الأصحاح ١٩
عُرْسَ الْحمل ودينونة الأمم المتمردة
السموات تبتهج بدينونة بابل:
١- ٤- "وَبَعْدَ هَذَا سَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً منْ جَمْعٍ كَثيرٍ في السَّمَاء قَائلاً: «هَلّلُويَا! الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ للرَّبّ إلَهنَا، لأَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادلَةٌ، إذْ قَدْ دَانَ الزَّانيَةَ الْعَظيمَةَ الَّتي أَفْسَدَت الأَرْضَ بزنَاهَا، وَانْتَقَمَ لدَم عَبيده منْ يَدهَا». وَقَالُوا ثَانيَةً: «هَلّلُويَا! وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَخَرَّ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ، وَسَجَدُوا للَّه الْجَالس عَلَى الْعَرْش قَائلينَ: «آمينَ. هَلّلُويَا»". "بَعْدَ هَذَا". رأينا الرؤيتين المنفصلتين عن بابل حيث تنكشف لنا طابعها وإثمها وعلاقاتها مع الإمبراطورية والعالم المسيحي، ودينونتها الفظيعة التي تقع عليها. الأصحاحين ١٧ و١٨ يسجل كل منهما رؤية متمايزة، تقدم لنا حقاً تفاصيل المكان التاريخي الذي كانت بابل تحتله في الأصحاحات ١٤: ٨؛ ١٦: ٩. في الرؤيا كل شيء يقدم إلى فكر الرائي. المشاهد تتبدل وتتغير، وتمر بتعاقب أمام عيني فكره. ليس هناك ماض ولا مستقبل، بل كل شيء في الحاضر. ولكن هناك نصوص كتابية أخرى تمكننا من أن نوزع الرؤى المتنوعة وأجزائها المنفصلة إضافة إلى التسلسل الزمني في التاريخ أو النبوءة في كل حالة.
من الواضح أنه مع بقاء بابل غير مدانة لا يمكن للعروس الحقيقية أن تحضر وتظهر بجمالها وأردية تتويجها. إنها محتجبة في السماء إلى أن يتم تدمير مغتصب العرش على الأرض ويُزال من الوجود. الزانية والعروس لا يمكن أن يوجدا بوقت واحد. "بَعْدَ هَذَا"، صيغة رؤيوية (٤: ١؛ ١٨: ١)، تشير إلى السقوط (الأصحاح ١٧) والدمار الكامل لبابل (الأصحاح ١٨). الحادث نفسه يُرى بشكل مختلف في السماء وعلى الأرض. على الأرض يُسمع لحن الآلام الحزين. في السماء نسمع أنشودة نصر وتسبيح. ما يؤدي إلى النحيب العام والندب على الأرض يستدعي الابتهاج الكامل في السماء. صرخة الانتصار تتبع فوراً دمار بابل. وجودها على الأرض كان قد تبين أنه العائق الرئيسي أمام إظهار مجد الله، إضافة إلى أنه كان يشكل إساءة إلى السماء. وأما الآن، ومع تمايز بابل قد صار هناك متسع من المكان، وصار الطريق مفتوحاً للرب الإله ليعترف به الجميع أمام عرشه، وليأخذ الخروف عروسه- وهذان موضوعا التسبيح العظيمين.
١- الدعوة إلى الابتهاج (١٨: ٢٠) ينادي بها هنا الجند السماوي. "سَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً". من هم هؤلاء الجمع الكثير الذين يعلنون بفرح وبصوت عالٍ انتصار الله بعد إدانته بابل؟ نقرأ عن مجموعة أممية أخرى تُدعى "جَمْع كَثير" في ٧: ٩، ولكن كما رأينا، هؤلاء على الأرض، بينما الجماعة التي أمامنا هي في السماء. ولا يمكن أن يكون هذا الـ "جَمْع الكَثير" في نصنا هم الملائكة، بل مع الشيوخ الأربع والعشرين، الممثلين السريين للمفديين المنتقلين لدى مجيء المسيح في الهواء (١ تسا ٤: ١٧). الجماعات المستشهدة المتنوعة، أي أولئك الذين في الأزمة الآتية، يُرون متمايزين عن الشيوخ. ومن هنا، فإننا نستنتج أن الـ "جَمْع الكَثير" هم جميع القديسين الذين يكونون آنذاك في السماء.
١- "هَلّلُويَا"، هذا ما يقولون. هذه الكلمة العبرية الجميلة ترد ٤ مرات في احتفالات التسبيح هذه (الآيات ١، ٣، ٤، ٦)، ولكن لا تأتي في أي مكان آخر من العهد الجديد. غنها كلمة ترد مراراً وتكراراً في سفر المزامير. إنها بداية وخاتمة كل مزمور من المزامير الخمس الأخيرة- المزامير التي تشكل ككل وفي طابعها الموحد تعبيراً عن التسبيح الألفي لإسرائيل. الهللويا تعني: "سبحوا الرب، أو هللوا لله".
١- "الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ للرَّبّ إلَهنَا" . أداة التعريف قبل كل اسم من هذه الأسماء الثلاثة يدلنا على أن هذا له تطبيق ومعنى خاص. أولى المفردات يدل على الانعتاق، والثانية على مجد الله المعنوي في الدينونة، والثالثة على اقتداره الذي يتبدى في تنفيذ الدينونة على الزانية. التسبيح هو لـ "للرَّبّ إلَهنَا". الملائكة في مكانهم وحالتهم يقولون: "إلَهنَا" (٧: ١٢). ولكن هنا، إنها لغة جماعة مفدية وسماوية، وليست كلمات ملائكة.
٢- أساس انتصارهم يبرز بعد ذلك، فالسبب هو "أَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادلَةٌ". في ١٥: ٣ يغني عازفو القيثارة على بحر الزجاج قائلين: "عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ"؛ بينما في ١٦: ٧ يخرج الصوت من المذبح قائلاً: "حَقٌّ وَعَادلَةٌ هيَ أَحْكَامُكَ". في الأولى الحديث هو عن طرق الله؛ وفي الأخيرة، كما في نصنا، الحديث هو عن دينونة الله على أعدائه. إنها حقيقة أساسية في الكتاب المقدس، ويجب الحفاظ عليها بشدة، وهي أن تعاملات الله جميعها مع خلائقه، سواء كانوا في نعمة أم في دينونة، تتميز بالحق والعدل. والآن هذه المواصفات الأساسية الجوهرية في الكينونة الإلهية قد عُرضت من خلال إدانة "الزَّانيَةَ الْعَظيمَةَ"، والتي تُذكر خطيئتاها العظيمتان من جديد ولآخر مرة في أنها "الَّتي أَفْسَدَت الأَرْضَ بزنَاهَا"، أي أفسدت أخلاقياً ودمرت العالم برمته، حيث كان الحق معروفاً والله معبوداً، "انْتَقَمَ لدَم عَبيده منْ يَدهَا". صرخة جماعة الشهداء، منذ هابيل وحتى النهاية، تنادي بالدينونة ويُسمع صوتها، والله عادلة أحكامه فيصب سخطه على ذلك النظام من الزنى والدماء التي لطالما كانت لعنة على الأرض.
وللمرة الثانية، وبما يدل على عظمة الانتصار، يقولون: "هَلّلُويَا". أو مسبح أنت يا رب. "وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إلَى أَبَد الآبدينَ. كرمز مذهل ومؤثر يدل على نهائية وأبدية الدينونة التي ينفذها الله. مصير بابل السرية المشؤوم هو شاهد أبدي على الدينونة العادلة لله (قارن مع أش ٣٤: ١٠).
