القسم (٢)

الأصحاح ١:‏١٤-‏٤٥

العمل العظيم للخادم الإلهي

في هذا القسم نحن مدعوون إلى أن نتأمل في تجاوب مختلف الأشخاص مع دعوة الرب وشهادته خلال خدمة رسالته على الأرض. لقد سمع البعض بسرور دعوته الكريمة ليكونوا معه تلاميذ ورسلاً، وتخلوا حالاً وعن طيب نفس عن انشغالاتهم وأعمالهم العادية جميعاً محبة به. وآخرون كانوا مترددين وخائفين لئلا يحملوا نيره. كان البعض يطلبونه بسبب حاجتهم الشخصية، سواء كانت جسدية أم روحية؛ وتبعه آخرون إيماناً منهم بأنه كان المسيا الموعود ورغبة منهم في أن يكونوا شركاء له في ملكوته. ولكن أياً كان الدافع الذي قادهم لأن يتعلقوا به فإنه اقتبلهم وكان يعلّمهم بصبر وأناة، كاشفاً لهم المعنى الحقيقي لرسالته وما يتعلق بملكوت الله ذاك الذي "سُرَّ الآب أَنْ يُعْطِيه" لهم (لوقا ١٢: ٣٢). إن الآب هو من اجتذب الناس إلى الرب يسوع، ولذلك كان هناك ترحيب بجميع الذين جاؤوا إليه (يوحنا ٦: ٤٤). إنه نفس الأمر تماماً اليوم. قد يأتي أحدهم إليه بقلب محطم إذ يعلم أن يسوع المسيح يشفي القلوب المنكسرة، ويأتي آخر إليه بسبب اشتياقٍ وتوقٍ لديه لم يستطع أن يشبعه في هذا العالم البائس؛ ويأتي هذا منكس الرأس بسبب الخجل والخزي والحزن من جراء حياة رديئة شريرة مبددة؛ وذاك آخر يأتي لأنه سمع أن هناك سروراً وسعادة وفرحاً في المسيح. ولكن جميع الذين يأتون ينالون نعمة واستقبالاً فخماً ملكياً. على الجميع أن يأتوا كخطأة، إذ هؤلاء فقط من جاء يدعوهم (متى ٩: ١٣).

لم يضع ربنا قالباً لطريقة تعامله مع النفوس. إنه يكشف عن ذاته بطرق وأعمال عديدة مختلفة، بحسب الحاجات الخاصة لكل فرد. الأمر العظيم والذي يهمه هو أن يصل إلى كل الضمائر وأن يجتذب كل القلوب. أياً كان السبب الذي يأتي لأجله المرء إلى يسوع، يمكنه أن يكون متأكداً أنه لن يُخزَ أو يُرذل أو يُرد خائباً. إن الرب يقدّر عالياً التكرس المحب له. وبهذه الطريقة نتجاوب مع تضرعاته الكريمة ومطالبه الرقيقة.

"وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»" (الآيات ١٤، ١٥).

بعد وَضْعِ يوحنا المعمدان مقيداً في سجن مكايروس (إذا اعتمدنا كتابات المسيحيين الأوائل وشهادة يوسيفوس) كان صعود يسوع إلى الجليل، وذلك عقب فترة مكوث صغيرة في اليهودية، كما يدون إنجيل يوحنا؛ وهناك بدأ خدمته العلنية في الكرازة بالنبأ السار بأن ملكوت الله قريب. إشارة منه، وبلا شك، إلى النبوة المتعلقة بالزمان التي ترد في (دانيال ٩) أعلن قائلاً: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ"؛ ودعا الجميع إلى التوبة- أي ليدينوا أنفسهم أمام الله، وليؤمنوا بالبشرى الحسنة.

"وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ" (الآيات ١٦- ٢٠).

 لقد "أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ.... يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ". هذان الأخوان كانا قد التقيا بيسوع قبل برهة، ولكنهما ما كانا قد دُعيا بعد ليتركا كل شيء ويتبعاه. والآن وصلا إلى مرحلة حاسمة في حياتهما، إذ عليهما أن يتخذا قراراً مصيرياً. لاحظ أن الرب يسوع، وليسوا هم، من أخذ المبادرة (يوحنا ١٥: ١٦).

