الفصل الرابع
في أن أسفار العهد القديم والجديد لم يعتريها تحريف لا قبل محمد ولا بعده
رأينا في الفصل الماضي أن الكتاب المقدس معدود في القرآن "كلام الله" ورأينا في أكثر من موضع من القرآن أيضاً أن كلام الله غير قابل للتبديل والتغيير، فإذا كانت هاتان المقدمتان صحيحتين كانت النتيجة ضرورة هي عدم تحريف الكتاب المقدس لا قبل محمد ولا بعده.
إلا أن هاتين المقدمتين تؤديان بنا إلى تصفُّح القرآن لنرى ماذا يقول في هذا الصدد وكيف فسر أقواله المفسرون المعتبرون مع العلم بأنهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه المسألة وإنما لا يؤيدون الرأي العام الذي وُضع عند جهال المسلمين.
ورد في سورة الكهف ١٨ :٢٧ "وَا تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ" لا شك أن كلمة كتاب تشير إلى القرآن ولكن قوله (لكلماته) تشمل الكتاب المقدس لأنه كلام الله، وبناءً عليه لا يكون مبدل لكلمات الكتاب المقدس، وهاك تفسير البيضاوي قال: "لا مبدل لكلماته" (لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها غيره).
وورد في سورة يونس ١٠ :٦٤ "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ" قال البيضاوي (أي لا تغيير لأقواله ولا اخلاف لمواعيده)، وورد في سورة الأنعام ٦ :٣٤ العبارة عينها (لا مبدل لكلمات الله) وجاءت مرة أخرى في آية ١١٥. نعم قد ذكر البيضاوي على الآية الأخيرة أن الكتاب المقدس محرف ولكن لم يقصد التحريف الذي يقوله عامة المسلمين كما سترى في ما بعد.
لما فحص علماء المسلمين في الهند هذه المسألة اقتنعوا في الوقت الحاضر بأن أسفار العهدين ليست بمبدلة ولا بمغيرة ولا محرفة حسب فهم العامة، ولعلهم بنو آراءهم على تفسير الإمام فخر الدين الرازي لأنه في تفسيره آل عمران ٣ :٧٨ يجيب معترضاً يسأل "كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس،" فيجب أن نتأمل في الجواب جيدا حيث يقول أولاً على سبيل التخمين: "لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف؟ ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام، وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً،" فنجيب أولاً أن هذا ليس رأي المفسر بل يفرضه فرضاً، وأما رأيه فهو هكذا: إن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبليّ الألسنة (الرازي المجلد ٢) وانظر تفسيره على سورة النساء ٤ :٤٥ (مجلد ٣)، حيث يعيد هذين الرأيين ويضيف عليها رأياً آخر خلاصته أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على الرسول يسألونه المسألة فيجيبهم عليها ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه، وبناء على هذا الرأي لا يكون اليهود حرفوا كتابهم بل حرفوا جواب محمد على سؤالهم، وعلى كل حال عني الرازي بالتحريف الواقع من اليهود تحريف الشروح بالآيات الكتابية لا الآيات نفسها وهو التحريف المعنوي لا اللفظي.
وحكى الرازي في تفسيره على سورة المائدة ٥ :١٦ قصة مآلها أن اليهود فيما هم يقرأون التوراة (تثنية ٢٣:٢٢-٢٤) لووا ألسنتهم وبدَّلوا معنى الرجم بالجلد ولم يمسوا لفظ الآية المكتوبة بأقل تحريف، وحكى البيضاوي في تفسيره سورة المائدة آية ٤٥ هذه القصة عينها للدلالة على أن معنى التحريف المشار إليه في الآية التحريف المعنوي وهو المقصود بليّ الألسنة وفسر قوله "يحرفون الكلام من بعد مواضعه" أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً بإهماله وتغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
فإن أردت أن تعرف أي الرأيين هو الرأي الصحيح فما عليك إلا أن تراجع سفر التثنية ٢٢ :٢٣ و٢٤ في الأصل العبري أو في أية ترجمة حديثة أو قديمة فتجد أية الرجم التي نسبوا إليها التحريف باقية على أصلها كما بينها القرآن والحديث في عصر محمد، وبذلك نعلم أن اليهود لم يحذفوا شيئاً من الآية ولا أمالوها عن موضعها، بقي الرأي الآخر وهو التحريف المعنوي الذي توصلوا إليه بتغيير المعنى. ومن العجب أن آية الرجم التي قالوا إن اليهود حرفوها كانت في القرآن كما نعلم من الحديث، ثم لا نرى لها الآن أثراً.