ولكن حجم التسبيح يدوي صداه في أرجاء قبة السماء. الشيوخ، الممثلين عن القديسين المفديين والمتوجين، والمخلوقات الحية رموز حكم الله في الخلق، "خرُّوا وسجدوا لله". يا لها من عبادة مستحقة راسخة! وكم هي ملائمة للحدث! فالله، وليس المسيح، هو موضوع هذه العبادة. الله هو الذي أدان بابل، ودمن هنا فهو الذي يستحق العبادة والسجود. إضافة على ذلك، لن يأخذ المسيح حتى ذلك الوقت حكم الأرض، الله هو ديان بابل. المسيح هو ديان الوحش؛ وهذه الدينونة هي حدث سيلي ذاك السابق، وهو أول عمل علني سيقوم به المسيح القادم (الآيات ١١- ٢١). الشيوخ والأحياء يقولون: "آمينَ. هَلّلُويَا". يضعون إقرارهم بحقيقة ما أعلن، وهم أنفسهم ينضمون على موكب النصر ويبتهجون به مع الجميع في السماء، هذا النصر الذي معه جاء الهلاك الأبدي للزانية. في ٥: ٨ يأخذ الأحياء الأسبقية على الشيوخ؛ هنا الشيوخ يُذكرون أولاً إذ يكونون مرتبطين بشكل مباشر أكثر في دينونة الزانية.
العرش يتكلم:
٥- "وَخَرَجَ منَ الْعَرْش صَوْتٌ قَائلاً: «سَبّحُوا لإلَهنَا يَا جَميعَ عَبيده، الْخَائفيه، الصّغَار وَالْكبَار»". في رؤيا سابقة رأينا صرخة المذبح (١٦: ٧)؛ وهنا العرش نفسه يتكلم. في بعض المشاهد الماضية، حيث جسد القديسين والشهود والمتألمين كانت أمامنا، كان المذبح يأتي إلى الظهور، ولكن ها هنا دينونة مباشرة على الشر في الأرض، لأن الله على عرشه، كما أن المسيح على وشك أن يجلس على عرشه أيضاً. العرش نفسه يتكلم (رمزياً بالطبع)؛ وهكذا فمن مركز ومصدر الحكم- ورعب الأشرار، وفرح القديسين- تصدر صرخته ينادي بأن يُسبحوا الله. كل من يخدم الله وكل من يخافه، صغاراً وكباراً، مدعوون للانضمام إلى النشيد البهج، والذي يشكل ارتياحاً وعزاءً بعد الصورة القاتمة التي تمثل الأرض. ها هنا التسميات واسعة بشكل يدل على اشتمال كل من في السماء- الملائكة، والخدام، وكل مفديين. ليست دعوة إلى الجماعة غير المستعدة. الجميع مستعدون، ولكن ها هنا سبب جديد للفرح، أساس جديد للتسبيح. فعُرْسَ الْحمل على وشك أن يُعلن.
عُرْسَ الْحمل:
٦- ١٠- "وَسَمعْتُ كَصَوْت جَمْعٍ كَثيرٍ، وَكَصَوْت ميَاهٍ كَثيرَةٍ، وَكَصَوْت رُعُودٍ شَديدَةٍ قَائلَةً: «هَلّلُويَا! فَإنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. لنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطه الْمَجْدَ، لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا. وَأُعْطيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزّاً نَقيّاً بَهيّاً، لأَنَّ الْبَزَّ هُوَ تَبَرُّرَاتُ الْقدّيسينَ». وَقَالَ ليَ: «اكْتُبْ: طُوبَى للْمَدْعُوّينَ إلَى عَشَاء عُرْس الْحَمَل». وَقَالَ: «هَذه هيَ أَقْوَالُ الله الصَّادقَةُ». فَخَرَرْتُ أَمَامَ رجْلَيْه لأَسْجُدَ لَهُ، فَقَالَ ليَ: «انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! أَنَا عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إخْوَتكَ الَّذينَ عنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ. اسْجُدْ للَّه. فَإنَّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هيَ رُوحُ النُّبُوَّة»". هذا المقطع هام جداً. وفيه موضوعان رئيسيان: الله بجلاء يستلم زمام سلطته الملكية، والحمل يأخذ عروسه- كنيسة العهد الجديد. لم تأت الساعة بعد لنصل إلى الرب يسوع المسيح، الذي لم يتألم أحد مثله، ليرتقي عرشه. بل الجميع يستعدون لذلك الحدث العظيم. يا لها من لحظة مباركة ستئن إليها الخليقة وتنتظر، والتي ترجوها الكنيسة وتصلي لأجلها، والتي يتوق إليها أسباط إسرائيل القلقين المتعبين بترقب ولهفة! الناصري هو الملك الممسوح من الله. ولكن لابد من أن يحدث حدثان بالضرورة قبل أن يشغل المسيح عرش العالم: بابل يجب أن تُدان على الأرض، وعرس الخروف يُحتفل به في السماء. لقد رأينا الأولى؛ والآن نحن على وشك أن نشهد الأخرى.
الهَلّلُويَا العظيمة:
نداء العرش (الآية ٥) يلاقيه تجاوب فوري وعظيم. التسبيح عالٍ، وعميق، وممتلئ، ويتميز بالقوة والجلال والعظيمة. "الجَمْع الكَثير" (الآية ٦) هنا يشمل على الأرجح كل المفديين في السماء، ما عدا العروس. إن كانت هذه كذلك، كما نفهم من دراسة متأنية بكل مقطع، فإن "الجَمْع الكَثير" سيكون جماعة أكبر وأشمل من تلك المذكورة في الآية ١. في المقطع السابق (الآية ١) "الجَمْع الكَثير" لا يتميز عن الشيوخ، ممثلي المفديين في الأزمنة الماضية الحاضرة؛ بينما في الأخيرة (الآية ٦) "الجَمْع الكَثير" هو كشكل واحد جماعة مستقلة عن العروس (الآية ٧). الصوت الذي يسمعه الرائي يشبه صوت "ميَاهٍ كَثيرَةٍ" و"رُعُودٍ شَديدَةٍ"، أي الجلال والقوة مجتمعان . أما وقد سمعنا الدعوات من العرش، تبدأ الجوقة العظيمة بأداء اللحن بصوت من الجلالة والقوة، وليس أصوات، لأن فكر السماء واحد. إننا نسمع الآن ما يقع على نفس الرائي المفعمة بالابتهاج؛ إنهم ينشدون الهللويا الأخيرة. ليس المسيح هو موضوع التسبيح الآن، بل الله على العرش في عمل مقدس وعادل. الألقاب التي يعبدونه فيها تجمع تجليات الله المتنوعة لشعب العهد القديم. وبشكل منفصل يمثلون علاقات وأمجاداً متميزة؛ عندما يجتمعون يشكلون درجاً من القوة؛ عندما يُرون متحدين فيه فإن الفخامة والعظمة بالإجمال تفوق الوصف ويعجز اللسان عن التكلم عنه. لقد تحدثنا للتو عن معنى وقوة هذه الألقاب المتنوعة في قسم سابق من تفسيرنا لهذا السفر.
نستنتج أن هذه هي اللحظة التي تم توقع حدوثها في ١١: ١٥. ها قد أتى الملكوت وتم تسلم السلطة الملكية. هذا أول موضوع تسبيح عظيم من قِبل الجند السماوي. يا له من ارتياح للخليقة، التي كانت مثقلة بستة آلاف سنة من الخطيئة والألم! ولكن قبل إعلان الموضوع الثاني، دعوة المفديين إلى العبادة، نقرأ "لنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطه الْمَجْدَ".
في إعلان الله على عرشه كرب وقدير الكيان كله يسجد أمامه. الروح تخشى، ولكن ليس في خوف، بل في إيمان عميق وراسخ وأكيد بأنه حق وأمر ملائم خلال تأملنا به في عظمة كينونته.
ولكن في الموضوع الذي أمامنا نجد المشاعر قد تأثرت بعمق والقلب تحرك بكل خلجاته. ومن هنا الدعوة التمهيدية للابتهاج وإعطاء المجد لله لأن "عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا".
