الفصل الرابع
هل إذا فحصنا مشتملات القرآن تفيدنا أنها من عند الله أوحى بها إلى محمد؟
من أهم طرق الفحص التي بواسطتها نطلع على حقيقة القرآن أن نقرأ محتوياته بتأمل وإمعان نظر لأن مجرد استظهاره بدون تعقل معانيه لا يكفي، ولا يغاير محفوظات الببغاء الذي يكرر ألفاظاً ولا يدري ما يقول. أن الذين يؤمنون أن القرآن كلام الله وأنه نور وهدى للناس، أقل ما يجب عليهم أن يتفقهوا معناه ويقفوا على حقيقته لإنارة قلوبهم وأذهانهم. واعلم أن النور لا يليق به أن يوضع من وراء ستار الباطل ولا تحت مكيال الخرافات والجهل بل يوضع على منارة التعقل والتروي ليضيء من استضاء به ويهدي من اهتدى به. أن قراءة القرآن بتأمل وعناية وبفهم معناه أمر واجب على كل مسلم ومهما يكن للقرآن من علو المنزلة فلا يظفر أحد بطائل من ورائه ما لم يفهم أقواله ويلزم الطاعة لأوامره ونواهيه، ولكننا بعكس ذلك نجد جمهور المسلمين من قراء وسامعين قد اكتفوا بتلاوته وتجويده بلحن مطرب واكتفوا بالسمع ونشوة الطرب والأغرب من ذلك أنهم يتوقعون ثواب من الله عن تلاوته والاستماع إليه بهذه الكيفية فتأمل! ومن العجب العجاب أن لا يتلى إلا بالعربية مهما يكن لسان الذي يتلوه وألسنة الذين يسمعونه وهذا ما لا يجوز أن يقابل به كتاب يقولون أنه منزل من عند الله. إنهم بهذه المعاملة لقرآنهم يشبهون ابن سبيل يسير في الدجى مخبئاً مصباحه تحت طي ثيابه وكان ينبغي له أن يظهره ويرفعه أمام بصره ليتبين له الطريق.
وحيث أن إخواننا المسلمين يضعون القرآن في مكانة عالية وحيث أنه من المهم أن لا يرفض الإنسان وحياً إلهياً، لذلك وجب على المفكرين من المسيحيين أن يدرسوا القرآن درساً دقيقاً ليتعلموا ما يعلمهم إياه لئلا يرفضون النور والهدى والخلاص برفضهم له. وإذا درس المسلمون والمسيحيون الكتاب باعتناء يكونون قادرين أكثر على معاونة أحدهم الآخر لمعرفة طريق الحق والسير في الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
واعلم أن أهم ما جاء في القرآن هو ما ورد فيه عن ذات الله وأوصافه وتوحيده مثل كونه الإله الأزلي الأبدي القادر الحكيم العليم وأنه هو السميع البصير المتكلم باسط السموات والأرض الرحيم العدل الكريم الصبور القدوس المحيي المميت الموصوف بجميع أوصاف الكمال المنزه عن النقائص والعيوب متعال عن الضعف والجهل والظلم والتغير.
ثم أنه يدعو الناس إلى الإيمان بتوحيده وينهي عن الشرك وعبادة الأصنام وينذر بالنشر والثواب والعقاب على الأعمال التي يعملها العبد في هذه الحياة الدنيا، ويعد الصالحين بجنات تجري من تحتها الأنهار والأشرار بعذاب النار، وإن من أوفى محتوياته مقالاً وأوسعها مجالاً ما شهد به للتوراة والزبور والإنجيل أي أسفار العهد القديم والجديد الذي يجمعها الكتاب المقدس كما ذكرنا ذلك في المقدمة آمراً بالإيمان به وبالأنبياء والرسل الذين جاءوا به والذين لم يأتوا بكتب وعدم التفريق بينهم، ويحرم الرياء ويحرم بعض الأشياء ويحل البعض الآخر، وينهي عن القتل والسرقة والزنا والحنث ويأمر بإنصاف اليتيم وبالإحسان إلى المسكين.
أما من حيث هذه التعاليم فالكل يسلمون بصوابها سواء كانوا مسلمين أو نصارى لأنها صالحة وكل صالح مصدره الأول الله بصرف النظر عما إذا كان جاء به نبي في كتاب موحى به أو ضمير أو بأي حالة أخرى وعليه فقبل أن نقبل دعوى محمد كنبي أو رسول يجب أن نبحث أولاً في هذه النقط، (١) هل كان محمد أول من علم بوحدانية الله وبالحلال والحرام وبشر الخطية وثواب الآخرة وعقابها؟ (٢) هل تعليمه من هذه الحيثية أو غيرها كان أوسع وأرقى مما جاء به الأنبياء الأولون، إذ كان نتيجة وحي جديد يحتاج الحال إلى إرسال رسول آخر بكتاب غير الكتب السابقة ليقرر هذه الحقائق من جديد؟
وعلى هذا السؤال نجيب فنقول: إن جميع هذه الحقائق التي ذكرها القرآن أخيراً جاءت من قبل في الكتاب المقدس مفصلة تفصيلاً ليس من وراءه من مزيد ونودي بها في أنحاء كثيرة من المسكونة حتى أن بلاد العرب نفسها لم تعدم نصيباً من معرفة وحدانية الله وعظمة صفاته من قبل أن يخلق محمد وأجداده الأولون. وهل من يجهل أن وحدانية الله مثبوتة في فصول العهد القديم والجديد من أولها إلى آخرها؟ الكل يعلمون ذلك ويؤكدون أن هذه العقيدة أساس الإيمان عند النصارى كما هي عند اليهود وكذا العقائد الأخرى مشروحة شرحاً وافياً في الكتاب المقدس مثل كون الله هو خالق السموات والأرض وأنه أمر معروف لدى كل من خالط اليهود والنصارى من الشعوب الآخرين كما دلت آثارهم حيث اكتشفوا كتابات منقوشة على صخور في بلاد الفرس لداريوس الملك يحرض قومه على الإيمان بأن الله هو الخالق عز وجل وذلك من قبل التاريخ المسيحي بخمسمائة سنة وقبل محمد بأكثر من ألف سنة.
فلو كان محمد هو أول من قال بوحدانية الله لوجب علينا بدون نزاع أن نؤمن به، أما وقد سبقه إلى ذلك كثيرون من قديم الزمان فليس له علينا حجة. وأقل ما نقول في هذا الصدد أن العرب من قبل مولده كانوا يؤمنون بإله واحد عظيم يدعونه الله تعالى ويدعون الكعبة بيت الله. واعلم أن كلمة الله متى وردت محلاة بال التعريفية دلت على الإله الحق الواحد وقد ذكرها العرب محلاة بأل التعريفية كما مر بيانه. ونعلم ذلك من اسم أبي محمد عبد الله الذي مات قبل أن يولد ابنه يتضمن اسم الله معرفاً بأل فثبت الإيمان بوحدانيته تعالى. ولا ننكر أن العرب في الجاهلية كانوا يعبدون آلهة مع الله يعبدونها كوسطاء وشفعاء يقربونهم إليه وبهذا المعنى جعلوها كشركاء له تعالى، ومع هذا كان هناك بين هؤلاء المشركين موحدون. ولو فرضنا أن محمداً لم يسمع قط من وثني العرب عن وحدانية الله لكفاه ما سمعه من العرب المتنصرين والمتهودين ومن النصارى واليهود النازلين في بلاد العرب في ذلك الزمن. ولعلك لست جاهلاً أن محمداً سافر إلى سورية على الأقل مرتين وخالط وعامل أهلها وكانوا حينئذ يدينون بالنصرانية وحدث ذلك من قبل أن يدعي الرسالة. أما سفرته الأول فحدثت وهو ابن تسع سنوات برفقة عمه أبي طالب وأما سفرته الثانية فحدثت وهو ابن خمس وعشرين سنة برفقة مملوك لخديجة يدعى ميسرة ولا ينكر أحد أن كثيراً من أقاربه وأصحابه كانوا يهوداً ونصارى، ناهيك عن زوجته مارية القبطية، ومن هؤلاء ورقة بن نوفل الذي كان تابعاً لمذهب الحنفاء ثم صار مسيحياً واطلع على التوراة والإنجيل (انظر سيرة الرسول مجلد أول)، ومنهم عثمان بن حويرث الذي تنصر في بلاد القيصر بالقسطنطينية وكلا الشخصين، حسب سلسلة الأنساب التي دونها ابن هشام هما أبناء عم خديجة. وكان رجل من الحنفاء يدعى عبيد الله ابن جحش قد أسلم وهاجر إلى الحبشة ولكنه لم يلبث حتى تنصر ثم توفي وتزوج محمد بأرملته المدعوة أم حبيبة. وكان من جملة صحابته سليمان الفارسي الذي يقول عنه البعض أنه من نصارى بين النهرين ولما أخذ في السبي إلى بلاد الفرس اعتنق مذهب زردشت، ويقول آخرون وهو الرأي المعول عليه أنه فارسي وزردشتي مولداً ومنشأ لكنه اعتنق الدين المسيحي فيما بعد في بلاد سورية وبعدها سافر لبلاد العرب ثم أسلم وصاحب محمداً وهو الذي أشار عليه عند هجومه إلى الطائف بإقامة المتاريس لهدم مبانيها وكذا أشار عليه بحفر الخنادق حول المدينة لحمايتها من هجمات قريش وحلفائهم في السنة الخامسة للهجرة. ومنهم عبد الله بن سلام وكان قبل أتباعه لمحمد عالماً يهودياً وحبراً من أحبار اليهود وروى عنه العباسي ١ والجلالان في تفسيرهما أنه هو الرجل المشار إليه بقوله "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ" (سورة الأحقاف ٦٤:١٠) يريد الاتفاق بين الأسفار المقدسة وبين القرآن. وذكر العباسي أن عبداً مسيحياً يسمى يسار أو أبو فكيهة ورجلاً آخر رومياً دعته العرب أبو تقبيحة اتهمهما الناس بأنهما أعانا محمداً على تأليف القرآن وأملياه عليه وأشار القرآن إلى هذه التهمة في سورة الفرقان حيث يقول "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وَأَصِيلاً" (سورة الفرقان ٢٥:٤ و٥). وقال العباسي أيضاً في تعليقه على سورة النحل ١٦:١٠٣ "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" ما معناه أن الرجل الأعجمي الذي زعموا أنه علم محمداً القرآن رجل مسيحي يدعى قاين وذهب الجلالان أن الآية تشير إلى شخصين آخرين وهما يسار وجبرا وقال بعضهم بل تشير إلى سلمان الفارسي وآخرون إلى صهيب وآخرون إلى راهب اسمه عداس ناهيك أن زيداً الذي تبناه محمد كان سوري الجنس مولداً ومنشأ ٢ وعليه فقد كان يدين بالمسيحية ولعل إشارة القرآن كانت إليه.
