القسم (٣)

الأصحاح ١٦

القيامة: المسيح لا يزال يخدم

لم تكن ليلة الموت المظلمة نهاية خدمة ربنا المبارك. فبالنسبة له، قاد "طريقُ الحياة" من القبر صعوداً إلى المجد، إلى يمين الآب، حيث المسرات إلى الأبد. روحه لم تبقَ في الجحيم- العالم غير المنظور، ولا رأى جسدُه الكريم فساداً في القبر (مز ١٦). كان أشعياء قد أعلن بروح النبوءة قائلاً: "إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (أشعياء ٥٣: ١٠). ولذلك فإن من سُلِّمَ إلى الموت باختياره لأجل آثامنا أقيمَ بفضل تبريرنا (رومية ٤: ٢٥). هذه هي الترجمة الأصح، وليس كما قيل أحياناً أنه أُقيم لأجل تبريرنا، بل بالحري لأن موته قد لبى كل استحقاقات عدالة الله ضدنا؛ ولذلك فقد كانت قيامته هي الإعلان الإلهي عن تبريرنا من كل شيء.

كما رأينا حتى الآن، كان يسوع قد أخبر مسبقاً مراراً وتكراراً عن قيامته التي كانت ستحدث بعد ثلاثة أيام؛ ولكن تلاميذه كانوا بطيئين عن السمع وأخفقوا في فهم معنى وفحوى كلماته. لذلك فقد كانت القيامة غير متوقعة، وأخذ الأمر وقتاً لتصديق هكذا حقيقة مدهشة رائعة. ظهور ذاك الذي مات حياً من جديد، بأوضح ما يكون، وحده أقنعهم بالحقيقة. وظل البعض يشك في المسألة حتى النهاية، كما سيُظهر هذا الأصحاح.

عدة نساء أتقياء كن آخراً عند الصليب وأولاً عند القبر في صباح الفصح العجيب ذاك.

"وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟» فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ فَانْدَهَشْنَ. فَقَالَ لَهُنَّ: «لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ». فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ" (١٦: ١- ٨).

السبت الأخير للناموس الذي ما عاد الله يعرفه أبداً قد شارف على الانقضاء. خلال يوم الراحة ذاك من العهد القديم، لم يعرف أحد على وجه الأرض إن كان الفداء قد أُنجز أم لا. لقد لاحظه اليهود، رغم أن أيديهم كانت ملطخة بدم عبد يهوه، الذي أصروا على موته، وبذلك حققوا، بدون معرفة منهم، ما ورد في نصوصهم الكتابية أنفسهم. والآن طلع فجر اليوم الأول من أسبوع جديد في زمن جديد. ومع شروق أول أشعة النور عبر السماء، تركت ثلاث نساء بقلوب محطمة منكسرة- مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصَّغِيرِ، وَسَالُومَةُ- منازلهن واتخذن سبيلهن نحو البستان حيث كان القبر الجديد الذي أعدّه يوسف والذي وُضِع فيه جسد يسوع، ولُفَّ بكتان، والذي كُنَّ قد اعتزمْنَ أن يضمّخْنه ويدْهنّه بالحنوط على عادة اليهود.

إذ ارتفعت الشمس في صفحة السماء أكثر، أمكنهن رؤية القبر، وهنا فكرن في الحجر الضخم الذي كان قد دُحرج لإغلاق مدخل القبر. لقد كان هذه الحجر يشبه إلى حد بعيد حجر رحى نُحت من شق صغير في حجر الجير على منحدر بحيث يمكن أن يُدحرج إلى الثلم ليسد مكان الباب في الضريح، ولكن إبعاده أو دحرجته ارتجاعياً وإلى الأعلى من جديد كان سيأخذ جهداً ويتطلب قوة كبيرة جداً.

وبينما كانت النسوة تسرن في الطريق رحن يتساءلن فيما بينهن كيف سيستطعن الدخول إلى التجويف الصخري للقبر حيث كان الجسد موضوعاً. فسألن: "«مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟»". لم يكن هناك أحد من التلاميذ ليقوم بهذه الخدمة لهن. لقد كانوا (التلاميذ) ينوحون على موت يسوع ومن الواضح أنهم كانوا يفكّرون أنه ما من شيء الآن ليغير مجرى الأحداث نحو الأفضل.

