الأصحاح ١٤
سلطان الملك على كل الطبيعة.
الجزء الأول من القسم الحالي مخصصٌ للرواية المحزنة لاستشهاد يوحنا المعمدان، ولكن تساوق الأصحاح يخبرنا عن معجزتين، كلٍ منهما تظهر قدرة الرب يسوع على الطبيعة: مضاعفته للأرغفة، وسيره على المياه مسيطراً على العناصر.
إن هيرودس، الذي كان نوعاً ما مهتماً في البداية بيوحنا المعمدان وإعلانه عن اقتراب ملكوت السموات، أصبح ساخطاً عندما شجب كارزُ الصحراء هذا الذي لا يخاف الرذائل الشخصية له (لهيرودس)، ولذلك سعى إلى إسكاته بأن وضعه في غياهب السجن، وقام بقتله عقاباً في نهاية الأمر. عندما سمع عن يسوع، أوحى له ضميره غير المرتاح بأن هذا لا بد أن يكون يوحنا (المعمدان) وقد قام من بين الأموات؛ ولم تكن لديه أية علامة تنمُّ على إدانة الذات أو الاعتراف بصنيعه البشع الشنيع. تابع يسوع خدمته الأعاجيبية وفي كل مكان كانت آيات مذهلة تشهد على مسيانيته، التي كانت تُقنِع كل ساعٍ صادق إلى الحقيقة بأنه (أي يسوع) كان كما يدَّعي. ولكن قادة الدين وقفوا بعيدين متحفظين ببرود أو جاءوا إليه بموقف معارضة بسبب عدم رغبتهم واستعدادهم في أن يتواضعوا أمام الله. إنَّ مَن كان "أَذَلَّ الْغَنَمِ" (زكريا ١١: ١١) هم الذين سمعوا يسوع بسرور وتباركوا بخدماته السَّمِحة الكريمة. وهؤلاء مجَّدوا إلهَ إسرائيل لإرساله الممسوحَ إلى وسطهم.
"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: «هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ». وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسَطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: «أَعْطِنِي هَهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ. وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى. فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ" (الآيات ١- ١٤).
"سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ". هيرودس هذا كان فاسداً مثل كل أسلافه- وحشاً ممتلئاً إثماً يعيش في زنى صفيق مع زوجة أخيه بشكل يخالف الناموس. جاءت إلى أسماع هذا الحاكم الفاسد الفاسق أنباء عن قدرة يسوع صانع المعجزات، فملأته خوفاً.
"هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ". وإذ كان مؤمناً بالخرافات، مثل معظم المخلوقات الفاسدين غير الأخلاقيين، كان هيرودس متأكداً من أن نبي البرية الصارم، الذي كان قد أسلمه إلى موتٍ لا يستحق، لا بد أن يكون قد عاد من القبر.
"طَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا". امرأةٌ شريرةٌ كانت السبب المباشر في موت يوحنا. كراهيتها للرجل الذي تجرأ على أن يدين علانيةً وصراحةً فداحة خطاياها ما كان ليمكن إرضاؤها سوى بإعدام هذا الرجل.
"«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»". لقد كانت شجاعة من يوحنا بالفعل أن يفضح شر وفساد هيرودس. ومثله مثل ذاك الآخر، ناثان (٢ صموئيل ١٢: ٧)، كشف إثم الملك، ولكنه خسر حياته من جرّاء ذلك، لأن هيرودس، خلافاً لداود، رفض أن يتوب عن معاصيه.
"لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ". ما كان هيرودس ليتردد للحظة في إهلاك يوحنا بسبب صدقه وصراحته، ولكنه كان يخشى أن يجلب على نفسه عداوة الشعب عموماً، الذين كانوا ينظرون إلى يوحنا على أنه خلفٌ للأنبياء في القديم. ولذلك، وبدلاً من أن يعدمه مباشرةً، احتجزه هيرودس في السجن.
