الجزء ٢: الأصحاحات ٦: ١ إلى ١٠: ٤٥
الخادم رُفِضَ ولكنه لا يزال يخدم في النعمة
القسم (١)

الأصحاح ٦

الرفض والمعارضة تزداد

في حين تركت أعمال يسوع المقتدرة انطباعهاً مميزاً في نفوس عامة الشعب الذين كانوا يسمعونه في توق ولهفة، كانت هناك حفنة ضئيلة من الطبقة المثقفة والمتدينة ظاهرياً الذين كانوا على استعداد للاعتراف به على أنه عبد يهوه الموعود الذي سينقذ إسرائيل. وبدلاً من التصديق على إعلاناته المسيانية صاروا يرتابون فيه معتبرينه دجالاً أفّاكاً وجعلوا أنفسهم في موضع المعارضة المطلقة له لدرجة أنهم كانوا يسعون لإيجاد طريقة ما يهلكونه بها. هذا الموقف يصبح بارزاً ومسيطراً بشكل مطرد في القسم الثاني من هذا السفر. ونرى الموقف يتطور في الأصحاح الحالي (السادس).

"وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: «مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ؟ وَمَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هَذِهِ؟ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَهُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ" (٦: ١- ٦).

ينبغي أن نفهم الكلمة "وَطَنِهِ" الواردة في الآية ١ التي تدل على مدينة الناصرة والمنطقة المحيطة بها حيث عاش يسوع في طفولته وفي شبابه.

دخل إلى المجمع حيث كان ولا بد قد التقى بأبناء بلدته في السنوات التي مضت. وهناك علَّم بطريقة أدهشت الناس، الذين كانوا يعرفون أنه لم يكن من تلاميذ أية مدارس ربانية، بل أنه عاش وسطهم كنجار. وكانت عائلته معروفة بالنسبة إليهم. لقد كانوا يتحدثون عنه على اعتباره ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ، كما وذكروا "َأخَوَاته". قد يبدو من هذا الحديث أن مريم قد أنجبت أولاداً آخرين بعد ولادة ابنها البكر يسوع (متى ١: ٢٥). يرفض الكاثوليك (كنيسة روما) هذه الفكرة، ويقولون أن مريم "دائمة البتولية". ويصرون على اعتبار أن أخوة يسوع وأخواته المذكورين هنا هم أبناء يوسف من زواج سابق (أي قبل خطوبته لمريم)، أو من الممكن أن يكونوا أبناء عموم يسوع. ولكن يبدو أن هذه مجرد ذريعة لتفادي القول أن مريم قد تزوجت فعلياً من يوسف (بعد ولادة يسوع العذرية).

وردَّ يسوع على الاعتراضات إزاءه بالقول: "«لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ»". لقد كانت الشكوكية وعدم التصديق لديهم شديدة جداً حتى أن يسوع لم يقدر، كما يقول الإنجيل، أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ أتوا إليه في بلواهم فَشَفَاهُمْ. إن الله يعمل بحسب تجاوب الإيمان. عدم الإيمان أو التصديق يقيّد يد القدرة الكليّة، إلا في الدينونة، ولم تأتِ ساعة الدينونة بعد.

وَتَعَجَّبَ يسوع من أن أولئك الذين عرفوه حق المعرفة كانوا غير مؤمنين بل وحتى معارضين له. تخبرنا رواية لوقا في إنجيله أنهم حاولوا حتى أن يرموا به من فوق الجرف الذي بُنِيَت عليه المدينة، إلا أنه عبر في وسطهم وجاز، وسار في طريقه، وكان حزيناً لأجل قساوة قلوبهم.

"وَدَعَا الاِثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصاً فَقَطْ لاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ نُحَاساً فِي الْمِنْطَقَةِ. بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. وَقَالَ لَهُمْ: «حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ" (٦: ٧- ١٣).

