الأصحاح ٣

من جديد نرى الرب في خلاف مع الفريسيين فيما يتعلق بمسألة السبت. إن إعلانه بأن السبت كان تدبيراً مُنعماً من الله لأجل راحة الإنسان ولم يكن يُعنى به أن يزيد من الأثقال عليه بل أن يريحه، لم يأخذ بعين الاعتبار الانطباع الذي سيخلفه هذا عند أولئك الناموسيين التشريعيين الصارمين المتزمتين والماكرين.

"ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى الْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ: «قُمْ فِي الْوَسَطِ!» ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟». فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى" (٣: ١- ٥).

كان من بين الحضور في خدمة المجمع في ذلك السبت المعين رجلٌ بائس عاجز بيدٍ يابسة- أي يد صارت مشلولة وعلقة إلى جنبه بدون فائدة.

وإذ كانوا يعرفون قلب يسوع الحنون، عرف منتقدوه أنه من المسلم به أن سيهتم لأمر هذا الرجل؛ وبدلاً من أن يبتهجوا بهذا الدليل على المحبة الإلهية والمراعاة، راحوا يراقبونه بعيون مليئة بالغيرة والحسد ليروا إن كان سيستخدم قدرته الشفائية في يوم السبت، وفي دخيلة أنفسهم كانوا يودون لو يفعل ذلك ليستطيعوا أن يكيلوا له تهمة انتهاك تقليد الشيوخ. هكذا هو قلب الإنسان، يكون خارجياً أو ظاهرياً تقياً ومتديناً، عندما يكون غريباً عن نعمة الله.

يسوع، الذي لم يكن من شيء خفي عليه والذي كان يقرأ أفكارهم ككتاب مفتوح، أمر الرجل المشلول جزئياً بأن "«قُمْ فِي الْوَسَطِ!»". يمكن للمرء أن يتخيل كم كان هذا الرجل ليطيع بتوق ولهفة ورجاء، وهو ينظر إلى يسوع مرتقباً شفاء عجزه.

وهنا طرح الرب السؤال: "«هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟»". ولم يُجِبْ أحدٌ. وإذ كان عارفاً بريائهم، نظر حوله إليهم بغضب. لقد كان غضباً مقدساً بسبب ادّعائهم تكريم الله ولا مبالاتهم بحاجات الناس. لقد أحزنت غلاظةُ قلوبهم روحَ يسوع الحانية. ثم أمر الرجل أن يبسط يده. وفي الحال، وإذ نظر بإيمان إلى يسوع، شعر بحياة جديدة تدب في ذلك الطرف المشلول، ومدّها ووجد أنها صارت سليمة وقوية مثل اليد الأخرى.

لعل المرء يفكر أن هكذا إظهار للنعمة والقوة التي كانت في المسيح كانت لتملأ كل قلب بالسرور وتؤدي إلى مديح الله وشكره لافتقاده شعبه على ذلك النحو الرائع؛ ولكن كان لهذا تأثير معاكس على هؤلاء المدافعين الغيورين عن التقاليد البشرية إزاء الإعلان الإلهي.

"فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ. فَانْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْبَحْرِ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَالَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ جَمْعٌ كَثِيرٌ إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ الْجَمْعِ كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ. وَﭐلأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: «إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!» وَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ" (٣: ٦- ١٢).

مظهرين انعدام الضمائر نحو الله، ومع أنهم حريصون جداً على الشكليات المتعلقة بحفظ تقاليدهم ومفاهيمهم المغلوطة عن مشيئة الله فيما يتعلق بحفظ يوم السبت من كل أسبوع، فإن الفريسيين، أنصار التقليد القويم المتزمتين الصارمين، تحالفوا مع الهيرودوسيين، السياسيين الفاسدين في عصرهم، في كيفية القبض على يسوع وإزاحته من الطريق. فهذان الفريقان اللذان هما على طرفي نقيض، التقوا هناك، كما يحدث غالباً عند البشر ذوي وجهات النظر المختلفة، فاتفقوا كلياً في رفضهم للمسيح وتشاوروا فيما بينهم على إهلاكه. هذا هو الشر المحتوم ومقاومة الله في القلب الطبيعي.

