القسم (٢) - ٧:‏١-‏ ٨:‏٩

الأصحاح ٧

التقليد إزاء الوحي أو الإعلان

بالنسبة للذهن الروحي، إنها لمسألة تدعو للعجب المطرد أن ترى الناس على استعداد بالغ لأن يتبعوا وبرضا لا خوف فيه سلطة التقاليد البشرية، تماماً كما أنهم على استعداد كامل لتجاهل التعاليم الواضحة التي في كلمة الله. وفي مناسبات كثيرة نجد ربنا المبارك يصارع الإجحافات عند بني اسرائيل الذين كانوا يرفعون التقليد إلى مستوى الإعلان، بل أعلى منه في بعض الحالات.

"وَﭐجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ لاَمُوا - لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ: «لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ»" (٧: ١- ٨).

بعضٌ من الفريسيّين والكتبة الذين كانوا يراقبون يسوع بشكلٍ متواصلٍ مطردٍ في محاولةٍ منهم لأن يجدوا أي خطأٍ يَرِدْ لديه في كلماته أو تصرفاته هو وتلاميذه، لاحظوا أن بعض التلاميذ كانوا يأكلون الخبز بأيدٍ دنسةٍ على حد اعتباراتهم. كان هذا أمراً مخالفاً للناموس بحسب تقليدٍ سُلِّمَ إليهم من الأيام الأولى. الفريسيّون الأكثر صرامةً كانوا يمرون بعمليةٍ طويلة ليس فقط بتطهير الأيدي من النجاسة بل أيضاً بالغسل الطقسي قبل أن يتناولوا طعامهم.

تخبرنا الآية ٤ أنهم "مِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا (أو يعتمدوا) لاَ يَأْكُلُونَ". هذه هي إحدى المعموديات العديدة التي يرِدُ ذكرُها في (عبرانيين ٩: ١٠). فالكلمة المترجمة بـ "غَسَلاَتٍ" هناك إنما هي أساساً "معموديات". إلى ذلك، كانت هناك العديد من الشعائر الأخرى المماثلة من غَسْلِ آنِيَةِ الشرب، والأطباق التي كان يقدم فيها الطعام، وأيضاً الموائد.

إن الناموسييّن التشريعيّين المتقيدين بالتقاليد جاؤوا مباشرةً إلى يسوع، وسألوه لماذا ما كان تلاميذه يغتسلون بحسب تقليد الشيوخ، بل كانوا يأكلون الخبز بأيدٍ غير مغسولةٍ. لاحظوا أن هذا لم يكن سؤالاً يتلاءم مع كلمة الله بل كان مجرد تقليدٍ بشريٍ وحسب.

في رده عليهم أشار ربنا إلى الكلمات الواردة على لسان أشعياء النبي، فيقول: "حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ". لقد كانت هذه اللهجة قوية. المرائي هو الرجل ذو الوجهين، إنه ممثل بالفعل، إذ أن الممثلين الإغريق (اليونانيين) كانوا يظهرون على المسرح مرتدين أقنعةً ليقوموا بمختلف الأدوار والشخصيات. لقد كان الرب يعرف، من خلال رياء منتقديه، أنه بينما كانوا دقيقين في إتباع الأوامر وحريصين على الشكليات في هكذا أمور، فإنهم كانوا لا يبالون فعلياً فيما يخص الأمور الأهم والأعظم لأنها كانت أوامر صادرة من الرب تماماً. وعن هؤلاء كتب أشعياء يقول: "هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً ،وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ". هناك شيءٌ في غاية الأهمية هنا يحسن بنا كثيراً أن نضعهُ إلى قلبنا. إنه خطأٌ فادحٌ يرتكبه أولئك الذين يُقرون بأنهم خدام الله بأن يؤخذوا بالشكلية والشعائر الطقسية والتقاليد التي ليس لها أساسٍ كتابي. قد يبدون أبرياء بما فيه الكفاية عند البدء بذلك، ولكن شيئاً فشيئاً سنجد أنهم يغتصبون مكانة كلمة الله في ضمائر أولئك الذين يتبعونه، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة.