فوَّضَ يسوع الآن التلاميذ الاِثْنَيْ عَشَرَ الذين اختارهم "ليكونوا معه" لأن يمضوا إلى قرى الجليل ويعلنوا إنجيل الملكوت ويدعوا الناس إلى التوبة، وهكذا يستعدوا للقاء الملك عندما سيتجلى لهم. أرسلهم يسوع اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ ليعملوا معاً بروح شركة وصداقة وشهادة. وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى شفاء المرضى وطرد الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، وبذلك يصادق على هؤلاء التلاميذ كممثلين له مندوبين من قِبَلِه.

لأنهم كانوا ذاهبين إلى شعبهم، إسرائيل، ولأن مهمتهم عاجلة، فقد أمرهم ألا يأخذوا معهم سوى عصا الترحال- لا محفظة، ولا حقيبة، ولا مزود، ولا نقود في كيسهم. كان عليهم أن يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ وَألاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ.

عندما كانوا يدخلون مدينة أو قرية كان عليهم أن يقبلوا أية ضيافة تُقدم لهم أياً كان من يعرضها عليهم، وكان عليهم أن يمكثوا في ذلك البيت، إذا رُحِّبَ بهم فيه، إلى أن يغادروا البلدة. ولا يفترض فيهم بأي شكل أن يسعوا وراء الراحة الشخصية أو التقدير الخاص. وعندما لا يُقبَلون فإن عليهم والحالة هذه أن ينْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِهمْ شَهَادَةً عَلَى أولئك الذين لم يقبلوا رسالتهم. إذ أن هؤلاء لن يكون في انتظارهم سوى الدينونة- دينونة أسوأ بكثير من تلك التي وقعت قديماً على سَدُومَ وَعَمُورَةَ.

اتباعاً لتعاليم معلمهم خَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوب الناس- أي أن يغيروا موقفهم تجاه الله- وهذا كان يتطلب بالتالي موقفاً جديداً تجاه الذات وضد الخطيئة.

أَخْرَج الاثنا عشر شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَشفوا مَرْضَى كَثِيرِينَ. من المهم أن نلاحظ أنهم دَهَنُوا بِزَيْتٍ أولئك الذين كانوا يأتون إليهم طالبين الشفاء، كما أوصى يعقوب في رسالته. هذا هو الموضع الآخر الوحيد الذي يرد فيه ذكر هذه الطريقة فيما يخص الشفاء الجسدي. اعتقد البعض أن الزيت كان يُستخدم كعلاج أو دواء، ونجد مثالاً عن ذلك في قصة السامري الصالح الذي سكب زيتاً وخمراً على جراح ذاك الذي تركه اللصوص بين حي وميت على طريق أريحا. ولكن الزيت هو رمز الروح القدس، ويبدو على الأرجح أن المسح (بالزيت) عُنِيَ به أن يشير إلى العمل الكريم للروح القدس فيما يخص الشفاء استجابة لصلاة الإيمان.

"فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: «إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». قَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: «هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»، لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ!» فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ فَعَلَ كَثِيراً وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ" (٦: ١٤- ٢٠).

إن رواية معاملة هيرودس الآثم الغادرة ليوحنا، سابق يسوع، كان يُعتقد أنها كانت تهدف إلى زرع الرعب في النفس، ولكنها إنما صورة عن قابلية التحسن في قلب الإنسان الطبيعي.

كان هيرودس مهتماً برسالة يوحنا في البداية، وأرسل في طلبه لكيما يسمع بنفسه من معلم الصحراء. طالما كان يوحنا يتناول موضوع إنجيل الملكوت، فإن مستمعيه في البلاط الملكي، والذين كانوا فاسدين، كانوا يصغون إليه ببعض الانتباه، ولكن عندما تجرأ المعمدان على أن يوبخ الملك الماكر المخادع الفاسق بسبب علاقات سفاح القربى مع زوجة أخيه فيلبس ثار غضب الملك، وسعى إلى إسكات موبخه بأن حبسه في سجن مظلم، على الأرجح أنه سجن مكايروس، الذي يقع على المنحدرات الصخرية المطلة على البحر الميت. وهناك تُرك يوحنا ليَهزُل ويذبل وحتى ليتساءل فيما إذا كان يسوع هو بالفعل المسيا المنتظر الموعود، ما لم نفهم أن اهتمامه كان ترسيخ إيمان تلاميذه.

