الأصحاح ٢٠

الألفية ودينونة الموتى

ملاحظات تمهيديّة

من الآية ٦ في الأصحاح ١٩ إلى الآية ٨ في الأصحاح ٢١ تتبعنا الترتيب المتعاقب للأحداث. أول حادثة كانت إعلان سلطة الله الملوكية وعرس الحمل، وآخر حادثة كانت المصير المشؤوم للأشرار في بحيرة النار. الأولى هي فجر ذلك اليوم البهيج والمشرق الذي يستهل الألف سنة، ذلك اليوم الذي هو غاية رجاء الخليقة المتألمة؛ والثانية هي الحادثة المظلمة، الراسخة والأبدية، التي تُقاس بزمن الحياة لله القدير.

في الأصحاح السابق رأينا الرمز البارز للفرس الأبيض؛ وفي هذا الأصحاح نجد العرش الأبيض. السابق يمثّل القوة المنتصرة في الغزوات والفتوحات؛ والأخير يمثل الحكم والدينونة المعقودة. الفرس، أو بالأحرى ما يمثله، يسبق حدث العرش، ويعد الطريق له، إن صح القول.

هناك أربعة أعمال عظيمة في هذا الأصحاح: أولاً، تقييد إبليس في الهاوية لألف سنة (الآيات ١- ٣)؛ ثانياً، أن القديسين السماويين جميعهم يملكون مع المسيح: أو ألف سنة (الآيات ٤- ٦)؛ وثالثاً، محاولة إبليس الأخيرة واليائسة ليستعيد السيادة على العالم، وهزيمته الكلية ومصيره المشؤوم النهائي (الآيات ٧- ١٠)؛ رابعاً، دينونة الأموات الأشرار (الآيات ١١- ١٢).

إبليس مقيّد في الهاوية

١- ٣: "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً نَازلاً منَ السَّمَاء مَعَهُ مفْتَاحُ الْهَاويَة، وَسلْسلَةٌ عَظيمَةٌ عَلَى يَده. فَقَبَضَ عَلَى التّنّين، الْحَيَّة الْقَديمَة، الَّذي هُوَ إبْليسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ في الْهَاويَة وَأَغْلَقَ عَلَيْه، وَخَتَمَ عَلَيْه لكَيْ لاَ يُضلَّ الأُمَمَ في مَا بَعْدُ حَتَّى تَتمَّ الأَلْفُ السَّنَة. وَبَعْدَ ذَلكَ لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَاناً يَسيراً". الرؤيا التي أمامنا تكشف لنا حادثة، وهي النتيجة الطبيعية المرتبطة بشكل مباشر بالأصحاح السابق، ومع ذلك المتمايزة بما يكفي لتشكل رؤيا منفصلة. هناك ثلاثة أشخاص معينون لبحيرة النار بدون محاكمة- الوحش، والنبي الكذاب، والآشوريين (أش ٣٠) في بدء الحكم الألفي؛ وأيضاً الشيطان في نهاية الملك. أما وقد رأينا الخادمين الرئيسيين لإبليس، وقادة الجنود على الأرض المقاومين للحمل والقديسين ١، يُلقون على نحو شائن مخزٍ في بحيرة النار، يتبعها دمار جيوشهم، فإننا نسأل، ماذا عن الكائن الروحي غير المنظور الذي دافع ووقع في الشرك الذي أدى إلى هلاك وكلائهم وأتباعهم؟ هل ينجو؟ لا. إن دينونة عاجلة تباغته كما الحال بالنسبة لهم. يتم التعامل معهم على الأرض من قِبل المسيح؛ الشيطان هو موضوع دينونة الله من العلاء. التنين، المحرض الحقيقي على التمرد يُحطَّم بشكل قوي، ويُقبض عليه على يد ملاك من السماء ويُقيد في الهاوية أو الحفرة التي لا قاعَ لها ٢. سيُرسل لينضم إلى أتباعه في بحيرة النار بعد ألف سنة. وسيكون لديه عمل آخر ينجزه على الأرض، ولكن إلى أن يحين ذلك الوقت يُغلق عليه ويُمنع من أن يصنع المزيد من الأذى.

يجب أن يبقى في أذهاننا أن إبليس، من وقت طرده من السماء (١٢: ٩)، هو على الأرض غير منظور للعين البشري الزائلة، ولكنه فعلياً على الأرض يتلف ويدمر ويهدم كل شيء له صورة الله أو تابع لله. ولذلك فإن الملاك، الخادم الذي سيقوم بعملية العقاب، يراه الرائي نازلاً من السماء ويُقبض على إبليس على الأرض. إنه أمر واقع، رغم أنه ما من عين بشرية ستشاهد ذلك.

الملاك لديه مفتاح الهاوية وسلسلة كبيرة في يده. بالكاد يستطيع المرء أن يُصر على الطابع الرمزي في هذا المشهد، لأن ذلك يبدو واضحاً للغاية. الرموز، التي يمثلها المفتاح والسلسلة يشير بالتأكيد إلى أن الله يسمو حتى على المنطقة الشيطانية في الهاوية. ولذلك فبالواسطة، عن طريق ملاك، يقيد الله إبليس ويغلق عليه بالمفتاح محتجزاً إياه في الهاوية لألف سنة ٣. تُقلّص حريته ويُحد منها ويُضيق مجال ومساحة عمله. إنه مشكوم ومكبوح فعلياً عن القيام بأي أذى على الأرض إلى أن يُفتح باب سجنه (الآية ٧). حتى السقوط (تك ٣) كان مكان إبليس في الأعالي؛ ونتيجة إدخال الخطيئة إلى العالم فإن السماوات والأرض كانا المجال الموسع لأعماله؛ ثم عند طرده من السماء سُلّمت له الأرض والهاوية؛ والآن، كما رأينا للتو، الشيطان مُغلق عليه في الهاوية، ومُقيد هناك خلال الحكم الألفي؛ ثم ولفترة وجيزة سيُسمح له مرة أخرى بأن يُنفِّذ إرادته على الأرض، ويُضل الأمم عن ولائهم الاسمي للمسيح الممجد والحاكم؛ وأخيراً يُلقى به إلى بحيرة النار إلى أبد الآبدين.

تُذكر أسماء التنين بالترتيب الذي وردت فيه في ١٢: ٩. ولكنه هناك يُسمى "التنين العظيم" بما أنه التنين فهو تجسيد للقسوة والوحشة. ولأنه الحيّة فهو تجسيد للمكر والخداع. بما أنه الشيطان فهو المغوي الرئيسي للبشر. كإبليس هو الخصم المناوئ المعلن للمسيح وشعبه. كلمة "التنين" تمثّل كائناً تاريخياً حقيقياً، شخصاً حيّاً في الواقع كل مخلوق عاقل على الأرض يتعامل معه. قوته وحضوره هما بالطبع مُسيطر عليهما ومحدودان، لأنه ليس سوى مخلوق، ولكن وكلاؤه عديدين جداً ومتنوعين، وفعالون بشكل متزايد في خدمتهم لسيدهم، حتى أن البعض وصل بهم الأمر إلى أن يمنحوا إبليس صفات القدرة الكلية والمعرفة الكلية. ولكن هذه الصفات في الواقع هي صفات لله، ولا يجب أن تُلصق إلا بالله الواحد الخالق.

يُقبض على التنين ويُلقى إلى الحفرة، التي يُغلق عليها عندئذ ويُختم. الختم يُوضع على الحجر "فِي جُبِّ الأُسُودِ" (دا ٦: ١٧)، وأيضاً على الحجر الذي دُحرج على باب القبر (مت ٢٧: ٦٠، ٦٤، ٦٦)، هذا يشير إلى أن السلطة الإدانية والحكمية آلت على نفسها أن يُحتجز في سجن آمن. وثُبّت باب الهاوية بشكل راسخ وآمن.