العرس:
٧- هذا الحدث الهام والعظيم هو ذروة الفرح للمسيح كإنسان. ليس الحديث عن عرس العروس بل عن عرس الخروف. الحديث هو بشكل خاص عن سعادته هو وليس سعادتنا. العرس، الذي لا تُذكر تفاصيله، يجري في السماء، وفي ليلة عودة الرب بقوة، أو ظهوره، بعد بضعة سنوات على الأقل التي تلي الاختطاف (١ تسا ٤؛ يو ١٤: ٣). العرس هو السر المكشوف في أفسس ٥: ٣٢. والعروس هي الكنيسة وليس إسرائيل ولا البقية التائبة منهم. إسرائيل كان في الأرض عروس الرب (إرميا ٣: ١٤- ٢٠؛ أشعياء ٥٤: ١)، ولكن تطلقت بسبب إثمها. ولذلك فإن على إسرائيل أن يرجع إلى رضى الرب. ولكن العروس المطلقة لا يمكن أن تكون عذراء من جديد، والتي يقترن بها الرب هي عذراء وليس عروس مطلقة (لاويين ٢١: ١٤؛ قارن الآية ١٣ بالآية في ٢ كور ١١: ٢). إضافة إلى ذلك، إن إسرائيل قد نال بركة على الأرض؛ أما زفاف الخروف فيكون في السماء، وهي المكان الملائم للكنيسة. الطابع السماوي الحصري للمشهد يمنع احتمال انطباق ذلك على إسرائيل.
مما تتشكل العروس؟ نجيب بلا تردد بأنها مؤلفة من جميع القديسين الذين يشتمل عليهم هذان العهدان، أي العنصرة (أع ٢)، والانتقال (١ تسا ٤: ١٧). هذان الحادثان يميزان بدء ونهاية الإقامة المؤقتة للكنيسة على الأرض.
الشيوخ الأربع والعشرون، الممثلون السريون عن المفديين الذين يُشاهدون في السماء حالاً بعد الانتقال (الأصحاح ٤)، يُذكرون لآخر مرة في الآية ٤ من أصحاحنا. نستنتج أنه آن الأوان الآن لرؤية الكنيسة، جسد المسيح، بشكل واضح متمايز لأول مرة.
ينقسم الشيوخ وتأخذ العروس والمدعوون مكانهم في الجماعة في السماء. حتى الآن كان لديهم مكان واحد. هناك بركات خاصة للقديسين في هذا الدهر التدبيري (مت ١١: ١١؛ عب ١١: ٤٠)، وهناك بركات أخرى عامة لكل المؤمنين. والآن مسار الرؤى الرؤيوية (٤- ١٩: ٤) وليس من فوارق أو تمايزات من أي نوع بين الشيوخ. التعبير" شيوخ" يختفي عندما تأخذ الجماعات المتنوعة من القديسين مكانها المخصص في علاقتها مع الخروف. الكنيسة هي العروس. الكنيسة باقية خالدة لأنها مؤسسة على مجد ووقار المسيح ابن الله (مت ١٦: ١٨). وجسده أيضاً هو الأقرب له (أف ١: ٢٣)، كما أن العروس هي أعز شيء على قلبه وعينيه. لقد أحب الكنيسة بمحبة لا تتبدل ولا تتغير وحتى الموت لا يقهرها، محبة فعالة على الدوام لا تعرف توقفاً، على أن يقدمها لنفسه في المجد (أف ٥: ٢٥- ٢٧). لقد قاومت الكنيسة عواصف عديدة، وكانت تتوق إلى عريسها السماوي سواء كان الجو عاصفاً أم صحواً، وكانت في علاقة مع الروح القدس على الأرض وغالباً ما كانت تصرخ إليه، وهو كوكب الصبح المنير أن "تعال" (رؤيا ٢٢: ١٦، ١٧). ونحن الذين كانت لنا مكانة في بيت الآب، بحسب يوحنا ١٤: ٣، على وشك أن نظهر في الملكوت كعروس وامرأة الخروف. يا لها من لحظة سعيدة! مجده وسروه يفوق الوصف . زيت السعادة ينسكب على رأسه أكثر مما على رأسنا (عب ١: ٩). ومكانتنا أو بركتنا وسعادتنا كامنة في سعادته. "عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ". وعندها ذاك الذي مات سيرى نتيجة عذاب نفسه ويرضى.
امرأة الخروف تهيء نفسها:
٧- "امْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". في هذا السياق، لا تكون كلمة "عروس" مناسبة. هناك نوعان من الملاءمة، والكنيسة هي موضوع كليهما. أولاً، الله في ممارسته لنعمته المطلقة يجعل المرء مؤهلاً للمجد الإلهي، كما نقرأ: "شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ" (كولوسي ١: ١٢). وثانياً، على المؤمنين أن يهيئوا أنفسهم قبل أن يدخلوا إلى مجدهم الأبدي. فقصة الأرض يجب أن تجري من جديد في حضور ذاك الذي هو نور. حياتنا يجب مراجعتها في مقدس المسيح (٢ كور ٥: ١٠). نور العرش سيلقي على كل دقائق حياتنا، فيكشف ما خفي منها ويظهر حقيقة التصرف والكلام والخدمة. ألغاز الحياة سوف تُشرح، والمشاكل العالقة تُحل، والأخطاء وسوء الفهم يُصحح. ها، وغيره، هو من نتاج وضع كرسي دينونة المسيح إلى القديسين السماويين، وسيسبق العرس. "امْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". نور العرش قد قام بعمله المبارك، ويجلب التاريخ بمجمله إلى انفراجه النهائي على الأرض. ما الذي سيكون عليه الحال إن تذكرنا ونحن في المجد حادثة ما كانت مؤلمة وشعرنا أنا لم تتم تسويتها؟ سوف لن نستطيع أن نتساهل مع المسألة. ولكن كل شيء سيظهر عند كرسي الدينونة كمسألة بين كل قديس والله. لن يكون هناك كشف علني لشيء أمام الآخرين. ولن يُفهم من هذا أنه يدل على دينونة جزائية. فكل شيء قد تمت تسويته على الصليب. سنظهر أمام مقدس المسيح متوجين وممجدين، "نُقَامُ فِي مَجْدٍ" (١ كور ١٥: ٤٣)، ليشرق نور العرش على الماضي. ويا لرحمة الله العظيمة. فعندها سنمر من المقدس بنوره الساطع إلى الحضور المحبوب للخروف كعروس وامرأة له إلى الأبد.
ثياب العرس:
٨- "وَأُعْطيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزّاً نَقيّاً بَهيّاً، لأَنَّ الْبَزَّ هُوَ تَبَرُّرَاتُ الْقدّيسينَ". لقد أُلبست الزانية ثياباً جميلة، ولكن الأُبهة والروعة والحلي ادعت أنها حق لها. أما مع العروس فالأمر مختلف؛ لقد أُلبست بفعل النعمة. "أُعْطيَتْ". لا شك أن هناك مكافآت للخدمة التي تُقدم، كما يقول متى ٢٥: ١٤- ٢٣ بشكل واضح. "اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ" (عبرانيين ٦: ١٠). ولكن وإن نسينا نحن فإنه هو لا ينسى.
هناك جانب آخر من هذه المسألة يجب أن نضعها دائماً في أذهاننا، أعني جلال الله. إن له الحق في أن يعطي أو أن يسحب أو أن يأخذ. كثيرون من خدام الله البارزين حولوا الحياة الحقيقية والخدمة الصالحة إلى حطام لتجاهلهم الحقيقة العظيمة التي تحفظ التوازن- وهي أن الله سيد مطلق. مثل الوزنات في متى ٢٥ يرينا نعمة الله في المكافآت؛ بينما مثل رب البيت في الأصحاح ٢٠ من نفس الإنجيل هو إظهار لجلال وسيادة الله في إعطائه الجميع على حد سواء بصرف النظر عن كدحهم أو طول فترة خدمتهم.
