الفصل ٢٥

ملكي صادق، رمز المسيح ككاهن وملك على عرشه

(اقرأ تكوين ١٤: ١٧- ٢٤؛ المزمور ١١٠؛ عبرانيين ٧)

ارتأينا أن نضيف هذا الفصل، لأن هناك ارتباط بين ربنا ككاهن على رتبة ملكي صادق، وحمله كهنوته على رتبة هارون، كما توضح لنا الرسالة إلى العبرانيين.

ظهر جدلٌ كثير حول هذه الشخصية الغامضة، ملكي صادق. يعتقد البعض أنه كان المسيح نفسه، ولكن هذا لا يُعقل، لأنه كان "مشبّهاً بابن الله". والبعض يعتبره إنساناً حقيقياً يشير تاريخه رمزياً إلى ربنا. وآخرون يعتقدون أنه كان مخلوقاً خاصاً من الله، ولكن هذا لا يمكن أن يكون، لأن مخلوقات الله الخاصة يجب أن يكون لها بداية في الزمان. ويعتقد البعض الآخر أنه كان رجلاً، وُلِدَ وعاش ومات، ولكن دون أن يكون هناك تسجيل لولادته أو موته، ونحن نؤيد هذا الرأي.

إن أفضل طريق هي أن نتمحص في نصوص الكتاب المقدس التي تدور حول هذا الموضوع، نترك لهذه النصوص أن تحكي عن ذاتها.

في (تكوين ١٤) نقرأ أن أربعة ملوك شنوا حرباً على خمسة ملوك من جيرانهم قرب البحر الميت. هؤلاء الملوك الأربعة انتصروا على الخمسة، ومع أخذهم لأملاك سدوم وعمورة أسروا لوطاً، ابن أخي أبرام، الذي كان يعيش في سدوم، واستولوا على أملاكه، ومضوا. فَلَمَّا سَمِعَ أبْرَامُ هذا الخبر، تصرف في الحال، فسَلّحَ غِلْمَانَهُ الْمُتَمَرِّنِينَ وِلْدَانَ بَيْتِهِ، وتبع الملوك إلى دان في أقصى شمال البلاد، وَانْقَسَمَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً، وَاسْتَرْجَعَ لُوطاً أخَاهُ أيْضاً وَأمْلاكَهُ وَالنِّسَاءَ أيْضاً وَالشَّعْبَ.

ولدى رجوعه التقاه َمَلْكِي صَادِقُ وأخْرَجَ خُبْزاً وَخَمْراً، وباركه قائلاً: "«مُبَارَكٌ أبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أسْلَمَ أعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ»" (تكوين ١٤: ١٩، ٢٠). هكذا ظهر ملكي صادق في المشهد بشكل مفاجيء وغامض. ويخبرنا الأصحاح ٧ من الرسالة إلى العبرانيين ثلاثة أشياء عنه: كان اسمه ملك البرّ، وكان ملك سَالِيمَ، الذي يعني ملك السلام، وفوق ذلك كان كاهناً لله العلي. لقد كان ملكاً وكاهناً. تأملوا في هذه الوظيفة المزدوجة.

أعطاه أبرام عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وكان هذا ما يعادل البيعة يدفعها تابع لملكه. والأعشار تعني أن الشخص المُعطى له الحق في الكل، ولكنه كرماً منه وتعطفاً يرضى بما نعطيه إياه. الملك داود، في أيامه، هتف شاكراً من أعماق قلبه قائلاً: "لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ!" (أخبار الأيام الأول ٢٩: ١٤).  إن كل شيء يأتي من الله مئة بالمئة، حتى ولو أعطيناه العُشر.

بهذا يظهر ملكي صادق شخصاً رائعاً إذ يقدم له أبرام بيعةً. لقد أعطى أبرامَ خبزاً وخمراً. ولعل هذا يشير إلى ربنا عندما سيعنى بشعب إسرائيل في الأيام الأخيرة. إن هذه الحرب التي يرد ذكرها والتي قامت بين أربعة ملوك ضد خمسة ملوك آخرين هي رمز إلى تلك المعركة التي ستقوم فيها أمة على أمة في الأيام الأخيرة وعندها سيتدخل الرب، مثل أبرام، ليخلص الشعب الذي حافظ على الإيمان، وسيوزّع خبزاً وخمراً لهم وللعالم. وسيكون هناك عالمٌ جديد، ولكن هذا لن يحدث إلى أن يأتي أمير السلام ليحكم العالم، ويصبح ملك سلام حقيقياً. إن الخبز يرمز إلى القوت، والخمر يرمز إلى الفرح. والقوت والخمر في ظل هكذا ملك سيعني الألفية.