في حفلة عيد ميلاد هيرودس، حضرت ابنة هيروديا الشائنة السيئة السمعة الحفل أمام الملك وأصحابه الحاضرين، وأبهجتهم برقصةٍ من الواضح أنها كانت داعرة. لقد كان الطاغية العجوز مسروراً جداً من ذلك، وفي حماسته، وعد الراقصة حالفاً اليمين أن يعطيها ما تطلبه. بعد تشاورها مع أمها الخبيثة الشريرة جاءت بجرأة إلى حضرة الملك وكان مطلبها هو إحضار رأس يوحنا المعمدان على طبق. ورغم فساده، إلا أن هيرودس شعر بالأسف، لأنه كان يدرك أن يوحنا لم يفعل ما يستحق الموت، وما من شك في أن غضبه الأولي قد هدأ إلى حدٍ ما خلال هذه الفترة؛ ولكن بما أنه أقسم وأمام الحاشية الملكية بأنه سيمنح الفتاة كل ما تطلبه، فلم يجد في نفسه الجرأة في الإقرار بحماقته. ولذلك، فقد أمر بقطع رأس يوحنا. وجيءَ برأس يوحنا على طبق كبير، كدليل على تنفيذ الإعدام الفظيع، وقُدِّمَ للفتاة، التي أعطته إلى والدتها. يمكن للمرء أن يتخيل كم شعرت هيروديا بالارتياح وهي تشعر إلى الرأس المفصول لذلك الرجل الذي كانت تعتبره عدواً لها، لأنه كان قد تجرأ لأن يصارحها بالحقيقة ويتهمها بالعمل الشائن الذي كان عليها أن تقدِّم حساباً عنه أمام الله.
إن علاقات سفاح القربى لهذين الحاكمين غير التقيين قد صارت فضيحة عامة علنية. وكانت هناك حاجة إلى رجل بجرأة يوحنا المعمدان ليقول: "«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»". لقد استُشهِدَ بسبب إخلاصه، ولكن مكافأته أكيدة (عند الله). انتقل هيرودس من السيئ إلى الأسوأ إلى أن انتهت حياته في خطاياه، ضحية بائسة لرذائله الذاتية. أما هيروديا المُتكبِّرة العنيدة والنجسة، فقد ماتت كما عاشت، غير تائبة وشريرة آثمة حتى النهاية. إنهما يمثلان تحذيراً لكل الذين يتلاعبون بالنجاسة. بعد موت يوحنا، لم يتجول يسوع في منطقة حكم هيرودس، بل مكث في منطقة فيلبس.
كانت هذه مأساة فظيعة بالفعل على قلوب تلاميذ يوحنا المنكسرة. فأخذوا جسد معلّمهم ودفنوه بوقار. ثم نقرأ أنهم "أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ". هناك أمرٌ ثمينٌ في هذه الكلمات الأخيرة. لقد ذهبوا إلى يسوع في اضطرابهم ومحنتهم متيقنين من تفهّمه العميق وتعاطفه المحب.
لدى سماعه بموت سابقه، انْصَرَفَ يسوع مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً، كما يُخبرنا متى؛ وجموعٌ كثيرةٌ، من مختلف المدن قرب الطرف الشمالي من البحيرة، تبعتهُ. أما الرب يسوع، وإذ رآهم، تأثّر بحنوّ نحوهم وأظهر قدرته الملكية بشفاء أولئك المرضى بينهم.
"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «ﭐلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاماً». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «لَيْسَ عِنْدَنَا هَهُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ». فَقَالَ: «ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا». فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. وَﭐلآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (الآيات ١٥- ٢١).
هذه هي المعجزة الوحيدة التي قام بها الرب يسوع قبل صلبه التي ترد في كل الأناجيل الأربعة. من الواضح أن هناك درسٌ خاص أرادنا الله أن نتعلمه منها. الجموع الجائعة، والتلاميذ المرتبكين المحتارين، ورحمة ونعمة المسيح هذه كلها أُظهِرَت بشكلٍ حيوي. في المزمور ١٣٢: ١٥ نسمع المسيا يقول بالروح: "مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً". وهكذا أخذ الممسوح من الله الأرغفة الخمسة والسمكتين وضاعفها لتصير زاداً وفيراً لخمسة آلاف رجلٍ عدا النساء والأطفال.
يمكننا أن نفهم اهتمام وقلق التلاميذ الذين جاءوا إلى يسوع عندما دنا المساء، راجين منه أن يصرف الجموع قبل أن يُخيِّم الظلام، لكي يذهبوا إلى القرى ويشتروا طعاماً لأنفسهم.
ولكن لم يكن هذا في فكر الرب. فقد قال: "«لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»". كان هذا أمراً مُربِكاً محيراً للتلاميذ. فبماذا سيطعمون هذه الجموع الغفيرة؟ بعد أن تفكّروا في المسألة وجدوا أن ليس لديهم سوى خمسة أرغفة وسمكتين. وهذه، كما يُقال لنا، قدَّمها غلامٌ كان قد أحضرها معه من أجل غدائه من دون شك. فقال يسوع: "«ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا»". عندما وُضِعَت المؤونة الصغيرة في يديه طلب من الجموع أن يجلسوا على العشب، ورفع بصره إلى السماء مُبارِكاً الطعام وكسره، ثم وزّعهُ على التلاميذ، وقدَّمهُ هؤلاء إلى الجموع. فأكل الجميع وشبعوا. وبعد تناول الوجبة بقيت اثنتا عشر سلّةً من الكِسَرِ. لعله يمكننا القول أنه كانت هناك سلةٌ لكل واحدٍ من التلاميذ بعد أن نالَ الجميع ما يرغبون به. لم تكن هذه سوى صورة عما سيقوم الرب يسوع به على نحوٍ مُضطَّربٍ متواصل، لأنه هو الذي يُضاعِفُ البذار المزروعة في كل حقول القمح على الأرض، لكيما تُنتِجُ هذه الكمية الضئيلة المزروعة في الأرض زاداً وفيراً يُقدَّمُ لإشباع الجموع التي تعتمد على الخبز في طعامها.
الأعجوبة التالية تُظهِر قدرة الرب على العناصر بطريقةٍ مختلفة عن تلك التي رأيناها مُدوَّنة لتوِّنا في أصحاحٍ سابق، هذه القدرة التي سكّنت العاصفة.
"وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُم يَسُوعُ قَائِلاً: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ وَقَال: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنـزلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ قَائِلاً: «يَا رَبُّ نَجِّنِي». فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. وَﭐلَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»" (الآيات ٢٢- ٣٣).
هذه صورةٌ تدبيرية جميلة. في الآية ٢٢ نقرأ كيف طلبَ يسوع من تلاميذه أن يركبوا السفينة وأن يذهبوا قبله إلى الجانب الآخر من البحيرة بينما يصرف الجموع. التلاميذ في السفينة بدون الحضور الشخصي ليسوع يمثلون، تدبيرياً، الظروف التي ستكون في كنيسة الله بعد موت وقيامة ربنا يسوع. فذاك الذي كان مع تلاميذه خلال أيامه في الجسد سوف لن يبقى حاضراً بشكل ظاهر بينهم، بل سيُتركونَ ليشقّوا طريقهم بأنفسهم، عبر البحر الهائج من الظروف الأرضية، مُتطلِّعين إلى الزمن الذي سيعاينون فيه مُخلِّصهم من جديد.
لقد صعد بنفسه إلى الجبل وانعزل ليُصلّي. هذا يوحي بخدمته الحالية لصالح شعبه الخاص- لقد ارتفع إلى الأعلى حيثُ يحيا إلى الأبد ليصنع شفاعةً من أجلنا.
بينما كان يصلي في أعلى الجبل، كان هؤلاء الذين في السفينة في حالة اضطراب حقيقية شديدة، لأن مركبتهم تعرَّضت لعاصفة هائجة وراحت الأمواج تتقاذفها، وبدا لركَّابها أنهم سيموتون على الأرجح. لطالما وُضعَ شعب الله في مثل هكذا ظروف خلال الفترة التي كان الرب يخدمُ فيها في الأعالي في حضرة الآب، ولطالما ظنَّ شعب الله العزيز في معظم الأحيان بأنهم مهجورين ومتروكين ومنسيِّين، ولكن عيناه كانتا دائماً وأبداً عليهم.
في الهزيع الرابع من الليل وبينما كانت الظلمة لا تزال شديدة والريح تعاندهم، نظر إلى الأسفل من الأعالي فرآهم في محنتهم؛ ولدهشتهم، فقد جاء ماشياً على مياه البحر ليساعدهم. وإذ رأوه اضطربوا بدلاً من أن يتعزّوا ويرتاحوا، وصرخوا في خوفٍ قائلين: "«إِنَّهُ خَيَالٌ»". أي أنه شبح. ولكن الجواب على صرختهم المُجفِلة كانت بالصوت الذي كانوا يعرفونه جيداً، صوتُ يسوع نفسه قائلاً: "«تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»".
وكعادته دائماً، مُندفِعاً ولكن بتكرُّس للرب، صرخَ بطرس قائلاً: "«يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ»". فردَّ عليه يسوع قائلاً: "تعال". وبدون لحظة تردُّد نـزل بطرس من جانب السفينة، ولدهشته بالتأكيد- إن كان قد فكَّرَ بأي شيء في تلك اللحظة سوى بالمسيح الذي كان أمامه- وجدَ نفسه يسير فعلاً على سطح الماء كما لو على أرضٍ يابسة راسخة. كان كل شيء على ما يرام طالما كان نظره مثبتاً على يسوع، ولكن عندما التفت ليرى الأمواج العاتية الغاضبة، ملأ الخوفُ قلبهُ، وراح يغرق في الحال. وبينما كانت المياه ترتفع فوقه صرح قائلاً: "«يَا رَبُّ نَجِّنِي»". و"فِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟»". كان على بطرس أن يتذكّر أنه ما كان ليستطيع أن يسير على المياه وكأنه يسير على أمواجٍ صلبة لولا مؤازرة قدرة الرب نفسه له، وتلك القدرة كانت بنفس القوة والشدة سواء خلال العاصفة أم في السكون. دخلَ يسوع بطرس السفينة الصغيرة، وسرعان ما هدأت الريح. لقد شهدوا هكذا ظهور للقدرة الفائقة لدرجة أن التلاميذ خرُّوا أمام الرب ساجدين وقائلين له: "«بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»".
وإذ رجعوا إلى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ، التي كانت شرق كفرناحوم وشمالي البحيرة انتشر الخبرُ سريعاً بأن يسوع قد عاد إلى موطنه، وجاء إليه جمهورٌ غفير، جالبين معهم الكثير من المرضى ليشفيهم.
"فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ فَعَرَفَهُ رِجَالُ ذَلِكَ الْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ" (الآيات ٣٤- ٣٦).
من الواضح جداً أن شهادة وأعمال يسوع قد أثّرت على الناس في جَنِّيسَارَتَ بسبب نعمته ورحمته وقدرته على تحريرهم من عللهم وأمراضهم المزعجة؛ وجاءوا من كل الأصقاع حوله، ليضعوا مرضاهم عند قدميه. ومثل المرأة البائسة التي قرأنا عنها، كانوا يشعرون أنه إن لمسَ هؤلاء المرضى المُضايقون ولو هدبَ ردائه فإنهم سيُشفَون، ويخبرنا الإنجيل أن هذه هي كانت حقيقة الحال بأن كثيرين لمسوا ثوبه فصاروا أصحّاء مُعافين تماماً. إن هُدْبَ الثوب الأزرق يرمز إليه قدوس الله ذاك، السماوي، الذي نـزل إلى الأرض لأجل فداء البشر. فالاحتكاك به كان يعني الحياة والصحة.