يخضع كل خدّام الله. إنه نفسه "المدير العام" للبرنامج الإرسالي للدهر الحالي.

"اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ". هذا يعطيهم التفويض الأساسي. الأمر هو بتعليم، أو بإعداد تلاميذ، من كل الأمم. العبارة "عمدّوهم" ثانوية. لم يُرسَلَوا ليعَمِّدوا، مع أهمية المعمودية، بل ليعلِّموا الأمم بطريق الحياة. وأولئك الذين يتلقون الكلمة سيُعمَّدون كتعبير خارجي عن إيمانهم.

لقد كانت صيغة المعمودية باسم الثالوث، كما كانت كرازتهم وتعليمهم- ليس بأسماء، بل باسم الآب، والابن، والروح القدس. كل أقنوم من الألوهية كان له دور ولا يزال في عمل الخلاص؛ ولذلك فجميعهم متميزون ويُقرُّ بهم في المعمودية المسيحية.  الآب أرسل الابن، الذي بذل حياته بقوة الروح الأبدي.

"جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ". خلال الأيام الأربعين بين قيامته وصعوده، كشف يسوع لتلاميذه البرنامج الذي كان يريدهم أن ينفذوه، وأعطاهم الوصايا التي كان عليهم أن يعلّموها إلى الناس في جميع الأمم (أعمال ١: ٢، ٣). "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ". فحضوره بالروح كان قد وَعَدَ به كلَّ من يحاول أن ينفّذ المأمورية التي فوضهم بها. "إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ". إن الكلمة الأخيرة هي "دهر". وهي تشير إلى العالم الزمني أكثر منه الكون المادي. وتحديداً، إن الدهر الذي كان يشير إليه لن ينتهي إلى أن يظهر في المجد ليؤسس ملكوته على كل أرجاء الأرض، ولكن زمن دعوة الكنيسة من العنصرة إلى الاختطاف مشتملٌ بالضرورة ضمن هذه الفترة بدلالة الكلمة "إلى". خلال كل الفترة منذ ساعة نطفه بهذه الكلمات وإلى بدء عهد الملكوت، يجب أن تتم الكرازة بالإنجيل، وروحه القدوس سيكون مع رسله المخلصين، ليمكِّنهم من إعلان الرسالة بقوة واقتدار من أجل بركة الجنس البشري.

إن "المأمورية العظمى" بأن يُتلمذوا العالم لا تُعطى مرة واحدة بشكل كلي إجمالي في أي من الأناجيل، إلا أن علينا أن نرى جميع المقاطع المرتبطة ببعضها في الأناجيل الإزائية الثلاثة وفي أعمال ١ لنحصل على تعليمات كاملة عنها. هناك جوانب مختلفة من التفويض يتم التركيز عليها في كل مكان. ومن ثم، وإضافة إلى ذلك، لدينا أمرُ الرب إلى الإثني عشر كما يتبين من يوحنا ٢٠. وهذه جميعها تتفق وتتوافق في ما يلي: أن مسؤولياتنا أن ننقل إنجيل النعمة إلى كل الناس في كل مكان، بينما ننتظر رجوع ربنا، بحسب وعده. من خلال طابع سياق إنجيل متى الذي يركز على الملك والملكوت، التفويض أو المأمورية المُعطاة هنا فيها بشكل خاص نظرة تهتم بالإتيان بجميع الأمم إلى الاعتراف بسلطان المسيح، وإعلان ولائهم بالمعمودية باسم الثالوث القدوس. بمعناها الكامل، لم تتحقق هذه المأمورية حتى الآن. ستكتمل بعد أن يكون عصر الكنيسة قد انقضى. وبقية تقية من اليهود ستحقق تعاليم وأوامر الرب تمهيداً لتأسيس الملكوت. ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولياتنا بأن ننفذها قدر الإمكان في الدهر الحالي. يؤكد مرقس على أهمية الإيمان من جهة أولئك الذين يحملون الرسالة، والتي كانت ستؤيدها "آيات تتبع". ويربط لوقا، في إنجيله وفي الأعمال، الذاتي بالموضوعي- التوبة من جهة الخاطئ، والغفران من جهة الله. ويؤكد يوحنا على سلطان المسيح القائم الذي يفوض خدامه بإعلان مغفرة الخطايا لكل الذين يؤمنون وإمساك الخطايا على أولئك الذين يرفضون الرسالة.

