تفسير الرؤيا والخطوط النبوية العريضة

الأصحاح ١

مدخل، الآيات ١- ٨؛ والرؤيا المجيدة للمسيح، الآيات ٩- ٢٠

طابع هذا السفر:

في هذا السفر النبوي الوحيد في العهد الجديد والممتع بشدة يُزاح الحجاب، وينكشف المستقبل من خلال سلسلة من الرؤى الشاملة المنوعة التي يراها كاتب سفر الرؤيا. النور والظلام، الخير والشر، هي قوى أخلاقية في حالة تعارض. الله، والمسيح، والشيطان؛ الناس، مخلَّصون وغير مخلَّصِين؛ الملائكة، قديسون وساقطون، هم الفاعلون في هذا السفر المدهش ذي المخطط والهدف الواضحين. تتبدل المشاهد وتتغير، بين الآن والأبدية. السموات، والأرض، والهاوية، وبحيرة النار هي من خلفية مسرح الأحداث. أغنية المنتصر ونحيب المهزوم تظهران كلاهما بين ذاك السعيد وذاك المحزون. وفي النتيجة، الله ينتصر، وأمجاد المسيح الألفية والأبدية تسطع بروعة لا تتبدد ولا تتلاشى. ثم يأتي قول النبي العبراني أن: "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ".

السماء والأرض الجديدتان (٢٢: ١) تصبحان المساكن الأبدية والخاصة لكل القديسين والأخيار، بينما بحيرة النار (٢١: ٨) سيجتمع فيها كل من كان آثماً ومعاكساً لله.

النعمة هي الكلمة المفتاح للتواصلات الرسالية السابقة. حكومة الله العامة في تعامله مع الشر وفي تعظيم الخير هي العبء المميز في هذا السفر العميق الممتع.

الاسم:

لم يضع كُتاب الأسفار المقدس أسماءً على أسفارهم، وجميع الأسماء في الأسفار في كتبنا المقدسة، ما عدا واحداً أو اثنين، ليس للوحي الإلهي تدخل في وضعها. الاسم الذي يُطلق على سفر الرؤيا خاطئ في الواقع ومُضلل، كما نجده في الكتب المقدسة المألوفة، وحتى في مختلف اللغات والترجمات. فعنوان السفر ليس "رؤيا يوحنا" ١، بل كما ورد في النص "إعلان يسوع المسيح" (أو بترجمة أخرى: "ما كشفه يسوع المسيح") كما في (رؤيا ١: ١). سواء كانت الصفة "الإلهي" قد أُضيفت بدافع التقوى السامية المفترضة عند الكاتب ولتميّزه عن يوحنا الرسول، هي مسألة ليست بكبير أهمية. لدينا الحرية الكاملة بأن نرفض الاسم ككل. تقليد الكنيسة الذي يقول أن يوحنا الرسول هو كاتبها يعود إلى العام ١٧٠ م أو قبل ذلك بقليل. إن يوحنا كاتب الإنجيل الرابع، والرسائل الثلاثة التي يتصدرها اسمه، هو بلا شك الكاتب الملهَم بهذا السفر؛ وهناك يوصف ويُذكر بالاسم بشكل واضح صريح.

المقدمة (الآيات ١- ٣):

يحوي مدخل سفر الرؤيا على مقدمة (الآيات ١-٣)، وتحية (الآيات ٤- ٦)، وشهادة نبوية (الآية ٧)، وإعلان إلهي (الآية ٨).

١- "إعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسيح". هنا يُرى يسوع المسيح كإنسان، وليس كإله كما في يوحنا ١: ١، ٢. إن طبيعتي ربنا الإلهية والبشرية، كلتاهما كاملتين، ومتمايزتين في المهمة والفعل، ولكن لا يجب الفصل بينهما. ليس هناك سوى مخلص واحد ووسيط واحد، الذي هو إله حق وإنسان حق، وعلى هذه الحقيقة الجوهرية يستند كل نظام المسيحية. الإيمان يُصدّق ويدرك الأمر بشكل أكيد رغم عدم الإدعاء بحل كل سر الأنبياء. إن كياننا نفسه المعقّد هو سر، فكم بالأحرى كينونة ربنا المعبود.

الإعلان يتبدى في الرؤى التي يراها الرائي في جزيرة بطمس. كلمة "إعلان" تعطي وحدة للتواصلات والمكاشفات العديدة والمتنوعة، سواء كانت بكلمة أو برؤيا، المحتواة في هذا السفر. ربما هناك عدة إعلانات، ولكنها تشكل كلاً متضاماً، وهذا يخص يسوع المسيح. ليس فقط أن إعلان يسوع المسيح قد أُعطي له من قِبل الله، بل أيضاً هو الموضوع الرئيسي في هذه الإعلانات كما في كل النبوءة. أشعة المصباح النبوي موجهة نحو مجد المسيح الألفي، أياً كان حامل هذا المصباح سواء كان أشعياء العظيم أو يوحنا الحبيب.

١- "الَّذي أَعْطَاهُ إيَّاهُ اللهُ". إن الملكوت يخص المسيح بفضل كينونته، ومع ذلك، فكإنسان يقتبله من الله (لوقا ١٩: ١٥)، وسيسلّمه من جديد إلى الله (١ كور ١٥: ٢٤). ولذلك فإن الإعلان، الذي يتعلق بشكل أساسي بالملكوت، يعطيه الله هنا للمسيح كإنسان.

١- "لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". التعبير "عبيد" يُستخدم بالمعنى الدقيق والحصري في كلا العهدين (القديم والجديد). لقد كان أنبياء العهد القديم دقيقين جداً في كلامهم (عاموس ٣: ٧؛ دانيال ٩: ٦؛ الملوك الثاني ١٧: ١٣)، كما أيضاً الرسل والآخرون ذوي المكانة المرموقة في الكنيسة (فيل ١: ١؛ كول ١: ٧، انظر الأصل اليوناني). من جهة أخرى، تُستخدم الكلمة في العهد الجديد لتشمل كل المؤمنين (رومية ٦: ١٩- ٢٢). على ما نعتقد، إنها تنطبق بشكل واسع وعام ويمكن فهمه من هنا (قارن مع الأصحاحات ٢: ٢٠؛ ٧: ٣؛ ٢٢: ٣).

الموضوع، إذاً، في الإعلان (سفر الرؤيا) هو لإظهار المستقبل القريب لخدام المسيح أو عبيده. إن علاقة الخادم تختلف عن علاقة الابن (مركز)، أو الابن (علاقة)، أو الصديق (حميمية)، وهي أنسب تعبير يُستخدم في هذا السفر الذي يخاطب كل مسيحي فرد وليس فقط إلى الطبقة الرسمية حصراً.

لذلك فإن تجاهل هذا السفر أو اعتباره دراسة لا فائدة منها، أو اعتبار الرؤى فيه على أنها أحلام يقظة، أو اعتبار رموزه متعذّرة التفسير، يعني أن يجلب المرء على نفسه الضلال، وأن يُخزي الله الذي أوحى بنفسه بهذا السفر، وسلب البركة الخاصة الموعودة من النفس (الآية ٣). هذا التحذير ينطبق على كل خادم ليسوع المسيح، أي كل مسيحي.

١- "عَنْ قَريبٍ". هذه العبارة تأسر انتباهنا. قرب تحقيق الأحداث التي يتم التنبؤ عنها هنا، كما عودة الرب القريبة، نقطة الذروة في النبوات، تُنقل إلينا بكلمات دقيقة في بداية السفر وفي نهايته (الأصحاحات ١: ١؛ ٢٢: ٧، ١٢، ٢٠)، ومن هنا تأتي الصعوبة لا يمكن تذليلها ألا وهي في محاولة تفسيرها على أساس تاريخي. يمكن تطبيق نبوءات بشكل عام على أحداث ماضية وحاضرة، لأن التاريخ يعيد نفسه على الدوام. الحقائق قد تكون جديدة، ولكن المبادئ السلوكية الضمنية، كالكبرياء، وحب المال، وحب السلطة، تبقى نفسها في جميع العصور، وينتج عنها على الدوام حصاد ينتشر عبر التاريخ. ولذلك فمع إمكانية التحقيق الجزئي لنبوءات محددة في السفر، أعني الأصحاحات ٦- ٢٢: ٥، فإننا مُضطَرون إلى الاستنتاج بأن أزمة مستقبلية قصيرة الأجل ستمر تحت الأختام، والأبواق، والجامات، بعد انتقال قديسي العهد القديم والجديد إلى السماء (١ تسا ٤: ١٧). إننا نبحث عن سلسلة متتابعة من الدينونات خلال الوقت الذي يكون فيه قديسوا الماضي والحاضر في ديارهم في السماء. وقبل أن تبدأ هذه (الأصحاح ٤)، وخلال استمرارها (الأصحاح ١٢)، وبعد أن تأخذ مجراها (الأصحاح ١٩)، يُرى شعب الله السماوي في منزلهم في الأعلى.

لذا فأقرب تطبيق إلى زمننا هو أساس تفسيرنا. إن كانت الكتابات النبوية ككل وبتفصيل يجب أن تُفسر بشكل رصين وكامل، فإن علينا أن نطرح الخطأ السائد الضار في أن يكون التاريخ هو مفسّرها. نعلم أن الموحي بكل الكتاب المقدس هو الروح القدس: "يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ" (يوحنا ١٦: ٣). إن التحقيق الكامل والدقيق للجزء النبوي الموجود في الرؤيا هو في المستقبل؛ ولا يمكن أن يُرى على أنه تحقق. لنأخذ مثلاً واحداً على الأقل، الوحش أو إمبراطورية روما. تظهر لنا النبوءة أن السلطة اللاتينية في الطور الأخير من تاريخها، قبل دمارها، وفي حالة لم تظهر عليها بعد. يتم تمثيلها كقوة عظيمة مُجدّفة ومُضطَهدة للمؤمنين موزّعة على عشرة ممالك تابعة لحكم ملوك تابعين خانعين خاضعين لرئيس أو رأس قوي، وجميعهم يحكمون في خضوع إرادي إلى سيدهم الأعلى والأسمى (الأصحاحات ١٣، ١٧)، وفي تحالف مع يهوذا المرتدة في فلسطين. لم تظهر روما بهذا الشكل الجديد لا أثناء الحكم الملكي ولا بعده- مما يجعلنا نعتقد أن تحقيق النبوءة سيكون في المستقبل؛ إضافة إلى ذلك، فإن روما دمرت الجماعة اليهودية بدلاً من أن تسعى لتصونها وتحفظها. ولم تكن يهوذا مرتدة عندما كانت روما في مرحلة السيطرة.

١- يجب أن نلاحظ أن الوسيط في التواصلات بين المسيح ويوحنا هو ملاك لا اسم له، وما من شك هو كائن روحي ذو شأن كبير من طبقة الملائكة السماويين- "مَلاَكَهُ". كم يختلف هذا عن طابع ونمط فكر الرب غير المكشوف خلال إقامته على الأرض. فعندها علم يوحنا إرادة الرب وهو متكئ على صدر المعلّم. والآن كل شيء بعيد وأسراري غامض نوعاً ما، ولكنه في توافق دقيق مع طابع هذه الاتصالات. الله هنا لا يُنظر إليه على أنه "أبانا"، بل يتم تأكيد علاقة المسيح مع أبيه لخمس مرات (١: ٦؛ ٢: ٢٧؛ ٣: ٥، ٢١؛ ١٤: ١). لدينا مثل واحد فقط مدون عن ربنا، عندما كان على الأرض، موجهاً خطابه نحو أبيه باستخدام التعبير "إلهي" (متى ٢٧: ٤٦)، ولكن في هذا السفر نسمعه يقول بآن معاً "أبي"، و"إلهي"، الأولى كابن، والأخيرة كإنسان. كشف أمجاد وألقاب معينة للملك لا يضعف أبداً الحقيقة المباركة المتعلقة بعلاقة المسيح الحميمة بالله كابن وكإنسان.

ترتيب نقل الإعلان، هو من الله إلى المسيح، ثم عن طريق ملاك المسيح، أياً كان، إلى يوحنا، ومن ثم إلينا، أي إلى كل خدام أو عبيد المسيح.

١- "لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا". التلميذ الحبيب يكتب دائماً بضمير الغائب في الأسفار الأربعة التي كتبها. وهنا يكتب بضمير المتكلم، ذاكراً اسمه ثلاث مرات في الجزء الافتتاحي (١: ١، ٤، ٩) ومرتين في الجزء الختامي من السفر (٢١: ٢؛ ٢٢: ٨).

٢- "كَلِمَةِ اللهِ وَمِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح". هذه تشكل حاصل جمع الرؤى التي رآها يوحنا الرائي. إن حذفنا الواو الثانية هنا تصبح الآية "بِكُلِّ مَا رَآهُ" وتشكل تصديقاً موجزاً على كلمة الله وشهادة يسوع المسيح. الطرف الثالث في النص هو في الحقيقة موجز لسابقيه. "كَلِمَةِ اللهِ" مقتصرة على التواصلات المحتواة في هذا السفر، بينما "شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح" هي ذات طابع نبوي (انظر ١٩: ١٠). "كلمة الله" في الأناجيل هي واحدة بالنعمة، بينما "شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح" تحمل في ذاتها إعلان اسم وشخص الآب. ولكن بما أن الرؤيا يتناول بشكل رئيسي حكم الله العام، فإن كلمتي "كلمة" و"شهادة" تشيران بشكل خاص إلى عرض السلطان الإلهي والحكم على الأرض. إننا نعتبر كلمة الله على أنها هي التي تأتي إلينا بشكل مباشر أو عن طريق وسيط، وشهادة يسوع المسيح يعلنها بنفسه، أو عن طريق ملاكه.

٣- في هذه الآية، التي تكمل البداية، نجد منح البركة، "طُوبَى"، تفيض على القارئ، وعلى السامعين، وعلى أولئك الذين يحفظون هذه الاتصالات التي أُوحي بها شفهياً. حقيقة أن البركة تتكرر عند الختام (٢٢: ٧)، والتلميح بالدينونة على من يتلاعب بكل سفر النبوءة هذا أو بجزء منه (١٨، ١٩)، تُضفي طابعاً مهيباً بشكل غير اعتيادي على هذا الجزء من الكتاب المقدس الذي تعرض للإهمال حتى الآن. ما من أحد يستطيع أن يقرأه أو يسمعه مقروءاً ولا يتبارك، وما من أحد يجرؤ على احتقاره دون أن يتعرض للعقاب. عن الله أمين دائماً لكلمته، سواء كانت في البركة الممنوحة أو بحكم الدينونة الصادر.

إن المباركة الإلهية، "طوبى"، ترد سبع مرات (١: ٣؛ ١٤: ١٣؛ ١٦: ١٥؛ ١٩: ٩؛ ٢٠: ٦؛ ٢٢: ٧، ١٤).

٣- "الَّذي يَقْرَأُ" تشير على الأرجح إلى القارئ العام للكتاب المقدس في الاجتماعات، وما من شك أن حث بولس لتيموثاس على القراءة، "اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ" (١ تيموثاوس ٤: ١٣)، يدل على نفس الممارسة الجيدة القديمة، والتي نخشى أن نهملها للأسف. كل قارئ لسفر الرؤيا سواء لوحده أم مع الآخرين، يجب أن يكون مطمئناً إذ أنه ينال بركة الرب. المجامع اليهودية، التي كانت تقر بها الشريعة اليهودية كلما اجتمع عشرة أشخاص ليشكلوا معاً جماعة، كان لها جزءاً متناغماً لخدمتها في القراءة العامة والجماعية لكلمة الله والحض والنصح (لوقا ٤: ١٦- ٢٠؛ أعمال ١٣: ١٤، ٢٧؛ ١٥: ٢١). "الذينَ يَسْمَعُونَ" تشير إلى الجماعة الحاضرة في هذه المناسبات ومناسبات أخرى عندما كانت النبوة تُقرأ. من أجل فهم قوة العبارة "يَحْفَظُونَ مَا هُوَ (تلك الأشياء)" ، انظر يوحنا ١٤: ٢١- ٢٤.