نعلم من (٢ تيموثاوس ٣: ١٦، ١٧) أن :" كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ". إن تمت دراسة الكتاب المقدس بعناية وعُمِلَ بحسب ما يرد فيه، فإنه يؤهّل إنسانَ الله إلى الأعمال الصالحة، ثم سيكون واضحاً أنه ما من عمل يستحق أن يُعتبر صالحاً في نظر الله إن لم يصادقه الكتاب. إن تمييز هذا المبدأ سوف ينجّي من حماقاتٍ كبيرةٍ وعملٍ مضنٍ لا طائل تحته بما يتعلق بأمور الله. فالرب أكد كلمات أشعياء عن منتقدي تلاميذه بأن أخبرهم بأنهم أنفسهم قد ألقوا جانباً وصية الله، واستبدلوها بتقاليد بشرية مثل تلك التي كانوا يشيرون إليها، وأضاف قائلاً: "وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ".

ليست فقط الكنيسة الكاثوليكية، (كنيسة روما اللاتينية)، وحدها من ترفع شأن التقليد إلى مستوى الكتاب المقدس أو حتى فوقه، بل هناك عدد ليس بقليل من البروتستانت الذين يفعلون الشيء نفسه، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. كم نحن في حاجة لأن نعود إلى مكان تعليم كلمة الله، فنسأل "ما الذي يقوله الكتاب المقدس؟" عندما تُطرحُ أسئلةٌ مثل الطرق والوسائل في التعليم. لأن كل ما هو ضد كشف الله لا يمكن أن يلقى حظوةً في عينيه، أياً كان مقدار الصلاح أو الخير الذي يبدو أنه لينجزه.

إذ أكتب هكذا فإني لا أتجاهل أبداً ولو لوهلةٍ حقيقة أن الكتاب المقدس نفسه يعطي مجالاً أو حرية معتبرة فيما يتعلق بالطرق والنهج الذي نتبعه في الوصول إلى الضالين والسعي إلى مساعدة المؤمنين. لقد أعلن الرسول بولس قائلاً: "صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً". ما أريد أن أؤكد عليه هو الخطأ الفادح في استبدال السلطة الإلهية بسلطةٍ بشريةٍ. علينا أن نكون متأكدين أنه ليس فقط العقائد بل أيضاً طرقنا العملية يجب أن تكون بتوافقٍ مع الكتاب المقدس. وهذا وحده هو طريق الأمان والسلامة.

وإذ يستأنف حديثه يشير الرب موضحاً كيف أن هؤلاء الفريسيّين أنفسهم قد تجاهلوا التعليم الواضح للكلمة في حين أنهم يُعطون سلطةً كاملةً للتقليد.

"ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ. لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمُ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ أَيْ هَدِيَّةٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللَّهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ». ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لَكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ»" (٧: ٩- ١٦).

لاحظوا كم كانت لهجته شديدة حين قال في الآية ٩: "حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ". إن القلب الطبيعي يثور على ما هو إلهي ويقبل بكل ترحيب ما هو بشري محض.

وبعدها يُوردُ يسوع مثالاً محدداً واضحاً جداً عن التضاد بين التقليد والكتاب المقدس. فقد تحدث الله بموسى، فأمره أن يُكرمَ شعبَهُ أباهم وأمهم. وإن جزاء أو قصاص الموت كان مرتبطاً بانتهاك هذه الوصية.

"مَنْ يَشْتِمُ (أو يسيء أو يخطئ، بأي شكل من الأشكال تجاه، أو يؤذي) أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً". هذا سيعني بالضرورة الاهتمام بالأشخاص الطاعنين في السن الذين كانوا غير قادرين على أن يعيلوا أنفسهم. أقل ما ينبغي ويمكن للأبناء والبنات أن يفعلوه هو أن يشاركوا والديهم بما أعطاه الله لهم، ولكن الربانيّين كانوا قد أعلنوا أن الإنسان قد يكرس كل ممتلكاته لله، معتبراً أنه قربان – أي تقدمة للحفاظ على العمل في الهيكل. فإن كان والدا المرء في حاجة فإنه يصر على أنه ليس لديه ما يقدمه لهم أو يساعدهم فيه، لأن كل ما كان يمتلكه قد كرسه أو قدمه لله لتوه. كان هذا هو جوهر الأنانية المتخفية وراء التقوى المدّعية الكاذبة؛ وكانت هذه الأساليب تُبطلُ أثر كلمة الله في التقليد. كان هذا مجرد مثالٍ عن انتهاك حق الله بالاتكال على النظم والتشريعات البشرية. وأضاف يسوع من جديد قائلاً: "أُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ".

