الأصحاح ١١
الشهادة اليهودية والبوق السابع
تمهيد:
لقد أشرنا إلى الأسرارية في الأبواق. مهما كانت الصعوبة التي نجدها لدى التفسير الدقيق لرموز وصور معينة فإن علينا أن نسلّم بأن دمار الأراضي والشعوب الأممية التي آمنت بالمسيح محفورة بلا شك في سلسلة دينونات الأبواق ككل؛ المعنى العام الذي تحمله، رغم كونه كامناً تحت رموز غنية، واضح. إنه دينونة العالم المسيحي، الذي هو بالأساس موضوع الأبواق.
ولكن الآن في الرؤيا التي أمامنا الوضع يتغير؛ ننتقل إلى نبوءة معروفة. الأنبياء والمزامير عرّفونا جيداً على حالة الأمور في يهوذا وأورشليم في الفترة الزمنية المشار إليها في أصحاحنا هذا، ومن هنا فإن التفسير بسيط نسبياً. نحن على أساس يهودي. ولكن لماذا يتحول اهتمام التعامل النبوي من الأمميين إلى اليهود، ولماذا تكون أورشليم بارزة في هذه الرؤيا، وفي مركز الحدث؟ الأسباب واضحة تقريباً. التعامل العنائي مع القسم المرتد من العالم الأممي قد أتى إلى نهايته الآن. حكومة الأرض على وشك أن تأخذ المسؤولية على عاتقها، وهي تبقى فقط لتصب جامات غضب الله المُركّز على العالم الآثم. ولكن إسرائيل هو مركز البركة الأممية والدينونة أيضاً. مسار الدينونة يقترب من نهايته. نحن في النصف الثاني من أسبوع دانيال السبعين الشهير المؤلف من سبع سنوات. في ذلك الوقت مركز الإنسان في الحكم الأرضي سيكون روما (رؤيا ١٧: ١٨). مركز الله وموضع عرش سلطانه سيكون في أورشليم. هناك مدن عديدة بارزة، ولكن أورشليم تطفو فوقهم. "هكذا قال السيد الرب: هذه أورشليم. في وسط الشعوب قد أقمتها وحواليها الأراضي" (حزقيال ٥: ٥). أورشليم هي مركز العالم الألفي، والذي منه سيحكم الرب الأمم (أشعياء ٢: ١- ٤)، "مدينة الملك العظيم". زمن الإتيان بالعالم الأممي إلى بركة ليس منفصلاً عن شعب إسرائيل بل مترابط معه بشكل مباشر. "تهللوا أيها الأمم مع شعبه" (رومية ١٥: ١٠). استقرار الأمم، الذين توزعت الأرض عليهم، لا يعود يعتمد على الغزو أو الحرب أو الشراء، بل على مشيئة العلي القدير. "حين قسم العلي للأمم حين فرق بني آدم نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل. إن قسم الرب هو شعبه. يعقوب حبل نصيبه" (تثنية ٣٢: ٨، ٩). هدف الله هو أن يجعل أورشليم المركز الذي يتجمع حوله كل الأمم، وهذا لا يفشل بل يُؤجَل. يُقدّم هذا الأصحاح بين أيدنا المراحل الأولية في تطور هذا الهدف الأرضي المجيد.
اليهود وأورشليم هم في مقدمة النبوءة، ونراهم مُداسين من قِبل الأمم، ويُعانون ظروفاً صعبة في هذه الفترة العصيبة من تاريخهم والتي نجد وصفاً لها في المزمور ٧٩. هنا نجد أولاً العاصفة ثم السكون؛ عذاب بني إسرائيل غير المؤمنين يُصور هنا، ولكن الفرج يأتي في الفجر، وعن هذا يتكلم الأنبياء العبرانيون بإسهاب وجلال.
في بداية الأصحاح يتم تقديم أكثر الرموز اليهودية أُلفةً لنا- الهيكل، والمذبح، والباحة، والمقدس، الخ.
الهيكل وأورشليم:
١، ٢- "ثُمَّ أُعْطيتُ قَصَبَةً شبْهَ عَصاً، وَوَقَفَ الْمَلاَكُ قَائلاً لي: «قُمْ وَقسْ هَيْكَلَ الله وَالْمَذْبَحَ وَالسَّاجدينَ فيه. وَأَمَّا الدَّارُ الَّتي هيَ خَارجَ الْهَيْكَل فَاطْرَحْهَا خَارجاً وَلاَ تَقسْهَا، لأَنَّهَا قَدْ أُعْطيَتْ للأُمَم، وَسَيَدُوسُونَ الْمَدينَةَ الْمُقَدَّسَةَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". "قَصَبَةً شبْهَ عَصاً". القصبة كانت أداة للقياس ١، وتُذكر مراراً وتكراراً من قِبل أنبياء العهد القديم. الهيكل، والمذبح، والمتعبدون، يقيسهم الرائي ما يدل على تكرسهم لله وحفظه لهم وقبوله إياهم. ملاك يحمل قصبة ذهبية يقيس الكنيسة الممجدة (رؤيا ٢١: ١٥). الرائي بقصبة خشبية يقوم بمثل هكذا مهمة في الهيكل. "شبْهَ عَصاً" أو عصا صلبة متينة، ترمز إلى القوة، والرسوخ، والثبات في الفعل الرمزي المشار إليه.
"قُمْ وَقسْ". كان الرائي مذعناً ومع ذلك متفرج مهتم على المشاهد التي يشهدها تحت الأبواق السابقة، ولكن الأمر يتعلق الآن بشعبه إسرائيل الذي يُطلب منه أن "يقوم" ليقيسه. إنه يُقام بأمر إلهي. وهذا أكثر من مسألة موقف عقلي.
الهيكل، والمذبح، والمتعبدون، كلهم يُقاسون. العبادة المسيحية تأتي في الوسط بين تعليق العبادة اليهودية في الماضي واستئنافها في المستقبل. المسيحيون لا يقيمون عبادة على الأرض؛ إنهم لا يدخلون إلى هيكل أرضي. قدس الأقداس في الأعالي هو مكان عبادتهم الأوحد الوحيد (يوحنا ٤: ٢١، ٢٣، ٢٤؛ عبرانيين ١٠: ١٩- ٢٢)؛ وذبائحهم هي التسبيح لله والخير العملي للناس (عب ١٣: ١٥، ١٦). ولكن هذا يختلف جداً عن العبادة اليهودية التي كانت في الماضي أو في المستقبل. الهيكل والمذبح أساسيان للعبادة اليهودية. لا يفترض الأمر وجود هيكل مادي آنذاك في أورشليم، ولكن النبوءة تتطلب تشييد هيكل حجري، وإعادة تأسيس شعب مؤمن بالله خلال الفترة الانتقالية بين انتقال المؤمنين (١ تسا ٤: ١٦، ١٧) وظهور المسيح ثانية (يهوذا ١٤، ١٥).
اليهود كشعب يبقى في حالة عدم إيمان هم وأصدقاءهم الذين يتبنون إيمانهم (أشعياء ١٨). عندها يبدأون ببناء هيكلهم ٢، ويعودون على الشعائر الموسوية. إن الله لا يكون في حركة استعادة اليهود، التي تهدف إلى غايات سياسية. بل يكون معهم عندما يصبحون بقية تقية مؤمنة صادقة مرضية لديه. القمع الأممي والارتداد اليهودي يؤدي إلى معاناة الشهود في ذلك اليوم، والتي ستُميز الساعات الأخيرة من تاريخ ذلك الشعب الجاهل غير المؤمن. "هيكل الله" يُسمى هكذا لأن الله يعترف بالمؤمنين الحقيقيين الموجودين هناك ويقبلهم. المذبح يشير إلى المذبح النحاسي الذي كان يقبع في باحة هيكل العهد القديم. إنه يرمز إلى قبول أولئك الذين يقتربون إليه بإيمان على أساس الذبيحة المقدسة. إن كلمة "هيكل" تشير إلى العبادة، وكلمة "مذبح" تشير إلى قبول البقية التقية من بني إسرائيل. إن البلاط المرفوض والواسع الأرجاء الذي يُعطى للأمميين يرمز إلى ارتداد الشعب ورفض الله لجمهور كبير من المتدينين الذين يعترفون به خارجياً ظاهرياً رغم مساعدة الوحش لهم (أشعياء ٢٨: ١٧- ٢٢). "البلاط" يرمز إلى اليهودية في تحالفها مع الأمميين، وذلك بصفتها الأشد فساداً وارتداداً.
أورشليم مُداسة:
٢- "سَيَدُوسُونَ الْمَدينَةَ الْمُقَدَّسَةَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". أورشليم كأي مكان آخر يُقال عن طابعها القدسي على أنها "المَدينَةَ المُقَدَّسَةَ" (انظر نحميا ١١: ١، ١٨؛ أشعياء ٥٢: ١؛ دانيال ٩: ٢٤، الخ). ستكون مُداسة لفترة محددة تماماً، لـ ٤٢ شهراً. هذه الفترة من الزمن يتم الحديث عنها في مكان آخر على أنها مؤلفة من ١٢٨٠ يوماً (الآية ٣؛ ١٢: ٦)، فتكون زَمَاناً وَزَمَانَيْن وَنصْفَ زَمَانٍ (١٢: ٤). يُشار إليها أيضاً في دانيال ٩: ٢٧ بالعبارة: "وسط الأسبوع". والآن تشير هذه الفترات إلى نصف الأسبوع الأخير من السنوات السبع في نبوءة دانيال (٩: ٢٤- ٢٧) ٣.