"«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ»". من الخطأ أن نحاول تطبيق هذه الكلمات على جميع تلاميذ الرب يسوع. بطريقة خاصة اختار هذين التلميذين، والآخرين فيما بعد، لأجل خدمة عظيمة في ربح النفوس. ولكن يمكننا أن نكون على يقين بأن كل من يتبعه بإخلاص سيستخدمه الرب بطريقة ما وإلا لا يكون إخلاصه حقيقياً.

لقد دعا الرب صيادي السمك الأربعة ليصيروا صيادين للناس. لقد رأى أنهم كانوا يؤدون عملهم في بحر الجليل بخبرة وإتقان، فدعاهم وأعدهم لخدمة أسمى وأعظم، ألا وهي ربح النفوس له. علينا ألا نستنتج من ذلك أن كل من يتبعون الرب يسوع المسيح سيصبحون رابحي نفوس عظماء. البعض يُدعون للخدمة بإمكانيات وطاقات أكثر تواضعاً بكثير. والبعض ليس لديه القدرة على أن يكرز أو يعظ، أو حتى أن يقوم بأي عمل شخصي فعال. ولكن كل واحد مدعو ليخدم في أية وظيفة أو مهمة يوكله الرب بها، حتى ولو كانت مجرد أن يعاني من أجله. يمكن للجميع أن يشاركوا في خدمة الصلاة وبذلك يكونون عوناً حقيقياً لأولئك الذين عُهد إليهم أمر الكرازة بالكلمة.

"فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ". لقد انجذبَتْ قلوبُهم في الحال إليه ورُبحت له. والآن، وقد جاءت الدعوة إلى خدمة علنية كامل الوقت، فلم يكن هناك تردد. صحيح أنه لم يكن لديهم الكثير ليتخلوا عنه، ولكنهم لأجل اسمه تركوا كل ما كان لديهم من الناحية الدنيوية، وجعلهم فَعَلَةً شجعان ومقتدرين في عملهم العظيم بربح النفوس له.

"رَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ". هذان أيضاً كانا صيادي سمك، وعلى الأقل يوحنا كان قد عرف يسوع قبلاً، وربما يعقوب أيضاً. من الواضح أن الرب يسوع المسيح قد ميّز فيهما اتقاد الروح وتكرس قلبهما المحب.

"فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا ... وَذَهَبَا وَرَاءَهُ". لقد كان هذا امتحاناً حقيقياً لقد كانا بلا شك يحبان والدهما زبدي بشدة. ولكنهما وضعا المسيح ودعوته بالدرجة الأولى، ولذلك تركا المنزل وشؤون عملهم لأجله. تخيلوا ما كان ليفوت بطرس وأندراوس ويوحنا ويعقوب لو خذلوا المسيح أو لم يبالوا بمطلبه منهم بأن يتركوا كل شيء من أجله. لقد تخلوا عن عملهم في الصيد لينكبوا على أعظم عمل أُوْكِلَ لإنسان- ألا وهو ربح النفوس للمسيح.

أما عن الزمن الذي انقضى بين دعوته للتلاميذ الصيادين الأربعة وتلبيتهم للدعوة، فلا يمكنننا إلا أن نخمنه. يبدو أن كل الأحداث قد جرت خلال بضعة أيام. وفي الواقع، لعل ذلك السبت الذي جرت فيه كل هذه الأعمال العظيمة المقتدرة قد تلا مباشرة اليوم الذي اصطادوا فيه ذلك المقدار الكبير العجائبي من السمك.