ويخبرنا الإنجيل أنه بعد ذلك استغل الفرصة ليعلّم جميع الشعب عن طبيعة النجاسة الحقيقية. فقال: "«ﭐسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لَكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ". ثم يضيف قائلاً بوقار رزين: "إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". بهذه الكلمات وضع ربنا أساس مبدأٍٍ عظيم وأكّد على حقيقةٍ هائلة. فحتى الآن كان ضمير الإسرائيلي الحي يركز على الاهتمام بتوق عما يجب أن يفعله فيما يخص المأكل أو المشرب، لئلا يتناول، ولو بشكلٍ غير متعمدٍ أو مقصود، شيئاً كان نجساً بحسب الطقوس والشعائر، وبذلك يتنجسُ ويَصيرُ غير كفؤٍ لأن ينضم إلى رعية الرب عندما يجتمعون للعبادة في الهيكل. إلا أن يسوع أعلن أن النجاسة الأخلاقية والروحية تأتي ليس من أمورٍ خارجية كالطعام والشراب بل من داخل الإنسان نفسه، من قلبه ذاته، ذلك القلب الذي قال عنه إرميا النبي أنه أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ بشكل كبير (١٧: ٩).

"وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هَكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ وَذَلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ. جَمِيعُ هَذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (٧: ١٧- ٢٣).

من الواضح أن هذه الكلمات لربنا قد أذهلت حتى تلاميذه أنفسهم، الذين كانوا معتادين على النظر إلى الأمور من وجهة النظر الطقسية. ولذلك عندما تركوا الجمع وكانوا في البيت لوحدهم مع يسوع سألوه أن يُوضِحَ ما كان قد قصده بحديثه كما فعل. وبحسب طرقه العادية المألوفة التي كان يتبعها في نهجه- وذلك بأن يكاشف بالحقيقة دائماً أولئك السائلين المخلصين الصادقين- قال لهم: "«أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هَكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ". هذه الأشياء الخارجية، كالطعام والشراب، كانت مجرد أشياء مادية: فما كانت لتقدر أن تؤثر على نفس الإنسان. بالطبع لم يكن ربنا يَنكر أنه كان هناك أطعمةً مؤذية ضارة بل وحتى سامة قد تُحدث ضرراً خطيراً كبيراً للجسد؛ ولكن ما كان في باله هنا هو نجاسةُ الروح، وإقصاءُ المرء عن استحقاق الشركة مع الله. إن الطعام وأي شراب لا يدخل إلى القلب بل يمر عبر الجهاز الهضمي ولا يترك أي انطباعٍ أو تأثيرٍ على نفس أو روح المرء الذي أكلَ أو شَرِبَ.

"إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ"- أي من قلب الإنسان، فهذا ما ينجّس الإنسان، لأن القلب نفسه هو كمثل عش من الطيور النجسة. "مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ". يا لها من قائمة! من يستطيع أن يقول أن هذه الأشياء لم يكن لها أيُ مكانٍ في قلبه! بالطبع هناك بعضٌ يَبغُضُ كلياً عديداً من هذه الأشياء، ومع ذلك فإن كل إنسانٍ هو عُرضة لأن يسقُطَ في كل خطيئةٍ قد ذُكِرَتْ هنا ولو لمجرد أن يسمح لِفِكرِهِ أن يُسْهِبَ فيها. ومع ذلك فهناك أُناسٌ يُنكرون فساد الطبيعة البشرية. لعلهم يفكرون بالقائمة الوارد ذكرها هنا ويجيبون على السؤال بصراحةٍ، هل يخلو قلبي من أيِّ شيءٍ من هذه الأشياء؟

عندما نتحدث عن الفساد الكامل في الطبيعة البشرية فإننا لا نعني بالضرورة أن كل الناس آثمون ومذنبون بكل الخطايا المعلنةِ هنا. إننا نعني أن كل الناس بالطبيعة بعيدون عن الله، وأن قابليتهم للقيام بكل هذه الأشياء موجودة في قلوبهم.