سكت هيرودس عن قطع رأس يوحنا لكي يُرضي هيروديا، التي كانت تجسد تماماً ما قاله الشاعر بأن "ليس غضب الجحيم الشديد بأشد من غضب امرأة محتقرة". عندما سمع هيرودس بالمعجزات التي قام بها يسوع، فإن ضميره المذنب الشاعر بالإثم استيقظ، وقال أن يوحنا المعمدان قد نهض من بين الأموات، ولذلك فهذه الأعمال المعجزية المقتدرة كانت تتم على يده. ظن آخرون أنه لا بد أن يكون إيليا الموعود الذي، بحسب ملاخي، كان ليأتي ليدعو إسرائيل إلى التوبة قبل اليوم العظيم والرهيب الذي سيأتي فيه الرب. قال آخرون أنه كان نبياً، أو على الأرجح أحد الأنبياء القدماء الذين عادوا إلى الحياة. ولكن هيرودس كان في ذلك الوقت مقتنعاً بأن يسوع لم يكن سوى يوحنا وقد عاد إلى الحياة. لقد تذكر من جديد المشاهد التي تعرض فيها للتوبيخ من أجل هيروديا، والسجن، وأخيراً قطع رأس كارز الصحراء، لأنه عرف أنه كان مذنباً مرتكباً جريمة فظيعة أمام الله والإنسان في معاملته الشائنة التي عمل بها ذاك الذي لا يخاف والذي كان يعلن حاجة الإنسان إلى التوبة.

رواية موت يوحنا تأتي على النحو التالي:

"وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: «مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ: «رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: «أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ». فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ" (٦: ٢١- ٢٩).

إن الاحتفال بعيد ميلاد هيرودس كان قد تحول إلى طقس عربدة فاسد لافت مترع بالسكر والفسوق. ومما زاد على التمتع الشهواني بالملذات، الذي كان يمارسه الرؤساء المدنيون والعسكريون وبقية أصحاب المقام الرفيع الذين كانوا حاضرين، فإن ابنة هيروديا كانت قد دُعيت لتشارك في ما كان رقصاً شهوانياً حسياً، من دون ريب، هذا الرقص الذي أبهج الحضور والنظارة حتى أن هيرودس طلب إلى الفتاة بتهور أن تطلب منه أية هدية حتى نصف مملكته كمكافأة لها على أدائها.

متأثرة بأمها الشريرة طلبت رأس يوحنا المعمدان على صحن كبير أو على طبق كبير. صُدِمَ الملك بهذا الطلب وكان ليريد أن يرفضه، ولكن بسبب قسمه الذي أعطاه أمام كل هؤلاء الحاضرين لم يستطع أن يرد طلبها لئلا يفقد ماء وجهه ويصبح موضعَ سخريةٍ أمام أتباعه ومستخدميه. ومهما يكن من أمر، فإنها لم تكن سوى جريمة جديدة أخرى تضاف إلى سجل جرائمه العديدة التي كان قد ارتكبها لتوه. ولذلك فقد أرسل سيّافاً في الحال ليقطع رأس النبي ويحضر رأسه الملطخ بالدم، نزولاً عند طلب الراقصة التي أعطته بدورها إلى أمها.

يمكن للمرء أن يتخيل كيف راحت هيروديا تتأمل في حبور بذلك الشيء المخيف عندما أدركت أن تلك الشفاه الباردة سوف لن تتهمها من بعد بالزنى أو بأية خطيئة أخرى. ولكنها لم تتوقع ما سيحدث عندما سترى يوحنا المعمدان في النهاية. ففي يوم الدينونة سينهض ليدينها بسبب لا مبالاتها المتعنتة إزاء الدعوة إلى التوبة.