إن خدمة الرب يسوع المسيح في التعليم والشفاء مترابطتين على نحو وثيق دائماً وأبداً. والأخيرة تكمل الأولى، بمعنى أنها تصادق عليها وتثبت صحتها. الأعمال التي تُظهر قدرته أثبتت أنه ابن الله، المسيا المُنْتَظَر من قِبَل بني اسرائيل ومخلص العالم. لم يقم بأية معجزة عديمة الجدوى، أو أعمال أعاجيبية دراماتيكية مذهلة لإثارة العجب والدهشة. لم يكن ساحراً يسعى لإدهاش الناس بقدرته الخفية على العناصر أو على عقول الناس. في كل ما فعل كان أمام ناظريه تمجيد الآب ومباركة البشر. يوم السبت هذا في كفرناحوم لم يكن سوى حدث عابر من حياته الحافلة بالخدمة التي أُرسل لأجلها من قبل الآب الذي مسحه بالروح القدس لكي يَصْنَعَ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ (أعمال ١٠: ٣٨). لقد أدرك أن كل الأمراض، وكل سقم ونقص جسدي، على أنها، في المقام الأول، عمل عدو الله والإنسان، إذ ما كان ليوجد مرض في العالم لو لم تدخل الخطيئة لتشوه خليقة الله الجميلة. لقد كان توقُه المميز هو لإبطال عمل الشيطان وتحرير الذين يعانون من آثار الخطيئة، روحياً وجسدياً أيضاً. ومن هنا فقد أعطى لإسرائيل أن يتذوق مبدئياً البركة التي ستصبح عامة كونية عندما يتأسس ملكوت الله وينعتق البشر من عبودية الفساد (رومية ٨: ٢٠، ٢١).

"ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ فَصَرَخَ قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «ﭐخْرَسْ وَاخْرُجْ مِنْهُ!» فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ" (٢١- ٣٤).

"دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ". إلى هذه المدينة انتقل ربنا وأمه وإخوته بعد أن تركوا الناصرة. ولذلك كانت هذه المدينة موطناً ليسوع (متى ٤: ١٣؛ يوحنا ٢: ١٢). إنها تُدعى "مَدِينَتِه" (متى ٩: ١). وهنا كان كثيراً ما يعلّم ويصنع العجائب. لقد كانت مدينة نالت حظوة أكثر من أي مدينة أخرى في الجليل؛ ومع ذلك فقد رفضت شهادته وألقى عليها إحدى أشد الويلات (متى ١١: ٢٣). "لِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ". لقد حفظ يسوع السبت بدقة كما شاء الله، ولكنه أبى الاعتراف بكل تلك التقاليد والإضافات والملحقات الناموسية والتشريعية التي ألحقها الربانيون (الربابنة) بالكتابات المقدسة، فجعلوا أمراً ثقيلاً مرهقاً مما كان يفترض أن يكون بركة. لقد كان المجمع مفتوحاً أمامه كمعلم، فدخل إليه وصار يعلّم.

المجمع في إسرائيل:

إن أول ذكر للمجمع هو في المزمور ٧٤: ٨. وآخر ذكر له هو في رؤيا ٣: ٩، حيث نقرأ عن مجمع الشيطان. إن الكلمة بحد ذاتها تعني مجرد مكان اجتماع أو تجمع. خلافاً للهيكل الذي كان مكرساً لله، كان المجمع مكاناً يدل على الولاء الطوعي لناموس الله. لقد كان اليهود يشعرون بالحاجة إلى هكذا أماكن يستطيعون فيها التجمع لتلقي التعاليم وحياة الشركة. لم يكن هناك سوى هيكل واحد معترف به في أي زمن، وكان هذا في أورشليم. كانت هناك مجامع في كل مكان تواجدت فيه عائلات يهودية كافية لتحافظ عليها وتساعد على استمرارها، وغالباً ما كانت عديدة في المدينة الواحدة.