٣- "لاَ يُضلَّ الأُمَمَ ٤ في مَا بَعْدُ حَتَّى تَتمَّ الأَلْفُ السَّنَة". عمل إبليس من بدء اتصاله بالجنس البشري (تك ٣) إلى حين سجنه في الهاوية كان دائماً قاسياً مؤذياً، وحافلاً بالخداع الذي لا رحمة فيه. لقد زيَّف شخصية الله؛ وأعمى أذهان البشر عن طبيعة الخطيئة وتبعاتها الأبدية، وهكذا أساء تقديم الإنجيل الذي تدمر ملايين من الناس بقبولهم السهل لذلك الذي هو "إنجيل آخر". "الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ" هو بالفعل إعلان كاسح (١ يو ٥: ١٩). هذا القول المهيب هو مبالغ فيه. إن العرق البشري الذي يحيا آنذاك ككل، ما عدا النخبة، سيُجمع في النهاية تحت راية إبليس، ليكتشف فحسب ولكن في وقت متأخر أن الجميع كانوا قد خُدعوا بشكل يدعو إلى الرثاء (٢٠: ٧- ٩).

أَلْفُ سنَة :

عبارة "الأَلْفُ السَّنَة" ترد في أصحاحنا ٦ مرات (الآيات ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧). ثلاثة منها ترتبط بإبليس؛ واثنتان تؤكد ملك القديسين مع المسيح؛ والسادسة تشير إلى الفترة وبين قيامة القديسين وقيامة الأشرار. الأماكن التي ترد فيها هذه الكلمات التي تشير إلى ألف سنة تدل على نفس الوقت، ولكن، بالطبع، يُنظر إليها في سياقات مختلفة، وفي رأينا، يجب ألا تُعتبر على أنها ذات معنى رمزي، بل إنها تصف فئة من الزمن حرفية وبدقة. إن كلمة "الألفية" كتسمية، تشير إلى فترة حكم الرب- العلنية والشخصية مع قديسيه- على الأرض. هذا ما نستنتجه من هذا الأصحاح. بحسب الذهنية اليهودية، الألفيات الست تقارب الأيام الستة التي خُلقت فيها السماوات والأرض، واليوم السابع- السبت- يوم الراحة، يُنظر إليه على أنه ذلك السبت الطويل المبارك المؤلف من ألف سنة. "بَقِيَتْ رَاحَةٌ لِشَعْبِ اللهِ" (عب ٤: ٩).

٣- "بَعْدَ ذَلكَ لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَاناً يَسيراً". مجموعة من الأحداث المترابطة تسبق سراح إبليس. عبارة "يُحَلَّ زَمَاناً يَسيراً" تشير إلى أكثر من السجن في الهاوية. بعد دمار بابل، بعد عرس الحمل، بعد الحرب على الأرض، بعد الهزيمة والدمار الكاملين للوحش، والنبي الكذاب وجيوشه، وبعد تقييد التنين وختم الهاوية وحبس إبليس الطويل الأمد لمدة ألف سنة سوف "يُحَلّ زَمَاناً يَسيراً". هناك فترتان موجزتان في الضيقة الآتية ترتبط بعمل "يُحَلَّ زَمَاناً يَسيراً"، وفي كلتيهما يُظهر نشاطاً غير مألوف. الأولى، من طرده من السماوات إلى حين تقييده في الهاوية؛ والثانية، من إطلاق سراحه من الهاوية إلى أن يُلقى به في بحيرة النار.

الملك مع المسيح
(الآيات ٤- ٦)

ملك المسيح الشخصي:

هذا المقطع الشيق، والذي دار حوله جدار كبير على مر العصور، هو أحد المقاطع القوية التي تروق لكل قارئ مفكّر. إنه يهم كل قديس على الأرض. من هؤلاء الذين يملكون مع المسيح في المجد السماوي على الأرض؟ هل هم القديسون أم الملائكة؟ سيادة المسيح كإنسان (مز ٨) وملك (مز ٢) هي الحقيقة التي لا شك فيها في الكتابات المقدسة، سيادة ملكية ستتجلى لألف سنة. الراؤون في القديم عاينوا ذلك في رؤيا. شعراء يهوذا تغنوا بذلك. أشعة السراج النبوي، الذي كان يحمله الأنبياء من أشعياء إلى ملاخي، كانت موجهة إلى أمجاد وبركات الملك الألفي الآتي. والأرض، التي عانت طويلاً من طغيان إبليس وسوء حكم البشر، تنتظر انعتاقها الموعود.

قد آن أوان التحقيق الفعلي للمشهد الذي يُحتفل به في السماء، "قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (رؤ ١١: ١٥). هناك أُعلن بتوقع؛ وهنا يأتي فعلياً. الآيات في ٢٠: ٤- ٦ لا مثيل لها في هذا المعنى، وفيها وحدها ينكشف مجمل ما يتشاركه المؤمنون مع المسيح في الملك المبارك والبر والمجد. هناك ثلاث فئات مصنفة ومحددة.

عروش ألفية:

٤- "رَأَيْتُ عُرُوشاً". النبيان المنفيان، دانيال ٥ ويوحنا، رأيا نفس العروش في رؤيا. الأول رآها غير مشغولة. الجالسون على العرش السماوي يشكّلون إعلاناً خاصاً مميزاً للعهد الجديد، ولذلك فإن يوحنا يضيف إلى رؤيا دانيال: "جَلَسُوا عَلَيْهَا". كلا المشهدين يشيران إلى بدء الملك الألفي.

لا يجب الخلط بين العروش في نصنا والعروش الاثني عشر الوارد ذكرها في ٤: ٤. أولئك الذين يراهم دانيال في الرؤيا (٧: ٩) ويوحنا (٢٠: ٤) مرتبطان بالحكم الألفي للأرض. أولئك الذين شُوهدوا في الرؤيا الأبكر (الأصحاح ٤) يتجمعون حول عرش الأبدي المؤسس في السماء. العروش الاثنا عشر التي يجلس عليها الرسل في دينونة منعقدة على إسرائيل (مت ١٩: ٢٨) هي مشتملة بلا شك في فكرة الحكم الشامل التي ينقلها لنا الرائي (٢٠: ٤).

الفئة الأولى الوارد ذكرها والتي تملك مع المسيح:

٤- "جَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْماً". على من يعود ضمير الجمع الغائب هنا؟ إنه يعود على الجماعة التي لا يتم وصفها إلا هنا. اقترح البعض أن الاسم الذي يُحال إليه الضمير هنا هم "الأمم" بشكل مباشر (الآية ٣)، واقترح آخرون أنهم الملائكة. ومن جديد افترض البعض أن عبارة "جَلَسُوا عَلَيْهَا" تشير إلى العروش الاثني عشر للرسل (مت ١٩: ٢٨) في حين افترض آخرون أنها تشير إلى العروش السماوية الاثني عشر (رؤ ٤: ٤). هناك فئة أخرى من الذين يُرون ينحصرون عملياً في الشهداء فقط، مفترضين أن الضمائر هي خلاصة في فئتي الشهادة المُشار إليهم في نصنا. ولكن ضمير الجمع الغائب من الواضح أنه يدل على جماعة منفصلة مستقلة عن الشهداء الذين يُرون أولاً في الحالة المنفصلة؛ بينما جماعتنا يُرون وهم يجلسون على العرش- "أُعْطُوا حُكْماً". لا يتم أبداً أن أي نبّؤ عن النفوس التي يملكون عليها أو يتوّجون عليها. اعتبار أن المُشار إليهم بأنهم يجلسون على العروش هم الأمم فكرة بعيدة عن الواقع. ولا يمكن قبول الفكرة الأخرى بأن هؤلاء هم الملائكة، حتى وإن كان لها مؤيدون أقوياء مثل إدوارد ب.و. غرانت، وغيره. ملك الملائكة لا نجد أي تعليم عنه في الكتابات المقدسة، بل على العكس، "فإنه لملائكة لم يخضع «العالم العتيد» الذي نتكلم عنه" (عب ٢: ٥). حكم الأرض يجب أن يديره المسيح وقديسيه السماويين (انظر ١ كور ٦: ٢، ٣). علينا أن نبحث أيضاً عن نظرة أوسع وأشمل للحكم الملكي في نصنا، ولا أن نضيقها لتحصر الرسل أو أي جماعة محددة معينة.

