الأصحاح ١٨

سقوط بابل: تفجّع على الأرض؛ ونصر في السماء

الملاك وصرخته:

١، ٢- "ثُمَّ بَعْدَ هَذَا رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ نَازلاً منَ السَّمَاء، لَهُ سُلْطَانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنَارَت الأَرْضُ منْ بَهَائه. وَصَرَخَ بشدَّةٍ بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلاً: سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ الْعَظيمَةُ". رغم أن موضوع بابل يُستأنف في هذا الأصحاح، مع ذلك فإنه يشكل إعلاناً متمايزاً وتابعاً محتوىً في الرؤيا. عبارة "بَعْدَ هَذَا" (٤: ١؛ ٧: ١، ٩) يوحي ببداية جديدة، ويقدم مجموعة جديدة من الظروف؛ يفيد أيضاً في لفت انتباهنا إلى وحدة متمايزة في الموضوع أو المواضيع التي يتم التقديم لها على هذا الشكل. من وجهة النظر هذه يصبح الأصحاح شيقاًَ. بابل بالطبع هي في مقدمة كلا الأصحاحين ١٧ و ١٨، ويمكننا إضافة الآيات الثلاثة الأولى من الأصحاح التالي. هنا الوحش لا يسمى أبداً،  ولا الملوك العشرة الذين يكونون فعالين في دمار بابل. في هذا الأصحاح يختفي العوامل البشرية، ويُنسب دمار ذلك النظام المريع من الفساد إلى الله. بابل، ليس كامرأة في علاقتها مع الوحش ولا كزانية في علاقتها مع العالم المسيحي، تُذكر في هذه الرؤيا- وتكون متمايزة كما في الأصحاح السابق. سقوط بابل (١٦: ١٧) في علاقتها المدنية لا يفرغ دينونة الله على ذلك النظام الشرير المنظم (١٨: ٤، آخر جملة). بل في هذا في وقت آخر.

١- "مَلاَكاً آخَرَ"، في تضاد مع ملائكة الجامات (١٧: ١؛ ٢١: ٩). "نَازلاً منَ السَّمَاء" تدل على الطابع الإلهي للعمل، والاهتمام العميق هناك بطابع ومصير بابل. "سُلْطَانٌ عَظيمٌ". هناك أوامر ومراسيم وسط الجند الملائكي. البعض متمايزون أكثر من غيرهم في الخدمة وفي المكانة. جميعهم يتميزون بالاقتدار (٢ تسا ١: ٧؛ ٢ بط ٢: ١١)، ولكن مُنح البعض قدرة خاصة ليسلك من أجل الله في ظروف معينة؛ وآخرون أيضاً لديهم سلطة محدودة ضمن منطقة محدودة، ولكن السلطة الكونية لا تُنسب أبداً إلى ملاك. الرب يسوع المسيح كإنسان وابن هو الوريث المعين لكل الأشياء (متى ٢٨: ١٨؛ ١١: ٢٧؛ عب ١: ٢). كخالق، ادعاؤه بالسيادة العالمية لا شك فيه، وهي سيادة مطلقة ومستقلة (كول ١: ١٦)، تقوم على أساس حقوق ومجد شخصه كإله.

الملاك في نصنا لَهُ "سُلْطَانٌ عَظيمٌ" وعلى الأرجح أنه الملاك الذي عُهدت إليه دينونة بابل. ها هو هنا يعلن سقوطها، ولكن كتنفيذ لتعاملات أكثر وأشد فظاعة. الملاك لديه سلطة واسعة مفوضة إليه تمكنه من أن يتعامل كلياً مع الموضوع الذي بين يديه، أعني به النظام الديني الأكثر شراً على الأرض. "اسْتَنَارَت الأَرْضُ منْ بَهَائه". هذه شهادة على أن الله هو في المشهد، وأنه هو الذي يتصرف بدينونة. سقوط بابل كان حدثاً علنياً- دخان احتراقها (الآية ١٨) قد سوّد السماوات معلناً هذا للبعيد والقريب، ولكن الأرض استنارت، ليس بانعكاس الشمس، بل بمجد الملاك النازل، وشهدت بحقيقة أنه مهما كان الوكلاء أو العاملون، فإن الله، هو القاضي العادل، الذي يدين بابل. على الأرجح أن الملاك المشار إليه هنا هو ليس سوى المسيح، وهو نفسه في الأصحاح ٨: ٣ و١٠: ١. المسيح، الكاهن الملاك، العامل لمصلحة البقية المؤمنة به والتي تعاني (الأصحاح ٨). المسيح، الفادي الملاك، يأخذ ميراثها (الأصحاح ١٠). المسيح، المنتقم الملاك عن شعبه، ينتقم من بابل (الأصحاح ١٨).

