الفصل ١٤

مذبح البخور الذهبي والمرحضة النحاسية

(اقرأ خروج ٣٠: ١ – ١٠؛ ١٧ - ٢١)

كما رأينا لتونا، إن وصف مذبح البخور الذهبي والمرحضة النحاسية قد تُرك عمداً إلى أن تم تكريس الكهنة الذين لهم وحدهم امتياز استخدامها، لأن لهما صلة بعمل الكهنة، ودخولهم لخدمة المقدس.

لقد رأينا كيف أن الله يخرج في المسيح كرسول اعترافنا. والآن سنرى كيف دخل المسيح ككاهن اعترافنا العظيم، وهو يقود خاصته إلى حضرة الله للعبادة.

إن الذهب النقي، الذي رأيناه في المذبح الذهبي، يرد ذكره قبل النحاس الذي في المرحضة. فالمذبح يأتي قبل المرحضة، أي الداخل قبل الخارج، وهذه هي طريقة الله أبداً. والسبب واضح في ذلك.

المذبح الذهبي يعطينا مكانة العابد

والمرحضة النحاسية تعطينا حالة العابد.

إن المكانة تأتي قبل الحالة، لأن المكانة تأتينا مما يخرج من المرحضة النحاسية، ومعنى الدم عند كرسي الرحمة، الموت الكفاري لربنا يسوع المسيح. إن البر (الدم) قد ضمن المكانة لنا، والقداسة (الماء) هي الشرط الضروري للتمتع بتلك المكانة. ومن هنا كانت المرحضة. دعونا لا نخلط بين المكانة والحالة. لأننا إن خلطنا بينهما فإننا نظلم الروح، لأن هذا هو سبب الشكوك والمخاوف.

مذبح البخور الذهبي

إن المواد التي صنعت منها هذه، أي خشب السنط المغشى بالذهب النقي، تدل كما رأينا سابقاً إلى الناسوت الحقيقي وفائق لاهوت ربنا يسوع المسيح. وإن الخواتم والعصي تذكرنا أننا لا نزال في البرية، ولم نصل بعد إلى كنعان السماوية.

لقد كان موقع مذبح البخور "قُدَّامَ الْحِجَابِ الَّذِي أمَامَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ. قُدَّامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ حَيْثُ أجْتَمِعُ بِكَ" (خروج ٣٠: ٦). إن الحجاب لا يزال قائماً بالرمز، وبالنسبة للمرموز فإن الحجاب ممزّق، والآن هناك مقدس واحد – كلها لها الآن صفة قدس الأقداس.

على المذبح الذهبي كان على هارون أن يوقد البخور كل صباح ومساء، رمزاً لتكريس رئيس كهنتنا، وإظهاراً لشذى المسيح وما فعله رافعاً شعبه في حضور الله. ولذلك نقرأ: "فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عبرانيين ١٠: ١٩- ٢٢).

ثم أنه ما كان ليُسمح بتقديم بخور غريب على المذبح الذهبي. وما كان أحدٌ، إلا رئيس الكهنة، مؤهلاً لتقديم البخور على المذبح. لقد َأخَذَ ابْنَا هَارُونَ نَادَابُ وَأبِيهُو كُلٌّ مِنْهُمَا مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلا فِيهِمَا نَاراً وَوَضَعَا عَلَيْهَا بَخُوراً وَقَرَّبَا أمَامَ الرَّبِّ نَاراً غَرِيبَةً لَمْ يَأمُرْهُمَا بِهَا، فدفعا حياتهما قصاصاً لهما على ذلك. "فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأكَلَتْهُمَا فَمَاتَا أمَامَ الرَّبِّ" (لاويين ١٠: ٢). وحدهم المؤمنون في الشركة يحق لهم الدخول إلى حضرة الرب، وذلك إنما بفضل تكرس ربنا لأجلهم، مؤيداً لهم في ذلك المكان الرائع، ألا وهو في حضرة الله. فما كان لذبيحة محرقة، ولا لتقدمة لحم، أو تقدمة شراب أن تتم عند مذبح البخور الذهبي. فهذه كانت تُقدم على المذبح النحاسي، مكان التكفير، بينما كان مذبح البخور الذهبي مكاناً للمتعبدين، وقد حفظهم الرب يسوع هناك لكونه مكرساً لأجلهم.

هنا نجد أن كلمة محددة بعينها مستخدمة بمعنى "يحترق" (وفي العبرية Alah ) ترد مرتين في الكتاب المقدس مرتبطة بالسُّرُج المشتعلة أمام مذبح البخور الذهبي. وهي تحمل مغزى "التعيد".

المرحضة النحاسية

لقد كانت المرحضة مصنوعة من النحاس، وتحوي ماءً فقط، حيث كان يمكن للكهنة أن يطهروا أيديهم وأقدامهم من النجاسة قبل أن يدخلوا إلى حضرة الله في المقدس.

ولا يذكر حجم وأبعاد المرحضة، إذ أنه ليس هناك حدود للقداسة التي يريد الله من شعبه أن يبديها. "«كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ»" (١ بطرس ١: ١٦). هي المعيار الذي وضعه الله.

كان على الكهنة، إذ يغتسلون كلياً طقسياً، أن يحافظوا على الطهارة عملياً ويومياً. وكانت المرحضة هي لهذا الهدف.