ضمير الجمع الغائب يشير بشكل واضح إلى فئة معروفة مميزة. لقد رأينا للتو، وأكثر من مرة، المفديين في السماء يمثّلهم الشيوخ الاثني عشر الذين يشاركون في المشاهد التي تُكشف لنا من الأصحاحات ٤ إلى ١٩. إنهم مجموع المؤمنين في العهد القديم والعهد الجديد وقد أُقيموا أو تحولوا لدى المجيء في الهواء (١ تسا ٤: ١٥- ١٧). وهذه الجماعة من القديسين أكبر بكثير من جماعة الشهداء، ولذلك لا يمكن وضعهم في الملك، ما لم يُشتملوا في ضمائر الجمع الغائب التي في النص. سيكون أمراً غريباً بالفعل أن يكون هناك ملك للشهداء واستبعاد للقديسين أنفسهم في السماء الذين "سَيَكُونُونَ كَهَنَةً ِللهِ وَالْمَسِيحِ". إن قديسي العهد القديم والجديد في السماء خلال فترة الدينونات الرؤيوية هم الجالسون على العرش الذين يراهم الرائي.

٤- "أُعْطُوا حُكْماً". هذا يعني، أن سلطة ملكية قد مُنحت لأولئك القديسين كي يحكموا. إنها تحقيق لذلك القول الجليل والعظيم والذي لا مثيل له أن: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟" (١ كور ٦: ٢).

الفئة الثانية التي تملك مع المسيح:

٤- "وَرَأَيْتُ نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا منْ أَجْل شَهَادَة يَسُوعَ وَمنْ أَجْل كَلمَة الله". ما يراه يوحنا في الرؤيا ليس أشخاص بل نفوس، نفوس الشهداء في الحالة المنفصلة. هذه تشكل فئة الشهداء أبكر من أولئك الذين يعانون تحت الوحش، ومن الواضح أنهم متطابقين مع أولئك الذين ذُبحوا تحت الختم الخامس (٦: ٩- ١١). هذا الاضطهاد سرعان ما يحدث بعد انتقال القديسين إلى البيت الأبوي (يو ١٤: ١- ٣). أساس هذا التفجر م الغضب والقسوة والوحشية مضاعفة الجوانب: أولاً، على أساس شهادة يسوع، والتي هي ذات طابع نبوي. شهادة يسوع في الأناجيل مختلفة جداً عنها في الرؤيا؛ فهناك كشف النعمة، وهنا كشف الدينونة؛ هناك الآب في محبة، وهنا الله يقيم الملكوت. هذه الأخيرة هي شهادة لا يستطيع أن يحتملها الناس المرتدون في الأرض، ولذلك فإن من يقتبلها لا بد أن يعاني حتى من الموت. الأساس الثاني من هذا الاضطهاد هو بسبب كلمة الله. الالتزام الأمين والمخلص لها يميز البقية في هذه الأزمنة. الناس عندها سيتوجب عليهم الوقوف إلى جانب حقوق الله أو ضدها. ما من زركشة للأشرعة أو سياسة مراوغة يمكن أن يُسمح بها. الالتصاق الوثيق بالكلمة سيُظهر المشهد على حقيقته- طريق ضيق ومجال محدد ومرسوم ليس فيه نهاية سوى الموت. نستنتج أنه ما من قديس في الضيقة القادمة يموت موتاً طبيعياً. هو إما أن يحيا خلال الفترة تلك أو يستشهد.

الفئة الثالثة من الذين يملكون مع المسيح:

٤- "وَرَأَيْتُ الَّذينَ لَمْ يَسْجُدُوا للْوَحْش وَلاَ لصُورَته، وَلَمْ يَقْبَلُوا السّمَةَ عَلَى جبَاههمْ وَعَلَى أَيْديهمْ". إذا كانت الكلمات الوصفيّة "شَهَادَةِ يَسُوعَ" و"كَلِمَةِ اللهِ" تربط الجماعة السابقة مع أولئك الذين تمت ملاحظتهم في ٦: ٩- ١١، كذا فإن الإشارة هنا إلى الوحش، وصورته، والعلامة التي على الجبهة أو اليد، توجّهنا بشكل لا خطأ فيه إلى ١٣: ١٥- ١٧. كم هو صالح وحكيم إلهنا حتى أنه يؤمن لنا هذه الوسائل المساعدة في الطريق. هناك صعوبات في كل جزء من المسيرة الإلهية، ولكن المفتاح لفتح الباب دائماً في متناول اليد. وليس سفر الرؤيا استثناء عن القاعدة. "هل كان هناك مفتاح أُرسل مع السفر، وضاع هذا؟ هل أُلقي ذلك المفتاح في بحر بطمس أو إلى النهر؟" يسأل لاهوتي مميز.

الموت في أحد أشكاله هو البديل الوحيد عن التأييد العلني والفعال للوحش. الوحش يطأ كل الحقوق ويدمر بقسوة كل من يقفون في طريقه. الحق والمسؤولية الذي لا يمكن للمخلوق أن يتخلى عن ملكيتهما لأجل عبادة الله الخالق تُنكر عليه بطريقة تخول من التقى والورع. إنها محاولة الإنسان على الأرض أن يأخذ مكان الله. يفعل ذلك ضد المسيح أو إنسان الخطيئة في الهيكل ووسط اليهود (٢ تسا ٢: ٤). والجهد تحت الملكيات الأممية الأولى (دا ٣)، وأيضاً تحت الأخيرة (رؤ ١٣)، والتي تؤدي إلى طرد الله من قلب ووجدان الإنسان لا يمكن أن يكون لها إلا نتيجة واحدة: الموت والانتصار النهائي من جهة، والدينونة والدمار الأبدي من جهة أخرى. بالنسبة إلى نبوخذنصر، كانت هناك توبة مُنحت ورحمة أُظهرت. وبالنسبة للوحش وأتباعه لن يكون هناك أي من هاتين. العلامة الملغزة على الجباه، مهما كانت، تعلن علانية أن الشخص هو مناصر للوحش؛ والتي على اليد تشير إلى التأييد الفعّال، تدل على أن الشخص مستعد وراغب في إتباع وتنفيذ اهتمامات الوحش.

حياة وملك الشهداء:

٤- "فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ الْمَسيح أَلْفَ سَنَةٍ". القديسون الشهداء يُقامون بعد العرس الوليمة (١٩: ٧- ٩)، وذلك تماماً في ليلة تولي الملكوت، ولذلك فإنهم ليسوا مع العروس ولا مع الضيوف في وليمة الزفاف. الجماعتان المستشهدتان يُشار إليهما هنا. لقد رأى يوحنا لتوه نفوسهم في الحالة المنفصلة، والآن يراهم قد أُقيموا- "عَاشُوا"، ما يدل، بالطبع، على قيامتهم. لقد انتصر الموت على أجسادهم، ولذلك فإنهم أموات بالنسبة إلى الناس، وأما بالنسبة إلى الله، فقد كانوا أحياهم، لأن يوحنا رأى نفوسهم. الموت الجسدي لا ينطبق على النفس، ولا الكلمة "قيامة". الموت والقيامة تُستخدمان فيما يتعلق بالجسد. لا نشير هنا على أي استخدام رمزي مجازي لهما، ولكن الكلمتان تُفهمان بشكل حرفي (قارن مع مت ١٠: ٢٨، التي تُظهر أن النفس لها حياة بحد ذاتها ولا يستطيع الإنسان أن يصل إليها؛ وأيضاً لاحظ ٢٢: ٣٢؛ لو ٢٠: ٣٨، وحتى بعد الموت الجسدي، "يعيش الكل له"). زمن ملك هؤلاء الشهداء، لأنهم ضلّوا ولكن استُعيدوا ببذلك حياتهم، تُحدد الآن لأول مرة على أنها "أنفسنا".

هاتان الحقيقتان المترابطتان يتم التأكيد عليهما بشكل واضح: تقييد إبليس وملك المسيح للفترة المطولة لألف سنة. هللويا! يا لها من ساعة انتصار، ويا له من رد على حياة هدرت تحت فأس الجلّاد، في دياميس محاكم التفتيش، أو تحت القسوة والوحشية البارعة تحت حكم نيرون!

