الأصحاح ١٦

الجامات السبع لغضب الله

الأمر من الهيكل:

١- "وَسَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً منَ الْهَيْكَل قَائلاً للسَّبْعَة الْمَلاَئكَة: «امْضُوا وَاسْكُبُوا جَامَات غَضَب الله عَلَى الأَرْض»". المصطلحات: "صوت"، "أصوات"، "صوت شديد"، "صوت عال"، و"صوت عظيم"، لكل منها دلالتها الخاصة.

الكلمة صوت تستخدم بشكل مختلف مع المسيح عنها مع الله وعن الملائكة وعن المخلوقات الحية وعن المذبح وعن العرش، الخ. بينما وردت الكلمة، أو مع من أو لما تشير في سفر الرؤيا، فهناك فهم فطن متضمن في الموضوع المطروح. تطبيقها الاستعاري كما في ٩: ١٣ ليس استثنائياً.

الجمع، أصوات، ترد ثماني مرات، مع استثناء واحد (١١: ١٥) يرتبط مباشرة مع الدينونة. إنه أحد الإمارات التحذيرية الأولية التي تشير إلى الغضب الآتي (٤: ٥؛ ٨: ٥، ١٣؛ ١٠: ٣، ٤؛ ١١: ١٩؛ ١٦: ١٨)، ويدل ضمناً على أن التعامل الإداني ليس مجرد ممارسة لسلطة استبدادية، بل يحكمه ويوجهه العقل. إذاً نسمع عن "صَوْت شديد" (١٨: ٢)، و"صوت عال" (٥: ٢)، و"صوت عظيم"، كما في نصنا (انظر أيضاً ٢١: ٣). الصفات التي تُستخدم للدلالة على طابع الصوت، والذي هو مرة أخرى حفظ دقيق  لطبيعة الإعلان.

١- يسمع الرائي "صَوْتاً عَظيماً منَ الْهَيْكَل". المقدس نفسه، قدس الأقداس في الكون، تهبُّ للعمل. المطلب بالدينونة على العالم المرتد يبدأ ليس من العرش، بل من قدس الأقداس. غضب الله يحرق بشكل عنيف متقد، وقوته مستمدة مما تتطلبه طبيعته القدوسة وضروراتها (أش ٦). الصوت الذي يُسمع في الهيكل يمكن أن يُقال عنه أنه "عظيم"، عندما يقترب الموضوع من قداسة المكان وجلالة المتحدث.

اكتمال الخدمة الموكل بها ملائكة الدينونة هؤلاء يتم بشكل رمزي باستخدام العدد ٧، هذا العدد الغالب المسيطر والسائد في سفر الرؤيا. هؤلاء يخدمون غضب الله، رغم أنهم مجهزون إلهياً ومعدون، إلا أنهم لا يمكنهم القيام بالعمل ما لم يعط الله أمراً بذلك. "امْضُوا وَاسْكُبُوا جَامَات غَضَب الله عَلَى الأَرْض". هذه الآنية ذات الإطار العريض قد مُلأت في المقدس، وليس في البخور، بل بالغضب- غضب الله العادل. الصوت الذي يأمر بتنفيذ الضربات السبع هذه (الآية ١) يعلن اكتمالها عندما تُسكب جميعاً (الآية ١٧).

١- "اسْكُبُوا" وليس "رشُّوا". يشير هذا التعبير إلى ملء الغضب الإلهي، وكل إناء يفيض، ويُعاد ملؤه بدون قيد أو مقياس بشكل متتالٍ إلى أن يفرغ كل شيء. نجد هكذا عبارة مشابهة في العهد القديم بشكل مألوف (صف ٣: ٨؛ مز ٦٩: ٢٤؛ إر ١٠: ٢٥). هذه الويلات الرؤيوية السبع تبدو وكأنها استجابة لصلاة البقية اليهودية المتألمة في المحنة الآتية. "رُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ الْعَارَ الَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ" (مز ٧٩: ١٢).

مسرح هذه الويلات هو "الأرض"، ليس الأرض الجغرافية بل النبوية. إذ أن مسار الدينونة يأخذ مجال اكتساح أكبر وأوسع من ذاك الذي تحت الأبواق (الأصحاح ٨). ليس المقصود هو الأرض الرومانية المرتدة فقط، بل العالم الآثم كله داخل مجال الرؤية النبوية، وهذا هو ما جُعل موضع انتقام الله الغاضب.

ها إننا على وشك أن نشهد هذه الافتقادات الفظيعة للغضب الإلهي بشكل متتابع تصيب المقدس، ومن الجامات، التي كُرّست للاستخدام والخدمة في الهيكل، ولكنها الآن خُصصت لأهداف الدينونة.

جام الغضب الأول:

٢- "فَمَضَى الأَوَّلُ وَسَكَبَ جَامَهُ عَلَى الأَرْض فَحَدَثَتْ دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ عَلَى النَّاس الَّذينَ بهمْ سمَةُ الْوَحْش وَالَّذينَ يَسْجُدُونَ لصُورَته". في التعداد للأبواق العظيمة كل من الملائكة السبعة يُشار إليه على أنه "ملاك ثانٍ"، "ملاك ثالث"، "ملاك رابع"، وهلم جرا (الأصحاح ٨)، ولكن ليس الحال هكذا. المدخل مختصر أكثر، الأعداد الترتيبية الأول، والثاني، الخ.، تُستخدم ببساطة، وتُحذف كلمة الملاك ١.

الويل الذي يُشار إليها هنا على أنها "دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ" تُذكرنا بالضربة السادسة على المصريين (خر ٩: ١٠)، لقد كانت هذه أول الضربات التي أصابت أشخاص من المصريين، وكانت هي الضربة التي كان السحرة أو الحكماء يتألمون منها بشدة. لقد كانت داءً كريهاً مثيراً للاشمئزاز (انظر تث ٢٩: ٢٧، ٣٥). هناك إشارتان أخريتان في العهد الجديد إلى هذه الطبيعة المؤلمة للدمامل. فتحت الجام الخامس تُذكر في اتصال مع الدينونات الأخرى (الآية ١١)، وفي لوقا ١٦: ٢٠، ٢١ نعلم أن لعازر، الذي كان يحتضر وسط الكلاب في الشارع، كانت تغطّي جسمه دمامل مؤلمة لا تُشفى أو قروح، ولكن نَفس المسكين كانت ملائكة الله تعتني بها، وقد حُمِلت نَفَسُه إلى حضن إبراهيم- المكان الموقر للبركة اليهودية.