الأشهر الـ ٤٢ التي ستكون فيها أورشليم مُداسة ومسحوقة تحت أقدام الأمميين هي أشهر تتألف كل منها من ٣٠ يوماً، وبالتالي فالفترة تصبح ١٢٦٠ يوماً في شهادة المسح التي يحملها الشاهدان أو النبيان. ساعة كرب أورشليم الآتية ستكون لفترة محدودة مؤلفة من ٤٢ شهراً. ستجرع كأس غضب الرب، وتشربه لمدة ١٢٦٠ يوماً. سيدوس الأمميون على الشعب كالقذارة في الشوارع (أشعياء ١٠: ٦، الخ). وحتى أولئك الشعوب الذين سيتصادقون مع اليهود في البدء سيلتفون ويغرقون الشعب المستعاد في انتقامهم. سوف "تُترك (يهوذا التي سيستعيدها تدخل الأمم بقوة) معاً لجوارح الجبال ولوحوش الأرض فتصيف عليها الجوارح وتشتي عليها جميع وحوش الأرض" (أشعياء ١٨: ٦). وهكذا فإن الله سيختار أن يُبقي شعب إسرائيل تحت سطوة أعدائه الأمميين، وذلك في حالة عبادة وثنية وارتداد عن الله والحق (متى ١٢: ٤٣- ٤٥). "فتصير أواخر ذلك الإنسان (يهوذا) أشر من أوائله. هكذا يكون أيضا لهذا الجيل الشرير" (متى ١٢: ٤٥).
الشاهدان اليهوديان:
٣، ٤- "وَسَأُعْطي (القدرة) لشَاهدَيَّ فَيَتَنَبَّآن أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً، لاَبسَيْن مُسُوحاً. هَذَان هُمَا الزَّيْتُونَتَان وَالْمَنَارَتَان الْقَائمَتَان أَمَام رَبّ الأَرْض". المتعبدون في الهيكل هم جماعة متمايزة عن الشاهدين في المدينة. المتعبدون والأنبياء كل منهما يُمثل حقائق الكهنوت والملكية التي تتحد في المسيح خلال فترة حكمه الألفي، "يكون كاهناً على كرسيه" (زكريا ٦: ١٣)؛ وعلى هذا يُصادق الشاهدان. وبخصوص عدد الشهود ٤، تم تقديم تخمينات لا حصر لها، مثل العهدين القديم والجديد، الشريعة والإنجيل، هس وجيروم، الوُلدوويين والبيجينيين، الخ. يفترض آخرون، مع عرض سبب قناعتهم، وفي تقديس ظاهر للكتابات المقدسة، أن الشاهدان هما موسى وإيليا، استناداً على ما جاء في ملاخي ٤ ٥. "اذكروا شريعة موسى عبدي" (ملاخي ٤: ٤) لا تدل على حضور شخصي لمعطي الناموس العظيم في مشاهد الأيام الأخيرة؛ بينما تدل الآية ٥ بشكل واضح على أنها إشارة على أن النبي العظيم سيعود للظهور ثانية في فلسطين: "هئنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف" (ملاخي ٤: ٥). هناك شهادة كاملة وكافية وافية في الفكرة المقصودة عمداً من استخدام عدد الشهود. يبدو لنا أن عدداً أكبر من اثنين هم أمامنا في الأزمة هذه، وأيضاً أن الآية ٨ تفترض جماعة من الشهداء المقتولين. ولكن هذه النقطة غير هامة. الناموس اليهودي، وهنا نحن وسط الظروف اليهودية، كان يتطلب وجود شاهدين لتقديم دليل كافٍ وافٍ (تثنية ١٧: ٦؛ ١٩: ١٥). ومن هنا نجد ملاكين شاهدين على قيامة الرب (يوحنا ٢٠: ١٢)، ورجلين عند صعوده (أعمال ١: ١٠).
٣- "سَأُعْطي". الترجمة الأدق هي "سأُعطي قدرة". فالقدرة أو الكفاءة تُضفى إلى شهادة الشاهدين. وهذا ما يتوافق مع فحوى النص. أيام شهادتهما يُذكر عددها بدقة. ليست شهادتهما في حينها، بل مستمرة يومياً إلى حين استنفاد الفترة المخصصة، وليس بعد ذلك بيوم. لابد أن نلاحظ أن الـ ١٢٦٠ يوماً هي أقل من الثلاث سنوات ونصف بـ ١٧ يوماً ونصف. في نهاية الفترة المشار إليها يُبوق بالبوق السابع، وتنتهي فترة الضيقة، والقوة التي يضطهد بها الوحش قديسي الله تنتهي على نحو مفاجئ (١٣: ٥).
٣- "لاَبسَيْن مُسُوحاً" تشير إلى أن الشاهدين مبتليين بالحزن والضيق (يوئيل ١: ١٣؛ ملوك الأول ٢٠: ٣١؛ إرميا ٤: ٨).
"هَذَان هُمَا الزَّيْتُونَتَان وَالْمَنَارَتَان". لماذا يُرمز إلى هذين النبيين بهذه الرموز على نحو خاص؟ إن في ذلك إشارة واضحة أكيدة إلى زكريا ٤. فأشجار الزيتون والكرمة والتين لكل منها مغزى خاص بها. الزيتون هو الشهادة (رومية ١١). والكرمة هي الإثمار (يوحنا ١٥). والتينة هي إسرائيل كشعب (لوقا ٢١: ٢٩). الشاهدان في أورشليم يُسميان "زَّيْتُونَتَان"، لأنهما كانا يُمثلان في تلك الأيام شهادة الله، ويحفظان نبوياً حقوق المسيح الملكية والكهنوتية. يُقال عنهما أيضاً أنهما "مَنَارَتَان"، لأن نور الروح القدس فيهما. ليس لشهادتهما أي طابع محدد، لأنهما في نور الله الواضح. فالله معهما روحياً وبقوة.
وفوق ذلك، يُقال عن الشاهدان أنهما "قَائمَان أَمَام رَبّ الأَرْض"، وليس الله كما في بعض الترجمات. هناك واحد وواحد فقط هو الذي له الحق والأهلية لكل ما هو هنا أدناه. الرب، مخلّص إسرائيل، له في نفسه حق بالأرض بما لا يقبل الجدل. فهي تخصه. ولكن هذا الحق أُنكر عليه، ومن هنا كانت مقاومة اليهود المرتدين والأمم والصراعات التي نقرأ في الرؤيا تفاصيل الشهادة المؤلمة عنها. الأنبياء يقفون أمام رب الأرض؛ ويعلمون في حضرة مَن هم، وإذ ينظرون إليه بالإيمان، فإنهم يثبتون في حضرة من لا يمكن لبشري رؤيته.
ومن هنا، إذاً، فإن الشهود، سواء كانا اثنين أو أكثر، يشيرون نبوياً إلى فترة تمتد ١٢٦٠ يوماً بدون انقطاع. إن مهمتهما والظروف المؤلمة التي ينقلان ضمنها شهادتهما نجد تعبيراً رمزياً عنها في كونهما "لاَبسَيْن مُسُوحاً". شهادتهما لها قوة وتتميز بنور روحي وسط الحزن والكآبة التي تخيم كسحابة جنائزية على أورشليم المدينة الآثمة، بل المدينة الأكثر إثماً على وجه الأرض.
القدرة المعجزية للشاهدين:
٥، ٦- "وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يُريدُ أَنْ يُؤْذيَهُمَا، تَخْرُجُ نَارٌ منْ فَمهمَا وَتَأْكُلُ أَعْدَاءَهُمَا. وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يُريدُ أَنْ يُؤْذيَهُمَا فَهَكَذَا لاَ بُدَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ. هَذَان لَهُمَا السُّلْطَانُ أَنْ يُغْلقَا السَّمَاءَ حَتَّى لاَ تُمْطرَ مَطَراً في أَيَّام نُبُوَّتهمَا ٦، وَلَهُمَا سُلْطَانٌ عَلَى الْميَاه أَنْ يُحَوّلاَهَا إلَى دَمٍ ٧، وَأَنْ يَضْربَا الأَرْضَ بكُلّ ضَرْبَةٍ كُلَّمَا أَرَادَا". رأينا التركيز في النور والقوة لدى الشاهدين؛ والآن يتقويان ليحميا أنفسهما ويُجيزا مهمتهما إلى إسرائيل "المتمرد" (مز ٦٨: ١٨) بإلقاء دينونة شديدة على أعدائهم، وإظهار علامات تدل على قوة فائقة الطبيعة. فما من أحد، مهما علا شأنه، في منأى عن الدينونة. الموت هو النصيب الأكيد لكل من "يُريدُ أَنْ يُؤْذي" الشاهدين. ما من شك في أن الشهادة سيقبلها البعض، وربما كثيرين (دانيال ١٢: ٣)؛ وآخرون، يفوق عددهم ذلك العدد الكبير، سيرفضون الرسالة بازدراء وتكبر؛ بينما جماعة أخرى ستسعى لإيذاء الشاهدين بالعنف أو الافتراء. وعلى هؤلاء تقع دينونة فظيعة، ليس على الجمع، بل على كل فرد لوحده، لأن معارضة الشهود تدل على طابع عنفي. الآن تعمل النعمة في تخليص نفوس البشر، ولكن عندئذ ستكون الدينونة فعالة في تطهير الأرض من الخطأة الرافضين للمسيح. الفرق بين الدهرين التدبيريين يجب أن لا يتغاضى عنه. المبدأ واضح في المزمورين ٢٢ و٦٩. في الجزء الأول من كلا المزمورين لدينا آلام المسيح. ولكن في الأخير تأثر آلامه أو نتيجتها هي البركة حتى لأطراف الأرض ولكل الزمان المستقبلي (الآيات ٢٢- ٣١)؛ بينما الدينونة الأخيرة تُنفذ على أولئك الذين ساهموا في إيلام المخلّص (الآيات ٢٢- ٢٨). عانى المسيح لأجل الخطيئة (مز ٢٢) وأيضاً لأجل البر(مز ٦٩). عندما سينقضي يوم النعمة سيأتي وراءه يوم انتقام تأكيد.
