الأصحاح ١٢
الأحداث كما يراها الله
المرأة والابن الذكر:
١، ٢- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبلَةٌ بالشَّمْس، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسهَا إكْليلٌ من اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً، وَهيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخّضَةً وَمُتَوَجّعَةً لتَلدَ". قلنا للتو أن الأصحاحات ١٢ و١٣ و١٤ تشكل نبوءة واحدة مترابطة مع بعضها. إننا نعتبر هذا القسم في غاية الأهمية لدارسي النبوءات. إن فهماً عقلانياً له سيُمكن كل ذي فكر ورع من فهم الحالة النبوية بشكل واضح. يا له من امتداد! من ميلاد المسيح (الآية ٥) إلى أن يطأ معصرة غضب الله (١٤: ٢٠)- امتداد مؤلف من ألفي سنة تقريباً! من ضعف ذلك الطفل الرضيع إلى تجلي قوته العظيمة في الدينونة. وهذا التاريخ المذهل مشتمل بالرمز والكلمة ضمن نطاق الآيات الـ ٥٥.
١- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء"، وليس "أعجوبة" كما في بعض الترجمات. "الأعجوبة" أمر مذهل. بينما "الآية" لها معنى وتدل على موضوع معين محدد (١٥: ١). الصفة "عظيمة" تُستخدم لست مرات في هذا الأصحاح، وهي إحدى المواضيع الهامة. أول عظيمة تظهر، في الترتيب وليس في العظمة، هي امرأة. الابن الذكر هو الموضوع البارز في هذا الأصحاح. المرأة ليست السماء فعلياً، بل على الأرض. الآية هنا فقط. لماذا عظمتها "في السَّمَاء" بينما ألمها على الأرض؟ هذا هو فكر يتعلق بالله وأهدافه في ما يختص بها في مسكنه- المكان، "السَّمَاء" المعروفة. إنه تاريخ يُقرأ ومعروف في السماء على ضوء حضور الله.
١- "امْرَأَةٌ مُتَسَرْبلَةٌ بالشَّمْس، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسهَا إكْليلٌ من اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً". هناك أربع نساء يُمثلن شيئاً ما في الرؤيا، كل واحدة منهن هي تعبير عن هيئة جماعية من الأشخاص أو نظام. (١) إيزابيل (٢: ٢٠)، أو النظام البابوي. (٢) المرأة التي تتمتع بملء سلطة حكمية (١٢: ١)، أو شعب الله. (٣) الزانية الكبيرة (١٧: ١)، أو الكنيسة المعترفة الفاسدة والمرتدة والمستقبلية. (٤) العروس، عروس الحمل (١٩: ٧)، الكنيسة الممجدة في السماء. الأجرام السماوية النيّرة، الشمس، والقمر، والنجوم يُشاهدون في مجدهم المتجمع. نظام كامل من الحكم يُصور هكذا. كل سلطة سامية عظيمة كالشمس، أو مشتقة أو تابعة كالقمر، أو أقل ضياءً وصلاحية كالنجوم، تتمركز في المرأة. إن لها أيضاً كرامة ملكية، كما يدل على ذلك التاج الذي على رأسها. ولكن لماذا الاثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً؟ من غير شك هذا يشير إلى حلم يوسف (تكوين ٣٧: ٩)، والذي فيه رمز للمجد المستقبلي لإسرائيل، بأسباطه الاثني عشر ١. المرأة تتمتع بسلطة فخمة كاملة على الأرض، فرغم أن الآية هي في السماء فإن الواقع يُشاهد هنا.
٢- "وَهيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخّضَةً وَمُتَوَجّعَةً لتَلدَ". المرأة نجدها أمامنا كملكة، والآن نشاهدها كأم. نرى مجدها وجلالها كملكة، وألمها كأم (إرميا ٤: ٣١). من هي المرأة؟ ومن هو الطفل؟ المرأة هي إسرائيل. والطفل هو المسيح. الغالبية العظمى من المفسرين يرون في المرأة الكنيسة. والآن يرتبط إسرائيل والكنيسة كلاهما بعلاقة وثيقة مع المسيح- إسرائيل كأم له، والكنيسة عروس له. إن اعتبرنا أن الآية ٥ تنطبق على المسيح، وهذه هي الحقيقة والحقيقة الوحيدة لأن الطفل هو المسيح شخصياً، يزول كل جدل حول هذا الموضوع. إسرائيل، وليس الكنيسة، هي أم المسيّا (أش ٩: ٨؛ ميخا ٥: ٢؛ رو ٩: ٥؛ مت ١، الخ).
ربما يصعب علينا أن نعتبر آلام الأمومة تنطبق على إسرائيل مع الحقائق المتعلقة بميلاد المسيح. ولكن هذه الأمور معاً هي في حكمة الله، وإن بدت متناقضة في الظاهر (إذ متى كان هناك صراخ أو مخاض أو ألم عند مجيء المسيّا إلى العالم؟)، مع ذلك، فالأمر ليس من الصعب فهمه. الحل لهذه المسألة موجود في أشعياء ٦٦: "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً" (أشعياء ٦٦: ٧). المخاض والألم يشيران إلى ساعة المحنة الآتية على إسرائيل، الضيقة العظيمة. ولكن قبل ذلك الحدث الهام، يُولد المسيا، الابن الذكر. يؤكد النبي ميخا ذلك في مقطع واضح لا يمكن أن يُساء فهمه. فبعد الإشارة إلى ميلاد المسيا (٥: ٢)، يضيف قائلاً: "لذلك يسلّمهم إلى حينما تكون قد ولدت والدة ثم ترجع بقية إخوته إلى بني إسرائيل" (ميخا ٥: ٣). المخاض الذي تعانيه المرأة يأتي بعد ألفي سنة على الأقل من ميلاد المسيا، ويشير إلى ألمها في فترة الضيقة الآتية. "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً". يبقى لنا أن نسأل: لماذا يوضع إذاً مخاض المرأة على سبيل المغايرة مع ميلاد المسيّا؟ أولاً، لاحظوا أن الفترة الحاضرة من رفض إسرائيل، والتي تأتي بين الميلاد والمخاض، تمر بصمت في الأصحاح أمامنا؛ إنها فترة فاصلة، لا يُذكر زمنها في النبوءة التي لدينا، ولكننا نجده في مكان آخر. وثانياً، إنها تظهر الاهتمام الكبير الذي يبديه المسيا بشعبه. لقد كان يفكر في الضيقة، وصنع تدابير شرطية معينة لكي ينير بها تلك الفترة قبل عدة قرون (متى ٢٤: ١٥- ٢٨). وثالثاً، في الفترة الزمنية التي يتكلم عنها أصحاحنا يكون الشعب على وشك أن يدخل في فترة الألم المريع الفظيع، ونجد موضوع العودة في التاريخ إلى ميلاد المسيح لربط المسيح بالشعب فيه.