جاء في مشكاة المصابيح أن عمر قال "أن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم، رجم رسول الله ورجمنا بعده، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف" متفق عليه من الفصل الأول من كتاب الحدود، ولكن لما جمع زيد بن ثابت القرآن حذفت هذه الآية لئلا يُقال عن عمر إنه زاد على القرآن، فإن صدق عمر في ما رواه يكون تحريف الكلام عن مواضعه المنوه عنه في القرآن في سورة المائدة ٥ :٤٥ واقعاً في القرآن لا في التوراة، ويكون المحرفون هم المسلمين لا اليهود .. فتأمل!!
اتهم القرآن اليهود بكتمان الحق وهم يعلمون به، وبليّ ألسنتهم في الإجابة عن تعليم توراتهم في هذا الموضوع، واتهمهم بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم وبالتحريف، وجاءت التهمة الأخيرة في أربعة مواضع منه (سورة البقرة ٢ :٧٥ وسورة النساء ٤ :٤٥ وسورة المائدة ٥ :١٤ و٤٤) ولنا أن نلاحظ أن هذه الدعاوى مهما يكن من أمرها فإنها موجهة إلى اليهود فقط لا إلى المسيحيين، وعليه تكون أسفار العهد الجديد سالمة من مظنة هذه التهم، سواء قبل محمد أو بعده. بقي علينا أن نتساءل في تفسير ما عناه القرآن باتهامه اليهود بهذه التهم. وقد مر عليك تفسير الرازي والبيضاوي لثلاثة من الأربعة مواضع المذكورة سابقاً، ونتكلم الآن على الرابع وهو سورة البقرة ٢ :٧٠ اتفق المفسران أي البيضاوي والرازي أن المراد بالتحريف المذكور هنا تشويه التفسير وكتمان الحق (راجع سورة الأنعام ٦ :٩١ حيث عزي إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا ما أخفوا) وإن يكن هذا العمل ممقوتاً إلا أنه بمعزل عن تبديل آيات الكتاب لأن إخفاء القرطاس يختلف عن تبديل ما ورد فيه، فتأمل.
ثم إن سألنا متى حرف اليهود توراتهم أجاب البيضاوي: حرفه أسلاف اليهود المعاصرين لمحمد، وأجاب الرازي: حرفه معاصرو محمد بالذات، على أن ذينك الإمامين أجابا بالجوابين المتقدمين رداً على من تصور أن التحريف لفظي ووقع كتابة، وهما يتبرآن من هذه الدعوى، ولهذه المناسبة قال الرازي في (مجلد ٣) في كيفية التحريف وجوه (أحدها) أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر، مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طويل مكانه، ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب، قلنا: لعله يُقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، ثم أن الرازي دحض هذا الجواب بقوله (والثاني) أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح (الثالث) أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. انتهى.
هذا رأيه الذي يقول به ونتيجته أنه برأ اليهود من تهمة تبديل آيات التوراة، وعليه لما قال أن القرآن يؤكد وقوع التحريف بالتوراة ينبغي أن نفهم مقصوده الحقيقي لا الدعوى الباطلة التي يدّعيها جهلاء المتأخرين.
ومما تقدم نجاوب على كل من يدّعي أن الكتاب المقدس محرف في نصوصه وأن الكتاب الصحيح غير موجود اليوم إذ لم يكن صحيحا في زمن محمد يكون مكذباً ومخالفاً لآيات القرآن الصريحة التي تشهد أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأن من أهم أغراض القرآن أنه جاء ليكون مصدقا للكتاب المقدس، فكيف يصح أن يشهد له أنه صحيح وحق وموحى به من الله وهدى للناس، ثم يعود فينسب إليه التغيير وضياع الثقة منه وعدم التعويل عليه، لأنه إن صحَّ هذا يكون القرآن قد ناقض بعضه بعضاً.