رداء الكتان النقي الذي يرتديه ملائكة الجامات (١٥: ٦) تعبر عن طابع البر في مهمتهم، والتي هي من الدينونة . الكتان الناعم، النقي اللماع، للعروس هو برها، أو "أعمال البر" التي قامت بها على الأرض ولكنها لا تدعي أي أهلية أو استقطاب، لأن أعمال البر هذه قد ترتبت بروح قدس الله فيها. فيما بعد نجد العروس مغطاة بمجد الله (٢١: ١١)؛ هنا برها الذاتي، ليس بر الله، هو موضوع الحديث. الألوان المبهرجة التي ترتديها الزانية تمثل تناقضاً حاداً مع الكتان النقي، الأبيض، واللماع الذي للعروس. ثيابها تدل على شخصيتها العملية. يمكنها أن تدخل الآن إلى فرح الرفقة الأبدية والاتحاد مع أقرب طبيعة (تلك التي للزوجة) مع زوجها، الخروف. أعمالها على الأرض تُثمن بقيمتها الحقيقية في السماء. إنها متدثرة بها، أو كما يقول نصنا: "هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". فتنتقل من المقدس إلى العرس، ومن هناك إلى الملكوت.
المدعوون إلى عشاء العرس:
٩- "«اكْتُبْ: طُوبَى للْمَدْعُوّينَ إلَى عَشَاء عُرْس الْحَمَل»". العروس والمدعوون متمايزون بشكل واصح. العروس لها علاقة مباشرة أكثر مع الخروف. العروس تتزوج من العريس، بينما المدعوون يتناولون طعام العشاء وحسب.
الملاك مخاطباً الرائي، يقول: "اكتب". وهذا الأمر يتكرر كثيراً خلال سير أحداث الرؤى، مظهراً أهمية وخصوصية الشركة. "طُوبَى" لأولئك الذين يُدعون إلى وليمة العشاء. هذا لا يُقال عن العروس. بركتها، والتي هي من أعلى طبقة وطابع، يتم التعبير عنها بكلمات بسيطة كعروس وامرأة. يا لها من فرحة لا توصف تأتينا من هذه الكلمات! ولكن المدعوين يُعلنون مطوبين. من هم هؤلاء؟ الجواب، إنهم أصدقاء العريس. وبما أنهم أصدقاء العريس، فإنهم يستمتعون بأعلى وأعز ميزة من ميزات البركة مما لو كانوا فقط أصدقاء العروس. يخبرنا يوحنا المعمدان بطريقة معبرة جداً عن أنه صديق العريس (يو ٣: ٢٩). لقد استُشهد المعمدان قبل تأسيس الكنيسة، ومن هنا فإنه يبدو وكأنه أكثر بركة وإكراماً من المدعوين إلى وليمة العرس. قديسو العهد القديم يشكلون جماعة كبيرة تدعى مدعوين، كل واحد منهم هو صديق للعريس، ويبتهج بحضوره وبسماع صوته. الشهداء في سفر الرؤيا لا يقومون إلا بعد العرس، ومن هنا لا يمكن عدهم من بين المدعوين. الملائكة يكونون مشاهدين للمشهد، أما الضيوف فليسوا كذلك. الملائكة لا يجري الحديث عنهم كما الحديث عن هؤلاء. وإن الوليمة تُدعى عشاء، ولعلها في تضاد مع عشاء الدينونة التالي (الآية ١٧). الأول مترابط مع الخروف وفرحته؛ أما الأخير فهو مرتبط مع الله والدينونة التي سيُنزلها على غير الأتقياء عن طريق الخروف وقديسيه السماويين.
اليقين:
٩- هذه المكاشفات الإلهية، سواء نطق بها الملاك أو رآها يوحنا بالرؤيا، قد أُضيف إليها كل ثقل وسلطان الله نفسه. "هَذه هيَ أَقْوَالُ الله الصَّادقَةُ". أساس إيماننا هو ليس التحزير، بل اليقين بأن الله قد قال ذلك. فالحقائق التي يصادق عليها الله هكذا هي تلك التي نجدها في الآيات التسعة الأولى من الأصحاح. اليقين المطلق له أهمية بالغة وأساسية في هذه الأيام حيث يتذوق الكثيرون وجهات النظر المتعلقة بالإيمان بالإعلان الإلهي بروح ضيقة متعصبة. في الماضي تكلم الله بالأنبياء؛ وفي العهد الجديد تكلم الله بابنه (عب ١: ١، ٢). ولذلك فكم هو مبارك هذا التأكيد على هذه الحقائق العظيمة والمفرحة للقلب من الله نفسه!
العبيد مع الملائكة والقديسين:
١٠- من الواضح أن الرائي قد تأثر جداً بهذه الطبيعة السامية للمكاشفات المعطاة له؛ وعلى الأرجح أيضاً أن الملاك الذي ظهر له بالرؤيا كان موضوعاً مجيداً يثير الانذهال للعين الإنسانية. "فَخَرَرْتُ أَمَامَ رجْلَيْه لأَسْجُدَ لَهُ"، وليس "عند قدميه" كما يأتي في بعض الترجمات. إن الملائكة غيورين على مجد وحقوق الله. قد يُقدم الإجلال إلى مخلوق بمكانة عالية، ولكن العبارة أو السجود هي للخالق وحده. موقف يوحنا لا يلبث الملاك أن يطلب منه أن يراجعه. "انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ". فعبادة حتى أعلى مخلوقات الله مكانة هو صنمية. الملائكة والقديسون كلاهما يسجدون لله وللمسيح، كما يشهد هذا السفر بوفرة. بمناسبة ثانية وتالية (٢٢: ٨، ٩) كان يوحنا على وشك أن يفعل ذلك، ومن جديد منعه الملاك.
١٠- "أَنَا عَبْدٌ مَعَكَ" . الملاك والرسول كانا كلاهما خادمان، بل بالأحرى عبيد. وكما العبد مرتبط طوال حياته بخدمة سيده، كذلك فإن الملائكة والقديسين مقيدون بخدمة أبدية لله المبارك، وهؤلاء خدام مسرورون وراغبون بهذه العبودية. كل المخلوقات عقلة لها هذا الموقف. في حالة الملائكة أساس العبادة يرتكز على خلق الله لهم ومكانتهم؛ وفي حالة القديسين فالأساس هو أنهم اشتُريوا وافتُديوا (١ كور ٦: ١٩، ٢٠). بما أن المقطع توقف عند تصريح الملاك بأنه خادم وعبد، مع الرسول فهذا يفرض أن تكون أعلى سلطة في الكنيسة لها هذه النظرة. ولكن الملائكة الذين يُسرون بالخدمة هم أيضاً شركاء إخوة يوحنا في امتلاك أو الحفاظ على "شَهَادَة يَسُوع". شهادة يسوع في الرؤيا هي الطابع النبوي، في إشارة إلى تمتعه بالسلطة في الحكم المتبدية في الملكوت (انظر ١: ٢). هذا المقطع، والذي لا حاجة لأن يكون مربكاً للدارسين، إن قُرئ في ترابط مع ١٧، حيث تتردد نفس الكلمات، تختفي الصعوبة المرتبطة به. البقية التقية من يهوذا في الأزمة الآتية "عنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ"، وبالطبع لن نخفق، نحن والرائي، في فهم طبيعة تلك الشهادة، النبوية في ظروفهم. إنهم يتوقون ويتطلعون ويُصلّون لكي يتدخل الله مباشرة وعلانية من أجلهم. حضور المسيا، وقدومه من أجل انعتاقهم، هو غاية رجائهم. الخطاب المباشر من الملاك إلى يوحنا ينتهي بالإعلان بالسلطان أن "اسْجُدْ للَّه"، هذه الحقبة الدائمة للسماء والأرض، للملائكة والبشر.