التنين والمرأة:
٣- ٥- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى في السَّمَاء: هُوَذَا تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسه سَبْعَةُ تيجَانٍ. وَذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُوم السَّمَاء فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْض. وَالتّنّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَة الْعَتيدَة أَنْ تَلدَ حَتَّى يَبْتَلعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ. فَوَلَدَت ابْناً ذَكَراً عَتيداً أَنْ يَرْعَى جَميعَ الأُمَم بعَصاً منْ حَديدٍ. وَاخْتُطفَ وَلَدُهَا إلَى الله وَإلَى عَرْشه". الآية اللافتة التالية هي عن "تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ". الشيطان هو هنا أمامنا في أسوأ طبع له مجابهاً المرأة. انظروا الآية ٩، وأيضاً ٢٠: ٢، التي تتبين فيها تطابق التنين مع الشيطان بما لاشك فيه. لماذا يُستخدم التنين كرمز للشيطان؟ فرعون، ملك مصر، وفي قسوته على شعب الله، وفي استقلاله المتكبر والمتعجرف عن الله، يُسمى "التمساح/التنين العظيم" (حزقيال ٢٩: ٣، ٤). نبوخذنصر، على نفس النحو، يتم الحديث عنه بنفس السياق في عنفه وقسوته (إرميا ٥١: ٣٤). يبدو أن الغاية هنا هي جمع الإشارات الكتابية العديدة في سفر المزامير، وفي الأسفار الثلاثة الأولى من الأنبياء الكبار، التي تدل على التمساح، سيد البحار، الذي يتطابق مع التنين، في قسوته النهمة الشرهة. لقد كان المصريون يعتبرون التمساح، أو التنين، حسب لغتهم الهيروغليفية، على أنه مصدر الشر وصانعه، وكانوا يعبدونه باسم تيفويوس. لون التنين، الأحمر، يشير إلى طبيعته القاتلة المتعطشة للدماء. هذه أول مرة في الكتاب المقدس يتم الحديث عن الشيطان بشكل مباشر على أنه تنين. الملوك الوثنيين، فرعون ونبوخذنصر، استعبدوا شعب الله وقمعوه، وبسلوكهم هكذا بقوة شيطانية، استحقوا لقب التنين. ولكن في الزمن الذي يتكلم عنه هذا الأصحاح من الرؤيا يكون الشيطان رئيس العالم، وحاكمه العملي الفعلي. السلطة الرومانية هي الأداة التي يتصرف بها. ومن هنا يمكن استخدام اللقب "تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ" لأول مرة للإشارة إليه.
٣- "لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسه سَبْعَةُ تيجَانٍ"، ما يُقال عن التنين هنا يُنسب أيضاً إلى الوحش (١٣: ١)، وهنا فقط تُكلّل الرؤوس بعصبة ذهبية أو تاج، رمز السلطة الطاغية المستبدة في الشرق؛ في حين أن القرون العشر للوحش متوّجة أو مكلّلة. في الحالة الأولى نجد الرؤوس بينما في الأخيرة نجد القرون. الرؤوس السبعة على التنين يجب أن لا تُفسر على أنها أبواب الجحيم السبعة لروما. التنين والوحش متمايزان، رغم ارتباطهما الوثيق معاً. الأول هو قوة روحية، والأخير قوة علنية تاريخية. الرؤوس السبعة المتوجة للتنين تشير إلى تركز السلطة الأرضية والحكمة في ممارسة قاسية طاغية. قرونه العشر غير المتوجة تشير إلى الحدود المستقبلية للإمبراطورية التي تنقسم إلى عشرة ممالك، الحكومة التي سيديرها. لو كانت الرؤوس متوجة لما كانت هناك حاجة للقرون. عندما نأتي إلى التاريخ الفعلي نجد أن القرون العشر أو الملوك يُتوجون (١٣: ١). الفكرة البسيطة من هذه هي أن رؤوس التنين متوجة، بينما قرونه العشرة ترمز إلى أن سلطته تُمارس إدارياً خلال الإمبراطورية عندما تصبح عشر ممالك. التنين يُمثل القوة غير المنظورة وراء الإمبراطورية؛ ومن هنا فإن التيجان هي على رؤوسه، وليس على قرونه. رؤوسه متوجة بعصبة ذهبية، أو شعار الملكية، كتعبير عن سلطته وحكمته الكاملتين على الأرض، المتمركزة، مع ذلك، في الوحش، السلطة الملكية التي تكون مسيطرة عندئذ على الأرض. إنه الحاكم الفعلي للمملكة الأممية العالمية الأرجاء. إنه يدير حكمها من خلال رأسه الشخصي "القرن الصغير" (دانيال ٧)، والذي هو ليس سوى أداة في يديه. طغيان وقسوة واستبداد الإمبراطورية هي نتيجة حقيقة أن الشيطان هو وراءها، ويحكمها بملء القوة والسلطة، مانحاً إياها طابعه الذاتي، المتميز بكراهية مطلقة لله ولخاصته هؤلاء.