فإذا اعتبرنا هذه الأخبار التي صراحتها لا تحتاج إلى محاورة ولا جدال نجد أنه لا يمكن بالكلية أن تنسب التعاليم التي جاءت في القرآن من حيث وحدانية الله والقيامة والثواب والعقاب إلى غير ذلك مما تقدم ذكره إلى محمد بدليل ورودها في الكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل من قبل محمد بقرون كثيرة وعليه نحكم أنه اقتبسها من هذا الكتاب بمعرفة هؤلاء الصحابة والأعوان ونحن لا نذمه على اقتباسه هذه التعاليم من التوراة والإنجيل بل بالحري نشكره غير أن وجود هذه الحقائق في القرآن لا يثبت إعجازه ولا هو دليل على وحيه.
وكثيراً ما قالوا أن البرهان القاطع على نبوة محمد إنباؤه بأمور كثيرة مستقبلة في القرآن وقد تمت وهذا يدل طبعاً أنه من عند الله لأنه لا يعلم الغيب إلا هو ويؤيدون حجتهم هذه بما ورد في سفر التثنية ١٨:٢١ و٢٢ "وَإِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: كَيْفَ نَعْرِفُ الْكَلامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ؟ فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ، فَهُوَ الْكَلامُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ، بَلْ بِطُغْيَانٍ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ، فَلا تَخَفْ مِنْهُ." فمن الواجب علينا أن نفحص باعتناء الآيات القرآنية التي يزعمون أنها تتضمن أنباء عن حوادث كانت ستحدث في المستقبل عندما أملاها محمد لكتبته.
لو اتفق المسلمون أن القرآن تأليف محمد وكتب بالوحي وليس كما يقولون أنه أملاه له جبرائيل لكانت حجتهم أقوى.
وقد أحصوا الآيات التي أنبأ فيها عن المستقبل في أثنين وعشرين خبراً وردت في المواضع الآتية (سورة البقرة ٢:٢١ و٢٢ و٨٨ و٨٩ وسورة آل عمران ٣:١٠ و١٠٧ و١٠٨ و١٤٤ وسورة المائدة ٥:٧١ وسورة الأنفال ٨٧ وسورة التوبة ٩:١٤ وسورة الحجر ١٥:٩ و٩٥ وسورة النور ٢٤:٥٤ وسورة القصص ٢٨:٨٥ وسورة الروم ٣٠:١-٤ وسورة فصلت ٤١:٤٢ وسورة الفتح ٤٨:١٦ و١٨-٢١ و٢٧ و٢٨ وسورة القمر ٥٤:٤٤ و٤٥ وسورة الصف ٦١:١٣ وسورة النصر ١١٠:١ و٢) ولا يخفى على القارئ الفطن أن هذه النبوات المزعومة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول، ما يشير إلى انتصارات محمد. والثاني، ما يشير إلى القرآن نفسه. والثالث، وهي نبوة واحدة تشير إلى الروم. ولنتأمل في هذه الأقسام بالتتابع على وجه مختصر.
فنقول أما من جهة النبوات بانتصارات محمد فلا تحتاج إلى بحث كثير لأنه لا يمكن إقامة الدليل على أنها كتبت أو نزلت كما يقولون من قبل وقوع الحوادث التي قال المفسرون أنها تشير إليها. ولكن نسلم جدلاً أن تلك النبوات كتبت قبل الوقائع الدالة عليها، فلا يترتب على ذلك شيء عظيم لأنه ليس بالأمر المستغرب أن يعد محمد قومه بالنصر في مقدمة كل حرب بل هذه خطة القواد العظام يبشرون جيوشهم بالنصر تشجيعاً لهم على خوض غمار الحرب بقلب رابط الجأش ولابد أن تدور الدائرة على أحد القائدين المتحاربين فهل يجوز للقائد المنتصر أن يدعي النبوة بناء على كونه سبق فوعد قومه بالنصر من قبل. كلٌّ يعلم أن القائدين جنكيز خان وتيمورلنك مثلاً بشرا عساكرهما بالفتح المبين والغنم العظيم وقد تمت بشراهما وانهزمت الأعداء فهل كانا لأجل هذا من أنبياء الله ورسله؟ على أن أنباء محمد بانتصاراته يرجى تحقيقها عند جنوده أكثر مما يرجى تحقيق أنباء القواد الآخرين عند جنودهم لأن أولئك كانوا يؤمنون بأن قائدهم رسول الله المؤيد بقوته غير المتناهية وهذا يولد في نفوسهم البسالة والإقدام بكيفية عديمة المثال في الحروب الاعتيادية كما جرى في واقعة الوهابيين وفي واقعة المهدي وخليفته في الأقطار السودانية التي كانت سيستفحل شرها لولا أن دهمتها وهي في مهدها ضربة قاضية من الجيوش المنتظمة ذات العدد والعُدة، الأمر الذي لم يلق محمد مثله في زمانه الغابر.
ولزيادة الإيضاح نتأمل في غزوة بدر إحدى غزوات محمد لأن بعضهم يطبق عليها ما ورد في سورة القمر ٥٤:٤٤ و٤٥ حيث يقول "أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ." قال البيضاوي في تفسيره لسورة الأنفال آية ٥ ما معناه أن أبا سفيان مع تسعة وثلاثين راكباً كانوا يحرسون قافلة آتية من سوريا فأعلم جبريل محمداً بخبرها وقلة حرسها مع وفرة ثروتها. فقام محمد لساعته وحرض رجاله بأن يهجموا على تلك القافلة ويسلبوا ثروتها فلما بلغ الخبر أهل مكة قادهم أبو جهل إلى بدر، وإذ سمع رجال محمد بذلك خشوا العاقبة ولاموا محمداً على عدم إنذارهم بذلك من قبل ليأخذوا لأنفسهم الأهبة اللازمة وودوا لو يجدون في طلب القافلة فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فاعتذر بأن الله وعده بالغلبة على إحدى الطائفتين إما القافلة أو العدو. وقال البيضاوي أيضاً في تفسيره لآية ٦ من السورة عينها ما معناه أن المسلمين أحجموا أولاً عن محاربة قريش في هذه الواقعة لأنهم يزيدون عنهم عدداً وسلاحاً ولم يكونوا مستعدين للحرب حينئذ. وقال في تفسيره لسورة القمر آية ٤٤ و٤٥ ما معناه أن عمر لم يكن يعلم معنى هذه الآية حتى الساعة التي لبس فيها محمد درعه وخرج للقتال في ذلك اليوم. أما كون المسلمين خشوا بأس قريش في بادئ الأمر فظاهر من سورة الأنفال ٨:٦ "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقوُنَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ."
وقال ابن هشام عن واقعة بدر ما معناه لما علم رسول الله بقدوم جماعة أبي سفيان من سورية فحرض رجاله ليوقعوا بهم وقال لهم هاكم قافلة قريش تحمل أمتعتهم فاحملوا عليهم عسى الله أن يدفعهم إلى يدكم فتحمس بعضهم وأحجم البعض الآخر إذ لم يخطر في خلدهم أن رسول الله يتقدمهم في المعركة. ولما دنا أبو سفيان من الحجاز أخذ يسأل في طريقه كل من مر به عن قوم محمد لأنه أوجس خيفة على قافلته من شرهم إلى أن بلغه خبرهم بالتفصيل فاستأجر ضمضم بن عمرو الفغاري وأوفده إلى مكة بحشد قريش لحماية أموالهم من هجمة محمد. فأقبل جند عديد منهم للغاية المذكورة. وورد في كتاب حياة القلوب تعليقاً على الروايتين السابقتين ما معناه أن محمداً أظهر لقومه أن القافلة لا يمكن إلحاقها إذ قد بعدت عنهم وأن قريشاً قادمون نحوهم ويأمرهم الله بالجهاد في سبيله ضد هؤلاء القوم الكافرين فما بلغهم ذلك حتى هلعت قلوبهم من شدة الخوف. وقال في غير موضع لما سمع قوم محمد بكثرة عدد قريش وقع الرعب في قلوبهم وصاحوا مولولين فأخذ محمد يشجعهم ويبث فيهم روح البسالة والإقدام مكرراً عليهم سورة القمر ٥٤:٤٠ و٤٥ حيث يقول "أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ." وهذه على نحو ما يقول كل قائد لجنوده يوم يلتئم الجمعان وتحتدم نار الحرب إلا أن محمداً زاد عن القواد بأن عزا قوله إلى مصدر سماوي ليقوي رجاءهم فحاربوا بشجاعة ونالوا النصر وليس ذلك من النبوة في شيء كما رأيت.