السماء مفتوحة:
(الآيات ١١- ٢١):
مدخل:
١١- ١٦- "ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالسُ عَلَيْه يُدْعَى أَميناً وَصَادقاً، وَبالْعَدْل يَحْكُمُ وَيُحَاربُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهيب نَارٍ، وَعَلَى رَأْسه تيجَانٌ كَثيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرفُهُ إلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبلٌ بثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلمَةَ الله». وَالأَجْنَادُ الَّذينَ في السَّمَاء كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بيضٍ، لاَبسينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقيّاً. وَمنْ فَمه يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لكَيْ يَضْربَ به الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْر سَخَط وَغَضَب الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبه وَعَلَى فَخْذه اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلكُ الْمُلُوك وَرَبُّ الأَرْبَاب»". الجزء المتبقي من الأصحاح الذي أعطيناه العنوان الرئيسي "السماء مفتوحة" ينقسم بشكل طبيعي إلى ثلاثة أقسام: (١) الملك المقتدر وجيوشه المنتصرة (الآيات ١١- ١٦)؛ (٢) الدعوة إلى الطيور الجارحة النهمة الجائعة لأن تقتات على المذبوحين، وأن تشارك في "عَشَاء الإلَه الْعَظيم" (الآيات ١٧، ١٨). (٣) الانهيار الكامل ودمار الجيش المقاوم، القادة الذين قُدر لهم أن يُلقوا أحياء إلى بحيرة النار مع ذبح أتباعهم (الآيات ١٩- ٢١).
المشهد الخاص أمامنا (الآيات ١١- ١٦) هو أحد المشاهد التي تثير الاهتمام الفائق. لقد رأينا عدة ظهورات متنوعة للمسيح، فالسفر كله تقريباً هو حول، بينما نحن جميعاً "انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ" (١ كور ١٠: ١١). ولكن الرؤيا الحالية في طابعها ونتائجها الفائقة ليس لها مثيل. إنها فريدة من نوعها. لا نجد الحمل هنا على عرشه كما في الأصحاح ٥، بل كملك محارب العظيم في انتصاراته، والذي يتمتع بقوة غازية كاسحة. أمام المسيح، كما نجد هنا، تذوي وتتلاشى قوات الأرض وترتاع أجرأ القلوب المقتدرة؛ ولكن هذه الصورة تسر القديسين، لأنهم يعرفونها. فالملك والقاضي الديان هو صديقهم الأبدي.
السموات مفتوحة، وباب مفتوح في السماء:
١١- "رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً". هذا السفر مليء بالأحداث السماوية. المشاهد في السماء كما يراها الرائي عديدة ومتنوعة تُسمع أصواته، وتُغنى الأغاني، ويُرى الملائكة والقديسون الممجدون، والشيوخ والأحياء ينحنون في سجود، وعروش وتيجان وأثواب وقيثارات وأسفار وأكثر، كلها تخبر عن سعادة سكان السماء وحركتهم اللتان لا تتوقفان. رأينا نظرات إلى السماء، ولكن السماء نفسها مفتوحة هو مشهد عظيم جليل لا يُقاوم. في بداية القسم السماوي من السفر (الأصحاح ٤) نقرأ "نَظَرْتُ وَإِذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ" (الأصحاح ٤). وكم كانت عظيمة دهشة الرائي وهو يرى، وبالطبع في رؤيا، السماء نفسها مفتوحة، وليس فقط باباً يسمح له بالدخول. هذا الحدث متوافق مع الأبهة والعظمة وموكب الانتصار في السماء. باب مفتوح كان في السماء ليعبر الرائي من خلاله. السماء كانت مفتوحة وذلك ليخرج منها الجنود السماويون. نقرأ أربع مرات في العهد الجديد عن السماء المفتوحة (متى ٣: ١٦؛ يوحنا ١: ٥١؛ أع ٧: ٥٦؛ رؤيا ١٩: ١١)، وفي كل مناسبة نجد ارتباطاً مع المسيح. اثنان من هذه الأمثلة هي في الماضي واثنان في المستقبل. مجده المعنوي في إذلاله استدعى ذلك. مجده المستعلن في الأعلى تطلب ذلك. لأورشليم المقدسة تُرى في رؤيا لاحقة وهي نازلة من السماء (٢١: ٩)، ولكن لا يُقال أن السماء مفتوحة عندئذ للخروج؛ فهي تُفتح لمرة، وهذه كافية.
وصف للغازي وجيشه المنتصر:
١١- أول جزء من الوصف لما يراه الرائي هو "فَرَسٌ أَبْيَضُ"، رمز القوة المنتصرة. الفارس الذي يقود الفرس ويسيطر عليه يحمل اسماً سرياً يُدعى "أَميناً وَصَادقاً". هناك آخرون يمكن أن يوصفوا بهذه الصفات، ولكن المسيح وحده هو الوحيد الذي يمكن أن يُشار إليه هكذا بدون مواصفات. فهو في شخصه وطرقه التجسيد الكامل المثالي لهذه المواصفات. هو أمين لأجل إنجازه كل وعود وكل تهديد، في حين أن كل كلمة وفعل يحمل طابع الحقيقة المطلقة.
١١- "بالْعَدْل يَحْكُمُ وَيُحَاربُ". يأتي إلى تثبيت مصير العالم لألف سنة. ليس هو المحارب القدير فحسب، بل هو يحكم العالم وأيضاً يغزوه. الله "أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١). اليوم الموعود على وشك أن يبدأ، والإنسان معين أمامنا وهو قائد جند السماء. ليست هذه حرباً جائرة؛ ليست حرباً تُشن بدافع الرغبة في الغزو، ولا غايتها توسيع رقعة المملكة. الحكم يُحدد قبل شن الحرب، لأن كل ما يجري يتم بهدف معين مقصود. الحرب والمسائل المتعلقة بها توجه بحكمة. البر صفة مميزة له كديان ومحارب.
١٢- "وَعَيْنَاهُ لَهيب نَارٍ". في (١: ١٤) و (٢: ١٨) يُقال عن المسيح أن "عَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ". ولكن هنا تم حذف "كـ" من المقارنة. "عَيْنَاهُ لَهيب نَارٍ". هذا هو الله العالم بكل شيء الذي يراقب الجميع ويسبر أغوار كل شر مخفي، والدينونات التي ينفذها تدل على صفاته، كما رأينا في التعليقات السابقة، بينما في نصنا نجد أنها قيد التطبيق. والحدث هنا أشد كثافة.
١٢- "عَلَى رَأْسه تيجَانٌ كَثيرَةٌ". الأكاليل والتيجان متمايزة. القديسون في السماء لهم أكاليل (٤: ٤، ١٠)، ما يدل على الوقار الملكي، ولكن على رأس المسيح هناك تيجان تدل على سلطته المطلقة والسامية. التنين له تيجان على رؤوسه السبعة (١٢: ٣)، والوحش له تيجان على قرونه العشرة (١٣: ١). ولذلك فإن التنين والوحش كلاهما يمارسان سلطة عظيمة. وليس هناك سوى شخص واحد مؤتمن على تطبيق سلطة مطلقة وسطوة، وذلك هو ابن الإنسان (مز ٩: ٨). هناك سبعة تيجان على التنين، وعشرة على الوحش؛ ولكن نعلم أن "تيجَانٌ كَثيرَةٌ" على رأس المسيح الفاتح ما يدل على أن كل شكل ونوع من الحكم قد اكتسبها لنفسه.
١٢- "لَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرفُهُ إلاَّ هُوَ". هناك أسماء إلهية معينة، مثل الله، يهوه، يسوع، المسيح، الرب، الخ، وهي تعبر بقوة عن الكيان الإلهي في علاقة محددة مع مخلوقاته. ولكن الاسم هنا ليس مذكوراً. فالمسيح- الذي كان وسيكون دائماً- ما من اسم يمكن أن يعبر عنه. الابن في ملء طبيعته الإلهية يمكنه وحده أن يُعرف من قِبل الآب (متى ١١: ٢٧). المسيح يعرف في نفسه من يكون وماهيته وما كان عليه.
