القسم ٤:‏٩:‏٩-‏١٠:‏٤٥

الأصحاح ٩:‏٩-‏٥٠

طريق التلمذة

"وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا إلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: «مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ. لَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ»" (٩: ٩- ١٣).

بينما كانت الجماعة الصغيرة نازلة من الجبل، الذي كان جبل حرمون على الأرجح حيث أمضوا الليل، أوصاهم الرب يسوع بشكل مباشر وصريح جداً ألا يقولوا أي شيء البتة فيما يتعلق بما رأوه إلى أن يكون، هو نفسه، ابن الإنسان، قد أُقيم من بين الأموات. وكان لا يزال هذا، بالنسبة لهم، لغزاً غامضاً، فمع أن الرب كان قد تحدث في عدة مناسبات سابقة عن موته وقيامته في اليوم الثالث، لكن يبدو أنهم لم يفهموا. وإذ كانوا نازلين من الجبل كانوا يتساءلون عما يمكن أن تعنيه عبارة "الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ". من الواضح أنهم كانوا متيقنين في قلوبهم أن يسوع هو المسيا. ولكن طُرح سؤال يتعلق بنبوءة ملاخي التي قالت أن إيليا سيُرسَلُ قبل يوم الرب العظيم والمخيف. إذ كانوا على اطلاع على الكتاب المقدس، كان الكتبة يعلّمون الشعب ألا يبحثوا عن المسيا أولاً بل عن إيليا، ومن هنا سأل التلاميذُ المسيحَ: "«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟»" فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: "«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ". ولَكِنّه أعلن قائلاً: "إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ»". ففهموا عندها أنه يشير إلى يوحنا المعمدان. فقد كانت خدمة يوحنا (المعمدان) مشابهة لخدمة إيليا. لقد جاء يشجب الخطيئة ويدعو الناس إلى التوبة، فيكونون بذلك في حالة تسمح لهم باقتبال المسيا عندما يظهر. وفي مكان آخر (من الكتاب المقدس) نعلم أن يسوع قال: "إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ" (متى ١١: ١٤). لم يقتبل الجميعُ يوحنا المعمدان، ولم تُحدث كرازتُه الأثر المرجو على كل الشعب كما كان مفترضاً بسبب عدم إيمانهم. وكان البعض ليفترض أنه لا يزال هناك تحقيق آخر أبعد لنبوءة ملاخي، وأنه في فترة الضيقة العظيمة، بعد اختطاف الكنيسة، سيأتي خادم آخر يشبه إيليا يقيمه الله ليُعِدَّ البقية المتبقية من إسرائيل ليستقبلوا الممسوح. وقد يكون هذا الأمر صحيحاً.

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟»" (٩: ١٤- ١٦).

إذ وصلوا إلى السهل، لفت انتباهَ يسوع في الحال الجمعُ الكبير المحتشد حول التلاميذ التسعة الذين لم يكونوا معه ليلاً في الجبل. كان بعض الكتبة يحاوروهم، ومن الواضح أن الجدال كان يدور حول قضايا معينة تتعلق باحتمال مسيانية يسوع. عندما رآه الجمع، التفتوا إليه، ويخبرنا الإنجيل أنهم انذهلوا للغاية، وأسرعوا إليه، وسلموا عليه. لا نعرف بالتأكيد ما الذي جعلهم ينذهلون، ولكن الاقتراح هو أن وجهه كان لا يزال يشرق بنور المجد، مثلما كان موسى العهد القديم عندما نزل من الجبل بعد قضاء أربعين يوماً مع الله. وإذ التفت إلى الكتبة سألهم: "«بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟»"

"فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَال: «يَا مُعَلِّمُ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». فَأجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لَكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً!» فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيداً وَخَرَجَ فَصَارَ كَمَيْتٍ حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مَاتَ. فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ. وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتاً سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»" (٩: ١٧- ٢٩).

رَفَعَ رجلٌ من بين الجموع صوتَه ملتمساً العون لأجل ابنه المبتلي الذي كان به روح شرير. لقد كان قلب الأب البائس ممزقاً من الألم والحزن وهو يحكي عن الحالة المؤلمة التي كان الغلام المسكين يرزح تحتها. الروح الشريرة التي كانت تستحوذ عليه كان "يدْرَكهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ". ورغبة منه في شفاء ابنه، أتى به والده إلى التلاميذ، متوسلاً إليهم أن يحرروا الصبي من تلك الروح، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطردوا الروح الشريرة منه.