ونعلم أن يسوع انصرف من تلقاء ذاته، ومضى مع تلاميذه إلى شاطئ بحر الجليل. وإذ علم الناس بوجوده احتشد جمعٌ غفير، ليس فقط في الجليل نفسها، بل أيضاً من اليهودية ومن مناطق جنوبية شرقية كأدومية، أرض أدوم، وآخرون من الشمال الغربي من مناطق صور وصيداء. لقد انتشرت سمعة يسوع على نطاق واسع. لقد كان أوان ترقب واهتياج تحزري وسط الشعب اليهودي في كل مكان، الذين كانوا يبحثون بثقة عن الظهور الذي سبق التنبؤ به لابن داود الذي طال انتظاره والذي كان ليأتي بالانعتاق والخلاص لإسرائيل. من الواضح أن الأمل بأن يكون يسوع النبي الذي من الناصرة هو المسيا في قلب الحشود الوافرة العدد التي أتت من القريب والبعيد لتسمع كلماته وتعاين أعمال قوته.

لقد كان الحشد الذين ازدحموا حول يسوع وهو واقف على شاطئ ضيق كثيفاً جداً. ولذلك طلب من أحد تلاميذه (نعلم من روايات أخرى أنه بطرس) أن يمنحه الإذن باستخدام قارب الصيد خاصته، الذي كان قد ثبت مرساته بعيداً عن الشاطئ، كمنبر. وإذ وقف في هذه السفينة الصغيرة راح يخاطب الشعب الذين كانوا مشدودين بتوق إلى كلماته. ارتفعت التلال عند الشاطئ في ذلك الجزء من الساحل ذي البحر الصغير الداخل إلى اليابسة كمدرج كبير واسع وهكذا أمكن لصوت المتكلم أن يُسمع بيسر وسهولة لآلاف الناس.

كان هناك كثير من المرضى وسط تلك الجموع، وبع إنهاء خطبته شفى يسوع جميع الذين أتوا إليه. لقد كان إيمانهم كبيراً جداً في قدرته على الشفاء لدرجة أنهم كانوا يمدون أيديهم بلهفة إليه مؤمنين أن لمسة من ردائه ستجلب لهم الانعتاق الذي كانوا يتوقون إليه. ولم يخب أمل أحد. وحتى أولئك الممسوسين بالأرواح النجسة كانوا يتحررون من عبوديتهم، وكانت الأرواح الشريرة تعلن حقيقة ألوهيته. "«إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»". ولكنه ما كان يستحسن الاعتراف المسموع من تلك القوى الشريرة، ولذلك كان يأمرها أن تكف عن الاعتراف به على ذلك النحو.

"ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ). وَأَنْدَرَاوُسَ وَفِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ وَمَتَّى وَتُومَا وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَتَدَّاوُسَ وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ" (٣: ١٣- ١٩).

من بين الكثيرين الذين صاروا تلاميذ ليسوع اختار اثني عشر كانوا على صلة وثيقة به، وكانوا، مع استثناء وحيد، قد قُدِّرَ لهم أن يكونوا شهوداً له بعد موته وقيامته.

"وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا" (الآية ١٤). ليس الناس هم من يختارون أنفسهم أو يقيمون أنفسهم خداماً للمسيح. هو الذي يختار ويعيّن خاصته (يوحنا ١٥: ١٦). يمكننا القول أن جميع الرسل الاثني عشر هم "أناسٌ قد اختيروا بعناية" (حتى يهوذا)، لأنهم موضع اهتمام الله الخاص. "سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ" (الأرواح النجسة). لقد كان الاثنا عشر عاجزين بأنفسهم، ولكن الرب قوّاهم ليصنعوا أعمالاً مقتدرة ليثبتوا مصداقية الرسالة التي كانوا سيحملونها إلى إسرائيل.

يظهر اسم سمعان، الذي أعطاه الرب لبطرس، متمايزاً وحده في الآية ١٦.لقد كان بشكل من الأشكال رئيساً للرسل. طبيعة شخصيته المتقدة النشطة وتوهج روحه أهّلتْه بطريقة خاصة للزعامة والقيادة بعد أن مُنِحوا الروح القدس في العنصرة. وكما نعلم، فقد كانت خدمته لليهود بشكل خاص، رغم أنه هو الذي فتح باب الإيمان أمام الأمميين بكرازته بالإنجيل في بيت كورنيليوس. لقد أعطاه يسوع لقب "الصخرة".