١٣- "وَهُوَ مُتَسَرْبلٌ بثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بدَمٍ". هذا الرمز المذهل والمؤثر يعلن انتقامه بتعامل جزائي مع جنود أوربا المرتدة الذين خرجوا ليشنوا معركة مع الخروف. في أشعياء ٦٣: ١- ٤ نشهد العودة الظافرة من أرض أدوم، ومن عاصمتها بُصْرَةَ، حيث يكون الرب قلبه مليء بالنقمة ومرتدياً ثياباً مخضبة بدم أعدائه، ولكن هنا يُرى رداؤه مَغْمُوساً بدَمٍ قبل أن يدخل في الصراع، علامة أكيدة على أن انتقامه العادل يأخذ مجراه حتى النهاية على أولئك الأعداء المجتمعين تحت غامرة رئيسيهما العظيمين، الوحش والنبي الكذاب.
١٣- "يُدْعَى اسْمُهُ «كَلمَةَ الله»". من الكتاب الثمانية لأسفار العهد الجديد، يوحنا وحده هو الذي يطلق هذا اللقب على المسيح. بما أنه الكلمة فهو يمثل ويعبر عن الله في كينونته، وشخصه، وأعماله. إنه "كَلِمَةِ الْحَيَاةِ" (١ يوحنا ١: ١)، كائناً كذلك في شخصه وطرقه. إنه يُدعى "كَلمَةَ الله" وهي خير تعبير عنه في دينونته. وبما أنه الكلمة فإن له وجود شخصي مستقل وأبدي (يوحنا ١: ١، ٢)؛ وبما أنه الكلمة فهو خالق كل الأشياء (الآية ٣). إنه الذي يعلن عن الله ويكشف عنه، وهو الذي يجعله معروفاً. كلماتنا يجب أن تكون تعبيراً دقيقاً عما نحن؛ وكلمات المسيح كانت التعبير الدقيق لما هو عليه أبداً (يو ٨: ٢٥). بما أنه الكلمة فهو يظهر الله في طبيعته الجوهرية كنور ومحبة ولكونه "اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ" فإنه يعلن عن الآب. لا يمكن الفصل بينهما، لأن القلب يتوق إلى علاقة معروفة وسارة. الله هو أبانا.
اللقب المستخدم هنا ليسوع له معنى خاص في هذا السياق. الله هنا هو الذي يُرى وقد انبرى للعمل. طبيعته الذاتية تتطلب كينونة اولئك الذين حاولوا بجنون على الأرض أن يعيقوا هدفه في أن يضع ابنه ملكاً على جبل صهيون ويضع يديه على سدة حكم الأرض. المسيح، "كَلمَةَ الله"، هو التعبير المطلق عن الله في مشهد الدينونة التي على وشك أن تجري.
الجيوش المنتصرة:
١٤- "الأَجْنَادُ" في السماء تتبع قائدها الشهير المعروف والذي يركب على "خَيْلٍ بيضٍ" لأن انتصاره هو انتصار لهم، وظفره ظفر لهم. في هذه الجيوش تمثل القديسين السماويين، أولئك الذين في زمن العهد القديم وأولئك يشملون العروس. كل واحد منهم يرتدي ثوباً يدل على بره الشخصي، والذي يدل على صراع شخصي هنا وجهد مبذول بفعل الصواب، والحفاظ على حقوق الله وسط عالم معاكس ومعارض لله وللمسيح. ثياب العروس (الآية ٨) هي نفسها ثياب كل واحد من الجنود (الآية ١٤). الجيوش في السماء التي تتبع المسيح في انتصار والذين يملأون موكبه ليسوا ملائكة، بل قديسين. يا له من مشهد عسكري يُصور أمامنا هنا! هؤلاء الجيوش من القديسين في السماء يتبعون قائدهم. هو يمضي أولاً، ورؤساء الجنود المنتصرين يتبعونه. لدينا هنا تحقيق نبوءة حَنُوكَ، التي كان قد نُطق بها قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، ولكنها الوحيدة المدونة في رسالة يهوذا. "هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ" (يهوذا ١٤). يكتب زكريا (١٤: ٥) عن نفس المجيء، ولكن لغاية تحطيم القوى المناوئة لليهود، بينما سفر الرؤيا يكشف موضوع أول دينونة للأمم المناوئة للخروف. الملائكة أيضاًَ يتبعون الموكب ويحتفلون بانتصار الرب (متى ١٦: ٢٧؛ ٢٥: ٣١؛ عب ١: ٦). قوة الانتصار (خَيْل بيض) تُطلق في اليوم التعبير عن غضب الخروف وتعبر عنه بشكل فظيع. الحديث عن جيوش السماء التي تتبع المسيح في مسار حربه العادلة هي إدخال على الوصف العام للمسيح الذي يُستأنف الآن. الحرب نفسها تُذكر ببساطة (الآية ١٩)، ولكن الوصف الشخصي للقائد العظيم لخلاصنا يتم بإسهاب. إننا نبتهج بسماعه يتحدث وبسماعهم يتحدثون عنه.
المسيح في عمله الإداني:
١٥- بعد ذلك نسمع عن السلاح الدفاعي الوحيد الذي يستخدمه الجنود السماويون، ألا وهو "سَيْفٌ مَاضٍ". ليس لدى الجيوش أسلحة، وليسوا في حاجة إليها، لأن المعركة هي معركة الرب. "منْ فَمه يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لكَيْ يَضْربَ به الأُمَمَ". الإشارة هنا هي إلى أشعياء ١١: ٤. فهو يتكلم كما فعل في البستان عندما سقط أعداؤه إلى الأرض (يوحنا ١٨: ٥، ٦). كلمته في الحال تضرب وتذبح. قوتها لا يمكن مقاومتها. ليس من سلاح دنيوي هنا، بل قوة مدمرة أشد فظاعة في تأثيرها من أي سلاح آخر أياً كان شكله ومهما كانت مهارات البشر التي صنعته- فالحديث هو عن كلمة الرب المنطوقة.
١٥- "وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ". من الواضح أن المزمور الثاني كان أمام الكاتب في وصفه المجيد لقدرة الله العظيمة. الحكم القاسي والصارم المطبق هنا على الشعوب المتمردة تدل عليها عبارة عصا من حديد. "هُوَ سَيَرْعَاهُمْ"، أي سيحكمهم (١٢: ٥). إن تواجدنا معه خلال حكمه للعالم (مز ١٤٩: ٦- ٩)، وإدانة أعدائه، لا تتعارض أبداً مع الحقيقة الموضوعة في أصحاحنا هذا، "هُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ". هذا عمله، وقد مُنح بقوة وكاملة وافرة للقيام بذلك. الإرادة المتصلبة عند الأمم يجب تحطيمها وتحويل قوتهم إلى ذرات.
١٥- "وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْر سَخَط وَغَضَب الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". ليس هذا رمز الحصاد حيث يُفصل الأخيار عن الأشرار، بل الكرم الذي هو الانتقام القاسي من الشر والشر الديني الذي تطور إلى تجديف (١٤: ١٧- ٢٠). هناك ثلاثة رموز للدينونة في الآية ١٥من أصحاحنا هذا. (١) سيف ماضٍ للدلالة على العقوبة الجزائية الفورية وعلى الأرجح الموت. (٢) عصا من حديد للدلالة على حكومة متصلبة عادلة. (٣) معصرة الغضب التي ستصيب الأشد إثماً بينهم. وهذا الأخير هو تعبير يدل على أقصى الغضب. الله القدير انبرى إلى الفعل. يقول: "الانتقام لي". ومن جديد الضمير الشخصي يجعل الدينونة تبدو كأنها عمل الرب وحده. "قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ" (أش ٦٣: ٣).