بَقيَّةُ الأَمْوَات:

٥- "بَقيَّةُ الأَمْوَات فَلَمْ تَعشْ حَتَّى تَتمَّ الأَلْفُ السَّنَة". حرفية القيامة والحكم المقصودين يبدو أنه لا شك فيهما. لماذا نبتعد عن المعنى الواضح والبسيط للكلمات ونفترض قيامة وملك مبادئ؟ الأشخاص وليس المبادئ هي ما يتحدث عنه هذا النص. إنه لأمر مذهل تلك النظرية الغير طبيعية والبعيدة احتمال التي تجد تأييداً لها في بيئات معينة محددة بشكل عام تُعتبر رزينة وسليمة.

إن عقيدة القيامة العامة، للصالحين والأشرار على حد سواء، والأبرار والفجّار، يدحضها نصنا. يجب أن نقبل صراحة أن كلمات الرب في يو ٥: ٢٨، ٢٩ تبدو وكأنها تقدّم تعليماً عن القيامة العامة: "لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ" أو الدينونة. إن "الساعة" المشار إليها تعني ألف سنة، في بدءها يقوم الأبرار، وفي خاتمتها يقوم الأشرار. لا يجب أن نقدّم قوة اعتباطية لكلمة "ساعة"، كما في الأصحاح الذي أُخذت منه، ساعة اليقظة الروحية، أي، للنفس، قد دامت لتوها حوالي ألفي سنة (الآية ٢٥).

بين قيامة أولئك "الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ" وأولئك "الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ" تمر ألف سنة. "بقية الأموات" هم الأشرار الذي يُقامون للدينونة (رؤ ٢٠: ١٣). ليس من قديس لله سيوجد في ذلك المشهد الختامي الأخير للقيامة والدينونة التالية، التي ستكون نهائية وأبدية. هناك قيامة للأبرار، وتتم في أوقات مختلفة، وتبدأ مع المسيح الباكورة (١ كور ١٥: ٢٣)، "بعد ذلك فإن أولئك الذين للمسيح لدى قيامته، يصعدون إلى الهواء عندما يُقام الأحياء والأموات في المسيح من كل العصور" (١ تسا ٤: ١٦). ثم في عشية إقامة الملكوت الألفي لدينا قيامة الشهداء الرؤيويون (٢٠: ٤- ٦). وهكذا فمن قيامة المسيح إلى قيامة أولئك الذين من العهد القديم والجديد لدينا فترة تعادل حوالي ألفي سنة؛ ومن جديد، بين قيامة أولئك الأخيرين والشهداء توجد عدة سنوات، على الأقل سبعة. ولكن مع الأموات الأشرار الأمر مختلف جداً. من قايين وما تلا يبقى الجميع في قبورهم إلى ما بعد الملك الألفي، عندما يُقامون- والذي سيكون آخر حدث في الزمان- ثم يدانون إلى الأبدية (الآيات ١٢، ١٣). كل هؤلاء يُقامون بآن معاً وفي نفس اللحظة، ويجدون أنفسهم بعد الدينونة في بحيرة النار مع الشيطان، والوحش، وشريكه اليهودي في الجريمة، النبي الكذاب. ثم تُسدل الستارة فقط لتُرفع مرة واحدة وأخيرة (٢١: ٨) لأجل نظرة عابرة.

تفسير الرؤيا:

٦- "الْقيَامَة الأُولَى". "مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى. هؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ الثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً ِللهِ وَالْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَة". الرؤيا بحد ذاتها تحتل الآية ٤، (أطول آية في سفر الرؤيا) والجزء الأول من الآية ٥. ثم يأتي التفسير، بدءاً من الكلمات "هذِهِ هِيَ الْقِيَامَةُ الأُولَى"، ويستمر هكذا إلى نهاية الآية ٦. التفسير قمنا بنسخه بالكامل. التغير الذي سيطرأ على القديسين الأحياء لدى المجيء يُكافئ قيامة الموتى (١ كور ١٥: ٥١- ٥٤). ثم كل أثر من البشرية الزائلة والفساد سيختفي، والكل سيتمجد. الأموات يقومون في المجد (الآية ٤٣). أجساد القديسين سواء كانوا أحياء أم في القبر عند المجيء، يتحولوا إلى شبه جسد مجده (فيل ٣: ٢١). "الْقِيَامَةُ الأُولَى" يُنظر إليها هنا على أنها مكتملة. إنها عبارة تدل على بركة وأهمية خاصتين. المشاركة فيها كانت الرغبة التواقة عند الرسول (فيل ٣: ١١). قيامة الأموات يعلّمنا إياها كلا العهدين على حد سواء، ولكن القيامة من الأموات هي إعلان في العهد الجديد وحده، وأول تعليم نجده عنها هو في مر ٩: ٩؛ ثم في لو ٢٠: ٣٥ نجد تطبيقها على المؤمنين والذي هو أمر مؤكد. عبارة "الْقِيَامَةُ الأُولَى" لا تُستخدم أبداً بالنسبة إلى الأشرار.

كل من شارك في الْقِيَامَةُ الأُولَى يُعلن على أنه "مبارك ومقدس". إنها مسألة بركة فردية. الكلمة الأولى تصف حالة المؤمن السعيدة؛ والثانية شخصيته. السعادة والقداسة يترابطان بشكل لا انفصام فيه، ويجب ألا ينفصلا أبداً. "هَؤُلاَء لَيْسَ للْمَوْت الثَّاني سُلْطَانٌ عَلَيْهمْ". إن عبارتي "الْقيَامَة الأُولَى" و"الْمَوْت الثَّاني" متعاكستين تماماً، لأن كل من لم يشارك في الأولى بالتأكيد سيشارك في الثانية. الموت الثاني هو بحيرة النار (الآية ١٤). وإليها يُلقى الأموات الأشرار. ولكن هذا الموت الفظيع، الموت رغم أن الجسد لا يكون مائتاً، ليس له حق أو سلطة على أولئك الذين أصابتهم القيامة الأولى، لأن هؤلاء "لن يموتوا بعد". أجسادهم خالدة لا يمكن أن يموتوا فيما بعد ومثلهم في ذلك مثل الملائكة (لو ٢٠: ٣٦). "الموت الثاني" ليس له تأثير على "أبناء القيامة".

البركة الإيجابية للقديسين القائمين والممجدين يتم إعلان عنه تالياً، ليس فقط مناعتهم ضد التبعات الأبدية للخطيئة- أي "الموت الثاني"- "بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً للَّه وَالْمَسيح". كلا الطابعين المقدس (١ بط ٢: ٥) والملكي للكهنوت (الآية ٩) سيتبدى بشكل كامل واضح آنذاك، وبشكل لا عائق أمامه ولا انقطاع فيه. سوف يكون لنا دخول مستمر إلى حضرة الله ككهنة له، ومرافقين لظهور المسيح في اكتمال فضائله الملكية المباركة وهو ذاك الذي تُسر نفوسنا بأن تكرمه.

ملك الألف سنة:

٦- "وَسَيَمْلكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَة". عظمة هذا القول وفخامة الموضوع تترك النفس في حالة ذهول. الخطاة الذين كانوا بؤساء تعساء يوماً، يُقامون يوماً عندئذ إلى هكذا سمو، فيخضعون فقط لذاك الذي افتدانا بدمه، ورفعنا بنعمته إلى هكذا مجد. هكذا ملك نتمتع به في سلطة وقوة ملكية فخمة وبهاء، ومتسربلين بهكذا وقار وكرامة ملوكية لأننا ورثة المسيح، يستمر لألف سنة، ولكن الحالة الأبدية التي تلي ذلك ستُظهر أمجاداً جديدة وكرامات إضافية، رغم أن الملكوت القائم بالوساطة على هذا النحو يصمد أطول فترة من الحياة قد سُجلت. عاش مَتُوشَالَحَ ٩٦٩ سنة "ومات" (تك ٥: ٢٧). القديسون في السماوات والقديسون على الأرض سيحيون ألف سنة، وسوف لن يموتوا.