يليه في الترتيب "يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ وَجَعَلَ (يسوع) لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ)". عندما كان يسوع اسماً جديداً لأي شخص، فإنه كان يشير إلى صفة معينة مميزة كان يراها فيه أو كان على وشك أن يخلقها فيه في الأيام اللاحقة. "بُوَانَرْجِسَ" ترجمتها "ابْنَيِ الرَّعْدِ". من الواضح أن هذين الشابين كانا ذوي مزاج انفعالي، تسهل إثارتهما إلى أحكان انفعالية متسرعة، وعلى الأرجح أنهما كانا سرعان ما يلتزمان بقرارات قاطعة حاسمة. كان يعقوب أول واحد بين الاثني عشر الذي وقّع شهادته بدمه. وأما يوحنا، الذي من الواضح أنه كان أصغر واحد في المجموعة، قد عمّر طويلاً بعدهم جميعاً، وبعد معاناة لا تصدق، مات ميتة طبيعية في أفسس في العقد الأخير من القرن الأول في التاريخ المسيحي.

وكان أندراوس شقيق بطرس، وهو الذي أرشد الأخير إلى المسيح، كما نعلم من يوحنا ١: ٤٠- ٤٢. الأسماء َفِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ (الذي يُدعى نثنائيل أيضاً) مرتبطين معاً. لقد كانا صديقين قبل أن يلتقيا بيسوع، وفيلبس هو من عرّف الآخر على المخلص. ومتى، المعروف أيضاً باسم لاوي، كان جابي ضرائب في دار جباية الضرائب للرومان في كفرناحوم، ولكنه ترك كل شيء ليتبع المسيح. ولا نعرف شيئاً عن حياة توما الباكرة. أنه معروف كثيراً في ذاكرتنا بسبب إعلانه الذي صرّح به عن شكّه في هوية ذاك الذي قال الآخرون أنه المسيح القائم، ولكن- مع ذلك- اعترف به وعبده رباً وإلهاً عندما ظهر يسوع لهم بعد أسبوع. يَعْقُوب وَتَدَّاوُس (أو يهوذا، غير الإِسْخَرْيُوطِيَّ)، كانا أخوين، وهما ابنا حَلْفَى، ومن الواضح أنهما كانا من أقارب يسوع بحسب الجسد. وسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، الذي يُعرف في مكان آخر باسم "الغيور"، كان ينتمي إلى جماعة يهودية متطرفة مخرِّبة كانت تعمل بشكل سري، وأحياناً بشكل علني، لأجل تحرير فلسطين من نير الرومان.

آخر تلميذ في القائمة هو يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيّ (الذي من خريوط) الذي حُكِمَ عليه بالخزي إلى الأبد. لقد بدا على أنه "الجنتلمان" من بين التلاميذ الاثني عشر، رجل ثقافة، وقد عُيّنَ ليكون مؤتمناً على صندوق الجماعة الصغيرة، ويكون هكذا، بالتالي، موضع تقدير خاص من قِبَلِ الآخرين، ولكنه، بالحري، كان كاذباً ومنافقاً من البداية. وهو من قال يسوع عنه فيما بعد: "وَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!".

بعد أن يعطينا مرقس لائحة الأسماء تلك يُسارع إلى إخبارنا عن المزيد من نشاطات وأعمال خادم الله الممسوح.

"فَاجْتَمَعَ أَيْضاً جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ. وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!»" (٣: ٢٠، ٢١).

كثيرون أتوا إلى يسوع من أجل الشفاء والتعليم لدرجة أنه بالكاد كان يتسنى ليسوع فرصة للراحة الجسدية. لقد كان مشغولاً جداً طوال الوقت حتى أنه لم يحظ بوقت فراغ أو استراحة هو أو التلاميذ حتى ليتناولوا وجبات طعامهم العادية بهدوء وراحة. وكان أقرباؤه- ويقصد بهم أقرباءه المباشرين- كانوا يخافون حقاً على سلامة قواه العقلية وحاولوا أن يثنوه عن المزيد من الخدمة للوقت الحاضر على الأقل، معتبرين أنه مُخَبّلٌ. ولكنه لم يسمح لأحد بأن يتدخّل في العمل الذي كان قد جاء لينجزه.

"وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ». فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: «كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟ وَإِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. وَإِنِ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذَلِكَ الْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. وَإِنْ قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَانْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ بَلْ يَكُونُ لَهُ انْقِضَاءٌ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً». لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً»" (٣: ٢٢- ٣٠).