١٦- هذا الوصف المطول يُختتم بالتأكيد العظيم على مجده. "وَلَهُ عَلَى ثَوْبه وَعَلَى فَخْذه اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلكُ الْمُلُوك وَرَبُّ الأَرْبَاب»" . رداؤه، شخصيته الخارجية وطريقه كما يراها الآخرون تحمل اللقب المعبر عن السطوة الكونية. بدل السيف على فخذه (مز ٤٥: ٣)، يُذكر هنا أن الاسم مكتوب عليه. السيف في فمه؛ والاسم على الفخذ. وهنا لابد للمرء أن يبحث بشكل طبيعي عن السيف الذي يدل على مكانة المسيح البارزة كملك على كل الذين يحكمون والذي يفوقهم في القدرة على الحكم. في الأصحاح ١٧: ١٤ الألقاب نفسها تُطبق على الرب؛ ولكن هناك تُتلى بترتيب معكوس: "رَبُّ الأَرْبَاب" تسبق "ملك الملوك". ما من قلم يعدل إذا أراد الكتابة عن الشخص المجيد للرب. في تفسير الرموز والعبارات الحرفية لابد من العناية، ولكن ليس من صعوبة كبيرة في ذلك. في إدراكنا للظروف، وللمناسبة، ولسبب الرب نفهم كل شيء؛ تلك الشعوب الواقعية على الأرض نجدها في تمرد مسلح مفتوح جريء ضد سلطة الله، سواء مُورست معنوياً أو بالحكم؛ إضافة إلى ذلك، فإن الأمم على الأرض والقديسون الذين يخرجون من السماء هم جيوش بكل معنى الكلمة، وهناك أهداف وغايات ومشاريع تُقاومهم. الأفكار السابقة يمكن أن تساعد المرء على كشف الأشياء الغامضة وغير المؤكدة ومعرفة ما هو حقيقي وعلى وشك أن يحدث، وعن دورنا في ما سيجري.
عشاء الإله العظيم:
١٧، ١٨- رأينا وليمة العرس المبهجة للخروف؛ ولدينا هنا عشاء الرب العظيم. النعت "عظيم" مرتبط مع العشاء وليس وصفاً لله.
١٧- "رَأَيْتُ مَلاَكاً وَاحداً وَاقفاً في الشَّمْس". يقف في المركز، أو بالحري مركز السلطة الحاكمة. إنه يقف حيث يمكن أن يراه الجميع، وحيث يستطيع أن يعاين كل مشهد الصراع. العشاء الذي يدعو إليه الطيور الجارحة يأتي بعد المعركة. ولكن الطيور تدعى إلى التجمع في الرؤيا قبل القتال. العشاء العظيم هو للأموات. الملوك والقادة العسكريون والرجال المقتدرون والخيول وراكبيها، أحراراً وعبيد، صغاراً وكبار، يقبعون في صمت الموت، وأجسادهم فريسة لطيور السماء. يتكلم المسيح، وفي الحال تصيب الدينونة القوات المعادية المعارضة المتجمعة. ونكرر من جديد أن هذا المشهد حقيقي وهو من أشد المشاهد الحرفية فظاعة. نشوب الحرب أمر متوقع، ونتيجتها معلنة. هؤلاء المذبوحون ينهضون لملاقاة الرب مرة أخرى، ليس على ظهر الخيل بقوة فاتحة ظافرة، بل على العرش حيث تأتي الإدانة مباشرة بعد الدينونة (٢٠: ١١- ١٥). قيامتهم تحدث بعد ألف سنة من عقابهم على الأرض.
١٨- نقرأ خمس مرات عن "لحوم" كطعام لطيور السماء. ويا لها من نهاية مخزية لأوربا ذات الكبرياء والأبهة والقوة والفروسية! النسر، والصقر، والطيور الجارحة الأخرى التي تقتات على العظماء والمقتدرين الذين تم الاحتفاظ بأسمائهم في صفحات تاريخ هذا الزمن (قارن مع حز ٣٩: ٤، ١٧- ٢٠). "جَميعُ الطُّيُور شَبعَتْ منْ لُحُومهمْ" (الآية ٢١)، يأكلون بنهم حتى التخمة. يا له من ذبح فظيع! وكم هو هائل عدد المذبوحين!
هزيمة كاملة للوحش والملوك والجيوش المتحالفون معه:
١٩- ٢١ – "وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْض وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمعينَ ليَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الْجَالس عَلَى الْفَرَس وَمَعَ جُنْده. فَقُبضَ عَلَى الْوَحْش وَالنَّبيّ الْكَذَّاب مَعَهُ، الصَّانعُ قُدَّامَهُ الآيَات الَّتي بهَا أَضَلَّ الَّذينَ قَبلُوا سمَةَ الْوَحْش وَالَّذينَ سَجَدُوا لصُورَته. وَطُرحَ الاثْنَان حَيَّيْن إلَى بُحَيْرَة النَّار الْمُتَّقدَة بالْكبْريت. وَالْبَاقُونَ قُتلُوا بسَيْف الْجَالس عَلَى الْفَرَس الْخَارج منْ فَمه، وَجَميعُ الطُّيُور شَبعَتْ منْ لُحُومهمْ". إننا على وشك أن نشاهد الاتحاد الأعظم والأضخم بين الملوك والشعوب التي رأيناها على الأرض. "الوحش" يُذكر أولاً على أنه مركز وروح الحكم. كل القوة والمصادر المادية للإمبراطورية المنتعشة المقتدرة نجدها مشتملة في العبارة "الوحش". ثم نجد ذكر "مُلُوكَ الأَرْض"، وهم أنفسهم الملوك الذين انتحبوا على دمار بابل. السلطات السياسية والاجتماعية للعالم المسيحي تتحد مع الوحش في هذه الحرب البربرية . ثم نسمع عن "أَجْنَادَهُمْ"، أي جيوش أو جنود الوحش والملوك.
جميعهم "مُجْتَمعينَ". هذا يفترض أن هذا التجمع الذي يكاد يكون كونياً من القوى يقوم إنسان بترتيبه. ولكن ما كان ليمكن لقيصر أو لنابليون أن يأتي بهذه المجموعة الواسعة المتحدة من القوى، لأجل هدف كمثل هذا الذي نسمع عنه هنا. الشيطان هو وراء الحركة. في ١٦: ١٣، ١٤، ١٦ لدينا الحجاب يُرفع وتتكشف الطبيعة الحقيقية له. ثلاثة أرواح نجسة، شيطانية في مصدرها وطابعها، تُمنح قوة عجائبية. "تَخْرُجُ عَلَى مُلُوك الْعَالَم وَكُلّ الْمَسْكُونَة لتَجْمَعَهُمْ لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". ومكان التجمع أيضاً يُذكر، ألا وهو "هَرْمَجَدُّونَ" (١٦: ١٦). بعد أن نقرأ عن القوى التي تجتمع معاً في مواجهة الرب، والمكان الذي يجتمعون فيه، يأتي الحديث عن الحقيقة الواضحة ولكن المذهلة لأن جنود الأرض يتجمعون "ليَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الْجَالس عَلَى الْفَرَس وَمَعَ جُنْده". هل في التاريخ ما يوازي هذا؟ شعوب أوربا، وحتى المنطقة الأوسع، المستنيرة والمتمسحنة، قد ضللهم الشيطان لدرجة كبيرة حتى أنهم دخلوا القائمة مع "ملك الملوك ورب الأرباب". يا للحماقة! يا للجنون! السيادة المطلقة للأرض هي الهدف في ذلك اليوم، ويُحدد مصيرها مرة واحدة وللأبد للمعركة الوشيكة الحدوث. كراهيتهم واضحة تجاه الجالس على الفرس الأبيض، الخروف والملك، حيث اللقب الأول يدل على التضحية، والأخير على الملوكية الفخمة؛ فسواء ذُبح الخروف أو ملك الملك، العالم المسيحي سيبغضه. ثم تأتي المقاومة والمعارضة عند أولئك الذين هم خاصته. يصنعون "حَرْباً مع جُنْده". لدينا هنا التضاد بين "جندهم" و"جنده"، المكون من أتباعه المدعوين والمختارين والمخلصين. جيش واحد له فكر واحد وهدف واحد مع قائدهم البارز الشهير. ليس من تفاصيل تُعطى، لأنه قد لا يحدث صراع حقيقي هنا. النتيجة وحدها تُعلن؛ الذبح الفظيع الذي تم توقعه للتو (الآيات ١٧، ١٨).
