القسم (٣) - ٨:‏١٠ - ٩:‏٨

أصحاح ٨:‏١٠-‏٣٨

الإعلان عن المجد الآتي

"وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ. فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: «لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!» ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضاً السَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى الْعَبْرِ" (٨: ١٠- ١٣).

إذ عاد إلى الشاطئ الغربي من البحيرة، في نواحي دَلْمَانُوثَةَ، أو ماجدان، التقى يسوع ببعض الفريسيين الذين لديهم اعتراضات تافهة على ما يقوم به، الذين كانوا يتجاهلون كل الأعمال العجيبة المدهشة التي قام بها، والذين جاؤوا الآن يطلبون آيةً من السماء تصادق على مسيانيته.

نعلم من الإنجيل أنه تنهّد في روحه، وقد حزن في أعمق أعماقه إذ وجد هذا الجحود والمقاومة المتعمدة الموطّدة من جهة أولئك الذين كان يجب أن يقودوا عامة الشعب في طريق الإذعان لله وإطاعة كلمته. لماذا يطلبون آيةً؟ لقد كان هذا إنما دليل على حالة قلوبهم. لقد أعلن أنه لن تُعطَ أية علامة إلى ذلك الجيل الفاسد. لقد كانوا متمسكين بموقف العدائية نحوه وهو الذي أرسله الله ليفتدي إسرائيل.

تاركاً إياهم لجحودهم وقسوة قلوبهم غادر الرب من جديد إلى الجانب الآخر من البحيرة، أي إلى منطقة بيت صيدا جوليا. إذ كانت هناك مدينتان لهما نفس الاسم "بيت صيدا"، الأولى على الشاطئ الغربي من بحر الجليل والأخرى على الجانب الشمالي.

"وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ. فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ حِينَ كَسَّرْتُ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَراً رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐثْنَتَيْ عَشْرَةَ». «وَحِينَ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوّاً رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا: «سَبْعَةً». فَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟»" (٨: ١٤- ٢١).

من الواضح أن التلاميذ وفي عجلتهم لمغادرة دَلْمَانُوثَةَ لم ينتبهوا إلى التزود من جديد بالخبز- تلك الأرغفة المنبسطة المميزة لتلك الديار، والتي كان حملها أمراً في غاية السهولة خلال الترحال. كان واضحاً وجود بعض الفهم بأنه يمكنهم الحصول على كل ما يمكن أن يحتاجونه عندما ينزلون من السفينة. واستغل الرب الفرصة لينبههم، عندما أدرك ارتباكهم وحيرتهم، ويحذّرهم من خمير الفريسيين ومن خمير هيرودس. أما وقد وبّخهم ضميرهم بسبب إهمالهم وعدم انتباههم لإعداد المؤونة المناسبة لحاجات الجماعة، قفز التلاميذ إلى الاستنتاج بأن هذا تحذير لئلا يشتروا الخبز من الطرفين اللذان يذكرهما الرب. ولكن الرب أوضح لهم أنه باستخدامه لكلمة "خمير" إنما كان يشير إلى العقائد أو المبادئ في هذين النظامين الدينيين والسياسيين، لكونهما فاسدين، ويعملان فساداً في كل من يتشرب هذه العقائد. خمير الفريسيين كان المراءاة والبر الذاتي. وخمير هيرودس كان الاحتيال السياسي والانهماك في شؤون الدنيا.

ليريح فكر التلاميذ من جهة الطعام المناسب لأجسادهم ذكّرهم يسوع بإطعامه العجائبي للخمسة آلاف في إحدى المناسبات والآلاف الأربعة في المناسبة الأخرى. ففي كل حالة لم يكن هناك فقط وفرة للجميع بل إن سلالاً كثيرة من الكِسر حُفِظتْ لتستخدم في المستقبل. فلماذا يهتم المرء إذاً أو يقلق بخصوص ما يأكل في الغد طالما أن خالق كل شيء كان معهم؟ كم كان التلاميذ الاثني عشر يشعرون بالخجل من شكوكهم ومخاوفهم، عندما سألهم يسوع: "«كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟»".

عندما وصلوا بيت صيدا جوليا شهدوا دليلاً آخر على قدرة معلّمهم.

"وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ فَأَخَذَ بِيَدِ الأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟ َتَطَلَّعَ وَقَالَ: «أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً. فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: «لاَ تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ»" (٨: ٢٢- ٢٦).