ملك المسيح وتقييد إبليس حقيقتان مترابطتان متلازمتان. مجرّب الناس يجب أن يزال. والمجد يجب ألا يُبهت والبركة ألا تُبهت بمكائد إبليس اللاحقة. الملك لألف سنة هو أكبر حدث في تاريخ الجنس البشري. ليس هناك من تفاصيل تُعطى عن هذا الملكوت. بل يُعلن عن ذلك بشكل بسيط وكحقيقة مطلقة. البركات الأرضية مضمونة لنبي إسرائيل وللعالم تحت حكم المسيح، بشكل أساسي والذين هم موضوع حديث الأنبياء، بينما الطابع السماوي للملك يُعلن من الآية ٩ في الأصحاح ٢١ إلى الآية ٥ في الأصحاح ٢٢. الملك الألفي يُوصف أفضل ما يمكن بالتعبير الكتابي "الملكوت". إنه يتألف من قسمين، على كل حال، يتم الحديث عنهما باستخدام عبارة ملكوت الابن وملكوت الآب (مت ١٣: ٤١- ٤٣). السابق يتعلق بالأرض، والأخير يتعلق بالسماوات. تجمع الآية في دا ٧: ٢٧ العبارتين معاً. "العلي" هي في صيغة الجمع، وترمز إلى "السماويات"، كما في أف ٣: ١، ٢٠. "مُعَسْكَرِ (شعب) الْقِدِّيسِينَ". المعسكر والقديسون متمايزون. هناك الشعب المؤمن على الأرض والقديسون القائمون من الموت في السماويات. يُقال أن الشعب ينتمي إلى القديسين؛ إذ في نهاية الأمر، الملكوت في أوسع امتداد له يشكل السيادة المشتركة للمسيح وشعبه السماوي، في حين أن بني إسرائيل سيكونون خاضعين لسلطان الشعوب- رأسهم، وليسوا تابعين لهم.

عمل إبليس الأخير ومصيره المشؤوم النهائي:

٧- ١٠- ينقسم أصحاحنا إلى أربعة أقسام مرتبطة ببعضها. في الأول لدينا التنين المقيد لألف سنة والذي يُلقى إلى الهاوية، والذي يُختم عندئذ عليه (الآيات ١- ٣). وفي الثاني لدينا الفئات الثلاث الذين يحضرون بشكل خاص أمامنا وال١ين يملكون مع المسيح خلال الفترة الألفية، وبركتهم (الآيات ٤- ٦). وفي الثالث نشهد التجميع الأخير والعالمي للأشرار على الأرض تحت راية إبليس، والمصير المشؤوم النهائي والأبدي للشيطان في بحيرة النار (الآيات ٧- ١٠). وفي القسم الرابع ما من فئة أو فترة من الزمن تُستخدم كما في الأقسام السابقة. وهنا نكون قد وصلنا إلى نهاية الزمان، إلى خاتمة التاريخ البشري، والتبشير باقتراب الحالة البشرية بدينونة الأموات عند العرش العظيم الأبيض (الآيات ١١- ١٥).

القسم الثالث هو في الواقع استمرار للأول، الذي قاطعه المنظر الهادئ والسكن للفئات المتنوعة من القديسين السماويين الذين يملكون مع المسيح.

٧- والآن تاريخ إبليس يُستأنف ٦، في ترابط مع الآية ٣.

٨- لدى اكتمال السنوات الألف من سجن إبليس، الذي لا يتم الحديث عنه الآن على أنه التنين، "يُحَلُّ الشَّيْطَانُ منْ سجْنه، وَيَخْرُجُ ليُضلَّ الأُمَمَ الَّذينَ في أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض: جُوجَ وَمَاجُوجَ، ليَجْمَعَهُمْ للْحَرْب، الَّذينَ عَدَدُهُمْ مثْلُ رَمْل الْبَحْر". خلال فترة الحكم هذه يخلص جميع بني إسرائيل (إر ٣١: ٣١- ٣٤؛ رو ١١: ٢٦)، ونسلهم ونسل نسلهم إلى الأبد (أش ٥٩: ٢٠، ٢١). ولكن ليس الحال هكذا مع الأمميين. تعداد سكان الأرض سيكون قد خف كثيراً بسبب الدينونات، وأعداد كبيرة تخلص، ولكن كثيرين سيبدعون إطاعة زائفة فقط لسلطة الملك الحاكم على الأرض. ليس إطاعة الإيمان، بل الخضوع الإجباري تحت الصولجان الحديدي (مز ٢: ٩)، هي إطاعة تُنتزع بالخوف (انظر مز ١٨: ٤٤؛ ٦٦: ٣؛ ٨١: ١٥؛ على هامش كل نص من هذه نجد إطاعة زائفة). الرأي الآخر، والذي يفسر بحد ذاته وبشكل كامل العدد الذي لا يُحصى له الذين جمعهم إبليس من كل أرجاء الأرض، هو أن الموت حتى بين المخلّصين سوف لن يكون القاعدة، بل الاستثناء (لأجل معرفة المبدأ انظر أش ٦٥: ٢٠)؛ إضافة إلى ذلك، فإن سكن الناس في الأرض سيستمر كما في السابق، ولكن الكتابات المقدسة لا تشير، على حد معلوماتنا، إلى أن أولئك الذين يولدون خلال الألف سنة يهتدون، ما عدا أولئك الذين وسط بني إسرائيل (أش ٥٩: ٢١). بعد إزالة تقييد إبليس، فإن الأمم، وليس الأفراد فقط، بل الجماعات والشعوب الذين كانوا قد تنعموا بملك المسيا الشخصي، يُسلمون أنفسهم إلى إبليس. للأسف هكذا هو الإنسان! لطالما جُرب واختُبر تحت كل ظرف ممكن، بكل طريقة ممكنة، تحت الصلاح، والحكومات، والناموس، والنعمة، والآن تحت المجد. التجمع السابق للقوى كان تحت القيادات البشرية (١٩: ١٩). أما هذا فهو على مقياس أوسع، وتحت التوجيه والسيطرة المباشرة لإبليس نفسه. كلاهما ينتهيان بهزيمة نكراء ودمار هائل.

التحالف التآمري البشري الأخير:

٨- تجمع الأمم عالمي في طابعه من جهات الأرض الأربع، وكثير جداً عدد هؤلاء حتى أنهم يُقارنون بعدد رمل البحر. هذا التجمع الواسع الهائل يتم الحديث عنه استعارياً كجوج وماجوج. هاتان الكلمتان تشيران إلى القيصر الأخير لروسيا وأرضه (حز ٣٨؛ ٣٩). والآن الهجوم الأخير على يهوذا يأتي بعد دمار القوى الغربية (رؤ ١٩) وأعداء بني إسرائيل الشرقيين (زك ١٤؛ مز ٨٣). ينزل جوج (روسيا) إلى الأرض ليسلب ويدمر، وهو لا يعرف أن الرب قد أتى وصنع خلاصاً كمتراس أكيد لشعبه الأرضي القديم (أش ٢٦: ١، ٢). ولذلك فإن آخر محاولة لتدمير إسرائيل تتكرر لمرة أخرى ولكن على مقياس أعظم بكثير قرب النهاية. الهدف هو نفسه في كلا الهجومين، ولكن السابق يأتي من لشمال، البقعة الجغرافية التي لجوج؛ بينما الأخير يأتي من كل أرجاء الأرض. وهكذا يستطيع المرء أن يفهم بسهولة لماذا تُستخدم كلمتا جوج وماجوج، بما يتعلق بمحاولتي قلب وتدمير إسرائيل، الأولى قبل الألفية والأخرى بعد الألفية. وسيُلاحظ أنه لن يكون هناك ملوك أو رجال عظماء تُذكر أسماؤهم، كما في التجمع الذي تحت الوحش (الأصحاح ١٩)، بل الأمم ببساطة على هذا النحو.