الدكتور جوزيف كوك، وفي إحدى المناسبات عندما يعترضُ على مبدأ فساد البشرية الذي ليس له أساس كتابي، استخدم هذا المثال التوضيحي: فقال أنه كان مهووساً بساعةٍ دقيقةٍ رائعة. لقد كانت تحفةً فنيةً جميلةً رائعةً، وتشكلُ حليةً للحجرة التي كانت قد وُضِعَت فيها. إن التحف الفنية كانت باهظةَ الثمن؛ كان وجه الساعة جميلاً للنظر إليه، والعقارب كانت متقنة الصنع للغاية، وبالإجمال كانت ساعةً تثير العجب. كان هناك شيءٌ واحدٌ فقط ليس على ما يرام فيها: أنها ما كانت تضبط الوقت. وبالتالي فهي فاسدة سيئة كلياً من ناحية الوقت. هكذا هو الحال مع الإنسان الطبيعي. إنه بعيدٌ عن الله؛ قلبه في خصومةٍ وعداوةٍ مع الله، ومن داخل ذلك القلب تنبعُ الخطايا بأشكالٍ مختلفةٍ متنوعةٍ عديدة. الحمد الله، هناك علاجٌ شافٍ لهذه الحالة. صلى داود أن "قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ" (مز ٥١: ١٠)، وهذا ما يُسرُّ الله أن يعمله من خلال الولادة الجديدة.

إن كل الأشياء الشريرة التي ذكرها يسوع هنا تأتي من الداخل. هذه تُنَجِسُ الإنسان. فكم من المهم بالحري أن نميز حقيقة أن هذه الأشياء تجد عشاً لها بشكلٍ طبيعي في القلب الإنساني، وأننا نَزِنُ الأمور كلها على ضوء صليب المسيح.

في القسم التالي نرى نعمة الله تمتدُ لتطال من هم خارج شعب إسرائيل.

"ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ». َقَالَ لَهَا: «لأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ وَالاِبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ" (٧: ٢٤- ٣٠).

كان الرب يسوع قد مَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ- أي أنه انتقل خلال مسير رحلاته مع التلاميذ إلى المنطقة الشمالية الغربية من الجليل. كانت هذه المدن بعيدة عن الجليل، ولكن الرب نفسه، كما نجد مدوناً لدينا، لم يكن قد خرج حتى الآن أبعد من الحدود التي تفصل فلسطين عن أراضي الأمميين، باستثناء المرة التي كان فيها طفلاً صغيراً، حيث أخذته أمه ووالده بالتربية، يوسف، إلى مصر هرباً من غضب هيرودس. لقد جاء إلى العالم، كما يقول بولس في (رومية ١٥: ٨)، كخادم للختان مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. ورغم أنه كان يتطلع دوماً إلى الوقت الذي سيمجد فيه الأمميون الله لأجل رحمته، كما تشير الآية التالية، إلا أن خدمته، خلال حياته على الأرض، اقتصرت على الخراف الضالة من بيت إسرائيل.

أما الآن فنجده يلتقي بامرأة معينة يونانية، أممية صرفة، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. هذه المرأة كان في ابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ. لقد كانت قد عانت الكثير بسبب هذه الحالة. ورغم أنها غريبة عن العهود الموعودة، فإن المرأة الفِينِيقِيَّة السُورِيَّة سمعت عن يسوع، وشعرت أنه بالتأكيد سوف يحرر ابنتها إن رغب في ذلك. لذلك جاءت ملتمسةً أن يطرد الروح النجس من ابنتها الشابة. في موضع آخر نعلم أنها استندت في مطلبها إلى حقيقة أنه ابن داود. من الواضح أنها علمت من جيرانها اليهود عن المسيا الذي كان سيأتي من نسل داود، وصدقت في إيمانها أن يسوع هو ذاك المنتظر. ولذلك جاءت تطلب إليه أن: "«ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً»" (متى ١٥: ٢٢). ولكنه حافظ على هدوئه. فلكونها خاطئة من الأمميين لم يكن لها الحق بأن تطالبه بأي شيء لكونه ابن داود الموعود. وأخيراً، وإذ استمرت في الصراخ وراءه، قال: "«دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ»". قد يبدو هذا القول قاسياً، ولكن وكما أن يوسف قد اتهم إخوته بأنهم جواسيس لكي يسبر ضمائرهم، كذلك فإن الرب أجاب المرأة هكذا لكي يأتي بها إلى إدراك أنه حقها بالبركة كان إنما استناداً إلى النعمة الصافية النقية فقط.