٢- "صَرَخَ بشدَّةٍ بصَوْتٍ عَظيم". هذه صفة تتفوق فيها الملائكة (مز ١٠٣: ٢٠). صرخة الملاك كانت إعلان ترحيب لسقوط بابل، لم تكن متوقعة، ولكن حدثت فعلاً. "سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ الْعَظيمَةُ". سقوط ذلك النظام المقتدر، والذي كان مداناً بالتزييف والخيانة ضد المسيح، لا يزال يحمل اسمه الذي يُعلن هنا علانية. هذا كان قد نُفذ في الأصحاح الماضي على يد قوى غربية. فهناك رأينا الوحش، الذي فُوضت إليه القوة أو السلطة المدنية ١، فيصير بفترة من الزمن عبداً طائعاً للمرأة. إنها تجلس عليه في الكبرياء، ما يبعث على التعجب والاستغراب للجميع، ما عدا أولئك الذين انفتحت أعينهم بالنعمة ليروا طبيعتها الحقيقية. ولكن القوة التي مع الوحش، وليس مع المرأة، لا تستقر بسبب الكبت والغضب تحت سيطرتها المتشددة. ثروتها أيضاً يشتهيها بشراهية القوى المدنية والمرتدة. الممالك العشرة والوحش، كل القوة المادية للإمبراطورية، يتحدون لأجل دمارها. وفي هدفهم الانتقامي هذا من أسوأ نظام شرير والأكثر اضطهاداً لا تغيب الشمس أبداً عن اتحاد الملوك العشرة الذين يكونون أشد فعالية منهم، أي القرن الصغير الذي يرد ذكره في دانيال ٧. تُجرد المرأة من ممتلكاتها وثروتها التي تذهب منها فتتضخم بها كنوز رؤساء الإمبراطورية العظام. المرأة، أو النظام الذي تمثله، ينهار إلى أخفض دركات الخزي، وتصبح موضع ازدراء وسخرية حتى عند أولئك الذين كانوا يطلبون رضاها وودها. تقع أمامنا كحطام. السلطة المدنية المرتدة تنتصر عليها بقوتها الوحشية؛ ثم يستسلم الملوك العشر وممالكهم لإرادة الوحش القاسية التي لا ترحم. وبينما كانت الأمور في حالة سيئة تحت المرأة تصير الحالة أسوأ بكثير تحت إرادة الوحش الملهم من الشيطان.

إعلان الملاك القدير:

٢، ٣- بَابل "صَارَتْ مَسْكَناً لشَيَاطينَ، وَمَحْرَساً لكُلّ رُوحٍ نَجسٍ، وَمَحْرَساً لكُلّ طَائرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأَنَّهُ منْ خَمْر غَضَب زنَاهَا قَدْ شَربَ جَميعُ الأُمَم، وَمُلُوكُ الأَرْض زَنُوا مَعَهَا، وَتُجَّارُ الأَرْض اسْتَغْنُوا منْ وَفْرَة نَعيمهَا". هذه هي حالة بابل بعد سقوطها السياسي. لقد أُطيح بها، ولم تُدمر. وهذا الأمر الأخير المفاجئ. سوف "تَحْتَرقُ بالنَّار" (الآية ٨) وهذا يلي الاحتراق الوارد ذكره في الأصحاح السابق (الآية ١٦).