٤- "ذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُوم السَّمَاء فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْض". لقد رأينا السلطة المحترسة وحكمة التنين، "سبعة رؤوس"؛ وهنا لدينا في ذنبه رمز تأثيره الملك للنفس؛ بمعنى آخر، أكاذيبه (أشعياء ٩: ١٥). يُقال أن الشيطان قاتل وكاذب. إنه يقتل الأجساد، ويهلك نفوس البشر. وقوته هي في رأسه؛ تأثيره المهلك في التعاليم الكاذبة والملعونة في ذنبه. القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، المشهد الذي يفوق كل المشاهد الأخرى من نور الإنجيل وامتيازاته، يبدو مقصوداً فيه العبارة "ثلث"، الذي يتوافق عموماً مع الأبواق. "نُجُوم السَّمَاء" تعني الحكام الفرادة الذين لهم علاقة خارجية مع الله في أماكن ومراكز السلطة. هؤلاء الحكام والمعلّمون المسيحيون واقعون في شرك الشيطان، ويُصدّقون أكاذيب الشيطان. "طَرَحَهَا إلَى الأَرْض" ٢. هلاكهم المعنوي والأخلاقي كامل ومكتمل. لاحظوا استخدام الزمن الحاضر، "ذَنَبُهُ يَجُرُّ"، وليس "جرّ" كما في بعض الترجمات. فعمله يُرى في الزمن الحاضر.
ثم لدينا المشهد المؤثر للتتنين يواجه المرأة كي "يَبْتَلعَ وَلَدَهَا". يا له من نور شديد الشحوب الذي يلقيه هذا على التاريخ والظروف المتعلقة بميلاد الرب كما هي مفصلة في متى ٢. لم تكن المرأة ولا إسرائيل موضع كراهية الشيطان الخاصة. لم تكن المرأة، بل نسلها هو الذي يُراد تدميره وهلاكه. في الأيام الأولى من تكوين ٣ :١٥، تم التنبؤ بعدائية الشيطان التي لا انقضاء لها لنسل المرأة. ولكن هناك نرى فقط العوامل البشرية. والآن في ضوء رؤيا ١٢: ٤ نعلم أن المحرض الحقيقي لمحاولة إهلاك نسل المرأة كان الشيطان، التنين ذي السبعة رؤوس وعشرة القرون. هيرودس، نائب القيصر في فلسطين، وممثل الإمبراطورية الرومانية، كان في الحقيقة خادم الشيطان في هذه المحاولة الماكرة ليميت الرب.وهنا تُفتح الستارة، فنجد أن الشيطان، وليس هيرودس، هو الذي يبدو مكشوفاً على أنه العدو القاتل الحقيقي للمسيح. لقد كان هيرودس ابناً حقيقياً لأبيه الشيطان (يوحنا ٨: ٤١، ٤٤). عندما أُحبطت مخططاته، وجّه غضبه الحاقد القاسي نحو الأطفال الذكور الأبرياء في رجاء أحمق بأن يكون الطفل يسوع من بين الأولاد المقتولين.
٥- "وَلَدَت ابْناً ذَكَراً". هذا التعبير المنفرد نوعاً ما لا يعني مجرد فصل في الجنس. هناك هدف أهم مقصود. اللحظة التي يُولد فيها المسيح، وخلافاً لأي طفل آخر، يُمنح سيادة كونية، ويخطو في الحال نحو أخذ حقوقه وأمجاده كمسيّا وأيضاً سيادة على مجال أوسع كابن الإنسان (انظر مز ٢ من أجل الأسبق؛ ومز ٨ للأخير).
٥- "عَتيداً أَنْ يَرْعَى ٣ جَميعَ الأُمَم بعَصاً منْ حَديدٍ". هناك أكثر من تلميح في هذه الكلمات إلى المزمور ٢: ٩. النبوءة القديمة يتم إعادة التأكيد عليها هنا، وإضافة إلى ذلك، على بدء تحقيقها تماماً. "العصا الحديدية" في يد راعي الأمم تُوضَع أولاً على الملوك الآثمين لشعوب الغرب (الآية ١٩)، ثم على ملوك شعوب الشمال والشرق (أشعياء ١٠؛ زكريا ١٢؛ ١٤). إنه يُحطم القوى الصلبة الموحدة في الأرض سواء كانت ضده أو ضد شعبه. ويُحطم الإرادة الحديدية للأمم. تقبض يداه على زمام حكم العالم، فيحطم كل قوة معارضة إلى ذرات، ويحطم إلى شظايا كل صولجان، ويحطم عروشاً وممالك إلى أن ينحني الملوك والشعوب أمامه ويقرون بسيادته عليه. في ذلك اليوم من تجلي القدرة والقوة والسلطة العظيمة التي لا تقاوم، الغالبون، وإذ يُشكلون جسداً متمايزاً بأنفسهم، كما يبدو لنا، سيكونون معه (رؤيا ٢: ٢٦، ٢٧)، ومرتبطين به في حكمه على الأمم. يا له من جلال عظيم! يا له من مشهد مشرّف سامٍ! (انظر أيضاً ١ كور ٦: ٢، ٣).