٩- "فَصَعدُوا عَلَى عَرْض الأَرْض، وَأَحَاطُوا بمُعَسْكَر الْقدّيسينَ وَبالْمَدينَة الْمَحْبُوبَة". لقد تجمعوا وغطوا كل الأرض. لقد جاؤوا من الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب. لقد تجمعوا لأنهم يتجمعون تحت قيادة واحدة يحثهم إلى ذلك دافع مميت واحد ألا وهو الكراهية، ويتجمعون في مركز واحد. لقد اختبرت الشعوب لألف سنة الحكم الخيِّر السعيد للمسيح. وكان إبليس قد ظل مكبوحاً لألف سنة، وحريته مقيدة، ومع ذلك فإن المحاولة المجنونة جرت لمحاولة تحطيم معسكر القديسين، ولإهلاك وتدمير المدينة المحبوبة، أورشليم. تتجمع الأمم على أورشليم. لا يتدخل المسيح. إنها مسألة يتولاها اله. معسكر القديسين على الأرض، والمدينة المحبوبة، وهي تسمية جميلة لأورشليم في المستقبل (أش ٦٠)، تُحاطان بعدد وافر من جنود الأرض. ولا يُذكر كيف أن المسيح وشعبه، السماوي والأرض، ينظرون إلى هذه المحاولة الأخيرة الهائجة لإبليس وأتباعه المضللين. هناك صمت في المعسكر والمدينة. الأمم المرتدة تسير إلى فكي الموت. دينونتهم تكون مفاجئة، وسريعة، ومنسحقة، ونهائية. الله يتعامل مع جنود الشر، "نَزَلَتْ نَارٌ منَ السَّمَاء وَأَكَلَتْهُمْ"، وتضيف إحدى الترجمات العبارة "من عند الله".

إبليس يُطرح إلى بحيرة النار:

١٠- يا للتبجح المتكبر باكتمالية للطبيعة البشرية على ضوء المشهد الختامي في دراما التاريخ! لأول مرة في تاريخ الجنس البشري (من تك ٣ إلى رؤ ٢٠) لدينا أرض بدون أي خاطئ على سطحها. الآن سيتم التعامل مع إبليس. يُسمح له بأن يرى نهاية كل مكائده القاسية الشريرة. ويُحبط ويُهزم. مصيره المشؤوم كان قد تحدد قبل سبع سنوات من تنفيذه (تك ٣: ١٥). نسل المرأة يسحق رأسه. ومع ذلك يبقى العمل الوحيد الأخير في الدينونة الأبدية. "وَإبْليسُ الَّذي كَانَ يُضلُّهُمْ طُرحَ في بُحَيْرَة النَّار وَالْكبْريت، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إلَى أَبَد الآبدينَ".

طُرد التنين أولاً من السماء، ثم أُغلق عليه في الهاوية، والآن يُلقى إلى بحيرة النار. كتنين يُغلق عليه وكإبليس يُطلق سراحه، وكالشيطان يُلقى إلى بحيرة النار. في هذه الحرب الأخيرة لا يُذكر اسم التنين. إبليس، الذي يدل على الخصم المعادي، هو العدو الواضح والصريح والمخاصم لله، والمسيح، والقديسين، وإسرائيل، وفي طابعه ذاك يقف بعيداً عن الوكلاء البشريين كقائد للجنود الذين يتجمعون ضد المعسكر والمدينة. ولكن بما أنه الشيطان، المخادع ومجرب ومغوي البشر، يُلقى إلى العذاب الأبدي.

جدير بالملاحظة، أيضاً، أنه في الرواية التي أمامنا يُغير الرائي وجهة نظره. في الآية ٧ يتطلع إلى نهاية الألف سنة، بينما في الآية ٩ يتبنى الصيغة التاريخية. في السابق يكون هو النبي، وفي الأخير هو المؤرخ. لا بد أن نضيف حقيقة أن الرؤيا كلها هي للمستقبل. نشير إلى وجهات النظر المختلفة التي رآها يوحنا وتكلم عنها.

١٠- "طُرحَ في بُحَيْرَة النَّار وَالْكبْريت". تفترض البحيرة أرضاً صلبة يابسة على كلا الجانبين. "النار والكبريت" هما رمزان للعذاب الذي لا يمكن وصفه (انظر ١٤: ١٠؛ أش ٣٠: ٣٣).

١٠- "الْوَحْشُ وَالنَّبيُّ الْكَذَّابُ". هما هناك لتوهما. لقد أُسلموا إلى مصيرهم المشؤوم الفظيع عند بدء الملك الألفي، ونجدهما هناك عند نهايته. يا له من مثال توضيحي مذهل وفي محله يقدمه الرب في كلماته التي يقولها في مر ٩: ٤٩: "كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ". الملح مادة حافظة. وها هنا رجلان مُلّحا بالنار، لا يفنيا بل حُفظا في عذاب تلوى عذاب، وذلك لألف سنة. لسنا نؤكد على حقيقية ألهبة نار حرفية، لأن الشيطان روح (انظر أيضاً لو ١٦: ٢٣، ٢٤). النار تفني المواد الطبيعية. ولكن نؤكد بشكل أقوى على الرمزية المقصودة لتعليمنا، "الظلمة البرّانية"، البكاء وصريف الأسنان، دودة لا تموت أبداً ونار لا تنطفئ، "النار والكبريت"، الخ. الحقيقة هي أنه في بحيرة النار، الألم والعذاب الفكري والجسدي يتحدان ويؤلمان بدرجة تتناسب مع دم أولئك الذين خطئوا. العقاب هو في تعادل تماماً مع الخطيئة، ولكن كل شيء أبدي أو نهائي.

١٠- "سَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إلَى أَبَد الآبدينَ". ضمير الجمع يشير إلى الشيطان، والوحش، والنبي الكذاب. تُظهر العبارة "نهاراً وليلاً" أن العذاب هو بلا انقطاع أو توقف. وعبارة "إلَى أَبَد الآبدينَ" تدل هنا وفي ١٤: ١١ إلى الأبدية بمعناها الكامل والملائم- وجود لا نهاية له أبداً.

دينونة الأموات
(الآيات ١١- ١٥)

العرش والدّيّان:

١١- "ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشًا عَظِيمًا أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ، الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ!" تُشكل هذه الآية رؤيا متمايزة خاصة بحد ذاتها. كلمة "رأيت" ترد ثانية في الآية١٢. هناك رؤيتان منفصلتان: الأولى العرش والديان الجالس عليه؛ والثانية، الأموات ودينونتهم. تُفتتح الألفية وتُختتم بدينونة معقودة، وفي كلتيهما الرب شخصياً هو القاضي والديان. الأحياء هم الذين تصيبهم الحالة السابقة؛ والأموات هم في محنتهم في الحالة الأخيرة. عرش المجد الذي يتأسس في مت ٢٥: ٣١ متمايز عن العرش العظيم الأبيض الذي في أصحاحنا. زمان الدينونات الخاصة بكل منهم: الأولى قبل، والأخيرة بعد الملك الألفي؛ تُدان الأطراف، الأحياء في الحالة الأولى، والأموات في الحالة الثانية؛ الأمم أيضاً، في السابقة؛ والأفراد في الأخيرة؛ هذه الفروقات وأخرى أساسية غيرها بين العرشين تجعلهما متمايزان بشكل أساسي. لا يمكن اعتبارهما عرشاً واحداً أو النظر إليهما على هذا النحو.

هناك ثلاثة عروش عظيمة: (١) في السماء (رؤ ٤: ٢)، من حيث يُحكم الكون؛ (٢) على الأرض (مت ٢٥: ٣١)، لدينونة الأمم بسبب معاملتهم لكارزي الإنجيل (الآيات ٤٠ – ٤٥)؛ (٣) العرش الأبيض العظيم، لدينونة الأموات (رؤ ٢٠: ١١).

١١- "عَرْشًا عَظِيمًا أَبْيَضَ" ٧. ليس هناك سوى عرش عظيم أبيض واحد. وها إننا على وشك أن نرى الجلسة القضائية الكبرى تُعقد. الوقار المهيب للديان، وعظمة المناسبة، واتساع المشهد، والنتائج الأبدية الذي يشتمل عليها على نحو ملائم تتطلب الصفة "عظيم". الدينونة لا تتعلق بالحكم والحكومات، بل هي بحسب طبيعة الله نفسه، الذي هو نور، وهذا يعطي الطابع الحقيقي والملائم للعرش. العظمة والنقاء تميزانه.