هذه الأعجوبة كانت ذات طابع استثنائي. حتى الآن، وكما نرى في رواية الإنجيل، هذه هي الحادثة الوحيدة التي كان الشفاء فيها جزئياً في البداية وليس فورياً.

جاء رجل أعمى إلى يسوع، كان أصدقاءه قد أحضروه، وطلبوا إليه أن يلمس العينين المغلقتين ليمنح البصر لهذا البائس المبتلي. وبدلاً من أن يفعل ذلك في حضور كل الناس أخذ يسوع الأعمى بيده وأخرجه إلى خارج المدينة. وكأنه بذلك قد شعر أن الكثيرين في الحشد كانوا مجرد فضوليين، فأراد أن يأخذ الرجل على حدى وأن يقدم خدمة له وحده. ثم وضع يديه عليه وسأله إن كان يستطيع أن يرى. فقال الرجل: "«أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ»". لقد استعاد البصر جزئياً. أمكنه أن يرى أشياء مختلفة ولكن ما كان يستطيع تمييز الناس عن الأشجار إلا من كونهم يسيرون. من جديد وضع الرب يديه على عيني الرجل وطلب منه أن يتطلع. والآن تم شفاؤه بشكل كامل، ورأى جميع الناس بوضوح.

لا نعلم لمَ لم يكن الشفاء فورياً، ربما بسبب انعدام الإيمان الكامل عند الرجل الأعمى أو أصدقائه. أما وقد أنجز يسوعُ العملَ، فإنه صرف الرجل الذي صار سعيداً الآن، طالباً منه ألا يعود إلى القرية وألا يخبر أحداً بشفائه.

ويتحول انتباهنا بعد ذلك إلى اعتراف بطرس الهام وإخفاقه لاحقاً.

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قَائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ الْمَسِيحُ!» فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. وَﭐبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ»" (٨: ٢٧- ٣٨).

"«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟»" لقد طرح هذا السؤال على التلاميذ لكي يتوصلوا إلى اعتراف محدد من جهتهم بمسيانيته وبنوته لله. وإذ كانوا يتجولون من مكان لآخر، سمعوا أناساً كثيرين يجادلون يسوع،  ولا شك أنهم تفكروا في قلوبهم في الأشياء التي قيلت.

"فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ»". نعلم أن هيرودس، الذي نخسه ضميره الشاعر بالإثم، كان يشعر بالتأكيد أن يسوع هو يوحنا وقد قام من بين الأموات. آخرون كانوا يشاطرونه نفس الرأي. وكان البعض يظن، وقد تذكروا الإعلان النبوي المدون في ملاخي ٤: ٥، أنه لا بد أن يكون إيليا الموعود؛ في حين أن فئة أخرى رأوا فيه ببساطة نبياً جديداً ظهر فجأة في إسرائيل.

"«وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»". لا يكفي أن نعرف آراء الآخرين في يسوع، سواء كانت خطأ أم صواب. سؤال ربنا كان يقصد به التأكيد على مسؤولية الأفراد في أن يعرفوه بأنفسهم. كان جواب بطرس بنتيجة اقتناع عميق يستند على إعلان إلهي بقوله: "«أَنْتَ الْمَسِيحُ!»". الاعتراف الذي هو أكمل ما يكون والموجود في متى ١٦: ١٦ هو إعلان هذا التلميذ إيمانه بيسوع على أنه مسيا إسرائيل وابن الله. إنه كلاهما. وفي الواقع، ما كان ليمكن أن يكون المسيا (المسيح) لو لم يكن ابن الله، لأن المسيح كان الابن المعطى والطفل المولود، كما تنبأ أشعياء ٩: ٦. له يقول الآب: "أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مز ٢: ٧).

"فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ". لا يذكر مرقس إطراء الرب لبطرس، أو كلماته النبوئية عن بناء كنيسته على صخرة ألوهيته، ولا عن إعطائه مفاتيح السماء، هذه التي استخدمها بطرس في يوم الخمسين وفي منزل كورنيليوس للسماح لليهود والأمميين بالدخول إلى الملكوت في مظهره الحالي.كل ما نعلم به هنا هو أنه في الوقت الحاضر ذاك ما كان لهم أن يبدأوا العمل على تعريف العالم به في شخصيته الحقيقية. هذا كان يجب إرجاؤه إلى ما بعد موته وقيامته وصعوده إلى يمين الله في السماء.

"ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً ..... وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ". لقد كان ربنا يعرف تماماً ما ينتظره، وأخبر تلاميذه بأوضح تعابير بترتيب الأحداث التي ستصير. لقد جاء إلى العالم كي يموت. وبينما سيُظهر موتُه بغض الإنسان الشديد لله، إلا أنه أيضاً سيكون أسمى تعبير عن محبة الله للإنسان. هذا كان سيليه قيامة يسوع بالجسد المادي نفسه، وفي هذا دليل على أن الفداء قد أُكمل، وهكذا يتبرر المؤمن من كل الأشياء. يجب أن تُؤخذ المعرفة السابقة التي عند يسوع بالاعتبار من ثلاث نواحٍ، جميعها متناغمة مع بعضها البعض. فبالدرجة الأولى، رغم أنه صار إنساناً، فهو لم ينقطع عن أن يبقى إلهاً، ولذلك فقد كان يعرف من البدء كل الأشياء التي سيمر بها. ثم كإنسان كان تلميذاً للكلمة. لقد كان يعرف الكتابات المقدسة وجاء لتحقيقها. ولذلك فقد استند في تنبؤاته على الكتاب المقدس. وأخيراً، كان نبياً يتحدث بتوجيه مباشر من الروح القدس.

"فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ". هذا التلميذ الذي اعترف قبل وهلة بيسوع على أنه المسيح، ابن الله الحي، يتجرأ الآن وينتهر (يسوع) وكأنه إنسانٌ مثبط الهمة ويتحدث من منطلق شخص محطم ومخيب بسبب المعارضة المستمرة من قِبَلِ خصومه.

"ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ". سرعان ما أدرك الرب حماقة بطرس، رغم أن كلماته كانت ذات مغزى وتميّزَ فيها صوت العدو (الشيطان)، يحاول تنحيته عن الصليب، حيث كان ينبغي أن يموت كذبيحة أسمى عن الخطيئة. لقد أسكت توبيخُه الحاد ذلك الرسول المضطرب المتحامق، ولكن لا بطرس ولا الآخرين دخلوا حقيقةً إلى الكشف المعطى لهم.

ضرورة موت المسيح:

ما كان ليمكن بأي طريقة أخرى سوى موت ربنا القرباني يستطيع بها أن يصنع كفارة عن الخطيئة. الكلمة التي تُرجمت هكذا في العهد القديم تشتمل على معاني التسكين، والاسترضاء، والبدلية، والفداء، والتهدئة، والمصالحة. إنها أبعد بكثير من "كفارة" التي قبلها كثيرون كمعنى حقيقي. في العهد الجديد، الكلمة العبرية التي تُرجمت إلى هذه المعاني المختلفة يُستعاضُ عنها بكلمة يونانية تعني "كفارة استرضائية". كل هذه المعاني المختلفة يشتمل عليها الموت البدلي ليسوع على الصليب. ولكن بدون القيامة تصبح كل هذه المفردات لا معنى لها.

"فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي". رجل يحمل الصليب هو رجلٌ ماضٍ إلى الموت. التلميذ الحقيقي ليسوع هو التلميذ المستعد لرفض متطلبات الذات الخاصة والمستعد لأن "يموت كل يوم" لأجل معلمه (١ كورنثوس ١٥: ٣١). أن ينكر المرء ذاته هو أكثر من نكران النفس أو اللا أنانية. إنه يعني التنحية الكاملة لحياة الذات، لكيما يُرى المسيح وحده (غلاطية ٢: ٢٠).

"فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا". تابعُ يسوع المعترفُ به والمهتم بمصلحته الشخصية على أتمها كما يقول الناس، والذي يحيا ليرضي رغباته الطبيعية سيكتشف عند كرسي المسيح للدينونة أن حياته لم تُحسب لله، وأنها ضائعة خاسرة حقاً. من جهة أخرى قال يسوع: "مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا". حياةٌ بُذلت لأجل المسيح هي حياة مخلصة محفوظة لذلك اليوم عندما ستتم، بشكلٍ مُجْزٍ، مكافأةُ كل ما عُمِلَ لأجل مجد الله وإعلان إنجيله. "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (أو يخسر حياته). أي أن المكسب الحالي المؤقت سيصير إلى لا شيء إذا ما تبددت النفس، الحياة الحقة، في أشياء لا تنفع. إن الحياة الوحيدة التي تعتبر وتنفع هي تلك التي يعيشها المرء إلى الأبدية.

"مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟". هذا السؤال يُستخدم عموماً وكأنه يعني: "ما الذي يأخذه الإنسان مقابل نفسه؟" ولكن العكس هو الصحيح. فالنفس ضائعة ضالة، وماذا يعطي الإنسانُ لكي يردها إلى طريق الصواب؟ حالته كلها ستكون بلا طائل. لا يمكنه أن يسترد الحياة التي بددها بسبب الخطيئة والأنانية.

بعد ذلك أعلن يسوع بجلال أنه سيستحي في يوم الحساب الأخير من كل من يستحي به الآن. كل شيء للأبدية يعتمد على موقفنا نحو الرب يسوع المسيح. أن نعترف به علانيةً أمام الناس يعني الحياة الأبدية والخلاص. وأن ننكره أو نستحي به يعني الدينونة الأبدية والهلاك المقيم.

المسيح هو محك كل القلوب. فكمثل موقفنا نحوه سيكون موقف الله نحونا عندما يأتي يوم الجزاء. لكي يخلّصَ نفوسَنا ويجعلنا كلياً له، وضع ربنا يسوع حياته. لقد أحب الكنيسةَ وبذل نفسَه عنها (أفسس ٥: ٢٥). لم يكن يعتبر أي تضحيةٍ غاليةً إن كانت في سبيل أن يفتدينا ويجعلنا خاصته بها. وبالتأكيد، إذاً، علينا أن نكون على استعداد لأن نمضي حتى إلى الموت لكي نبرهن على محبتنا له. لقد كان موتُه كفارياً. وبه نتبرر عندما نؤمن به (أعمال ١٣: ٣٩). لقد أُزيلت خطايانا إلى الأبد بدمه الثمين. وما كنا لنستطيع أبداً أن نكون مشاركين في الكفارة الاسترضائية، بل إننا مدعوون لأن ننكر أنفسنا وأن نضع حياتنا، إن اقتضت الحاجة، لنثبت إيماننا به ومحبتنا لعالمٍ قدّم (يسوع) ذاتَه لأجله ( ٢ يوحنا ٤: ١٠، ١١). إن كان المسيح مات عن الجميع، فالله رأى الجميع أمواتاً آنذاك، لكيما يحيا أولئك الذين يؤمنون به من الآن فصاعداً، لا لأنفسهم بل لذاك الذي مات وقام ثانيةً (٢ كور ٥: ١٤، ١٥).

أخبر يسوع تلاميذه مراراً وتكراراً عن موته الوشيك وقيامته؛ ولكنهم بدوا عاجزين تماماً عن استيعاب معنى كلماته. إلا أنه لأجل هذا الهدف جاء إلى العالم واتخذ طبيعة بشرية في اتحاد مع طبيعته الإلهية.

وكان الصليب نصب عينيه طوال حياته. فصار إنساناً لكي يموت كفادٍ من أقربائنا يفكنا (لاويين ٢٥: ٤٨) ليأتي بنا إلى الحياة والحرية (الانعتاق). قرأت منذ زمنٍ عظة عن "تهور يسوع"، وفيها ندب الكارز (الواعظ)، الذي يبدي في نفس الوقت إعجاباً شديداً بجدية هدفه، الاندفاع المتهور المحزن الذي دفعه للذهاب إلى أورشليم في المرة الأخيرة، وبهذا يرمي نفسه، حرفياً، في فم الخطر ومواجهاً في المحكمة معارضة ومقاومة رؤساء إسرائيل، الذين كانوا عازمين على إهلاكه. واقترح هذا المجدف غير الواعي أنه كم كان أفضل للعالم وبكثير لو بقي يسوع هادئاً مستكيناً في الجليل، فلعله كان ليؤسس مدرسة للمعلمين في كفرناحوم، ولربما كتب العديد من الكتب، وبها كان سيغني الأدب الديني للعالم، ولكان مات في خاتمة المطاف بعد عمرٍ مديد، مُكرَّماً ومحبوباً من قِبَلِ عدد لا يحصى من التلاميذ، الذين كان ليمكن ائتمانهم ليحملوا تعليمه إلى أقاصي الأرض. إن المرء ليرتعد وهو يسمع هذه الترهات الفاسدة الفظيعة.