لقد تجاوبت بطريقة رائعة. لم يكن لديها شعور بالاستياء أو الامتعاض بسبب حديثه إليها مهيناً أو بتكلمه معها بطريقة فظة جافة. فَأَجَابَتْ بتواضع وَقَالَتْ لَهُ: "«نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَجراء الْكِلاَب أَيْضاً (وهنا استخدمت صيغة مصغرة، جراء الكلاب) تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ»". لكأنها كانت تقول : "يا سيد، أعرف حقيقة أنني بائسة، وثنية منبوذة، ولكن أعطني، يا سيد، بعضاً من الكسر التي يرميها أبناء الملكوت. اسمح لي أن أكون بمكانة الجرو وبهذا أنال رحمة من يدك". لم يكن هناك ما يروق لربنا المبارك أكثر من الإيمان الممزوج بالتواضع. فأجابها قائلاً: "«لأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ»". وإذ هرعت إلى منزلها، بقلب مبتهج وآمال كبيرة بلا شك وهي تدخل البيت، وجدت َالاِبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ والشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ.

"ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ. وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: «إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً. فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً. وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!»". (٧: ٣١- ٣٧).

إذ ترك شواطيء صور وصيداء، عبر يسوع إلى الجزء الشمالي من بحر الجليل ودخل إلى قارب، واجتاز البحر مرة أخرى ليزور الْمُدُن الْعَشْر. هذه هي المنطقة التي كان يعيش فيها رجل القبور ذاك الذي من جدرة الذي كان ممسوساً. بعد أن حرّره يسوع، طلب إليه أن يمضي إلى منزله وأن يخبر أصدقاءه بالأمور العظيمة التي صنعها الرب له. ولذلك نشر الخبر السار، كما يخبرنا الإنجيل، في كل أرجاء الْمُدُنِ الْعَشْرِ. ولذلك فعندما رجع يسوع إلى هناك كان الناس مستعدين لاستقباله. ومن المحتمل أن نفس الأشخاص الذين كانوا قد طلبوا منه في الحادثة السابقة أن يغادر شواطئهم قد كانوا وسط الحشد الذين جاؤوا إليه وهم يتوقون لسماع كلامه ومعاينة معجزاته. ونعلم من الإنجيل أنهم جَاءُوا إِلَى يسوع بِأَصَمَّ أَعْقَدَ اللسان وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ- تلك اليد الحانية التي طالما ارتفعت لتمنح البركة، والتي بلمستها كان يتبدد كل دنس ونجاسة. ولكن الرب تعامل مع هذا الرجل بطريقة مميزة نوعاً ما. فبدلاً من شفائه علانية على الملأ أمام كل الناس، وإدراكاً منه لحقيقة أن لمعارضة له كانت آخذة في الازدياد، أخذه على ناحية من بين الجمع، ووضع إصبعه في أذنيه، ثم تفل ولمس لسانه. قد نتعجب من ذلك، ولكن علينا أن نتذكر أن ناسوت ربنا يسوع المسيح كان مقدساً ونقياً بشكل مطلق، لم تمسه الخطيئة أو الفساد من أي نوع كان. من الواضح أنه كان يشير إلى أن الشفاء أتى من داخل كيانه نفسه. إذ رَفَعَ (يسوع) نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ َأَنَّ إذ أدرك الخراب والتلف الذي خلّفتْه الخطيئة من كل ناحية، ثم تحدث بالآرامية قائلاً: "«إِفَّثَا»" أَيِ "انْفَتِحْ". وللوقت صار الرجل قادراً على أن يسمع وأن يتكلم أيضاًَ. وطلب يسوع ممن كانوا يحيطون به ألا يذيعوا الخبر. كما لاحظنا، لم تكن لدى يسوع رغبة بأن ينال شهرة كصانع معجزات. فبينما كان مستعداً على الدوام لأن يخدم الناس في حاجاتهم، كانت رسالته العظيمة هي أن يعلن إنجيل الملكوت أينما ذهب من مكان إلى آخر. ولكن الناس كانوا متحمسين جداً بنتيجة رؤيتهم لقوته المقتدرة حتى أنهم كلما أوصاهم ألا يقولوا شيئاً عنها، كانوا يذيعون الخبر أكثر. ونعلم أنهم "بُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!»".

بالتأكيد كل من يعرف المسيح، بأية درجة كانت، سينضم بفرح إلى أولئك الناس الذين في المدن العشر في نسب كل الشرف والمجد لذاك الذي صنع كل الأشياء بشكل حسن.