١١- "الْجَالِسَ عَلَيْهِ". هنا نجد الضمير مُستخدم لوحده؛ اسم القاضي الديان محتجب. ولكننا نعلم أن الرب نفسه هو الذي يدين. "الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْن" (يو ٥: ٢٢)؛ وإضافة إلى ذلك، أن الابن ينفّذ دينونته الخاصة (الآية ٢٧). إنه الرب يسوع المسيح، الناصري المرذول والمرفوض والرب المصلوب، "الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ" (٢ تيم ٤: ١). الأَحْيَاءَ، لقد أدانهم للتو (مت ٢٥: ٣١). والآن هو على وشك أن يدين الأموات. ابن الإنسان هو الذي يجلس على العرش. نستنتج أن الاسم مستتر لأن الدينونة والظروف المواكبة هي في توافق معنوي مع الطبيعة الإلهية، وليست جلية جداً مع بشريته كما قد يوحي لقب ابن الإنسان.

١١- "الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ". يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة أن المشهد الحالي، التالف جداً والمهشم، سرعان ما سيختفي من أمام مجد وجلال هكذا شخص، ولكن ليس هذا ما نراه هنا. إن الأرض والسماء اللتان أسسهما الرب نفسه هما كمجالين لإظهار مجده وبره لا يمكنهما مواجهة مجد وجهه. العالم الألفي، في قسمه الأعلى والأسفل، هو في أحسن الحالات ليس حالة مثالية كاملة. "مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ"- لم تختفِ من الوجود، ولم تنمحِ. الجملة التالية تحذّرنا بشدة ضد أي استنتاج غير كتابي- "لَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ". لا تشير إلى الاختفاء الكامل للأرض والسماء الألفيين. وبالتالي فلدى زوال هذه، السماوات الجديدة والأرض الجديدة مهيأة ومجهزة ومؤسسة إلى الأبد تأخذ مكانها- تُصنع لا تُخلق ٨ (أش ٦٦: ٢٢؛ ٢ بط ٣: ١٣). بين تلاشي العالم الألفي وبدء العوالم الأبدية، المادة في كلتا الحالتين، العرش العظيم الأبيض يتأسس. هذا الرأي يفصح عن إجلال عميق للمشهد الذي أمامنا. لأن العرش لا يُقام على الأرض، ولا في علاقة مع دهورها التدبيرية وأوقاتها. إنه مشهد خارج التاريخ البشري بأكمله. لقد خرجنا من الزمن إلى الأبدية. ولذلك فإن دينونة العرش نهائية، وفي طبيعتها الأبدية ذاتها. نحن في أبدية الله. لا يمكن أن تكون هناك مقاييس للزمان ولا حدود تحصرها الكرة الأرضية، لأن كل ما يُقاس به وهو محدود قد زال.

الأموات روحياً أمام العرش:

١٢- "وَرَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَارًا وَكِبَارًا وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ". ها هي رؤيا جديدة. كلمة "الأموات" هنا لها مغزى مضاعف. أولاً، إنها تشير إلى أولئك الذين ماتوا فعلياً، هذا هو المعنى الذي نجده في المقطع. ثانياً، جميع من هم في هذه الدينونة هم أموات روحياً. يراهم يوحنا قائمين ولكن ليس في حالة منفصلة. الآية ١٣ تعلن حقائق تسبق الآية ١٢، وتفسر وقوف الأموات أمام العرش. وهناك قيامة للأبرار وللفجار (أع ٢٤: ١٥). ولكن قيامة السابقين خاصة، من حيث الزمان والطابع. ليس من أساس للفكرة المتفشية القائلة بقيامة عامة ودينونة عامة. السابقة تنفيها العبارة في الآية ٥ من أصحاحنا،

"بَقِيَّةُ الأَمْوَاتِ لَمْ تَعِشْ حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ". الدينونة العامة ليس فيها سلطة إلهية كتلك التي في القيامة العامة، إذ هنا الأموات وحدهم يُدانون؛ بينما في مت ٢٥ ورؤ ١٩ الأحياء وحدهم هم الذين يكونون أمام ناظرينا قبل سنة.

١٢- "كباراً وصغاراً". هذه العبارة الكتابية، والتي يتكرر ورودها كثيراً في العهد القديم، نجدها خمس مرات في الرؤيا (١١: ١٨؛ ١٣: ٦؛ ١٩: ٥، ١٨؛ ٢٠: ١٢). في المرات الأربع الأولى يكون ترتيب الكلمات مقلوباً عن ذاك الذي في نصنا، فيأتي القول: "صِغَارًا وَكِبَارًا". الإثناء هو بسبب عظمة وجلال المناسبة. أداة التعريف قبل الصفات في الأصل اليوناني تشير إلى فئات خاصة من الكبار والصغار هناك، من كل مراتب البشر في الكنيسة وفي العالم. من أعلى فئة وأكثرها مسؤولية، نزولاً إلى الأدنى، تكون محتشدة ومتجمعة حول العرش.

١٢- "وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ". كم كانت الرؤيا حقيقية وحاضرة بالنسبة إلى الرائي! علامَ يقفون؟ ليس على الأرض، لأن هذه قد اختفت وتلاشت. الأموات يُحفظون أمام عرش قوة كلي القدرة. والعرش الذي رآه أعظم الأنبياء (أش ٦) كان إلى جانبه مذبح للقرابين؛ ولذا فإن الادعاء المحق بالعرش كان يقابله المذبح. العرش في احجرة الداخلية من خيمة الاجتماع في القديم كانت تحوي على الدم- شهادة الموت- المرشوش عليه. ولكن العرش الذي أمامنا عظيم وأبيض، وليس هناك من مذبح أو دم. يا للرعب، ويا لليأس، ويا لعذاب أولئك الواقفين هناك متسربلين بخطاياهم، الذين يسبرهم لهيب النور الإلهي! المغاور، والصخور، والكهوف، ليس فيها مكان يمكن أن تختبئ فيه النفس الآثمة، لأن هذه هربت، وكل خاطئ هو الآن وجهاً لوجه أمام الله، الذي ليس هناك مهرب أو نجاة منه.

السجلّات الإلهية عن تاريخ البشر:

١٢- "وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ، وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ". "انْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ". كل نفس مسؤولة على الأرض تتمتع بحياة وتاريخ مكتوبين في السماء. ما من شيء يُنسى، ما من شيء تافه، كل شيء مدون بشكل لا خطأ فيه في سجلات الله. الأطفال والمعتوهون وحدهم الاستثناء. أساس الدينونة هو الأعمال. الناس مسؤولون عما فعلوه، ليس بسبب حالتهم التي وُلدوا فيها إلى العالم. وجود طبيعة شريرة في كل واحد من البشر (مز ٥١: ٥٠) ليس هو أساس الدينونة، ولذلك فإن الأطفال والأشخاص غير المسؤولين وغير العاقلين ليسوا في الحسبان، ولا يأتون إلى دينونة على الإطلاق. لا يمكننا أن نتجنب، ولسنا مسؤولين عن، وجود الطبيعة الشريرة فينا، ولكننا مسؤولين عن نشاطها وفعاليتها. لا يمكنك تحاشي الجذر الذي فيك، ولكن يمكنك تجنب الثمر، ولأجل هذا فقد تم التدبير بذبيحة المسيح. الدينونة هي "بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ" (أف ٥: ٦).

حرفية الأسفار، أو دروج الكتابات المقدسة، هي بالطبع بعيدة عن الشك. المعاني المريعة المتضمنة فيها تكفي لتروع أقوى القلوب وتجعل أقسى الضمائر يذوي. الأموات غير الأتقياء سوف يواجهون بما فكروا فيه، وفعلوه، من لحظة تحملهم للمسؤولية حتى النهاية. إن كانت الدينونة تبدأ على أساس الأعمال فلا يمكن إلا أن نحصل على نتيجة واحدة، نتيجة تنشأ عن محاكمة نزيهة وعادلة: الدينونة، بشكل أخير وأبدي. لمرتين يُقال أن الدينونة هي "بِحَسَبِ أَعْمَالِهِم". الذاكرة، أيضاً، ستحرك في تلك اللحظة الفظيعة، وتضيف تصديقها الجليل، عندما يُقرأ سجل حياة كل واحد علناً وسط الصمت الراسخ والخشية التي يفرضها المشهد.