إذ عاين بعض الكتبة المعجزات التي اجترحها، وهم قادة للدين كانوا قد نزلوا من أورشليم، راحوا يرقبون ما يجري بعين الحسد والغيرة. وإذ لاحظوا تعاظم تأثيره على عقول الجماهير خشيوا على هيبتهم وسلطتهم. وحتى عندما كانت الأرواح الشريرة تغادر ضحاياها، إذ تطردهم كلمتُه، كان الكتبة والفريسيون يأبون الإيمان بأن روح الله كانت تعمل في ومن خلال يسوع فيشهد له بذلك على أنه المسيا الموعود. فأعلنوا عامدين متعمدين: "«إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»". لقد كان هذا دليلاً على مدى قسوة قلوبهم ورفضهم الكامل الكلي لشهادته. وباعتبارهم عمل الروح القدس بأنه عمل رئيس الشياطين فإنهم كانوا يتجاوزون كل الحدود. لقد كانت قلوبهم مُقسّاةً، وفات أوان التوبة بالنسبة لهم.

هذا  ما سمّاه البعضُ "الخطيئة التي لا تُغتفر".  في الواقع، ما من خطيئة لا تُغفر إن تاب الناس عنها والتجأوا إلى المسيح بالإيمان. ولكن من الممكن أن يخطئ المرء لدرجة يتحجر معها الضمير كالحديد المحمى، وعندها يفقد الإنسان كل رغبة في التوبة ويستسلم إلى وهم وضلال قوي يجعلهم يصدقون الكذبة ويصيرون إلى الهلاك الأبدي. هكذا كان الحال مع هؤلاء الكتبة. لقد رفضوا كل شهادة أعطاها الله على الحق كما تبدّى في يسوع.

لقد كشف الرب كل الشر والحماقة التي في اقتراحهم بأنه كان يطرد الأرواح النجسة بمعونة رئيس الشياطين عندما قال: "كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟" وأوضح قائلاً: "إِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ". ولا يمكن لبيتٍ منقسمٍ عَلَى ذَاتِهِ أن يَثْبُتَ. كما وأنه لا يمكن الاعتقاد بأن الشَّيْطَان يمكن أن يقوم عَلَى ذَاتِهِ ويسعى لتدمير مملكته. فقيامه بذلك إنما فيه نهاية سلطته على البشر.

لقد كان الشيطان قد وضع يده، كمثل رجل قوي، على هذه الضحايا البائسة المسكينة مستعبداً إياها لسنين إلى أن جاء من هو أقوى منه ليقيّدَه بكلمته ويتلف بيته بذلك. رفض شهادة الروح القدس من قِبَلِ أي شخص كانت تدل على تحالف هذا الشخص كلياً مع الشيطان في هذا الصراع الكبير.

ولذلك أضاف يسوع قائلاً في جلال: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً»". وتعليل هذه الخطيئة يأتي في الآية التالية: "لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً»".

لم تكن هذه الكلمات بغاية تعذيب النفوس القلقة التي كانت ترغب بصدق في معرفة المسيح، بل هي بمثابة منارة متوهّجة تحذّر من خطر التعنت والإصرار على رفض شهادة الروح للمسيح، إلى أن يصل الوجدان المتقسّي إلى مرحلة لا يعود قادراً معها إلى التجاوب مع رسالة الإنجيل.

"فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ فَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ». فَأَجَابَهُمْ قَائِلاً: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي»" (٣: ٣١- ٣٥).

أقرباء يسوع، بمن فيهم أمه التي من الواضح أنها ما كانت قد فهمت بعد بشكل كامل طبيعة ومصير ابنها الذي حبلت به بأعجوبة، أرسلوا رسولاً يطلب منه أن يأتي إليهم، في حين وقفوا على الأرجح على طرف الحشد. وفي جوابه أظهر الرب كيف أن كل العلاقات الطبيعية المجردة كان يجب أن تحل محلها علاقات ذات طابع روحي. لقد سأل: "«مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟»". ثم، وإذ راح ينظر إلى الوجوه التواقة المحيطة به والذين كانوا يصغون إلى كلماته بكل جوارحهم، قال: "«هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي»". وهكذا أكّد على الحقيقة العظيمة التي كشفها لنيقوديموس: "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٦). إنها ولادة جديدة تتجلى في إطاعة الكلمة التي تأتي بالمرء إلى علاقة أبدية مع ربنا يسوع المسيح.

يجدر بنا أن نلاحظ أن مرقس، وبتوجيه الروح القدس، لم يُرشَد لأن يدوّن الأحداث في حياة وخدمة يسوع بحسب ترتيبها الزمني الكرونولوجي، بل بالأحرى بترتيب أدبي جميل، فيه يربط معاً حقائق وتعاليم معينة تركز على مبادئ بارزة رائعة.