٣- "لأَنَّ الْوَقْتَ قَريبٌ". النبوة تبطل الزمن، وكل الظروف الطارئة بل وحتى المخالفة، وتضع الأمر موضع التنفيذ. أما فعالية الإرادة الإلهية فلا تحتاج إلى راحة ولا تعرفه، ولكن بالنسبة إلى عقولنا العادمة الصبر بشكل طبيعي، والتي تتعب وتنزعج من الشر، يبدو لنا أحياناً كما لو أن الله قد أطلق العنان في الحكم وتوقف عن التدخل في قضايا الناس. ولكن الحال ليس هكذا. فالزمان، والتدابير، والبشر وأعمالهم هي كلها في يديه وتحت تحكمه لوحده. إنه رفض قدير وضليع ومعلّم. "اقْتَرَبَتِ الأَيَّامُ"، و"كَلاَمُ كُلِّ رُؤْيَا". إن تأجيل الله المطوّل الذي دام حوالي ٢٠٠٠ سنة قد تبين أنه فرصة غنية للنعمة في العالم. في هذه الأثناء يكون الإيمان على ثقة بأن يد الله، وإن كانت غير منظورة، فإنها تعمل وفق مخطط للخير (رومية ٨: ٢٩) وهذه ستؤدي إلى المجد الأبدي الغاية الحقيقية للجميع.

التحية المقدسة (الآيات ٤- ٦):

رأينا مقدمة مختصرة ولكنها في غاية الأهمية. والآن لدينا تحية مقدسة. الأولى تعلّم والأخيرة تبهج.

٤- "يُوحَنَّا، إلَى السَّبْع الْكَنَائس الَّتي في أَسيَّا". ما يُطلق عليه اسم أَسيَّا هنا هو ليس تلك القارة القديمة والغامضة بالإجمال، ولا حتى أسيا الصغرى، ولكن ذلك الجزء من أسيا الصغرى على الضفة الغربية أو الشاطئ الغربي من البحر حيث كانت أفسس عاصمة مشهورة، بروقنصلية أسيا. في هذه البقعة الجغرافية المحدودة كان يجب امتحان هذه الكنيسة المعترفة، وتوصف ملامحها البارزة في التاريخ بأنها واضحة كالنهار، حيث تمثلها تلك الكنائس الأسيوية السبع التي اختيرت لأجل هذا الهدف بشكل خاص. وقد أُغفلت كنائس أخرى هامة في نفس المنطقة، بينما هذه السبع، وهذه وحدها فقط، يُذكر اسمها، وبالترتيب الذي سيتبعه المسافر إذا ما أراد أن يزورها بشكل طبيعي. إن الكنائس السبع المختارة تشكل رمزاً للكنيسة في عالميتها خلال فترات متعاقبة من تاريخها، كما أيضاً في أي لحظة إلى حين حصول رفضها الأخير كشاهد غير أمين للمسيح (٣: ١٦).

لماذا سبع كنائس؟ هذا العدد يتكرر حدوثه أكثر من أي عدد آخر. هناك سبعة أعياد للرب (لاويين ٢٣)؛ سبع أمثال للملكوت (متى ١٣)؛ سبعة كنائس؛ سبع أختام، وسبع أبواق، وسبع جامات نلاحظها في الرؤيا. في كل من الأمثلة السابقة هناك تقسيم واضح إلى ثلاثة وأربعة. ما هو مقدس يعبر عنه باستخدام العدد ٣، والعنصر البشري يدخل ضمن العدد ٤. وهي معاً تعبر عن الكمال. ومن هنا فإن الكنيسة المعترفة، باعتبارها حامل النور الإلهي على الأرض، تعتبر هنا كاملة على الدوام من لحظة انحطاطها (٢: ٤) حتى نكران المسيح لها الأخير والعام (٣: ١٦). في مكانتها والمسؤولية الملقاة عليها يتم تحذيرها بشكل جدي ومهيب. الدينونة التي تهدد بها؛ أي الرفض التام المطلق، تنطبق على الجسد المندمج فقط. المؤمنون مراراً وتكراراً يُطمأنون إلى سلامتهم وبركتهم. جماعة غالبة من المؤمنين الحقيقيين نميزها في كل من الكنائس الست الأولى. إن الرقم "سبعة" في سفر الرؤيا حافل بالمعاني.

يذكر يوحنا هنا اسمه بشكل صريح. ليس هناك تأكيد على رسوليته. وليس هناك نفخ أبواق تلفت الانتباه إلى تلك النبوءات العظيمة. بل هناك وقار هادئ يلائم التعريف بالأشخاص والكشف عن أولئك الذين أحنوا ركبة قلوبهم بعشرات الآلاف.

ثم لدينا الثالوث الإلهي كل في أقنومه الخاص، يتحدون في رسالة نعمة وسلام، وذلك قبل سماع صوت دمدمة العاصفة القادمة. ما من ختم يُكسر، وما من بوق يُنفخ فيه، وما من جام يُسكب حتى يتم ضمان المؤمنين بشكل إلهي بطريقة تضمن لهم القوة والبركة من الله. الله لنا في البركة، وفي حفظ مجده كل الأيام وفي كل الظروف، وهو حصننا المنيع.

إعصار الدينونة الإلهية لم يستطع أن يقلب سهول سدوم حتى انعتق لوط (تك ١٩). وما كان نطق الحكم بدمار أريحا في بحيرة النار ليحدث حتى خلصت راحاب (يشوع ٦). ولكن في هذه التحية الإلهية، وفي المكان الذي تحتله، لدينا أكثر من ضمانة بالحفظ من الدينونة الإلهية. لا تأتي التحية بين الدينونة المهدد بها وتنفيذها، بل حتى قبل إعلانها، والطابع الحقيقة للأشياء في الكنيسة، والعالم وإسرائيل تظهر إلى العيان، وقديسوا الله يُطمأنون إلى الاهتمام العميق الذي يوليه الله بهم.

٤- البركة العامة والمطلوبة للمفتدين هي ذات "نعْمَة وَسَلاَم". ما من شيء أو شخص يمكن أن يسلبهم إياه، لأن الله نفسه يعطيها ويحفظها. النعمة هي مصدر كل بركة وسلام وبر وسعادة أمام الله. في التحيات الرسولية تسبق النعمة دائماً السلام؛ بينما في الرسائل الفردية كتلك التي لتيموثاوس، وتيطس، الخ، فإن "الرحمة" تضاف عموماً، إذ أن هذه تأخذ بالحسبان حاجة وظروف الشخص.

إن التحية، وإضافة إلى أنها ملائمة لتولّد وتقوي الثقة بالله إزاء الدينونة الوشيكة، هي أيضاً مهيمنة في طابعها. إنها ليست علاقة آب وأولاد، ولا علاقة إله بأبناء، بل علاقة الرب بقديسين؛ ولذلك، ففي تسمية أقانيم الثالوث، يختلف الترتيب عن ذاك الذي نجده في متى ٢٨: ١٩- فهناك آب، وابن، وروح قدس؛ أما هنا فلدينا الرب، والروح، ويسوع المسيح. وإن بولس مرة واحدة فقط في ختام إحدى رسائله (٢ كور ١٣: ١٤) يحيي القديسين باسم الأقانيم الثلاثة؛ وهنا يفعل يوحنا ذلك في بداية سفره.

٤- اسم الرب يهوه المخيف والمقدس يشير إلى ذاك الكائن بحد ذاته وذا الوجود الغير منبثق. بالنسبة إلى إسرائيل كان الاسم قد فُسّر على أنه يعني "اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ" (خروج ٣: ١٤)؛ وبالنسبة إلى الأمميين على أنه "الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي ٢" (رؤيا ١: ٤؛ ٤: ٨). إنه اسم لفظ الجلالة الذي لا يُنطق به، والذي كان بنو إسرائيل معتادين عليه تماماً منذ بدء تاريخهم (خروج ٦: ٣). إنه اسم الله الذي لا يُنسى المحفور في ذاكرتهم، حتى لأجيال لم تُولد بعد. "الْكَائِنِ" تدل على كيان مستقل غير متبدل. "الَّذِي كَانَ" تشير إلى علاقة الرب مع الماضي. "لَّذِي يَأْتِي" تظهر ارتباطه بالمستقبل. إن علاقة الله في الكون في اتساعها وعظمتها، كما أيضاً في دقائقها الصغيرة، هي حقيقة منعشة عظيمة.

في ٤: ٨ ينقلب ترتيب الجمل: "الَّذِي كَانَ" تأتي قبل "الَّذِي يَأْتِي". وفي الأصحاح ٤ تأمل في حكم كل الأرض، وليس فقط إسرائيل، ومن هنا فإن الكائنات الحية تقول أولاً: "الَّذِي كَانَ". إنها مسألة وقت؛ بينما في الأصحاح ١ نجد أن أبدية كينونة الرب تقدّم أولاً بالكلمات "الْكَائِنِ". ولذلك أيضاً، يُشار إليها ضمناً في تبدل الجملة "الَّذِي كَانَ" بالمعنى أن أعمال الرب الماضية ذات القدرة هي ضمان وتأكيد على أن الوجود الأبدي الأزلي لله وقدرته الكلية ليست صفات ساكنة في الكيان الإلهي، بل تُستخدم في كل الأجيال وتحت كل الظروف.

٤- ثم يأتي ذكر اسم "الروح القدس"، ولكن لا يُنظر إليه هنا في وحدة كينونته كـ "رُوحٌ وَاحِدٌ" (أفسس ٤: ٤). إن وفرة وكمال قدرته وتنوع فعاليته يتم التعبير عنها في العبارة "السَّبْعَة الأَرْوَاح"، للدلالة على كمال فعاليته الروحية (قارن مع أشعياء ١١: ٢؛ رؤيا ٣: ١؛ ٤: ٥؛ ٥: ٦). يقول: "أَمَامَ عَرْشه"، لأن الفكرة الأساسية في الرؤيا هي الحكم العام للأرض. في تاريخ المسيحية لأول ثلاثين سنة الحقبة الرسولية، يُشاهد الروح وهو يعمل بقوة ونشاط ونعمة مع الأفراد، كما يروي لنا سفر أعمال الرسل بشكل كامل؛ بينما في الرسائل، حضور الروح القدس وعمله في الكنيسة هو الحقيقة الأساسية التي يتم الكشف عنها. ولكن هنا، كما نوّهنا للتو، الروح القدس يعمل بسطوة وهيمنة من السماء على الأرض.

طابع النفوذ للسفر يعود إلى ذكر الروح القدس قبل المسيح. لو كانت مسألة نعمة، بسيطة وصافية، لكان وجب ذكرُ المسيح قبل الروح، بعد الآب الذي أُرسِل من قِبَله (١ يوحنا ٤: ١٤) وقبل الروح القدس لأنه أُرسِل من قِبل الابن (يوحنا ١٥: ٢٦).

٥- "يَسُوعَ الْمَسيح" يأتي ذكره ثانياً، متحداً مع الرب والروح في تحية موجهة إلى القديسين. في دمج الاسم واللقب يتم الإعلان عن وحدة ناسوت ومجد المسيح (أعمال ٢: ٣٦). "يسوع" مؤلفة من مقطعين لفظيين، يعني "الله يخلّص" (متى ١: ٢١). لقد كان اسماً قد أُعطي له قبل مولده، وهو يصف تماماً شخصه وعمله. إنه اسم يفوق كل اسم، اسم أعلى وأرقى من كل الأسماء، ذاك هو اسم يسوع (فيل ٢: ٩- ١١). يتكرر هذا الاسم حوالي ٦٠٠ مرة في العهد الجديد، ولا تُحدده صفة ٣. ولم يحدث أبداً أن خاطب أحدٌ الربَّ مباشرةً باسم يسوع سوى الشياطين. يرد الاسم "يسوع" في الرؤيا تسعة مرات، ويرد مُرفقاً بالمسيح ثلاث مرات. إن كلمتي "المسيح" (في اليونانية) و"المسيَّا" (في العبرية) كلاهما يعنيان الممسوح كما يرد في المزمور ٢ وغيره.

وهكذا لدينا الله بعظمة كينونته، والروح بكامل قدرته، ويسوع المسيح ببشريته المقدسة وقد تمجد الآن، يتحدون في مباركة القديسين الذين هم على وشك أن تُكشف لهم المشورات النبوية لله المتعلقة بالأرض.

بعد ذلك يتم ذكر صفات محددة مميزة لا تنفصل عن اسم يسوع؛ أمجاد اكتسبها كإنسان، وله الحق فيها. هناك ثلاثة ألقاب تُطلق عليه: الأول يشير إلى علاقة محددة مع الله؛ والثاني يشير إلى ارتباط خاص مع كل الأموات، المخلصين والضالين؛ بينما اللقب الثالث يلفت انتباهنا إلى سيادته على سلطات الأرض الحاكمة.

١- "الشَّاهد الأَمين". إن حياة ربنا كلها من المذود إلى الصليب موجودة ضمنياً في هذا اللقب الشامل. إن صفة "الأمين" هي في تغاير واضح مع كل الشهود السابقين لله. طريق الشهادة البشرية مغطى بالركام والدمار. المسيح وحده اجتاز عبر الأرض في طريقه القفر المنعزل المتعب في تكرس ثابت لله، دون انقطاع أو ضعف بل بكل تكرس مقدس لله. "لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ ٤ لِلْحَقِّ" (يوحنا ١٨: ٣٧).

٢- "الْبكْر منَ الأَمْوَات". المسيح هو بآن معاً "باكورة" و"بكر" الأموات. الأول يدل صراحة على أنه الأول في الزمن في ذلك الحصاد القادم لأولئك الذين يرقدون (١ كور ١٥: ٢٠- ٢٣). واللقب الثاني يدل على أنه الأول في المكانة بين جميع أولئك الذين سينهضون من بين الأموات. "البكر" هو تعبير عن السيادة والسمو، والجلال الفائق، وليس من حيث الزمن أو التسلسل التاريخي الكرونولوجي (مز ٨٩: ٢٧). وأياً كان الزمان أو المكان أو الطريقة التي دخل فيها المسيح إلى العالم، فهو بالضرورة يأخذ المكان الأول بفضل ماهيته. لعله يمكننا أن نعلق هنا بالقول أن التغير الذي ستخضع له أجساد المؤمنين الأحياء لدى مجيء المسيح يرادف إقامة الأموات الراقدين. فكلاهما سيكونان مثل المسيح معنوياً (١ يوحنا ٣: ٢)، وجسدياً (فيلبي ٣: ٢١).

٣- "رَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ". الملك المتكبر في الغرب، الإمبراطور المتعجرف في الشرق، كل منهما له سيد. المسيح "أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ". ممالك العالم هي له من حقه ويجب على الجميع أن ينحنوا أمامه. هو "رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ". إنه رب كل من يمارس سلطة، وملك على كل من يحكمون. لم يفرض سلطانه بعد. حقوقه السيادية المطلقة لا تزال في حالة توقف مطلق عن الفعل. ولكنها ستظهر بقوة عندما يأتي زمن الآب، والحكم الكوني العام يصير في يده. كل صولجان ملكي يرتجف أمامه، وهو يحطم عروش السلطات المناوئة له. ثم يُوضع كبرياء الإنسان، وتتلاشى أُبهته وعظمته في التراب.

لذلك لدينا، في هذه الألقاب، برج من القوة يصل إلى المسيحيين والكنيسة. يمكننا أن نرى ذاك الذي في السماء الآن، الذي وطأ طريق الإيمان والطاعة دونما توانٍ أو تلكؤ (عب ١٢: ١، ٢)؛ ذاك الذي صرع الموت، والذي كانت له القدرة عليه؛ ذاك الذي غلب وهو الآن في نصره العظيم؛ ذاك أيضاً هو رب وسيد على كل ملوك الأرض الحاكمة. ولكن الآن تنتقل التحية على نحو مفاجئ إلى تسبيحة شكر أو ذكصولوجيا.

٦- منح البركة السابقة، المدمجة مع علاقة الروح بالمسيح كإنسان، تثير في الحال قلب المفتدين. تتحرك المشاعر، وتلاوة ألقاب المسيح يُقابلها نشيد الابتهاج: "الَّذي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا منْ خَطَايَانَا بدَمه". لقد امتلك قلوبنا بمحبته التي لا تتبدل، ونقّى ضمائرنا بدمه الثمين. في هذا السفر، الذي يكشف تفتّت سلطة الشر المقسّاة إلى ذرات التي هي في مناصب عالية، كم ينعشنا أن نعرف، قبل إعلان الدينونات الآتية، أو رؤية وسماع الانتقام الإلهي الذي أُنذر به (٤: ٥؛ ٨: ٥)، أن كل الجماعة المفدية على الأرض يمكن أن تنشد بانتصار نشيد محبة المسيح الحاضرة واللا متبدلة وأنشودة دمه الثمين الذي حرّرها إلى الأبد من خطاياها.

ولكن أفكار الأنشودة ليست مستهلكة. إن كرامتنا العالية سنحتفل بها تالياً، وتُنسب إليه هو الذي نثق بمحبته ودمه ونجد فيهما راحتنا. "جَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ". قد نستدل من التعبير "جَعَلَنَا مُلُوكاً"، أن علينا أن نكون خاضعين كأتباع، ولكن ليست الفكرة هكذا. السلطان يُعطى للقديسين السماويين، وعلى درجة أقل لقديسي الألفية من اليهود على الأرض. الطابع الذي سنحكم فيه فيما بعد هو كـ "كهنة". والمقصود بذلك هو اتحاد الوقار الملوكي بالنعمة الكهنوتية. توضح الآية في زكريا ٦: ١٣ هذا المركز أو المهمة بشكل دقيق: "يَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ". ولكننا سنحكم مع المسيح؛ ولذلك فطابع حكمه جزئياً يحدد طبيعة دورنا في الحكم. وسنضمن حكماً باراً وسمحاً يمتد لألف سنة في العالم في الدهر الآتي. دعونا لا ننسى مكانتنا السامية العالية، ولا نغوص إلى الأسفل في الممارسة. إن التذكار الدائم لهذا سيُضفي وقاراً على شخصنا ويحفظنا من روح حب المال الذي في هذا الدهر (١ كور ٦: ٢، ٣).

٦- "لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَد الآبدينَ. آمينَ". إن شكل النسبة هو نفسه تقريباً كما في ١ بطرس ٥: ١، ما خلا أن الرسول اليهودي يؤكد أن المجد والسيادة هما للمسيح؛ بينما يصرّح يوحنا عن الرغبة لدى المفتدي في أن يكون له وباستحقاق ذلك المجد المرئي والسيادة الواسعة التي أنبأ عنها النبي، والتي رآها الرائي، والتي أنشدها الشعراء؛ وليس هذا فقط خلال الحقبة الألفية، بل على مر كل العصور أو فترات زمنية محددة تمتد إلى الأبدية. إن كلمة "آمين" الواردة مرتين في المقطعين كصلاة ليست من أصل النص بل هي إضافة توكيد جليل للحقيقة المعلنة.

في مسار الإعلانات المتعاقبة الواردة في هذا السفر، ومع ازدياد عمق طابعها، تزداد الذوكصولوجيا كمالاً. وهي هنا مضاعفة الجوانب؛ بينما مثلثة الجوانب في ٤: ١١؛ ومربعة الجوانب في ٥: ١٣؛ وذات سبعة جوانب في ٧: ١٢.

شهادتنا النبوية (الآية ٧):

٧- "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ". المجيء الثاني لربنا هو أمر جوهري في الشهادة والمسيحية، ولا حاجة للتأكيد على ذلك أكثر من الآن، خاصة على وضوء ملاحظتنا أن الكنيسة والعالم كليهما على وشك أن يدخلا إلى آخر أطوارهما من الإثم المتراكم قبل أن تتم معالجتهما بإدانة شديدة قاسية. ولكن من الضروري والأساسي أن نميز بين المرحلتين المتمايزتين التي سيكون عليهما المجيء. هناك مجموعة من المقاطع، مقتصرة على العهد الجديد، تشير بشكل مباشر لمجيء الرب لأجل قديسيه، كما في يوحنا ١٤: ٣؛ فيلبي ٣: ٢٠؛ ١ تسالونيكي ٤: ١٥- ١٧؛ و١ كورنثوس ١٥: ٢٣. ولكن هناك مجموعة أخرى من النصوص، مشتركة في كلا العهدين، تعلّم بوضوح عن مجيء المسيح مع قديسيه، مثل يهوذا ١٤؛ زكريا ١٤: ٥؛ كولوسي ٣: ٤؛ ورؤيا ١٩: ١١- ١٤. بينما هذان الجانبان من نفس مجيء ربنا يتم التأكيد عليهما بشكل مضطرد للفت انتباه المسيحيين بشكل جدي عليهما، وخاصة مع التأكيد على الإيمان عند مختاري الله، مع ذلك فإن الجزء الثاني أو المرحلة الثانية من المجيء هي التي يُشار إليها هنا. المرحلة الأولى، أي ارتفاع جميع القديسين عند نزول الرب إلى الهواء (١ تسالونيكي ٤: ١٧) ستسبق بالضرورة المرحلة الأخيرة، أي مجيء الرب مع قديسيه (يهوذا ١٤) وملائكته (متى ٢٥: ٣١).

الشهادة الرؤيوية أن "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ" تتلاءم مع تلك الواردة على لسان النبي العبري القائل: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ" (دانيال ٧: ١٣)؛ وأيضاً مع القول النبوي على لسان ربنا في بستان الزيتون أن: "وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ" (متى ٢٤: ٣٠). إن كل ذلك يشير إلى نفس الزمن ونفس الحدث. ظهور ابن الإنسان سيكون في جلال لم يسبق له مثيل ول تره عين من قبل لدرجة أنه سيبعث الرعب في قلب كل من سيكون على الأرض ما عدا شعبه.

أنبياء العهد القديم، وكل بطريقته، وبحسب مواصفاته الشخصية، ولكنهم جميعاً تحت الإرشاد المباشر للروح القدس، قد ركّزوا على هذين الأمرين النبويين العظيمين: الدينونة والمجد.

قبل فجر بركة الأمميين مباشرة، ستغلّفهم ظلمة أخلاقية هائلة لا تقل عنها عند اليهود (أشعياء ٦٠: ٢)؛ وبدلاً من ترحيب مخلص لذاك الآتي، سنجد الأمم مجتمعة في تمرد واسع ومسلّح، إما في الغرب ضد الحمل (رؤيا ١٩: ١٩)، أو في الشرق ضد أورشليم (زكريا ١٤: ٢). ولذا فيجب تطهير الأرض من الشر والأشرار قبل أن يخطو الرب خطواته المقدسة لكي تنبض الأرض بفرح يتجاوز ما اختبروه في اللحظة المقتضبة التي عاشوها بلا خطيئة في تكوين ٢. إنه جانب الدينونة في مجيء الرب الذي يشير إليه رائي بطمس في الآية ٧.

لم يقل المسيح في أي مكان أنه سيجيء على الغيوم ليجمع خاصته. بل على العكس، هم يصعدون في السحب (١ تسا ٤: ١٧). تلك هي العربات الملكية المؤمنة لنقلنا من الأرض إلى لقاء الرب. سحابة العهد كانت الرمز المعروف لحضور الرب يهوه مع شعبه (خروج ١٣: ٢١؛ ٤٠: ٣٤- ٣٨؛ لوقا ٩: ٣٥). ولكن لاحظوا، لا يُقال فقط أن المسيح سيأتي في السحاب (مرقس ١٣: ٢٦)، بل معهم (رؤيا ١: ٧)، وعليهم (متى ٢٤: ٣٠). السحب التي تصاحب قدمه هي رموز جلالته (مز ١٨: ٩- ١٢). إنه يجلس عليها كما على عرشه (متى ٢٤: ٣٠). ونحن نُختطف إلى الغيوم (١ تسا ٤: ١٧). لقد صعد في سحابة (أعمال ١: ٩). وسيأتي في سحابة (لوقا ٢: ٢٧). هذه الفروقات الدقيقة في غاية الأهمية.

وإذاً، نحن هنا نوجَّه إلى نقطة نهاية كل النبوءة- منح البركة لليهود، وللكنيسة، وللعالم. أول وآخر شهادة في السفر هي حول مجيء الرب (١: ٧؛ ٢٢: ٢٠)، ويمكننا أن نلاحظ أيضاً أن الكلمة "سريعاً" التي تنطبق على المجيء نجدها وحدها في هذه النبوءة العظيمة.

إن مجيء الرب لتحطيم قوة الشر المتجلية على الأرض، وليبعثر القوى المتحالفة المنتظمة تحت قيادة الشيطان، وليحطّم إلى ذرات كل قوة معادية، سيكون حدثاً ذا طابع عام شامل وساحق ومن هنا جاءت العبارة: "سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ". يا له من منظر سيكون في السموات! الرب النازل مع تيجان كثيرة على رأسه، مرتدياً علامات الملكية، والقديسين والملائكة ينفخون في بوقه، السحب حوله وتحته، سيظهر عندئذ بطريقة تتلاءم مع جلاله وعظمته.

٧- ولكن بينما يجب قبول العبارة التي تقول: "سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ"، حرفياً- إلا أن هناك حاجة إلى الانتباه إلى أنه ستظهر جماعة وسط الجنس البشري آنذاك ستكون في تمرد مفتوح ضد الله ومسيحه (مزمور ٢)، وهم أولئك "الَّذِينَ طَعَنُوهُ". إن الحربة الأممية التي طعنت جنب المخلّص هي واقع دوّنه وحده "التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" (يوحنا ١٩: ٣٣- ٣٧). إن ممثل روما في عظمتها الإمبراطورية وهو الضعيف والمتمرد، لطّخ سمعتها المتبجحة بعدل يتعذر تغييره بأن أمر بأن يُجلد بالسياط سجينه المهيب الجليل الذي أعلن براءته لثلاث مرات وأن يُصلَب. ولكن اليهود تصرفوا بشكل أسوأ من ذلك بكثير عندما طالبوا بصوت عالٍ بموته، موت مسيّا الذي كانوا ينتظرونه، وتحريض الحاكم التعيس بأن يعلن الحكم النهائي الأخير بموته. أولادهم، الذين ورثوا إثمهم، والذين يرفضون دم المسيح المهراق كجواب من الله على خطيئتهم، سيرون ذاك الذي طعنوه، بينما يرينا زكريا ١٢: ١٠ كيف أن النعمة ستستخدمه. الجماعة المحددة المُشار إليها بأنهم "الَّذِينَ طَعَنُوهُ" هم اليهود.

٧- "يَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". إن نعمته كانت تتبدى بشكل واضح جلي وعلى نحو رائع في الأرض ووسط الشعب. فالنواح كان مقتصراً على سبطين في الأرض فقط، يهوذا وبنيامين؛ وليس على الأسباط العشر على تخوم فلسطين قبل دخولها (حزقيال ٢٠)، وهذا النواح سيصيب الأمميين أيضاً. "جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". إن هذه العبارة تدل على أن الأمميين معنيين أيضاً بالأمر. ونعلم من متى ٢٤: ٣٠ أن مجيء ابن الإنسان سيرافقه نواح وألم.

٧- التأكيد المضاعف: "نَعَمْ آمِينَ". هو ختم الروح على هذه الشهادة النبوية الصارمة. إن "نعم" يونانية، و"آمين" عبرية. وبالتالي فكلمة الرب ستكون هي نفسها للأمميين واليهود على حد سواء.

إعلان إلهي (الآية ٨):

٨- "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". إن إعلان هذه الألقاب الإلهية يشكل خاتمة ملائمة للمدخل. وقار المتكلم وطبيعة ما يقول تتطلب انتباهاً شديداً. نحن لا نسمع هنا صوت المسيح الإنسان، بل الله نفسه هو المتكلم. إنه يعلن ألقابه وأمجاده. "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ"- أي أول حرف وآخر حرف في اللغة- وهذا يعلن صراحة علاقته مع الخليقة. إن الله هو المصدر، وهو البداية لكل الحق المعلن، وكل الوعود المعطاة، وكل الشهادات الملقاة على عاتق الناس. بهذا المعنى إنه الـ "ألِف". ولكنه النهاية أيضاً. ومجده هو الهدف. وكل شيء يجد جواباً فيه. مسيرنا، واختبارنا يقبع بين هاتين النقطتين. الله الألف والله الياء. نحوه كما النهاية كل شيء يتحرك. الخيوط على أيدينا مقطوعة؛ وفي يديه لا تنقطع أبداً. وسط ظروف الإخفاق والفشل، ووسط حطام الكنيسة وفشل شهادتها عبر العصور، يبقى صوت الله يعلو فوق كل ضجة ونزاع. بدء كل شهادة هي في الله، والنهاية أيضاً تتمركز فيه. هو بدأ بالألف وهو ينهي الياء.

بعد ذلك يعرفنا يوحنا على العظمة الإلهية للمتكلم، والذي ما هو إلا الله الرب إله العهد القديم (تكوين ٢، الخ).

من هو الله الرب؟ يهوه إيلوهيم، إله البشر وإسرائيل، الذي سُرّ أن يقيم علاقة أخلاقية مع كليهما، يتكلم مرة أخرى من السماء. يا للهدوء الذي يأتي إلى النفس وسط عجلة الحياة! ها هو صوت الله السرمدي، وفي الحال يتوقف الهمس في الداخل والضجة في الخارج. في الكلمات التفسيرية التوضيحية التي تلي ذلك، "الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي"، نجد طبيعة كينونته الجوهرية والباقية إلى الأبد كما قال الرب. إن هذه العبارات تُفسر معنى الاسم يهوه. والشخص الثالث في النص، "الَّذِي يَأْتِي"، سيبدو وكأنه يقوم بمجيء فعلي في الظاهر، ولكن ليس الحال هكذا. إن قوة الكل هي في تقديم كائن أبدي يكون، وليس مجرد وجود أبدي، بل علاقة إيجابية مع الماضي والمستقبل.

كم هي ملائمة هذه الخاتمة التي تأتي بعد لقب الله على أنه "القادر"، لقب كان بمثابة صخرة من القوة لشعبه المبتلي بالأوجاع والأحزان في كل العصور. "القادر" ليس فقط شهادة على القدرة الكلية، بل تشير إلى الله القدير الذي لديه "موارد المساندة والمؤازرة"، وسنجد في سير هذا السفر أن ظروف شعب الله تجعل الكثيرين يتعلقون بهذا الاسم القوي؛ ومن هنا نفهم كثرة وروده في الرؤيا، بينما نجده مرة واحدة فقط في العهد الجديد (٢ كور ٦: ١٨)، ثم كاقتباس مأخوذ عن أشعياء. إن اسم "القدير" يُستخدم بشكل منفرد، أو مع بقية السماء، ويرد حوالي ٦٠ مرة، نصفها في سفر أيوب. الله "القدير" هو لقب مليء بالقوة والتعزية. إنه قدير في مؤازرته لشعبه، وفي نفس الوقت وعلى نفس الدرجة قدير في إدانة أعداءه.

الرؤيا المجيدة للمسيح (الآيات ٩- ٢٠):

٩- "أَنَا يُوحَنَّا أَخُوكُمْ وَشَريكُكُمْ في الضّيقَة وَفي مَلَكُوت يَسُوعَ الْمَسيح وَصَبْره". دانيال، وأكثر من كل الأنبياء العبرانيين، يتناول مواضيع نراها في معظمها ضمن الرؤى التي يراها يوحنا. هناك عدة نقاط تشابه بين الاثنين. ولذلك فإن النبي والرائي كلاهما يكشف طبع الحامل الأخير للقوة المدنية الإمبراطورية لروما؛ كلاهما يكشف الطور الأخير للإمبراطورية المستعادة، وأيضاً مصيرها النهائي الفظيع (قارن الأصحاح ٧ من دانيال مع الأصحاح ١٧ من الرؤيا).

"أنا يوحنا" تذكّرنا بـ "أنا دانيال" (٧: ١٥، الخ). لم يأخذ يوحنا عن دانيال أسلوب الإعلان، بل كان أسلوبه مستقلاً يعبّر فيه عن إدراكه الهادئ والواعي لوقار ورهبة طابع الرؤى التي يوشك على إعلانها.

بعد ذلك يعلن يوحنا عن شركة عامة في الحياة والألم مع شعب الله المتوجع بشدة. لعل فترتي الاستشهاد تحت حكم نيرون ودوميتيانوس كانتا الأشد قسوة بين الاضطهادات الوثنية للمسيحية، والتي دامت، مع فترات هدوء تتخللها، حوالي ٢٥٠ سنة. بحسب البعض، عانى يوحنا من الاضطهاد على عهد نيرون؛ والبعض يعتبر أنه اضطُهد خلال فترة حكم دوميتيانوس. لا يهم أي تقليد هو الأصح ٥. ولكن الجدير بالملاحظة هو أن يوحنا لا يتكلم هنا كـرسول ولا كشيخ، بل كـ "أَخ للقديسين و شَريك لهم في الضّيقَة وَفي مَلَكُوت يَسُوعَ الْمَسيح وَصَبْره".

إن "الضّيقَة" تشير إلى ضيقة معينة من المحنة، وليس فقط إلى الصعوبات العادية في الحياة المسيحية. وهناك ثلاث فترات من المعاناة الحاسمة الشديدة: (١) تحت حكم روما الوثنية؛ (٢) تحت الحكم البابوي خلال فترة العصور الوسطة المظلمة؛ (٣) خلال فترة الاضطهاد المفصلية للقوى المدنية المستقبلي والسلطات الكنسية (رؤيا ٦ و ١٣).

ويأتي الحديث بعد ذلك عن "الصَبْر" الذي يتشارك فيه يوحنا عموماً مع أولئك الذين يكتب إليهم. هناك أربعة جوانب متمايزة يتم فيها تصوير الملكوت في الكتاب المقدس: (١) من ناحية المسئولية كما صور لليهود، وقد رُفِضَ الملك (متى ١- ١٢)؛ (٢) في السر وسط الأمميين كما نرى في متى ١٣؛ (٣) في الضيقة كما نجد بالتفصيل في القسم المركزي من الرؤيا؛ (٤) في السلطة والقوة عند مجيء الرب في المجد (متى ٢٥: ٣١)، وهذا أعظم وأكبر موضوع تناوله الأنبياء في القديم.

"الصبر" أو التحمل، الذي يأتي تالياً، لأن الشر لا يزال يسود غير ممتحن في العالم وفي الكنيسة. الطلبة أن "ليأتِ ملكوتُك"، التي تصعد يومياً من قلب وشفاه الآلاف، لا تزال غير مستجابة بعد. الضيقة هي الطريق المحدد المقرر إلى الملكوت. حياة البعض تتميز بالألم والمعاناة التي لا تنقطع، وبالنسبة لآخرين، هي حياة حافلة بالخدمة الفعالة.، بينما بالنسبة للأغلبية هي حياة روتينية مملة متعبة مليئة بالأعباء والواجبات اليومية. ومن هنا الحاجة إلى الصبر عند جميع من يستمرون في صنع مشيئة الله. كآبة وعزلة بطمس كانت تستدعي الكثير من "الصبر"، هذه الميزة التي يجب أن يتمتع بها كل خادم حقيقي لله (٢ كور ٦: ٤). الضغط يستمر على المؤمنين القديسين إلى أن ينبلج الصباح، عندما سيظهر الله الله صراحة وعلانية لينصر أولئك الذين يتمسكون بالإيمان باسمه المبارك في ظروف ضعفهم هذه.

إلا أننا لا نتشارك فقط مع هذا الرسول المبجل والطاعن في السن في هذه الأمور الثلاثة، أعني "الضيقة" و"الملكوت" و"الصبر" ٦، بل إن الرب نفسه يشارك فيها، وهو يظهر فيها متميزاً بشكل واضح. هذه الأشياء هي "في يسوع". إن ذكر هذا الاسم الذي هو أعذب اسم على الإطلاق تسمعه آذان المؤمنين وقلوبهم طافح بالعزاء والسلوان للقديسين المتألمين.

الجزيرة المسماة بطمس:

٩- "كُنْتُ في الْجَزيرَة الَّتي تُدْعَى بَطْمُسَ منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل شَهَادَة يَسُوعَ الْمَسيح". المكان الذي نُفي يوحنا إليه كان مجهولاً تقريباً حتى بالاسم. وهكذا نعرف أنه كان "جَزيرَة"، وأنها تُدعى "بَطْمُسَ".وهذه الجزيرة موحشة وكئيبة في بحر إيجة، وتقع على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى، وتبلغ حوالي ١٥ ميلاً في محيطها. كانت تُعرف في العصور الوسطى باسم "بالموسو" وتُعرف الآن باسم "باتينو". يبلغ عدد سكانها حالياً حوالي ٤٠٠٠ نسمة، وهم من المسيحيين اليونانيين. في هذه الجزيرة يوجد مكتبة قيّمة جداً لا نستطيع استخدامها يشرف عليها رهبان جاهلون كسالى. يقول تيشندورف، هذا العالم الكتابي الذي لا يكل ولا يمل: "يحيط الصمت تلك الجزيرة الصغيرة أمامي عند الشفق في الصباح. هنا وهناك تكسر شجرة زيتون رتابة اليباب الصخري. والبحر كان لا يزال ساكناً سكون القبر. رقدت بطمس فيه كالقديس الميت. يوحنا- تلك هي فكرة الجزيرة. الجزيرة تنتمي إليه؛ إنها مقدسه. الصخور تتحدث عنه، وهو يعيش في كل قلب". يا للموقع الجغرافي الرائع! لقد كان يوحنا في بطمس، في مركز حالة النبوءة. أورشليم تقع في الجنوب، وروما خلف الرائي في الغرب، وبابل إلى الشرق، وأرض ماجوج (روسيا) إلى الشمال، بينما على الشاطئ أمامه تقبع الكنائس الأسيوية السبعة، وهو على وشك أن يروي تاريخها.

سمو حالته الروحية والأخلاقية رغم ظروفه يتبدى من خلال قوله ببساطة: "كُنْتُ في الْجَزيرَة الَّتي تُدْعَى بَطْمُسَ". لا تأتي على لسانه أي كلمة توبيخ أو تذمر أو شكوى. القبض عليه، ومحاكمته، والإجراءات التي ترد ذلك أمام الإمبراطور دومتيانوس مرّت في صمت مطبق.

إن التقليد، ورغم عدم موثوقيته، أورد لنا قصصاً ممتعة عن شخصية يوحنا الأسطورية ومدى تمسكه بالحق مثله في ذلك مثل الرسل الأخرين المميزين كبطرس وبولس ٧.

لقد استخدم الله غيظ الإمبراطور المتكبر لمدح اسمه. لقد كانت الظروف هي أنسب ما يمكن لإدخال يوحنا إلى رؤى الله تلك، وإحداها صورت انهيار عظمة روما الإمبراطورية، وانتعاشها المستقبلي، وقدرها المشؤوم (١٧: ٨؛ ١٩: ٢٠)، بينما كانت في ذروة مجدها كسيدة على العالم لا قدرة لأحد أن يتحداها.

إن السلطة التي أعطت الموافقة القانونية على صلب ربنا هي نفسها قد وصمت "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" بصفة المجرم. والسبب الحقيقي هنا أو الإثم الذي ارتكبه يوحنا هو تماماً "كَلمَة الله وَشَهَادَة يَسُوعَ". هذه ستجلب على صاحبها عداوة العالم.

إن يوحنا، ورغم ضعف ثقافته (أعمال ٤: ١٣)، وتكلمه باللغة العامية البسيطة التي لأهل الجليل، راح يكرز بجرأة وأمانة ويعلّم في الأماكن العامة والخاصة بكلمة الله. لم يكن الرسل قد تعلموا فن تشذيب الحقائق لتناسب أذواق الناس المتنوعة. جزئياً، وإذ جُعلت كلمة الله معروفة بملئها وتماميتها، وأقوال الله دخلت إلى الضمائر، ازدادت عداوة العالم لهم ودخلت إلى حيز الفعل.

٩- "شَهَادَة يَسُوعَ" هنا بشكل خاص تعتبر من حيث الوجه النبوي فيها. إن ميلاد ملك اليهود أيقظ الغيرة القاسية عند هيرودس، وأثار أورشليم حتى مخ عظامها (متى ٢). الشهادة ليسوع كملك حق كانت جريمة ما كانت لتتحملها أو تتساهل فيها شرائع روما ولا عظمتها الإمبراطورية، ولذلك فإن روما صلبت بطرس وقطعت رأس بولس ونفت يوحنا.

١٠- "كُنْتُ في الرُّوح في يَوْم الرَّبّ". كل المسيحيين هم "في المسيح"، خلافاً لحالتهم الأولى عندما كانوا "في آدم"، وهم جميعاً "في الروح" خلافاً لحالتهم الماضية عندما كانوا "في الجسد". ما من مسيحي يمكن أن يوجد من جديد في "آدم" أو في "الجسد"، فكلاهما يصفان حالة ماضية. ففي الماضي كنا في نسل رأسه "آدم"، أي في حالة ساقطة. ولكن صرنا في الروح (رومية ٨)، كما الحال مع كل مسيحي بلا شك. ولكن يوحنا يتكلم بلهجة تدل على حزم وجزم وعلى قوة إيمان وعلى خضوع مطلق للروح. ما عاد يوحنا في ظروف حياته العادية اليومية بل في حالة أخرى من الكينونة. إن غياب أداة التعريف في كلمة "الروح"، لا يعني أن الروح القدس ليس هو المقصود. ليست الإشارة هنا إلى الروح القدس كأقنوم، ولا إلى روحنا، بل إن حذف أداة التعريف في العبارة يجعلها تشير إلى حالة معينة مميزة، حالة تؤكد على حضور الروح القدس وفيها تكون الروح الإنسانية وكل الكيان الداخلي في حالة انهماك بها (قارن حزقيال ١١: ٢٤ مع ٢ كور ١٢: ٢، ٣). إن بولس، وهو في حالة البحران التي كان فيها، لم يُسمح له آنذاك، ولا في ما بعد، بأن يُدون ما رأى وسمع. أما يوحنا، فعلى العكس، يُؤمر بأن يكتب عما يرى ويسمع.

نفس الصيغة من الكلمات نجدها في مدخل الرؤى التالية اللاحقة المدونة في الأصحاحات ٤ و٥، الخ. مشهد حالة النشوة الروحية في الأصحاح ١ هو على الأرض، بينما الذي في الأصحاح ٤ هو السماء.

كل محتويات سفر الروؤيا نقله الله ليوحنا في رؤى في أعظم يوم من الأسبوع، "يَوْم الرَّبّ". الرؤى الثمانية المفصلة في زكريا رآها الكاتب في ليلة واحدة (الأصحاح ١: ٨- ٦). ورؤى دانيال أيضاً رآها في الليل (الأصحاح ٧).

"يَوْم الرَّبّ":

١٠- "يَوْم الرَّبّ" ترد هذه العبارة مرة واحدة في الكتاب المقدس، ثم تصبح تسمية عامة تشير إلى اليوم الخامس بالمسيحيين الذي فيه يستريحون ويعبدون الله. والمقصود بذلك هو اليوم الأول من الأسبوع بكل تأكيد بدلالة الاعتبارات التالية: أولاً، الفرق في التعبير المستخدم في الأصل عن ذاك المستخدم في عبارة "يَوْم الرَّبّ"، كما نراها في ١ كور ٥: ٥؛ ٢ كور ١: ١٤؛ ١ تسا ٥: ٢. ثانياً، طبيعة الرؤيا الأولى (الآيات ١٢: ٢٠)، والتي فيها تطبيق حاضر. يسوع الممجد وسط الكنائس ليس له مكان ولا مغزى في فترة الدينونة القادمة، التي يتم الحديث عنها في كلا العهدين القديم والجديد على أنها "يَوْم الرَّبّ"، والتي يعتمد عليها إقصاء الكنيسة جانباً كشاهد عام لله على الأرض. لهذه الأسباب وغيرها نفهم زمن تطبيق العبارة "يَوْم الرَّبّ" التي هي موضع الجدال.

هناك حقيقتان تتركان بصمة على طابع اليوم الأول من الأسبوع، قيامة الرب من الأموات (يوحنا ٢٠) وتأسيس الكنيسة في العنصرة (لاويين ٢٣: ١٦، أعمال ٢). ولذلك فإن "يوم الرب" ليس يوماً عادياً، وليس "عشاء الرب" وليمة عادية. كلا الـ "يوم" والـ "عشاء" له معنى مميز خاص به. الطابع المقدس في "اليوم" و"العشاء" يجب أن يُصان بالكامل. إن يد المفسد الوقحة ستسلبنا هذا الإرث الخاص الثمين الذي يرمز إلى كنيسة قيامته وموته.

١٠- "سَمعْتُ وَرَائي صَوْتاً عَظيماً كَصَوْت بُوقٍ". وضعية الرائي لها مغزى. ظهره إلى الكنيسة ووجهه نحو الملكوت. الدمار الكنسي الذي تنبأ عنه بولس (أعمال ٢٠: ٢٨- ٣٢؛ رومية ١١؛ ٢ تيموثاوس ٣) قد حدث للتو. العنصر الجدلي في كتابات يوحنا موجه بشكل رئيسي ضد سيرِنثوس (التي كانت معاصرة للرسول) وآخرين، الذين بدأوا حملة صليبية شيطانية قوية ضد المسيحية. الهرطقات الغنوصية، والمبادئ والتعاليم التي شجبها بولس في رسائله إلى أهل كورنثوس وإلى كولوسي، كانت قد تطورت وتنامت بشكل كبير في أيام يوحنا، وفي القرن الثاني صارت لها مدارس مميزة، وهي جميعها في معارضة مفتوحة علانية وفظيعة ضد شخص ربنا يسوع المسيح. إضافة إلى هذه المخاطر الكنسية كان هناك السلطة التي تضطهد المسيحيين في العالم. لا عجب، إذاً، أن نظرة ذلك الشخص المبجل والكهل كانت متجهة إلى الأمام إلى مجد وقوة الملكوت عندما سيتبرر البار والخاطئ يُعاقب. ولكن الرب لم يكن قد انتهى من الكنيسة، وإن كان يوحنا قد أدار ظهره لها. كان عليه أن يسمع ويرى، ولذلك توجب عليه أن يلتفت وأن يكون مشهوراً لكل ما كان حاضراً للرب.

"الصَوْت العَظيم كَصَوْت البُوق" سيعلن أن مسألة ذات اهتمام عام ستُنقل، مسألة كانت تهم الكنيسة كلها، علاوة على ذلك، الرؤيا التي دُعي يوحنا ليشاهدها وراءه هي مدخل إلى كل سلسلة المكاشفات التالية، مشدداً بذلك على بدء هذه الإعلانات. كم هو جميل أن تكون أول رؤية مقدمة لناظري الرائي الجذل السابح في عالم آخر هي المسيح في الجسد، ومع ذلك فهو أيضاً في قوة وجلال وسط الكنائس.

الكنائس السبع:

١١- الألقاب الإلهية: "أَنَا هُوَ الأَلفُ وَالْيَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخرُ". هذه العبارة يجب رفضها لأن يوحنا لم يكتبها. اللقب الأول مُقحم على الأرجح من الآية ٨، واللقب الثاني من الآية ١٧، هذا بالإضافة إلى أن المتكلم لا يُعلن عنه، ولا يُعلن عن ألقابه إلى أن يلتفت يوحنا نحوه. "الْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذي تَكَلَّمَ مَعي".

١١- "الَّذي تَرَاهُ اكْتُبْ في كتَابٍ وَأَرْسلْ إلَى السَّبْع الْكَنَائس الَّتي في أَسيَّا: إلَى أَفَسُسَ، وَإلَى سميرْنَا، وَإلَى بَرْغَامُسَ، وَإلَى ثَيَاتيرَا، وَإلَى سَارْدسَ، وَإلَى فيلاَدَلْفيَا، وَإلَى لاَوُدكيَّةَ". كانت هناك جماعات وكنائس أخرى ذات أهمية في أسيا بالإضافة إلى هذه السبع المحددة. ولكن روح قدس الله كانت لديه غاية معينة جعلته يختار هذه الكنائس المعينة، ومن هنا تأتي أداة التعريف: "السَّبْع الْكَنَائس". كما وإن الترتيب التي وردت فيه الأسماء جدير بالملاحظة. في تفسيره للرؤيا، يكتب هنغستينبيرغ قائلاً: "أَفَسُسَ، وسميرْنَا، وَبَرْغَامُسَ يجب أن يكونوا معاً، وأن يُفصلوا عن البقية. لأن هذه المدن الثلاث، وهذه وحدها فقط، كانت تتنافس من أجل الحصول على الأولية في أسيا". في الخطابات المنفصلة إلى الكنائس (الأصحاح ٢ و٣). هناك تقسيم لافت واضح إلى ثلاثة وأربعة. وهذه هي الدعوة: "مَنْ لَهُ أُذُن"، تتكرر سبع مرات، ترد في الخطابات إلى الكنائس الثلاث الأولى قبل كلمة إلى الغالب أو من يغلب (٢: ٧، ١١، ١٧)؛ بينما في الرسائل الأربعة الأخيرة الدعوة لأن "يسمع" تأتي بعد الوعد للغالب (٢: ٢٩؛ ٣: ٦، ١٣، ٢٢). الكنائس أو الجماعات تُسمى بشكل منفصل. استقلالية كل واحد منا مؤكدة بشكل كامل، والمسؤولية الملقاة على كل منها تجاه المسيح يتم التعليم عنها بشكل متميز واضح. إن الوحدة الحيوية للكنيسة كـ "جسد واحد"، والاتكال المتبادل بين أعضائها، هي حقائق يعلّمها بولس حصرياً. في الأصحاحات الثلاث الأولى من الرؤيا يُنظر إلى الكنيسة من سفر الرؤيا، من جهة أخرى، من خلال مهمتها العامة على الأرض في أنها حاملة نور الله والشاهد له. لابد أن "السبع الكنائس" تظهر مواصفات محددة معينة تطبع طابع الكنيسة الكونية في مراحل متعاقبة من تاريخها، بينما هذه الملامح نفسها مجتمعة تميز الكنيسة في كل أرجاء الأرض في أي وقت، في ذلك الحين والآن.

اثنتان منهما، سميرنا وفيلادلفيا، تُمتدحان بدون أن تُوجه لهما أي كلمة توبيخ. الألم ميز الأولى، والضعف الأخيرة. مزيج من المديح واللوم تتقاسمها كنائس أفسس، وبرغامس، وثياتيرا، وساردس. أما لاودكية فهي الأسوأ بين "السبع". حالتها ميؤوس منها، كلها لوم دون كلمة إطراء. في ثياتيرا بقية تقية لأول مرة يتم تمييزها.

(١) أفسس

إن العاصمة الشهيرة لأسيا في الرؤيا، "نور أسيا" كانت الكرسي الرئيسي ومركز العبادة الوثنية. لقد كانت حضن قوة الشيطان، ومنها انتشرت العبادة الوثنية إلى كل أرجاء العالم المعروف (أعمال ١٩). الأصنام الفضية الصغيرة التي تمثل الإلهة ديانا كان يشتريها الغرباء بإقبال شديد، ويضعونها في الهياكل والبيوت للعبادة؛ بينما الهيكل الهائل للإلهة، المزخرف بثروة أسيا، كان يعتبر أحد العجائب السبعة في الدنيا. صارت أفسس عالم صراع عنيف بين قوى النور والظلمة. أكيلا وبريسكيلا التقيين عملا جاهدين لبعض الوقت في هذه المدينة عابدة الأوثان؛ وقبلهم اثنا عشر تلميذ من تلاميذ يوحنا كانوا قد ساعدوا إلى حد ما كفي اختراق الظلمة، ولكن جهودهم كانت ضعيفة على ما يبدو بسبب حالتهم الناقصة (أعمال ١٩)؛ ثم أتى أبولس البليغ فأعطى قوة دافعة أكثر إلى العمل. ولكن يبدو أن بولس هو الذي حطم قوة الظلمة وأثار غضب أتباع عبادة الأوثان والمؤمنين بالخرافات، غذ رأوا كل نظام العبادة خاصتهم كمثل دَاجُونَ العهد القديم، يرتجف أمام حقائق المعرِّية للنفس في المسيحية؛ وأخيراً، يوحنا الحبيب، بعد مغادرته دياره في أورشليم، اتخذ مسكناً له في أفسس، ولثلاثين سنة جعل منها مركز عمله الكرازي للمسيح. إن قضى مجد أفسس، وتلك المدينة الوثنية التي كانت فخورة يوماً صارت قرية بائسة تُعرف اليوم باسم أياسالوك.

(٢) سميرنا

تقع سميرنا على بعد أربعين ميلاً شمال أفسس، وهي إحدى أعظم وأهم المدن في الإمبراطورية التركية؛ عدد سكانها يبلغ تقريباً حوالي ٢٠٠ ألف نسمة. قديماً كانت منافسة لأفسس، من بعض الجوانب. موقعها الطبيعي والتجاري، وثروتها وتجارتها، وروعة وفخامة الأبنية فيها جعلتها تُدعى "الجميلة". لم تكن تختلف كثيراً في عاداتها الوثنية عن أفسس. لا يأتي ذكر سميرنا في سفر أعمال الرسل، ولا في رسائل بولس، وليس لدينا وسيلة نتحقق فيها بشكل قاطع من كيفية أو زمان دخول الإنجيل إليها. القوانين الإمبراطورية الصارمة ضد المسيحية كانت تُفرض بشكل قاسٍ صارم في سميرنا، وخاصة وسط اليهود والوثنيين متجمعين متحدين، الذين ضغطوا على أيدي السلطات المحلية ليضعوا مراسيم الاضطهاد قيد التنفيذ. بوليكاربوس، صديق يوحنا، قُتل هنا، كما يُقال، وهو في التسعين من العمر، وذلك عام ١٦٨ م، وكان هذا آخر تلميذ اهتدى شخصياً على يد الرسول يوحنا. إن الاضطهاد العنيف الذي شُن في أسيا الصغرى كان مركزه في سميرنا. ولا شك يُشار إليه في الخطاب المطوّل الموجّه إلى تلك الكنيسة (رؤيا ٢: ٨- ١١).

(٣) برغامس

تقع إلى الشمال أكثر. هذه المدينة التجارة فيها ضعيفة أو معدومة، ولكنها كانت مشهورة بالتعليم والتهذيب والعلم فيها وخاصة الطب. سلسلة طويلة متتالية من الملوك جعلوا برغامس، أو برغامُم، كما يسميها اليونانيون، مقر سكنهم الملكي. كانت مشهورة بالمكتبة فيها، التي تأتي بالدرجة الثانية بعد الإسكندرية، والتي كانت تحوي حوالي ٢٠٠ ألف كتاباً متراصاً. وهنا كان ينتشر فن صناعة جلود الحيوانات وإعداده لكي يُكتب عليه، ومن هنا انحدرت كلمة البرشمان أو الرق. وهكذا تم تداول اسم هذه المدينة المشؤومة المصير روحياً (رؤيا ٢: ١٢- ١٧) في العصور المسيحية، وبالتأكيد فإن الكثير من المخطوطات الرقية (برغامينا) القيِّمة قد أُعدّت في برغامس. كانت عبادة أرتيمس تميز أفسس. وكان ديونيسوس هو الإله المميز في سميرنا. كانت هاتان المدينتان شريرتين، ولكن برغامس كانت متفوقة في الشر وكذلك في العبادة الوثنية. النعوت أو الألقاب، "عرش الشيطان" و"حيث يسكن الشيطان" (رؤيا ٢: ١٣)، لابد أنها خير مثال على ذلك وأنها كانت تنطبق محلياً على برغامس. ما كان يُحتفل به أكثر في هيكل أسكولابيوس هو الأفعى المرتوية، والتي كان وراءها "إبليس، تلك الحية القديمة". الطب، ذلك العلم النبيل، كان قد تطابق مع عبادة الشيطان، الذي اغتصب مكان، ووظائف، وألقاب المسيح. الأسماء، "رقيب" و"مخلّص" صارت تنطبق على أسكولابيوس، والشفاءات التي كانت تحدث كانت تُنسب إلى هذا الإله المختار. باختصار كانوا يستبدلون المسيح بالشيطان.

(٤) ثياتيرا

تقع إلى الجنوب الشرقي من برغامس. "الطريق من ثياتيرا إلى برغامس... هو من أجمل الطرق في العالم". المدن الثلاث التي ذُكرت سابقاً كانت أكثر شهرة من ثياتيرا بكثير. وبشكل غير مباشر، كانت تربط نفسها مع عمل بولس الكرازي في أوربا. فأول المهتدين على يده كانت امرأة من ثياتيرا تعمل في بيع الأرجوان الذي كانت تشتهر به مدينتها (أعمال ١٦: ١٤). وإن النقوش، التي لا تزال قيد الوجود، تُظهر أن نقابة عمّال الصباغة كانوا يشكلون أكبر وأهم حرفة في المدينة، وحتى هذا اليوم القماش القرمزي المتألق المصبوغ هناك يُستخدم بشكل واسع في كل أرجاء أسيا وأوربا، وترسل كمية كبيرة منه أسبوعياً إلى سميرنا. ثياتيرا حالياً بلدة مزدهرة بعدد سكان يبلغ حوالي ٢٠ ألف نسمة.

(٥) ساردس

تقع على بعد ٢٧ ميلاً على خط مستقيم من ثياتيرا. كانت ساردس في الماضي مدينة مترفة ومتكبرة، وعاصمة مملكة ليديا. هذه المدينة التي كانت ملكية يوماً ما، ورغم بسالة سكانها، سقطت أمام البطل الغازي، كورش. ومع سقوط المدينة انتهت مملكة ليديا إلى غير رجعة. الاسم الحالي للعاصمة هو سارد. يا له من تعليق على العظمة البشرية نجده في المدينة المنحطة الآن والتي كانت مترفة وحكيمة ومقتدرة باسم كريسس: "راعيان أو ثلاثة كانوا يسكنون في كوخ، إضافة إلى تركي وخادمين له، في زمن زيارة السيد أروندِل عام ١٨٢٦. وفي عام ١٨٥٠ لم يكن هناك أي إنسان يسكن في ساردِس تلك التي كانت يوماًَ عظيمة ومزدحمة بالسكان" ٨.

(٦) فيلادلفيا

تستمد فيلادلفيا اسمها من مؤسسها، أتالوس فيلادلفوس، ملك برغامس، وتقع على بعد ٢٥ ميلاً إلى جنوب ساردس. اسمها الحالي، "الله شهر"، ("مدينة الله")، ذو مغزى، رغم أن الأتراك لا ينظرون إلى المدينة بأي درجة من تبجيل أو وقار. البلدة الحالية كبيرة، وتحوي حوالي ١٥ ألف نسمة، نسبة كبيرة منهم هي من اليونانيين المسيحيين. بقايا الأزمنة المسيحية الأولى عديدة جداً هناك أكثر من أي مدينة أخرى في أسيا يذكرها يوحنا؛ البقايا لا تقل عن ٢٥ كنيسة، بينما أعمدة المرمر العديدة، تذكرنا بالإشارة الواردة في الرؤيا (٣: ١٢) والتي نرجّح أنها تشير إلى هذه الأعمدة. خلو رسالة يوحنا إلى ملاكها من اللوم (٣: ٧- ١٣) جدير بالانتباه في ما يتعلق بحقيقة أنها استمر ت أطول من أي مدينة من المدن السبع المذكورة. يقول جيبون الشكوكي: "من بين المستعمرات والكنائس اليونانية في أسيا، لا تزال فيلادلفيا قائمة؛ عموداً وسط الأنقاض، مثالاً ممتعاً على أن طرق الشرف والكرامة والسلامة يمكن أن تكون نفسها أحياناً".

(٧) لاَوُدِكِيَّةَ

كانت تقع على بعد ٤٠ ميلاً شرق أفسس، وقد اشتقت اسمها من لاَوُدِس، زوجة انتيوخوس الثاني، الملك. لقد كانت مدينة في غاية الثراء، لدرجة أنه حتى عندما أصابها زلزال في عهد نيرو ٦٢ م، سرعان ما استعادت ماضيها وسابق عهدها، ومن مصادرها الخاصة، استعادت مجدها الأصلي، وكانت في زمن الرؤيا مدينة فخمة. كانت الكنيسة قد أُصيبت بـ "حُمى الذهب"، "لأَنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ وَقَد اسْتَغْنَيْتُ" (رؤيا ٣: ١٧). الكبرياء، والثراء، والترف، والرضى الذاتي، كان يميز الحياة العامة لسكان تلك المدينة، ومن الواضح أن ذلك طبع شخصية الكنيسة أيضاً. كبرياء لاَوُدِكِيَّةَ قُهر، وثروتها تبعثرت بين الغرباء، وعظمتها اندثرت إلى التراب. الموقع الذي كان يوماً مدينة مترفة قد صار مشهداً من الدمار الكلّي والخراب ٩.

التطبيق:

إن تطبيقاً خاصاً، ولكن ليس حصرياً، للأصحاحات الثلاثة الأولى على الكنائس الأسيوية المذكورة بالاسم يجب أن يُعترف به. ومن هنا، فإن يوحنا يسلّم على "الْمجامع السَّبْع الَّتي في أَسيَّا" (الآية ٤)؛ إنه يراهم سواسياً أمام ناظريه في الآية ١١؛ في حين تُرسل رسالة خاصة إلى كل واحدة من "السبع" كنائس (الأصحاح ٢ و٣). ولكن رغم أن التطبيق المباشر على الكنائس الأسيوية السبع لا شك فيه، إلا أنه من الواضح أيضاً أنها كانت تمثل الكنيسة جمعاء، ليس فقط في كل زمن، بل أيضاً في مراحل متعاقبة من تاريخها. بعد الأصحاح الثالث نجد تلميحاً وإشارة إلى هذه الكنائس السبع. "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس"، هذه تكرر سبع مرات وتعلن تطبيقاً مباشراً لهذه الخطابات على كل سامع مفرد، وأيضاً على كل جماعة من المؤمنين المعترفين على الأرض في أي زمن. تطبيق اليوم الحالي هو ذو قيمة بالغة وفائدة.

طُرحت أسئلة كثيرة تتعلق بقدرة يوحنا، وهو سجين، على أن يكتب ويتواصل مع الكنائس. نعلم أن الرؤيا كُتب ككل في بطمس، وبالإضافة إلى ذلك أن الكنائس السبع كان لكل منها رسائل خاصة بها أُرسلت لها من ذلك المكان. لا نرى سبباً للافتراض الذي وضعه البعض بأن الرؤى قد رآها يوحنا في بطمس، ولكن كتبها في ما بعد في أفسس بعد إطلاق سراحه من المنفى وذلك خلال حكم نيرفا. إن المظاهر الفائقة الطبيعة تميز جزءاً كبيراً من السفر، ومن هنا تختفي الصعوبات كمثل رقائق الثلج التي تذوب.

سبع مناير من ذهب:

١٢- "فَالْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذي تَكَلَّمَ مَعي. وَلَمَّا الْتَفَتُّ رَأَيْتُ سَبْعَ مَنَايرَ منْ ذَهَبٍ". بالتفات الرائي لرؤية صاحب الصوت الذي يتحدث إليه، لابد أنه اتجه نحو الشرق، وهذا مشهد شيّق. ما رآه أول شيء هو "سبع مناير من ذهب". نفهم من الآية ٢٠ مغزى كل ذلك: "الْمَنَايرُ السَّبْعُ هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". القيمة العددية للرقم سبعة تشير إلى ما هو كامل. والذهب، المعدن الأكثر ثمناً، يرمز إلى البر الإلهي. تأسيس وتكوين الكنيسة، سواء نُظر إليه من ناحية العلاقة مع المسيح كجسده، أو العلاقة مع الله كبيته، هو عرض للبر الإلهي في شخص الله. ولا يمكن أن يكون غير ذلك. في الرمز "سبع مناير من ذهب" لدينا الكنيسة في اكتمالها وكمالها على الأرض، كما في فكر الله، وفي مركزها العلني كشاهد لله. إنها ليست ما صارت عليه الكنيسة، بل كما يُنظر إليها وهي في الأصل وبطابعها كما أسّسها هو نفسه. بينما الكنيسة بمجملها هي نصب أعيننا إلا أنه يُنظر إليها هنا من خلال كنائس منفصلة متفرقة.

المناير الذهبية السبع كانت تدل بشكل واضح على الشمعدان الذهبي الذي تتفرع منه سبع شُعب والذي كان يوضع في الجهة الجنوبية من الجزء الخارجي من المقدس في العهد القديم. هنا المناير نجدها في الشرق. هناك، المناير السبع كان لها ساق واحدة وحامل واحد، وكانت كل منارة تلقي بضوئها الساطع على العمود أو الساق المزخرفين بشكل جميل، فتشكف جمالها خلال ساعات ظلمة الليل (خروج ٢٥: ٣١- ٤٠؛ عدد ٨: ٢- ٤)، ولذلك ففقط في الحضور الإلهي يتم التعبير بشكل كامل عن الأمجاد الأخلاقية ليسوع، ابن الله الحبيب. كل منارة هنا موضوعة على قاعدتها الخاصة. إنها تمثل كنائس منفصلة ومستقلة، كل واحدة منها في مكانها مسؤولة عن إلقاء حزمة الضوء الخاصة بها خلال الظلام. إنها مسؤولية جدّية وحاسمة لكل جماعة معترفة من القديسين أن تكون في مكانها الخاص كشاهد لله، وما هو صحيح بالنسبة للكنائس المحلية يصح أيضاً على الكنيسة الكونية. المناير الأسيوية السبع كانت قد سقطت منذ زمن بعيد بناءً على التهديد الإلهي (٢: ٥)، ودينونة مماثلة، ورغم التعبير عنها برمز آخر مختلف، هي على وشك أن تصيب الكنيسة المعترفة ككل (رومية ١١: ٢٢). أين هي المناير الذهبية اليوم؟ هذا سؤال مهيب علينا جميعاً أن نبحث عن إجابة لها.

رؤيته للمسيح (الآيات ١٣- ١٦):

أول ما يسترعي انتباه الرائي هو المناير الذهبية السبع، وليس فقط الشمعدانات أو حوامل الشموع ١٠. ولكن ما قيمة الكنيسة بمعزل عن المسيح؟ إن المجد المميز في هذه الرؤيا الافتتاحية هو ليس في الكنائس في موقفها الإلهي على الأرض، بل في عظمة وجلال ذاك الذي تكرّم بأن يكون في وسطها. من هو ذاك؟ إنه "شبْهُ ابْن إنْسَانٍ". إن حذف أداة التعريف في الأصل، كما الحال في دانيال ٧: ١٣، جدير بالانتباه. النبي والرائي كلاهما رأيا ابن الإنسان بلا شك، ولكن الذي كان يميزه حتى يحمل ذلك الاسم أو اللقب هو الفكرة من وراء حذف أداة التعريف، علماً أن ابن الإنسان ليس معروفاً كثيراً؛ ولكن يراه في السماء النبي العبري، وعلى الأرض الرائي المسيحي، في صفات مجيدة تخصه وحده هو الذي يحمل ذلك اللقب. إنها صفة مميزة، وليست شخصية.

١٣- "ابْن الإنْسَان" هو لقب يستخدمه حزقيال حوالي ١٠٠ مرة، ومرة في دانيال (٨: ١٧)، النبي العبري الوحيد الذي تكلم عنه. الرب وحده في الأناجيل يستخدم هذا اللقب للإشارة إلى نفسه، حوالي ٧٠ مرة. يوحنا ١٢: ٣٤ هو استثناء وحيد على ما يبدو. اللقب يعبر عن مجال أوسع من السلطان والمجد أكثر من ذاك الذي لملك إسرائيل (قارن مز ٢ و٨). كابن لله يقيم الميت، روحياً (يوحنا ٥: ٢٥) وجسدياً (الآية ٢٨). وكابن الإنسان يدين (الآية ٢٢)، وأيضاً يُنفّذ إدانته (الآية ٢٧). إنه لقب ذو صدى خاص عند الرب.

١٣- "مُتَسَرْبلاً بثَوْبٍ إلَى الرّجْلَيْن". أي إلى رجلي أو قدمي الممجّد، ولكنه ليس خفيضاً بما يكفي لتغطيتهما (الآية ١٥). وليس هناك تحديد لمادة أو لون الرداء الذي يرتديه. هناك إشارة واضحة إلى الإيفود، الرداء الجليل لرئيس الكهنة ١١. ولكن الرداء الطويل الفضفاض ليس مزوداً بطوق عند الحقوين (لوقا ١٢: ٣٥) ولا مشدوداً إلى الجانبين (يوحنا ١٣: ٤) كما تتطلب الخدمة الفعالة، بل إن الإشارة هنا هي إلى "الدينونة الكهنوتية المُبجَّلة".

١٣- "مُتَمَنْطقاً عنْدَ ثَدْيَيْه بمنْطَقَةٍ منْ ذَهَبٍ". المواد التي كانت موجودة في منطقة رئيس الكهنة هي "الذهب" و"الكتّان" وألوان هذا الأخير كانت "اسمانجوني وقرمز وبوص مبروم" (خروج ٢٨: ٨)، وفي هذا دلالة على اتحاد البر الإلهي والبشري في يسوع رئيس كهنتنا العظيم، بينما تمثّل الألوان طبيعته الإلهية (الأزرق)، والآلام (الأرجواني)، والمجد (القرمزي). ولكن المنطقة هنا هي بأكملها من الذهب الخالص، البر الإلهي. الحزام الذي على الصدر بدل الحقوين (دانيال ١٠: ٥) يشير إلى الاسترخاء الهادئ. المنطقة بحد ذاتها ترمز إلى البر والأمانة والإخلاص، هذه الصفات الذي تميز بها الرب على الدوام في كل طرقه (أشعياء ١١: ٥). ملائكة الدينونة (رؤيا ١٥: ٦)، كمثل ربنا، متمنطقة بمنطقة من ذهب عند الثديين. الترتيب العادي هو أن يكون الحزام عند الحقوين، ولكنه ليس هكذا هنا، فالمنطقة عند الثديين تشير إلى أن تلك الدينونة يجب أن تُنفَّذ بحسب كينونة الله في طبيعته.

١٤- "رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ أَبْيَضَان كَالصُّوف الأَبْيَض كَالثَّلْج". "قديم الأيام" (دانيال ٧: ٩) يوصَف على نحو مشابه. هناك مواصفات مشتركة في كل من ابن الإنسان وقديم الأيام. هما شخصان متمايزان، ومع ذلك متطابقان جداً في الفعل والشخصية حتى يعسر علينا أن نميز بينهما في أغلب الأحيان. إن التطابق بين يسوع ويهوه، بين الإنسان المتعب (يوحنا ٤: ٦) مع الخالق الذي لا يكل ولا يعيا (أشعياء ٤٠: ٢٨) هو موضوع مثير للاهتمام جداً. إن الحكمة الإلهية في النقاء المطلق تبدو، بشكل أساسي، الفكرة المقصودة من الرؤية المبهرة للرأس والشعر. في المقطع عند دانيال، لا تُذكر رؤية الرأس. وأما هنا فالرأس مكشوف. الحديث هو عن صفات شخصية وليس عن أمجاد رسمية أو نسبية، تلك التي نجدها في الآية ١٦.

١٤- "عَيْنَاهُ كَلَهيب نَارٍ"، دينونة متقدة شديدة، تمتد وتكشف الشر بكل عريه، ومهما كان مغطى. من أو ما الذي يستطيع أن ينجو من هذه النظرة الثاقبة المتفحصة في تينك العينين الملتهبتين كالنار؟

١٥- "رجْلاَهُ شبْهُ النُّحَاس النَّقيّ، كَأَنَّهُمَا مَحْميَّتَان في أَتُونٍ". في هذا إشارة إلى القوة القاهرة المريعة التي لا يمكن ثنيها في الدينونة القضائية (قارن مع ١٠: ١).

١٥- "صَوْتُهُ كَصَوْت ميَاهٍ كَثيرَةٍ" (قارن مع حزقيال ٤٣: ٢). إن جلال وفخامة صوته تفوق زئير شلالات كثيرة شديدة قوية. "من أصوات مياه كثيرة من غمار أمواج البحر الرب في العلى أقدر" (مزمور ٩٣: ٤). إن علامة سيادته المطلقة وسمو قدرته هي فوق كل أمواج المشاعر البشرية، وفوق ظروف العالم المحطَّم والكنيسة المدمَّرة، وهذه تجعل "صوته كأصوات مياه كثيرة". لقد كان صوته- يقول الله- أقوى بعشرة أضعاف، وهذا جعل النظام من الشواش والفوضى، وأظهر النور من الظلمة، واستخرج الحياة من الموت (تكوين ١). صوته هو الذي أسكت بحر الجليل الغاضب، وانتهر الرياح العاصفة والأمواج فهدأت كطفل نائم (متى ٨: ٢٣- ٢٧).

١٦- "مَعَهُ في يَده الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكبَ". الكواكب هي الملائكة أو ممثلي الكنائس (الآية ٢٠). "الكواكب" كرمز هي تعبير أولاً عن الكثرة التي لا عدَّ لها (تكوين ١٥: ٥)؛ وثانياً، أشخاص مقتدرين يتمتعون بسلطان عظيم، في الحياة المدنية والكنسية (دانيال ٨: ١٠؛ رؤيا ٦: ١٣؛ ١٢: ٤)؛ وثالثاً، تشير إلى السلطات التي تأتي في الدرجة الثانية أو الأقل شأناً بشكل عام (تكوين ٣٧: ٩؛ رؤيا ١٢: ١). إن كل سلطة كنسية، وكل خدمة وكل حكم روحي في كل جماعة مكتسبة أو مستمدة من المسيح. إن قدرتهم الكافية الوافية على أن يعطي أو يمنع، يحفظ أو يؤازر كل خادم حقيقي لله هي الفكرة الأساسية من الكواكب هنا التي هي معه في يده اليمنى. عند السؤال عن الضمان الأبدي للمؤمنين، يُقال بأنهم في يده (يد المسيح)، وفي يد الآب، وليس من قوة يمكن أن تقتلعهم منها (يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩). ولكن لا يُقال بأنهم في "يده اليمنى"، كما الحال هنا. إن الحكام الروحيين- لا نقول الرسميين، إذ ليس جميعهم معينين في كنيسة الله- تراهم وتحفظهم وتؤازرهم يمين ابن الإنسان. "يَده الْيُمْنَى" تدل على سلطته المطلقة السامية وكرامته الفائقة (مز ١١٠: ١؛ أفسس ١: ٢٠؛ رؤيا ٥: ١، ٧). يا لها من مسؤولية، رغم فخامة المركز، تقع على عاتق كل مسؤول في الكنيسة. تشير دانيال ١٢: ٣ إلى فئة مستقبلية من الخدام أو الحكام اليهود. ويشير يهوذا ١٣ إلى فئة من المرتدين المسيحيين.

إن مسؤولية الكوكب ودوره هو أن يشع ويشرق. خلال ليل غياب ربنا، تكون المجامع هي حاملة نور الله خلال العتمة، وهي جميعاً نور العالم. ولكن ينبغي على كل حاكم أو مرشد مسيحي أن ينير ضمن المجال المحدد له. وكلما زادت الظلمة ازدادت الحاجة إلى أن يشرقوا وأن يعكسوا نور السماوات على الظلمة المحيطة التي ما فتئت تزداد.

١٦- "سَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْن يَخْرُجُ منْ فَمه". يتم تنفيذ الدينونة الإلهية بمجرد قوة كلمته، وهذا لا يمكن تفاديه- لأن السيف ذو الحدين هو قوة ذلك الشخص. لم نقرأ أبداً عن ربنا يضع يده شخصياً على أعدائه. إنه يتلكم، فيُنجز الأمر. كلمته الشخصية هي النقطة هنا، كما الكلمة المكتوبة في رسالة العبرانيين في ٤: ١٢. غير الأتقياء في الكنيسة هم أول المهددين بالدينونة على يده، وهذا لا يمكنهم تفاديه ما لم يتوبوا (رؤيا ٢: ١٦). في بدء الحكم الألفي نشهد أحد أكثر المشاهد المحزنة على الأرض، الأمم محتشدة في الغرب، الخ. تحت قيادة زعمائها في تحد صريح لحمل الله (رؤيا ١٩: ١٩- ٢١). سيف المنتصر القدير، قوة كلمته التي لا يمكن مقاومتها، تجد أعداءهم، وقتل الجيوش الكونية المحتشدة من الأمميين يمجد بره "في انتقامه" من أولئك الذين يرفضون الاعتراف بصولجانه.

١٦- "وَجْهُهُ كَالشَّمْس وَهيَ تُضيءُ في قُوَّتهَا". في أحد الأيام بصق الناس على وجهه وهو الطويل الأناة (متى ٢٦: ٦٧)، والآن هو في مجد إلهي، أشد سطوعاً بكثير، وأكثر تألقاً من الشمس المدارية في وسط النهار، يبدو هنا في وجه الرب. "الشَّمْس وَهيَ تُضيءُ في قُوَّتهَا"، بحيث تعجز أي عين عن النظر إليها، وفي هذا تصوير مسبق للمجد الرفيع ليسوع، ابن الإنسان. لعله يمكننا أن نلاحظ أن المسيح يتم الحديث عنه كنور للعالم (يوحنا ٨: ١٢)، وكشمس بر إسرائيل (ملاخي ٤: ٢)، وككوكب الصبح المنير للكنيسة (رؤيا ٢٢: ١٦). يرسم هنغستينبيرغ صورة فيها تضاد بين مجد الشمس ومجد الكواكب (١ كور ١٥: ٤١)، مطبّقاً الدرس على المجد الفائق للمسيح (الشمس)، على ذاك الذي لخدامه (الكواكب). إن الكواكب هي مجرد عاكسة للضوء. ليس لها نور من تلقاء ذاتها. في قصة الخلق البسيطة وأيضاً التي لا مثيل لها (تكوين ١) الأجرام المميزة للنهار والليل يتعين مكانها بحسب علاقتها مع هذه الأرض، ثم تضاف بدون أهمية كبيرة، "الكواكب أيضاً" (الآية ١٦). ألا ليت كل خادم يضع هذه الصورة في قلبه. أليس في هذا درس لكل خادم؟ ما نحن سوى أشخاص ذوي قيمة تافهة لو لم نكن ممسوكين بيمين المسيح. إن ارتباط الخادم بالرب وحده يمنحه الكرامة.

يا لها من رؤيا مجيدة للمسيح تلك التي نجدها هنا والمختلفة كلياً عن مسيح الأناجيل. فهناك، صفاته هي الحنو والقداسة والمحبة؛ أما هنا، فيُرى متدثراً ثوب الجلال والقوة. هناك كان رجل أوجاع، وأما هنا فالألوهية ممتزجة كقديم الأيام مع إنسانيته كابن الإنسان. بالطبع كان يتمتع بالطبيعة الإلهية على الدوام، وكان دائماً هو الله، ولكن على الأرض كان قد حجب مجده السرمدي، أو كما يقول بولس: "أخلى نفسه" (فيل ٢: ٧). هنا يُشرق مجده وسط الكنائس، ويا لها من قوة وعزاء لقلب كل مؤمن حقيقي، ويا له من رعب لكل من يعارضه.

الضعف البشري والعزاء الإلهي (الآيات ١٧، ١٨).

١٧- "لَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عنْدَ رجْلَيْه كَمَيّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائلاً لي: «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إلَى أَبَد الآبدينَ. وَلي مَفَاتيحُ الْهَاويَة وَالْمَوْت".

تأثير الرؤيا المجيدة للمسيح كانت ومقوية ومشجعة. يوحنا نفسه الذي كان قد اتكأ برأسه على صدر المعلّم (يوحنا ١٣: ٢٣)، وسبق بطرس إلى القبر (يوحنا ٢٠: ٤)، وقدّم العبادة للرب قائماً من الأموات (متى ٢٨: ١٧)، وشاهد بنظرة منذهلة صعود الرب (أعمال ١: ٩، ١٠)، يخرّ الآن على قدميه كالميت. عندما تجلى المسيح على الجبل المقدس أثار الخوف عند الرسل الثلاثة المأثورين لديه (متى ١٧: ٦، ٧). أشعياء، الذي جَذِلَ فرحاً بالمستقبل المجيد أكثر من كل الأنبياء العبرانيين، ركع على ركبتيه في حضرة مجد المسيح؛ بينما السيرافيم غطوا أوجههم وأقدامهم، إذ أن المجد كان ساطعاً جداً لدرجة يعجزون معها على أن ينظروا، والمكان مقدس جداً لدرجة يعجزون معها عن أن يطأوا عليه (قارن أشعياء ٦ مع يوحنا ١٢: ٤١). وحزقيال وقع على وجهه أمام نفس المجد (١: ٢٨)، وفعل دانيال نفس الأمر لعدة مرات (٨: ١٧، ١٨؛ ١٠: ٧- ١٠). ولكن المسيح يُرى هنا، ليس في منطقة مجده الأصلية، موطن قصره الملوكي في السموات، بل وسط الكنائس في عرض كامل لسمات تدل على السلطان والقدرة والجلال. إننا نرى هنا ابن الإنسان المتجسد ممجداً. ومن هنا، وإزاء هذا الإظهار للمسيح، فإن تأثير ذلك كان أكثر من أي وقت مضى. لقد وقع يوحنا على وجهه كالميت. على الأرجح أن التلميذ الذي كان محبوباً ومُحِباً أكثر هو يوحنا، ولكن ماذا تفيد حتى أقوى المشاعر البشرية إزاء نور مجد يسوع الغامر، ابن الإنسان. مع ذلك فإن الضعف البشري تقابله تعزية إلهية. المخلّص الممجد ورئيس الكهنة "تأثر بمشاعر ضعفنا". نعمته وحنوه تعادلان جلاله وعظمته.

١٧- "وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ"، يقول الرائي. إنها يد القوة. على الجبل، لمسة يد يسوع وصوته بددا في الحال مخاوف التلاميذ (متى ١٧: ٦، ٧). وهنا، أيضاً، يد وصوت الممجّد تعيد التلميذ من حالة الخدر التي تشابه الموت. لقد كانت أكثر من لمسة، فقد "وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ". كم كانت ضغطة تلك اليد بقدرتها التي تعطي الحياة وقوتها ستثير وتفرح ذلك "التلميذ الذي أحبه يسوع"، وهو يسوع نفسه في الزمان وفي الأبدية، في الأرض وفي السماء.

١٧- "لاَ تَخَفْ". هكذا قال المخلص الممجد كلمته المطمئنة التي رافقت وضع يمينه عليه. لقد كان في حاجة إليهما كلتيهما: كلمة "لاَ تَخَفْ"، لطالما تتردد على الأرض وسط سكانها الخائفين وظروفها، ومن جديد تخترق أذن ذلك التلميذ لأن يسوع لا يتبدل ولا يتغير. لقد تغيرت ظروفه تماماً، ولكن القلب الذي كان ينبض في الجليل هو نفسه الذي يخفق بمحبة متناهية الحنان نحو خاصته.

١٧- "أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخرُ". هذا لقب إلهي بالأساس. يستخدمه يهوه ثلاث مرات حصرياً ليدل على نفسه في نبوءة أشعياء (٤١: ٤؛ ٤٤: ٦؛ ٤٨: ١٢)، وعلى نفس المنوال يستخدمه المسيح ثلاث مرات في هذا السفر (١: ١٧؛ ٢: ٨؛ ٢٢: ١٣). انطلاق هذا اللقب الخاص بالله على ابن الإنسان هو دليل مطلق على ألوهيته. الأزلي الكائن بذاته، مع كل ما يلازم بالضرورة سيادته المطلقة هو المشار إليه هنا. فكونه "الأول"، يعني أنه قبل الجميع وفوق الجميع ومنه الكل ينبثق. ولكونه "الآخرُ"، فهو بعد الجميع، وفيه تتمركز كل الأشياء. إنه منبع وخلاصة الخلق الكوني. فما المبرر للخوف إذاً؟ بالتأمل الهادئ في هذا اللقب الجليل الرائع، الذي أعلنه وحمله يسوع الناصري الممجد في السموات، يتلاشى الخوف كالضباب أمام الشمس التي تشرق. هي ذي صخرة قوة للأقدام المتعبة ولأعباء الحياة الأشد ثقلاً.

١٨- "الْحَيُّ" هو اللقب أو الاسم الإلهي التالي. لقد كان، ولا يزال، وسيبقى، مصدر الحياة. إنه الحيُّ المستقل عن كل الخلائق. إن تجسد الرب لم يُنشِئ حياة، بل أظهر ما كان موجوداً قبلاً (١ يوحنا ١: ٢). "الحيُّ، بشكل خاص، كان الاسم أو اللقب الذي استخدمه العبرانيون ليميزوا الإله الحقيقي عن جميع الآلهة الزائفة". الحياة الأبدية للمؤمنين، الوجود الأبدي لغير المؤمنين، وخلود الملائكة لها جميعاً مصدرها في المسيح، "الحيُّ". ما تنبأت به الكتابات المقدسة في العهدين القديم والجديد عن الله (إرميا ١٠: ١٠؛ ١ تيموثاوس ٣: ١٥) ينطبق تماماً على المسيح.

١٨- "صِرتُ مَيْتاً". وحتى كإنسان، أجرة الخطيئة، لا تطاله أو تصيبه. إلا أنه وبنعمته ورحمته ومن أجلنا "صار ميتاً" طواعية، وليس ميتاً فحسب، بل ميتاً حقاً وحقيقة. لقد بذل حياته (لأجلنا). يكتب متى أن يسوع " أسلم الروح" (متى ٢٧: ٥٠)؛ ومرقس يقول: "أسلم الروح" (مرقس ١٥: ٣٧)؛ وفي لوقا: أودع روحه في يدي أبيه و"أسلم الروح" (لوقا ٢٣: ٤٦)؛ ويوحنا يقول أنه نكس رأسه و"أسلم الروح" (يوحنا ١٩: ٣٠). الجلال الأدبي في عبارة "صِرتُ مَيْتاً"، نراه يتقوى ويتجمل عندما نتأمل في المجد الإلهي للمتكلم. فهو، "الأَوَّلُ وَالآخرُ"، تنازل من مجد الوجود السرمدي الأزلي الأبدي ليصير إنساناً، عاش حياةً أرضيةً لبضع سنوات فوق الثلاثين؛ وذاك "الْحَيُّ"، الذي هو حياة وخالق كل مخلوق ذكي، انحدر إلى الموت لكيما يبطل بذلك قدرة الموت والشرير ويعتق أسرى الموت (عبرانيين ٢: ١٤، ١٥). هذا النصر على الموت كامل مكتمل. لقد تقطعت رُبط الموت. "لقد مزَّق الرباطات". والملائكة، ورغم أنهم لم يظهروا عند الصليب، كانوا شهوداً، خارج وداخل القبر على حد سواء، على انتصار المسيح على الموت (متى ٢٨: ٢- ٧؛ يوحنا ٢٠: ١١- ١٣). وإن انتقالنا إلى السماوات سيعلنه إطلاق نفير البوق، "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (١ كورنثوس ١٥: ٥٥).

١٨- "هَا أَنَا حَيٌّ إلَى أَبَد الآبدينَ". الانتصار على الموت يسترعي انتباهنا إلى حقيقة أنه يحيا إلى الأبد، وأنه لن يموت أبداً من بعد. لقد خرج من نطاق الموت، ويعلن لقديسيه وللكنيسة ولأجل تقويتهم إلى الأبد وتعزيتهم بأنه سيحيا ولن يموت. إن كلمة "آمين" الواردة في كتبنا المقدسة ليست من النص الأصلي ويرفضها النقاد.

١٨- يأتي بعد ذلك الاستنتاج الملائم لهذا الإعلان العظيم عن اتحاد المجد الإلهي والبشري: "وَلي مَفَاتيحُ الْمَوْت والْهَاويَة". في نسخ الكتاب المقدس التي بين أيدينا يأتي الترتيب بالعكس: الْهَاويَة ثم الْمَوْت. ولكن هذا خطأ وهو يخالف الترتيب العام الذي ترد فيه هذه الكلمات في أماكن أخرى من هذا السفر (٦: ٨؛ ٢٠: ١٣، ١٤). الموت يصيب الجسد؛ والهاوية تطال الروح. لقد خضع الرب للأول (الموت) ودخل إلى الآخر (الهاوية). إن الهاوية ترمز إلى ما لا يُرى. جرت محاولة لتحديد مكان الهاوية. ولكن هذا أمر مستحيل. إذ أنها حالة أكثر منها مكان، وتشير إلى تلك الحالة التي يتواجد فيها الجميع، الأخيار والأشرار، بعد الموت وقبل القيامة. بالنسبة للمؤمنين، الهاوية هي أن نكون مع المسيح؛ وبالنسبة لغير المؤمنين، الهاوية هي أن يكونوا في عذاب. ولذلك فإن الرب و الرجل الغني ذهبا كلاهما إلى الهاوية (أعمال ٢: ٢٧؛ لوقا ١٦: ٢٣). خرج المسيح منها؛ والغني سيفعل ذلك عندما يُقام للدينونة الأبدية. الهاوية كحالة توجد بين الموت والقيامة. الكلمة بحد ذاتها لا تشير لا إلى بركة ولا إلى تعاسة. الحالة هي بركة مدركة للمؤمنين وبؤس مدرك لغير المؤمنين ١٢.

إن "المفاتيح" تشير إلى سيادة المسيح الكاملة على أجساد وأرواح الجميع. والحق بأن "يفتح" و"يغلق" تشير إلى سلطته الكاملة المطلقة على الموت وعلى الهاوية، السجّانان الشخصيان على الموتى، ويمارس يسوع هذا الحق لمسرته الجليلة. ما عاد لإبليس أو الشيطان الآن قدرة الموت أو سلطة الموت (عب ٢: ١٤). لأن قوة "المفتاح" هي رمز للسلطة التي لا يمكن مقاومتها. انظر أشعياء ٢٢: ٢٢؛ متى ١٦: ١٩.

تقسيم ثلاثي الأجزاء للسفر. تكرار الأمر بالكتابة:

١٩- "فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائنٌ، وَمَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا".

يجب أن نلاحظ أنه بين الأمر الأول بالكتابة (الآية ١١) والأمر الثاني (الآية ١٩)، لدينا الظهور المجيد للمسيح وترائيه ليوحنا الرائي برؤيا (الآيات ١٢- ١٦)، وهذا ما كان عليه أن يُدوِّنَه. إن البدء بـ "فـ" في "فاكتب" أو "لذا اكتب"، أمر لافت وهام هنا، لأن من يأمر بالكتابة يظهر أنه ذو وقار وكرامة كبيرين. إن العظمة الإلهية، ممتزجة بالحنو البشري عند الرب، قد فعلت عملها الأخلاقي القدير في نفس يوحنا؛ ومن هنا يأتي إدخال كلمة "لذا" أو "فـ" بشكل يظهر ارتباط الأمر بالعزاء الإلهي، وهذا يتبدى في آيتين هما الأجمل في سفر الرؤيا (الآيات ١٧ و١٨).

الأقسام الثلاث الكبرى:

إن التقسيمات الكبرى للسفر مكتوبة هنا لتعليم كنيسة الله. "مَا رَأَيْتَ" تشير إلى رؤيا المسيح التي تمت للتو (الآيات ١٢- ١٦). وعبارة "مَا هُوَ كَائنٌ" تشير إلى الملامح العديدة المتعاقبة الواسعة الانتشار للكنيسة المعترفة، ولعلاقة المسيح بها، إلى حين رفضها النهائي، الذي لم يتم بعد (الأصحاحات ٢ و٣). "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". هذا الجزء الثالث يشير إلى العالم واليهود، وأيضاً الكنيسة المرتدة الفاسدة، أي التي سوف "يتقيأها" الله من فمه، التي سيتكلم الله عنها في هذا الجزء النبوي من الرؤيا (٤- ٢٢: ٥).

ما من شيء ساهم أكثر في إلقاء الشك على الدراسات النبوية من المبدأ الخاطئ الذي كان يُعتمد لفهم هذا السفر. وفي ما يلي مفتاح التفسير معلق على الباب. فخذوه واستخدموه وادخلوا إلى التفسير. هناك بساطة وتماسك وتناغم في تقسيم المحتويات الرئيسية للسفر إلى ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. لا يمكنك أن تلتقط أحداثاً من المستقبل، أو الجزء الثالث، وتضعها في الجزء الثاني. فكل قسم فيه مجموعة الأحداث الخاصة به، فإن نقلتها من مكان إلى آخر فإنك إنما تلوي وتحرف الكتاب المقدس. فتح الأختام، ونفخ الأبواق، وسكب الجامات، هي، إضافة إلى أحداث نبوية أخرى عديدة، تقع في الجزء الثالث، أي متضمَّنة في الزمن المفترض في الأصحاحات ٤- ٢٢: ٥، وهذا يفترض نهاية فترة الإقامة المؤقتة للكنيسة على الأرض.

الأقسام لا تتداخل مع بعضها. القسم الأول هو رؤيا كاملة متكاملة بحد ذاتها. والثاني متميز كما الأول والثالث. الأطوار المتعاقبة في تاريخ الكنيسة، والمتابعة من نهاية القرن الأول، هي سرد كامل وشامل بحد نفسها. القسم الثالث فيه خطوط نبوية واضحة جداً لا يمكن تطبيق تفاصيلها أو مبادئها على الحاضر. "مَا هُوَ كَائنٌ" تسير في مجراها. الكنيسة لم تتميز أو يُقر بأنها لله بعد، وتاريخها رتبه بحسب التسلسل الزمني الذي أوحى به الروح القدس في الأصحاحين ٢ و٣، وليس له علاقة باليهود والأمميين الذين تنطبق عليهم الأختام والأبواق والجامات. أدخل هذه الآن فتجعل كنيسة الحاضر عرضة للدينونة الشرعية، التي ليست هي هكذا تماماً في الواقع. إنها الرفض الكريه للكنيسة المعترفة (٣: ١٦) التي تنهي تاريخها كشاهد عام لله على الأرض، وتدخلنا إلى المشهد النبوي للأيام الأخيرة. تملأ الكنيسة الفراغ بين قطع العلاقة مع إسرائيل والعودة إلى التعامل الإلهي مع الشعب القديم. تاريخ الكنيسة يشكّل باختصار "مَا هُوَ كَائنٌ"، بينما الأزمة النبوية ما هي إلا بضعة سنوات من الفترة التي يغطّيها "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". يميز التاريخ القسم الثاني النبوءة هي الملامح المميزة للقسم الثالث. وتاريخ الكنيسة لحوالي ١٩ قرناً يصوّر بشكل تصويري فعال في الأصحاحين ٢ و٣.

في ما يتعلق بالأحداث السياسية الكبيرة التي ستجري نجد كشفاً عنها في الأصحاحات ٦- ١٩. السلطة المدنية المرتدة، ومملكة يهوذا المتمردة الآثمة، والزانية- فساد الأرض- هي الموضع الخاص لتعاملات الله العنائية في الدينونة. كان هناك سعي للتمييز بين النبوءة "المحققة"، و"غير المحققة". كل النبوءة متمركزة في خاتمة الأسبوع السبعين من دانيال (الأصحاح ٩: ٢٥- ٢٧)، رغم أنها قد تكون قد بدأت قبل قرون. دمار أورشليم على يد الأمميين تنبأ عنه الرب قبل ٣٧ سنة قبل استيلاء تيطس (لوقا ٢١)، وتبلغ الذروة في نقطة التجمع الكبير ذاك لكل النبوءة، مجيء ابنا الإنسان (الآية ٢٧). ولذلك فما من نبوءة كان فيها تحقيق كامل. الخيوط المقطوعة في النبوءة تبدأ من جديد مع إسرائيل بعد ختام مرحلة الكنيسة. مبادئ الارتداد المستقبلي موجودة بشكل فعال؛ والظروف تفعل فعلها، وقد تكون بعض الأسباب الرئيسية للأزمة النبوية الحية حالياً والحاضرة للفعل عندما يبدأ الشيطان بلعب دوره الفظيع. ولكن طالما أن الكنيسة تُعطى اعتباراً خاصاً ويُعترف بها على أنها لله فإن التحقيق الكامل للشر يُعوّق. الروح القدس في الكنيسة هو المحك الرئيسي لاندلاعات الشر الفظيعة، أي نكران السلطة الإلهية بمجملها (٢ تسا ٢: ٧، ٨). الأشياء التي ضمن "مَا هُوَ كَائنٌ" يجب أن تنتهي بالضرورة قبل أي حدث نبوي يقع ضمن "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". إن ما هو حاضر يمنع تطويق ما هو من المستقبل ما خلا السلطة الأخلاقية الحاضرة.

سرّ الْكَوَاكب والمناير:

٢٠- "سرُّ السَّبْعَة الْكَوَاكب الَّتي رَأَيْتَ عَلَى يَميني، وَالسَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة: السَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ هيَ مَلاَئكَةُ السَّبْع الْكَنَائس، وَالْمَنَايرُ السَّبْعُ الَّتي رَأَيْتَهَا هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". كلمة "سرّ" وحدها تُستخدم في العهد الجديد وترمز إلى ما هو سري أو خفي إلى أن يُعلن في وقت معين وعندها لا يعود سراً. ولكن هناك حقائق معينة حتى بعد الإعلان عنها يبقى الحديث عنها على أنها أسرار، لأنه ما من أحد سوى الذين يعلّمهم الله يمكنهم أن يفهموها أو يعرفوها. ومن هنا فإن أسرار ملكوت الله (متى ١٣)، مغلّفة بالأمثال، واضحة كضوء الشمس للتلاميذ، بينما مُظلمة كمنتصف الليل لغير المؤمنين (الآيات ١١، ١٣). لنأخذ مثلاً آخر. جهور حلم العالم المسيحي بعالم متحسن وقابل للتحسن، هم يحرّفون فعلياً كلمة "خميرة" التي تشير إلى الشر (١ كور ٥: ٨؛ غلا ٥: ٩؛ مت ١٦: ٦)، للإشارة إلى المعنى المضاد له، الخير. إن الهيئات العديدة العلمية والثقافية والدينية يتم الحديث عنها على أنها "خميرة"، ستعمل بمرور الوقت على التجديد الروحي والأخلاقي في العالم. ومع ذلك فإن الكتاب المقدس يتحدث عن هذه على أنها بلا شك: "سِرَّ الإِثْمِ الآنَ يَعْمَلُ". ليس "سرّ الخير"، بل "سِرَّ الإِثْمِ". عمل الشر السري لا يزال آخذاً في النضوج و"ابن الخطيئة" يظهر- تطوره العلني وتعابير الحياة- بالنسبة للمؤمنين حقائق معروفة جيداً وراسخة، بينما الجمع، الذين يحملون الاسم المسيحي شكلياً، يسخرون منهم. "السر" إذاً يدل على ما بقي سراً أو مخفياً، وفقط أولئك الذين لهم فكر المسيح يفهمونه.

في الآية ١٦ يقول: "في يَده الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكبَ" وفي الآية ٢٠ يقول: "السَّبْعَة الْكَوَاكب عَلَى يَميني". الفكرة هي أن الآية الأولى تشير إلى ضمانهم وبركتهم، بينما الأخيرة فيها إعلان عام عن المسيح: فهو يرفعهم.

ولكن لماذا تشير الكواكب إلى الملائكة؟ في التعليق على الآية ١٦ رأينا أن الكواكب تمثّل الحكام الروحيين للكنيسة، وهم أشخاص بارزون مسؤولون عن الشهادة لله في ظلمة الليل الحاضر من تاريخ الكنيسة. ولكن أفكاراً إضافة تم اقتراحها من ناحية الكواكب باعتبارهم ملائكة. كلمة "ملاك" بحد ذاتها لا تشير إلى طبيعة، بل إلى منصب أو وظيفة؛ إنها ترمز إلى الرسول. السياق والمعنى الخاص للكلمة يمكنهما وحدهما أن يحددا تطبيق معنى الكلمة على الأشخاص أو على الكائنات الروحية. في لوقا ٧: ٢٤؛ ٩: ٥٢؛ ٢ كور ١٢: ٧؛ يعقوب ٢: ٢٥، الكلمة "ملاك"، أو الجمع منها، يُستخدم للإشارة إلى أولئك الذين يُرسلون في رسائل من مختلف الأنواع. الخدمة هو الميزة الأعظم في جماعة الكائنات الروحية التي تُدعى "ملائكة" (مز ١٠٣: ٢٠، ٢١؛ عب ١: ١٣، ١٤).

ولكن هناك معنى آخر تستخدم فيه كلمة ملاك، أعني بها تحديداً "ممثل أو مندوب". لذا في متى ١٨: ١٠يقول: "انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات". فكلمة "ملائكة" في هذه الحالة لا يمكن أن تعني "رسلاً" بل ترمز إلى أولئك الذين في السماء الذين يمثّلون الصغار الذين يخصون الله. فـ "التمثيل" هو الفكرة. "إنه ملاكه" (أعمال ١٢: ١٥).

٢٠- "الْكَوَاكبُ هيَ مَلاَئكَة". هؤلاء، ليس فقط يشهدون لله في الكنيسة كما تفعل الكواكب في السموات الخاصة بالأرض، بل إنهم ملائكة أيضاً، أو رسلاً من الله إلى الكنائس ومن الكنائس إلى الله، وفوق ذلك، يمثّلون الكنائس المنفصلة في حالتها، وتجاربها، وإخفاقاتها، وحالتها العامة أمام الله. ملاك الكنيسة هو "الممثل الرمزي للتجمع الذي نرى فيه أولئك المسؤولين جميعاً". ومن هنا فمن ناحية المركز الكامل الذي يشغله الكواكب لدينا فكرة ذات ثلاث جوانب مندمجة مع بعضها: الحاكم الروحي، قناة التواصل الإلهية والبشرية، والتمثيل الأخلاقي أمام الله. "السَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة" ترمز إلى أن الكنيسة كاملة روحياً أمام الله، أي أن الغاية الأساسية منها وموقفها هو بحسب طبيعة الله، وأن رسالتها هي أن تشرق بنوره.

٢٠- "الْمَنَايرُ السَّبْعُ هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". لا يمكن أن يكون هناك أي شك في ذهن القارئ الحريص المتأني للأصحاحات الثلاثة الأولى من الرؤيا في أن تكون هذه الكنائس السبع التي في آسيا ككل تمثّل الكنيسة العالمية العامة، وفي نفس الوقت يرى الجماعات الكنسية المنفصلة والمستقلة بذاتها على أنها مستقرة ومستندة على أساس خاص بها وأنها مؤهلة كل منها لوحدها لتكون للرب ليمشي في الوسط. إنه في وسطهم للتوبيخ، وللتصحيح والتقويم، وللتشجيع. كل عمل في الكنيسة من قبل شخص رفيع المستوى وعالي المكانة يشهد له الرب الذي لا ينعس ولا ينام أبداً. إن عجرفة الكثيرين من "الإكليروس" من جهة، وديمقراطية "الشعب أو العلمانيين" من جهة أخرى، تدمّر الكنيسة بسرعة في الظاهر ولذلك فنادراً ما تظهر للعالم السمة الحقيقية للكنيسة. نشكر الله على أن ما يبنيه المسيح حصين (متى ١٦: ١٨) ومحبوب (أفسس ٥).


١. - يتم الحديث أحياناً عن هذا السفر أو الإشارة إليه على أنه "رؤى". ولكن الإعلانات المحتواة في السفر هي واحدة، وقد نُقلت إلى الكاتب في رؤيا واحدة في يوم واحد، كما نقرأ في (١: ١٠): "كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ". ووحدة كل السفر يمكن التعبير عنها بالعبارة "إعلان".

٢. - لقد كان الوثنيون يستعيرون من اليهود (الطقوس والمعتقدات وأساليب العبادة). وحقائق العهد القديم تكمن حقاً في جذور ما هو صالح في المعتقدات القديمة أو الميثولوجيا عند الوثنيين. ومن هنا نجد واضحاً أن المبدأ العقائدي لديهم في "جوبيتر كان، وجوبيتر يكون، وجوبيتر سيكون" مقتبس عن التفسير الكتابي لأسماء إله إسرائيل، وخاصة "اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ".

٣. - إننا نستنكر بشدة ذلك الاستخدام غير الموقّر (وبالتأكيد غير المتعمد) لذاك الاسم الأغلى على قلبي وأذن المؤمن. هناك عبارات كثيرة مثل "عزيزي يسوع" وغيرها فيها إساءة ضد ذاك الذي هو ربنا ومعلِّمنا. إن لقب الجلالة، "رب" يُستخدم لأكثر من ألف مرة بدلاً من "يسوع". أما هذا الاسم، فحين يُستخدم مدمجاً مع أسماء وألقاب إلهية أخرى، يكون الحال مختلفاً (انظر يوحنا ١٣: ١٣، ١٤).

٤. - الكلمة "يشهد/ شاهد"، في صيغة الاسم أو الفعل، نجدها أكثر من ٧٢ مرة في الكتابات المنسوبة ليوحنا. إنها كلمة مميزة له بشكل كبير جداً.

٥. - يُقال أن فترة كتابة "الإعلان" أو سفر الرؤيا كانت في حوالي العام ٩٦، خلال عهد دوميتيانوس. ولكن البعض يرجع تاريخ الكتابة إلى فترة أبكر: في العام ٤١- ٤٥ م، في حكم كلاوديوس، أو خلال الأعوام ٥٤- ٦٨ خلال حكم نيرون. مهما يكن من أمر إن أقدم تاريخ ليس محتملاً.

٦. - إن الكلمات الثلاث: "الضيقة" و"الملكوت" و"الصبر"، مترابطة مع بعضها بشكل متلاصق قوي، إذ أتت وراء بعضها بعد ترويسة واحدة يسبقها أداة تعريف واحدة في اللغة اليونانية.

٧. - في كتابه "مدخل إلى الكتابات اليوحناوية" (Nisbet ‎& Co )، يناقش غلوغ (Gloag ) هذه الروايات الأسطورية بروح هادئة ومبجّلة. لا بد من وجود بعض الأساس من الحقيقة في بعض تلك الروايات.

٨. - قاموس "Imperial Bible Dictionary "، كلمة ساردِس "Sardis ".

٩. - إن إشارة بولس إلى كنيسة لاودكية (كولوسي ٢: ١؛ ٤: ١٣- ١٦) تقدم مثالاً مناسباً للدلالة على المحبة المسيحية والاهتمام بالقديسين غير المعروفين شخصياً. وإن الآية التي تقول: "ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ ايضا في كنيسة اللاودكيين، والتي من لاودكية تقرأونها انتم أيضاً" (الآية ١٦) تشير على الأرجح إلى الرسالة إلى أهل أفسس، التي كانت تُتناقَل بين الجماعات. ومن حقيقة عدم وجود تحيات لأشخاص أفراد ومن طبيعة الرسالة عموماً، يمكننا أن نعتبر على الأرجح أن الرسالة إلى أهل أفسس كانت رسالة متناقَلة، وفي ذلك الوقت كانت قد وصلت إلى لاودكية. من المؤكد أن الرسالة إلى أهل كولوسي قصد بها الرسول بولس أن تُقرأ على كنيسة لاودكية. فالحقائق المحتواة في هذه الرسائل هي أنسب ما يكون لإنقاذ المسيحيين في لاودكية من مخاطر الهلاك التي تحدق بهم. إن الصليب في رسالة رومية وغلاطية كان الحقيقة المحرِّرة الملائمة للقرن السادس عشر. ومجد المسيح السماوي في رسائل أفسس وكولوسي هو الحقيقة العظيمة والمحرِّرة للقرن العشرين.

١٠. - "السراج" مختلف عن "المنارة"، أو لنقل "السراج" مختلف عن "حامل السراج أو الشموع". السراج هو الذي يعطي النور (لوقا ٨: ١٦؛ ١١: ٣٥، ٣٦؛ متى ٥: ١٥). هناك أهمية كبيرة تُعطى لـ "حامل الشموع" أو الشمعدان في المقدس في العهد القديم، كما في الزخرف البسيط فيه، الذي يعلوه نور الروح القدس السُباعي الفروع، الذي يرمز إلى جمالات يسوع بالنسبة للعابدين داخل المقدس.

١١. - إن الكلمة الواردة في خروج ٢٨: ٣١ في الترجمة السبعينية هي نفسها كلمة "إيفود" الواردة في رؤيا ١: ١٣ المترجمة هنا بـ "ثَوْب". ومن هنا نستنتج أن الكاتب يقصد استخدام الكلمة من حيث ارتباطها بالكهنوت.

١٢. - القارئ الذي يرغب في دراسة هذا الموضوع وما شابهه يمكنه أن يحصل على كتاب "حقائق ونظريات عن الحالة المستقبلية"، للمؤلف ف. و. غرانت. يتضمن هذا العمل كشفاً موسعاً للأخطاء الحالية والواسعة الانتشار حول القضايا المتعلقة بالمصير الأبدي للجنس البشري.