ليس أحد يؤمن بالإله الحق يقدر أن ينسب إليه تعالى أنه أنزل القرآن مصدقا للكتاب مبدَّل ومغيَّر ومشوش التعاليم في العقائد الدينية، وقد فطن لهذه النظرية الإمامان البيضاوي والرازي اللذان اقتبسنا تفسيرهما وجزما بأنه لم يقع في الكتاب المقدس تغيير قط لا قبل العصر المحمدي ولا بعده. بقي للمعترض أن يقول: وقع التغيير في الكتاب المقدس في ذات عصر محمد، والرد على اعتراض كهذا لا يكلفنا مشقة ولا عناء. لأننا نجيب قائلين إن الأسفار المقدسة التي أشرنا إليها في مقدمة كلامنا كُتبت قبل عصر محمد بزمان طويل. والكتاب المتداول اليوم منسوخ عن ذلك الأصل، وعليه لا يتصور عاقل إجماع اليهود والنصارى على تغيير أسفارهم وقد انتشرت في كل العالم.
وعلى كل حال لنسمع ما قيل بإزاء هذه الدعوة فإن عامة المسلمين وبعض علمائهم العديمي الخبرة بالموضوع لا يزالون يتصورون أن الكتاب المقدس بحالته الحاضرة مغيَّر، وإن سألتهم: متى وقع ذلك التغيير لا يتفقون على جواب واحد، فيقول البعض: قبل عصر محمد، وآخرون: بعده، ويقول قائل منهم: قبله وبعده! وحتى يُثبتوا مزاعمهم عكفوا على كتب الكفرة والملحدين بكل دين يلتقطون منها كل اعتراض سخيف وافتراء بارد ويحاربون بها الكتاب المقدس استظهارا لزعمهم بالتغيير وجهلوا أو تجاهلوا أن هذه الاعتراضات التي تسلّحوا بها دُحضت منذ زمن طويل ولم تعُد مقبولة بين العلماء الغربيين ونرجو أن علماء المسلمين المحققين إن انخدعوا بها اليوم لا ينخدعون بها غداً.
حُكي أن بعض المسيحيين من أهل القرون الأولى بعد المسيح اتهموا اليهود بتهمة تغيير النصوص الإلهية كما يتهم المسلمون لأنهم وجدوا فروقاً في أعمار الآباء المذكورين في أصحاح ٥ و١٠ من سفر التكوين ما بين النسخة العبرية والترجمة السبعينية فعللوا هذه الفروق بعلة التغيير، ولكن الذين ادعوا هذه الدعوى هم جهلاء المسيحيين لا علماؤهم، وأما الآن وقد مضى نحو ألف وأربعمائة سنة على الموضوع وقد درس الكتاب جيدا لم يبق بين علماء الغرب من يدعي بأن اليهود غيروا توراتهم لا في الموضع المشار إليه ولا في سواه، ثم أن بعض كتاب المسلمين اعترضوا على اختلاف القراءات التي يُقرأ بها الكتاب واستدلوا بها على إفساد نصوصه، إلا أن هذه النظرية باطلة لأنه توجد نسخ أصلية كثيرة ما بين عبري ويوناني ولغات أخرى إن قارنتها بعضها على بعض لا تخلو بطبيعة الحال من اختلاف القراءات كما هي الحال في جميع الكتب القديمة، ويا ترى ما جنس تلك القراءات المختلفة، إن أكثرها يرجع إلى اختلاف في الهجاء، مثل كلمة صلاة العربية تارة تكتب بالواو وتارة بالألف، ومثل كلمة قيامة تارة تكتب بالألف وتارة بدونها، ويرجع بعضها إلى اختلاف في تصريف الأفعال كاختلاف القراءات القرآنية التي أشار إليها المفسرون وأثبتوا أنواعها في تفاسيرهم ومن ذلك قراءات هذه الآية ما ننسخ من آية أو ننسها (البقرة ٢ :١٠٦):
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا | قراءة حفص | |
مَا نُنْسِخْ .. الخ | قراءة ابن عامر | |
نَنْسأَهَا | قراءة ابن كثير وأبو عمرو | |
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا | قراءة آخرين | |
تَنْسَهَا | قراءة آخرين | |
تُنْسَهَا | قراءة آخرين | |