لقد رفض اليهودُ المسيحَ الذي كانوا ينتظرونه. لم يدركوا أن الذي نبذوه لم يكن سوى المسيا. وها هو قد دخل إلى قدس الأقداس، وإلى أن يخرج، سيتوجب عليهم انتظاره لينالوا منه بركة. عندما سيظهر سيكون مثل ملكي صادق. يا لذاك اليوم الذي سيظهر فيه المسيح للعالم البائس الملطخ بالإثم، الغارق في لجة الحزن والخطيئة.

ويخبرنا بولس الرسول في الأصحاح السابع من رسالته إلى العبرانيين أن المسيح ما كان ليكون كاهناً على رتبة هارون، لأن تلك الرتبة قد ذهبت إلى سبط لاوي، بينما انحدر ربنا من سبط يهوذا. ولكن أوليس ربنا كاهناً؟ بلى، إنه كاهنٌ على رتبة ملكي صادق. فقد جاء ملكاً من نسل داود الملك، وهو يمثل الشعب ككاهن. الرب يسوع هو كاهن وملك متربعٌ على عرشه.

ثم يجادل الرسول بولس قائلاً أن ملكي صادق كان أعظم من لاوي. لأن أبرام عندما أعطى العشر، كان لاوي لا يزال في صلب أبيه، كما يقول الكتاب المقدس. وإن تلقي ملكي صادق هذه البيعة من أبرام، يدل على لأن أبرام يعترف بعظمته، وبالتالي فإن لاوي، ذريته، يتوجب عليه أن يقدم بيعة مشابهة.

إضافةً إلى ذلك، لم يكن الكمال موجوداً في الكهنوت اللاوي، فرئيس كهنتهم "قد صَارَ بِحَسَبِ نَامُوسِ وَصِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ" ولذلك كان لا بد من تغيير الكهنوت، فعَلَى شِبْهِ مَلْكِي صَادِقَ يَقُومُ كَاهِنٌ آخَرُ، وذاك يصيرُ "بِحَسَبِ قُوَّةِ حَيَاةٍ لاَ تَزُولُ" (عبرانيين ٧: ١٦).

لاحظ أنه ليس هناك رئيس كهنة في رتبة ملكي صادق، لأنه كان هناك كاهن واحد فقط في ذلك النظام الكهنوتي. إن شخصية ملكي صادق الغامضة تظهر فجأة في (تكوين ١٤) إلى المشهد، بسرعة دون أن يلحظه أحد، إذ ليس هناك تسجيل لميلاده أو لموته. ولذلك يجد المرموز له في شخص ابن الله المبارك، ربنا يسوع المسيح. وباختصار يعادل وصف ملكي صادق في (تكوين ١٤)، نجد أنه كان الرمز الأكثر بروزاً لربنا يسوع على كل العصور. وفي (عبرانيين ٧) نجد تفاصيل عن كل ما جاء في (تكوين ١٤).

فأولاً، لقد كان كاهن الله العلي. وهذا لقب لربنا في الألفية، ويشير إلى الزمان الذي سيأخذ فيه مكانه اللائق به ككاهن وملك على عرشه مع شعب إسرائيل، وسيغطي عرشه وكهنوته العالم بأسره، "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ؟" (رومية ١١: ١٥). "«حِينَ قَسَمَ العَلِيُّ لِلأُمَمِ حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ نَصَبَ تُخُوماً لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيل" (تثنية ٣٢: ٨). "وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ وَحْدَكَ الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ" (مزمور ٨٣: ١٨). عندما يأخذ الرب مكانه عَلَى كُلِّ الأَرْضِ، فهذا يعني الألفية.

يأتي هذا الاستنتاج من التمعن في الاسم، ملكي صادق، الذي يعني "ملك البر"، وفي لقبه "ملك ساليم" الذي يعني  "ملك السلام". هذا رابط كبير بينهما، وسنراه في الشخص المرموز إليه، ألا وهو ربنا يسوع المسيح، في المستقبل وبكامل معناه. هذا العالم هو في حاجة ماسة إلى البر والسلام. لو أن كل مشكلة قد حُلّت بالبر والعدل والسلام، فكم ليكون جميلاً هذا العالم، عالمٌ لطالما حلم الشعراء به، وتغنوا به، وسعى الساسةُ إليه، ولكن حتى الآن أخفقوا في تحقيقه، لأن الشخص الرئيسي، وهو المسيح، قد أُبْقِيَ خارجاً. ما نفع الإطار والبرمق في العجلة إذا بقي المحور خارجاً. لا يمكن أن تكون هناك عجلة بدون محور، ولا يمكن أن يكون هناك "عالم جديد" بدون المسيح. لا يمكن أن يكون هناك دائرة بدون مركز.