٥- بعد ذلك يأتي اختطاف الولد: "اخْتُطفَ وَلَدُهَا إلَى الله وَإلَى عَرْشه". وبالتأكيد، هذا يشير إلى الصعود، بعد ٤٠ يوماً من القيامة. ويقول مرقس هذه الحقيقة بشكل موجز في ١٦: ١٩، ولكنها تبدو بشكل أكمل واستدلالي أكثر كما يرويها لوقا، الطبيب الحبيب (الأصحاح ٢٤: ٥٠، ٥١؛ أعمال ١: ٩- ١١). إن مكانته هي الأعلى وهي الأقرب. يُقال أحياناً: "الكنيسة مُشتَمَلة في اختطاف الابن الذكر". ولكننا لا نعتقد ذلك. صعود المسيح وانتقالنا يُنظر إليهما دائماً كحادثين منفصلين. صعوده هو علامة على المجد الشخصي، الذي لا نستطيع أن نشاركه فيه. وفي الحقيقة كلمة "صعود" لا تُستخدم أبداً في ما يختص بالقديسين. لا يمكن أن نجد نصاً كتابياً يؤكد الافتراض بأن الكنيسة ستُختطف أيضاً مع الابن الذكر.
هناك ثلاثة حقائق نجدها في الآية ٥: (١) ميلاد الابن الذكر؛ (٢) مصيره؛ (٣) اختطافه. والآن ليس هناك ما يُقال عن حياته وموته. ميلاده واختطافه يُوضعان معاً وكأنه ليس من فترة ٣٣ سنة تفصل بين الحادثتين. ما سبب ذلك؟ السبب هو أنه ليس لدينا تاريخ في هذا الأصحاح. المسار التاريخي للأحداث يجب أن لا نبحث عنها داخل هذا الجزء من الكتاب المقدس، الذي يتناول الأمور من وجهة نظر الله. الهدف الروحي والغاية، كما تراها السماء وتفسرها، هي ما نراه في هذا الأصحاح. الآيات في السماء؛ والواقع والتاريخ هما على الأرض. الهدف هنا هو دمج موضوعين معاً. الأول ربط المسيا بإسرائيل، على الأقل بيهوذا التي تُوشك على أن تدخل ساعة الألم المعينة لها، ضيقة يعقوب (إرميا ٣٠: ٧)؛ والثاني، الربط بين الطفل ومصيره العجيب المدهش، ألا وهو حكم جميع الأمم. كلا هذين الأمرين مرتبطان بميلاده، وليس بحياته هنا، التي لا يأتي الكاتب على ذكرها، بحيث لا نرى إلا الارتباطات أو المفاصل الضرورية، أعني بها ميلاده وصعوده. لربط المسيا بإسرائيل والأمم لا حاجة لذكر حياته، ولذلك أُغفِلَت. يبقى إضافة أن المسيح يُختطف إلى الله وإلى عرشه، حيث يُسمح له بالمطالبة بحقه بأن يكون وريثاً لكل شيء، وإن كان قد أُنكر عليه على الأرض. الله والعرش سيظهران حقه في ذلك الادعاء، ومن ذلك الوقت سينتقل المسيح إلى امتلاك إرثه المقدر له في زمن الله وطرقه.
هروب المرأة:
٦- "وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرّيَّة حَيْثُ لَهَا مَوْضعٌ مُعَدٌّ منَ الله لكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً". ما حدث للابن الذكر وما حدث للأم يُفترض أن يكونا حادثتان متقاربتان. ولكن الحال ليس كذلك، إذ لاحظنا أن لدينا فترة فاصلة مؤلفة من ٣٣ سنة بين ميلاد الطفل واختطافه، وكذلك فاصل زمني يُقارب الألفي سنة يأتي بين اختطاف الطفل وهرب المرأة. في الواقع كل تاريخ المسيحية يقيم جسراً في الزمن بين صعود المسيح إلى هرب المرأة إلى البرية. القول بأن تشتت يهوذا إلى "أربع أصقاع الأرض" (أشعياء ١١: ١٢) هو ما يرمز إليه هرب المرأة إلى البرية أمر أسخف من أن نحتاج لدحضه. البعض قال، وهذا أمر في غاية الغرابة، وافترض هروبين، نظراً إلى أن الآية ١٤، التي فيها تتكرر تأتي بعد الحرب في السماء. صحيح أن هناك فاصل بين القول بهرب المرأة في الآية ٦ وتكرار الكلام في الآية ١٤. ولكن الغاية هي إظهار السبب الذي اضطُر المرأة للهرب. التنين الذي يُطرد من السماء يضطهد المرأة، التي تتلقى معونة من الله بطريقة تدبيرية خلال هربها من وجه عدوها الكبير. القول الذي يرد في الآية ٦ ويقاطع، يُستأنف في الآية ١٤. بين هاتين الآيتين لدينا حادثة الحرب في السماء والابتهاج الذي ينجم عن النجاح فيه. قال أحدهم: "الآيات الست الأولى تعطينا صورة كاملة". طرد الشيطان سابق للهروب، وفي الحقيقة هو السبب المباشر لرحلتها السريعة. كان لابد من هذا التفسير لتعليل الهروب إلى البرية. قوة التعبير "برية"، كما في ١٧: ٣ أيضاً، تشير إلى حالة خالية من الموارد الطبيعية، مكان عزلة. الظروف المزعجة والمؤلمة ليهوذا خلال فترة الضيقة يمكن وصفها ببراعة بأنها "برية". إنها يوم ضيقة يعقوب العظيم (إرميا ٣٠: ٧)، "عندما تشحب كل الوجوه" (الآية ٦)؛ الزمن المريع يرسمه بالتفصيل ربّنا في حديثه النبوي العظيم على جبل الزيتون (متى ٢٤: ١٥- ٢٨؛ مرقس ١٣: ٤- ٢٢؛ انظر أيضاً الأصحاحات ١٣، ١٧ من سفر الرؤيا).