عندما علم تلاميذ يوحنا بما حدث جاؤوا وأخذوا جثة معلمهم وقاموا بدفن لائق لها، وكما يورد إنجيل آخر (متى ١٤: ١٢)، فإنهم "مضوا وأخبروا يسوع"، الذي انتابه حزن شديد عميق على يوحنا بدافع تعاطفه الحاني.

بعد ذلك نقرأ عن عودة الاثني عشر من جولتهم الكرازية والتقرير الذي قدموه إلى يسوع.

"وَﭐجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً" (٦: ٣٠- ٣٤).

لقد تجمع التلاميذ بروح مليئة بالحيوية والحماس حول (ربهم) وأخبروه بكل ما فعلوه وبكل ما علّموه وهم ينطلقون من قرية إلى أخرى في الجليل. رأى أنهم كانوا مأخوذين جداً بنجاحهم، وعلاوة على ذلك كانوا إلى حد ما منهكين بسبب الجهد والشد الذي كانوا قد عانوه. ولذلك فقد طلب إليهم أن يتركوا الجموع ويختلوا في موضع هادئ في الريف وأن "يستريحوا قليلاً". كم يحتاج خدامه إلى هكذا فترات من الصحبة الهادئة معه!

فَمَضَوْا إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ- أي إلى مكان في الريف الواسع الطلق بعيداً عن أية مدينة أو بلدة لينالوا بعض الراحة الجسدية وهدوء الفكر الذي كانوا في حاجة ماسة إليه. إن منحنا أنفسنا هكذا فرص، فإن حوادث الانهيار العصبي والجلطات القلبية ستخف كثيراً وسط خدام المسيح.

لا نعلم تماماً كم أمضت تلك الجماعة الصغيرة في صحبةٍ وخِلوة وارتياح مع الرب. ولكن بعضاً ممن رأوا الجهةَ التي كانوا قد ذهبوا إليها نقلوا الخبرَ إلى الآخرين، وسرعانَ ما جاء حشدٌ كبيرٌ من الناس من جميعِ المدن المجاورة وتجمعوا حولَ يسوع. لم يستطع أن يصرِفَهُم ولا أن يرفُضَ أن يعلِمَهُم.

إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. وقلبهُ الكبير تحركت فيهِ عواطفُ الحنو نحوهم، لذلك بدأ حالاً يعلِمَهُم أشياء كثيرةٍ. بحماسةٍ لا تكلُ ولا تَمل، علَمهُم طوالَ الوقت في ذلك اليوم، ساعياً ليُعَرِفَهُم بالأمور المتعلقةِ بملكوت الله.

"وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «ﭐلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. ﭐِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: «خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً وَمِنَ السَّمَكِ. وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ" (٦: ٣٥- ٤٤).

كان قد كُتِبَ عن المسيا المنتظر الموعود قبل قرون من مجيئه إلى العالم: "مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً" (مز ١٣٢: ١٥)، وأيضاً "كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ" (أش ٤٠: ١١). إن إطعام الجموع في مناسبتين منفصلتين لابد أنه قد أعاد إلى ذهن ذلك الشعب تلك النبوءات وجعلهم يتساءلون فيما إذا لم يكن يسوع المسيح هو الذي طالما تم التنبؤ عنه لوقت طويل.       