ولكن مع اقتراب النسوة أكثر اندهشن لرؤية الحجر وقد دُحرج وأن المدخل مكشوف تماماً. ونعلم من أناجيل أخرى أن أول ما خطر في ذهنهن هو أن القبر قد نهبه أعداء يسوع وأنهم سرقوا جسده وحملوه بعيداً.

ولكن ما إن دخلن القبر حتى رَأَيْنَ "شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ". لقد ملأ حضورُه النساءَ بخوف غريب. ولم يفهمن لأول وهلة أن هذه الشاب كان حاضراً عند خلق الكون، "عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعاً وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ" (أيوب ٣٨: ٧). لقد كان شاباً سرمدياً لأنه لم يكن ينتمي إلى الأرض بل من الخلائق السماوية.

وطمأنهن في الحال، طالباً منهن ألا يخفن. وأضاف قائلاً: "أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ".

بعيون منذهلة مندهشة نظرت النسوة إلى القبر الفارغ حيث لم يبقى سوى الكفن. وأوصاهن الملاك أن يمضين في طريقهن وأن يخبرن تلاميذه، وبطرس، أن يسوع كان يسبقهم إلى الجليل إلى مكان اللقاء ذاك الذي كان قد أخبرهم عنه قبل صلبه. وهناك سيُظهر ذاته لهم.

هناك شيء مؤثر على نحو غريب مميز في هاتين الكلمتين "وبطرس". لا بد أن (بطرس) كان قد قضى فترة دفن الرب في حزن وكرب في الروح إذ كان يفكر ملياً في نكرانه له. ما كان ليشعر أنه يستحق بعد أن يُدعى تلميذاً له. ولكن الرسالة الخاصة أن "وبطرس"، كانت التوكيد من يسوع على أنه كان يحبه وأنه كان لا يزال يعتبره واحداً من خاصته.

سرعان ما غادرت النسوة المكان وهرعن إلى المدينة، وهن خائفات أن يخبرن أحداً عما رأينه أو سمعنه. من الواضح أن إحداهن قد التفتت إلى الوراء، وإذ تخلّفت عنهن في البستان، فإن يسوع نفسه ظهر لها. كانت هذه إحدى النساء الثلاث اللواتي أحببن أكثر لأن خلاصها كان عظيماً.

"وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ وَقَدْ نَظَرَتْهُ لَمْ يُصَدِّقُوا" (١٦: ٩- ١١).

"ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ". يبدو أنه ما من دليل كتابي على أن مريم هذه كانت امرأة خليعة أو غير أخلاقية، كما افترض كثيرون. لقد كان يُنظر إلى اسم مريم المجدلية عبر العصور وكأنه مرادف للمومس. ذلك أن كثيرين حاولوا أن يطابقوا بين مريم المجدلية وتلك المرأة في المدينة، التي جاءت إلى بيت الفريسي، كما ورد في رواية لوقا ٧، وغسلت قدمي يسوع بدموع توبتها. ولكن لا يبدو هناك أي إثبات على أن المرأتين هما نفس الشخص. ما يخبرنا النص هنا (في إنجيل مرقس) هو أن يسوع كان قد أَخْرَجَ مِنْ مريم سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. ولكن ليس من الضرورة أن تكون المرأة التي فيها شياطين امرأة غير محترمة. وليس من الضروري أن نفترض أن تملك الشيطان لنفسٍ يعني عدم العفة.

لقد أظهر يسوع ذاته لمريم بطريقة أزالت كل شكوكها؛ وهرعت لتخبر تلاميذه، الذين كانوا ينوحون ويبكون على موت ربهم، فقالت لهم أنه قام حقاً من بين الأموات.

