الأصحاح ٩:‏١-‏ ٨

الآيات الثمانية الأولى من هذا الأصحاح من الجزء الختامي لهذا القسم الثالث، الذي نرى فيه تصوراً مسبقاً عن المجد العتيد أن يُعلن لدى المجيء الثاني للرب يسوع.

"وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ». وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ" (٩: ١- ٨).

تحوي الآية الأولى على ما كان يشكّل، بالنسبة للتلاميذ بالتأكيد، إعلاناً صاعقاً مذهلاً. فقد قال يسوع بأن هناك قَوْماً بينهم لن يَذُوقُوا الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ ومجد عظيم. وحدث هذا بعد أسبوع حيث يوضح لنا الرسول بطرس أنهم لم يَتْبَعوا خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، عندما أعلنوا قدرة الرب يسوع المسيح ومجيئه، بل إنهم كانوا شهود عيان لجلالته عندما كانوا معه على الجبل المقدس (٢ بطرس ١: ١٦، ١٧).

"تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ". لقد سطع مجد ألوهيته الفائق المتجاوز الحد خلال حجاب جسده مغيراً مظهره بطريقة أذهلت تلاميذه وملأتهم بالإحساس بشخصه الحافل بالأسرار.

"بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ". لقد بدا رداؤه نفسه بالغ الرقة أو شبه الأثير وتوهّج بلمعانٍ ما كان ليمكن لأي حائك لكتان أو أية مادة أخرى تُستخدم في الكساء أن يُصدر مثله. إن الكلمة التي تُرجِمَتْ إلى "قَصَّار" كانت تعني بالأصل مُلَبِّسٍ للجلد أو لجلد الحيوان، ولكن استُعملت بمعنى أوسع هنا أعلاه.

"ظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ". هاتان الشخصيتان البارزتان المشهورتان كان قد مضى عليهما قرون عديدة في الفردوس. لقد كانا يعيشان، ويدركان، ويستطيعان مخاطبة الرب والتحدث مع بعضهما البعض. لقد كانا يمثلان الناموس والأنبياء وأيضاً فئتين من المؤمنين، أولئك الذين سيموتون قبل عودة الرب وأولئك الذين سيُختطفون عندما سيحدث ذلك (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦).

"لنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ"، أي خيام صغيرة. لقد كان بطرس مبهوراً بنا رأى وسمع لدرجة أنه اقترح أن يكرموا الثلاثة جميعاً الذين ظهروا في مجد بأن يشيدوا لهم خياماً خاصة. لم يدرك التناقض والمفارقة في وضعه لخدام الله، وللو كانوا أعظم الخدام، على درجة واحدة مع الرب يسوع نفسه. إضافة إلى ذلك، لم يدرك الصفة العابرة المؤقتة لذلك المشهد الذي أسره. ولذلك رغب في أن يصنع ثلاثة مظال ليقدم مكان سكن دائم لكل من الثلاثة الذين كانوا يتحادثون معاً. كم كُثرٌ هم الذين، من يوم بطرس، قد فكروا بأن يقدموا شهرة وتمايزاً في المكانة لخدامه، سواء كانوا أنبياء أم قديسين أم ملائكة، ولم يعرفوا أنهم بتكريمهم لهؤلاء بتقديم هذا الشكل من الثناء والتقدير الذي يرون لأنهم يستحقون إنما يهينون المعلّم نفسه!

"لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ". كم كان من الأفضل له بكثير لو التزم الصمت! إلا أن بطرس كان ذا شخصية مفعمة بالحركة دفعته للشعور بأن عليه أن يقول شيئاً، وتكلم في مكان وزمان لا يتناسبان مع فكر الله، الذي ما كان ليريد لأحد آخر أن يشغل قلب شعبه بشكل ينتقص من المجد الذي يخص المسيح وحسب. إن ما يبدو كتقوى وتواضع غالباً ما يكون شكلاً مصقولاً من الكبرياء أو الجحود (كولوسي ٢: ١٨، ١٩).

"«هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا»". إن المسيح هو من سُرَّ الآب بأن يكرمه. إنه يريد أنّ جميع الناس يعرفونه ويطيعونه.

"لَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ". لقد اختفى موسى وإيليا، وبقي يسوع المسيح وحده ليُعبَدَ ويُبجّل ويوقّر.

هذه الصورة الجميلة والموحية للملكوت الآتي جديرة بأن نتمحص فيها بدقة أعظم ما يمكن. تأملوا الأشخاص المختلفين هنا ولاحظوا كيف أنهم يصورون مختلف الأشخاص أو الجماعات الذين ستكون لهم مكانتهم لدى استعلان يسوع المسيح. فأولاً نرى يسوع يتجلى في مجده كمركز كل مشورة الآب. ثم لدينا الرجلان اللذان كان يتحدث إليهما عما سيكون موضوع تسبيحنا إلى الأبد، ألا وهو موته (لوقا ٩: ٣١)، الذي هو أساس كل بركتنا (رؤيا ٥: ٩). هؤلاء الرجال هم رموز، كما رأينا. كان موسى قد مات قبل زمن بعيد، ولكنه ظهر كما لو في جسده القيامي. وفي هذا يمثّلُ كل من سيموت قبل عودة المسيح، والذين سيسمعون صوته وهو نازلٌ من السماء، ويُقامون في أجساد غير منفسدة (١ كورنثوس ١٥: ٥٢). لقد اختُطِفَ إيليا إلى السماء دون أن يمر بالموت، وهكذا فهو يمثل كل "الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ" (١ تسا ٤: ١٥)، الذين لن يروا الموت أبداً، بل سيتغيرون في لحظة ويُختطفون للقاء الرب في الهواء. عند اعتلانه في المجد كل هؤلاء سيظهرون معه. إنهم يشكلون الجانب السماوي من الملكوت. سيكون هناك على الأرض قديسون في أجسادهم الطبيعية. وهذا ما يمثله الرسل الثلاثة الذين يعاينون المجد، ولكنهم هم أنفسهم لا يزالون بالجسد والدم. لقد كانوا جميعاً من بني إسرائيل، وهؤلاء سيكونون أول من يدخل الملكوت عند تأسيسه على الأرض. والأمم الذين تمزقوا وانشقوا بقوة الشيطان سوف يجدون عندئذ الانعتاق، وهكذا يدخلون إلى عهد السلام والبر. هذا ما يوحي به الحدث الذي جرى في أسفل سفح الجبل.