عندما أخرج اللهُ اسرائيلَ من مصر رَتّبَ لهم مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ (مز ٧٨: ١٩). أعطى الرب يسوع الجموع الجائعة، الذين تبعوه وأصغوا إليه طوال النهار، مثلاً عن القدرة الكلية نفسها. إنه لمما يُرثى له أن نلاحظ كم من النقاد غير المؤمنين يحاولون أن يُضعفوا ويشوهوا هذه الشهادات عن مجد ربنا الخلاّق بأن يلمّحوا إلى أن هذا (الصنيع الذي قام به الرب) لم يكن سوى حالة مشاركة في الغداء بين الجيران والأقارب الذين كانوا متجمهرين هناك والذين كانوا قد نسوا أو تجاهلوا أن يأتوا بأي طعامٍ معهم- ولذلك أكلوا جميعاً معاً، فبدا لهم كما لو أن الطعام قد تضاعف بطريقةٍ عجيبةٍ مدهشةٍ. يقول الكتاب المقدس: "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ". ومن المدهش أن أولى هذه المعجزات هي إحدى عجائب عديدة قد سجلها كلٌ من الإنجيليين الأربعة. هؤلاء الرجال، التي لا يمكن أن يُشك بأمانتهم والذين كانوا حاضرين للأحداث المرسومة الموصوفة أو علموا عنها من آخرين على نحو دقيقٍ، فجميعهم يصفونها على أنها حدثٌ فائقٌ للطبيعة، ذاك الذي يُكثّر الحِنطةَ على آلاف منحدرات التلال، والأسماكَ في كل البحار، قد أنجز بقدرته الإلهية وحكمته، ما كان ليُنجزَ بشكلٍ عادي خلال أسابيع أو أشهر من الزمان. وهكذا عَرفت الجموع حنو الله وقدرته كما تراءت في يسوع المسيح، والتي تسدُ حاجة كل نفسٍ كما حاجة كلِّ جسدٍ.

"الْوَقْتُ مَضَى". كان التلاميذ قلقينَ ومهتمينَ بخصوص الناس الجياع الذين كانوا مع الرب يسوع طوال النهار، والذي كان كثيرون منهم بعيدين عن منازلهم. وكان الليل على وشك أن يحلَّ، وبدا أنه من اللطفِ وحكمة التدبير أن يحثّوهم على العودة حالاً إلى مساكنهم المختلفة.

"ﭐِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا .... وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً". إن كان عليهم أن يضمنوا طعاماً مناسباً قبل أن يهبط الليل فعليهم أن يهرعوا، إذ لم يتمَّ إعدادِ أي مؤن لهم في ذلك المكان المهجور النائي، كما ارتأى التلاميذ.

"«أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»". إن مطلب ربنا لابد أنه قد أدهش تلاميذه. فلم يكن لديهم شيء ليشاركون الآخرين به، وما كانوا يعرفون كيف يحصلون على الطعام. لقد كانت رغبته هو أن يدربهم على تحسس حاجات الناس ومسؤوليتهم فيما يخص ذلك، كما أنه ليود أن نهتم اليوم بالمجاعة الروحية التي تحيط بنا جميعاً، ومسؤوليتنا على أن نسعى إلى أن نبذل قصارى جهدنا ونلعب دورنا في سد متطلبات هذه المسؤولية. وإننا جميعاً أيضاً عُرضة لأن نحاولَ أن نقيس مقدرة الله على أن يسد حاجاتنا بتلك التي تراها أعيننا، بدلاً من تذكّرنا بأن لنا علاقة بذاك الذي خلق الكون من العدم ويُبقيه بكلمة قوته.

"كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟" نعلم من الروايات الأخرى (الواردة في الأناجيل) أن أندراوس كان قد اكتشف وجود غلامٍ معه خمسة من الأرغفة التي كان الناسُ معتادين عليها، وسمكتين صغيرتين. لقد اقترح أحدهم أن ذاك إنما كان غداءَ الغلام الخاص- وقد أعطاه كلُُّه لكي يقتات الآخرون عليه. ورغم ضآلة كميته، أمكن ليسوع المسيح أن يستخدمه بشكلٍ كبيرٍ. في الحالات الطارئة التي نمرُّ بها، عادةً ما نسأل "من أين؟" و"كيف؟" متناسين أنه ما من شيءٍ صعبٌ أمام الرب. فذاك الذي يُكَثِّرُ الحبوب المبذورة في الأرض يمكنه أن يأخذ القليل الذي نأتي به ويجعله كافياً لسدِ حاجات الكثيرين.

"فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ". بسُلْطةٍ، أمر المخلص الحشدَ المتجمهر أن يجلسوا جماعاتٍ على العشب الأخضر، حيث يمكن القيام بخدمتهم على نحوٍ أفضل. وأطاعوا أمرهُ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ"، ومن غير شك كانوا يتساءلون عما سيحدث بعد ذلك، وعن السبب في اعتراضه على إرجاع الناس إلى بيوتهم على عجل. إن الأمر الذي أصدره الرب بأن يجعل الناس يجلسونَ كان له مغزى. فإذ يجلسون على الأرض كانوا يصيرون جميعهم على مستوى واحد. وتختفي الفوارق في المنزلةِ الاجتماعيةِ. لقد كان في ذلك ترسيخٌ لعقيدة "اللا فرق".

"رَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ وَأَعْطَى". إذ تلقى الطعامَ من يدي أندراوس أو من ذلك الغلام المتوقع، قدّم الرب يسوع شكراً، وبدأ يكسر الخبز ويقسمُ الأسماك، مناولاً الزاد إلى التلاميذ، لكيما بدورهم يمررونه إلى الحشد الجائع الذين كانوا ينظرون في عجبٍ ودهشةٍ. عندما كسر الرب يسوع الخبز وأعطاه لتلاميذه لكي يمررونه إلى الجموع، ما كان لأحد عذرٌ إذا ما ذهبَ جائعاً. وهكذا الحالُ اليوم، إذ نقدمُ الخبزَ الحيَّ إلى النفوس الجائعة، لا يحتاجُ أحدٌ لأن يذهبَ دون أن يأخذَ بركةً أبدية.

"فَأَكَلَ الْجَمِيعُ". تبين أن هناك مئونة وافرة كافية للجميع. لم يُخَيّّبْ أحدٌ. لم يحتجْ أحدٌ لأن يذهب جائعاً من تلك المائدة التي أقامها الربُ يسوع المسيح.

"رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً وَمِنَ السَّمَكِ". لم يكن الجميعُ راضينَ وحسب، بل عندما انتهت الوليمة كانت هناك سلالٌ كثيرةٌ باقية إذ كان هناك التلاميذ، ومع ذلك تساءلَ الإثنا عشر كيف أمكن لذلك الطعام أن يكون كافياً لكلّ ذلك العدد!

"كَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ". ويضيف متى إلى ذلك: "مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى ١٤: ٢١). لذلك كان العدد فعلياً أكثرَ من خمسةِ آلاف، رغم أنه لم يكن هناك نساءٌ أو أطفالٌ، بلا شك، قد خرجوا إلى تلك البرية ليسمعوا المعلم العظيم في ذلك اليوم.

سوف نجد، إذ نسعى لخدمة ربنا المبارك، أننا كلما قدمنا للآخرين كلما بقي لدينا أكثر لأنفسنا.

"لمْ يفرّغ الحبُّ قلباً،
ولم يفرّغ العطاءُ كيس دراهم".

"وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. وَبَعْدَ مَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً فَصَرَخُوا لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُم وقَالَ لَهُمْ: «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى الْغَايَةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً" (٦: ٤٥- ٥٢).

لدينا هنا صورة زمانية تدبيرية عما سيحتمله تلاميذ المسيح هنا  في بحر الزمان العاصف الهائج بينما الرب يتشفع من أجلهم في العلاء.

بعد إطعام الجموع أشار يسوع لتلاميذه لكي "يَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا". لم تكن هذه سوى رحلة قصيرة من ذلك المكان إلى جَنِّيسَارَتَ شمال البحيرة، شرقي كفرناحوم. لم يذهب يسوع معهم. ولكن بعد انطلاقهم مضى إلى الجبل لكي يكون وحده مع الآب ليناجيه في الصلاة.

"كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ". ولكنها كانت على مرمى النظر، وكان قلبه قلقاً على تلاميذه الذين كانوا يعملون جاهدين، مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، وهم يسعون للوصول إلى وجهتهم المنشودة، والرياح تعاكسهم. أشار أحدهم إلى أن الكلمة التي تُرجمت "مُعَذَّبِينَ" هي نفسها التي تُرجمت إلى " يُعَذِّبُ" الواردة في (٢ بطرس ٢: ٨). إنها تعني أكثر من العمل العضلي المضني. لقد كان التلاميذ في محنةٍ روحيةٍ ذهنية حقيقية وقلق، إذ كانوا خائفين أن تغرق سفينتهم، ويغرقوا هم أنفسهم معها في البحر المتلاطم الأمواج الذي كان يوشك على ابتلاعهم. ولعلهم كانوا أيضاً يعانون من بعضهم البعض فيحمّل كل منهم الآخر مسؤولية الوضع المتقلقل الخطر الذي وجدوا أنفسهم فيه. يا لها من صورة تعبّر عن الحالة الذهنية التي غالباً ما يجد المؤمنون أنفسهم فيها خلال صراعاتهم مع ظروف الدنيا في غياب الرب يسوع عن هذا العالم.

كم كان ضئيلاً إدراك التلاميذ، وهم يصارعون الريح والموج، بأنه طوال الوقت كانت عين الرب ترعاهم وقلبه قلقاً عليهم مهتماً بهم. كم سريعٌ هو تناسينا، وإذ نحن "نصارع خلال وجهتنا إلى السماء"، كما يقول روذرفورد، فإن رئيس كهنتنا العظيم لا ينفك ينظر إلينا من العلاء ويشفع فينا بلا انقطاع.

مع بزوغ أول أشعة الفجر في الأفق "نَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ"، أي في الساعة بين الثالثة والسادسة صباحاً في توقيتنا الحالي، نزل يسوع من الجبل وجاء ماشياً على وجه المياه. يبدو أن يسوع كان على وشك أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ عندما صرخ التلاميذ المرتعبون، ظناً منهم أنه خَيَال. فكشف لهم ذاته وقال: "«ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»".

مندهشين فوق العادة، استقبلوه في السفينة وسرعان ما هدأت الريح. ترد في موضع آخر تفاصيل، حُذفت من هنا عن عمد، لكي يتم التركيز على أن مجيئه قد أسكت العاصفة. وهذا ما سيكون عليه الحال لدى عودته ثانيةً لأجل خاصته.

إذ كانوا منذهلين مما جرى ونسوا سريعاً البرهان على قدرته الخالقة في مضاعفة الأرغفة والسمك، تساءل التلاميذ متعجبين عن سر شخص الرب.

"فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ!" (٦: ٥٣- ٥٦).

عندما أرسوا على شواطئ جَنِّيسَارَتَ في نهاية المطاف، كانوا لم يزالوا في السفينة عندما بدأت جموع الناس تُقبل نحو يسوع من كل تلك المنطقة. لم يستطع أن يحتجب: فسمعته وشهرته سبقته إلى هناك. وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ متضرعين إليه أن يشفيهم. وبينما راح ينتقل من قرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، بل وحتى إلى الريف الفسيح، كانت تتقاطر من حوله الحشود الذين كانوا يأتون بأصدقائهم وأقربائهم المرضى إليه راجين منه أن يسمح لهم ولو بلمس هدب ثوبه. ويخبرنا الإنجيل أن "كُل مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ". الله المتجسد كان يسير وسط شعبه، وكان يُسرُّ بأن يخفّف آلامهم ومعاناتهم وأن يشفيهم من أمراضهم. وأينما سار كانت تتجلى قدرته على الشفاء. ولكن كل ذلك، وللأسف، لم ينفع في إقناع الرؤساء بأن المسيا الذي طالما انتظروه قد جاء ليحررهم.

الأصحاح التالي يظهر المعارضة والمقاومة المتزايدة المتنامية، التي بلغت أوجها، كما نعلم، في الصليب.