إذ كان طفلاً، اعتاد يسوع على أن يحضر إلى المجمع. وبدأ باكراً بالمشاركة في الخدمة فيه (لوقا ٤: ١٦). لاحظ هنا (في إنجيل لوقا ٤: ١٦) الكلمات "حَسَبَ عَادَتِهِ". لقد أعطى كرامةً وتقديراً للمكان الذي كانت كلمة الله تُعلَّم وتُفسَّر فيه، وأوصى الآخرين بأن يفعلوا المثل، رغم أن أولئك الذين كانوا يعلِّّمون ما كانت حياتهم تتوافق مع التعليم الذي يُلقون (متى ٢٣: ٢). أفلا نتعلم من ذلك أن نحترم المكان الذي يُعترف فيه باسم الله وتُقرأ فيه كلمته، حتى ولو لم نكن نسلم أو نصادق أو نؤيد كل ما يجري هناك، بسبب الضعف البشري؟ إننا ميالون لأن نذهب إلى حد التطرف، إما في إظهار اللامبالاة الكاملة لعقيدة الشر أو السلوك الشرير، أو بأن نتخذ موقفاً متشامخاً متكبراً مع البر الذاتي نحو أولئك الذين لا يرون كما نرى نحن أو نفعل ولا يسلكون بحسب معاييرنا. من المهم أن ندرك ذلك في حين أننا مدعوون، كأفراد، أن "كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ" (أشعياء ١: ١٦، ١٧). فلسنا مدعوين لأن نعتلي كرسي الدينونة وننتقد الآخرين الذين يكونون مخلصين مثلنا، ولكن لم يتعلموا أن ينظروا إلى كل شيء مثلنا بنفس طريقتنا.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ". هؤلاء الناس كانوا معتادين على أن يفسروا التعاليم التي تلقوها من معلميهم الذين سبقوهم، وما كانوا يحاولون أن يعطوا أية تعاليم موثوقة مقبولة من تلقاء ذاتهم. أما يسوع فكان يتكلم كمُرسَلٍ من الله ليس لديه حاجة لأن يدعم تعاليمه بشهادات من سلطات بشرية، بل كرز بالكلمة كناطق باسم الآب، والذي كان هو نفسه ممثلاً له. كان هذا تعليماً لم يعهده الناس من قبل أبداً على الإطلاق.

"رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ". يخبرنا الكتاب المقدس بوضوح عن حقيقة أن يكون امرؤ ممسوساً من الشيطان. لم تكن هذه مجرد إيمان خرافي عند اليهود. ففي هذه الحادثة يتم قطع الخدمة بظهور رجل تسيطر عليه روح نجسة شريرة.

"أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ". الروح الذي يتملّك الرجل عرف يسوع واعترف به وبسلطته، وخشي أن يلقي دينونة على الأرواح الشريرة، فيقيدهم في السجن الأبدي المعد للملعونين المحكوم عليهم بالهلاك إلى أبد الدهر. قد يتلقى البشر تعاليم المسيح وتصريحاته بشك، ولكن الأرواح الساقطة يعرفون من يكون يسوع.

"فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ". لم يكن يسوع في حاجة إلى شهادة من الأرواح الشريرة. لقد أمر الروح النجس أن يصمت وأن يخرج من ذاك الرجل المسعور.

"فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ .... وَخَرَجَ مِنْهُ". كما لو كانت محاولة أخيرة حاقدة يائسة، ألقى الروح النجس عذاباً أكبر على هذه الضحية البائسة، ثم في إطاعة كارهة للأمر الذي ما كان ليمكنه أن يعصاه، خرج من الرجل وهو لا حول له ولا قوة. كان هذا التحرر من الروح النجس على مرأى من كل الحاضرين.

"مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟" أولئك الذين اكتظ بهم المجمع اهتزوا عندما أدركوا قوة المسيح وسلطته على الأرواح الشريرة، وسأل بعضهم الآخر عن معناه كله وعن مصدر سلطته. لم يحدث معهم أبداً، عندما كانوا يصغون إلى مفسري الناموس العاديين، أن عرفوا مثل هكذا تجلٍّ للتأييد الإلهي.

"فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ". راح كل واحد يخبر الآخرين عن الأمر اللافت الذي حدث في مجمع كفرناحوم حتى انتشر النبأ في كل المنطقة الجليلية تلك. ولكن، وكما أثبتت الأحداث فيما بعد، أن ترى في يسوع معلماً عظيماً أمر، وأن تنحني في توبة أمام الله وتقتبل المخلص الذي أرسله، كفادٍ للخطيئة، هو أمر آخر.

"جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ". تعامل الرب مع هذين أصلاً في بيت صيدا. ولعل سمعان قد انتقل إلى كفرناحوم بعد زواجه، على الأرجح ليشاطر زوجته بيت والدتها.

"وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً". أينما حل يسوع كان هناك أدلة على الخراب والدمار الذي كانت الخطيئة قد عملته في بني اسرائيل. لو أن هذا الشعب كان مخلصاً لله، لكان (الله) أزال كل مرض من بينهم (خروج ١٥: ٢٦). ولكنهم أخفقوا كشعب في إطاعة كلمته. وبالتالي كان المرض والوباء سائداً منتشراً في كل مكان. إذ رأى التلاميذ حالة هذه المرأة المتألمة، فإنهم لفتوا انتباه يسوع إليها، وهم على ثقة بأنه سيريحها من هذا الوضع الذي ترزح تحته.

"فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً". لقد كان هناك شفاء في لمسته. ففي اعتبار حانٍ وشخصي تجاه المرأة المسكينة المتألمة، أنهضها "فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً". لقد هدَّأتْها يده وخففت ألمها وحررتها من نار الحمى التي كانت تسري في عروقها. وفي موقف من الامتنان قامت تلك التي كانت مضطجعة هناك عاجزة وهرعت لخدمة الآخرين.

"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ". لمّا قارب النهار على الانتهاء، أمكن رؤية حشد ممتزج مختلط قادماً من كل صوب، وقد جاؤوا بالمرضى المصابين بالأوبئة والمتلبسين بالأرواح لكيما يُظهر يسوع قدرته على شفائهم كرمى لهم.

"كَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ". لم تكن هذه مجرد مغالاة. لم تكن كفرناحوم مدينة كبيرة. من كل حدب وصوب فيها ذهب السكان إلى بيت سمعان وأندراوس، يدفعهم إلى ذلك الفضول أو الإحساس بالحاجة. للأسف أن الغالبية العظمى الساحقة منهم لم يفكروا جدياً بمسؤوليتهم تجاهه ذاك الذي جاء بينهم خلال عمل نعمته، ليس فقط ليشفي أجسادهم، بل أيضاً ليعلن الخلاص لنفوسهم.

"لَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ". لقد شفى كثيرين من الأمراض والأسقام الجسدية، معتقاً إياهم من العبودية الروحية لقوة الشيطان، بل وحتى رفض أن يسمح للأرواح الشريرة بأن تعرِّف عن هويته، لأنه لن يرضَ بشهادة تأتي من مضيفي الشرير.

لقد كانت حياة ربنا على الأرض خدمة متواصلة مطردة بلا توقف. هذا لا يعني أنه كان على الدوام منشغلاً بالتعليم والشفاء. لقد وجد متسعاً من الوقت لمشاركة هادئة مع الآب. ورغم ذلك فلم يكن أحد من تلاميذه منشغلاً كما هو. إن رواية هذا السبت في كفرناحوم ما هي إلا مثال عن أيام كثيرة أمضاها في إعلان إنجيل الملكوت وسد حاجات الرجال والنساء، شهادة على اهتمامه الإلهي بهموم وشؤون البشر. وفي هذه كلها ترك لنا مثالاً نحتذي به. إننا نهدر وقتاً طويلاً على أشياء لا تنفع. لقد سخَّر كل لحظة لمجد الله. في حياتنا أشياء كثيرة ليست لها قيمة حقيقية أو دائمة. أما هو فكل ما قاله أو فعله كان قيّماً ويفيد إلى الأبدية.

"وَفِي الصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضاً لأَنِّي لِهَذَا خَرَجْتُ». فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِياً وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!» فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: «أُرِيدُ فَاطْهُرْ». فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «ﭐنْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ" (٣٥- ٤٥).

بعد ذلك السبت الحافل في كفرناحوم اختلى المخلص الخادم بنفسه باكراً جداً في الصباح في مكان منعزل، وأمضى هناك بضعة ساعات في مشاركة مكرسة مقدسة مع أبيه. كانت الصلاة بالنسبة له، كإنسان كامل، مسرة روحه المقدسة وهو يناجي في كل الأشياء ذاك الذي أرسله.