ونأتي الآن إلى أساس هذه العناوين. كيف يمكن تحقيق البر بدون سلام؟ فهذا مستحيل عند الرب. الحمد لله، فقد قام يسوع بتسوية كل مسألة الخطيئة بحق وبعدل على صليب الجلجثة عندما جُعل كفارة عن الخطية. والآن يمكن إعلان السلام، وإذ يشترك المؤمنون جميعاً في هذا البر والسلام، فسيحل هذان كلاهما في هذه الأرض الحزينة يوماً، وسيعم الفرح والسرور.

"سوف يلقي بسمة على الخليقة كلها،
ويمسح دمعة الحزن عنهم"

والآن ننتقل إلى القول التالي البالغ الأهمية. إذ يقول بولس عن ملكي صادق أنه "بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هَذَا يَبْقَى كَاهِناً إِلَى الأَبَدِ" (عبرانيين ٧: ٣).

لقد كان آدم بدون أب وأم، وبدون سلف، ولكن كان له بداية في الزمان ونهاية في الحياة، وإذاً كان له سجل حياتي. ولم يكن الكهنة يستطيعون ادعاء الحق في الكهنوت على رتبة هارون ما لم يثبتوا أن هارون كان سلفاً لهم، وما لم يثبتوا أن والدهم ووالدتهم هما أيضاً من نسل هارون. وإذا أخذنا الأمر بالمعنى الحرفي، يمكن أن نشير إلى المسيح في ناسوته، فكإنسان كان له أم، وكانت له بداية في الزمان وكان لحياته نهاية. ولذلك يشار إلى ربنا كابن لله، وبمعنى آخر الابن السرمدي. ما كان يمكن أن نقول، إلا عن ذاك الشخص ذي اللاهوت، بأنه ليس له بداية أو نهاية لحياته. وهذا يشترط الألوهية التي لابد منها لقول ذلك. ليس لدينا شك في ذلك، ولكن ملكي صادق قد وُلِد، وعاش، ومات، ومن الواضح أنه كان له خط زمني خلال تاريخ العالم رغم أننا لا نجد في الكتاب المقدس سجلاً له. كل ما نعرف عنه أنه كان موجوداً وحسب. وهذه أعظم شهادة تُعطى له وهي أنه عاش.

ويقول الكتاب عنه "هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ". وإذاً ابن الله كان موجوداً قبل أن يُجعل ملكي صادق على شبهه. إن هذا برهان كبير على أن الابن سرمدي في وحدة الله المثلث الأقانيم - الآب، والابن، والروح القدس - الإله الواحد. ورغم أن هذه الحقيقة غامضة ولكنها سرٌّ مبارك يملأ قلب المؤمن بروح العبادة والخشية.

إن ربنا يسلك في الوقت الحاضر بوظائفه الهارونية لأجل شعبه، وفي هذا يكون هارون رمزاً له كما رأينا مراراً وتكراراً في الفصول السابقة. ولكن سيأتي يوم على شعب إسرائيل والعالم عندما سيخرج على رتبة ملكي صادق وهو سيكون ملكي صادق الوحيد الأوحد الذي سيبارك الشعب والعالم برمته. وهذا اليوم لن يكون بعيداً.

إن زكريا يقدم نبوءة قوية عن الرب يسوع، فيقول: "هُوَذَا الرَّجُلُ [الْغُصْنُ] اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ. فَهُوَ يَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَلاَلَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ وَتَكُونُ مَشُورَةُ السَّلاَمِ بَيْنَهُمَا كِلَيْهِمَا" (زكريا ٦: ١٢، ١٣).

نلاحظ إذاً أن الرب سيكون: —

ملكاً على عرشه.

كاهناً على عرشه.

الملكية والكهنوت سيجتمعان في شخص واحد مبارك. بالطبع كان لابد لربنا أن يتأنس كي يموت موتاً تعويضياً كفارياً على صليب الجلجثة. ولكن في النهاية سيبتهج العالم بمجيء ابن الله السرمدي على رتبة ملكي صادق، كاهناً وملكاً، منبئاً بالسلام والوفرة والفرح، جالباً معه الخبز والخمر، الخبز للقوت والخمر للفرح. ثم يكون العالم الحقيقي الجديد.