ولكن بينما تؤكد الآية ٥ على أن الشاهدين لهما سلطة ممنوحة (الآية ٣) ليحميا أنفسهما ويبررا مهمتهما بدينونة صارمة قاسية- وبالتالي سيمارسان من دون ريب سلطة قوية- نجد الآية ٦ تشير إلى مهمة أقوى وأوسع وأشد جرأة. ونجد شهادتهما تشبه كثيراً شهادة موسى التي ترافقت مع المعجزات عندما كان إسرائيل خاضعاً للأمميين (خروج ٧- ١٢)، وكذلك إيليا (الملوك الأول ١٧؛ ١٨) عندما ارتد إسرائيل عن الإيمان بالله. ستكون أورشليم مركز هذه الآيات المعجزية العلنية. ويا لها من شهادة ستكون للشعب المرتد في ذلك اليوم! معجزات موسى التي تتكرر، على الأقل في طابعها، ستُذكرهم بعبوديتهم القديمة في مصر، وتكون نذيراً لخضوعهم للحكم الأممي من جديد؛ بينما معجزات إيليا، التي يتكرر حدوثها قبل الإعلان العلني، ستقود أفكارهم بالتأكيد وترجعهم إلى حالة ارتدادهم السابقة عن الله إلى بعل. الرب، رب الأرض، سيؤكد من جديد حقه وصحة ادعاءاته أمام شعبه المرتد. ومن هنا فإن حالة إسرائيل، وعلى الأقل في يهوذا وأورشليم، مشابهة لتلك التي في أيام موسى وإيليا- أي استعباد وارتداد يستلزمان آيات معجزية موافقة من قِبل الرب. فهنا نجد وصفاً لخدمة للشاهدين على منوال موسى وإيليا.
الوحش والشاهدين:
٧- "وَمَتَى تَمَّمَا شَهَادَتَهُمَا فَالْوَحْشُ الصَّاعدُ منَ الْهَاويَة سَيَصْنَعُ مَعَهُمَا حَرْباً وَيَغْلبُهُمَا وَيَقْتُلُهُمَا". الشاهدان خالدان ولا يُغلبنا إلى أن تكتمل مهمتهما. لقد تنبآ في أورشليم، مركز الاهتمام النبوي والسياسي خلال النصف الأخير من الأسبوع الآتي، وقليلاً بعد انقضاء الأسبوعين، والتي خلالها تُصب الجامات. ولكن الوحش الآن، أي إمبراطورية روما المنتعشة، تظهر إلى المشهد. وهذا هو أول ذكر للوحش في هذه الرؤى الرؤيوية. يُذكر اسمه كشخص معروف. في دانيال ٧: ٢، ٣ ورؤيا ١٣: ١، الوحش، أو روما، يطلع من البحر، أي من جموع البشر المتناحرة، من مشهد من الملكية والتشوش والاضطراب. يظهر ضد المسيح بعد تأسيس الإمبراطورية التاريخي، ومن حالة راسخة من الحكم المدني والسياسي، يتم الحديث عنه على أنه الأرض (رؤيا ٣: ١١). ولكن الوحش في نصنا يُقال بأنه سيأتي "صَّاعداً منَ الْهَاويَة". بمعنى أنه بينما ظهوره التاريخي بشري، إلا أن انتعاشه شيطاني. الوحش كان يخرب في العالم المسيحي، يساعده تابعه السياسي ضد المسيح (الأصحاح ١٣). يهوذا بشكل خاص شعرت باليد القاسية الصارمة للمضطهد (متى ٢٤: ١٥- ٢٨؛ رؤيا ١٢: ١٣- ١٧). ولكن الآن أورشليم نفسها هي التي تُفتقد. الشاهدان في المدينة كانا آمنين، بينما إخوتهما في الإيمان ورفقائهما في الألم كانوا يمرون بفظائع الضيقة العظيمة، فترة البلوى والمحنة التي لا نظير لها في تدوينات التاريخ (مرقس ١٣: ١٩). لقد تصاعد شر الأرض إلى ذروته في المدينة المقدسة. إنسان الخطيئة هناك. ولكن الله يتدخل ليدافع عن خدامه بآيات معجزية وإمارات تدل على القوة والسلطة والدينونة. الشهادة في أورشليم (الآية ٣) متزامنة مع وجود الوحش كقوة مضطهِدة (١٣: ٥). فترة استمرار الوحش هي على الأقل لـ ٧ سنوات، ولكن قدرته على الاضطهاد محصورة بـ ١٢٦٠ يوماً، أو ٤٢ شهراً مؤلف كل منها من ثلاثين يوماً. يُسمح للوحش عندئذ، وفي نهاية حرفته الفعالة، بأن يدخل أورشليم ويقتل الشهود؛ وهذا هو "عمله السياسي الأخير"، كما قال أحدهم. الوحش يبدو منتصراً. إنه يشن حرباً ضد القديسين، ويغزوهم، ويقتلهم.الصلاح والإيمان يبدو وكأنهما يتلاشيان عن الأرض (مز ٤: ٦؛ لوقا ١٨: ٨). السؤال يُطرح حول إذا ما كان سيكون آنذاك موجود على الإطلاق. ولكن قصة الشهود لم تنتهي بعد. دفاع الله، وإن تأجل، فهو لابد حاصل. انتصار الأشرار قصير الأجل، وعن هذا نقرأ الآن، بعد أن وافق الله على شاهديه الأمينين بان يعبرا بشكل علني وواضح. الوحش يفوق في قسوته وتجديفه كل قوة ظهرت على الأرض على الإطلاق. مصيره المشؤوم وكذلك حليفه هو مصير فظيع مريع (١٩: ٢٠).
المعاملة المزدرية التي يتعرض لها الشاهدان المذبوحان والابتهاج العام:
٨- ١٠- "وَتَكُونُ جُثَّتَاهُمَا عَلَى شَارع الْمَدينَة الْعَظيمَة الَّتي تُدْعَى رُوحيّاً سَدُومَ وَمصْرَ، حَيْثُ صُلبَ رَبُّنَا أَيْضاً. وَيَنْظُرُ أُنَاسٌ منَ الشُّعُوب وَالْقَبَائل وَالأَلْسنَة وَالأُمَم جُثَّتَيْهمَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَنصْفاً، وَلاَ يَدَعُونَ جُثَّتَيْهمَا تُوضَعَان في قُبُورٍ. وَيَشْمَتُ بهمَا السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض وَيَتَهَلَّلُونَ، وَيُرْسلُونَ هَدَايَا بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ لأَنَّ هَذَيْن النَّبيَّيْن كَانَا قَدْ عَذَّبَا السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". في هذا المقطع الذي أمامنا لدينا ذكر لجثة وجثتي الشاهدين الذين يتكلم عنهما الرائي. ونلاحظ استخدام كلمة "جثة" بالمفرد للدلالة على معاملة واحدة عامة مزدرية يتعرضان لها. أورشليم تُدعى هنا "الْمَدينَة الْعَظيمَة". وروما (المدنية) وبابل (الأسرارية)، كما كل السلطات البشرية الراسخة ضمن حدود الإمبراطورية، تتم الإشارة إليها- الأصحاح ١٧: ١٨ يدل على الأولى، والأصحاح ١٨: ١٠ يدل على الثانية، بينما الأصحاح ١٦: ١٩ يدل على الثالثة. انحطاط أورشليم الأخلاقي يتم التعبير عنه باستخدام اللقب "الْمَدينَة الْعَظيمَة". لا يُذكر اسمها، بل توصف بأنها "رُوحيّاً سَدُومَ وَمصْرَ". الأولى بسبب الفساد والفجور والشر فيها (تكوين ١٨؛ ١٩؛ يهوذا ٧؛ ٢ بطرس ٢: ٦- ٨)، والثانية لأنها كانت أول من استعبد وقمع واضطهد شعب الله (خروج ١: ١٤). الترجمة الأدق هي "حَيْثُ صُلبَ ربّهما (وليس رَبُّنَا) أَيْضاً". هذه الجملة تمنع إيجابياً التطبيق الأسراري على الكنيسة ٨. المدينة التاريخية أورشليم تحدد هنا بالعمل الذي كان قمة إثمها، ألا وهو صلب "ربهم"، أي، رب الشهداء المذبوحين.