مع طلوع الفجر جاء سمعان والآخرون يطلبونه، وعندما وجدوه أخبروه أنه كان هناك آخرون كثيرون يبحثون عنه ويرغبون في رؤيته والاستماع إليه. من الواضح أنهم كانوا يفكرون بالاعتراف به ملكاً وأن يحاولوا أن يفرضوا فكرة القطيعة مع الحكومة الرومانية. أما بالنسبة له فلم يكن هناك ملكوت بدون الصليب. ولذلك، وبدلاً من أن يذهب ليرحّب بأولئك الذين كانوا يطلبونه على هذا النحو، قال في هدوء: "لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ". لقد أشار إلى أنه كانت لديه خدمة لهؤلاء، لأنه أُرسل ليكرز بإنجيل الملكوت لهم أيضاً. ولذلك، فإن المجموعة الصغيرة تابعت طريقها من قرية إلى قرية في كل أرجاء الجليل، ووعظ في المجامع وكان يخرج الشياطين.

وفي إحدى هذه الأماكن، وبينما كان يكرز، تقدم إليه أبرص نجس، وجثا على ركبته أمامه طالباً منه أن يشفيه من ذاك الداء المخيف. لقد كان على يقين بأن يسوع لديه القدرة على فعل ذلك، ولكن هل سيرغب بأن يفعل ذلك لشخص واقع، من دون ريب، تحت لعنة الله؟ إذ كانت هذه هي الفكرة المتعلقة بالبرص السائدة في اسرائيل. فصرخ ذاك: "«إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!»". بقلبٍ مليء بالحنو انعطف يسوع نحوه بنعمة، دون أن يخشى احتمال أن يتلوث أو يتنجس من جراء احتكاكه بنجس، فمد يده ولمس الأبرص قائلاً له: "«أُرِيدُ فَاطْهُرْ»". وفي الحال جرت المعجزة. فمضى البرص بأمر يسوع، وانصرف ذاك الذي كان سابقاً ضحية لذلك المرض المريع الفظيع وهو مبتهج فرح. وطلب إليه يسوع، الذي لم تكن لديه رغبة بأن يهتف له الناس كصانع معجزات قدير، طلب من ذلك الرجل الذي شُفي ألا يخبر أحداً بما حدث، بل أن يذهب أولاً إلى الكاهن في هيكل أورشليم ليُري نفسه لهم على سبيل الفحص، وأن يقدم الطيرين والقرابين الأخرى التي كان موسى قد أمر بها، كما ورد في (لاويين ١٤) "شَهَادَةً لَهُمْ". يمكن للمرء أن يتخيل اندهاش وانذهال الكاهن عندما رأى هذا الرجل يتقدم من أجل التطهير الطقسي، لأن ذلك كان شيئاً لم يكن أحد قد سمع به في اسرائيل ولقرون.

نعلم من الإنجيل أنه ذهب، ولكنه لم يستطع أن يمسك نفسه عن أن يعلن في كل مكان عما اختبره؛ وبنتيجة ذلك احتشد عدد كبير جداً ليروا يسوع لدرجة أنه اضطر ليترك المدينة ويبقى خارجاً في الريف. لم يكن شفاء البرص بقدرة بشرية، وما أنجزه يسوع بلمسة أو بكلمة ما كان لطبيب على الأرض أبداً أن يحققه. لقد كان البرص مرضاً متعلقاً ببنية الإنسان. لقد كان يظهر تأثيره في الخارج بينما هو ينبع من الداخل. وبسبب بذاءة وقذارة هذا المرض استخدمه الله كصورة عن النجاسة التي في الخطيئة.

إن كل نفس غير مخلصة هي مصابة بهذا الداء المخيف وهي خاطئ آثم نجس في نظر الله. لم يكن الإنسان يصاب بالبرص أو الجذام لأن لديه تقرحات مريعة على جسده. بل كانت هذه علائم تدل على المرض الذي في داخله. وليس الإنسان خاطئاً لأنه يرتكب الخطيئة: بل إنه يخطئ لأنه خاطئ، ولذلك فهو منفسد في جسده. وقدرة الرب وحدها يمكن أن تعتقه من هذا الداء.