ولكن بما أنهم ما كانوا بعد قادرين على تصديق القصة، ورغم أنها أكدت لهم بثقة أنها رأته وتحدثت إليه، فإنهم لم يصدقوا أن ذاك الذي مات هو حي من جديد. لا يذكر مرقس زيارة يوحنا وبطرس إلى القبر، وتأييدهم وتعزيزهم لصدق رواية مريم. إلا أنه يخبرنا بكلمات قليلة عن الحادثة التي يسهب لوقا في وصفها- ألا وهي لقاء يسوع مع تلميذي عمواس.

"وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاِثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. َذَهَبَ هَذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ" (١٦: ١٢- ١٣).

استناداً إلى الكلمات "ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى"، توصّل البعض إلى استنتاج خاطئ بأن يسوع، بعد القيامة، ما عاد يمتلك الجسد ذاته الذي صُلبَ فيه. إلا أن نصوصاً كتابية أخرى تخالف هذه الفكرة تماماً. فأعينهما هي التي كانت متعبة، كما يقول لوقا، وليس الأمر أنه اتخذ جسداً مختلفاً آخر.

بعد ظهوره لهما وهما جالسين معه إلى وليمة الطعام، عادا إلى أورشليم وأخبرا الأحد عشر أنهما رأياه. ومن جديد نعلم أن الآخرين "لَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ". لقد كان يصعب إقناعهم بأن يسوع قد غلب الموت.

آخر ظهور يذكره مرقس جرى في تلك الغرفة نفسها التي كانوا يتناولون فيها طعام العشاء.

"أَخِيراً ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ». ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَ مَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ" (١٦: ١٤- ٢٠).

"ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ" ١. لا نستطيع أن نجزم فيما إذا كانت هذه نفس المناسبة التي ذكرها لوقا (٢٤: ٣٦- ٤٣) ويوحنا (٢٠: ١٩). وعلى الأرجح جداً أن الحادثة كانت إما في أول مساء، عندما كان توما غائباً، أو في المساء الثاني، عندما كان (توما) هناك. وبما أن البعض كان لا يزال غير مؤمن، فإن الرب "وَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ" في أنهم لم يقبلوا شهادة النساء، وكلوبا ورفيقه، الذين أكدوا ما كان يسوع نفسه قد قال لهم بأنه سيحدث. من المهم أن نضع عدم إيمانهم نصب أعيننا عندما نأتي إلى التمعن فيما قاله لهم فيما بعد. من الملائم أكثر أن تكون هذه الواقعة قد حدثت في المناسبة الأبكر أكثر من التالية، إذ في الوقت الذي اقتنع فيه توما كان لا بد أن تكون جميع الشكوك قد ذهبت من الجميع.

إن التفويض العظيم لم يُعْطَ مرةً واحدة، بل في عدة مناسبات، وفي كل مرة كانت هناك فروقات ذات أهمية بالغة. هنا يحدد برنامجه للكرازة بالإنجيل للعالم بأسره بتعابير واضحة لا لبس فيها. "اكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا". توجب عليهم أن ينقلوا البشرى السارة عن الفداء الذي أُكمل، ليس فقط إلى إسرائيل الذين كانت رسالة الملكوت مقتصرة عليهم بشكل كبير خلال خدمة الرب على الأرض (متى ١٠: ٦)، بل "إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ". وكان يجب إزالة كل عائق لكي يتدفق نهر النعمة إلى الجميع.

"مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ". إن من استقبل الرسالة بإيمان كان عليه أن يشهد على ذلك بأن يعتمد، وبذا يعلن نفسه تلميذاً له علانية. لم يكن هناك ثمة قيمة خلاصية في الطقس بحد ذاته، بل كان مجرد تعبير عن الخضوع للمسيح. وأولئك الذين رفضوا الإيمان سوف يُدانون. لاحظوا أنه لم يقل أن من لا يعتمد سوف يُدان.

 "هَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ". هذه الآيات هي ما يسميه بولس "عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ" (٢ كورنثوس ١٢: ١٢). هذه القدرات على اجتراح المعجزات أُعطِيَتْ للرسل المعتمَدين للتصديق على أنهم ممثلون عن المسيح (أعمال ٤: ٣٠- ٣٣؛ ٥: ١٢). ولكن لم يُظهرها أحدٌ ممن لم يؤمنوا، وقد رأينا أن "البعض قد شكّوا" حتى بين الاثني عشر. من الخطأ أن نعتقد أن العلامات تتبع أولئك الذين آمنوا بالرسل أو المرسلين. ليس الحال هكذا. بالنسبة للبعض، أولئك الذين أصبحوا بأنفسهم شهوداً علانية، كانت هكذا علامات تُمنح لهم فعلاً (١ كور ١٢: ٧- ١١)، ولكن كان هذا بحسب مشيئة الله المطلقة.

"ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ". لا يخبرنا مرقس كم من الوقت قد انقضى بين إعطاء هذا التفويض والصعود، ولكن الروايات الأخرى (في الأناجيل) تشير إلى أن هذه الفترة كانت حوالي أربعين يوماً. وفي الوقت المحدد استُقبلَ الإنسانُ المسيح يسوع فوق في السماء بمجد (١ تيموثاوس ٣: ١٦)، حيث يشارك عرش الآب الآن (عبرانيين ١: ٣).

"فَخَرَجُوا .... وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ". في الواقع إن كل ما عمله خدامه لأجله كان قد تم بواسطته لأنه يعمل فيهم ومن خلالهم بقوة روح قدسه. ونعلم من الإنجيل أنهم "خَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ". نعرف من سفر أعمال الرسل أنهم كانوا بطيئين في القيام بذلك. لقد مضى بعض الوقت إلى أن استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من الميول اليهودية والتحيّز لليهود لكي يتجهوا إلى كل العالم ويعرّفوا الأمميين ببشرى الإنجيل السارة. ولكن مع مرور الوقت دخلوا أكثر وبشكل أكمل إلى فكر الرب وهكذا حملوا البشارة إلى كل مكان كما أمرهم.

هذا العمل في تبشير العالم لا يزال مستمراً، ولن يكتمل إلى يسمع كل الناس في كل مكان رسالة نعمة الله وقد خرجت إلى العالم الضال. إن الاهتمام بالإرساليات التبشيرية ليس مادة اختيارية في جامعة كلية الله للنعمة. إنها مادة يجب على كل تلميذ فيها أن يدرسها كمادة أساسية اختصاصية. نحن الذين خلصنا مؤتمنون من قِبَلِ ربنا القائم على الامتياز المجيد بأن ننقل الإنجيل إلى العالم بأسره. ولهذا السبب بالذات قد أُبقينا في هذا العالم. وبالنسبة لخلاصنا، فإنه أكيد ومضمون لنا من الله كما في اللحظة الأولى التي آمنا فيها بالمسيح. لعله كان يمكن أن نؤخذ إلى موطننا السماوي فوراً. ولكن الله بحكمته اللا متناهية أبقانا هنا على الأرض لكي نكون شهوداً على نعمته المخلِّّصة ولكي يأتي آخرون كثيرون بواسطتنا إلى مشاركتنا النعمة التي لنا في المسيح. لو كانت الكنيسة مخلصة للتفويض الموكل إليها، لكان جسد المسيح قد أُكمل منذ زمن  بعيد ولكانت عودة الرب قد تحققت، إلا أنه كان يؤجل، على ما يبدو، وذلك لاهتمامه بخلاص الناس (٢ بطرس ٣: ٩).

لم أسهب في المسألة الحاسمة المتعلقة بموثوقية وصحة نسبة الجزء الأخير من هذا الأصحاح، الآيات ٩ إلى ٢٠. فهذه لا ترد في مخطوطتين أقدم ما تكونان، ولكنها تحمل توقيع الوحي، ويشهد سفر أعمال الرسل وتاريخ الإرساليات على موثوقيتها، ولذلك لا أرى سبباً للافتراض أنها ليست جزءاً من الكتاب المقدس الموحى به من الله الذي لتعليمنا وبركتنا.

لا يتابع مرقس الحديث ليصف الصعود، بل ينهي إنجيله بالرب القائم كخادم لا يزال يعمل مع أتباعه وهم يسيرون في إطاعة كلمته.


١. - في ترجمة أدق، نقلاً عن اليونانية: "وهم متكئون إلى المائدة": (ἀνακεῖμαι). [فريق الترجمة].