حرفية الويلات الرؤيوية (الأصحاح ١٦) تثير الجدل والنقاش عند البعض. وطُرحت أفكار تقول أن الضربات المصرية كانت حرفية، ولذلك لا بد أن تكون هذه، بسبب التشابه العام. والآن، وإزاء الاحتجاج القوي على تحديد وحصر قدرة الله، أو التطفل على عالم سيادة الله، نقول أن الضربات في أصحاحنا هذا لا بد أن تُفهم بشكل رمزي بتوافق مع الطابع العام والتصميم الذي يتميز به هذا السفر. ما يثير الاهتمام هو القروح المعنوية التي ستسبّب ألماً ذهنياً شديداً. لا شك أن الألم الجسدي سيضيف إلى الألم الذي سيحتمله البشر، ولكن السمة الغالبة السائدة تكون تعاملاً إدانياً مع النفس والوجدان- وهذه سيكون لها تأثير كبير على الجسد. هذه تُدعى "دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ". الكلمة تعني حرفياً قرحاً سيئاً، ينتج عنه ألم ومرض وطابع غير سوي، يتبدى بشكل عدواني كبير. الأشخاص الذين يحملون علامة الوحش وعبّاده- أي أولئك الذين يؤيدون بشكل فعال القوة المدنية المرتدة عندئذ تحت سلطة إبليس المباشرة- هم الذين سينالون جام الغضب الأولى إنه غضب الله على الموالين للوحش وأتباعه في كل الأرض النبوية. هذه في الحقيقة دينونة فظيعة تسبق سقوط بابل (الآية ١٩)، بينما العذاب الأبدي لعبدة الوحش يتبع ذلك الحدث العظيم (١٤: ٩، ١٠). ونستنتج من هذا أن سكب الجام الأول هو نذير بالمصير المشؤوم المُعلن والذي هو الموضوع الرابع في الأصحاح ١٤ الشيق الحافل بالأحداث العظيمة واللافتة جداً.

مقارنة بين الأبواق والجامات

إضافة إلى تشابه عام مع ضربات النصر، إن الجامات والأبواق تضرب بشكل قوي. في الأربعة الأولى من كل سلسلة مجال التطبيق هو نفسه، أي الأرض، والبحر، والأنهار، والينابيع، والشمس. ولكن في الأبواق المنطقة التي ستخضع للتأثير محصورة بجزء ثالث، ألا وهو العالم الروماني. التأثيرات التي تطبق تحت وطأة الجامات مختلفة، وذات طابع أشد من تلك التي تحت الأبواق. ثم تأتي الأبواق الخامس والسادس وحتى السابع فتتوافق إلى حد كبير مع الجامات الثلاث الأخيرة. ولكن في الجامات مجال الضربات المتنوع لا يكون محصوراً على الجزء الرابع (٦: ٨) أو الجزء الثالث (الأصحاح ٨) من الأرض النبوية. أينما يوجد الشر ستقع الضربة ولن يكون هنا مهرب.

جام الغضب الثاني:

٣- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّاني جَامَهُ عَلَى الْبَحْر، فَصَارَ دَماً كَدَم مَيّتٍ. وَكُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ في الْبَحْر". كل الجامات تُصب على الأرض، وليس على الأرض الجغرافية، بل على الأرض النبوية (الآية ١). ولكن كلمات "الأرض" (الآية ٢) و"البحر" (الآية ٣) كلتاهما تشكلان جزءاً من العالم النبوي المشار إليه؛ بمعنى أن كلمة "الأرض" في الآية ١ هي أكبر وأوسع من "الأرض" في الآية ٢. فالأخيرة تتغاير مع البحر، وكرمز فإنها تشير إلى ذلك الجزء الخاص من الأرض النبوية آنذاك في علاقتها الخارجية مع الله، بينما البحر يرمز إلى ذلك الجزء من العالم النبوي الذي يتم التعامل معه، ليس منظماً، بل ذا طابع ثوروي- الجموع بشكل عام. من المهم أن ندرك القوة في هذه الرموز وتطبيقها بالتفصيل. أمنيتنا الكبيرة هي أن يبقى هذا الفهم في النفس وأن ندرك المبادئ المعنوية والأخلاقية والتعليم في هذا السفر. وإن شرحاً مفصلاً وشيقاً ومقدماً بشكل آسر يجب أن يخضع إلى العنصر المعنوي- ذاك الذي يتناول الضمير والعلاقة مع الله. المبادئ الأخلاقية العظيمة للحقيقة التي تسود في كل الكتابات المقدسة عُني بها أن تحكم القلب وتُسيّر الحياة.

البحر "صَارَ دَماً" ليس حقيقة مادية، كما في الضربة المصرية الأولى (خر ٧: ١٧- ٢٥)، عندما تحول نهر النيل، النهر العظيم في مصر، مع قنواته، وينابيعه، وروافده، إلى اللون الأحمر حرفياً وفعلياً. ولكن في ويل الجام البحر يصبح أحمر بشكل رمزي بمعنى الموت المعنوي. إن المسيحية، أو على الأقل ما كانت تمثله آنذاك، متروكة ومهجورة. الارتداد كبير وشامل وواسع الانتشار حتى أن الدم (الحياة، المعنوية أو المادية، كما الحال هنا) هو "كَدَم مَيّتٍ". لدينا هنا الموت بمعنى مزدوج. أولاً، الموت الروحي، كما في أفسس ٢: ٥، حتى في حالة هؤلاء الأحياء بشكل طبيعي؛ والثاني، بالارتداد، التخلي عن الاعتراف الديني- الرفض العلني لكل العلاقة الخارجية مع الله، كما في يهوذا ١٢- "مَيِّتَةٌ مُضَاعَفاً"، حتى وإن كنا نحيا جسدياً.

"كُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ في الْبَحْر". جموع الناس الذين هم ضمن حدود الأرض النبوية يُرمز إليهم بالبحر الهائج الذي لا استقرار له، بينما أولئك الذين هم في علاقة خاصة مع الله داخل العالم نفسه يُشار إليهم بالأرض الصلبة. "كُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ". كل من يكتفي بالاعتراف فقط يجعل من الإيمان والوجدان والحقيقة حطاماً، ويتخلى عن كل ذرة من اعترافه الديني. الارتداد والتحول عن الله كاملان حتى أنه لا يُترك أحد، ما عدا أولئك ذوي الإيمان الحقيقي والذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة عند الحمل.

لقد دار نقاش كثير على مدى الأيام مفاده أن الحديث هنا يجري عن موت جسدي عنيف يُشار إليه بكلمة الدم، ولكننا نعتبر أن هذا خطأ. السيف يرمز إلى الموت بالحرب أو بالعنف، وهذا غائب هنا (٦: ٨؛ ١٩: ١٥). المشهد أمامنا يمثل حالة عامة ممن الفساد والارتداد بين الشعوب وجماعات البشر ليس من حيث العلاقة مع الله فحسب بل أيضاً بارتداد علني للجميع. العالم الوثني الذي قرأنا وسمعنا عنه بكل ممارسته الفاحشة والمثيرة للاشمئزاز. أوربا البابوية احتجبت بظلمة معنوية هناك، وهذا ليس من زمن بعيد. ولكن العالم المرتد، بالتجديف الذي فيه، والقسوة، والبؤس المخيف، قد هجره الله وسُلم إلى إبليس، وله صورة مريعة في سفر الرؤيا، وبالتأكيد، وإضافة إلى ذلك، هذه الصورة ملائمة جداً. إن سمة الأزمنة تشير بشكل لا خطأ فيه إلى ذلك الاتجاه.