لقد كان يسوع قد شجّع التلاميذ على أن يفعلوا مثل هذه الأمور، وحدث خلال تجوالهم بين قرى الجليل أن نجحوا في إخراج الشياطين، ولكنهم بدوا عاجزين تماماً في هذه الحالة. فالتفت إليهم يسوع ووبّخهم قائلاً: "«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟".

ثم التفت إلى الأب وقال: "قَدِّمُوهُ إِلَيَّ". فجيءَ بالغلام إلى يسوع، وعندما نظر إلى الفتى، فإن الروح الشريرة التي كانت فيه سرعان ما "صَرَعَهُ (الرُّوحُ) فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ"- كما الحال مع من يقع في نوبة صرع. نظر المخلص إلى الغلام في رفق وحنو، ثم التفت إلى والده وسأله: "«كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟»" فَقَالَ الأبُ: "مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ". وإذ نظر الأبُ إلى يسوع، قدّم إليه التماساً يثير الشفقة قائلاً: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". من الواضح أن إيمانه لم يكن كاملاً. لقد كان يؤمن في قلبه أن في مقدور يسوع أن يساعدَ، ولكنه لم يكن على يقين بأن يسوع سيرحب بالقيام بذلك.

"إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ". يغير يسوع اتجاه الأمور كلياً. فـ "إن" الشرطية تتعلق بالمستمع الذي يطلب المساعدة. فإن كان هناك إيمان حقيقي "كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ".

"أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي". بدموع سالت من عينيه أكّد الأب القلق المتلهف إيمانه؛ وإذ يدرك ضعف إيمانه، صرخ لأجل ثقة متزايدة، عسى يسوع يتولى هذه المسألة لأجله.

"اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً". بنبرة صوت تدل على سلطانٍ أمر (يسوع) الشيطانَ أن يطلق سراح ضحيته وألا يسيطر عليه ثانيةً.

"فَصَارَ كَمَيْتٍ"- لقد كان التشنج عنيفاً عندما انسحب الشرير- ذلك الشيطان الحقود- لدرجة أن الفتى وقع على الأرض كمائتٍ، حتى ظن كثيرون أنه قد قضى فعلاً. إلا أنه تبين أن ذلك كان آخر عمل يفعله الشيطان إزاء ذلك الفتى، وبه تحرّر من تأثيره المميت.

"فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ". إذ مدَّ يسوعُ يدَه أمسك بذاك الغلام الفاقد الوعي، وبذلك أعاد الوعي والقوة إليه، ولفرحة الأب فإن الابن قام واقفاً على قدميه، وقد شُفِيَ، وبكامل قواه العقلية.

وإذ ترك الجمع ودخل يسوع مع تلاميذه إلى البيت، وعلى الأرجح أن ذاك كان بيت بطرس، وعندما كان التلاميذ لوحدهم مع يسوع، سألوه على انفراد: "«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟»" فَأجاب يسوع قَائلاًْ: "«هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»". بعض المخطوطات حُذِفَتْ منها الكلمة الأخيرة، ولكن يبدو مع ذلك أن لهذه تأثير كبير. النقطة الأهم التي أراد المخلص التركيز عليها هي: ما من أحد له قدرة على الأرواح النجسة إن لم يكن على علاقة قوية حميمة مع الله.

"وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ" (٩: ٣٠- ٣٢).

إذ غادروا كفرناحوم حيث جرى هذا الحدث، انتقلوا إلى أماكن أخرى في الجليل، والرب يحاول ما وسعه ليتحاشى الدعاية والشعبية وسط عامة الناس. وفيما هم سائرون في الطريق، استمر يبسط لهم حقائق الملكوت، ومن جديد أخبرهم عن أية مِيتةٍ كان على وشك أن يموتها، فقال: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ". إن المرء ليعتقد أنه ما من لغة أوضح من هذه التي استخدمها الرب، حتى أنه ما من أحد يسمعها إلا وسيفهم ما عنى به الرب وأراده أن يكون واضحاً. ولكننا نعلم من الآية ٣٢ أنهم "لَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ"، أي شعروا بضرورة التحفظ والتكتم خشية أن يُظهروا جهلَهم بحقيقةٍ لطالما تحدّث عنها الرب أمامهم، ولكن يبدو أنهم لم يفهموها. لا بد أن السبب هو أن أفكارهم كانت متركّزة على المجد العتيد حتى أنهم ما كانوا يظنون أنه من المعقول أن يتم رفض وموت ذاك الذين كانوا يعتقدون أنه المسيا.

"وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» فَسَكَتُوا لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. فَجَلَسَ وَنَادَى الاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ». فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَأَجَابَه يُوحَنَّا قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ" (٩: ٣٣- ٤١).

إذ عادوا إلى كفرناحوم سأل يسوعُ تلاميذَه: "«بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟»" لم يدركوا أنه كان عالماً بأفكارهم. ما كان في حاجة لأن يسمع كلامهم ليعرف ما كان في قلوبهم.

"سَكَتُوا لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ". إذ أخفقوا في معرفة طبيعة ملكوت الله، ظنوا أنه مكان يتحقق فيه التقدم والترقية الدنيوية وراحوا يتجادلون فيما بينهم حول الميزات الشخصية لهم وأرجحية البروز والشهرة عندما سيتأسس الملكوت فعلياً.

"«إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ»". من يرغب أن يكون موضع تبجيل وتقدير أكثر في ملكوت الله هو الذي لا يسعى إلى أن ينال ذلك لنفسه، بل يضع نفسَه لأجل بركة الآخرين.

"فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ". كان في مقدور الأولاد أن يؤمنوا بالرب يسوع. فنعمته ذاتها ولطفه كانت تجتذبهم إليه. وهكذا تقدم الطفل الصغير عند طلبه وأخذ مكانه بشكل عجيب وسط تلاميذه المندهشين.

"مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي". كان الصغير ممثلاً عنه أو بمثابة مبعوث من قِبَلِهِ مطلق الصلاحية، ذلك أن ملكوته هو ملكوت المحبة والتواضع. وعندما يُقْبَل، فإن الآب الذي أرسله يُقْبَلُ أيضاً. ففي قلب الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ يحب الله أن يسكن (أشعياء ٦٦: ١، ٢).

"هُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا فَمَنَعْنَاهُ". من الواضح أنه وبغاية التأكيد على ولائهم للمسيح رغم التوبيخ الضمني، تكلم يوحنا وأخبر كيف أنهم منعوا رجلاً من أن يطرد الأرواح الشريرة لأنه لم يكن من جماعتهم. هذا الموقف مألوف عند الكثيرين اليوم الذين يفكرون في الانتماء الطائفي أكثر من القيام بعمل الرب. جميعنا عرضة لزيادة تقدير أهمية جماعتنا الخاصة وللتقليل من قدر الآخرين الذين لا نراهم على مستوانا. ولكن الاختبار الأبرز والأهم هو موقف القلب نحو المسيح. إن الله لا يتعامل مع طرف ويلغي الأطراف الأخرى. إن حضوره، بالروح، ليس محصوراً على مجموعة خاصة ما من المؤمنين، مهما كانوا راسخين في الإيمان. إنه يرى الجميع أبناء له يؤمنون بابنه، وهو يملك كل شيء منه في كل واحد منهم، أياً كان رفقاؤهم، رغم أننا مسؤولون من جهتنا على أن ننفصل عن كل ما هو شر معروف.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً". إن حقيقة أن يتصرف إنسان ما باسم يسوع المسيح تدل بذاتها على إيمانه به. فحيث يتم الاعتراف باسمه، سيكون موضع محبة وتكريم بأي شكل من الأشكال.

"لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". من السهل جداً أن نكون متعصبين بالروح. لقد بيّن يسوع حقيقةً عظيمةً يجب ألا ننساها أبداً، وذلك عندما قال: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". وفي مناسبة أخرى قال: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ" (متى ١٢: ٣٠). هذا القول إيجابي، وأما هنا فيتحدث على نحو سلبي. فإن لم يقف شخصٌ ضده فإنه يكون فرداً من فريقه. هذا أمر ينساه معظمنا. ولكن الرب يسوع لا يرفض أي شخص يسعى لأن يعرفه وأن يعمل مشيئته.

"مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ". لاحظوا هذه العبارة: "لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ". ليس السؤال هو فيما إذا كان المرء ينتمي إلى مجموعة معينة، أو فيما إذا كان يتبع طرقنا، أو يرفع نفس شعارنا؛ بل السؤال هو هل ينتمي ذلك الشخص للمسيح؟ إن كان كذلك، فكل ما نعمله من أجل هكذا شخص إنما لا يضيع أجره.

بعد ذلك شرع يسوع يعطي تعاليمَ جليلةً للغاية عن أهمية الإخلاص والصدق والأمانة في طريق التلمذة.

"وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً»" (٩: ٤٢- ٥٠).

إن تعثير أي من الصغار الذين يؤمنون بيسوع هو في نظره إساءة شائنة شنيعة. لقد أعلن قائلاً: "خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ". كم هو أمرٌ فظيع رهيب أن يتعمَّدَ أحدهم أن يؤذي أو يضلل طفلاً صغيراً أو من نقول عنهم "الصغار" بمعنى روحي أي "الصِّغَار الْمُؤْمِنِينَ". إن مسؤولية جسيمة تقع على عاتق أولئك الذين يقرّون بأنهم يعرفون المسيح، تتمثل في أن يقوموا بكل ما في وسعهم ليساعدوا أولئك الصغار لا أن يعيقوهم. إن حاول أحدٌ أن يؤذيهم بأي شكل من الأشكال يجب أن نجعله يضع نصبَ عينيه الكلمات المهيبة الجليلة التي ترد في الآيات التالية.

إن كانت اليد ستعثّر فلتُقطعْ، لأنه أفضل للمرء أن يدخل إلى الحياة مبتور اليد من أن يكون له يدان ويدخل الجحيم، أي جهنم، حيث الدينونة الأبدية: "إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ". لاحظوا كيف يكرر الرب هذه العبارة. رغم أنه كان أكثر من  وطأ الأرض حنواً ورأفةً، إلا أنه يقول الكثير عن فظاعة العقاب الأبدي لمن لا يتوب في النهاية أكثر من أي شخص يرد تعليمه في الكتاب المقدس.

"إِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا". إن كانت الرِّجْلُ ستقود المرء إلى دروب الخطيئة، فمن الأفضل له أن يكون بلا أرجل ويدخل الحياة على أن يكون برجلين ويدخل نار جهنم. وإن أعثرت العينُ المرءَ- وكم من خطايا تدخل من العين- فعلينا اقتلاعها. فمن الأفضل أن ندخل ملكوت الله بعين واحدة من أن نحظى بعينين ونُلقى في نار جهنم. إن التعبير "حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ" على الأرجح قد استند إلى ما كان مرئياً في أسفل وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، حيث كانت تُلقى كل نفايات المدينة والنيران الدائمة الاشتعال كانت تُحفظ متّقدةً وحيث كانت تُرمى جُثث الحيوانات الميتة، وحيث كان المارّةُ يرون الديدان القارضة والنار التي لا تنطفئ. إنها صورة مريعة مرعبة للدينونة التي تنتظر معاندي المسيح.

بعض المخطوطات القديمة حُذف منها جزء من الآية ٤٩، فبقيت الكلمات: "لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ". الفكرة واضحة، على كل حال، حتى ولو لم يكن ما تبقى من الآية يستند إلى أفضل موثوقية. كُلّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. قال الله فيما يخص الذبائح: "كُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ وَلا تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إلَهِكَ" (لاويين ٢: ١٣). الملح يحفظ من الفساد، ويبدو أن الرب يؤكد هنا على قوة البر الحافظة والتي وحدها تعتق المرء من الدينونة التي تستحقها الخطيئة حقاً. كان يسوع قد تحدث لتوه عن تلاميذه على أنهم ملح الأرض، ومن هذه الناحية يضيف قائلاً: "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟" الملح الذي لا يحفظ لا فائدة منه. وكذلك الأمر المؤمن المعترف الذي لا يتميز بالبرّ ليس من شهادة يقدّمها لله. لقد قال الرب: "لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ"- أي ليكن البرّ في حياتكم وسلوككم فاعلاً لتمجيد الله؛ وبدلاً من أن يسعى المرء لمصلحته الخاصة، عليه أن يسعى لخير الآخرين، وهكذا يسالم كل واحد الآخر.