الجزء ١: الأصحاحات ١- ٥
الخادم النشيط يُعنى بحاجة الناس ومحنتهم
القسم (١)

الأصحاح ١:‏١-‏١٣

تقديم الخادم

يبدأ مرقس روايته على نحو مفاجئ، إذ يعرّف خادم الله، ثم يخبرنا بكلمات قليلة جداً عن سابق المسيح، ومعمودية يسوع وتجريب (الشيطان) له.

"بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: «هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقَوَيْهِ وَيَأْكُلُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ!». وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ" (١: ١- ١٣).

"إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" هو بشرى الله السارة المتعلقة بابنه المبارك الذي أتى إلى هذا العالم ليكشف مكنونات قلبه للبشر وليقدّم نفسَه ذبيحة خطيئة عظيمة لأجل فدائنا.

كان ملاخي قد تنبّأ عن مجيء رسول ١ يسبق الرب ويهيئ الناس لمجيئه. هذا الرسول (الملاك) كان الصوت الصارخ في البرية الذي تنبأ عنه أشعياء (٤٠: ٣) ٢، الذي سيدعو إسرائيل إلى أن يعدّوا طريق الرب ويجعلوا سبله مستقيمة. الكلمة تُرجمت هنا إلى "الرب" بينما هي "يهوه" ٣ في النص العبراني للعهد القديم. وفي هذا تأكيد واضح على ألوهية ربنا يسوع المسيح ٤. فذاك الذي جاء في وداعة واتضاع كان السرمدي الذي تنازل إلى حدِّ توحيد ألوهيته ببشريتنا بمعزل عن خطيئتها، لكيما يصير مخلِّصَنا الفادي ويشتري انعتاقَنا من عبودية الخطيئة والدينونة التي كنا عُرضةً لها.

جاء يوحنا يعمّد في برية الْيَهُودِيَّةِ، فيغطّس في نَهْرِ الأُرْدُنِّ- ذاك النهر الذي كان يرمز إلى الموت- أولئك الذين كانوا يعترفون بخطاياهم ويتوبون. وخرج كثيرون إليه من كل الكورة المجاورة والمحيطة واعتمدوا تجاوباً مع رسالته. هذه المعمودية لم تكن بذات أهمية كبيرة، ولكن كانت إقراراً بأنهم قبلوا الرسالة واعترفوا بحاجتهم إلى التطهير والمغفرة. ونعلم من (يوحنا ١: ٢٩) أن هؤلاء التائبين كانوا يتجهون إلى حَمَل الله على أنه الوحيد الذي كان في مقدوره أن يرفع خطيئة العالم، ويتيح الفرصة للخطأة الآثمين لأن يتصالحوا مع الله.

لقد كان يوحنا شخصاً يشبه إيليا: رجلاً صارماً وجدياً يقطن البرية ويعيش حياة زاهد ناسك، يقتات على الجراد والعسل البري. لم يسعَ لجذب الانتباه إليه بل كان يُعلن قائلاً: "يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ".

عندما سيظهر هذا الشخص الذي يشير إليه يوحنا سوف يعمّد بالروح القدس أولئك الذين اقتبلوه. ونعلم أن هذا تحقق في العنصرة وبعد ذلك عندما "سكب" المسيح القائم تلك العطية التي صاروا يبصرونها ويعرفونها آنذاك- ألا وهي عطية الروح القدس الذي يعمّد المؤمنين إلى جسد واحد ويكرسهم للخدمة.

بعد ذلك نقرأ أن يَسُوع قد جاء مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. لا نعلم من هذا المقطع هنا عن اعتراض يوحنا (على تعميده ليسوع)، وكيف أن تعليل الرب قد غلب في النهاية. فهذه القصة نقرأها في كتابات أخرى من الكتاب المقدس. تلك المعمودية كانت عربون عهد ربنا على أن ينجز حتى التمام العمل الذي جاء من السماء لكي يقوم به. وهذه صادقت عليها السماء، وكان يسوع قد تكرس علانية لهذه الخدمة عندما جاء صوت من الأعالي يقول: "«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ!»". ذاك الذي اعتمد مطابقاً نفسه مع الخطأة المعترفين كان يعلن بذلك أنه المعصوم عن الخطيئة.

ليس لدينا تفاصيل هنا عن الإغواء أو التجارب التي يتعرض لها عبد يهوه ٥ (يسوع). ونعرف، من ثم، أنه "لِلْوَقْتِ" (لاحظ استخدام هذه الكلمة في مقدمة الإنجيل كما في أماكن كثيرة منه)، للوقتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وكَانَ هُنَاكَ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وعندما تركه الشيطان جاءت الْمَلاَئِكَةُ وصارت تَخْدِمُهُ. لقد كان خالقَها وكان ليسرها أن تخدمه في اتضاعه. أفهم من ذلك أن الروح القدس هو الذي دفع يسوع أو قاده لأن يذهب إلى البرية لكيما يُجرّب على هذا النحو. كإنسان على الأرض، اختار أن يكون تحت إرشاد الروح القدس في كل الأشياء. كان من الملائم أن يُجرّب قبل أن يبدأ خدمته الكريمة. ولم تكن تجربته هي بغاية معرفة إذا ما كان من المحتمل أن يخفق ويزِل ويقع في الخطيئة في ساعة الشدة، بل أن يبرهن أنه لن يخفق أو يزل، ذلك لأنه الوحيد المعصوم عن الخطأ بالمطلق. يرتكبُ خطأً فادحاً كلُّ من ينسب إليه طبيعةً خاطئة أو إمكانيةَ الوقوع في الخطيئة. إن الكتاب المقدس يحذرنا من أي مفاهيم مغلوطة كهذه عندما يخبرنا أنه قد جُرِّبَ في كل شيء مثلنا، ومع ذلك لم يُخطئ- أو، بمعنى حرفي، هو في منأى عن الخطيئة. لم تكن لديه أية نية أو نزعة داخلية للخطيئة. والإغواءات كانت كلها من الخارج ولم تجد لديه استجابة من أي نوع في قلبه.


١. - تُرجمت الكلمة إلى "ملاك" في الترجمة العربية (سميث وفاندايك-البستاني): (مرقس ١: ١). [فريق الترجمة].

٢. - (أشعياء ٤٠: ٣): " صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا".

٣. - "يهوه" هو أحد الأسماء التي عرّف بها الله عن نفسه للشعب في العهد القديم. هكذا قال الله لموسى في (خروج ٦: ٣): "انَا ظَهَرْتُ لابْرَاهِيمَ وَاسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِانِّي الْالَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَامَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ اعْرَفْ عِنْدَهُمْ"، والكلمة تعني "الكائن". [فريق الترجمة].

٤. - بمعنى أن الرب يسوع المسيح هو الله "يهوه" نفسه. [فريق الترجمة].

٥. - "عبد يهوه" أو "عبد الرب" هو لقب شرف في الكتاب المقدس. فهكذا يُسمّي الله "عبده" الذي سيتمم قصده الإلهي من خلال رسالته الفدائية. هذه التسمية ترد في الكتاب في مواضع كثيرة. انظر (أشعياء ٤٢: ١٩) بشكل خاص. [فريق الترجمة].