"صارت". إن بابل وقد خسرت مكانتها العامة السيادية، وتقطعت إلى أشلاء على يد نفس القوى التي شكلت يوماً قوتها، يتقلص حجمها إلى حالة دمار وخراب توصف بلغة لا مثيل لقوة كلماتها. من الواضح أن الوصف مستمد من أشعياء ١٣: ٢١، ٢٢ والذي فيه أنبأ أعظم الأنبياء العبرانيين عن سقوط بابل، التي كانت يوماًَ خليلة العالم المتكبرة، والتي انحط قدرها الآن دون سائر المدن؛ هنا لدينا النظير ال

أخلاقي. وهذا إذاً ما "صارت" عليه عروس المسيح. هناك ثلاثة أجزاء في الوصف تتناول حالة الرعب الفظيعة.

(١) "مَسْكَناً لشَيَاطينَ". مسكنهم المناسب هو الهاوية (لوقا ٨: ٣١). لا نعرف من هؤلاء الشياطين، سواء كانوا ملائكة ساقطين أم أرواح أناس هالكين، أم جماعة من كائنات بائسة هالكة من تلقاء نفسها، والذين من المؤكد أن يلاقوا عذاباً مستقبلياً أليماً. يا لها من فكرة مذهلة أن الهاوية في العالم السفلي وعروس المسيح المعترفة على الأرض، يجب أن يُنظر إلى كليهما كمسكن للشياطين! يمكننا بسهولة أن نفهم أن تكون الهاوية مسكن للشيطان، ولكن العجيب أن تكون الكنيسة المعترفة معهم أيضاً.

(٢) "مَحْرَساً لكُلّ رُوحٍ نَجسٍ". يؤسس الشيطان قواه الروحية في النظام الكنسي المدمر. يجعل منه حصناً أو قلعةً والتي هي قوة العالم، وإلى هناك تذهب النجاسة والقذارة وتحتشد في الفجوة. وهناك الصرخة الكئيبة تُسمع، ويُرتكب العمل الشرير، "كلّ رُوحٍ نَجسٍ" يتجمع إلى بابل المدمرة كمركز له.

(٣) "مَحْرَساً لكُلّ طَائرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ". نستنتج أن الشياطين والأرواح النجسة المشار إليها في هذا النص هي كائنات شخصياً. الطيور النجسة، والطيور المفترسة، وطيور الظلام، ترمز إلى وكلاء الشيطان العديدين والمتنوعين (متى ١٣: ٤، ٣٢؛ إر ٥: ٢٧؛ وخاصة أشعياء ٣٤: ١١- ١٥)، وهؤلاء بالطبع لهم طبيعة مؤذية ومهلة للغاية. ولذلك فإن بابل، الغارقة في الفساد، هي شيء بغيض في نظر الله.

الاتهامات الكبيرة ضد بابل:

يتم ذكر الاتهامات التي على أساسها تقع دينونة الله على بابل. وهذه هي:

(١) "لأَنَّهُ منْ خَمْر غَضَب زنَاهَا قَدْ شَربَ جَميعُ الأُمَم". شعوب الأرض النبوي قد ثملوا من كأسها الذهبي التي تُسكر. لقد أغوت الشعوب وحرفتهم عن ولائهم لله والمسيح، وتملكت على عواطف جموع الجنس البشري. شعوب العالم المسيحي، والمنطقة الجغرافية الأوسع، أسرتهم روعة وفخامة خدماتها، وطقوسها الرفيعة المزخرفة، والعرض العام لثيابها البهية الجميلة وقبعتها، وهذا كله أسّر على الفكر الجاهل والخيال المطلق العنان لسكان مدننا، وبلداتنا، وقرانا. أضف إلى ذلك، الشروط السهلة التي تقدمها لنيل الخلاص لأتباعها ومناصريها، ومن جهة أخرى التهديد بأنه ما من خلاص خارج نطاق الشركة معها، فلا عجب أن نرى الأمم قد ثملوا بها أو خبلوا من نظام يقدم هكذا منافع، بينما يعلو عن الجميع الدينونات الحقيقية التي تستحقها بسبب حالتها الحقيقية أمام الله. في الفترة التي نتأمل فيها ونراها في هذا الأصحاح سيكون الكتاب المقدس قد أُزيح من الاستعمال على الملأ، وأيضاً من ضمير الجموع حتى عند الناس المتدينين. ولذلك فإنهم سيقعون فريسة سهلة أمام إغواءات بابل.