إن غسل الأيدي والأرجل في المرحضة النحاسية تدل على أن النجاسة، الناجمة عن العبور في هذا العالم الشرير، تتطلب التطهير. إنها ليست مسألة خطيئة فعلية ذات طبيعة مميتة، تتطلب وجود ربنا في وظيفته كمحامٍ يدافع عنا لدى الآب. فمثلاً، قد يكون المؤمن موظفاً في مكان تسود فيه الميوعة والخلاعة والحلف، وهذه قد تؤثر على المؤمن فتدخل في أسلوب حياته وحديثه وسلوكه رغم أنه يرفضها بالروح. فيذهب إلى اجتماع، وفي ذلك الجو، أو من خلال تأمل شخصي، تتحرر ذاكرته من هذه الآثار الملوثة، ويتحرر المؤمن بالروح لكي يمتلئ بأمور الرب. وهذا ما يُقصد به رمزياً بالمرحضة النحاسية. وقد نجد مسيحياً أُثقل فكره بأمور العمل، التي تكون سليمة صحيحة لا مشكلة فيها. إلا أنه يحتاج إلى أن يغسل قدميه، كما فعل الرب لتلاميذه أو كما يفعل أحد من خاصته، فيحرر فكر هذا المسيحي لكي يمتلئ بأمور الرب. تذكروا أن الغسل هو بالماء، وهذا دلالة على أنه مرتبط بالوضع الأخلاقي للنفس أمام الرب.

في العهد القديم كانت تُغسل الأيدي والأقدام؛ أما في العهد الجديد فالقدمين فقط. لماذا هذا الاختلاف؟ الجواب على ذلك بسيط. كانت أيدي الكهنة اليهود ملطخة بدم الذبائح ومن هنا كانت ملوثة نجسة؛ وأقدامهم كانت ملوثة برمال وأوساخ الصحراء والمحلة. الحمد لله، ليس هناك حاجة في المسيحية إلى غسل الأيدي، لأن ذبيحة ربنا قد أكملت ولأن المؤمن يقف في حضرة الله دونما لطخة أو وصمة. في اليهودية كانت الذبائح تقدم مراراً وتكراراً، لأن دم الثيران والكباش ما كان ليزيل الخطيئة.

"أما المسيح، الحمل الذي لا عيب فيه،
فقد أزال عنا كل آثامنا،
بذبيحة هي أسمى ما تكون،
ودم أثمن بكثير."

إن عوامل النجاسة في العالم تحيط بنا من كل جانب، حتى عندما نكون في منأى عنها. وتبقى الحاجة إلى التطهير الروحي للنفس، التي يرمز إليها غسل الأقدام. ولأجل ذلك فإن لدينا الخدمة المباركة لربنا، والتي بها قد نحظى بـ"شركة معه". وقد كان الرب مثالاً لنا في ذلك. فإن كان ربنا ومعلمنا قد غسل أقدامنا، فعلينا نحن أيضاً أن نغسل بعضنا أقدام بعض.

مرايا النساء النحاسية

يُقال أن بصلئيل "صَنَعَ الْمِرْحَضَةَ مِنْ نُحَاسٍ وَقَاعِدَتَهَا مِنْ نُحَاسٍ. مِنْ مَرَائِي الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ" (خروج ٣٨: ٨). إن المرايا النحاسية التي كانت دائماً أدوات للرضا الذاتي، لإظهار ما هو جسدي، كُرِّست لخدمة الرب ووُظِّفت بذلك لتكون رمزاً إلى الحاجة إلى القداسة الشخصية. "اِتْبَعُوا .... الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤). هل نتخلى نحن المسيحيون عن كل ما نتمسك به لنحظى بمكانتنا في هذا العالم، لنتحرر بالروح لأجل أن نحظى بحضور الله أو خدمته؟

"بحر الزجاج"

من الممتع أن نرى غاية تدبير الله في هذه الكلمات. إن المرحضة النحاسية في البرية أعطت مكاناً لـ"البحر المسبوك للهيكل". وإذ كان قائماً على اثني عشرة عجلاً مسبوكة مع خمس مراحض إلى اليمين وخمسة إلى اليسار، لابد أن منظره كان رائعاً. كان الكهنة يستخدمون المغاسل كي يَغْسِلُوا فِيهَا مَا يُقَرِّبُونَهُ مُحْرَقَةً وكان "َالْبَحْرُ لِيَغْتَسِلَ فِيهِ الْكَهَنَةُ" (أخبار الأيام الثاني ٤: ٦). وأخيراً عندما ستُختطف الكنيسة إلى المجد، ويصبح شعب الله في منأى عن أي نجاسة، نجد بحر الزجاج. "وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ" (رؤيا ١٥: ٢). ما عادوا في حاجة لاغتسال في المرحضة، وما عادت هناك حاجة لغسل الأقدام، وما عادوا يلاقون نجاسة، بل يقفون في بحر من زجاج، رمزاً لحالة القداسة الثابتة والمطلقة في مشهد حيث لا شيء مما ينجس يمكن أن يدخل إليهم، فيقفون ويرتلون متهللين بإجلال ترنيمة موسى وترنيمة الحمل. وما عاد هناك ما يعيق الشركة والفرح إلى الأبد. وما تبقى هو بركة وفرح لا ينطق بهما.

من المهم أن نلاحظ أن هناك تعليم معترض بين وصف المذبح الذهبي والمرحضة النحاسية فيما يتعلق بعدد بني إسرائيل، وضرورة فضة الكفارة كأساس وحيد يمكن لله من خلاله أن يتعامل مع الشعب الخاطئ، وفي هذا تأكيد على أن أساس كل بركاتنا يقوم على الذبيحة الكفارية لربنا يسوع المسيح.