جام الغضب الثالث:

٤- ٧- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّالثُ جَامَهُ عَلَى الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه، فَصَارَتْ دَماً. وَسَمعْتُ مَلاَكَ الْميَاه يَقُولُ: «عَادلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائنُ وَالَّذي كَانَ وَالَّذي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هَكَذَا. لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قدّيسينَ وَأَنْبيَاءَ، فَأَعْطَيْتَهُمْ دَماً ليَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!» وَسَمعْتُ آخَرَ منَ الْمَذْبَح قَائلاً: «نَعَمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ! حَقٌّ وَعَادلَةٌ هيَ أَحْكَامُكَ»". مع البوق الثالث، الذي يتجاوب معه الجام الثالث، تأتي الأنهار والينابيع تحت الدينونة. في السابق، تصبح الأَفْسَنْتِينُ (٨: ١١)؛ وهنا تتحول إلى "الدم". في السابق كل حياة الشعوب، وطابعها، ومصدر فكرها وسلوكها، تسمم أخلاقياً؛ وفي الأخير الفساد عند الشعوب هو أعمق- موت أخلاقي وابتعاد كامل عن الله هي ما نتج عنه. "الأنهار"، والحياة الطبيعية للناس والمتميزة بالمبادئ المعروفة والمقبولة من الحكم، اجتماعياً وسياسياً، أو نَفَس الحياة، إذا صح التعبير، هي أيضاً كمثل "ينابيع المياه"، مصادر الازدهار والعافية والوفرة والخير، كلها تتحول إلى دم، بشكل رمزي. ويجب أن نلفت انتباهكم من جديد أن هناك توازٍ بشكل محدد بين الأبواق والجامات. والأخير، في نفس الوقت، هو لاذع أكثر وأشد إيلاماً من السابق.

٥- "مَلاَكَ الْميَاه" يبدو لأول وهلة تعبيراً غامضاً. ولكنه يستحضر إلى ذهننا الدور الكبير الذي يحتله الملائكة في عمل الفداء وهذا ينسجم مع الأجزاء الأخرى من السفر. إن كل موضوع في سفر الرؤيا تقريباً له ملاكه. فهناك ملاك وسيط بين المسيح ويوحنا (١: ١)؛ والكنائس السبعة لكل منها ملاك أو ممثل روحي أو ممثل معنوي، وليس كائناً إلهياً (٢: ٣)؛ وملاك يتحدى الكون لأن يُفرز شخصاً واحداً مؤهلاً ليحقق مشورات الله بما يتعلق بالأرض (٥: ٢)؛ وحشد لا حصر له من الملائكة يعبدون الحمل (الآيات ١١، ١٢)؛ وملائكة يسيطرون على العناصر (٧: ١)؛ وملاك يختم خدّام الله (الآيات ٢، ٣)؛ وكل بوق وجام له ملاك يمثّله (الأصحاحات ٨؛ ١٦)؛ وملائكة هم المحاربون في الحرب السماوية (الأصحاح ١٢)؛ وملاك يعلن الإنجيل الأبدي (الأصحاح ٦)؛ وملاك يعلن سقوط بابل (الآية ٨)؛ وملاك يعلن المصير المشؤوم الفظيع لعبدة الوحش (الآية ٩)؛ وملاك يخرج من الهيكل (الآية ١٥)؛ وملاك آخر يخرج من المذبح؛ (الآية ١٨). والرياح، والنار، والهاوية، لكل منها ملاك، والمياه أيضاً لها ملائكة حارسة وملائمة. الشعوب التي يُرمز لها بالمياه (١٧: ١٥) هي شعوب تخضع لملاك، وهي جميعاً تحت يد الله المسيطرة والمهيمنة.

ملاك المياه يذعن للدينونة الإلهية. وقد يجعلنا هذا نفترض بشكل طبيعي أنه سيحتج على التعامل الإداني والعقابي في العالم الذي يرأسه. ولكن نجد على العكس أنه يبرر الله قائلاً: "عَادلٌ أَنْتَ". إن الضربة لا تتجاوز عرض شعرة بمقياس البر الحازم. ثم أبدية كينونة الله، "أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائنُ"، وعلاقته الماضية بالبشر والملائكة، والذي كان، يتم التأكيد عليها بعد ذلك. "القدوس". هذه الكلمة المعينة ترد مرتين فقط في العهد الجديد فيما يتعلق بالمسيح: المثل الآخر هو في ١٥: ٤.

في بعض الترجمات لا نجد كلمات "أَيُّهَا الرَّبُّ" بل نجد "أيها القدوس".

٦- "لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قدّيسينَ وَأَنْبيَاءَ". تُبرهن هذه الجملة بشكل حاسم الطابع الرمزي للضربة. الشعوب والأمم المرتدة يُشار إليها بـ "المياه". لقد سفكوا دم قديسين وأنبياء بخلاعة وبلا رحمة. في ١١: ١٨، يأتي ذكر الأنبياء قبل القديسين؛ أما هنا فنجد القديسين ثم الأنبياء. في المثل السابق إنها مسألة إقرار علني بالخدمة والإخلاص والأمانة، ولذلك فإن الجماعة التي تحمل مسؤولية أكثر والمتمايزة أكثر يأتي ذكرها أو؛ بينما في نصنا استشهاد كل من يتمسك بالرب، كل من يشهد له، سلباً أو إيجاباً، بحسب المبدأ في لو ١١: ٥٠، ٥١. "القديسين" هي كلمة وافية ترد في كلا العهدين، وترمز إلى المؤمنين الحقيقيين بالله. "الأنبياء" تشير إلى أولئك الذين يشهدون حقاً لله بالأيام المظلمة والشريرة.

٦- "فَأَعْطَيْتَهُمْ دَماً ليَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!" الماء هو المصدر الطبيعي للحياة والانتعاش. والخمر هو رمز فرح الأرض. أما الدم فهو شهادة الموت. في عدالة إدانية، في بر مقدس، يدين الله مضطهدي شعبه مسلّماً إياهم لشرب الدم، ليدركوا الموت في أنفسهم وضمائرهم. العقاب فظيع. شرب الدم لا يعني الموت الجسدي، بل إنه أسوأ من ذلك بكثير. العقاب فظيع لأنه عادلٌ. إنه حلقة من تذوق مبدأي للفظائع التي في بحيرة النار. "لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!". ليس فقط أن الدينونة عادلة، بل إن هؤلاء المرتدين قد استحقوا بشكل كامل مصيرهم المشؤوم. "لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!" أن ينالوا هذا الموت ذي الطابع الإداني الذي يصيبهم، ليشربوه، وهكذا يعرفوا بشكل كامل مدى مرارته.

في ترجمة أدق تأتي العبارة "سمعت المذبح يقول"، وليس "ملاك المذبح". المذبح النحاسي هو المشار إليه هنا (٦: ٩)، مذبح الدينونة المهلكة. حياة قديسي الله وشهادتهم قُدمت كذبيحة قربانية على المذبح (هكذا نظر الله إليها)، ونفوسهم بعد الموت يُسمع صوتها من الأسفل تستصرخ الله طالبة الانتقام من الذين اضطهدوهم أولئك الذين كانوا متعطشين إلى دمائهم. يسمع الله الصرخة. فبعد ست سنوات بدا الله فيها وكأنه كان غافياً أو لا مبالياً بالمعاملة القاسية والفظيعة التي تعرض لها شعبه في كل الدهور. ولكن لا. إن طول أناة الله قد أتت الآن إلى نهايتها، وانتقام الرب الذي كان في حالة سبات ينفجر الآن. صرخة المذبح هي التبرير لغضب الله. إنه يبتهج بالسمة المقدسة والبارّة لهذه الإدانات القضائية. في السفر الأول من الكتاب المقدس (٤: ١٠) نسمع صرخة الدم لأول جماعة مستشهدة؛ والآن في السفر الأخير (١٦: ٧) نسمع صرخة المذبح الذي كان شاهداً على ذبح قديسي الله منذ هابيل حتى ذلك اليوم. إنها صرخة المذبح نفسه في وقت اقترب فيه التحقيق النهائي من الدينونة تحت الجام السابع. إنها بآن معاً مناشدة لله ودفاع عنه في دينوناته العادلة والمحقة (انظر ١٥: ٣؛ ١٩: ٢).