(٢) لأن "مُلُوكُ الأَرْض زَنُوا مَعَهَا". الرؤساء في الممالك العشرة شخصية التي تشكل المنطقة الإقليمية التي تمتد عليها الإمبراطورية، عندما ينتعشون يجب تمييزهم عن ملوك الأرض. الأوائل هم الذين يدمرون ويحرقون المرأة (١٧: ١٦)؛ فينقلبون إلى كراهيتها. ولكن ليس الملوك هكذا، أو الرؤساء في العلام المسيحي، فهم يندبون حظها ومصيرها (١٨: ٩)؛ وهم، وليس ملوك الغرب العشرة، فئة معينة ومحدودة العدد، يرتكبون الزنى مع بابل. حب الظهور، الذي تتبجح به الكنيسة الرومية، تروق للحواس والجدال، وأمام هذا الإله ستنحني الشعوب، ولكن ملوك الأرض أو القادة، هم أشد إثماً وأشد اقتصاداً، إذ ينتفعون من مركزهم؛ إنهم يسلمون أنفسهم إلى تملقات المرأة. الكنيسة تعتنق العالم بكل ما أمكنها الحصول عليه من أعداد وثروات، والعالم يسر بذلك بالمقابل، أفلم تعد بفتح السماء لكل الذين يأتون إليها ويجزلون العطاء؟ مفاتيح القديس بطرس تتدلى أمام الملوك والشعب، وكذلك كرسي "وكيل المسيح" (على الأرض) و"الأسقف العالمي" الذي سيتمجد إلى مستوى أخلاقي رفيع يفوق ذاك النجاح والازدهار في القرون الثلاثة التي اشتهرت فيها روما بالتعجرف والكبرياء، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

(٣) "تُجَّارُ الأَرْض اسْتَغْنُوا منْ وَفْرَة نَعيمهَا". لقد كان هناك على الدوام عديد من فئات الشعب الذين يلزمون أنفسهم بالدين بقدر ما يستطيعون أن يكسبوا، مستخدمين الكنيسة كوسيلة للمنفعة المؤقتة. بابل ستكون طعماً مغرياً لكل من كان على هذا الخلق. وفرة غناها وترفها ستجتذب "تُجَّار الأَرْض". الذين سيغتنون بذلك. ولكن سرعان ما سيتبدل المشهد، وهؤلاء التجار أنفسهم سيبكون وينتحبون على الدمار الذي منه اغتنوا.

دعوة إلى الانفصال:

٤، ٥- "ثُمَّ سَمعْتُ صَوْتاً آخَرَ منَ السَّمَاء قَائلاً: «اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي لئَلاَّ تَشْتَركُوا في خَطَايَاهَا، وَلئَلاَّ تَأْخُذُوا منْ ضَرَبَاتهَا. لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحقَت السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". ملاك ينزل من السماء (الآية ١) وصوت يُسمع في السماء (الآية ٤)، يعبر عن سلوكيات مختلفة. الأخير هو تعبير عن فكر الله، الذي فيه يظهر الانسجام بكل ما في السماء.