٦- "حَيْثُ لَهَا مَوْضعٌ مُعَدٌّ منَ الله. لكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً". تكرار الظرف "هناك" ليس مجرد حشو في الكلام في البلاغة العبرية، كما قال أحدهم، بل قد كُتبت عن عمد للإشارة إلى تحديد المكان المعد لها حيث ستتم إعالتها والعناية بها. الله يؤمن للمرأة المكان والقوت كليهما لمدة ١٢٦٠ يوماً. الفترة نفسها يُعبر عنها بصيغ مختصرة أكثر كشهور مؤلفة كل منها من ٣٠ يوماً (الأصحاح ١١: ٢؛ ١٣: ٥). ولكن هنا التعداد الدقيق للأيام يدل على اهتمام الرب الحاني بقديسيه المتألمين. إنه يعد الأيام الواحد تلوى الآخر.كل هذه الفترات تشير إلى نصف الأسبوع الأخير من الألم النبوي، الفترة الختامية في سنوات دانيال، والتي تبلغ ٤٩٠ بمجملها. اليهود المتألمين في أورشليم (الأصحاح ١١)، وأولئك الذين خارجها (متى ٢٤: ١٦)، يُشكّلون جسداً واحداً من الشهود اليهود. وإننا نعتقد أن أولئك الذين يشهدون في أورشليم نفسها يستشهدون على الأرجح، بينما الذين نجو بهربهم إلى الجبال من مختلف قرى وبلدات يهوذا لدى اندلاع الاضطهاد ينجون منه. الجماعة المُستشهدة من يهوذا هم عازفو القيثارة والمغنون على بحر الزجاج (الأصحاح ١٥). الجماعة التي حفظت من يهوذا، أخوة ورفقاء المذبوح، هم أولئك الذين مع الحمل على جبل صهيون ٤ (١٤: ١).
حرب في السماء:
٧- ٩- "وَحَدَثَتْ حَرْبٌ في السَّمَاء: ميخَائيلُ وَمَلاَئكَتُهُ حَارَبُوا التّنّينَ. وَحَارَبَ التّنّينُ وَمَلاَئكَتُهُ وَلَمْ يَقْوُوا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذَلكَ في السَّمَاء. فَطُرحَ التّنّينُ الْعَظيمُ، الْحَيَّةُ الْقَديمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْليسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذي يُضلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ - طُرحَ إلَى الأَرْض، وَطُرحَتْ مَعَهُ مَلاَئكَتُهُ". المشهد الموصوف في هذه الآيات لا يتم الحديث عنه على أنه آية. حضور الشيطان في السماء هو واقع. من المؤكد أن حرباً ستكون هناك بين قوات الخير والشر تحت إمرة قائديهما، ميخائيل والتنين. إن القول بأن الشيطان له مكان "في السماء"، ولكن ليس في حضرة الله مباشرة، يستغربه كثيرون ولا يُصدقونه؛ ويُعتبر أمراً غريباً أن يجري الحديث عن صراع فعلي في ذلك المكان الذي ليس هناك مكان آخر مثله من حيث السلام والراحة، ذلك المكان الذي "ما من ظل ليل فيه، ولا شمس غائمة، بل ظهر مقدس عالٍ أبدي".
ولكن عند أخذنا سعة السموات في الاعتبار لا نعود نتعجب. ما من ابن في منزل الآب، وما من قديس هناك، يحتاج أبداً لأن يخاف من الصراع بين القوات المتحارب. لكن الخطيئة حُبل بها في أحشاء الشيطان. فهو لم يكتفِ بأن يحتل مكانة مخلوق، رغم أنه كان ربما من أعلى المخلوقات العاقلة الروحية (حزقيال ٢٨: ١٢- ١٧)، فتاق إلى العرش بحد ذاته. لقد خطِئَ. وسقط أخلاقياً من مكانته الرفيعة. ولكنه لم يُطرَح عندئذ من السموات. مخلوقات روحية أخرى مرتبطة معه في انحطاطه الأخلاقي. بركات القديسين هي في الأماكن السماوية (أفسس ١: ٣)، فهناك أيضاً يجلسون، ولكن في المسيح (٢: ٦). وهناك آخرون إضافة إلى القديسين في السماويات (٣: ١٠)؛ وهناك صراعنا المسيحي الآن يكون (ليس بعد الموت أو المجيء- إذ ما من حرب عندئذ) بل هو الآن ضد الأرواح الشريرة (٦: ١٢). والآن جاءت لحظة الطرد الأخير للشيطان من "السماء"، وقوات الشر معه. يجب أن يُطرح إلى الأرض، ثم إلى الهاوية، وأخيراً إلى بحرية النار، ليس لكي يحكم، بل لكي يتألم إلى الأبد، وهو أكثر الكائنات دناءة وانحطاطاً. الخطوة الأولى لتنفيذ الدينونة على الشيطان هي طرده الإجباري من الأعالي. إنه الزمان والمناسبة التي يشير إليها النبي أشعياء. "ويكون في ذلك اليوم أن الرب يطالب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض" (أشعياء ٢٤: ٢١). الرب سيوزع عقابنا إلى الملائكة الخاطئة في مكانها "في الأعالي"، وللقديرين على الأرض أيضاً. ما من أحد مهما علت مكانته أو مركزه سينجو من العقاب.
ميخائيل:
ولكن من هو ميخائيل (من مثل الله)؟ هذا الملاك المميز يُذكر اسمه خمس مرات في الكتاب المقدس (دانيال ١٠: ١٣، ٢١؛ ١٢: ١؛ يهوذا ٩؛ رؤيا ١٢: ٧). يبدو أنه زعيم طغمة الملائكة، كما يدعوه يهوذا بـ "رئيس الملائكة" ٥، وفي دانيال ١٠: ١٣، حيث يُذكر اسم ميخائيل لأول مرة، فهنا يتم الحديث عنه على أنه "أول الرؤساء". في كل مقطع من المقاطع الخمسة التي يرد فيها ذكر اسمه، وفي فحواها المتنوع، الشعب اليهودي هو صاحب العلاقة بهذا الملاك. من الواضح أنه الملاك الذي تُعهد إليه مسألة العناية والحراسة بمصالح بني إسرائيل. "وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك"، أي الشعب اليهودي (دانيال ١٢: ١). الفترة التي يشير إليها النبي هي نفس الفترة التي يراها الرائي في بطمس. الضيقة العظيمة ستأتي. ولكن ميخائيل سيسعى جهده لئلا يهلك بنو إسرائيل. "سيخلص (يعقوب) منه" (إرميا ٣٠: ٧). ميخائيل هو ملاك مقاتل. الصراعات بين فارس وبابل يحكمها في الظاهر قيادة وقوى قائد جيش فارس الشهير، كورش، الذي قالت النبوءة أنه سيكون هو الشخص الذي يهزم المملكة البابلية وسيحرر الشعب اليهودي من منفاهم الطويل الأمد الذي استمر ٧٠ سنة (أشعياء ٤٤: ٢٨؛ ٤٥: ١- ٤)، ولكن لم يكن الحال هكذا فعلاً. حركات الأمم وحروبهم وسياستهم الاجتماعية تشكّلها وتوجّهها قوى روحية أسمى. هناك ملائكة، أخيار وأشرار، يؤثّرون بشكل دائم على الناس والحكومات، والأصحاح ١٠ من دانيال هو مثال واضح على ذلك. الحروب والنزاعات على الأرض ما هي إلا انعكاس للقوى الروحية المتعارضة في السموات الأدنى. الصراعات غير المنظورة بين قوى النور وقوى الظلمة حقيقية وجدّية (١ صم ١٦: ١٣- ١٥؛ ١ مل ٢٢: ١٩- ٢٣)، وبتأثير هذه الكائنات الروحية يُحكم العالم بطريقة عنائية. القوات الملائكية التي تعتني بقديسي الله على الأرض (عب ١: ١٤؛ أع ١٢) هي حقيقة معترف بها عموماً، ولكن عملها في تحديد وتقرير مسألة المعارك وتشكيل سياسة الأمم، والاهتمامات البشرية عموماً، لا يميزها كما ينبغي. بالطبع كل شيء هو تحت سيطرة يد الله الحكيمة والقوية. هو الفيصل الأسمى والأعلى في حياة البشر وتاريخههم. في الأصحاح المشار إليه (دانيال ١٠) يذهب ميخائيل لمساعدة ملاك غُفل الاسم عمل جاهداً في بلاط فارس لإحدى وعشرين يوما (الآية ١٣). بمساعدة رئيس الملائكة تمّ توجيه مصير فارس، ما أدى إلى حقيقتين مترابطتين. بابل المُضطَهِدة تُهزم، ويهوذا المُضطَهَدة تتحرر. يظهر ميخائيل أيضاً بدور فعّال في الصراع حول جثمان موسى. اعتقد الشيطان بأن حيازة جسد موسى ستُوقع بلا شك إسرائيل في شرك عبادته، كما فعلوا بالحية النحاسية (٢ مل ١٨: ٤). ولكن ما من يد بشرية حفرت قبر موسى. فالربّ "دفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور. ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" (تثنية ٣٤: ٦). يهوذا ببضعة عبارات حيوية يُخبرنا بسبب الصراع بين الشيطان وميخائيل. والآن الصراع في أصحاحنا في سفر الرؤيا ليس مجرد صراع بين رئاستين وحسب، كما ذكر يهوذا، بل إن القوى الخاصة بكل منهما تتجمع تحت إمرة قائديهما المميزين. وهكذا "ميخائيل وملائكته حاربوا التنين. وحارب التنين وملائكته".
السموات تصفو:
مسألة الحرب بين الجيوش الروحية المتصارعة أمر لاشك فيه. الشيطان وملائكته يُهزَمون.
٨- "وَلَمْ يَقْوُوا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذَلكَ في السَّمَاء". تعرض التنين شخصياً لهزيمة نكراء، في حين طُردت كل قوات الملائكة الأشرار "من السماء " إلى الأبد. لدى عودة التلاميذ السبعين من إرساليتهم يقولون للرب وبسرور كيف أنه "حتى الشياطين تخضع لنا باسمك". لم يكن ذلك سوى ذرة من انتصار كامل ونهائي على العدو وقوته، وهذا ما تنبأ عنه الرب عندما أضاف مباشرة قائلاً: "رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء" (لوقا ١٠: ١٧، ١٨). مهما كانت مقاومته لطرده من السماء، إلا أن سقوطه سيكون له أثر كبير وفوري كمثل لمع البرق. من اليوم الذي دخل فيه الكبرياء والطموح المتكبّر إلى قلبه، عندما أخطأ، لم يعد له مكان في السماء، حيث كان يتَّهم قديسي الله بدون توقف، وإنه ينفذ إلى الأرض أيضاً خلال مهمته في الأذية. إنه زعيم الأرواح الشريرة، وكل قوة روحية آثمة من أي نوع كانت. الشيطان شخص حقيقي، وليس تأثيراً، بل كائن روحي حي. الرؤيا التي أمامنا تجد تحقيقها الفعلي في وسط الأسبوع النبوي- تقريباً عند انتهاء النصف الأول. الاتفاق الذي يُعقد بين الملك الروماني والشعب المسُتعاد، أو "الكثيرين"، أي جمع الناس، يُحترم، وتحفظ بنوده خلال نصف الفترة الداخلة في العهد المؤلفة من سبع سنوات، (دانيال ٩: ٢٧). ولكن الملك الروماني، وإذ يُحرضه الشيطان، يُخالف العهد في "منتصف الأسبوع". والمشهد أمامنا يهيئ لذلك، ويروي في الحقيقة قصة ثورة الشر الأخيرة، المدنية والدينية، على الأرض. إذ يُطرد من السماء، يمتلك الشيطان العالم الهالك، ويُمارس قدرته التي لا تكلّ في تدمير وهلاك كل من يثبت لله. الحرب في السماء تؤدي إلى انتصار ميخائيل وملائكته المعاونين. ويُطرد التنين وملائكته من السماء، ولا يعودون أبداً إليها. وعندها يُوجّه الشيطان غضبه المرتبك ضد المرأة، أو ما تُمثله أمام الله بالشهادة، أي البقية اليهودية في الأرض. الضيقة (التي تغطي في مداها كل الحقبة النووية، ولكن تؤثر بشكل خاص على فلسطين بأسوأ أشكال المعاناة وأشدها) تدون للفترة المحددة تماماً المؤلفة من ١٢٦٠ يوماً. لذلك نرى واضحاً أن طرد الشيطان من السماء وسقوطه إلى الأرض هو على أبواب الضيقة وهو في الحقيقة ما يُسبّبها.
إدانة الشيطان:
هناك ثلاث مراحل واضحة متمايزة في إدانة الشيطان. الأولى، أنه يُطرد من السماء إلى الأرض مع الملائكة زبانيته (الآية ٩)؛ والثانية، أنه يُقيد كسجين في الهاوية لألف سنة (٢٠: ٣)؛ والثالثة، أنه يُسلم إلى العذاب الأبدي في بحيرة النار (الآية ١٠). أول عمليتين في الدينونة تجري بمساعدة الملائكة؛ وأما الثالثة والأخيرة ففيها عرض للقدرة الإلهية بصرف النظر عمّن سيُنفّذها والذي لا يُذكر اسمه. وهذه ستكون في بحيرة النار. فهناك سيكون عويل ألم لا يهدأ أبداً، ودموع لا تجفّ البتة. ما من شعاع نور أو بصيص أمل يدخل على الإطلاق إلى تلك الكهوف من اليأس الأبدي. ما من فكر يستطيع أن يتخيل وما من قلمٍ يستطيع أن يصف الرعب الكائن في ذلك المصير المشؤوم. حكم الشيطان في بحيرة النار ما هو إلا حلم وهمي، وليس من ذرة في الكتاب المقدس تؤيد هذه الفكرة. فالشيطان سيعاني هناك ولن يملك أو يحكم وسيكون أكثر مخلوقات الله خسَّةً وانحطاطاً. كم هو حليم إلهنا، وكم هي أكيدة بآن معاً الدينونات التي يُهدد بها! الشيطان، وبعد سبعة آلاف سنة من الكراهية القوية تجاه الله، والعداء والضغينة نحو خاصة الله، يُحطَّم في النهاية، ويُحرم من القوة والسلطة والقدرة على إلحاق المزيد من الأذى، ويُغلق عليه مع ملائكته إلى المصير "المعد" لهم، "النار الأبدية"(متى ٢٥: ٤١).
أسماء الشيطان وعمله:
يُرى التنين هنا من حيث ارتباطه بالأرض والجنس البشري؛ ولذلك نجد هذه الأسماء الأربعة بنفس الترتيب كما في الأصحاح ٢٠: ٢ أيضاً.
(١) "التّنّينُ الْعَظيمُ"، الذي يُسمى به بسبب قسوته الوحشية. إن الأساطير والحضارة الهيروغليفية تُصور التنين كمسخٍ في الشكل والمظهر خارج إطار مملكة الحيوان، وفيه مزيج من البراعة والقسوة التي تفوق البشر.
(٢) "الْحَيَّةُ الْقَديمَةُ" تُذكّرنا بمحاولته الأولى والناجحة في تدمير الزوجين السعيدين والبريئين في عدن (تك ٣). الخداع والبراعة والمكر الشديد هي صفات مميزة للشيطان من بدء تاريخه في العلاقة مع الجنس البشري. لطالما كان قاتلاً وكاذباً (يو ٨: ٤٤؛ ١ يو ٣: ٨). الْحَيَّة "الْقَديمَة" تشير إلى اتصاله التاريخي الأول مع البشر،، واللقب "حية" ٦ يدل على مكره (٢ كور ١١: ٣). لا حاجة إلى القول أن الشيطان هو روح وشخص حقيقي.
"الْمَدْعُوُّ" يشير الآن إلى أسماء شخصية، (٣) "إبْليسَ" وَ(٤) "الشَّيْطَانَ". اللقبان السابقان وصفيان- القسوة والخداع؛ والاسمان الأخيران، إبْليسَ وَالشَّيْطَانَ، يشيران إلى التنين كشخص. الشيطان هو كائن تاريخي حقيقي، ويُستخدم اسمه في اللغة اليونانية للعهد الجديد بصيغة المفرد فقط. أما "شياطين" فيجب أن تكون "أرواح شريرة". ولأنه الشيطان، فهو المُتَّهِم، والخائن، والمُجرِّب. وكإبليس، هو الخصم الصريح والمُعلَن للمسيح والعدو العلني لله ولشعبه (انظر أيوب ١؛ ٢؛ زكريا ٣؛ مت ٤؛ أف ٦: ١١؛ ١ بط ٥: ٨).
١. ليس منطقياً أو سليماً دائماً أن نطبق رموز القدماء على تفسير الصور المجازية النبوية. بسبب تعدد وتباين الأنظمة الدينية فيها، والذي استُخدمت فيه الكتابة الهيروغليفية والرمزية بشكل كبير، وعادة في التعبير عن أفكار متناقضة تماماً، لا يمكن تطبيق علم الرمز هذا بشكل أكيد في تفسير ما في الكتاب المقدس. الكتابات المقدسة تفسر نفسها بنفسها. كل رمز في سفر الرؤيا يمكن فهمه عقلانياً بالإشارة إلى أجزاء أخرى من الكلمة الإلهية. لا يحتاج الكتاب المقدس إلى نور العالم الوثني في تفسيره. إنه يعطي النور ولا يأخذ نوراً. حول الأعداد في الكتابات المقدسة كتب الراحل و. ف. غراند دراسة معمقة؛ وكذلك فعل الدكتور بولينغر، والراحل ي. سي. بريسلاند فساهموا كثيراً في إنعاش هذا القسم الهام جداً في المعرفة الكتابية. ولكن الموضوع ليس جديداً، ولا يقتصر تفسيره على الزمن المعاصر. ففي كل العصور كان علم الرموز يشغل فكر الكثيرين من العلماء الجدّيين. الأعداد في سفر الرؤيا شغلت بشكل كبير فكر وأقلام لاهوتيين من كل العصور. العدد المقدس ٧ هو بلا شك العدد الأكثر استخداماً في سفر الرؤيا، والذي يرد ٥٣ مرةً. إنه يشير إلى ما هو مثالي أو كامل (العدد ٧ رمز الكمال). وهذا العدد عادة ما يُقسم إلى جزئي أي ٣ و٤، فيدل العدد ٣ إلى ما هو إلهي، ويدل العدد ٤ إلى ما هو بشري عموماً، أو إلى العالمية. العدد ١٢، كما هو مستخدم في نصنا، وأيضاً في أماكن أخرى، يشير إلى الحكم الإداري في أيدي البشر، كما في النظام المدني أو الكنسي أو كليهما مجتمعين كما في الاتحاد الحقيقي بين الكنيسة والدولة الذي نجده في الأصحاح ٢١. يتكرر ذكر العدد ١٢ كثيراً في الرؤيا. وكانت الأمم الوثنية تستخدم هذا العدد للدلالة على العمل الإداري. وتاريخ الصين، ومصر، وفارس، واليونان، وروما، الخ.، فيه الكثير من الأدلة التي تؤكد هذا القول.
٢. التعبير المشابه نوعاً ما لهذا في دانيال ٨: ١٠ يشير إلى أشخاص يهود بارزين، وهو عمل ملك الشمال لفلسطين. ما لدينا هنا هو العمل المهلك للشيطان في أوربا وسط أشخاص مسيحيين بارزين.
٣. ملوك إسرائيل يُدعون رعاة (حزقيال ٣٤). داود، والمسيح، وضد المسيح يتم الحديث عنهم أيضاً هكذا.
٤. الجماعة المُستشهدة لا يُذكر عددها؛ أما أولئك الذين يُحفظون فيُقال أن عددهم ١٤٤٠٠٠، (١٤: ٣). وإن الـ ١٤٤٠٠٠ الوارد ذكرها في الأصحاح ٧ هم جماعة أخرى مختلفة. الأولى هم من يهوذا، وأما الأخيرة فهي من كل بني إسرائيل.
٥. الكتاب المقدس لا يتكلم عن رؤساء ملائكة، بل عن واحد فقط، وذلك في مقطعين من العهد الجديد (١ تسا ٤: ١٦؛ يهوذا ٩). بينما بولس يشير إلى المسيح، رئيس السلطة الملائكية الحقيقي؛ والإشارة الأخرى ترد عند يهوذا إلى ذلك المخلوق الملائكي الذي يُوجّه مصائر بني إسرائيل. الملاكان الوحيدان اللذان يُذكر اسمهما بشكل محدد وواضح هما ميخائيل وجبرائيل.
٦. نحن على قناعة بأن تكوين ٣ هو سرد حقيقي وتاريخي لما حدث فعلاً. أن يكون الشيطان قد تكلم من خلال حية حقيقية أمر لاشك فيه. لا حاجة للافتراض، كما فعل يوسيفوس ومترجمه العلّامة ويستون، بأن الأفاعي وكذلك بقية الزواحف من نفس النوع كانت لها ملكة التكلم قبل السقوط، ولكن فقدت هذه الملكة كنتيجة منطقية لسلوكها السيء تحت سطوة الشيطان. هناك ثلاثة أمثلة بارزة مميزة في العهد القديم عن أمور عجائبية تقوم بها الحيوانات الدُنيا: (١) فهناك أفعى تتكلم (تك ٣)؛ (٢) وهناك ذكاء معين وقدرة على الكلام عند الحمار الذي يركبه بلعام (عدد ٢٢: ٢١- ٣٠)؛ (٣) والحوت الذي ابتلع يونان يجيب على صوت الرب بأن يلقي بالنبي التائب على أرض يابسة جافّة (يونان ٢: ١٠). إننا نؤكد وبشدة على الدقة التاريخية لهذه الروايات، والتي يُستشهد بها أيضاً في العهد الجديد (انظر ٢ كور ١١: ٣؛ ٢ بط ٢: ١٥، ١٦؛ مت ١٢: ٤٠). وذاك الاستار أو قطعة العملة المعدنية التي وُجدت في فم أول سمكة أمسكت بها الصنارة (مت ١٧: ٢٧) هي مثال آخر على القدرة الإلهية والمعرفة المسبقة ما يؤكد بأن للخالق سلطة مطلقة على أعمال يديه. إن خلق الأفاعي نجده في تك ١: ٢٤، ٢٥؛ ٣: ١. واللعنة الإدانية التي يطلقها الله على الأفعى نجدها في تك ٣: ١٤. وإن انحطاط شانها حتى في الأيام الألفية نجد الحديث عنه في أشعياء ٦٥: ٢٥.