ثم نتقدم إلى القسم الثاني من نبوات القرآن المزعومة وهي التي تتعلق بالقرآن نفسه. ظن قوم أن بقاء القرآن سالماً من التحريف بالزيادة والنقصان كان تتميماً لقوله في سورة الحجر ١٥:٩ "إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ." قال صاحب كتاب إظهار الحق أي حافظون له من الزيادة والحذف الخ بواسطة القراء. وقد تم ذلك، فإنه منذ تنزيله إلى عصرنا الحاضر لم يجترئ كافر من الكفرة الملحدين ولا مترف من القرامطة أن يمسه أقل مساس في المعنى أو اللفظ أو حركات الضبط. غير أن الذين فطنوا إلى ما قدمناه في الفصل الثالث من الجزء الثاني من هذا المؤلف يذكرون حكاية ما فعله عثمان ثالث الخلفاء الراشدين بالقرآن وكيف أنه أحرق جميع النسخ القديمة مما يدل بلا نزاع على وقوع اختلاف بين نسخ القرآن الأمر الذي لم يمكن إخفاؤه إلا بحرق القديم منها فكيف نضرب عن ذلك صفحاً ونقول أن القرآن باق على ما نزل؟ وعدا حادثة الحرق نقول إن كان القرآن باقياً على ما كان عليه حقيقة فماذا يكون ظنك حينئذ بالأحاديث الصحيحة الشاهدة بوقوع التغيير في نسخه من ذلك قول محمد رحمه الله أن فلاناً قد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتهن. ويروى "أنسيتهن." ومن الآيات الساقطة التي لم يتفق له من يذكره إياها، آية المتعة أسقطها علي وهذا ما حدا بعائشة أن تلومه وتقرعه على هذا الفعل الذميم فقالت أنه يجلد على القرآن وينهي عنه وقد بدله وحرفه، ومنها آية الرجم وما كان يقرأه أبي بن كعب وفقد من القرآن المتداول اليوم وهو قوله اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك الخ وعليه نقول إن كانت آية "إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" نبوة كما يزعمون، فهي نبوة لم يتبين صدقها فإذا القسم الأول والثاني من نبوات القرآن المدعى بها مما يختص بانتصارات محمد وببقاء القرآن على أصله دون تحريف لا ينطبق عليها حكم النبوات الصحيحة.
بقي علينا أن نتكلم عن القسم الثالث من النبوات المحكي عنها وهي التي تشير إلى انهزام الروم ثم غلبتهم وهي واقعة في أربع آيات وننقل لفظها هنا للتفكير "غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" (سورة الروم ٣٠١-٥). زعم قوم من المفسرين أن هذه الآيات نبوة صريحة بالمستقبل دالة على صحة رسالة محمد وقالوا أن الآية الأولى منها تدل على انكسار الروم في سورية أمام الفرس في ملك خسروبرويز ولما بلغ خبر انتصار الفرس على الروم فرح المشركون وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون، فقد ظهر إخواننا على إخوانكم فلنظهرن عليكم فعند ذلك نزلت الآية التالية وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وروي أن أبا بكر عقد مراهنة بينه وبين أبي بن خلف أن هذه الآية ستتم في ظرف ثلاث سنين لكنه لما علم من محمد أن كلمة بضع المشار إليها في الآية هي كناية عن عدد قليل يتراوح بين الثلاثة والتسعة بدّل الشروط المتفق عليها من حيث المدة وقالوا أن الروم غلبت بعد سبع سنين وربح أبو بكر المراهنة وقبض قيمتها من ورثة أبي الذي كانت أدركته الوفاة وقتئذ. هذا ما حكوه لتأييد نبوة القرآن المتعلقة بالروم وفارس والآن اسمح لي أيها القارئ العزيز أن نتبين صحة هذه الحكاية مع التسليم بأن الآية المشار إليها كتبت قبل واقعة الحرب وظهور النتيجة وأنها باقية على ما كانت عليه.
نعلم من التاريخ أن فارس هزمت الروم في أرض سورية في السنة السادسة قبل الهجرة الموافقة لسنة ٦١٥ ميلادية وإذ تمت هذه الحادثة وغلبت الروم في أدنى الأرض بلغ هذا الخبر إلى مكة في أيام قليلة. قال البيضاوي في تفسيره ما معناه أن تلك النبوة تمت يوم انتصر الروم على فارس وكان ذلك في يوم الحديبية. ونعلم أن معاهدة الحديبية تمت في ذي القعدة من السنة السادسة بعد الهجرة الموافقة لشهر مارس سنة ٦٢٨ ميلادية فإن صح تفسير البيضاوي وكانت غلبة الروم في السنة الثانية عشرة بعد انهزامهم خلافاً لما جاء في القرآن من أن بين الحادثتين بضع سنين والبضع لا يزيد عن تسع وعليه فلم تتم النبوة، على أنه ليس من النوادر البالغة حد الإعجاز أن يخبر أحد أية الدولتين تحرز الغلبة فإن هذا يمكن معرفته بدون تكليف جبريل بأن يأتي بوحي من السماء بل يعرف ذلك بمضاهاة الدولة الواحدة بالأخرى. فمن كانت أكثر رجالاً وأوفى عدة وأعلى همة فهي الغالبة لا محالة حتى وإن غلبت في بادئ الأمر. لهذا لنا الحق أن ندعي بأن محمداً أنبأ بانتصار الروم أخيراً من تلقاء نفسه بمجرد رأيه الثاقب وذكاء فكره إسوة بكثيرين من ذوي الآراء الصائبة وقيل في الأمثال أن ظن العاقل أصح من يقين الجاهل. عدا ذلك نقول أنه من المحتمل أن يكون أبو بكر راهن صاحبه على انتصار الروم من قبل أن يشاور محمداً فإن صح هذا الاحتمال كان أبو بكر نبياً أيضاً كمحمد لأنه تأكد أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين حتى أنه عقد مراهنة على هذه النتيجة فتأمل! أما الحقيقة الناصعة فهي أنه لا قول أبي بكر ولا قول محمد من النبوة في شيء بل إنهما كرجلين مدربين بمرور السنين ومحنكين بمشاهدة الوقائع لاحظا أن دولة الفرس كثر فيها الاضطراب والهرج وأخذ منها الضعف والاختلال كل مأخذ بدليل تولية الملوك عليها وسقوطهم في زمن قصير. فإنه ما بين موت أنوشروان سنة ٥٨٧ ميلادية وبين سقوط يزدجرد الثالث سنة ٦٤٢ ميلادية ملك على الفرس لا أقل من أربعة عشر ملكاً ومات أكثرهم قتلاً بعد تمليكهم بزمن قصير وحدث في السنين الخمس التي ما بين ملك خسروفرويز (سنة ٢٢٧ ميلادية) وبين تولية يزدجرد أنه قد ملك نحو أحد عشر ملكاً فكل من له مسة من العقل يحكم لأول وهلة أن دولة كهذه لا تقوى على الروم. فليس بعظيم على محمد أن يعرف هذه النتيجة الضرورية، على أن محمد لم يعين بالضبط عدد السنين التي تكون الغلبة من بعدها بل أتى بعدد مرن يتمدد وينكمش فقال بضع سنين محتاطاً لنفسه لئلا تمسك عليه غلطة ومع ذلك فأخطأ الحقيقة بالرغم عن احتياطه، ولو مددنا بضعاً إلى أقصى حدودها لأن الروم لم يغلبوا فارس قبل مرور عشرة سنين لا تسع بعد انهزامهم على أقل تقدير.
ومما يؤكد لنا أن محمداً كان عالماً بضعف الفرس من قبل أن يطلع على آية الروم بسنين كثيرة ما رواه ابن هشام في سيرة الرسول قال ما معناه عقد محمد ورؤساء قريش مؤتمراً في مكة قبل الهجرة واجتهد في أن يستميلهم إلى الإقرار بالكلمة الأولى من الشهادتين وترك الشرك واعداً إياهم بعلو المنزلة على العجم والعرب إلى أن قال "يا عم كلمة واحدة تعظونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم."
ومع هذا كله فإن البيضاوي كفانا مؤونة هذا البحث وأراحنا من المناظرة فيما إذا كانت آية الروم نبوة كما زعموا أم لا، وذلك لأنه يروي لنا خبر اختلاف قراءة تلك الآية إذ يقرأها بعضهم هكذا غَلبت (مبنياً للمعلوم) عوض غُلبت (مبنياً للمجهول) وسيُغلبون (مبنياً للمجهول) عوض سيَغلبون (مبنياً للمعلوم). فتكون جملة الآية هكذا غَلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلبتهم سيُغلبون في بضع سنين. فإن صحت هذه القراءة بطلت دعوة الذين يدعون باشتمال هذه الآية على معجزة الإنباء بالمستقبل وكانت حكاية المراهنة التي زعموا أن أبا بكر عقدها مع أبي حديث خرافة لأن أبيا كان قد مات قبل انتصار المسلمين على الروم بل قبل انتصار الروم على الفرس بسنين كثيرة ومن هنا نعلم شطط الحديث ووهنه وهو عندهم مصادر الثقة. وقال البيضاوي في تفسيره آية الروم بحسب القراءة الثانية ما معناه أن الروم انتصروا على ريف الشام ثم أن بقية الآية تبشر بانتصار المسلمين عليهم في بضع سنين وبموجب هذا التفسير يلزم أن يكون الحديث الذي اثبتوا به نزول الآية المذكورة قبل تاريخ الهجرة بست سنين غير صحيح لأنها تكون قد نزلت بعد ذلك باثنتي عشرة سنة على الأقل والحاصل أن الاستدلال على كون محمد رسول الله بإنبائه عن حادثة مستقبلة كما يزعمون استدلال باطل. أولاً لأن تاريخ نزول الآية المتضمنة الإنباء بالمستقبل غير معلوم بالضبط، ثانياً لأن قراءتها الصحيحة غير معلومة أيضاً، ثالثاً لا يمكن أن يتبين من معنى الآية المذكورة أن شيئاً من النبوة قد تم.
مما تقدم يظهر أن ما بناه المسلمون من إثبات رسالة نبيهم على براهين النبوات المزعومة في القرآن قد سقط من أصوله لدى الامتحان الدقيق ولما كانت الأشياء تعرف بأضدادها علينا أن نقارن بين نبوات القرآن المذكورة وبين نبوات الكتاب المقدس وما كان منها بخصوص المسيح في العهد القديم وما كان بخصوص اليهود في كلا العهدين أو تلك النبوات التي في سفر الرؤيا مثل ٩ و ١٤:٦.
ومن البراهين التي يقدمونها على كون القرآن موحى به من الله ما يدعونه من اشتماله على أخبار الأمم البائدة منذ قرون كثيرة. أما هذه الدعوى فلو صحت لكانت ذات أهمية عظمى في إثبات ما أرادوا أن يثبتوه فعلينا أن نعرضها على بساط البحث والتنقيب كتاجر حريص ينقد الدراهم التي يتعامل بها خشية من أن تكون مزيفة فيندم حيث لا ينفع الندم، أما الذهب النقي فيدفع به صاحبه إلى يد الناقد غير هياب ولا وجل لأنه كيفما يمتحن يتزكى ويحمد حتى وإن طُرح في نار حامية. فهل يا ترى تحتمل أخبار القرآن التاريخية نار الامتحان كذهب خالص أو تحرق من قليل الشرر كهشيم العشب؟
ولنبدأ بحكاية عاد وثمود قبيلتين من العرب ذكرهما القرآن فنقول أننا نعلم بوجودهما من كاتبين من قدماء اليونان وهما بطليموس وديودورس سيسلوس وزاد القرآن عما ذكراه شيئاً يسيراً في قصة هاتين القبيلتين، وأن كثيرين من المكتشفين المحققين الذين نبغوا في العصر الحاضر أثبتوا باكتشافاتهم ما رواه الكتاب المقدس عن قدماء المصريين وبابل وأشور، أما عاد وثمود فلم يثبت أحد ما حكاه القرآن عنهما حتى ظن كثير من العلماء الباحثين أن محمداً نقل خبرهما من كتب الصابئين ٣ التي دعاها في قرآنه "صحف إبرهيم" (سورة الأعلى ٨٧١٩). ويظهر أنه فيما بعد علم أن هذه الصحف مزورة فلم يعد يذكرها مدة أربع سنين بعد ادعائه الرسالة. أما من جهة هود وصالح وشعيب فمن المحتمل أن يكونوا مبشرين مسيحيين جاءوا بلاد العرب يكرزون لها بالإنجيل ومن المحتمل أن يكونوا غير ذلك حيث أنه لم يذكرهم أحد من المؤرخين ولا غيرهم سوى القرآن أما تاريخ الزمن الذي وجدوا فيه إن كانوا وجدوا حقيقة فغير معلوم. وقال بعض العلماء إذا كان القرآن لم يصب كبد الحقيقية في ما رواه عن الأشخاص المعلوم وجودهم من التاريخ قبل الإسلام بقرون فلنا حق أن نزعم أيضاً بأن ما رواه عن عاد وثمود وطسم وجديس وهود وصالح وشعيب الخ ليس بصحيح إلا إذا كان يُقام عليه الدليل. ومن أمثلة ما اخطأ القرآن في سرد أخباره إبراهيم فإنه يروى عنه كثيراً مما لا يوافق ما جاءت به التوراة التي يشهد لها أنها نزلت من عند الله مثل حكاية طرحه في النار وخروجه منها سالماً التي إنما هي خرافة يهودية أخذها عنهم بغير تحقق عن أصلها. قال صاحب مصادر الإسلام ما معناه منشأ أن هذه القصة هو اشتباه بعض المفسرين الجهلة بين لفظة أور بلغة البابليين القديمة التي معناها مدينة والتي في قوله تعالى خطاباً لإبراهيم "أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ" (تكوين ١٥:٧) وبين كلمة أور التي معناها نار في اللغة الكلدانية، فظن ذلك المفسر أن الرب أخرج إبراهيم من نار الكلدانيين لا من مدينتهم فاضطر حينئذ إلى تمهيد الخبر بتلك القصة السخيفة ووردت كلمة أور بمعنى مدينة في قوله أورشليم أي مدينة شليم وأخطأ القرآن في تسمية أبي إبراهيم آزر (سورة الأنعام ٦:٧٤) وهو تارح (تكوين ١١:٢٦) ثم قال في سورة الأعراف ما معناه أن الله أرسل الطوفان على المصريين في عصر موسى وذكر الطوفان محلى بال التعريف في هذا الموضع يحملنا على الظن بأنه عنى طوفان نوح الذي ذكر في السورة عينها (انظر آية ١٣٢ و٦٣). ومن خطئه الفاضح أن التبست عليه مريم ابنة عمران (سورة آل عمران ٣:٣٣-٤٤) وأخت هارون ( سورة مريم ١٩:٢٩ مع خروج ١٥:٢٠ وعدد ٢٦:٥٩ ) بمريم أم المسيح ( انظر سورة التحريم ٦٦:١٢) وبين الأولى والثانية زهاء ألف وأربعمائة سنة. قال الإمام مسلم في صحيحه ما معناه أن نصارى نجران انتقدوا على القرآن هذه الغلطة التاريخية أمام المغيرة فتشاور مع محمد بهذا الصدد ولكنه لم يقف منه على جواب شاف ومن وقتها إلى الآن انقضت ألف وثلاثمائة سنة على القرآن وهو يدرس ويشرح إلا أن أحداً من العلماء لم يوفق أن يزكيه بإزاء هذا الشطط التاريخي الصريح.
وجاء في سورة الكهف ١٨:٦٤-٩٩ سيرة ذي القرنين. قال البيضاوي وابن هشام أنه اسكندر الكبير المكدوني وهذه عبارة البيضاوي حرفياً وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ (يعني اسكندر الرومي ملك فارس والروم وقيل المشرق والمغرب ولذلك سمي ذا القرنين أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها وقيل لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس وقيل كان له قرنان أي ضفيرتين وقيل كان لتاجه قرنان ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه واختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه).
إن كان اسكندر عمر جيلين كما زعم البيضاوي فما كان أقصر أعمار أهل زمانه إذ أنه توفي ابن ثلاث وثلاثين سنة على أثر ارتكابه فسقاً بسكر في مدينة بابل سنة ٣٢٣ ميلادية ولم يكن نبياً كما زعم القرآن ولا مؤمناً من عامة المؤمنين، إنما كان من عباد الأصنام وادعى أنه ابن إله المصريين أمون. وأما حكاية أنه بلغ مغرب الشمس ووجدها تغرب في عين حمئة أو حامية حسب قراءة بعضهم فمن مختلق الحديث (سورة الكهف ١٨:٨٧) لأن الشمس لا تدور حول الأرض بل الأرض تدور حولها كما هو معلوم وكذلك لا صحة لما رواه القرآن عن السد الذي بناه من زبر الحديد والقطر (النحاس) بين جبلين مأهول أحدهما بأمة صالحة والآخر بأمة متوحشة (سورة الكهف ١٨:٩٥). ومع ذلك يجزم البيضاوي مع رفقائه المفسرين إن ذا القرنين ما هو إلا اسكندر المكدوني المعروف ولعل الذي حملهم على ذلك التأكيد ما ورد في نبوة دانيال ٨:٣ و٤ من سيرة الكبش ذي القرنين الذي كان ينطح غرباً وشمالاً وجنوباً ولم يقف أمامه أحد فظنوا أنه رمز إلى اسكندر وسموه ذا القرنين، والحقيقة بخلاف ذلك لأن الإصحاح نفسه يبين أن ذلك الكبش يرمز به لا إلى اسنكدر بل إلى اتحاد مملكتي مادي وفارس وعلى ذلك قوله "أَمَّا الْكَبْشُ الَّذِي رَأَيْتَهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ فَهُوَ مُلُوكُ مَادِي وَفَارِسَ" (دانيال ٨:٢٠). وأما اسكندر فمرموز إليه في الإصحاح عينه بتيس ذي قرن واحد بين عينيه وصرح بأنه غلب الكبش أي مملكة مادي وفارس وعلى ذلك قوله: "رَأَيْتُ الْكَبْشَ يَنْطَحُ غَرْباً وَشِمَالاً وَجَنُوباً فَلَمْ يَقِفْ حَيَوَانٌ قُدَّامَهُ وَلا مُنْقِذٌ مِنْ يَدِهِ، وَفَعَلَ كَمَرْضَاتِهِ وَعَظُمَ. وَبَيْنَمَا كُنْتُ مُتَأَمِّلاً إِذَا بِتَيْسٍ مِنَ الْمَعْزِ جَاءَ مِنَ الْمَغْرِبِ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأرْضِ وَلَمْ يَمَسَّ الأرْضَ، وَلِلتَّيْسِ قَرْنٌ مُعْتَبَرٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَجَاءَ إِلَى الْكَبْشِ صَاحِبِ الْقَرْنَيْنِ الَّذِي رَأَيْتُهُ وَاقِفاً عِنْدَ النَّهْرِ وَرَكَضَ إِلَيْهِ بِشِدَّةِ قُّوَتِهِ. وَرَأَيْتُهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَانِبِ الْكَبْشِ فَاسْتَشَاطَ عَلَيْهِ وَضَرَبَ الْكَبْشَ وَكَسَرَ قَرْنَيْهِ. وَالتَّيْسُ الْثاني مَلِكُ الْيُونَانِ، وَالْقَرْنُ الْعَظِيمُ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ هُوَ الْمَلِكُ الأوَلُ" (دانيال ٨:٤-٧ و٢١). ومما مهد الأسباب لعلماء المسلمين أن يعتبروا ذلك الكبش رمزاً إلى اسكندر هو أن كلمة الكبش تطلق في العربية على سيد القوم والحاصل أن كل ما قاله القرآن عن ذي القرنين الذي يعني به اسنكدر المكدوني لا أثر له في تاريخ الملك العظيم الذي دونه كثير من مشاهير المؤرخين وهذا ما حدا بالعلماء أن لا يثقوا بالأخبار التاريخية المنقولة عن القرآن.
ومن خطإه في التاريخ أنه أخبر بأن المرأة التي تبنت موسى هي امرأة فرعون (سورة القصص ٢٨:٩) بينما موسى نفسه وهو أعلم بمن ربّته من محمد قال أنها ابنة فرعون لا امرأته (انظر خروج ٢:٥-١٠). وجاء ذكر هامان مقترناً بفرعون في مواضع جمة من القرآن كخادمه ووزيره والحقيقة لم يكن لأحدهما أقل علاقة بالآخر فإننا نعلم من سفر أستير أن هامان كان حبيباً وخليلاً لأحشويرش ملك فارس الذي يدعوه اليونان زركسيس وعاش في بلاد فارس لا في مصر بعد فرعون موسى بمئات من السنين. ومن غلطاته أنه قال أن فرعون أمر هامان أن يبني له صرحاً يمس السموات كما في سورة غافر وهذا خطأ وصوابه أن هذا البرج أو الصرح لم يبن في مصر بل في بابل من قبل فرعون بقرون كثيرة (انظر تكوين ١١:١-٩).
وجاء في سورة (طه ٢٠:٧٨ و٩٦) أن العجل الذي عبده بنو إسرائيل في البرية في وقت موسى قد عمله لهم السامري وهذا خطأ فاضح لأن مدينة السامرة المنسوب إليها هذا الرجل لم تكن بعد في الوجود وقد بنيت بعد موسى بمئات من السنين (انظر ملوك الأول ١٦:٢٤) ولعله التبس على كاتب هذه السورة العجل الذي عبده بنو إسرائيل في البرية بالعجلين الآخرين اللذين عبدوهما بعد زمن داود وسليمان (ملوك الأول ١٢: ٢٨) حتى أن هذين العجلين كانا قبل أن تبنى مدينة السامرة ولما بنيت السامرة كانت عاصمة للمملكة السامرة وهذه الحقيقة هي التي بنيت عليها هذه القصة.
وجاء في سورة البقرة ٢:٢٥٠-٢٥٢ حكاية داود مع جليات الجبار مشوشة بحكاية فرقة جدعون التي امتحنها بالشرب من النهر عندما حارب المديانيين وبين الحكايتين زمن مديد. وفي سورة الكهف ١٨:٨-٢٦ وردت قصة أهل الكهف وهي حكاية مكذوبة صنفها أصحاب البدع من طوائف النصارى وخلاصتها أن سبعة شبان مسيحيين هربوا من اضطهاد أحد قياصرة الروم المدعو دقيانوس واختبئوا في مغارة فرقدوا نحو ٣٠٠ سنة ولما استيقظوا وجدوا كل شيء قد تغير وكان الإمبراطور حينئذ ثيودوسيوس وهو رجل مسيحي فاندهشوا غاية الاندهاش إذ بين ليلة وضحاها انقلبت الأحوال رأساً على عقب. وقد وردت هذه القصة في كتاب لاتيني اسمه مجد الشهداء تأليف غريغوريوس، كما أثبت ذلك صاحب كتاب مصادر الإسلام وظن بعضهم أن كاتب هذه القصة لم يكتبها كواقعة حال بل تخيلها كرواية ليعظ بها قومه ويريهم قدرة الله عل كل شيء، وأما اليوم فلا يصدقها أحد من النصارى وتستعمل في أوروبا لتسلية الأولاد الصغار.
وأظن أنه لا حاجة بنا إلى المزيد من سرد الغلطات التاريخية الواردة في القرآن اكتفاء بما سردناه ولعل في هذا القدر كفاية لصرف إخواننا المسلمين عن الاحتجاج بمضامين القرآن التاريخية على صحة نسبته إلى الله وصدق رسالة محمد.
وزعم بعضهم أن من البراهين الدالة على كون القرآن كتاب الله خلوه كما يتراءى لهم من التناقض والاختلاف كأنهم يقولون أن كتاباً كبير الحجم كهذا لا يمكن أن يكون من عند الله إن وجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وهذه أيضاً دعوى باطلة لأننا نرى فيه اختلافاً كثيراً بعضه قليل الأهمية وبعضه جوهري فالأول كالاختلاف الواقع بين عددي ١٣ و ١٤ وبين عددي ٣٩ و ٤٠ من سورة الواقعة وما قاله البيضاوي ونقله الزمخشري من الحديث لتسوية الاختلاف المذكور لم يكن قولاً سديداً ولكننا نسلم أن هذا شيء زهيد بجانب ما سنذكره لك من المسائل الخطيرة.
جاء في سورة النساء ٤:٤٧ أن الله لا يغفر خطية الشرك ويغفر ما دون ذلك والشرك هو اتخاذ آلهة مع الله أو دونه إلا أنه ورد في سورة الأنعام ٦:٧٦-٧٨ أن إبراهيم اتخذ الشمس والقمر والنجوم آلهة دون الله وهذا شرك بين في حين أن إخواننا المسلمين يعتبرونه نبياً عظيماً من أولي العزم ويعتبرون أن جماعة الأنبياء معصومون.
ويحرم القرآن النفاق في جملة مواضع منها (سورة البقرة ٢:٧٦ والسناء ٤:١٣٨ والتوبة ٩:٦٥-٦٩ والمجادلة ٥٨:١٤) ويجعل مثواهم في الدرك الأسفل من النار (سورة النساء ٤:١٤٤) ومما لا ينكره أحد من ذوي العقول السليمة أنه إذا أسلم أحد مكرهاً بقوة السيف لا يكون إسلامه من قلبه بل من شفتيه ومتى خالف ظاهر الإنسان باطنه كان منافقاً ولا يخفى ما فرضه القرآن على المسلمين من نشر دينهم بقوة السيف إلى أن يدين بالإسلام كل العالم ولا تكون في الأرض فتنة ويكون الدين كله لله. ففي مثل هذه الظروف يتخير الرجل الملزم بالإسلام كرهاً خصلة من خصلتين أما الموت الزؤام أو كلمة يقولها وينجو بحياته فيقولها نفاقاً ورياء وهذا من أردأ أنواع الاختلاف، يحرم الشيء لقبحه فإذا كان فيه مغنم حلله وحث عليه. نعم قد أضاف القرآن خصلة ثالثة لأهل الكتاب وهي دفع الجزية وهم صاغرون إن لم يرغبوا في الإسلام ولا في القتال (سورة التوبة ٩:٣٠ وسورة المائدة ٥٤٤ وسورة الصف ٦١:١١ وسورة الحج ٢٢:٧٨) إلا أن دفع الجزية ضرب من الإكراه وقد أسلم من أهل الكتاب خلق كثير تخلصاً من الجزية وما بلغت إليه من المغارم الفادحة في عهد الحكام الظالمين رافعين شكواهم إلى رب العالمين.
يحرم القرآن إلى حد معلوم خطيئة الهوى وعلى ذلك قول "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (سورة النازعات ٧٩:٤٠ و٤١) فنقض ذلك بإباحة تعدد الزوجات بالإضافة إلى ما كان مملوكاً من السراري (سورة النساء ٤: ٢٣) وأباح لمحمد من هذه الحيثية أكثر من سائر المسلمين بل أباح له ما هو محظور عليهم فمن ذلك قوله "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زّوَجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً" وقوله "مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً وقوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكِ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكْتَ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ولاَ يَحْزَنَّ" (سورة الأحزاب ٣٣:٣٧ و٣٨ و٥٠ و٥١). ونعلم من الحديث الصحيح أن محمداً منح له أن يتمتع بالنساء أكثر من سائر المسلمين لرجحانه عليهم في الهوى والصبابة إليهن وزد على ذلك أن الجنة التي وعد بها في دار البقاء والخلود هي تلذذ غير محدود بحور عين حتى وإن كان أحد غير مستعبد للهوى فما دام مسلماً لا مناص له من هذه الجنة (سورة الرحمن ٥٥:٤٦-٧٨ وسورة الواقعة ٥٦:١١-٣٩ وانظر كتاب مشكاة المصابيح في صفة الجنة). فالقرآن من هذه الحيثية أردأ من أن يخالف بعضه بعضاً على أنه من الاختلاف أيضاً غير معصوم فكيف يكون هوى النفس محرماً في الدنيا وهو في الجنة مباح؟
والخمر محرم على المسلم هنا على الأرض كما جاء في سورة المائدة ٥:٩٣ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَا لْمَيْسِرُ وَا لأنْصَابُ وَلأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (قابل أيضاً سورة البقرة ٢:٢١٦) ولكن في الجنة للمؤمنين أنهار من خمر كما ورد في سورة محمد ٤٧:١٦ "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ" (قابل سورة الدهر ٧٦:٥ وسورة المطففين ٨٣:٢٥).
وأقوال القرآن عن المسيح يسوع لا تخلو من التناقض، فبعض الآيات تتكلم عنه كمجرد إنسان ونبي كسائر الأنبياء وتنكر لاهوته بتاتاً كما ورد في سورة المائدة ٥:١٩ "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً" وراجع آية ١١٣ و١١٤ من السورة وكذلك آل عمران ٣:٤٩ وقيل أيضاً في سورة الزخرف ٤٣:٥٩ "إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ." ثم توجد بعض الآيات الأخرى التي تعطي له أعظم الألقاب التي لم تعط فيه لغيره البتة منها كلمة الله سورة النساء ٤:١٦٩ وهذا اللقب لا يصح أن يُسمى به أي مخلوق كان، ويذكر له وحده معجزة الولادة من العذراء (سورة الأنبياء ٢١:٩١) وإنه وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (سورة آل عمران ٣:٤٥) ويقول البيضاوي الوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة. وفي سورة المائدة ٣:٣٦ قيل "وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ." وجاء في الحديث تفسيراً لهذه الآية كما أخرجه مسلم والبخاري والغزالي وغيرهم كل ابن آدم عند ولادته ينخسه الشيطان بإصبعيه في جنبيه إلا عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب (راجع مشكاة المصابيح الكتاب الأول الباب الثالث) ويشهد القرآن لمعجزات المسيح (سورة البقرة ٢٢٥٤) وأنه خلق طيراً من الطين مع أن قوة الخلق هي من صفات الله وحده وهو الفريد من بين الأنبياء أولي العزم الذي لا يذكر له القرآن خطية. ولا نجد فيه عن أي نبي آخر أن ولادته كانت بقوة الروح القدس "وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ" (سورة الأنبياء ٢١:٩١) وأنه آية للعالمين (كما مر) وأنه روح من الله (سورة النساء ٤:١٦٩) وكل الأنبياء أموات ما عدا يسوع كما يقول القرآن إن الله رفعه إليه (سورة النساء ٤:١٦٩) وهو حي في السماء. ويوافق المسلمون المسيحيين في الاعتقاد أن المسيح سيرجع في انتهاء العالم لم يكن يلزم للمسيح أن يشرح صدره ويوضع عنه وزره كما قيل عن محمد في سورة الانشراح والقول بمغفرة خطاياه يناقض ما جاء في سورة محمد ٤٧:١٩ "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" ولا تصل عليه أمته ولا تسلم كما أمر محمد (مشكاة المصابيح وجه ٨٦) من المعلوم أن لا نبي يحتاج لشفاعة أمته وصلواتها إلا هو.
ففي كل هذه النقط يتفق المسلمون مع المسيحيين على الفرق الموجود بين المسيح وأي نبي أو إنسان آخر. والقرآن لا يعطي محمداً المقام الذي يعطيه ليسوع ولا شك أن غرض القرآن هو استبدال المسيح بمحمد كرأس الجنس البشري. وهذا الأمر عجيب جداً ومتناقض حيث أن القرآن لا يسند لمحمد ولادة بمعجزة ولا يقول بعصمته ولا ينسب له القدرة على المعجزات ولا حتى صفات حميدة شريفة كما سنظهره في آخر هذا الفصل وما يليه.
ومن أهم تعاليم القرآن أن القدر هو سبب سعادة أو شقاء الإنسان في الآخرة، كما جاء في سورة الإسراء ١٧:١٣ و١٤ "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" وفي سورة إبراهيم ١٤:٤ "فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" وورد نفس القول في سورة المدثر آية ٣٤ ثم معناه في سورة البقرة آية ٥ و٦ والنساء آية ٩ والأنعام ١٢٥ والأعراف ١٧٧ و١٧٨ .. الخ. ثم نجد في سورة الأعراف ٧:١٧٨ "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ" وفي سورة هود ١١:١٢٠ "ولامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (راجع سورة السجدة ٣٢:١٣) وإن ذلك كان غرض الله تعالى من الخلق مع أنه في أماكن أخرى نجد أن الناس سيجزون حسناً في العالم الآتي إذا كانوا مسلمين ويعاقبون إذا لم يكونوا كذلك. فإذا كان كل عمل قد قدر على الإنسان من قبل والإنسان ليس له حرية إرادة فينتج أن الإنسان لا يكون له استحقاق أو عدم استحقاق ولا يكون صالحاً أو طالحاً وليس له ثواب أو عقاب فإن الثواب والعقاب عبارة عن جزاء خير أو شر. ولا تكون للأوامر والنواهي الإلهية فائدة حيث أن لا توجد في الإنسان مقدرة على الطاعة أو عدمها لأن القدر سجل كل شيء من ذي قبل. ولكن القرآن يحتوي على أوامر ونواهي ويصرح أنها أنزلت من العليم ففي بعض الأماكن يخبر القرآن محمداً أن مساعيه لإهداء الناس عبث لأن الله نفسه جعل من المستحيل عليهم الإيمان كما ورد مثلاً في سورة البقرة ٢:٥ و٦ "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمِ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ." ثم نراه مأموراً أن يسعى في هديهم لا بالعنف بل باللطف كما جاء في سورة البقرة ٢:٢٥٧ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" وفي سورة النور ٢٤:٥٤ "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" وفي سورة الغاشية ٨٨:٢١ و٢٢ "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بَمسَيْطِر."
ولكن في مكان آخر نجد تعليماً مناقضاً تماماً لهذا التعليم فكل واحد يعرف أن المسمى نبي السيف ادعى أن الله أمره أن ينشر الإسلام بالقوة كما ورد في سورة البقرة ٢:٨٦-٨٩ و٢١٢ وسورة النساء ٤:٧٦ و٩١ وسورة الأنفال ٨:٤٠ وسورة الفتح ٤٨:١٦ وسورة التحريم ٦٦:٩ فنجد من المناقضات شيئاً كثيراً. ولا فائدة من القول أن الآيات المتأخرة نسخت الآيات الأولى كما ورد في سورة البقرة ٢:١٠٠ "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" وأيضاً سورة النحل ١٦:١٠١ "وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَّزِلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ." إن هذه إنما أتى بها لكي تبعد عن الأذهان تناقض القرآن لذاته، ولنا مثال حسن عن ذلك إذا قابلنا البقرة ٢:٦٢ مع سورة آل عمران ٣:٨٥ ففي الأول نرى أن المسلمين واليهود والمسيحيين والصابئين خالصون في قوله "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللِّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" وفي الثانية نرى أن المسلمين وحدهم لهم الخلاص إذ قال "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ." ومن السهل علينا أن نظهر مناقضات أخرى في القرآن حيث أن علماء المسلمين أنفسهم يصرحون أن في القرآن لا أقل من مائتين وخمسة وعشرين آية منسوخة. وكثير من هذه الآيات المنسوخة هي خاصة بالعدل والأمور المباحة في الدين ونرى الله الغير المتغير يأمر بعد ذلك المسلمين بالجهاد والحرب واضطهاد الناس رغماً عن إرادتهم (البقرة ٢:٢١٧ و٢١٨ وسورة التوبة ٩:٦ و٢٩).
ويوجد نوع مهم آخر من التناقض في القرآن يجب على المسلمين ملاحظته وهو يختص بما في القرآن عن التوراة والإنجيل. رأينا آنفاً أن القرآن يصرح أنه انزل مصدقاً لسائر الكتب وليحفظها من التغيير والتبديل ولكنه في أمور كثيرة يناقضهما معاً. ومن هذه المناقضات التامة تعاليم جوهرية في الإنجيل مثلاً موت المسيح على الصليب إتماماً للنبوات وكفارته عن خطايا العالم كله ولاهوته وقيامته وأنه وحده القادر على تخليص أنفس العالم. وواضح أنه لا يمكن للغير المتغير أن ينزل وحياً يخالف قصده الأزلي وطريقه المعين للخلاص ومواعيده وشريعته الأدبية وتعاليمه الإلهية. وعدا ذلك فإن دعوى القرآن إنه وحي جديد ودعوى محمد أنه نبي برسالة جديدة تخالفان تعاليم العهد الجديد كما يتضح ذلك من قول الرب يسوع المسيح "اَلسَّمَاءُ وَالأرْضُ تَزُولانِ وَلكِنَّ كَلامِي لا يَزُولُ" (متى ٢٤:٣٥) وقابل (مرقس ٨:٣١ ولوقا ٢١:٣٣ ويوحنا ١٢:٤٨) ويقول بولس الرسول "وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا" (غلاطية ١:٨ و٩) إذاً فلا محل لأي وحي جديد ينزله جبرائيل أو غيره سواء كان إنساناً أو ملاكاً. ففي هذا الأمر يناقض القرآن نفسه فهو أولاً يشهد بصحة الكتاب وتصديقه له ثم يعلم تعاليم تخالف تعاليمه الجوهرية.
وفي أمور ثانوية أخرى كثيرة يناقض القرآن أيضاً نفسه باختلافه عن الكتاب المقدس الذي جاء مصدقاً له، ففي سورة مريم ١٩:٢٣ يقول أن المسيح وُلد تحت نخلة مع أن الكتاب المقدس يقول أنه وُلد في خان ووُضع في مذود (لوقا ٢). ويقول القرآن أنه تكلم وهو في المهد (سورة آل عمران ٣:٤١ وسورة المائدة ٥:١٠٩ وسورة مريم ١٩:٣١) وإنه لما كان صبياً خلق من الطين طيراً (سورة آل عمران ٣:٤٣ وسورة المائدة ٥:١١٠). لا ننكر أن هذه معجزات ولكن الإنجيل يصرح أن أول معجزة صنعها كانت في بدء خدمته العلنية في الثلاثين من عمره (لوقا ٣:٢٣ ويوحنا ٢:١١). وكذلك في الواجبات الأدبية يخالف القرآن الإنجيل فإن المسيح علم أن يحب الناس أعداءهم ومحمد علمهم أن يجاهدوا في سبيل الله، قال المسيح في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون (بشارة متى ٢٢:٣٠ ومرقس ١٢:٢٥ ولوقا ٢٠:٣٥) غير أن القرآن يعلم أنه سيكون في الجنة للمسلمين ما لا يحد من الملاهي والملذات الشهوانية.
ومن المحال رفض هذه الحجج بدعوى أن الكتب المقدسة التي بأيدي اليهود والنصارى محرفة إذ قد فندنا هذا الزعم تماماً في أول هذا الكتاب. كان الأمر سهلاً لو كانت هذه الدعوى من كتاب لا يزعم أنه منزل من الله كما يقول القرآن وكل واحد يصادق على أن ذلك مؤلف لكتاب متأخر يمكن أن ينخدع سيما متى كان ملقنوه جهلة اعتمدوا على خرافات شائعة وليس على الكتاب المتقدم نفسه. ولكنا لا نرغب أن نستنتج مثل هذا الاستنتاج عن القرآن نفسه بل نفضل أن نترك الأمر لإخواننا المسلمين ليحكموا لأنفسهم، ولا شك أن القارئ العزيز قد رأى أن القرآن ليس فيه حجة وافية على وحيه.
إذا كان القرآن من الله تعالى فلا بد أن تعاليمه تكون في كل شيء أرقى وأشرف وارفع عن ما جاء في الإنجيل، كما أن الإنجيل في أمور خاصة أرفع وأرقى من التوراة ولكن ليس الحال كذلك لأن الإنجيل لا يعد المؤمنين في الدار الأخرى بأكل وشرب وأمور عالمية بل بأفراح روحية كسلام القلب والطهارة ومحبة الله وخدمته. فالإنجيل يعلمنا أن المؤمنين الحقيقيين بالمسيح الذين يثبتون في محبتهم وطاعتهم لله ويكونون أمناء حتى الموت يدخلون إلى المنازل المقدسة التي أعدها لهم يسوع المسيح ويسكنون دائماً وأبداً في الحضرة الإلهية "وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ. وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ" (رؤيا يوحنا ٢٢:٣ و٤). وينهي الإنجيل عن استعمال القوة في الأمور الدينية ويترك للإنسان حرية تامة لقبول أو رفض الحق. إذا أراد أحد أن يؤمن بالمسيح فالروح القدس يساعده ويمكنه من قبول ولادة روحية جديدة ويهبه الهدى والخلاص. والذين يرفضون المسيح ليسوا بملزمين بالإيمان به ولكنهم يحكمون على أنفسهم بالدينونة (يوحنا ٣:١٨-٢١). وعلاوة على ذلك فالإنجيل خلافاً للقرآن يمنح راحة القلب والثقة بنوال السلام مع الله للذين يأتون إليه بواسطة يسوع المسيح، وكل مسيحي حقيقي يعرف ذلك من اختباره ولكن بحسب القرآن يبقى الإنسان طول حياته بين الشك واليقين فيما إذا كان من السيء لحظ الذين حكم الله عليهم بالهلاك وخلقهم للهلاك.
البشارة (الإنجيل) معناها أخبار مفرحة وهذا هو القصد منها إذ يعلن أن الله لم يخلق نفساً للهلاك بل بالعكس "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (تيموثاوس الأولى ٢:٤) ولكي تنال الناس هذه النعمة أرسل ابنه الوحيد إلى العالم كي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (انظر يوحنا ٣:١٦) فالإنجيل يعلم بوضوح أن لا يهلك أحد إلا الذين يرفضون محبة الله ورحمته المقدمة في شخص يسوع ولا يؤمنون به ولا يعترفون بدعواه ولا يقبلونه مخلصهم وشفيعهم الوحيد عند الله فيفضلون الظلام على النور لأن أعمالهم شريرة ولا يقبلون محبة الحق كي ينالوا الخلاص.
وإذا كان القرآن هو آخر وأتم وحي للإنسان فلا بد أن يبين لنا أكثر من الإنجيل وأحسن منه عن قداسة الله وعدله ورحمته وعن طاعة تامة لشرائع الله ويظهر نجاسة الخطية روحياً وطريق الخلاص والحاجة إلى قداسة روحية وعن محبة الله لنا وعن ضرورة محبتنا له وواجبنا نحو الله ونحو الإنسان ولزوم طهارة القلب ويصور لنا الجنة صورة أشرف وأطهر مما جاء بها العهد الجديد. فالذين قرأوا القرآن والكتاب المقدس يحكمون لأنفسهم إذا كان القرآن حقاً فاق على الإنجيل في ذلك أم لا.
إذا فحصنا محتويات القرآن لنعرف إذا كان من الله أم لا، يعترضنا هذا السؤال كيف نعرف ماهية القرآن وحقيقته إذا لم يكن من الله؟ يوجد جواب تام لهذا في مصادر الإسلام. يؤكد العلماء أن كثيراً من الحكايات القرآنية ومن الفروض والطقوس الإسلامية مأخوذة من الأديان الأخرى والكتاب المذكور يقدم البراهين على ذلك، فالقارئ العالم يجد فيه أجزاء من الكتب الفارسية والهندية وقدماء المصريين وغيرهم من الأمم السالفة وأن مؤلف مصادر الإسلام يؤكد أن هذه الأجزاء المدرجة بالقرآن هي في أغلب الأحيان مأخوذة منها ويقدم البراهين أيضاً على أنه توجد غير تلك أشياء أخرى كثيرة هي خرافات كانت شائعة بين جهلاء اليهود والنصارى في وقت محمد لا أثر لها في الكتاب المقدس.
وعلاوة على كل ذلك فمن يفحص كتاب سيرة ابن هشام يرى أن زيداً بن عمرو بن نوفل قبل محمد علم بما يأتي (١) التوحيد (٢) رفض عبادة اللات والعزي وبقية الأصنام التي يعبدها العرب (٣) السعادة في الجنة (٤) تحذير الأشرار بعقاب النار (٥) إعلان غضب الله على الكافرين (٦) ذكر هذه الأسماء لله: رب والرحمن والغفور (٧) منع دفن البنات أحياء. وقال أيضاً مع الحنفاء أننا نبحث عن ملة إبراهيم ومحمد نفسه صرح أنه يدعو الناس إلى ملة إبراهيم. والقرآن في مواضع كثيرة يدعو إبراهيم حنيفاً (سورة آل عمران ٣:٨٩ وسورة النساء ٤:١٢٤ وسورة الأنعام ٦:١٦٢) وفي الجزء الثالث من كتاب الأغاني وجه ١٥ أن محمداً قابل زيداً بن عمرو وتحادث معه قبل ادعائه النبوة.
ومؤلف مصادر الإسلام يؤيد قوله بأن قصة المعراج الواردة في سورة الإسراء وفي الأحاديث هي على نفس حكاية الشاب الزردشتي التقي الوارد في كتاب فارسي يُسمى ارتأي ثيراف نامك وفيه أن ذلك الشاب صعد إلى النجوم وعند رجوعه قال ما زعم أنه رآه، وأن المؤرخ العربي أبا الفدا في كتابه التواريخ القديمة من المختصر - في أخبار البشر يذكر فروضاً أدخلت إلى الإسلام وأمر بها القرآن والحديث فيقول كان العرب في الجاهلية يفعلون أموراً قد اتخذها الإسلام ودونها في شريعته ويذكر أبو الفداء عوائد قد أدخلت إلى الإسلام من وثني العرب في الجاهلية منها منع التزوج بالأمهات والبنات والجمع بين الأختين والحج للكعبة ولبس الإحرام والطواف والسعي ورمي الجمار كالوضوء والغسل وفرق الشعر وتقليم الأظافر الخ. وقال أن وثني العرب كانوا يختتنون ويقطعون يد السارق، لا شك أن البعض يقولون مع ابن إسحاق (جزء ١ وجه ٢٧) إن هذه العوائد كانت من أيام إبراهيم. هذا صحيح عن الختان ولكن ليس صحيحاً عن العوائد الأخرى المشار إليها سابقاً ولا يعقل أن الله بإعطائه وحياً جديداً لأمة يأمرهم باستعمال الفرائض التي يقيمونها قبلاً وأيضاً هذا لا يوافق المعتقد أن القرآن كان مكتوباً على اللوح المحفوظ في السماء منذ أجيال قبل أن تكون العرب.
يقول المسلمون أن القرآن يعلم شيئاً كثيراً عن علم الله وعن الآداب وعن الحكم بالعدل وعن الحياة الآتية فلذا هو من الله. نقول لا شك أنه كذلك ولكن هذه الحجة تكون قوية إذا كان القرآن يفوق الكتاب المقدس في سمو تعاليمه عن هذه الأمور ولكن حيث قد رأينا أن صفات الله وذاته في القرآن ليست بأتم منها في الإنجيل، بل والحق يقال أن قول القرآن عن عزم الله ليملأ جهنم بالأنس والجن (سورة هود ١١:١٢٠ وسورة السجدة ٣٢:١٣) وسماحه تعالى لمحمد بالتلذذ بالنساء أكثر من سائر المسلمين وأمره بالجهاد لانتشار الإسلام وغير ذلك من أمور مهمة تبرهن أن تعاليم القرآن أدنى بكثير من شريعة موسى. فالعهد القديم لم يصرح بتعدد الزوجات عموماً (مع أنه سمح لليهود به ضمناً وقتاً من الزمن) فوحدة الزوجة هي شريعة الله للإنسان كما هو ظاهر في (تكوين ٢:١٨-٢٤) وأوضحه المسيح في (متى ١٩:٣-٩ ومرقس ١٠:٢-١٢) وشدد عليه رسله كما في (تيموثاوس الأولى ٣:٢-١٢ وكورنثوس الأولى ٧:٢) بل حرم المسيح شهوة العين على هذه الأرض كما جاء في (متى ٥٢٨). ولكن القرآن يجعل المسلم يؤمل بشهوات جسدية لا حد لها في الجنة أمام وجه الله سبحانه وتعالى وهذا التعليم لا ينتج طهارة قلبية هنا على الأرض. أما عن الحكم بالعدل فيحسن بنا أن نسأل هل وجد حاكم عادل في البلاد الإسلامية في أي زمن في التاريخ الماضي والحاضر؟
لا ننكر أن القرآن يخبرنا شيئاً كثيراً عن العالم الآتي وخصوصاً عن عذاب الجحيم وملذات النعيم وليس لنا أن نبحث في الأول منها هنا فقط نذكر إخواننا المسلمين بشيئين عن الجحيم الأول في سورة مريم ١٩:٧١ قوله "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً" وقد سعى المفسرون جهدهم في تأويل هذه الآية . الأمر الثاني هو الحديث القائل أن أمة واحدة من الطوائف الإسلامية هي التي ستخلص. من هذين الدليلين نرى خوف المسلمين من الموت ومن يوم الدينونة يظلل حياتهم كلها. أما المسيحي الحقيقي فينتظر بفرح يوم القيامة والمسلم يخاف منه.
ولا يجمل بنا أن نمر على أمر الملذات الموعود بها المؤمن في الجنة بدون أن نقدم بعض الملاحظات. فنجد لها وصفاً كاملاً في (سورة البقرة ٢:٢٣ وسورة النساء ٤:٦٠ وسورة الرعد ١٣:٣٥ وسورة يس ٣٦:٥٥-٥٨ وسورة الصافات ٣٧:٣٩-٤٧ وسورة محمد ٤٧:١٦ و١٧ وسورة الرحمن٥٥: ٤٦-٧٨ وسورة الواقعة ٥٦:١١-٣٧ وسورة الدهر ٧٦:٥ و١١-٢٢ وسورة المرسلات ٧٧:٣١-٣٦ وسورة المطففين ٨٣:٢٢-٢٨) وحباً في الاختصار أوردنا هنا بعضها:
"مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ"(سورة محمد ٤٧:١٦ و١٧).
"وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الاوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِريِنَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمَ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون. لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلَ سَلاَماً سَلاَماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً" (سورة الواقعة ٥٦:١٠-٣٩).
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الارَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً" (سورة الإنسان ٧٦:١٢-٢١).
"وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَاِن تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ ربِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاِكهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّباَنِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَام"ِ (سورة الرحمن ٥٥:٤٦-٧٨).
وفي الحديث كثير جداً من ذلك في البخاري ومشكاة المصابيح وعين الحياة بعنوان وصف الجنة وأهلها ولكنا نكتفي بإيراد جزء قليل مما جاء في أحياء العلوم للغزالي.
"سئل رسول الله عن قوله ومساكن طيبة في جنات عدن قال قصور من لؤلؤ في كل قصر سبعون داراً من ياقوت أحمر في كل دار سبعون بيتاً من زمرد أخضر في كل بيت سرير، على السرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن في كل غداة يعني من القوة على جميع ذلك." ثم قال أن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف ثيب الخ الخ (الأحياء).
وعندما تدرس كل ذلك ترى أنه بحسب القرآن والحديث سعادة المسلم الآتية هي لبس الحرير والاتكاء على أرائك من استبرق والأكل من كل فاكهة زوجان وارتشاف خمر لذة للشاربين والتلذذ بحور العين وقاصرات الطرف. مثل تلك الجنة مأدبة ملأنه بكل ما تريده نفس الإنسان الشهوانية ولا محل فيها للقدسين والطاهرين من الرجال والنساء، يهرب منها الطاهرون كما هربوا على الأرض من النهم والخمور والفجور. مثل هذه الجنة لا يصح أن الله القدوس الذي تبغض ذاته كل خطية وإثم يعدها للمؤمنين. كيف أن الروح البشرية التي خلقت لمعرفة وخدمة الله التي تطلب سعادة روحية في محبة خالقها والقرب منه تفرح وتسر بمثل هذه الأمور الدنيوية؟ وحتى هنا على الأرض يرى المتهتكون أن هذه الملذات الشهوانية تنتج شقاء لا سعادة، فوصف الجنة في القرآن يدل على أنه لا يمكن أن يكون من الله. إن للمفسر محيي الدين لما رأى ذلك سعى أن يؤوله إلى معنى روحي فقال تفسيراً لسورة الواقعة ٥٦:١٨ أكواب وأباريق - من خمور الإرادة والمعرفة والمحبة والعشق والذوق ومياه الحلم والعلوم الخ ولكن معظم المسلمين إن لم يكون كلهم اعتبروه هرطوقياً وقالوا بحق أن القرآن والحديث معناهما حرفي.
وفي بحثنا في محتويات القرآن يجب أن لا نغفل عن لفت نظر القارئ إلى أنه لا يسد عوز واشتياق البشر روحياً الذي هو من أهم أمور الوحي للإنسان، فإن الله وضع في قلب الإنسان ذلك الاشتياق حتى لا يجد راحة إلا مع الله. يقول بعض كتبة المسلمين أن القرآن يخيف الناس ويجعلهم يبكون كما جاء في حديث النجاشي ملك الحبشة (مع العلم أنه يجهل العربية) أنه بكى عند سماعه بعض القرآن. وبفرض صحة ذلك لا يمكنهم البتة القول بأن القرآن يمنح سلاماً للقلب كما منح المسيح المؤمنين به في كل الأجيال ولا يزال يمنح (يوحنا ١٤:٢٧)، بل بالعكس توجد فيه آيات مثل قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً مع الاعتقاد بالقدر تجعل كل مسلم عاقل يقضي حياته في فزع دائم من الموت، ولا يعلن القرآن الله تعالى للإنسان كي يعرفه وهذا واضح من كتابة المسلمين بعدم إمكانية معرفة الله حتى في الكتب المقصود بها التعليم والإرشاد فواضح أنه حيث لم يرشد القرآن إلى معرفة تامة عن الله وأن محمداً نفسه صرح بأن معرفته عن الله ليست كما يجب فالإسلام في هذا الأمر المهم جداً لا يسد احتياج الإنسان.
والقرآن لا يعلم أن طهارة القلب ضرورية قبل الاقتراب من الله، بل بالعكس كما رأينا يحتوي القرآن على عبارات مضادة لإمكانية طهارة قلب الإنسان ويظهر منها أن الله لا يعمل بحسب قداسته وعدله ورحمته ومحبته. ولا يظهر القرآن كيف ينال الإنسان مغفرة خطاياه ويحسب باراً أمام الله. صحيح أنه توجد فيه فروض لها جزاء ولكن لا مفر من القدر في القرآن والقدر هو الحكم في مستقبل الإنسان هناء أو شقاء، ولا توجد كفارة فيه ولا يعين كيف يكسر الإنسان قيود الخطية وهو عبدها.
يقول بعض المسلمين أن محمداً سيشفع لشعبه في يوم الدين ويقول آخرون أنه الآن وهو ميت له نفوذ عند الله، ولكن كل ذلك مخالف تماماً للكتاب المقدس الذي يدعي القرآن بتصديقه. فمن (يوحنا ١٤:٦ وأعمال الرسل ٤:١٢ وتيموثاوس الأولى ٢:٥ و٦) يتضح أنه لا يوجد شفيع أو وسيط غير يسوع، بل ولا يوجد في القرآن نفسه عبارة تثبت وساطة محمد بين الله والإنسان، لا حاجة لنا للحديث في هذا الموضوع فإن المأمور في القرآن بالاستغفار لذنوبه لا يمكنه أن يكون وسيطاً لدى الله. نعم إن الإنسان الذي أخطأ وتاب يمكنه الصلاة لله لمغفرة ذنوب الآخرين كما لذنوب نفسه ولكن هذا أمر آخر. القرآن والحديث يصرحان أن نبي العرب يستغفر لذنوبه وذنوب أمته ففي سورة غافر ٤٠:٥٥ "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالابْكَارِ." وفي سورة النساء ٤:١٠٦ "وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيما." وهاتان الآيتان تشابهان الآيات الواردة في القرآن أن الله وعده أن يغفر ذنوبه كما في سورة الفتح ٤٨:١ و٢ "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ." ويقول ابن عباس ما معناه ذنوبه قبل النبوة وذنوبه إلى يوم موته وقال الزمخشري في كشافه يريد جميع ما فرط منك ما تقدم في الجاهلية وما بعدها وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد. وعلى الفرض أن القرآن قد نزل من الله تعالى نرى هنا أمراً مهماً عن محمد فإن كلمة ذنب المستعملة لمحمد في القرآن ليست أقل من خطية ففي سورة الرحمن ٥٥:٣٩ كلمة ذنب مستعملة للأنس والجان وفي سورة القصص ٢٨:٧٨ نرى كلمة ذنب مساوية لكلمة جرم ونرى كلمة ذنب مستعملة أيضاً للكذب والافتراء والشهوة وعدم الإيمان ولأمور أخرى كثيرة من أكبر الخطايا كما في سورة يوسف ١٢:٢٩ وسورة الملك ٦٧:١١ وسورة الشمس ٩١:١٤ وغير ذلك. وفي سورة محمد ٤٧:١٩ نراه يخاطب محمداً قائلاً "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ." فهنا نرى كلمة ذنب خاصة به دون تابعيه من المؤمنين والمؤمنات كما فسرها بعضهم اعتسافاً. وفي سورة الشرح ٩٤:١-٣ "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ." فهل يمكن أن يخطئ جميع هذه الآيات الواضحة؟ حقاً إن الكمال لله وحده.
والحديث يوافق القرآن في هذا الأمر سواء كان في كتب السنة أو الشيعة ولنأخذ قليلاً من الأمثال المؤيدة ذلك. روى أحمد والترمذي وابن ماجة كما في مشكاة المصابيح عن فاطمة أن محمداً كان يقول عند دخوله المسجد رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وعند خروجه رب اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب نعمتك وعن عائشة اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الأعلى الجامع الصغير وعنها اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وعن أبي موسى اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطأي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت عل كل شيء قدير. وروى البيهقي عن عائشة في كتاب الدعوة الكبرى إنها سألت النبي قائلة ألا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله فقال لا يدخلها أحد إلا برحمته تعالى. وقالت ولا أنت قال ولا أنا إلا إن تغمدني الله برحمته وكرر ذلك ثلاثا. وروى الإمام جعفر أن محمداً بات ليلة عند أم سلمة وبينما كان يصلي بكى وقال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا تنزع مني صالح ما أعطيتني قالت أم سلمة لقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فسألته لماذا تقول هذا فقال لها يا أم سلمة كيف أكون آمناً من نفسي وقد ترك الله يونس لنفسه طرفة عين ففعل ما فعل. وقال محمد الباقر أن محمداً بات ليلة عند عائشة وصرف وقتاً طويلاً في الصلاة فقالت له لماذا تتعب نفسك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً وروى أنه في نهاية خطابه يوماً لتابعيه قال اللهم اغفر لي ولأمتي وخاطبهم إني أسأل الله المغفرة لنفسي ولكم. ويوجد غير ما تقدم أحاديث كثيرة سنية وشيعية ولكن ما ذكر فيه الكفاية.
وهذه الأحاديث تبين لنا في بحثنا عن محمد وتؤكد أنه كان كبقية أبناء البشر يشعر بضرورة رحمة الله ومغفرته والقرآن يشير إلى خطايا أنبياء العهد القديم فلآدم (البقرة ٢:٣٣ و٣٤ وطه ٢٠:١١٩) ولنوح (نوح ٧١:١٩) ولإبراهيم (الأنعام والبقرة) وموسى (الأعراف والشعراء والقصص) وهارون ويوسف (يوسف) ويونس (يونس) ولا شك أنهم تابوا كما يذكر الكتاب المقدس. فنرى في المزمور الحادي والخمسين صلاة داود التي قدمها في توبته. وكل خاطئ يحتاج للتوبة ويطلب المغفرة من الله وطلب المغفرة إقرار بالذنب. كل إنسان بشري يمكنه استعمال الصلوات التي قدمها محمد وذكرها آنفاً، وعليه فلا يمكن لمن يحتاج إلى التوبة أو لمن احتاجها ولو مرة واحدة أن يكفر عن خطايا غيره. والقرآن يقول أنه لا ينفع إنسان آخر في يوم القيامة ورد في سورة البقرة ٢:٤٨ "وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ" ومكررة في آية ١٢٣. وأيضاً في سورة الانفطار ٨٢:١٩ "يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ." وحيث تبرهن أن محمداً لا يمكنه تخليص أمته فلذلك هم يحتاجون لمخلص. والقرآن لا يعلن مخلصاً ولا شفاعة فلذلك هو لا يسد احتياجات الإنسان. فالقرآن لا يتمم الشروط التي رأيناها في المقدمة لصحة الوحي الحقيقي، فهو في ذلك على عكس الإنجيل تماماً كما بينا في القسم الثاني من هذا الكتاب، المسيح حي ومحمد ميت ٤ والمسيح ليس إنساناً كاملاً بدون خطية فقط بل كلمة الله "يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللّهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عبرانيين ٧:٢٥).
ولا تنس أن الغرض هنا ليس الجدل بل طلب الحق، ولا ينفعنا التعصب فلننبذه بنعمة الله وقد أجهد المؤلف نفسه في كلامه عن محتويات القرآن أن لا يحيد عن قانون الأدب والأمانة واللطف وسوف يسير على مبدئه هذا في ما يلي من الفصول أيضاً.