٤- الدعوة، "اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي" ٢، تنطبق بالتأكيد في جميع الأزمان، وليست بفصل معين. ولكن التحذير له قوته الخاصة بعد انهيار بابل من عظمتها الشديدة السابقة (الأصحاح ١٧) وقبل مصيرها النهائي المشؤوم (الأصحاح ١٨). الدعوة فيها أمر. بابل كنظام لا يمكن أن يعيد صياغة نفسه على أسس روحية، ومن هنا فليس هناك سوى طريق واحد مفتوح أمام المخلصين المؤمنين- ألا وهو من خلال الانفصال عن كل من يحمل اسم المسيح بشكل مزيف. ما من شك أن بابل سيوجد فيها بعض المؤمنين الحقيقيين، حتى في أسوأ حالاتها وأكثرها فساداً، وعلى الأرجح أنهم سينجون من الاضطهاد والموت. هؤلاء المناصرون يجب أن يقوموا بعملية انفصال أو انقطاع عن بابل، وإلا سيكون مشاركين في الويلات التي ستتعرض لها ٣.

٤- الدعوة تستند على أساسين: (١) "لئَلاَّ تَشْتَركُوا في خَطَايَاهَا". إذ بالبقاء فيها سيصبحون شركاء في خطاياها. (٢) "لئَلاَّ تَأْخُذُوا منْ ضَرَبَاتهَا". التحذير هنا هو على أساس التبعات- القضائية والحكمية. الضمان الأبدي لا يمكن أن يتعرض للخطر بالتهديد الإلهي. الذنب والعقاب من جميع الباقين في بابل يتم التنبؤ عنه هنا. الله على وشك أن يسحق كل النظام الكنسي المرتد بدمار كامل لا سبيل إلى معالجته، وبسبب صب جام الغضب النهائي، نجد هنا العبارة "ضربات"، ويُسمع الصوت الأخير المنادي أن: "اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي". فنستنتج بشكل طبيعي أن خروج القديسين من بابل يتم قبل أن تقع الضربة الأخيرة، والتي ستحطمها إلى ركام. وكما قال أحدهم: "تأتي الدينونة الكاملة بعد أن يخرج شعب الله منها".

٥- وما ستكون وسيلة هذه الدينونة الرهيبة؟ لماذا هذا التعامل الفظيع من قِبل الإنسان والله؟ "لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحقَت السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". وعن الاتحاد البابلي الأول بعيداً عن الله نقرأ: "قَالُوا هَلُمَّ نَبْنِ لانْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجا رَاسُهُ بِالسَّمَاءِ" (تكوين ١١: ٤). سيبنون ضريحاً من الحجارة يبقى إلى الأبد بدافع حماقتهم. ولكن هنا تتراكم الخطايا لتصل إلى "السماء"، ضريح خزيها لو عرفت بذلك. يا لها من صورة مذهلة نجدها هنا، برج بابل، ليس من حجارة بل من خطايا؛ ليس فقط خطيئة على الأرض تستدعي الدينونة، بل خطايا متفاقمة تسير عن غضب، وهي عديدة، وفيها من القحة والفحشاء ما ينفر السماء ٤. "تَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". الدينونة، الصارمة والقاسية، يجب أن تجري مجراها.

المكافأة العادلة:

٦- "جَازُوهَا كَمَا هيَ أَيْضاً جَازَتْكُمْ، وَضَاعفُوا لَهَا ضعْفاً نَظيرَ أَعْمَالهَا. في الْكَأْس الَّتي مَزَجَتْ فيهَا امْزُجُوا لَهَا ضعْفاً". الآية السابقة موجهة مباشرة إلى شعب الله، ولكن في التي أمامنا هي موجهة للقديسين. فعندئذ، كما الآن، من المؤكد مبدأ أن الله يسلك بعدالة جزائية. إنها عبارة تشير إلى المبدأ الذي يتصرف الله وفقه مع الشعوب، مثل متى ٧: ٢ والذي يظهر انطباقه على الأفراد. لقد كان الناموس الذي ليطلب أن "عين بعين"، ولكن الانتقام هنا يطلب ما يتجاوز ذلك- المعيار مضاعف.

الكبرياء قبل الدمار:

٧، ٨- "بقَدْر مَا مَجَّدَتْ نَفْسَهَا وَتَنَعَّمَتْ، بقَدْر ذَلكَ أَعْطُوهَا عَذَاباً وَحُزْناً. لأَنَّهَا تَقُولُ في قَلْبهَا: أَنَا جَالسَةٌ مَلكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حُزْناً. منْ أَجْل ذَلكَ في يَوْمٍ وَاحدٍ سَتَأْتي ضَرَبَاتُهَا: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحْتَرقُ بالنَّار، لأَنَّ الرَّبَّ الإلَهَ الَّذي يَدينُهَا قَويٌّ". مبدأ الإدانة الجزائية نراه تالياً في الجزء الأول من الآية ٧، ليس فيما يتعلق بما فعلته بابل (الآية ٦)، بل بسبب ماهيتها بحد ذاتها. أما وقد خُفضت من مكانتها العالمية على يد ملوك العالم الروماني فإنها تبقى محافظة على تكبرها. روحها المعنوية تبقى عالية. وخيلائها مؤكد رغم حقيقة أنها تجلس في تراب أو رماد بهائها السابق وأن نهايتها هي قريبة. ملوك الأرض يبكون وينوحون عليها، ولكنهم لا يستطيعون مساعدتها. تبجحها في داخلها لا يزال؛ وتقول في قلبها: "أَنَا جَالسَةٌ مَلكَةً". انهيارها العلني قد حدث للتو، ومن هنا فإن تأكيد حالتها الملكية سيكون لا معنى له إن قالت "لَسْتُ أَرْمَلَةً". هل تتوقع أن ثرواتها ستُسترد؟ وأنها ستقوم من جديد وترتقي العرش؟ "لَنْ أَرَى حُزْناً"، وهذا بينما السحب تصبح أخفض والإشارات الوشيكة تنذر بدينونتها الفورية والأخيرة على يد الله. الدمار الكامل هو المغزى من وراء الكلمات التي تقول: "تَحْتَرقُ بالنَّار". هذا يتجاوز المشهد التاريخي في الأصحاح ١٧: ١٦. فالنار هنا تجلب النهاية الجميلة لبابل. الله القدير هو ديان بابل ٥.

الحزن على بابل:

٩، ١٠- الندب والنحيب على بابل تقوم به كل الفئات، لأن الجميع تأثروا بذلك. المعنى العام لكل المقطع بسيط جداً لدرجة أنه لا حاجة من تفسير تفصيلي. المواد في التجارة المحددة والتي تتاجر بها بابل يبلغ عددها ٢٨ مادة. أول واحدة منها أو في القائمة هي الذهب، والأخيرة هي الأرواح. دمار بابل سيؤثر بشكل خطير على كل التجارة والحياة الاجتماعية في العالم وعلى هذا الأساس سيحزن على دينونتها أولئك الذين تشاركوا في ثروتها واستفادوا من التعامل معها.

٩، ١٠- "مُلُوكُ الأَرْض" يقودون النحيب العام. لقد كانت تربطهم بها علاقة حميمة، ولذلك فإنهم يشعرون بخسارتها أكثر من غيرهم. هؤلاء الملوك، أو الرؤساء، لا ينبغي الخلط بينهم وبين الملوك العشرة الذي يكرهون المرأة. النحيب السابق عليها، ولا يمنع سقوطها، بينما الأخيرون هم المحركون الرئيسيون في انهيارها السياسي (١٧: ١٦). ملوك الأرض أو، بكلمات أخرى، القادة المميزون في العالم المسيح، وبمعزل عن الملوك العشر في الإمبراطورية الرومانية، هم في حالة خوف. إذ يقفون بعيدين يشهدون على الاحتراق الفظيع لذلك النظام المقتدر من الشر الذين كانوا متطابقون معه للغاية، والذي فيه عاشوا وقصفوا وتمتعوا بالترف والرفاهية. إنهم يرتجفون ويخافون من فظاعة وفجائية الدينونة، "لأَنَّهُ في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُك".

١١- ١٣- "تُجَّارُ الأَرْض". الحزن على بابل، ليس بسبب محبتهم لهذا النظام بل ببساطة لأن تجارتهم وثروتهم قد انهارت. بابل، وإضافة إلى طابعها الديني، تُرى هنا على أنها مركز الاهتمامات التجارية الواسعة. طابع التنوع في التجارة- والذي يتعامل مع منتجات كل البلدان- يظهر تأثير بابل الواسع الأرجاء، وكيف تجتذب ثروات العالم إلى نفسها مركزياً. فكروا في هذا الاتحاد العملاق بين التجارة الدينية والمدنية، من بين البضائع الأخرى، والمتاجرة بأجساد وأرواح البشر (الآية ١٣)- والتي تُذكر في نهاية القائمة. في تعداد أنواع التجارة التي تتعاطى بها بابل نجد أنها مجرد مستودع للعالم أو سوق تجاري عالمي يحوي كل ما هو منحط وقليل القيمة. هناك سبعة أقسام يتم تصنيف البضائع المتنوعة إليها: (١) بَضَائعَ منَ الذَّهَب وَالْفضَّة وَالْحَجَر الْكَريم وَاللُّؤْلُؤ. (٢) ثياب فاخرة كَالْبَزّ وَالأُرْجُوان وَالْحَرير وَالْقرْمز. (٣) أثاث فخم، مثل كُلَّ عُودٍ ثينيٍّ وَكُلَّ إنَاءٍ منَ الْعَاج وَكُلَّ إنَاءٍ منْ أَثْمَن الْخَشَب وَالنُّحَاس وَالْحَديد وَالْمَرْمَر. (٤) عطور باهظة الثمن: "قرْفَةً وَبَخُوراً وَطيباً وَلُبَاناً". (٥) مواد غذائية وافرة: "خَمْراً وَزَيْتاً وَسَميذاً وَحنْطَةً وَبَهَائمَ وَغَنَماً". (٦) مستلزمات مواكب النصر الفاخرة: "خَيْلاً، وَمَرْكَبَاتٍ". (٧) وسائل نقل عادية: "أَجْسَاداً، وَنُفُوسَ النَّاس".

تفجع التجار يقاطعه حادثة تُروى في الآية ١٤، ولحن الحزن والنواح يُستأنف في الآية ١٥. الدمار الكامل لتجارة بابل، التي كانت تقيد ملكها وفلاحيها بأنانية، تتركها كحطام السفينة. كل موردها تتلاشى؛ لقد سُلبت كلياً من كل وسائلها السابقة في الانغماس الذاتي؛ مصادر مسرتها جفّت؛ وفي الواقع كل ما كان يخدم كبريائها، وكل شيء أساسي لوجودها، يتلاشى بضربة غير متوقعة ومفاجئة من يد الله. ونجد الصوت يخاطبها مباشرة من السماء (الآية ١٤).

١٥- ١٧- ثم يُستأنف اللحن، ولكن على نطاق أوسع. التجار عموماً، وهؤلاء هم "الَّذينَ اسْتَغْنُوا منْهَا"، يلجأون إلى الندب الذي تعبر عنه كلمات مشابهة لتلك التي يقولها الملوك (الآية ١٠). ولكن هناك فارق وحيد، يمكن ملاحظته. الملوك في نحيبهم يقولون: "في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ"، بينما التجار يقولون: "في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ خَربَ غنىً". بجمع العبارتين معاً نستنتج أن دينونة بابل تشتمل على دمار ازدهارها المؤقت وأيضاً أن ضربة انتقام يد القدير مفاجئة وغير متوقعة.

١٧- ١٩- كُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الْجَمَاعَة في السُّفُن، وَالْمَلاَّحُونَ وَجَميعُ عُمَّال الْبَحْر. يعانون على حد سواء مع أولئك الذين سبق وذُكرت أسماؤهم. يتم تذكر عظمة وغنى بابل القديمة وتُندب من خلال اللحن الحزين الصادر عن البحر (انظر حزقيال ٢٧).

دينونة بابل تشمل أيضاً الملوك والتجار وعما البحر ومختلف الطبقات الذين اغتنوا من خلال تواصلهم معها. ويخافون من عذابها.

السماء تبتهج:

٢٠- سمعنا الصوت من السماء أولاً في الآية ٤، وأخيراً في الآية ٢٠. وفي هذه الأخيرة تُدعى السماء لتبتهج. إن كان هناك ندب ونحيب على الأرض فهناك ابتهاج في السماء. المكان والسكان يتحدان في نشيد انتصار. هناك ثلاث فئات: القديسون، والرسل، والأنبياء (الآية ٢٠). القديسون هو تعبير عام ويشتمل على المؤمنين في كلا العهدين القديم والجديد؛ والرسل هم الذين كانوا في العصر المسيحي (أف ٤: ١١)، وأيضاً "الاثني عشر"؛ والأنبياء هم أنبياء العهد القديم. الثلاثة جميعاً هم في السماء، وهناك يبتهجون. "الرَّبَّ قَدْ دَانَهَا دَيْنُونَتَكُمْ". أي أن دينونة عادلة وقعت على بابل على يد القديسين والرسل والأنبياء- لأن الجميع عانوا على يديها- والآن يُنفذها الله بنفسه.

الدمار الكامل وخراب بابل الأبدي:

٢١- ٢٤- "وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحدٌ قَويٌّ حَجَراً كَرَحىً عَظيمَةً، وَرَمَاهُ في الْبَحْر قَائلاً: «هَكَذَا بدَفْعٍ سَتُرْمَى بَابلُ الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ في مَا بَعْدُ»". العمل ذو مغزى وهام ونبوي، وكذلك مهيب. هناك وصف درامي قديم مشابه يشير إلى انهيار بابل القديمة نجده في إرميا ٥١: ٦٠- ٦٤؛ هناك سَرَايَا كان الفاعل؛ وهنا ملاك مقتدر. المدينتان الحرفية والسرية كلتاهما كان يجب أن تُدمرا بشكل كامل ومفاجئ وبعنف. الأصحاحان، إرميا ٥١ ورؤيا ١٨، يجب دراستهما بتأنٍ ومقارنتهما معاً. ثم يأتي في الآيات ٢٢ و٢٣ وصف جميل ومؤثر يتم التعبير عنه بطريقة شعرية ٦، عن خرابها الكلي. يا له من دمار كامل. بابل الحزينة الكئيبة الصامتة تقف خارج الضريح الذي يُمثل انتقام الله الكامل. لقد كان الشر متوجاً وسط أولئك الذين يعترفون بأنهم يحملون اسم المسيح؛ ولكن أخيراً، وعندما ملأت كأس إثمها بالكامل، يقف الله بغضبه الشديد، وسخطه المتقد، فتسقط بابل دون أن تعود لها قائمة من بعد. دمارها أمر لا سبيل إلى تفاديه. وينتهي الأصحاح بتكرار الطابع الدموي للنظام (انظر ١٧: ٦؛ ١٨: ٢٤).


١. - أخذ نبوخذنصر تعيينه كرئيس عن العالم بالسلطة المدنية مباشرة من الله (دا ٢: ٣٧، ٣٨)، والسلطات المتعاقبة توالت إلى المشهد بعناية الله، ولكن في حالتهم لم يُمنحوا قوة أو سلطة مباشرة. في الأيام الأخيرة من الإمبراطورية الرابعة يمنح الشيطان سلطته وقوته (رؤيا ١٣: ٢). يا له من تضاد بين الإمبراطوريتين- الأولى والرابعة. الله أسس الأولى والشيطان يؤسس الرابعة.

٢. - قارن مع إرميا ٥١: ٦؛ أش ٤٨: ٢٠.

٣. - هذه الويلات هي الموت، والنحيب، والمجاعة (الآية ٨).

٤. - انظر عزرا ٩: ٦؛ وأيضاً إر ٥١: ٩؛ هناك بابل الحرفية؛ وهنا بابل السرية، والتي هي نسخة مطابقة للأخرى.

٥. - نقتبس من أحدهم القول: "روما تعني القوي. ولكن قوتها فارغة. قوي هو الرب الذي يدينها".

٦. - قارن مع إرميا ٢٥: ١٠.