جام الغضب الرابع:

٨، ٩- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الرَّابعُ جَامَهُ عَلَى الشَّمْس فَأُعْطيَتْ أَنْ تُحْرقَ النَّاسَ بنَارٍ، فَاحْتَرَقَ النَّاسُ احْترَاقاً عَظيماً، وَجَدَّفُوا عَلَى اسْم الله الَّذي لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذه الضَّرَبَات، وَلَمْ يَتُوبُوا ليُعْطُوهُ مَجْداً". هناك موازاة لافتة ومذهلة بين الأبواق الأربعة الأولى والجامات الأربع الأولى. في كليهما يكون لدينا نفس الترتيب. الأقسام العظيمة من الطبيعة، رمزياً، بالطبع، تأتي تحت الدينونة، أعني بذلك الأرض، والبحر، والأنهار، والشمس. في الجامات كل العالم النبوي مشارك، بينما في الأبواق نجد أن ما هو أمامنا هو الأرض الرومانية بشكل خاص.

الافتقاد السابق للشمس بالدينونة (٨: ١٢)، أي السلطة الحاكمة السامية، التي نتج عنها عالم من الظلمة الأخلاقية الشديدة، المحصور بالعالم الروماني المنتعش. ولكن البوق الرابع، في شدته وفي مجاله بآن معاً، لا بد أن يُبهت أمام الفظائع العظيمة التي في الجام الرابع. فهناك ظلمة، وهنا ألم مبرح لا يُحتمل؛ هناك منطقة من الدينونة المحدودة، وهنا تمتد الدينونة إلى أقصى حدود العالم المسيحي؛ هناك ظروف الناس هي موضع السؤال، وأما هنا فالبشر أنفسهم في شخصهم هم الذين يعانون الألم الشديد.

٩- "احْتَرَقَ النَّاسُ احْترَاقاً عَظيماً". قوة الشمس تزداد لدرجة تسفع معها البشر أو تحرقهم بنهارها. بالطبع ليست هذه دينونة مادية تنشأ عن نجم سماوي عظيم؛ ولذلك علينا أن نسعى لأن أتأكد من المغزى المعنوي والمعنى الرمزي للعلامة أو الآية. الشمس كرمز تشير إلى الحكم السمي (انظر ٦: ١٢؛ ٨: ١٢؛ ٩: ٢؛ ١٢: ١). لذلك فإننا نفهم أن السلطة الحاكمة العظيمة على الأرض تصبح سبب الألم الشديد والفظيع الذي يصيب الناس. "احْتَرَقَ"، أو سُفِع، ستحمل معنى كبيراً بشكل طبيعي (تث ٣٢: ٢٤؛ ملا ٤: ١).

٩- ثم نُدعى لنشهد على أثر هذه الضربات الرهيبة على ضمائر البشر. هل اتضعوا وتابوا بها؟ هل انسحقوا بالروح تحت شدة التأديبات الإدانية المتزايدة والمتكررة؟ لا! لقد "جَدَّفُوا عَلَى اسْم الله". يا له من رد من قِبل البشر على غضب الله القدير الواضح المعلن! وكم صارت إرادة الإنسان سيئة وفاسدة كلياً حتى لم يعد هناك سبيل لإصلاحهاّ لو كان هناك توبة صادقة نقية فإن عاصفة غضب الله كانت ستهدأ، لأن الله "لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذه الضَّرَبَات". كل شيء كان بيده، وكان يمسك بزمام كل شيء بقوة وتماسك. الله هو مصدر هذه الإدانات والدينونات الرؤيوية. لسنا نعيش في عالم من الصدف، بل في عالم يخص الله وهو الذي يسيطر عليه ويتحكم به حتى في أدق ظروف وتفاصيل الحياة. ولكن هذه الضربات لم تؤدي إلى توبة بل إلى ازدياد تقسي البشر! لم تؤدي إلى مجد الله، بل التجديف على اسمه المبارك. في هذه الضربة الله والخليقة يظهران أمام بعضهما في تضاد قوي.

جام الغضب الخامس:

١٠، ١١- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الْخَامسُ جَامَهُ عَلَى عَرْش الْوَحْش، فَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ مُظْلمَةً. وَكَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسنَتهمْ منَ الْوَجَع. وَجَدَّفُوا عَلَى إلَه السَّمَاء منْ أَوْجَاعهمْ وَمنْ قُرُوحهمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالهمْ". الكنائس السبع (الأصحاحان ٢ و٣)، والأختام السبعة (الأصحاحات ٦؛ ٨: ١)، الأبواق السبعة (الأصحاح ٨)، والجامات السبع (الأصحاح ١٦) كل منها مقسمة إلى مجموعتين متمايزتين. في حالة الكنائس التقسيم هو إلى ثلاثة أو أربعة أقسام؛ بينما في الفئات الأخرى يكون التجميع معكوساً، أربعة وثلاثة. العدد سبعة بحد نفسه يرمز إلى الاكتمال، والكمال الروحي. عندما يكون هناك أعداد منفصلة، مثل ١، ٢، الخ.، فإن الأجزاء المتنوعة من الكل تكون متمايزة، وعندما تُجمع إلى قسمين متساويين كل منها مؤلف من ثلاثة أو أربعة فإنها تعلن سمة خاصة ومميزة لكل مجموعة.

لدينا في الجامات السابقة التقسيمات الأربعة الكبيرة للطبيعة ممثلة بشكل رمزي، بالأرض، والبحر، والأنهار، والشمس. ولكن الآن ننتقل من عالم الطبيعة لنشهد موضوع دينونة محدد ومميز، أي مملكة الوحش، التي أُصيبت في مركزها وأساس قوتها. الوحش نفسه، أو الرأس الشخصي للإمبراطورية، هو، مع شريكه في الجريمة، ضد المسيح، قد قُدر له مصير مشؤوم فظيع (١٩: ٢٠). ولكن حتى ذلك الحين فإن السلطة السياسية والمدنية على الأرض سيؤسسها إبليس (١٣: ٤؛ ١٧: ٨) وهي في قوتها ومحورها قد جُعلت لتشعر بضربة الدينونة الإلهية. تنفيذ الملكوت، وليس التابعين فيه، يُشار إليه هنا. "العَرْش"، قوة ومجد الملكوت، يُسحق بدينونة. التحدي المتغطرس والبذيء والبعيد عن التقوى، هو: "مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟" (١٣: ٤) تتم الإجابة عليه بشكل دقيق هنا وفي ما بعد أيضاً (١٩: ١٩- ٢١).

١٠- "فَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ مُظْلمَةً". لا شك أنه في هذه العبارة هنا تلميح إلى خروج ١٠: ٢١- ٢٦. إلا أن الظلمة هناك كانت مادية، بينما هي هنا معنوية. من الصعب أن ندرك بأي شكل يمكن تصوره أو تخيله مدى الرعب الذي يحيط بهكذا مصير مظلم. أحد المزايا الرئيسية للبؤس الذي سيعانى منه في المثوى الأبدي من الألم، أي بحيرة النار، هي الظلمة والعتمة (مت ٢٥: ٣٠). تلك الظلمة يتم إلقاء ظل عليها هنا مع كل التبعات التي ترافقها. "كَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسنَتهمْ منَ الْوَجَع". "هذا هو التعبير الوحيد من نوعه الذي نجده في كلمة الله، ويشير إلى الألم المضني المبرّح والأشد قوة" ٢.

١١- تحت الألم الذي سببه الجام السابق راح الناس يجدفون على "اسم الله"؛ وهنا نجد المزيد من الشعور بالشر، فهم يجدفون على "إلَه السَّمَاء"، ليس على اسمه فقط، بل على الله نفسه.هناك ندم ومعاناة في المملكة المظلمة معنوياً. المعرفة نفسها بأن الله هو في السماء وهو خالق ومصدر تعاستهم، التي ابتُليوا فيها بالدينونة، لا تجعل القلب ينحني في توبة. لا تزال إرادة البشر غير منكسرة بعد. "وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالهمْ"، هذه الأعمال نفسها التي رد الله عليها بالدينونة. لقد أحبوا الظلمة وأعمال الشر. ولذلك فإن ضربات أشد وأثقل سوف تنزل عليهم.

جام الغضب السادس:

١٢- ١٦- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّادسُ جَامَهُ عَلَى النَّهْر الْكَبير الْفُرَات، فَنَشفَ مَاؤُهُ لكَيْ يُعَدَّ طَريقُ الْمُلُوك الَّذينَ منْ مَشْرق الشَّمْس. وَرَأَيْتُ منْ فَم التّنّين، وَمنْ فَم الْوَحْش، وَمنْ فَم النَّبيّ الْكَذَّاب، ثَلاَثَةَ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ شبْهَ ضَفَادعَ، فَإنَّهُمْ أَرْوَاحُ شَيَاطينَ صَانعَةٌ آيَاتٍ، تَخْرُجُ عَلَى مُلُوك الْعَالَم وَكُلّ الْمَسْكُونَة لتَجْمَعَهُمْ لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ. «هَا أَنَا آتي كَلصٍّ. طُوبَى لمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثيَابَهُ لئَلاَّ يَمْشيَ عُرْيَاناً فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ». فَجَمَعَهُمْ إلَى الْمَوْضع الَّذي يُدْعَى بالْعبْرَانيَّة «هَرْمَجَدُّونَ»".

نهر الفرات:

"النَّهْر الْكَبير الْفُرَات". هذا النهر الشهير في غرب أسيا، وله رموز كثيرة في التاريخ والنبوءة، يُذكر اسمه لأول مرة في تك ٢، ويُذكر أخيراً في رؤ ١٦: ١٢. الإشارتان النبويتان إليه يتم التعبير عنهما بنفس الكلمات (٩: ١٤؛ ١٦: ١٢). كان نهر الفرات يشكل الحد الشرقي للغزو الروماني، ويشكل الحد الغربي لفلسطين الموسعة في المستقبل. لقد كان يشكل عائقاً جغرافياً ومتراساً طبيعياً فاصلاً بين الغرب والشرق. الجام الذهبي للملاك السادس يُصب على النهر الكبير، ولذلك فإن مياهه قد جفّت. الحاجز يُزال بفعل الدينونة هذا، لكي تستطيع الأمم الشرقية أن تدفع بجيوشها بسهولة أكبير إلى أرض كنعان.

نستنتج من المشهد أمامنا أن نهر الفرات، أو جزء منه، سوف يجف حرفياً، وبلا شك بطريقة عجائبية. دينونة مشابهو نوعاً ما ستقع في الغرب (أش ١١: ١٥). نهرا النيل والفرات كلاهما يتم التعامل معهما- وهما الحدان الغربي والشرقي لأرض فلسطين. ليس هناك صعوبة في قبول ما يقوله هذا النص هنا حرفياً. المستقبل حافل بالعجائب والأحداث المذهلة، وإذا ما كان النهر يقسم الشرق عن الغرب، فللضرورة يجب إزالة هذا الحاجز ليسمح لجيوش الشقر تحت إمرة ملوكهم الخاصين بكل منهم أن يعبروا البلاد ويتجمعوا في فلسطين. سبب الدينونة الإلهية للنهر هو أن "يُعَدَّ طَريقُ الْمُلُوك الَّذينَ منْ مَشْرق الشَّمْس". هؤلاء الملوك لا يمكن أن يكونوا هم اليهود، فهذا افتراض غير منطقي. جمع الشعب الإسرائيلي سيدخل الأرض من الغرب، بينما أفرايم أو الأسباط الاثني عشر تُستعاد بشكل رئيسي من الشمال إلى الجنوب. إضافة إلى ذلك، ليس ملوك من الشرق، بل من الشرق، وشعوب من الجانب الشرقي من الفرات، هم الذين يتم الكلام عنهم.

لا نرى سبباً يستدعي أن تكون الإمبراطورية التركية هي المشار إليها باسم نهر الفرات في أي من النصين حيث يأتي ذكر النهر في العهد الجديد. لا يُشار إلى تركيا في الكتابات المقدسة على الإطلاق. ليس من حاجة إلى قول نبوي أو بصيرة لافتة للتنبؤ بسقوط معظم القوى الحاكمة السيئة والفاسدة على الأرض. تمزق أوصالها قد بدأ، وانهيارها الكامل والنهائي هو مسألة وقت، ولن يطول أمدها. سرعان ما ستأتي الأقاليم التي في الإمبراطورية العثمانية إلى الواجهة. تجمع القوى المناوئة في الأرض المقدسة هو أمر واضح في الأصحاح الذي يتناول الحكم الألفي، تك ١٤. ففي يهوذا وحولها سيجمع الله الأمم والممالك ليسكب فيهم نقمته وغضبه الشديد (صف ٣: ٨). وبلاد فارس، وأثيوبيا، وغيرها، ستكون تحت سلطة روسيا وتتبع ركب جوج، الحاكم الأخير للشعوب الروسية (حز ٣٨: ٢- ٣). واليونان يبدو أنها ستسلك بطريقة مستقلة في الأزمة الآتية (زك ٩: ١٣)، ولكن كل تلك القوى ستكون معادية سياسياً ليهوذا المستعادة (مز ٣٨؛ زك ١٢؛ ١٤). وستكون مصر خاضعة للوحش ومتحالفة معه، وهكذا سيهاجمها ملك الشمال، عدو إسرائيل السياسي الشديد العزم (دا ١١: ٢٥، ٢٩، ٤٢- ٤٤). الوحش وجوج هما قوتان متضاربتان. السياسة والهداف بينهما مختلفة جداً. الأول هو الذي سيحمي الشعب اليهودي، والأخير سيكون هو الذي سيدمرهم.

مثلث شيطاني:

ليست العوائق والحواجز الطبيعية هي فقط التي تُزال، لكي تستطيع القوى الآسيوية أن تشق طريقها وهي على استعداد لأن تأخذ نصيبها المخصص لها في الصراع والمؤامرة في الأيام الأخيرة، بل إبليس نفسه يؤمن "خدمة عالمية" ليشكل نوعاً من التحالف بين القوى المعارضة الشديدة البأس. جام الغضب السادس لا يُستهلك في الدينونة على نهر الفرات. هناك "ثَلاَثَةَ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ" يُقال عنها "أَرْوَاحُ شَيَاطينَ"، تُشبّه بضَفَادع- كريهة، قذرة، مقرفة، تنتج عن الشر المستنقعي المهلك الوبائي الافتراضي للعالم الفاسد- وهذه تنطلق في مهمتها الفظيعة. سيكون لها تأثير بالكلمة، والآية، والأعجوبة على شعوب الأرض؛ لتغويهم "لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". الله على وشك أن ينصّب ملكه على جبل صهيون (مز ٢)، لكي تتجمع كل الأرض المأهولة بالسكان لتقاوم وتهزم القصد الإلهي. إنه تجمع عالمي للقوى. مثلث الشر- الحقد والخبث المتمركز في إبليس- استخدموا في جمع وتوحيد ملوك الأرض. هذه الأرواح تخرج من فم التنين، ومن فم الوحش، ومن فم النبي الكذاب. يُعتبر الفم مصدر ووسيلة وكيل الدمار (١: ١٦؛ ٢: ١٦؛ ٩: ١٧؛ ١٩: ١٥؛ انظر أيضاً أش ١١: ٤). التنين لا يعمل فقط ليحقق مخططاته، بل إن وكيلاه الرئيسيان يُشاركان في العمل- الوحش والنبي الكذاب. السابق هو السلطة السياسية والمدنية المرتدة الواسعة في روما؛ والأخير هو الوحش الثاني الوارد ذكره في رؤيا ١١، والذي يُشار إليه هنا باسم النبي الكذاب، بسبب أكاذيبه وتأثيره الكبير على الناس. لدينا هنا دمج بين القوة الشيطانية المباشرة، وقوة الارتداد الوحشية، والتأثير الخبيث والحاقد، كلها مسخرة في هذا العمل الجهنمي (قارن مع أخبار الملوك الأول ٢٢).

هَرْمَجَدُّون:

١٦- "فَجَمَعَهُمْ إلَى الْمَوْضع الَّذي يُدْعَى بالْعبْرَانيَّة «هَرْمَجَدُّونَ»". ضمير الغائب هنا يشير إلى الله. إنه وراء كواليس المشاهد والممثلين في هذه الدينونة الجزائية وطريقة التعامل. إن الله القدير هو الذي يفعل ويعمل وذلك بهدف وبقصد الثواب والعقاب العادل، هذا التجمع الكبير للأمم، مع استخدام التنين، عدوه المعلن، ورؤساء الارتداد الكبار في الأرض الذين يحققون مقصده. بماذا يجري التجمع في ذلك المكان الذي يُدعى هَرْمَجَدُّون؟ هناك شن ملوك كنعان معركة على إسرائيل، ولكن الرب قاتل إلى جانب شعبه، وكان النصر البارز حليفه واحتفل بنو إسرائيل في هذا النصر عن طريق دَبُورَة، النبية (قض ٥: ١٩، ٢٠). والآن هناك هدف كبير واحد أمام الأمم المتجمعة ألا وهو أن يسحقوا ويهزموا شعب إسرائيل (مز ٨٣: ٣- ٨)، ولكن الله يتدخل، ويدمرهم بفعالية ويحرر خاصته، كما فعل في الأيام الأولى من زمن القضاة. الانتصار الأولي يُشار إليه هنا على أنه عربون وأمارة على الأخير. في الواقع ليس تلة مَجِدُّو فعلياً أو واديها هو مكان تجمع الأمم؛ إن محدودية هذه المنطقة تحبط أي فكرة من هذا النوع. ولكن المعنى البسيط هو أن الله سيجمع عن طريق إبليس الكثير من أمم الأرض إلى فلسطين، وهدفهم سيكون أن يقلبوا الحكم في إسرائيل ويحطموه، وأن يندفعوا بقوتهم المتحدة ضد الرب. ولكن هذا لا يؤدي إلا إلى دمار أنفسهم وهلاكهم؛ فالله يصب غضبه على الأمم المتجمعة ضده (انظر النبي يوئيل والنبي صفنيا). لقد لوحظ أن وادي يهوشافاط هو المكان الذي سيهلك فيه الله أولئك الأعداء، وهَرْمَجَدُّون هو مكان تجمع الأمم. ولكن كلا المكانين، عني به أن يمثل في المبدأ عوالم مغلقة أو معينة في الأيام الأخيرة. الجبل والوادي كلاهما يشيران إلى التجمع المستقبلي للملوك والشعوب في أرض فلسطين، وعلى الأرجح أن ذلك سيكون في جوار أورشليم. وهناك ستحسم مسألة حكم الأرض والسيادة عليها وذلك بهزيمة نكراء يتعرض لها الأمم، وتتأسس مملكة عالمية لإلهنا ومسيحه؛ وفي تأسيسها سيكون هناك نصيب لبني إسرائيل كما الأمم أيضاً في الأرض الألفية.

نظرة استذكارية:

ولكن علينا الآن أن نتمحص ثانية خطواتنا نوعاً ما. يجب أن نلاحظ أن الآية ١٦ تستمر بشكل طبيعي وتكمل في الواقع الموضوع المطروح في الآية ١١. ومن هنا المقطع بين الآية ١٥ يشكل مقطعاً اعتراضياً ذا أهمية معنوية عالية. "هَا أَنَا آتي كَلصٍّ" يتجمع ملوك وشعوب الأرض عن طريق إبليس في اللحظة التي سيأتي الرب فيها ظافراً منتصراً في مجد (١ تسا ٥: ٢). العالم كله سيكون نائماً وسط عتمة معنوية في منتصف الليل، وسيهنئ نفسه في "سَلاَم وَأَمَان"، عندما سيبرز الرب نفسه في المشهد على نحو مفاجئ وغير متوقع، كلص في الليل. هذا المظهر من المجيء لا يشكل رجاء لنا ولا يسبب لنا الخوف (الآية ٤). لسنا من الليل، ولا من الظلمة، ولذلك لا يمكن أن نُباغت هكذا. بالنسبة لنا، قبل أن ينبلج النهار، سيظهر الرب ككوكب الصُّبْح. ثم يُختتم المقطع الاعتراضي بكلمة بالغة الأهمية تحوي تعليماً مركّزاً مفيداً لنا في جميع الأزمان، ولكن بشكل خاص في لحظة ومناسبة هذه النبوءة المتعلقة باليوم الأخير. المؤمن الذي "يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثيَابَهُ" في ذلك اليوم سوف يُعلن على أنه "مبارك". ‘إنها ليست مسألة حياة أو خلاص هنا، بل مسألة سلوك. كم ستكون هناك حاجة في ذلك الوقت، كما في كل الأوقات، لأن ينظر المرء بانتباه إلى طرقه وخطواته، لئلا يُباغت من قِبل العدو فيراه ويكشف خزيه وعريه الأخلاقي.

مقارنة بين الجامة والبوق:

عند بدء ختم تعليقنا على الجام السادس يجب أن نلاحظ باختصار التشابه والتناظر بينه وبين البوق السادس. في كليهما يتم ذكر نهر الفرات. وفي كليهما أيضاً، تشارك القوى الآسيوية في الصراع. وهناك نقاط أخرى متنوعة تظهر تشابهاً بينهما يجب أن ينتبه إليها القارئ. نضيف أيضاً تعليقاً بأن الجام السادس بحد ذاته لا يمثل مشهد الصراع بين القوى المتنوعة، ولا يكشف سقوط ضحايا في كل أرجاء العالم؛ بل إنه بالأحرى يشير إلى التجمع العام للشعوب من كل أصقاع الأرض، لكي يكونوا هناك عندما يأتي الرب في قوة (رؤ ١٩). إلا أن نصوصاً كتابية أخرى تمكننا من أن نتبين التفاصيل. هناك قول أو قولين من الحقائق النبوية من الهام أن ندركها ونستوعبها. إن يهوذا، وخاصة قرب أورشليم، ستكون مكان التجمع الأخير لأمم وشعوب الأرض. معظم الأمم، وخاصة تلك التي في الشمال والشرق، ستسعى لتدمر الجماعة اليهودية. كل الشعوب ستكون متحدة بشكل أو بآخر في بغضها لله ومسيحه، جميعها ستدان وتعاقب لدى مجيء الرب بقوة (رؤ ١٩؛ أش ٦٦؛ زك ١٤).

جام الغضب السابع:

١٧- ٢١- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّابعُ جَامَهُ عَلَى الْهَوَاء، فَخَرَجَ صَوْتٌ عَظيمٌ منْ هَيْكَل السَّمَاء منَ الْعَرْش قَائلاً: «قَدْ تَمَّ!» فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ. وَحَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ لَمْ يَحْدُثْ مثْلُهَا مُنْذُ صَارَ النَّاسُ عَلَى الأَرْض، زَلْزَلَةٌ بمقْدَارهَا عَظيمَةٌ هَكَذَا. وَصَارَت الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ، وَمُدُنُ الأُمَم سَقَطَتْ، وَبَابلُ الْعَظيمَةُ ذُكرَتْ أَمَامَ الله ليُعْطيَهَا كَأْسَ خَمْر سَخَط غَضَبه. وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ وَجبَالٌ لَمْ تُوجَدْ. وَبَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثقَل وَزْنَةٍ، نَزَلَ منَ السَّمَاء عَلَى النَّاس. فَجَدَّفَ النَّاسُ عَلَى الله منْ ضَرْبَة الْبَرَد، لأَنَّ ضَرْبَتَهُ عَظيمَةٌ جدّاً". الأحداث الموصوفة تحت الجام السابق كانت تمهيدية لسكب غضب الله النهائي على السلطة المدنية المرتدة، وعلى بابل الآثمة من حيث السمعة الكنسية والتاريخ، والفساد الديني في الأرض. لقد شهدنا للتو دينونة الله التدبيرية على "النَّهْر الْكَبير الْفُرَات"، والتجمع الكوني للأمم تحت قدرة الشيطان الكبيرة التي خرجت إلى ثَلاَثَةِ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ شبْهَ ضَفَادعَ ٣. لقد تم تحذير العالم، "هَا أَنَا آتي كَلصٍّ"، وقد اجتمع القديسون وتشاوروا بجلال ليسيروا بأثواب غير متنجسة، ولذلك فإن الجميع كانوا على أهبة الاستعداد تحت الجام السادس. ولذلك فليس هناك المزيد من التأجيل. الجام السابع الذهبي يُسكب الآن، ويفوق في حجمه وشدته كل ما شهدناه حتى الآن منذ أن بدأ الإنسان تاريخه المؤلم خارج عدن.

١٧- "سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّابعُ جَامَهُ عَلَى الْهَوَاء". هذه الدينونة تقع على نَفَس الحياة المعنوي للعالم. الهواء، الأساسي للحياة الطبيعية، يفتقده الله رمزياً بالدينونة. مملكة إبليس هي في الواقع مجال هذا الويل الفظيع (أف ٢: ٢)؛ ونستنتج أن "الْهَوَاء"، كما هو مستخدم في هذه النبوءة التي فيها تحقيقي للدينونة على أنظمة الشر في العالم، يشير إلى دمار كل التأثيرات المعنوية السليمة والمبادئ التي يتصرف البشر على أساسها- دمار الحياة الأخلاقية لكل المجتمعات الدينية والفردية والسياسية. إنها دينونة نافذة واسعة المجال.

١٧- الهيكل والعرش يتحدان، وذاك الذي يسكن في الأول ويجلس على الثاني يعلن بصوت عظيم أن "قَدْ تَمَّ!" لقد أتت النهاية. تفاصيل هزيمة بابل تتكشف في الأصحاحين التاليين. وهنا تُقال الحقيقة الصريحة، في أن بعض الأفراد يُحفظون. خاتمة التعامل التدبيري لله قد أتت، ولا يبقى هناك سوى الضربة الأخيرة والأكثر رعباً للدينونة التي يُنزلها الرب بشخصه لدى قدومه. غضب الله ينتهي بسكب الجام السابع، لتليه الآثار الأشد فظاعة- علانية وصراحة- غضب الحمل.

١٨- "حَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ". هذه الرموز (بشكل ثلاثي الجوانب) عن قوة مقتدرة في الدينونة ترد لأربع مرات. كلمة "أَصْوَاتٌ" تدل على تنفيذ الدينونة بشكل مباشر. الترتيب الذي ترد فيه الرموز تختلف نوعاً ما من ترجمة إلى أخرى للكتاب المقدس. ورود الكلمات في هذه الصيغة من الافتقاد الإلهي، لا شك أن له مغزى خاص في كل حالة؛ لقد جُمعت الكلمات بطريقة تثير الذعر في قلوب البشر. إضافة إلى هذه الإشارات والعلامات التي تدل على غضب الله على العالم الآثم، "حدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ"، والتي هي من النتائج الكبيرة والرهيبة التي تفوق أي شيء تم ذكره في التاريخ- "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ". سوف تكون هناك زلازل حقيقية في أماكن مختلفة متعددة (مر ١٣: ٨). ولكن الجيشان العظيم والذي ليس له نظير تحت الجام السابع ليس هو من عناصر الطبيعة، بل يرمز إلى تفتت عنيف للحكم، والانهيار الكامل لهرم السلطة من الأعلى إلى الأسفل. تحت هذه الزلازل ستترنح العروش وتسقط، وستتحطم التجيان، وتُكسر الصولجانات؛ إطار المجتمع ككل سينهار. ستكون هناك ثورة لا مثيل لها في تاريخ الجنس البشري. الحقيقة أن هذا الزلزال العنيف يتم الحديث عنه باستخدام الصيغة المألوفة، "أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ"، تميز خصوصيته وعظمته.

١٩- التأثيرات الفظيعة لهذا الزلزال العظيم العنيف يتم إيضاحها تالياً بشكل موجز ملخص. "صَارَت الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ ٤ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ". أي أن قوة روما الكبيرة والموحدة، من مركزها في المدينة ذات التلال السبع على التيبر، تتحطم إلى ثلاثة أقسام، بينما دمارها الكامل يأتي فيما بعد في الوقت الملائم. إن انهيار وتفتتم الإمبراطورية بتنظيمها السياسي والاجتماعي هو الأمر البالغ الأهمية. مؤامرة إبليس الكبيرة تتهشم وتتحطم.

١٩- "مُدُنُ الأُمَم سَقَطَتْ". قواعد ومراكز التجارة الأممية- العالم السياسي في معزل عن أرض روما وخارجها- يصيبه الدمار العام، الذي يتجاوز كل التمازجات والاندماجات البشرية. منذ بناء بابل (تك ١١: ١- ١٩) حتى اليوم والساعة التي يُسكب فيها الجام السابع يكون الهدف هو ما أحرزه البشر في الحضارة، والدين، والحكم الاجتماعي والسياسي، والفت، والعلم والأدب، سيكون هو الهدف. وهنا نشهد دينونة على كل ما بناه البشر هنا وهناك في هذه الحياة، منذ أيام قايين (تك ٣)، عندما كان نظام العالم بدون الله قد دُشّن، ومن بابل (تك ١١)، عندما اتحد البشر، متدينين ومدنيين، وقاموا بإنشائه. يا لها من ضربة قاصمة لكبرياء وطموح الإنسان!

سقوط بابل:

١٩- ولكن الموضوع الرئيسي للدينونة تم فصله وإبرازه بشكل واضح الآن. إنه موضوع أبغض ما يكون إلى الله. "بَابلُ الْعَظيمَةُ ٥ ذُكرَتْ أَمَامَ الله ليُعْطيَهَا كَأْسَ خَمْر سَخَط غَضَبه". بابل هي اسم وكلمة ذات مغزى مشؤوم. إنها التطور المحطم لكل العناصر المضادة للمسيح، لكل ما هو ضد الله. إنها التركيز على الدين البشري المجرد. المدينة والبرج اللذان بناهما الناس في أرْضِ شِنْعَار- الأول الذي كان قبلاً مركزاً مدنياً، والذي صار فيما بعد مركزاً دينياً مبتعداً عن الله في الأيام التي تتحقق فيها أوج عظمة الرؤيا. البابوية ليست بابل. بنقائها وبساطتها، بل هي جزء منها. بابل الآثمة فاقت كل شيء، ولهذا السبب فإن الدينونة متناسبة مع خطيئتها. لا شك أن بابل الملغزة هي التي يُشار إليها هنا، وليس مدينة الفرات الكبير التي قُدر لها الهلاك الأبدي (إر ٥١: ٦٢- ٦٤). إنها الكنيسة الزائفة، فساد الأرض، أم أو مصدر كل رداءة دينية. اسم المسيح نفسه الذي تحمله، والإدعاء بأنها جسده وعروسه، يكثّف ويزيد إثمها. لقبها، "بَابلُ الْعَظيمَةُ"، يشير إلى تسلّمها السلطة الدينية بشكل كبير، غضب الله ينسكب بقوة على الزيف والتقليد الفظيع لما كان يجب أن يمثله في النعمة والقداسة والشهادة للحق.

تفاصيل دينونة بابل، وعلاقتها مع السلطة المدنية المرتدة، وتفاصيل أخرى كثيرة تتبين في الفصلين التاليين؛ بينما هلاكها النهائي، الذي يُحتفل به في السماء بألحان انتصار حافلة بالسعادة والفرح، هي موضوع الآيات الأربعة الأولى من الأصحاح ١٩.

٢٠- "وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ وَجبَالٌ لَمْ تُوجَدْ" ٦. تلك هي الاهتمامات والحكومات المنفصلة والمنعزلة، كالجزر التي تنفصل عن البر، تغمرها النكبة العالمية؛ بينما كراسي السلطة والاستقرار، كالجبال، تتلاشى. الدمار في كل مكان، ويصيب كل شيء، مهما بدا ثابتاً أو راسخاً أو صامداً. كل ما لم يؤسسه الله يجب أن يتحول إلى حطام، وهكذا تكون نتائج الزلزال العظيم.

٢١- ولكن، إضافة إلى ذلك، الرعب العام يتركز بإعصار الدينونة الإلهية، التي تنزل على الناس بقوة فتاكة محطمة لا تقاوم، عاصفة من الغضب الإلهي، قوية لدرجة أن العالم الآثم نفسه سيُضطر للاعتراف بأنه من السماء: "بَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثقَل وَزْنَةٍ" ٧. لقد أعلمنا هذا السفر، مراراً وتكراراً، عن عاصفة برد منفصلة، ومع عناصر مدمرة أخرى (١١: ١٩؛ ٨: ٧) ولكن هذه تفوق في ثقلها وكثافتها العواصف البرَدية السابقة. كما أن البرَد ينزل من السماء، وهو حاد، مفاجئ، وكارثي في تأثيره، كذلك تكون الدينونة هنا. إن طبيعتها لا تُفسّر، ولكن شدتها ومصدرها هما من السماء وهذه حقائق لا شك فيها تقدمها لنا النبوءة.

هل أوج عمل الدينونة الإلهية أدى إلى التوبة؟ هل انكسرت إرادة الإنسان وتفتت قلبه تحت يد الله القديرة؟ لا! الإنسان لا يتغير، ما لم يحوّله روح قدس الله بنعمته الكبيرة، ويهديه ويخلّصه. التأثير المعنوي لهذه الدينونة يتم التعبير عنه بأوضح كلمات وهي "جَدَّفَ النَّاسُ عَلَى الله"- وليس مجّدوه، كما قد نتوقع بشكل طبيعي- ذلك "لأَنَّ ضَرْبَتَهُ عَظيمَةٌ جدّاً". كم هو حليمٌ الله! وكم هو سيء الطبع المخلوق!


١. - يقول بنغل، معلّقاً على حذف كلمة الملاك في هذه الجامات، قائلاً بشكل موجز: "الجامات تقوم بعمل موجز قصير الأجل".

٢. - القس و. م. رامسي، "محاضرات على سفر الرؤيا"، ص. ٣٦٤.

٣. - الصفاقة والنجاسة صفتان تميزان الضفادع. هذه المخلوقات القذرة، التي كانت تتوالد من المياه والبرك الآسنة في مصر، كانت ذميمة بشكل خاص بالنسبة للمصريين النظيفين. قصر الملك وكوخ الفلاح كلاهما ابتُليا على حد سواء بالزواحف الكريهة، التي كان صوت نقيقها يزيد من بؤس حالتهم (خر ٨: ٣- ١٤). الضفادع والأفاعي كان القدماء يصنفونها كتعبير عما هو كريه ومقزز أخلاقياً. كان الكتاب والشعراء الإغريق يعتبرون أن الضفادع هم سكان البحيرة الجهنمية أو نهر الجحيم.

٤. - هي روما (١٧: ١٨) التي تم خلع الملك عن العرش فيها بعد أن كانت تسيطر بهيمنة كبيرة على ملوك الأرض. روما، التي كانت وقتها الهيئة السياسية والمدنية الأضخم على الأرض، هي "الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ". تمثل روما النظام المدني آنذاك، وتمثل بابل النظام الديني في تلك الفترة؛ وكلاهما أنشأه الشيطان.

٥. - توصف أورشليم الحرفية بشكل موسع في أشعياء ٦٠؛ وأورشليم السرية هي موضوع الرؤيا ٢٠: ٩- ٢٢؛ ٥. بابل الحرفية توصف بشكل كامل في إرميا ٥١؛ وبابل السرية تشغل الأصحاحين ١٧ و ١٨ من سفر الرؤيا. وعلى جميع الأصعدة فإن بابل هي النقيض للسابقة، في كلا طابعها التاريخي والروحي.

٦. - تحت الختم السادس، تهرب الجبال والجزر من مكانها (٦: ١٤)، وفي هذا إشارة إلى الدينونة على أشدها التي يدل عليها اختفاء تلك الجبال والجزر الكامل لدرجة أنها "لم توجد".

٧. - الوزنة اليهودية كانت تعادل ١٢٥ رطلاً. بينما الوزنة عند المصريين والإغريق كانت حوالي ٨٦ رطلاً. والنص يتحدث عن أن حبة البرد كانت تزن وزنة بحسب المقاييس اليهودية، وهذا ما يشير إلى طابع الافتقاد القوي الغامر المحطِّم.