لابد من ملاحظة أن هناك ثلاثة جماعات في هذه الصورة القاتمة: (١) الوحش الذي يقتل الشهود. (٢) أولئك "الأُنَاس منَ الشُّعُوب وَالْقَبَائل وَالأَلْسنَة وَالأُمَم" ٩، الذين ينظرون إلى جثث الأنبياء الملقاة في الشارع أو الأماكن العامة من المدينة، وهكذا يكونون عرضة لنظر الرعاع. إضافة إلى ذلك، فإنهم يُعبرون عن كراهيتهم وازدرائهم في منعهم لدفن الأجساد، هذه العملية المخزية. (٣) "السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض" ١٠، الذين هم أسوأ شعب مرتد على وجه الأرض في ذلك اليوم. كل الجماعات والفئات المذكورة هنا تسكن على الأرض حرفياً، ولكن العبارة المشار إليها هي ذات مغزى وفائدة أخلاقية كبيرة. إنهم مرتدون عن المسيحية، وقد رفضوا عن تصميم وإصرار الدعوى السماوية واختاروا الأرض بدلاً من ذلك. الله له السموات، وهم عازمون ومصممون على أن تكون الأرض نصيبهم ومكانهم. وسكان الأرض هؤلاء هم أشرار وسيئون كالوحش وحلفائه بل وأسوأ. الأمميون المتحالفون مع الوحش يرفضون دفن جثث الشهود المستشهِدين؛ وهؤلاء مسرورون ويتبادلون الهدايا والتهاني على قتل الأنبياء. نلاحظ أن الابتهاج العام هو في زمن الحاضر، بينما إرسال الهدايا هو في زمن المستقبل. إرسال الهدايا في مناسبات الفرح العامة هي عادة عالمية قديمة (أمثال ١٩: ٦؛ استير ٢: ١٨؛ ٩: ١٩- ٢٢). صوت الشهود يُسكت في صمت الموت، وهذا هو سبب الابتهاج العام. في حين أن حقوق الله للأرض عبّر عنها الصوت والآية (الآيات ٣- ٦) المرتدون المسيحيون "يُعذَبون" في ضمائرهم وربما في أجسادهم أيضاً. كلمة الله أينما كُرز بها بأمانة تجعل الناس تعساء. الخطيئة وتبعاتها المريعة هي موضوع مؤلم ومعذب حتى لأكثر الضمائر قسوة وتحجراً.
دفاع الله العلني عن الشاهدين المذبوحين:
١١، ١٢- "ثُمَّ بَعْدَ الثَّلاَثَة الأَيَّام وَالنّصْف دَخَلَ فيهمَا رُوحُ حَيَاةٍ منَ الله، فَوَقَفَا عَلَى أَرْجُلهمَا. وَوَقَعَ خَوْفٌ عَظيمٌ عَلَى الَّذينَ كَانُوا يَنْظُرُونَهُمَا. وَسَمعُوا صَوْتاً عَظيماً منَ السَّمَاء قَائلاً لَهُمَا: «اصْعَدَا إلَى هَهُنَا». فَصَعدَا إلَى السَّمَاء في السَّحَابَة، وَنَظَرَهُمَا أَعْدَاؤُهُمَا". طاقة الحياة، الحياة الأبدية، من الله تصبح فاعلة، والشهود يزدادون قوة وصموداً. يؤدون شهادتهم، ويجتازون محنهم، ويقفون بقوة وثبات في حياة لا يستطيع الموت أن يلمسها. تأثير أو نتيجة هذا العمل القيامي الذي تتم الشهادة له علانية، ثبُت في عيني وضمائر الأمميين المرتدين أنها من الله، وهي تسبب ذعراً وخوفاً. "وَقَعَ خَوْفٌ عَظيمٌ عَلَى الَّذينَ كَانُوا يَنْظُرُونَهُمَا". الأيام الثلاثة والنصف التي تُذكر مرتين (الآيات٩، ١١) هي أيام حرفية. من المستحيل اعتبارها غير ذلك. نحن هنا في مطلع أحداث تختم الأسبوع النبوي الأخير. وعلى الأرجح لن تمر أيام كثيرة قبل أن يعود الرب ليستلم بنفسه زمام السلطة والملكوت. إنه يأتي في نهاية الأسبوع، وإننا على وشك انتهاء هذا الأسبوع. ليس هناك احتمال أو حاجة لتفسير الزمن بشكل يختلف عما هو مذكور حرفياً. الفئات الزمنية الأربع المذكورة في الأصحاح هي حرفية ودقيقة، ومكانها ليس في الماضي التاريخي، بل في الأزمة المستقبلية.
١٢- ثم سمع الرائي "صَوْتاً عَظيماً منَ السَّمَاء". كان هذا صوت الرب أو صوت شخص أعطاه الرب القوة. الصوت كان موجهاً إلى الشهود القائمين في أجساد خالدة ولا تقبل الفساد (١ كور ١٥: ٥٤)، ويقفون في حضرة أعدائهم، وقد غلبهم الخوف. "اصْعَدَا إلَى هَهُنَا". عليهما أن يجدا في السماء مكانهما ونصيبهما. يا له من جواب على الازدراء والخزي والقتل في الأرض! يا له من منظر بالنسبة إلى أعدائهم! سنُختطف في السحب (١ تسا ٤: ١٧)؛ لقد صعدا في السحاب، وليس في غيمة. لماذا "في السحاب"؟ من الواضح أن الإشارة هي إلى سحابة أو غيمة معروفة خاصة، وعلى الأرجح أنها تلك التي نزل بها المسيح (١٠: ١). السحابة هي رمز لحضور الرب (خروج ٤٠: ٣٤- ٣٨). فقط هنا وفي لوقا ٩: ٣٤ نقرأ عن أشخاص يدخلون في سحابة المجد، سحابة الحضور الإلهي.
١٢- "وَنَظَرَهُمَا أَعْدَاؤُهُمَا". قيامة الشاهدين ومغادرتهما الظافرة لمشهد الشهادة والألم تتم الشهادة لها علانية (بالنسبة للأولى انظر الآية ١١، وبالنسبة إلى الأخيرة انظر الآية ١٢). ومن هاتين الناحيتين يختلفان عن تلك المتعلقة بالمسيح والقديسين السماويين. ما من عين بشرية رأت المسيح يخرج من القبر؛ تلاميذه وحدهم شاهدوا صعوده. وليس من إشارة تدل على أن قيامتنا الآتية وانتقالنا إلى السماء سيشاهدها أي أحد على الأرض. بينما نجد الترتيب الذي به قيامة الأبرار، وتحول الأحياء، والانتقال الناتج عن ذلك لكلا الجماعتين من القديسين (١ تسا ٤؛ ١ كور ١٥) نجد تتبعاً له بتفاصيل دقيقة، مع ذلك كل شيء يجري بسرعة حتى يستحيل على العالم أن يرى ما يجري. كل شيء يتم إنجازه "في لحظة في طرفة عين" (١ كورنثوس ١٥: ٥٢).
الدينونة:
١٣- "وَفي تلْكَ السَّاعَة حَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ، فَسَقَطَ عُشْرُ الْمَدينَة، وَقُتلَ بالزَّلْزَلَة أَسْمَاءٌ منَ النَّاس: سَبْعَةُ آلاَفٍ. وَصَارَ الْبَاقُونَ في رُعْبَةٍ، وَأَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء". "في تلْكَ السَّاعَة حَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ". تحت الختم السادس (٦: ١٢)، كما الحال هنا تحت البوق السادس، هناك "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ"، عظيمة بسبب التأثير الفظيع الناتج عنها. تحت الجام السابعة تقع دينونة أشد فظاعة، تكون كارثية جداً وتفوق كل ما سبقها من دينونات (١٦: ١٨). لا بد أنها تمزق عنيف للمجتمع، بكل نظامه الحكمي والاجتماعي، ذاك الذي يُشار إليه تحت الختم السادس. ولكن هنا في المجال الضيق والموصوف أمامنا نعتقد أن المقصود بها زلزلة حرفية، ستدمر جزءاً من المدينة وتقتل سبعة آلاف- العدد الكامل المعين للموت. كانت أورشليم مشهداً لهكذا افتقادات مشابهة في الماضي، وكذلك ستكون في المستقبل (زكريا ١٤؛ متى ٢٨: ٢). سيكون هناك جيشان في قوى الطبيعة، يحمل خلال سيره تدميراً للحياة والممتلكات، سيكون له تأثير بارز بأن يطبع في ذهن البقية من السكان الآثمين الحقيقة المهيبة بأن تدخل الرب بالدينونة كان حقيقة واقعية قاسية صارمة.
١٣- "سَقَطَ عُشْرُ ١١ الْمَدينَة". ساعة الانتصار للشاهدين كانت ساعة العدالة الجزائية على المدينة التي شهدا فيها، والتي فيها سُفك دمهما بإسراف. إننا نفهم الـ "عُشْرُ" هنا على أنه يرمز إلى الدينونة الكاملة. ومن هنا فإن الضربات العشر على مصر كانت ذروة دينونات الرب المكتملة على تلك الأرض (خروج ٩: ١٤). الوصايا العشر كانت تعبر عن المعيار الكامل لمطالب الرب لشعبه- معيار إطاعتهم له (خر ٢٠).
١٣- "قُتلَ بالزَّلْزَلَة أَسْمَاءٌ منَ النَّاس: سَبْعَةُ آلاَفٍ". في ترجمة أخرى لا نجد العبارة "أَسْمَاءٌ منَ النَّاس" في النص بل نجدها في الحاشية أو الهامش. إن الدقة في الدينونة يبدو أنها كانت مقصودة بدلالة الاستخدام المحدد لعلم المصطلحات اللغوية بالإصرار على ذكر الـ "أَسْمَاء منَ النَّاس". لقد لاحظنا للتو تشابه الظروف التي كان يعيشها اليهود في أورشليم المتبدية في هذا الأصحاح مع ظروف أزمنة الارتداد التي ظهر فيها إيليا حاملاً كلمة الله. فهنا تحدث معجزات من نفس الطابع. قارنوا الجزء الأول من الآية ٦ مع يعقوب ٥: ١٧، ١٨. وبالنسبة إلى العدد "سَبْعَة آلاَف" التي تدل على عدد المعينين للموت من قِبل الله، فإن هذا يُذكرنا بالـ "سَبْعَة آلاَف في إسرائيل" الذين احتفظ الله بهم لنفسه (الملوك الأول ١٩: ١٨)، وهذا تلميح آخر بالتضاد إلى عصر إيليا. ذكر الجماعة المؤلفة من سبعة آلاف تماماً يؤكد على حرفية العدد المذكور في الأصحاح ٧: ٤- ٨؛ ١٤: ٣ في الرؤيا. ما هو أمامنا هو عبارة عن عدد كامل ومكتمل، سواء كان كبيراً أم صغيراً. عدد محدد معين قُدِّرَ له الموت.
١٣- "وَصَارَ الْبَاقُونَ في رُعْبَةٍ، وَأَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء". إن الباقين هم في تضاد مع القتلى السبعة آلاف. ومن هنا فإن سكان أورشليم الآثمين يُشكّلون فعلياً مجموعتين: المقتولين والمحفوظين. هذه الجماعة الأخيرة ترتجف خوفاً. ذراع الله قد رُفعت وها هي ذي تضرب بدينونة فتخاف البقية. تأثير الدينونة المرعبة على المدينة والشعب لا يقود الناجين إلى التوبة والإيمان، ولكنهم في خوفهم يُعطون "مَجْداً لإلَه السَّمَاء". ما لم يُسبر غور الضمير كلياً وتأتي النفس إلى النور لا يمكن أن يكون هناك شركة مع الله. إنهم يبعدونه عن عالم اهتماماتهم. وعندما يغمر الرعب أنفسهم فإنهم يبدون استعداداً ليُعطوا "مَجْداً لإلَه السَّمَاء"، لأن هذا يُبقيه بعيداً. ولكن الشهادة الخاصة لسفر الرؤيا هي لحق الله وأحقيته في امتلاك الأرض، وهذا هو موضوع الجدال مع هؤلاء المرتدين، سواء كانوا يهوداً أم مسيحيين. ومن هنا، فإلى أن يتم الاعتراف بحق الله بالأرض، ستكون هناك حاجة إلى دينونة أخرى وأشد. مطالب الله حاسمة وقاطعة، ولا يمكنه أن يزيد وينقص أي ذرة من مطالبه المحقة. المجد المعطى لإله السماء، بالطريقة التي يُقدمها أولئك المرتدون الخائفون، لا يمكن أن يُنجي من المسار الصارم للدينونة.
الويل الأولى، أو البوق الخامس، تُعلن في زمن الماضي في الأصحاح ٩: ١٢؛ أما هنا في الآية ١٤ فبعد الإشارة إلى الويل الثانية، يضيف النبي قائلاً: "هُوَذَا الْوَيْلُ الثَّالثُ يَأْتي سَريعاً"، أي أن التحقق الأخير هو وشيك الحدوث.
َمَالكُ الْعَالَم لرَبّنَا:
١٥- ١٨- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّابعُ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء قَائلَةً: «قَدْ صَارَتْ مَمَالكُ الْعَالَم لرَبّنَا وَمَسيحه، فَسَيَمْلكُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً الْجَالسُونَ أَمَامَ الله عَلَى عُرُوشهمْ خَرُّوا عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه قَائلينَ: «نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الْكَائنُ وَالَّذي كَانَ وَالَّذي يَأْتي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ وَمَلَكْتَ. وَغَضبَت الأُمَمُ فَأَتَى غَضَبُكَ وَزَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا، وَلتُعْطَى الأُجْرَةُ لعَبيدكَ الأَنْبيَاء وَالْقدّيسينَ وَالْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار، وَليُهْلَكَ الَّذينَ كَانُوا يُهْلكُونَ الأَرْضَ»". الختم السابع والبوق السابع متشابهان في هذا السياق، بأنه ما من دينونة مباشرة معلنة، وما من أحداث مباشرة ستقع تحتهما (انظر ٨: ١؛ ١١: ١٥- ١٨). التحقق الذي يُحتفل به بشكل كبير في الآيات التي أمامنا لا يُدون أحداثاً ستقع عند إطلاق البوق السابع. ما من شيء يُقال عن نتائج مباشرة تنشأ عن نفخ البوق. وهذا واضح حتى من أدنى تفحص للمقطع الذي نتأمله الآن. المملكة واستلام السلطة، تسبحة الشيوخ، غضب الأمم، وغضب الله، ودينونة الأموات، ومجازاة خدام وقديسي الله تُشكل الحقائق العظيمة والمميزة للملكوت الألفي خلال كل مساره بل وحتى إلى الأبدية. قارن القول "زَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا" بما يرد في ٢٠: ١٢. البوق الأخير يُنفخ فيه. ثم تكتمل طرق الله الحالية الأسرارية مع البشر. الله على وشك أن يتصرف علانية، ويُنزل سلسلة من دينونات قصيرة حادة حاسمة وقوية على السلطة المرتدة الواسعة الأرجاء والراسخة آنذاك التي تسيطر على الأرض، أي الوحش (الأصحاح ١٦). وهذه السلسلة الختامية من التأديبات الإلهية تُرى على أنها تنشأ عن الله نفسه. ليس فيها سر. ولكن قبل أن يبتلي الناس بها، ممالك ربنا ومسيحه العالمية تُعلن من خلال بضعة أصوات عظيمة في السماء. هذا لا يعني أن الملكوت قد جاء فعلاً، بل إنه متوقع. دمار كل القوة والسلطة المعارضة يجب أن تسبق تأسيس الملكوت، وهذا ما تشهد عليه حصرياً الأصحاحات ١٦ إلى ١٩: ١٧؛ ٢٠: ٣.
توقع الملكوت وليس تأسيسه فعلياً، هو سبب الابتهاج في السماء. عندما يتأسس الملكوت بقوة ستتحد الأرض والسماء كلاهما في تسبحة شكر وفرح. ونكرر أنه في السماء فقط يُحتفل بالملكوت الآتي. بينما الابتهاج يميز سكان السماء- أي الملائكة والمفديين- تستعد الأرض للدخول إلى آخر آلام احتضارها قبل أن يبزغ فجر نور الألفية فيبدد الظلمة. في السماء فقط يستلم ربنا ومسيحه الملكوت؛ وهناك فقط يُحتفل به. البوق السابع لا يأتي بالملكوت، بل يشير إلى اقترابه. الملاك القوي في ١٠: ٦، ٧ كان قد أقسم أنه عند إطلاق البوق السابع سيكتمل سر الله وبلا تأجيل أو توانٍ. وهنا يُظهر تحقيق قسمه وكلمته. البوق يُنفخ، فيشاهد الجميع دينونة مفتوحة وعلنية تأتي من السماء ما يدل على أن الله الآن قد قام ليتدخل علانية في أمور الناس. إلا أننا مدعوون لنرى هذه التأديبات الجزائية الأخيرة على العالم المرتد، السماء في هدوئها تتطلع إلى الابتهاج بتأسيس الملكوت القريب.
الترجمة التي لدينا هنا تقول: "مَمَالكُ الْعَالَم". ولكن هناك ترجمات أخرى تقول: "مِلْك (أو ملكوت) العالم". قد يبدو الفارق تافهاً، ولكن الواقع ليس كذلك. "مَمَالكُ الْعَالَم" توحي في الحال بعدة ملوك ومصالح عديدة متضاربة متصارعة، ومشاعر غيرة وحسد بين الدول، وما شابه ذلك، في حين أن "مِلْك (أو ملكوت) العالم" لربنا ومسيحه تشير إلى ملكوت عالمي يُغطي كامل الكرة الأرضية؛ فكل أقسام الأرض تأتي إلى خضوع لذلك الملك الوحيد الذي يسود عليها. حكم الأرض سيستلمه ذاك الذي سيسطر على كل الشر ويؤسس البر. حكمه الخيِّر سيكون على تضاد سار من كل النواحي مع الحكومات والحكّام الملكيين في الماضي والحاضر. الفكرة المقصودة هي ملكوت واحد لا ينفصم وعالمي سيشمل كل الأرض ويكون بالعدل والسخاء.
بعد ذلك، يُقال أن فترة الحكم هي "إلَى أَبَد الآبدينَ"، أي طوال كل زمن الآتي، طالما أن الشمس والقمر والأرض تدوم (مز ٧٢: ٥، ٧، ١٧). يمتد الحكم إلى الأبدية. ولن يتوقف أبداً.
الأصوات الكثيرة للقوات السماوية تجد تجاوباً لها بفعل عبادة راسخاً بشكل منقطع النظير من جهة الشيوخ أو ممثلي المفتدين. مكانهم الاعتيادي هو أن يكونوا مكللين ومتوجين أمام الله. يسجد الشيوخ مرتين في الأصحاح ٥ متعبدين لله (الآيات ٨، ١٤). أما هنا فيُكتفى بالقول : "خَرُّوا عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه". وليس من مكان آخر أو مثال آخر نسمع فيه عن الشيوخ يسجدون على هذا النحو. المناسبة تتطلب ذلك. ثم يأتي التسبيح من فم الشيوخ الذي لا يبتهجون فيه فقط بل يقدمون أسباباً عقلية تبرر قيامهم بذلك ١٢ (انظر ٥: ٥، ٨- ١٠؛ ٧: ١٣- ١٧، الخ). هناك ٧ تسابيح تُذكر في مسار هذه الرؤى الرؤيوية، والتي تشكل هذه واحدة منها. وهذه تُقدم باهتمام بالغ (٥: ١٢؛ ٧: ١٢؛ ١١: ١، ٥؛ ١٢: ١٠؛ ١٤: ٢؛ ١٥: ٢؛ ١٩: ١).
يُقدم الشكر للرَّبّ الإلَه الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْء، هذا الجمع القوي للألقاب الإلهية. الرب الكائن بذاته؛ الله (إيلوهيم)، الذي هو الخالق أيضاً؛ القادر أيضاً بالقوة، في مصادره. ثم تُعلن سرمدية كيانه، "الْكَائنُ" (الأزلي الوجود)، و"الَّذي كَانَ" في ما يتعلق بالماضي، و"الَّذي يَأْتي" بما يشير إلى المستقبل.
١٧- "أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ وَمَلَكْتَ". من اللافت أن نلاحظ أنه بينما الملكوت هو للرب ولمسيحه أو الممسوح (مز ٢)، مع ذلك فإنه يأخذه، وليس هم الذين يأخذونه. بينما الرب والمسيح متمايزان هنا كل بمفرده، مع ذلك فإنهما يتحدان في أخذ الملكوت واستلام الحكم التالي، ومن هنا الاستخدام صيغة الضمير المفرد (أَخَذْتَ)، بينما يتوقع المرء استخدام الجمع. ونلاحظ استخدام العبارة "قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ"، أي كامل القدرة الإلهية، قدرة الله الأبدي السرمدي نجدها هنا، والملكوت بأوسع امتداده يُعانق السموات والأرض، ويمتد في الزمان إلى الأبدية، وقد سُحب من قبضة العدو، ونجد استخدام العبارة "وَمَلَكْتَ" في زمن الماضي للتأكيد على الحقيقة.
بعد ذلك، نجد عبارة عرضية توجز تاريخياً شعور الأمم نحو الله وشعبه- السماوي والأرضي- ألا وهي أن "وَغَضبَت الأُمَمُ" وقد وردت في الزمن الماضي. "فَسيأتي غَضَبُكَ". لاحظوا الفرق في الأزمنة. غضب الأمم "أتى" ولكن غضب الله "سيأتي".
١٨- "زَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا" تحملنا في الفكر إلى نهاية الملكوت (٢٠: ١٢). دينونة الأمم (متى ٢٥: ٣٢) هي عند بدء فترة حكم الملكوت؛ وهي دينونة العالم، أو الأرض المأهولة (أعمال ١٧: ٣١)، خلال كل مسارها أو مدتها؛ بينما الأموات يدانون بعد أن يكون الملكوت الأرضي قد زال وانقضى (رؤيا ٢٠: ١١، ١٢).
١٨- "لتُعْطَى الأُجْرَةُ"، الدينونة والمكافأة كلاهما هي أفعال مميزة للملكوت. توزيع المكافأة عام وخاص بآن معاً. مكافأة البقية والمجد يُمنح على جميع قديسي الله سواسية. ولكن هناك أكاليل ومكافآت خاصة. وفي الملكوت نفسه هناك درجات ومستويات مختلفة من الكرامة لابد أن نفكر فيها. ولذلك فإن "الأُجْرَةُ" ليست فقط جواب الله على حالة شعبه المبتلي هنا، بل يُقابل أيضاً المواقف العديدة والمتميزة التي سيشغلونها في الملكوت. المكافأة لهؤلاء الأخيرين ستتناسب مع أمانة ومعاناة وخدمة كل قديس بمفرده.
١٨- "عَبيدكَ الأَنْبيَاء وَالْقدّيسينَ وَالْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار"، هم الأشخاص المعينون الذين تُعطى لهم "الأجرة". هناك ثلاث فئات يُشار إليها: (١) "عَبيدكَ الأَنْبيَاء" من الواضح أنهم أولئك الذين شهدوا لله في جميع العصور والأجيال. الشهداء الذين في أصحاحنا يُسمون "أنبياء" (الآيات ٣، ١٠)، ومن هنا التعبير "عَبيدكَ" يجب أن يُفهم بمعنى أضيق من ذاك المستخدم في الأصحاحات ١: ١؛ ٢: ٢٠؛ ٢٢: ٣. إنه يُستخدم في ٧: ٣ للإشارة إلى المختومين من بني إسرائيل. "العبيد" هنا يُضاف إليهم الصفة "أنبياء": "عَبيدكَ الأَنْبيَاء". أن تشهد لله في أيام مظلمة وشريرة هي خدمة لا ينساها الله أبداً. وكل من يفعل ذلك هم خدامه وعبيده على نحو خاص. (٢) "الْقدّيسينَ". هذه العبارة شائعة في العهد الجديد لتشير إلى جسد المؤمنين العام، ولا تُستخدم في نصوص العهد الجديد للدلالة على جماعة مختارة. إنها اللقب المشترك للمفديين في كلا العهدين. (٣) "الْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار". هذه الجماعة الأخيرة تضم كل من يتميزون بأنهم يعترفون باسم الرب. لاشك أن هناك كثيرين محتجبين في جميع العصور كان انعزالهم المعنوي عن العالم ضعيفاً حتى يصعب إعطاءهم لقب "قديسين" ١٣. ولكن هناك أولئك الذين يخافون اسم الرب في جميع طبقات وفئات المجتمع. العبارة الفنية "الصّغَار وَالْكبَار" تدل على الحالة الخاصة بكل واحد في العالم وأمام الله (انظر ١٣: ١٦؛ ١٩: ٥، ١٨؛ ٢٠: ١٢). ومن هنا فإن أولئك الذين يخافون اسمه، أينما وُجدوا، سواء كانوا ذي مرتبة عالية أو منخفضة، يأتون هنا لأجل أن ينالوا مكافأتهم أو أجرتهم الخاصة.
١٨- "وَليُهْلَكَ الَّذينَ كَانُوا يُهْلكُونَ الأَرْضَ". أي، حان الأوان أيضاً عندما سيُدمر أولئك الذين دمروا الأرض بأنفسهم، أي الوحش وضد المسيح وأتباعهما. الفئة الأخيرة جماعة تغاير أولئك الأموات الذين يُدانون. فعلة الشر الفعالين الذين أفسدوا الأرض انذهلوا بعملهم الفظيع، ويخضعون في الحال إلى الدينونة الإلهية. الأرض للرب، جزء من ذلك الإرث اشتراه المسيح وعلى وشك أن يُفتدى بالقدرة (أفسس ١: ١٤)، ومن هنا يجب أن يُزال منه كل من يُدمرهم، سواء جسدياً على يد الوحش أو معنوياً على يد معاونه ضد المسيح.
مراجعة الموقف:
يُفتتح الأصحاح بذكر هيكل ويُختتم بذكر الهيكل أيضاً (الآيات ١ و١٩)، والأخير فقط يستهل سلسلة جديدة من الأحداث، ويستأنف التاريخ العام. الآية ١٩ لا تشكل أي جزء من الرؤيا السابقة. مادة موضوع الأصحاح تُختتم بالآية ١٨.
وننتقل من الجزء الممتع المتعلق بالملاك المقتدر والظروف الراهنة فيه (الأصحاح ١٠) إلى الأساس اليهودي (الأصحاح ١١). نقف في أورشليم، التي تُدعى هنا "المدينة العظيمة" ١٤. قبول الله للمتعبدين الحقيقيين يُشار إليه بقياس الهيكل والمذبح بينما رفضه لليهودية المرتدة يُعبر عنه في الدار حيث هناك مَنْ طُردوا خارجاً (الآيات ١، ٢). جمع الناس يتحالفون مع الأمميين، ثم يتمردون على الله والحق علانية. يجب أن لا ننسى أن من أمامنا ليس الوثنيون بل العالم المسيحي الذي هو أسوأ بكثير. ولكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد وسط جيشان الفساد في أورشليم، التي كانت ألعوبة ودمية في يد الشيطان. تظهر شهادة خاصة في المدينة، متميزة عن غيرها ولا مثيل لها في أي مكان آخر. الشهود، أو الأنبياء (إذ يُطلق كلا الاسمين عليهما)، يُمنحون قدرة عجائبية. فيجترحون المعجزات، ويحمون أنفسهم بعلامات تدل على طابع إلهي لمدة ١٢٦٠ يوماً. الاستعباد للأمميين والمرتدين عن الله يميز الحالة العامة ليهوذا، وخاصة أولئك الذين في مدينة أورشليم. ومن هنا فإن المعجزات التي تُجرى تشابه تلك التي في أيام موسى وإيليا. إن العجائب والأشخاص كلاهما متشابهان (الآيات ٣- ٦).
الوحش الذي شق طريقه من روما- مركز القوة الأممية، المدنية والكنسية- إلى أورشليم، يقتل ويسلب وينهب مستمتعاً بأفعاله، ولكن قوته وفترة وجوده كلاهما تحت سيطرة الله. ليس الحديث هنا عن ظهوره التاريخي "طَالعاً منَ الْبَحْر" (١٣: ١)، بل عن انبعاثه الشيطاني "الصَّاعدُ منَ الْهَاويَة" (١١: ٧). توصف أورشليم على أنها فاسدة منحطة أخلاقية مثل سدوم، وحافلة بالعبادات الوثنية مثل مصر، وتضاف إليها وصمة العار "حَيْثُ صُلبَ ربُّهُم (وليس رَبُّنَا) أَيْضاً". في المدينة التي توصف على هذا النحو، تُلقى جثث القتلى خارجاً في الأماكن العامة وتُحرم من الدفن. ويجتمع في المدينة جميع الفئات والممثلين عن العالم المرتد، مركزين أنظارهم على القتلى، الذين يشمت بهم من هم أسوأ منهم، أولئك الذين يُقال عنهم بأنهم "السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض" (الآيات ٨- ١٠). ولكن وسط المشهد من الابتهاج العالمي، يتدخل الله ويصون شهوده بمنحهم، على مرأى كامل من أعدائهم، قيامة عامة وانتقالاً إلى السماء (الآيات ١١، ١٢). يلي ذلك وقوع الدينونة على المدينة وسكانها الآثمين. وما من خلاص يصيب البقية التي تُحفظ، بل فقط، وفي خوفهم العظيم، "أَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء" (الآية ١٣).
الويل الثانية، أو البوق السادس، يُعلن عنهما على أنهما في الماضي، "الْوَيْلُ الثَّالثُ يَأْتي سَريعاً" (الآية ١٤). ثم يُبَوّق الْمَلاَكُ السَّابعُ، فَتحَدَث في الحال "أَصْوَاتٌ عَظيمَةٌ" في السَّمَاء قَائلَةً: "قَدْ صَارَ مِلك الْعَالَم لرَبّنَا وَمَسيحه". أقوام مختلفة منفصلة وهيئات سياسية متنوعة قد تتواجد تحت حكم المسيح، ولكنها جميعاً تقر بحكمه، وجميعها هي تحت سلطانه، وتمارس دورها في الحكم خاضعة لذاك الذي هو "ملك الملوك ورب الأرباب". الصراع بين الله والشيطان، كما هو مفصل في سفر الرؤيا، هو ليس من أجل أي من تلك الممالك المنفصلة في العالم، بل هو على العالم ككل؛ إنه يصبح ملكوت ربنا ومسيحه. جلال العالم كله هو موضوع خلاف. حكمه الأبدي، أي إلى أبد الآبدين، هو موضوع الاحتفال، وليس ذلك على الأرض، بل في السماء. التأسيس ملكوت العالم هو المتوقع أو الحدث المستبق، ولكن لم يأتِ بعد فعلياً؛ وعندما يحصل، فعندها الأرض والسماء ستشتركان في الاحتفال بمزاياه وأمجاده: "يا جميع الأمم صفقوا بالأيادي"، أي الأمميين. إن كان هناك فرح في السماء حيث يتوقع الملكوت (الآية ٥)، سيكون هناك حزن على الأرض.
بعد ذلك يستلم الشيوخ اللحن، ويعبدون الله بعمق محتفين بعظمته وأبدية كينونته، شاكرين إياه لأنه أخذ قوته العظيمة وسلطانه. سلطة الملكوت تعتبر حقيقة منجزة، رغم أنها لم تأتِ عملياً بعد آنذاك. بعد ذلك يباشر الشيوخ إفادة تكون من الجرأة والاكتمال بمكان لا يبقى من شيء آخر يُرجى معها. تُذكر حقائق الملكوت العظيمة البارزة. الأمم غاضبة، غضب الله يأتي ١٥، دينونة الأموات، مكافأة شعبه، وأخيراً هلاك أولئك الذين يكونون فاسدين آنذاك على الأرض (الآيات ١٦- ١٨). هذه الآيات الثمانية عشر مفعمة بالفائدة، وتحتاج إلى دراسة متأنية فعلاً. فالكثير من التبصر الروحي في ما يتعلق بحالة أورشليم ومشاعر وممارسات اليهود خائفي الله داخل وخارج المدينة، في الوقت الذي يتحدث عنه هذا الأصحاح يمكن التقاطها من خلال دراسة متأنية للطابع النبوي لسفر المزامير، هذه الدراسة التي لم تلقَ الاهتمام الذي تستحق.
تذكر الله لإسرائيل:
١٩- "وَانْفَتَحَ هَيْكَلُ الله في السَّمَاء، وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْده في هَيْكَله، وَحَدَثَتْ بُرُوقٌ وَأَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَزَلْزَلَةٌ وَبَرَدٌ عَظيمٌ". سفر الرؤيا، كما لاحظنا، مقسم إلى ثلاثة أقسام- ماضٍ، وحاضر، ومستقبل (١: ١٩). ولكن بالإضافة إلى هذا التقسيم الثلاثي لدينا محتويات السفر مرتبة ضمن جزأين كبيرين. الآيات الثمانية عشر في هذا الأصحاح تُدون آخر فعل تاريخي- دينونة الأموات. ليس من تاريخ بعده. هذه الجلسة القضائية الأخيرة والأكثر مهابة وإجلالاً تُعقد بعد أن تكون السموات الألفية قد زالت والأرض احترقت، وقبل ظهور السماء والأرض الأبديتين الجديدتين إلى الوجود. دينونة الأموات (٢٠: ١٢)، إن أمكننا القول، هي الرابط بين الزمان والأبدية. في الجزء الأول من الرؤيا (١- ١١: ١٨) ينكشف لنا التاريخ العام للكنيسة وإسرائيل والعالم منذ نهاية القرن المسيحي الأول تقريباً وانتهاءً بالملكوت. الجزء الثاني يبدأ بالآية ١١: ١٩ ويحتل بقية السفر. في هذا الجزء نجد الكثير من التفاصيل الهامة الشيقة، والشيطان مكشوف أكثر في الواجهة، القضايا النهائية المتعلقة بالكنيسة وبالعالم تنكشف بشكل أكمل مما في الجزء الأول من السفر. لذلك فإن الآية ١٩ ترتبط بالأحداث التي سوف تُكشف، ولا يجب أن تعتبر كجزء أو قسم مما تم كشفه للتو. الأصحاح ١٢ يبدأ حقاً بالآية ١٩ من الأصحاح السابق. وفي ما يلي لدينا نبوءة جديدة كلياً، تبدأ بالآية ١٩ وتُختتم مع الأصحاح ١٤. إنها تتعلق بشكل رئيسي بإسرائيل، كما تظهر الرؤى الافتتاحية. في الأصحاح ١٢ تُشاهد في السماء مصادر الخير والشر. في الأصحاح ١٣ خادما الشيطان الرئيسيان على الأرض نراهما في عداءٍ شديد ضد الله وقديسيه. وفي الأصحاح ١٤ هناك سلسلة مؤلفة من سبعة أحداث تنكشف لنا وتكون فيها فعالية الله واضحة بالنعمة والدينونة.
١٩- "وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْده في هَيْكَله". لا شيء من ذلك، أي الهيكل أو تابوت العهد، المقدسين والكبيري الاعتبار في التاريخ اليهودي، يكون له مكان في السماء فعلياً. "لم أرَ فيها هيكلاً"، يقول الرائي في رؤيا تالية (٢١: ٢٢). فإلامَ ترمزان إذاً؟ ما القيمة المعنوية والدروس المستخرجة من أولئك "الذين انتهت إليهم أواخر الدهور"؟ الهيكل هو علامة على أن الله يشغل فكر واهتمامات إسرائيل، وعندما يُرى في السماء، فهذا يعني أن الله في السماء مهتم بشعبه الذي هو على الأرض. تَابُوتُ عَهْده علامة على حضور الرب مع شعبه الأرضي وأمانته الدائمة له. قوس قزح حول العرش (٤: ٣) والذي يحيط برأس ملاك القدرة (١٠: ١) هو علامة لكل من يرونه عهد الله مع الخليقة، هذا العهد المليء بالصلاح والخير والرحمة. تَابُوت العَهْد هنا وإذ يحوي لوحي الشريعة، والذي يعلوه الغطاء الذهبي الصافي أو كرسي الرحمة، يحكي قصة غنية بالنعمة لإسرائيل. ما كان قوس قزح بالنسبة إلى الخليقة، كان هكذا تابوت العهد بالنسبة لبني إسرائيل ١٦، بل وأكثر.
١٩- "حَدَثَتْ بُرُوقٌ وَأَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَزَلْزَلَةٌ وَبَرَدٌ عَظيمٌ". هذه التعابير تدل بشكل منفصل أو مجتمعة على عاصفة من الغضب الإلهي، مصدرها السماء. لقد لفتنا الانتباه لتونا إلى أهمية ومغزى هذه التعابير في أجزاء سابقة من تفسيرنا وعرضنا لسفر الرؤيا. البَرَد من السماء، وهنا يُقال عنه بَرَد عظيم، يشير إلى حدة وفجائية الدينونة على الأرض، وأيضاً مصدرها كما يبدو واضحاً من الله (خروج ٩: ١٨- ٢٥؛ رؤيا ٨: ٧؛ ١٦: ٢١). اتحاد العناصر المدمرة لا يُستخدم عندما يكون العرش مؤسساً. ليس من حاجة إليه، لأن الدينونة ستبدأ عندئذ من العرش على الأرض، وليس، كما هنا، من السماء.
١. في حزقيال ٤٠: ٣ عصا القياس تُطبق على الهيكل؛ ثم تُقاس المدينة نفسها (زكريا ١: ١٦). وهذان كلاهما، أي الهيكل والمدينة، مخصصة لله في الحكم الألفي. تبدو هناك فكرتان متمايزتان متعلقتان بالقياس. الأولى، هي التقديم أو التكريس لله، كما في لمقاطع الأولى السابقة؛ والثانية، المخصصة للهلاك من قِبل الله، مثل موآب (٢ صم ٨: ٢)، وأورشليم (مراثي إرميا ٢: ٨)، وإسرائيل (عاموس ٧: ٨، ٩، ١٧).
٢. في ما يلي الهياكل المادية التي تشير إليها كلمة الله: هيكل سليمان (الملوك الأول ٧) الذي دمره نبوخذنصر عام ٥٨٨ ق.م وهيكل زروبابل (عزرا ٣؛ ٦) الذي تعرض للسلب وكُرّس لإله جوبيتر الوثني على يد أنطونيوس أبيفانيس، عام ١٦٨ و١٧٠ ق.م. وهيكل هيرودس (يوحنا ٢: ٢٠)، الذي أُعيد بناؤه وبشكل رائع فائق الوصف عام ١٧ ق. م. وهيكل ضد المسيح (٢ تسا ٢: ٤)، الذي ستبنيه يهوذا المستعادة. وهيكل المسيح الألفي (حزقيال ٤٠)، الذي سيكون جديداً كلياً وضخماً ورحباً واسعاً. أي خمسة هياكل بالإجمال. أما الكنيسة (١ كور ٣: ١٦) وأجساد المؤمنين (١ كور ٦: ١٩) فتم الحديث عن كل منها على أنها هيكل لله. أورشليم هي المدينة الوحيدة على الأرض التي بُني فيها هيكل حجري لله. قوة كلمة "هيكل" في رؤيا ٧: ١٥ تشير إلى حشد هائل من الأمميين المتعبدين لله؛ وعلى الأرجح أن هؤلاء يُصلّون ويعبدون الله في الهيكل الألفي حرفياً الذي سيكون "بيت صلاة لكل الشعوب" (أشعياء ٥٦: ٧).
٣. انظر المقالة المنفصلة: "النبوءة الشهيرة للأسابيع السبعين".
٤. "أوافق في الرأي لاومان، نيوتن، وودهاوس، كنينغهام، وآخرين في أن علينا أن نفهم من الشاهدين أنه عدد كاف واف بالغرض لخدام المسيح المخلصين"- "ملاحظات على الرؤيا"- بيردر.
٥. لقد كانت هناك فكرة قديمة بأن بعضاً من أنبياء العهد القديم سيظهرون من جديد قبل المجيء الثاني للمسيح. "بالنسبة إلى هذان الشاهدين على الإيمان، لعله يمكن الافتراض، كما كان لدى جميع القدماء، أن النبي إيليا هو أحدهما، بسبب الفكرة الواسعة الانتشار، وطالما أنه قد حُمل إلى السماء بدون أن يموت، فإنه سيعود في وقت المسيح، أو كسابق له بحسب ملاخي ٤: ٥. وكان القدماء يفترضون عموماً أن الشاهد الآخر هو حنوك، خاصة لأنه كان يُفترض فيه، وبحسب تكوين ٥: ٢٤، بأنه سيُنقل إلى السماء وهو حي".- "محاضرات بليك على سفر الرؤيا". ص.٢٥٢.
٦. مثل إيليا (يعقوب ٥: ١٧، ١٨).
٧. مثل موسى (خروج ٧: ١٧).
٨. "أورشليم تشير إلى الكنيسة"-"تفسير هنغستنبرغ للرؤيا"، المجلد ١، ص. ٤٠٣.
٩. هذا التوزيع للعائلة البشرية إلى أربع تقسيمات يعبر عن العالمية (انظر أيضاً رؤيا ٧: ٩؛ ١٠: ١١). وفي هذا المرجع الأخير "الملوك" هم البديل عن كلمة "قبائل"، إذ أن الحديث عن سلطات عظيمة- للحاكمين والمحكومين.
١٠. انظر التعليق على الأصحاح ٣: ١٠.
١١. لإيضاح هذا العدد وغيره، انظر "العدد في الكتاب المقدس: المعنى الفائق للطبيعة والمغزى الروحي"، بقلم E. W. Bullinger, D.D.
١٢. "الأصوات في السماء تعلن حقيقة حكم الرب ومسيحه بحسب المزمور ٢، وأنه (كما يفعل يوحنا دائماً إذ يوحد بينهما) سيحكم إلى أبد الآبدين، وهذا ما سيكون. ولكن يتم الاحتفال بكلا الملكوتين الأرضي والأبدي. ولكن الملكوت الأبدي وحده نجد فيه تمايزاً إذ لا نجد فيه ملكوت المسيح العالمي. في الشكر الذي يقدمه الشيوخ يتم الاحتفال بالرب وإيلوهيم وشداي على أنه الملك العظيم الذي سيمسك زمام السلطان ويحكم، لأن هذا هو ملكوت الله"- "موجز أسفار الكتاب المقدس"، المجلد ٥، ص. ٥٣٤.
١٣ اللقب "قديس"، كما يُستخدم في العهد الجديد، لا يُشير أبداً إلى حالة عملية ومتقدمة من القداسة- بمغزاه اللاهوتي. القديس هو المنعزل، كما تدل الكلمة التي تشتق منها، ولكن هذا الانعزال أو الانفصال عن العالم هو نتيجة دعوة من الله. القديسون المدعوون، أو القديسون بالدعوة (انظر رومية ١: ٧؛ ١ كور ١: ٢): "المدعوين ليكونوا قديسين" هي عبارة يُساء فهمها. والأصح هو القول "المدعوين قديسين". عندما وصلت دعوة الله إلى نفوسهم وضمائرهم صاروا قديسين.
١٤. يرد ذكر العبارة "المدينة العظيمة" تسعة مرات في سفر الرؤيا، ولكن لا تأتي أبداً بمعنى جيد أو قدوس. الأصحاح ٢١: ١٠ يبدو استثناءً في الظاهر، ولكن الصفة "عظيمة" يجب أن تُنزع منها كما ورد في إحدى الترجمات.
١٥. ويل الشيطان كانت بشكل خاص على اليهود؛ ويل الإنسان، بشكل خاص على أهل الإمبراطورية اللاتينية؛ هذه ويل الله عندما تكون الأمم غاضبة، وغضب الله سيأتي، وستكن هناك تصفية حساب كاملة، وانعتاق نهائي مستقبلي"- J.N.D.
١٦. لا نعرف إن كان تابوت العهد قد نال نفس مصير الهيكل، الذي كان قد احترق بعد شهر من نهب الكلدانيين لأورشليم (إرميا ٥٢: ١٢، ١٣)، أو كان قد أخفاه إرميا بحسب التقليد اليهودي (إذ كان النبي في المدينة خلال كل فترة الحصار)، أو إن كان من بين الأواني التي حملها الغزاة إلى بابل. بالتأكيد إن تابوت العهد لن يبصر النور في المستقبل، رغم كل الفرضيات والتخمينات التي تقول بالعكس. وعن هذا يتحدث إرميا بشكل يوحي بأنه غير متأكد (٣: ١٦). تابوت العهد، علامة حضور الرب وأمانته، سوف لن تكون هناك حاجة له في أيام الملكوت المزدهرة، لأن ما يرمز إليه سيكون قد تحقق آنذاك فعلياً. الرب سيكون قد منح نعمته التي لا تتبدل لشعبه، وعرشه وحضوره في وسطهم سيبطل بشكل مجيد تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل اللذين في العهد القديم. كان تابوت العهد بالنسبة إلى إسرائيل العلامة والإمارة على النعمة (يشوع ٣: ١٤- ١٧)، وبالنسبة للوثنيين غير المختونين لم يفعل سوى أنه استجلب الدينونة عليهم (صموئيل الأول ٥). في الحالة الأولى كان الشعب مفدياً، ومن هنا فإن حضور الرب معهم كان بركة؛ أما في الحالة الأخيرة فلم يكن الشعب مفدياً ولذلك فإن حضور الرب كان لا يُحتمل.