٢٠- "فَقُبضَ عَلَى الْوَحْش". الرئيس الشخصي للإمبراطورية تظهر لنا حقيقة شخصه. الإمبراطورية ورئيسها الحاكم كانوا فعلاً مقاصد وأهداف الجميع. يمكن، بالطبع، تمييزهم كما في دانيال ٧، ولكن هنا، وفي مكان آخر في الرؤيا، الوحش ورئيسه الإمبراطوري العظيم الأخير، مرتبطان بشكل حيوي مع حتى أن الأول يهلك في الدمار الأبدي لرئيسه. الوحش. وحيداً في بحيرة النار- هو إنسان بالطبع ويتم الحديث عنه على أنه "الْوَحْش"- الاسم المعتاد للإمبراطورية.
٢٠- "وَالنَّبيّ الْكَذَّاب مَعَهُ". هذا هو ضد المسيح، تجسيد الامتداد الديني. تابعه، الوحش، هو الرئيس الأممي المتميز والذي يمنحه الشيطان سلطة سياسية تكاد تكون بلا حدود. لثلاث مرات يُستخدم اللقب "النَّبيّ الْكَذَّاب" للإشارة إلى ضد المسيح في وصف لتعاليمه الزائفة المضللة في يهوذا والعالم المسيحي عموماً . "مَعَهُ"، أي الوحش، ما يدل على أنهما كانا يتعاونان معاً. الوحش يؤمن القوة، والنبي الكذاب يؤمن المشورة. والأخير هو الأنشط بينهما.
٢٠- "الصَّانعُ قُدَّامَهُ الآيَات" أي قدام الوحش، الآيَات الَّتي بهَا أَضَلَّ الَّذينَ قَبلُوا سمَةَ الْوَحْش وَالَّذينَ سَجَدُوا لصُورَته. لقد خدعهم بآيات معجزية اجترحها، ومحاولته الكبيرة هي أن يجعل العالم برمته يسجد للوحش، الذي يفوقه بالقوة والسلطة المؤقتة، رغم أنه أدنى منهم في المكر والتأثير الشيطاني المهلك المميت. العمل الشيطاني لـ "النبي الكذاب"، والذي كان عمله الخاص لكونه مساعد الوحش، هو الموضوع الرئيسي في الأصحاح ١٣: ١١- ١٧، فهناك نجد اللقب "وحش آخر" بينما هنا "النبي الكذاب"، وكلاهما هما لنفس الشخص.
المصير المشؤوم الأبدي:
٢٠- "طُرحَ الاثْنَان حَيَّيْن إلَى بُحَيْرَة النَّار الْمُتَّقدَة بالْكبْريت". من يستطيع أن يصف بالكلمات هكذا مصير مشؤوم فظيع؟ حرفياً، وفعلياً، هذه هي العقوبة المقررة مسبقاً على كلا الشخصين، أحدهما يهودي، والآخر أممي، ولكن لعل كليهما على الأرض في هذه اللحظة! هذان الرجلان لا يُقتلان، كما يحدث مع أتباعهما المضللين. الموت الجسدي، في شخصهما، لن يعرفاه، ولكن ستقبض عليهما يد الكلي القدرة، وتعاقبهما على جرائهما، ويلقيان فوراً إلى بحيرة النار- التي هي تجمع لعذابات لا يمكن النطق بها. لا يسيران، ولا يُدفعان إلى مصيرهما المخيف، بل يلقيان حيين إلى بحيرة النار، كما تلقي شيئاً تافهاً. بعد ألف سنة ينضم الشيطان إليهما في نفس المكان الفظيع، كما يكشف لنا الأصحاح التالي. بحيرة النار لا تهدأ ولا تنطفئ. النار والكبريت يشيران إلى عذاب لا يمكن وصفه (أش ٣٠: ٣٣). بحيرة من نار، وليس من ماء، هي المستقر الأبدي حيث يُعاقب الشيطان والضالون من البشر والملائكة الساقطون. إنه مكان، وليس حالة. وهذه العبارة الدالة عليها تشير إلى كل ما هو قاتم وفيه عذاب، وربما يكون أول ذكر لها هنا. وعلى الأرجح أن أول نزلاء إلى البحيرة هم هذان الاثنان.
٢١- "وَالْبَاقُونَ قُتلُوا بسَيْف الْجَالس عَلَى الْفَرَس الْخَارج منْ فَمه". كبرياء أوربا وجيوشها يقبعان في صمت الموت، ويُقتلان، ولكن ليس بسيف حرفي مادي. صوت غضب ملك الملوك سيضرب أرتال متراصة، وفجأة يحرمها من قائديها العظيمين، ثم يأتي الموت، النصيب المريع للجيش المرتد والمتمرد. إنها قصة فظيعة تُروى لنا باختصار. حنوك وإيليا اختُطفا إلى السماء دون أن يريا الموت. الوحش والنبي الكذاب (أسماؤهم غير مذكورة) يُلقيان إلى بحيرة النار دون أن يموتا. لقد كان الذبح فظيعاً حتى أن طيور السماء تأكل حتى تُخنق من لحوم الأموات. المصير النهائي لعباد ومناصري الوحش نرى حديثاً عنه في الأصحاحات ١٤: ٩- ١١؛ ٢٠: ١١- ١٥.
١. يرى القس و. ف. ويلكنسون في كتابه "الأسماء الشخصية في الكتاب المقدس" أن اسم الرب أو "يهوه" كما أعلنه الله لموسى يعني "الكائن" (خر ٣: ١٤).
٢. في أجزاء متنوعة من سفر الرؤيا رمز المياه والرعود نراهما بشكل منفصل، ولكن في ١٤: ٢ نجدهما معاً. المياه لها مغزى مزدوج. الأول، عندما تكون في حالة حركة فهي تدل على فكرة الجلال والعظمة؛ وعندما تكون ساكنة فإن المعنى الرمزي لها هو الأمم والشعوب.
٣. تقديم الكنيسة في مجد لنفسه (أفسس ٥: ٢٧) هي مسألة خاصة، وتسبق الحدث العام، عرس الخروف. وهذه نتيجة طبيعية للأخرى.
٤. في حالة الملائكة وأيضاً في حالة العروس اللباس هو من الكتان؛ ولكن في هذه الأخيرة نجد أيضاً "كتان ناعم".
٥. الخدام والعبيد متمايزون عن بعضهما. انظر رؤيا ٢: ٢٠؛ متى ٢٢: ١٣؛ ومن أجل الأخيرة انظر رومية ٦: ٢٠؛ رؤيا ١: ١.
٦. "الرسل الأوائل" (١ كور ١٢: ٢٨؛ أف ٤: ١١؛ رؤ ٢١: ١٤؛ متى ١٩: ٢٢).
٧. "إنه علنياً ورسمياً و فعلياً ملك الملوك ورب الأرباب" – "خلاصة أسفار الكتاب المقدس" ، المجلد ٥، ص. ٦٣٥.
٨. الملوك العشرة خضعوا للوحش (١٧: ١٧). وهم فعالون في هذه الحرب، إذ نقرأ: "هَؤُلاَء سَيُحَاربُونَ الْخَرُوفَ" (١٧: ١٤)، ولكنهم لا يُذكرون بشكل محدد في هذا السرد الكامل والمفصل عن الحرب، فهويتهم تضيع، لنقل، في تلك التي للوحش.
٩. انظر الأصحاحات ١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠.