الفصل ٤

تابوت العهد، عرش الرحمة، والكروبين

من المفيد أن نقدم بعض ملاحظات عامة هنا. إن هندسة البناء الإلهي لخيمة الاجتماع لم تتبع نفس الطريقة التقليدية المألوفة. فلو طُلِبَ إلى مهندس معماري أن يشيد قصراً ملكياً لسكنى الملك، سوف يبدأ بشكل طبيعي بالأساس، وبعدها بالجدران، وأخيراً يضع السقف. ثم، وبعد أن ينتهي البناء، يتم وضع الأثاث، وهذا سيكون أفخم مكان يليق بالعرش الملكي.

ولكن الأمر معاكس جداً في حالة خيمة الاجتماع. فالتابوت وكرسي الرحمة كانا عرش الله، وهذا أول شيء يرد ذكره. إن التابوت وكرسي الرحمة يرمزان إلى المسيح في لاهوته، وناسوته، وذبيحته الكفارية على صليب الجلجثة. وماذا يمكن أن نقول أيضاً عن ربنا المبارك؟ إنه بآن معاً الأساس، وحجر الزاوية، والألف والياء، والبداية والنهاية، والأول والأخير. كل الحق يتمحور حول شخصه وعمله، فهو الوسيط العظيم بين الله والبشر.

كم كان جون نيوتن مصيباً عندما كتب:
"ما فكرتك عن المسيح؟ إنه الامتحان
الذي به تختبر حالتك ومشاريعك،
إذ لا يمكنك أن تكون مصيباً،
إلا إن فكرت فيه بحق".

إن تمعنا في المواد المستخدمة في خيمة الاجتماع نجد أن التابوت، وكرسي الرحمة والكروبين في قدس الأقداس هي أول ما يُذكر، ثم تأتي مائدة خبز الوجوه، والمنارة الذهبية في المقدس. رغم أن مذبح البخور الذهبي الجميل كان أيضاً في المقدس، إلا أنه لا يُقال أي شيء عنه حتى نصل إلى الإصحاح ٣٠ من سفر الخروج. وإذا تابعنا من الخارج نجد ذكراً للمذبح النحاسي ودار المسكن للخيمة، ولكن لا يُقال أي شيء عن المذبح النحاسي حتى الوصول إلى (خروج ٣٠)، رغم أنه يقع في دار المسكن. لماذا تم التغاضي عن ذكر المذبح الذهبي والمغسلة (المرحضة)؟ لقد سمعنا عن مشككين يشيرون بانتصار إلى هذا الحذف الظاهر، ويسألون: كيف يمكنكم أن تدّعوا أن الكتاب المقدس موحى به عندما تكون فيه هكذا أخطاء فاضحة وواضحة؟

بالمقابل، إن هذا الترتيب هو ما يطبع الكتاب المقدس بصفة الوحي. لكي نوضح قصدنا من ذلك سنلفت انتباهكم إلى القول الوارد في الكتاب المقدس: "مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ" (عبرانيين ٣: ١). إن ربنا هو رسولٌ ورئيس كهنة بآن معاً. فما الفرق بين مركزي الرسول ورئيس الكهنة؟

الرسول يأتي بالله إلى الإنسان لأجل بركته الأبدية.

أما رئيس الكهنة فيأتي بالبشر إلى الله لأجل العبادة.

إن التابوت، وعرش الرحمة، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة والمذبح النحاسي كلها ترمز إلى المسيح الرسول المُرسَل من الآب، الوسيط العظيم بين الله والإنسان، وبخاصة بموته الكفاري، وهو الوسيلة الوحيدة التي بها تأتي البركة للإنسان الخاطئ.

إن المذبح الذهبي والمرحضة النحاسية من جهة أخرى ترمز إلى المسيح كرئيس كهنة اعترافنا، والذي يؤيد شعبه في حضور الله. إن المغسلة النحاسية، المملوءة بالماء، كانت تقع حيث يدخل الكهنة لخدمة المقدس فيغسلون أقدامهم وأيديهم ليضمنوا الطهارة إذ هم داخلون إلى حضرة الله. المذبح الذهبي كان يرمز إلى خدمة الكاهن السعيدة كعابدٍ يقدم البخور رمزاً لحضور المسيح بكل العطر الحلو الذي يصدر من تضحيته أمام الله.

إن الإصحاح ٢٥ وإلى نهاية الإصحاح ٢٧ من سفر الخروج يقدم لنا التعليمات المتعلقة بالمواد المستخدمة في خيمة الاجتماع والتي ترمز إلى المسيح كرسول اعترافنا، والله الخارج إلى الإنسان بالمسيح، ممتلئاً نعمة ورحمة.

وإن (خروج ٢٨) يخبرنا عن غفارات المجد والبهاء لرئيس الكهنة، وثياب الكهنة.

ويشرح لنا (خروج ٢٩) سيامة وتكريس رئيس الكهنة والكهنة. والآن بما أن لدينا رئيس كهنة وكهنة تتم رسامتهم فإن هذا يكون رمزاً للمسيح كرئيس كهنة اعترافنا. ويخبرنا (خروج ٣٠) عن مذبح البخور الذهبي، والمرحضة النحاسية، وكلاهما يشيران إلى الإنسان الداخل كعابد إلى حضرة الله المقدسة.

ومن هنا نرى مدى الوحي والإلهام الوارد في سرد الكتاب المقدس. فيا لحماقة أولئك الذين يفرضون ضآلة فكر الكائن البشري الذي ينحصر فيما يجب أن يكون أو فيما يجب ألا يكون، بدلاً من السعي المتواضع وراء أفكار ذهن الله. "لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (أشعياء ٥٥: ٩)، كما يقول الرب.

مثال آخر عن الترتيب الإلهي نجده في (خروج ٢٦). إن المهندس المعماري البشري سيسخر من هكذا بنّاء يسعى ليدبّر السقف قبل تشييد الجدران. نعم، هذا هو الترتيب الذي نجده في هذا الإصحاح. فالستائر الأربعة، أو الأغطية، في خيمة الاجتماع يتم وصفها بالتفصيل قبل الحديث عن ألواح المسكن. في الحروب الكبيرة الأخيرة صارت كلمة "يغطي" رائجة. فلمساعدة المشاة والمدرعات على تنفيذ عملياتهم العسكرية الأرضية، تبيّن أنه من الضروري تأمين "غطاء جوي" لهم. وهنا الستائر تشكل أغطية خيمة الاجتماع، وهذا رمز للمسيح في أمجاده الوظيفية المتعددة، في حين أن الألواح تشير إلى المؤمنين الذين يُبنون معاً ليكونوا سكنى الله بالروح. كم سنصيب إذا ما رأينا المسيح غطاءً قبل تشييد الجدران، التي ترمز إلى المؤمنين، لأنه بفضل ما هو عليه، وبفضل ما فعله، يصل المؤمنون إلى مكانتهم أمامه.

تابوت العهد

كان التابوت مصنوعاً من خشب السنط، بطول ذراعين ونصف، وعرض ذراع ونصف، وارتفاع ذراع ونصف. وكان مغشى بالذهب النقي من الداخل والخارج، مع تاج أو تعريقات من الذهب أحاطت به. وفي هذا نجد رمزاً جميلاً للغاية للاهوت وناسوت ربنا يسوع المسيح. إن خشب السنط، أو خشب الأقاقيا في البرية يرمز إلى ناسوت أو بشرية ربنا المبارك، والذهب النقي يرمز إلى لاهوته. وهذا التاج، أو التعريقات المحيطة به، من الذهب، تعلمنا أن غيرة الله تحفظ هذه الحقائق العظيمة المتعلقة بلاهوت وناسوت ربنا.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ" (متى ١١: ٢٧)، هي آية عظيمة، تظهر لمرة واحدة وبشكل مطلق محدودية معرفتنا من هذه الجهة. وإن كل الهرطقات الكبرى تقريباً والتي أدت إلى انشقاق كنيسة الله منذ عهد آريوس وما تلاه قد نشأت عن نظريات تحزّرية ناقصة مغلوطة فيما يخص حقيقة شخص المسيح. أما الطريق السليم الصحيح والمضمون الذي علينا أن نسلك فيه فهو الالتزام والتقيد بكلمات الكتاب المقدس نفسها، وأن نرفض التحزّر في الأسرار غير المعلنة أو المكشوفة. فالآب وحده يعرف الابن؛ ولذلك فإن الطريقة التي يتحد فيها لاهوته وناسوته معاً هي ما وراء أبعاد نظرنا.

"«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ»" (متى ١٦: ١٦). كان هذا اعتراف الرسول بطرس. ونسب ربنا يسوع معرفة بطرس لهذه الحقيقة إلى كشف الآب ذلك له، وأكد على أنه على أساس حقيقة شخص المسيح سوف تُبنى الكنيسة، وأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. رغم أن بطرس عرف الرب، كما جميع المؤمنين، إلا أنه لا يستطيع، لا هو ولا الآخرون، أن يسبروا أغوار أعماق شخصه المبهمة أبداً.
لقد أصاب الشاعر حين أنشد بحكمة:

"إنها ظلمة لفكري،
وشروق لقلبي"

كيف أمكن للإله، الابن، أن يصير إنساناً، ومع ذلك ورغم صيرورته إنساناً، ما انفك عن أن يبقى إلهاً، وشخصاً واحداً غير منقسم، هذا أمرٌ أبعد من فهم الكائن المخلوق بالتأكيد، ولكن الكتاب المقدس يقول لنا هذه الحقيقة. ولدينا أقوال صريحة في ذلك:

"كان الكلمة الله" (يوحنا ١: ١).

"والكلمة صار جسداً" (يوحنا ١: ١٤).

إنه لمن المذهل التأمل بأن ذاك الذي أعيته رحلته، والذي جلس على بئر سوخار، ذاك الشخص الذي غسلت قدميه دموع امرأة تائبة؛ ذاك الشخص الذي، فوق كل ذلك، قد مات عنا على صليب الجلجثة، لم يكن سوى "إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ" (أشعياء ٩: ٦). وقد "صُلِبَ مِنْ ضُعْفٍ" (٢ كورنثوس ١٣: ٤)، ومع ذلك وفي نفس تلك اللحظة عينها فهو "حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عبرانيين ١: ٣). قد نعجز عن فهم ذلك، ولكن يمكننا أن نعبده، ذاك الذي هو "عِمَّانُوئِيلَ» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا)" (متى ١: ٢٣).

من الكتاب المقدس نفسه ندرك أن ألوهية يسوع قد حُفظت. فهو الابن الأبدي لله الواحد المثلث الأقانيم: الآب، الابن، والروح القدس المباركين إلى الأبد. لقد قال بأنه مساوٍ للآب. وتعبّد له تلاميذه بكل ثقة ويقين. وأعلنت قدرته الكلية ألوهيته (أو لاهوته).
عندما أيقظ التلاميذ المرتعدون معلمهم الذي كان نائماً في القسم الخلفي من السفينة التي راحت الأمواج تتقاذفها في العاصفة في البحيرة، وصرخوا قائلين: "يا معلم، يا معلم، إننا نغرق"، قام وانتهر الريح وتموّج الماء، وصار هدوء عظيم. وبذهول يفوق الوصف، هتف التلاميذ قائلين: "«مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ أَيْضاً وَالْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!»" (لوقا ٨: ٢٥)، وكأنهم بذلك يقولون أن هذه قوةًٌ تفوق الإنسان، وكانوا مصيبين في ذلك.

إن قوته، حتى في إقامته للميت، كانت تعلن عن ألوهيته. ولكن قد يقول أحدهم: ألم يُقِم الرسول بطرس طابيثا إلى الحياة من جديد؟ والجواب هو أن خدام الرب لم يكونوا يقيمون الموتى بقوتهم الذاتية بل باسم الرب، في حين أن الرب قد أقام الموتى بقوة كلمته. فلم يلجأ إلى اسم أي كان كما فعل تلاميذه. فقد قال للشاب ابن نائين، وقد حُمِل في موكب جنازته: "«أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ»" (لوقا ٧: ١٤). فقد كان ربنا هو "اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (١ تيموثاوس ٣: ١٦). لقد صار إنساناً حقيقياً، تبارك اسمه، وكفّر عن الخطيئة على صليب الجلجثة. الإله والإنسان – المسيح الواحد، الشخص الممجد – يُقدّم لنا لكي نؤمن به ونتبعه.

الخواتم والعصي

كان هناك أربعة خواتم من الذهب، واحدٌ في كل زاوية من التابوت. خلال هذه، كانت قد وُضعت عصي من خشب السنط المغشاة، بالذهب، وهذه كانت لأجل نقل تابوت العهد من مكان إلى آخر. وما كانت العصي تُسحب إلى أن يصل التابوت إلى مقره الأخير في هيكل الأرض التي سيستقرون فيها. وبهذا أراد الله أن يعلمنا أننا لا نزال نعيش في البرية.

ما كان يُسمح إلا للكهنة بحمل تابوت العهد، وبذلك يظهرون أن المؤمنين الحقيقيين هم فقط ذوي الفكر الصحيح عن المسيح. مما يؤسف له أن الإنسان يصنع لنفسه عربة جديدة من اللاهوت البشري. وتسعى نظريات النقد النصي للكتاب المقدس أن تثبت ما هو جلي واضح بالنسبة لهم ظاهرياً، بدون صحة، وهذه آيلة للسقوط، ولن ينجم عنها إلا انهيارها بالذات.

عندما كان أحد هؤلاء المنظّرين المعاصرين المسيئين إلى فكرة التوحيد يطرح تصوره عن المسيح على أنه المثال الأعلى العظيم للجنس البشري، سُمع صوت صرخة من أطراف الحشد يرتفع قائلاً: "أقول لك، يا سيد، أن حبلك ليس طويلاً كفاية ليصل إلى خاطئة مثلي". وكم يصح القول بأنه "عندما يرتفع صوت نقاد نص الكتاب المقدس، وتسكت كل صرخات الاعتراض، فإن أسفار الكتاب المقدس البالغة ستة وستين سوف تنهض وتصرخ في اتفاقٍ قائلة: ((أيها السادة، لا تتعبوا أنفسهم فإننا جميعاً ها هنا))".

إن الأفكار الصحيحة عن المسيح أمر أساسي للمسيحية. لنكن واضحين صافين كالبلور بما يخص هذا الموضوع. فلا يمكننا أن نخطئ في هذا الاتجاه: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ" (يوحنا ٣: ١٨).

العهد (الشهادة)

إن العهد، ألا وهو لوحا الحجارة اللذان كتبت عليهما الوصايا العشر بإصبع الله، كان موضوعاً في التابوت، الذي كان موسى قد أُمِرَ بصنعه. وكان هذا رمز إلى أي درجة كان ربنا كاملاً في حفظه للناموس. "هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ" (عبرانيين ١٠: ٧).

يؤمن البعض بالفكرة غير الصحيحة بأن حفظ المسيح الكامل للناموس كفّر عن نقص تطبيقهم له. ويعتقدون أن هذا يدخل في صالحهم بفضل المسيح، وأنهم بذلك متبررون. صحيح أنه لو لم يحفظ الرب الناموس على نحو كامل، لما كان صار مخلصاً لنا، لأنه كانت هناك حاجة إلى ذبيحة لا عيب فيها وليس للموت مطالبة بأن يأخذ مكان الخاطئ ومكانته. ضرورة هذا الأمر، أي موت ربنا الكفاري، وليس حياته الخالية من العيب، تظهر لنا بشكل واضح من خلال الآيات التالية: "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ" (عبرانيين ٩: ٢٢). "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يوحنا ٣: ١٤).

إن العبارة "تابوت العهد" قد حرّفه البعض ليصبح بمعنى حصري بأنه شهادة مجموعة من المؤمنين، الذين يقرّون بأن يبقوا مخلصين للحق وسط بيئة جحود عامة. ومن هنا نلاحظ استخدام العبارة الدالة على الجهل والتعجرف التي تقول "إن تابوت العهد هو معنا". إن تابوت العهد يرمز للمسيح، ولا يمكن لأي مجموعة من المؤمنين أن تلائمه بشكل تجعله ملكية حصرية لهم، تماماً كما أنه ما من بلد في العالم يستطيع الادعاء أن الشمس ملكية خاصة حصرية له، لأن الشمس تسير عبر السماء إلى كل الدنيا. إن أسوأ شكل من أشكال الهرطقة التي ظهرت في الكنيسة الأولى يمكن أن نجدها في قولٍ مثل: "أنا للمسيح" (١ كورنثوس ١: ١٢)، مدّعين أن المسيح هو لطرف معين، وأن اسمه وحضوره في وسطهم هو علامة مميزة تميزهم عن باقي المسيحيين.

كرسي الرحمة

كان كرسي الرحمة عبارة عن لوحة من الذهب النقي، وقد نُضِحَ بدم ذبيحة الخطية في يوم الكفارة العظيم، وهذا كان يوضع أعلى التابوت. ففي ذلك اليوم فقط، رئيس الكهنة وحده يستطيع الدخول إلى قدس الأقداس كي يرش الدم لمرة واحدة في العام على كرسي الرحمة نحو الشرق، وسبع مرات قبل ذلك. إن الذهب كان يرمز إلى البر الإلهي. ولولا تحقيق مطاليب البر الإلهي لما أمكن تدفق النعمة الله على الإنسان الأثيم. إن دم تقدمة التكفير عن الخطيئة كان رمزاً لدم المسيح الزكي. وإذ كان الذهب يفترض تحقيق مطلب البر، فإن الدم كان يحقق ذلك المطلب، وهكذا يصبح كرسي الرحمة.

هل نجد فكرة كرسي الرحمة في العهد الجديد؟ نعم، إذ نقرأ: "وَفَوْقَهُ كَرُوبَا الْمَجْدِ مُظَلِّلَيْنِ الْغِطَاءَ" (عبرانيين ٩: ٥). فالمسيح "الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ" (رومية ٣: ٢٥) "َهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٢: ٢). إذ "أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ" (١ يوحنا ٤: ١٠). وبالتالي، فالعهد الجديد يُظهر لنا بوضوح أن كرسي الرحمة والكفّارة هما كلمتان مترادفتان. وفي هذا يلتقي العهد القديم مع العهد الجديد.

الكروبين

الكروبين، وهما ملائكة، وكانا رسل الله للدينونة. لقد كان الكروبين سيفاً ملتهب يمنع جدينا الأولين الخاطئين الساقطين من الوصول إلى شجرة الحياة لئلا يأكلا من ثمارها ويعيشان إلى الأبد. لقد كانت تمثل دينونة الله العادلة: "الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ" (المزمور ٨٩: ١٤).

تم وضع كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، جُعِلا في قطعةٍ واحدةٍ، بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا فَوْقَ الْغِطَاءِ، وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ الْوَاحِدِ إِلَى الآخَرِ، ونَحْوَ الْغِطَاءِ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ، هذين قد تم وضعهما فوق عرش الرحمة بحيث يستقران على التابوت.

إن ِأَجْنِحَتِهِمَا المنبسطة كانت ترمز إلى الاستعداد الدائم لتنفيذ القضاء، بل بالحري الضرورة المطلقة لإحقاق بر الله عندما يحدث تعدٍّ لنواميسه. إن محلة إسرائيل كانت تحوي خُطاةً كثر تقتضي الكثير من العمل الواجب القيام به على أكمل وجه والذي كانا يمثلانه. ومع ذلك فقد كانا مستقرين هناك يرقبان عرش الرحمة المرشوش بالدم، والذي كان يشير إلى أن دعوى الله قد تم إرضاؤها وأن عدالته قد تحققت.

علينا أن نتذكر، بالطبع، أن الرموز بحد ذاتها لم تكن لترضي مطاليب الله، بل المرموز إليه هو من كان يحقق ذلك. علينا أن ننظر إلى ما وراء الرموز، إلى المرموز إليه العظيم، ومن ذلك نجد أن المسيح وعمله الكفاري، هو الجواب الوحيد على كل ذلك. وهنا نفهم المعنى وراء الآية التي تقول: "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (المزمور ٨٥: ١٠).

ثلاثة أشياء كانت في تابوت العهد

من الآية (عبرانيين ٩: ٤) ندرك أنه كانت هناك ثلاثة أشياء في تابوت العهد: "فِيهِ وعاء مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ، وَعَصَا هَارُونَ الَّتِي أَفْرَخَتْ، وَلَوْحَا الْعَهْدِ".

الوعاء الذهبي الذي يحوي المنّ

إن الوعاء الذهبي الذي كان يحوي المنّ كان تذكاراً على مؤازرة الله لشعبه في البرية. فلأربعين سنة كان هذا الشعب العظيم الإيمان يؤازره الله في مكان يخلو من أسباب الحياة المادية الأرضية. لقد كان الله كفواً لهم. ففي كل صباح كان المنّ يسقط. وكان يُدعى "طعام الملائكة". في مظهره، كان المن صغير الحجم ومكوراً، مثل حبة جليد متجمدة على وجه الأرض. وكانت بيضاء اللون ولها مذاق العسل.

إن (المنّ) كلمة عبرية صرفة. فماذا كانت تعني؟ لم يستطع بنو إسرائيل أن يطلقوا عليها اسماً. لقد كانت تسقط من السماء بطريقة عجائبية، وكانت خارج نطاق خبرة البشر في أصلها.

لقد كانت ثمار المنّ صغيرة، رمزاً للمسيح، الذي كانت ظروفه الأرضية متواضعة وبسيطة. فلم يأتِ مصحوباً بموكب ملوكي، ولا مع صوت بوق الفاتحين، بل في هيئة متواضعة. وعليه كان يصح القول: "«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»" (متى ٨: ٢٠). لقد كان فراش موته صليب العار. ووُضع في قبر مستعار. هل كان أبداً من استئناف كهذا؟

كان المنّ مستديراً مكوراً، رمزاً لسهولة الوصول إلى المسيح. فالشكل المستدير – خلافاً للمربع، أو المستطيل، أو البيضوي – يكون المركز فيه قريباً منك أنما حاولت أن تلمس محيط الدائرة. الشكل المستدير يدل على مدى سهولة أن يصل إلى ربنا الشبان والشيوخ، الأغنياء والفقراء، المؤمنون والملحدون.. ونعلم عن المرأة التي كانت خاطئة، مريم المجدلية، التي خرج منها سبعة شياطين، واللص المحتضر، والأطفال الذين أراد التلاميذ أن يصرفوهم – فهؤلاء كلهم على حد سواء كان في مقدورهم الوصول إلى الرب ونيل البركة منه.

كان المنّ مثل بذرة الكزبرة وبيضاء اللون، رمزاً لحياة ربنا النقية واللطيفة المحببة. وكان مذاقه مثل رقائق مصنوعة من العسل، رمزاً للحلاوة التي كانت في المسيح. "تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي" (نشيد الإنشاد ٢: ٣).
كان يجب التقاطه في الصباح، وهذا دلالة على ضرورة أن تكون هناك حاجة وسعي، بقدرة إلهية، للوصول إلى المسيح. وإضافة إلى ذلك، فإن ما كان يتم جمعه في اليوم كان يجب أكله كله دون ترك فائض منه. فإن بقي منه لليوم التالي، كان ينتن ويصير للدود طعاماً، وهذا درس مفيد بضرورة أن تكون هناك شركة حاضرة.

وعلى كل حال، لقد تم تدبير الأمر بحيث يجمعوا في اليوم السادس حصة مضاعفة من المنّ لتأمين حاجتهم ليوم السبت الذي ما كان ليُسمح لهم بالعمل فيه.

إن أولئك، الذين يحاولون أن "يروجوا للحقيقة غير المدركة" اعتماداً على الذاكرة والمعرفة، فيتعاملون مع الأمور الإلهية بطريقة فكرية وحسب، سيجدون أن هذا إنما يقود إلى التعفن.

لقد أراد الله أن يجعل من الوعاء الذهبي الذي يحوي المنّ تذكاراً عن كيف سدّ حاجات شعبه في البرية. إن الله لا يريدنا أن ننسى نعمته وتدبيره في البرية أو حتى في الظروف المؤاتية.

عصا هارون التي أينعت

لقد كان لعصا هارون التي أينعت مغزى استثنائياً حقاً. فقد تمرد فُوْرَح، اللاوي، وداثان وأبيرام، أبناء رأوبين، على موسى، وبالحري ضد الله. فاتهموا موسى وهارون بالاستئثار بخدمة الكهنوت لأنفسهما. وقالوا أن الجميع سواسية مؤهلون للمشاركة في ذلك. في الواقع كان هذا هجوماً بدعوى الديموقراطية الدينية، ولم يكن يدل على احترام لقدسية مسكن الله، أو بحق الله بأن يرتب الأشياء ونظام الخدمة في مسكنه. إن قولهم بأهلية الإنسان للإلهيات هو ادعاء وتجديفٌ أيضاً.

إذا قرأتم (سفر العدد ١٦ و ١٧)، سوف تجدون تفاصيل تعليمات هذا الحادث الشيق. يكفي أن نقول الآن ولهدفنا الراهن أنه عند امتحان الله لهم، وإنزال الله دينونة رهيبة على المتمردين، فإنه أقام امتحاناً أبعد ليظهر ما في فكره من ناحية الكهنوت. لقد تم اختيار اثنتا عشر عصا ووضع اسم قبيلة على كل عصا منها، ووضع اسم هارون على عصا سبط لاوي.

مخطط يبين خيمة الاجتماع ومكان تخييم كل سبط


General View of the Tabernacle
الشكل العام لخيمة الاجتماع

هذه العصي كانت عبارة عن عصي يابسة. إذا وَضَعْتَ طُعماً حياً في التراب، فإن التربة سوف تبعث الحياة في هذا الطعم، وسيأخذ بالتالي جذراً وينمو ويحمل ثمراً. وإذا وضعت عصاً يابسة في الأرض، فإن التربة تبلي العصا وحسب. فالطعم الحي سوف يأتي "حياة إلى حياة"، أما العصا الميتة فستجلب "موتاً إلى موت".

هذه العصي الميتة توجّب وضعها أمام الرب في خيمة الاجتماع، وحدثت معجزة في الصباح. فقد بقيت إحدى عشرة عصاً يابسة، أما عصا هارون، التي كانت يابسة مثل الأخريات، "فقَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخاً وَأَزْهَرَتْ زَهْراً وَأَنْضَجَتْ لوْزاً".

كانت المعجزة مذهلة. إلامَ كانت ترمز؟ لقد كانت تشير إلى حياة أزهرت من موت. بهذه الطريقة أراد الله أن يشير إلى أن الكهنوت يجب أن يكون حصرياً في هارون وأولاده. ومن هذا نتعلم درساً رائعاً وأساسياً وهو أن "المسيحية قد قامت على أساس القيامة". إن قيامة المسيح هي الشهادة على الانتصار على الموت، وعلى قبول الله الكامل لعمله الكفاري المنجز الذي تم على صليب الجلجثة.

هناك لوحة رائعة تُسمى "الموت بوابة الحياة". وهذه هي تماماً المسيحية. إلا أن موت المسيح، موته المنتصر، الذي يحقق كل مطاليب عرش الله، قد فتح عالماً جديداً أمام المؤمن، ألا وهو مشهد قيامة الحياة والفرح والعبادة.

لقد تأسس كهنوت المسيح على موته وقيامته. إن كهنوته يحفظ شعبه في البرية إلى أن يصلوا إلى كنعان السماوية مع المسيح، رئيس كهنة اعترافنا. ولكن تذكروا أن كل المؤمنين في المسيحية هم كهنة. يا له من امتياز رائع، وكم هم قلائل أولئك الذين يتولون القيام بأعبائه.

لوحا العهد

عندما وُضِعَ التابوت في مكانه في هيكل سليمان، نقرأ: "لَمْ يَكُنْ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ اللَّوْحَانِ اللَّذَانِ وَضَعَهُمَا مُوسَى فِي حُورِيبَ حِينَ عَاهَدَ الرَّبُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ" (أخبار الأيام الثانية ٥: ١٠). ويعدّد كاتب الرسالة إلى العبرانيين ثلاثة أشياء: وعاء المنّ الذهبي، وعصا هارون التي أينعت، ولوحا العهد، ومن الواضح أنه يشير إلى زمان مختلف.

لوحا العهد اللذان وُضعا في التابوت كان يرمزان إلى ربنا في حفظه للناموس بفكره، وكلامه، وأفعاله. فهو "لم يفعل خطيئة" (١ بطرس ٢: ٢٢)، و"ليس فيه خطيئة" (١ يوحنا ٣: ٥)، وهو "لم يعرف خطيئة" (٢ كورنثوس ٥: ٢١)، هذه شهادة مثلثة يقدمها الرسل بطرس، ويوحنا، وبولس.