ولكن سفر الحياة يُفتح بعد ذلك ويُفحص بعناية، ما ينشأ عن ذلك أنه ما من اسم من الناس غير الأتقياء يوجد في تلك الصفحات. أسماؤهم كُتبت في ذلك السفر، ولكنهم احتقروا الرحمة ورفضوا النعمة، والآن الدينونة وتنفيذها يجب أن تأخذ مجراها. إنه سفر الحياة المُشار إليه في ١٣: ٨ و١٧: ٨، ولكن ليس في ٣: ٥. هذا الأخير هو سفر الاعتراف المسيحيّ، صادقاً كان أم كاذباً؛ السابق هو تدوين لاسم كل المؤمنين الحقيقيين.

تسليم الأموات:

١٣- "وَسَلَّمَ الْبَحْرُ الأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِ، وَسَلَّمَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ الأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِمَا. وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ". البحر، حرفياً، "قبر الأمم المدفونة"، يجب أن يُسلِّم أمواته. صوت ابن الله، الذي سيسمعه جميع الأموات (يو ٥: ٢٨، ٢٩) سيسبر غور أعمق أعماق البحر، والأمواج الغاضبة ستتجاوب مع صوت خالقها، ويُسلِّمون أمواتهم، جميعاً. الموت، أيضاً، الذي يقضي على الجسد، ويضع النفس في الهاوية- الرب لديه مفاتيح كليهما- سيُسلِّم أمواته، جميعاً. الإمبراطور والفلاح، الرفيع المقام والضئيل الشأن، الغني والفقير، جميعهم سيتضعون ويصيرون على مستوى واحد في الموت. والآن يخرج الجميع عند سماع صوت قوته التي لا تقاوم وجلاله، ويدانون جميعاً "بِحَسَبِ أَعْمَالِهمِ".

دمار الموت والهاوية:

١٤- "طُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ". لا يدخل الجميع إلى الموت والهاوية. لقد تعيّن "للناس أن يموتوا" (عب ٩: ٢٧)، ولكن ليس كل الناس، كما يقرأ البعض بشكل عام ولكن خطأ. اختُطف حنوك وإيليا، وهؤلاء الأحياء لدى مجيء ربنا سيتبدلون، وسوف لن يموتوا. عندما تكتمل القيامة الأولى، فعندها يكون الموت والهاوية قد انقطعت علاقتهما مع القديسين، وعملهم في حفظ جسد ونفس هؤلاء يأتي إلى نهايته. ولكنهم يستمرون في الإمساك بالأموات غير الأتقياء بقبضتهم الفظيعة. هم أقوياء، ولكن المسيح سيّدهم (رؤ ١: ١٨). أما الآن وقد انتهى عملهم فإنهم يُقلون إلى بحيرة النار؛ لقد أُتي بهم إلى الوجود، بسبب الخطيئة، وبما أن بحيرة النار هي المستودع الأبدي لكل المناوئين لله كنور ومحبة فإنهم يُلقون إلى بحيرة النار.

"هذَا هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي"، أي، بحيرة النار. أجساد الأشرار ستعين إلى دهور أبدية أخيرة، سوف لن يموتوا، بل سيوجدون إلى الأبد في الموت الثاني. إنه ليس انطفاء للوجود، وليس إبطال له، بل هو عذاب خلال فترة حياة الله القدير والأبدي. سوف لن تقسّم لكل منهم نفس الكمية والمقياس والدرجة من العقاب. المكان عام للجميع، ولكن "ضربات كثيرة" و"ضربات قليلة" (لو ١٢: ٤٧، ٤٨) تشير إلى التعرض لدرجات متفاوتة من العقاب.

الإلقاء في بحيرة النار:

١٥- "وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوبًا فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ". هكذا ستكون عندئذ المصير المشؤوم الأبدي للأشرار. التنين، والوحش، والنبي الكذاب، والآن غير المؤمنين جميعاً من أيام قايين يجدون أنفسهم في رعب لا مثيل له، في أحد الأماكن حيث الذاكرة ستفسّر سبب العذاب بالانفصال الأبدي عن الله، وعن النور وعن السعادة. ألا فليُجلّ الله نفوسنا ونحن نقدّر ونتفكر ملياً في هذه الحقائق والوقائع التي سرعان ما ستصير نصيباً مريعاً لكثيرين.


١. - القوى المشار إليها في زكريا ١٤: ٢ ومز ٨٣ تتجمع ضد أورشليم واليهود، وأما أولئك الذين في الأصحاح ١٩ من الرؤيا فيتجمعون ضد الحمل وقديسيه السماويين. الأول لديهم موقعهم في الشرق؛ والآخرين في الغرب. ولذلك سيكون هناك معسكران معاديان كبيران، يتعارضان مع بعضهما البعض في السياسة والأهداف. القوى الشمالية الشرقية ستكون تحت قيادة جوش وملك الشمال الخاضع له. والقوى الغربية ورؤساء أوربا سيكونون عموماً تحت قيادة الوحش والخاضع له في السلطة السياسية، النبي الكذاب أو ضد المسيح.

٢. - الهاوية ترمز إلى العمق (لو ٨: ٣١) أو المكان الذي لا قاع له. ترد هذه الكلمة تسع مرات في العهد الجديد، سبع منها في سفر الرؤيا، وواحدة في لوقا كما رأينا، والأخرى في رومية ١٠: ٧. من الهاوية يصعد الوحش، وإلى الهاوية يُلقى إبليس (رؤ ١٧: ٨؛ ٢٠: ٣). الهاوية هي مكان، ولكن موضعه غير محدد أو معروف.

٣. - مفتاح الحفرة التي لا قاع لها في ٩: ٢ هو لفتحها؛ ولكن في الأصحاح ٢٠ الغاية من المفتاح هو أن يغلق الحفرة. 

٤. - على الأرجح أن هذه إشارة خاصة إلى التضليل الذي حدث عند جمع الأمم إلى هَرْمَجَدُّونَ (الأصحاحات ١٦: ١٣، ١٤؛ ٢٠: ٨).

٥. - كنت أرى "إلى أن أَنَّهُ أُسقطِت عُرُوشٌ" (دا ٧: ٩). ولكن النص في الأصل يأتي بالعكس تماماً. فيقول: "إلى أن وُضِعَتْ عُرُوشٌ"، أي تأسست أو أُقيمت. ونضيف أن النبي العبري لا يرشد فرّاءه إلى الحكم الألفي، بل إلى بدئه فقط. غنه يتوقف عند تلك اللحظة حيث أن أحداً شبه ابن الإنسان يأخذ من قديم الأيام الملكوت العالمي والأبدي (٧: ١٣، ١٤). ويأخذنا النبي حزقيال إلى أبعد من ذلك بكثير. فنجد لديه وصفاً لبعض أهم ملامح الألفية، مثل ترتيب الأسباط في جماعات متوازية إزاء فلسطين الموسعة،  والهيكل والخدمة فيه، ووكيل المسيح على العرش، ومعالجة البحر الميت، الخ (حزقيال، الأصحاحات ٤٠- ٤٨).

٦. - تجدون تفسيراً مشابهاً فيما يتعلق بالتنين في الأصحاح ١٢. لدينا حرب في السماء (الآيات ٧- ٩). وينشأ عنها طرد إبليس وملائكته، الذين يُقلون إلى الأرض. وهذا يتبعه فرح وابتهاج في السماء (١٠: ١٢). ثم يُستأنف تاريخ إبليس الذي كان قد انقطع بالابتهاج السماوي (الآيات ١٣- ١٧)؛ والآية ١٣ ترتبط بالآية ٩.

٧. - ليس عرش الجلالة، بل عرش القاضي الديان، ليس عرشاَ ملكياً بل إدانياً للدينونة. ولا يُقام أو يؤسس ليكون أبدياً بل مؤقتاً، ولهدف خاص محدد.

٨. - الصنع يفترض مادة موجودة قبلاً. لقد خُلِقت المادة أولاً. الخلق هو إنتاج مادة لم يكن لها وجود سابقاً. أش ٦٥: ١٧، ١٨ لها علاقة بالحكم الألفي وتشيران إلى تغير معنوي كامل.