ولكن الجميع على حدٍ سواء يعلنون ضرورة وأهمية حمل الشهادة، وإعلان الإنجيل، إلى جميع أمم العالم بأسرع وقتٍ ممكن. ولكن للأسف، كم من المحزن أن نرى مدى إخفاق الكنيسة في هذا الجانب! إنه لمن المريع، بعد تسعة عشر قرناً من الكرازة بالإنجيل، أن هناك ملايين كثيرة من الرجال والنساء لا يزالون يقبعون في الظلمة وظلال الموت (أشعياء ٩: ٢) وهؤلاء لم يسمعوا أبداً باسم يسوع ولا يعرفون شيئاً عن الفداء الذي اشتراه بموته الكفاري على الصليب.

إن البرنامج الذي وضعه ربنا لم يُعدَّل ولم يُلغَ أبداً. لا يزال يشكل ما يسميه آيرون دوك (ويلنغتون) بـ "أوامر السير" للكنيسة- أوامر، تعرضت كثيراً للتجاهل من قِبَل الغالبية العظمى من المسيحيين المعترفين. لقد تميزت القرون الستة الأولى من الحقبة الحالية بحماسة كبيرة للعمل الإرسالي، في حين كانت كل الأمم أحياناً تُبدي حداً أدنى من الاعتراف الظاهري بالإيمان بالمسيح. ولكن السنوات الألف التي تلت، والتي تسميها روما "عصور الإيمان"، لم تكن تقدّم التعليم الصحيح للمسيحيين فأمكن بالحري اعتبارها "عصور الظلمة"، وقد تميزت بخسوف النشاط الإنجيلي الحقيقي بشكل كبير. مع الإصلاح البروتستانتي جاء اهتمامٌ جديد بالإرساليات، التي كان المورافيُّون سبَّاقون رُوَّاد فيها. وفيما بعد، وخلال القرن والنصف الماضيين، ظهرت يقظة عظيمة تنبَّهت إلى مسؤولية الكنيسة في تبشير المناطق البعيدة. وليس من عذرٍ اليوم إن كان هناك نقصٌ في المعلومات أو نقصٌ في الحماسة فيما يتعلق بالنشاط الإرسالي.

هناك بعضٌ ممن ينكرون أننا نحن الذين في عصر الكنيسة علينا أن نسلك بحسب هذا التفويض المُعطى هنا، بل يقولون أن الحديث هو عن شهادة يهودية في العهد الآتي من الضيقة العظيمة. ولكن هذا منتهى الوهم. إن حقيقة مسؤوليتنا في نقل قصة المحبة الفادية إلى كل الناس في كل مكان هي أكثر أهمية من أي مراوغة أو مواربة بخصوص طابع هذه المأمورية بالضبط. لقد أُعطي، ليس فقط للخُدَّام الرسميين أو للمُرسَلين المُعيَّنين بشكل خاص، بل لكل مؤمن بالرب يسوع المسيح أن يحاول أن يعرّف الآخرين به وهكذا يربح نفوس ثمينة كثيرة قدر الإمكان بينما نهار النعمة لا يزال مستمراً. هذا هو العمل الأول والأهم لكل عضوٍ في كنيسة الله الحي. الجميع مدعوون ليكونوا شهوداً، بحسب استطاعة كل منهم. إن واجبنا هو أن "نذهب" (الآية ١٩)، وأن "نطلب أو نصلي" (٩: ٣٨)، وأن نساعد في إطلاق (أعمال ١٣: ٣) ومؤازرة أولئك القادرين على أن يتركوا بيوتهم وأصدقاءهم وأقرباءهم مسارعين إلى الأصقاع البعيدة ليحملوا الإنجيل إلى تلك الأماكن (٣ يوحنا ٦- ٨). إن الأمر بتعليم أو تلمذة جميع الأمم لا يعني أن مسؤوليتنا هي أن نعلّم الوثنيين في الأمور الدنيوية. فهذا قد يأتي بنتيجة الخدمة الإرسالية، ولكنها ليست العمل الأسمى المطلوب من رسول الصليب. إنه لمن المحزن جداً أن الكثير من المال الإرسالي قد كُرِّسَ لتأسيس وصيانة واستمرارية المدارس والجامعات التي تحولت إلى أعداء لدودين لصليب المسيح. لو أن نفس المال والطاقة كُرِّسا للكرازة بالإنجيل، لكانت النتائج مختلفة جداً عن ذلك. إن التعليم في المدارس مهنةٌ جديرة بالثناء، ولكن يجب عدم خلطها بالشهادة للإنجيل، رغم أنه سيكون أمراً ساراً ومباركاً إن استطاع كل معلّم مدرسة أن يكون مُبشِّراً ببشرى النعمة.

إن تعليم وأوامر ربنا لم تتم إطاعتها على نحوٍ كامل، وإننا نعلم أن ليس كل الأمم ستقبل الرسالة في دهر النعمة هذا؛ ولكننا مُطالبون بأن نمضي باسم الله مثلث الأقانيم، ونعلن سلطان الملك القائم الذي يأمر جميع الناس أن يُذعنوا له بخضوع راضٍ سعيد، وهكذا يدخلون إلى السلام والبركة في حين أنهم ينتظرون عودته من السماء.

يختم متى إنجيله بإرسال الرب لرسله. ولا نقرأ (في إنجيل متى) بصعود المسيح هنا. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لأن تفويض الملك لسفرائه هو ما رغبَ الروح القدس بأن يركز عليه. المشهد الأخير الذي نراه فيه، هو أنه يوجّه ممثليه لأن يذهبوا إلى كل الأمم ويدعوا الرجال والنساء في كل مكان إلى الاعتراف به مخلِّصاً لهم والخضوع لإرادته.

عندما يتكلم الضابط الآمر، فإنه ليس على الجندي المخلص إلا أن يطيع. إن "رئيس جُنْدِ الرب" (يشوع ٥: ١٤) قال: "اذهبوا!". والأمر يعود لنا في أن نسلك بحسب أوامره. إن بركة الله كانت دائماً تحلُّ بكل شكل من الأشكال على الشخص أو الكنيسة التي لها فكرٌ إرسالي. وما من أحدٍ ضلَّ أبداً بإطاعته لأمرِ ربنا القائم.

عندما نقول أن هناك الكثير من الوثنيين في ديارنا الذين علينا أن نركّز انتباهنا عليهم بدلاً من أن نسعى وراء الضالين في الأراضي البعيدة، فإننا ننسى أن كل مَن في ديارنا يمكن إيصال الإنجيل إليهم بسهولة إن كنا مهتمين؛ في حين أن هناك شهداء لا حصرَ لعددهم يموتون في الأراضي الوثنية على يد أولئك الذين لم يعرفوا طريق الحياة، والذين لم يسمعوا أبداً بالكتاب المقدس أو ما يكشفه هذا الكتاب عن المخلِّص.

لم يكن هناك حياة إرسالية في الكنيسة الأولى لأن جسد المؤمنين كله كان يُفتَرض أن يكون مُشترِكاً في عمل تبشير العالم العظيم. وبالحري بعد أن فقدت الكنيسة بالإجمال هذه الرؤية تشكلت الهيئات لإثارة الاهتمام بالعمل الإرسالي ومتابعته وتحسينه.

إرسال رجال ونساء كمُرسَلين مُبشِّرين ممن ليست له خبرة مسيحية معينة هو حماقة من أردأ الأنواع. إن ذلك هو حال الأعمى الذي يقود عميان، فكلاهما يقع في الحفرة (١٥: ١٤). ما من أحد مُؤهَّل ليكون مُرسَلاً في الخارج ما لم يكن مُرسَلاً في الداخل في دياره. الرحلة البحرية عبر المحيط لا تصنع من أحدٍ مُرسَلاً. لا بد من أن يكون هناك محبة غرسها الله نحو النفوس الضالة قبل أن يكون المرء مستعداً ليمضي باسم المسيح لينقل الإنجيل إلى العالم الوثني. إحدى أهم البراهين على الاهتداء الحقيقي والإيمان بالمسيح هو الرغبة في جعله معروفاً للآخرين.

لطالما طُرِحَ السؤال: أين الحكمة في أن يسمع المرء الإنجيل مئات المرات في حين أن ملايين لم يسمعوا به ولو مرة واحدة؟ لعلنا اختبرنا هكذا تساؤلات، لأننا مدعوون لأن نكون سفراء للمسيح. هذا هو اللقب الذي يعطيه بولس لأولئك الذين يسعون لنشر تعاليم ربنا وتلمذة الأمم (٢ كورنثوس ٥: ٢٠). بينما ربنا نفسه شخصياً في السماء، جالساً إلى يمين العظمة الإلهية (عبرانيين ١: ٣)، فإننا مدعوون لأن نمثله في هذا العالم، فنذهب إلى المتمردين على سلطان إله السماء والأرض، وأن نناشدهم ليتصالحوا مع ذاك الذي أرسل ابنه في النعمة لكي تكون لكل الناس حياة وسلام به. إننا ممثلون عن المسيح غير مُخلِصين بالفعل إن أخفقنا في التجاوب مع الأمر الموجَّه إلينا، وإن سمحنا لإخوتنا البشر بأن يهلكوا في خطاياهم دون تحذير أو معرفة بطريق الحياة.