نُنْسِكِهَا | قراءة آخرين | |
مَا نُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسَخْهَا | قراءة عبد الله |
وفي سورة البقرة ٢ :٢٨٥ أشار البيضاوي إلى قراءات مختلفة:
وَكُتُبِهِ | قراءة حفص | |
وَكِتَابِهِ | قراءة حمزة وصاحب الكشاف | |
لا نُفَرِّقُ | قراءة حفص | |
لا يُفَرِّقُ | قراءة يعقوب | |
لا يُفَرِّقُونَ | قراءة آخرين |
ويقبل علماء السنيين قراءات أخرى على ما تقدمت الإشارة إليه من ذلك سورة الأنعام ٦ :٩١ وسورة مريم ١٩ :٣٥ وسورة القصص ٢٨ :٤٨ وسورة الاحزاب ٣٣ :٦ وسورة سبأ ٣٤ :١٨ وسورة ص ٣٨ :٢٢ فهذه القراءات مهما تكن لا تغير معاني القرآن تغييراً يستحق الذكر ولا تؤثر أقل تأثير في عقائده. فإن قام كاتب مسيحي واحتج باختلافات القراءات على وقوع التغيير في متن القرآن ألا يستجهله المسلمون أو يرمونه بالتعصب الذميم، فمثل هذا الحكم يجب أن يُحكم به على الذين يتخذون قراءات كتابنا حجة على تغييرها، إن آدابنا لا تسمح لنا أن ندعي بدعاوٍ كهذه على مناظرينا.
ثم أن اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن، ولذلك جملة أسباب (١) لأن حجمه أربعة أضعاف القرآن، (٢) إنه أقدم من القرآن بكثير، (٣) إنه كُتب في ثلاث لغات العبرية واليونانية والآرامية وكتب القرآن بلغة واحدة وهي العربية، (٤) إحصاء القراءات في التراجم القديمة كلها ولو قد ثبت أن كثيراً منها غلطات وقعت من المترجمين ولم ينتج عنها اختلال جوهري، (٥) أُحصيت القراءات بعناية عظيمة وتدقيق كلي أكثر بكثير من العناية التي بُذلت في إحصاء القراءات القرآنية، (٦) وأهم من الكل أن الكتاب المقدس لم يصلحه ولا راجعه أحد قبل النشر كما عمل عثمان ثالث خلفاء محمد بالقرآن. فقام على النسخ القديمة وأحرقها، ولم يُبقِ على نسخة إلا نسخة حفصة، ثم ألحقها مروان على ما قيل بأخواتها فأحرقها، ومع كل ذلك إن عرضنا على ميزان الاعتبار والفحص كل القراءات المختلفة الواقعة في الكتاب المقدس لا نجد شيئاً منها يمس جوهره.
وقد اتفق أن المفسرين المسيحيين لما عسر عليهم فهم كلمة أو آية من الكتاب تصوروا أنها وقعت خطأ من الناسخ واعتبروها مصحفة. ولما اطلع علماء الإسلام على شيء من ذلك ترجموا عن غير علم كلمة مصحف "بمغيَّر" أو "محرَّف" مثل الشيخ رحمة الله الهندي، فإنه بناءً على ذلك ادّعى أن علماء النصارى يسلّمون بوقوع التغيير في كتابهم، مع أن المسألة بسيطة جداً، لأن الكلمة التي لم يفهمها المفسرون وظنوا أنها مصحفة كانوا يشيرون إليها لأجل مراجعتها وتصليحها.
ومن أمثلة ذلك كلمة وردت في دانيال ٣ :٢ و٣ بالآرامية وهي (تفتايي) ولم توجد قط في كتاب آخر ولم يعرف معناها بالتدقيق ولا المادة المشتقة منها. فظن بعض المفسرين أن هذه الكلمة مصحفة أي خطأ من الناسخ. ولكن منذ سنين قليلة اكتشفوا كتابات آرامية قديمة في الآثار المصرية وردت فيها الكلمة المذكورة. وعرفوا معناها بالتدقيق وأصل اشتقاقها ومن هنا نعلم كيف حُفظت الأسفار بالصحة والضبط حتى في مثل هذه الكلمة.
وحدثت مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس على المنوال الذي به حدثت نظائرها في القرآن، من ضمنها قوله "إن هذان" (سورة طه ٢٠ :٦٦) فكان من المحتمل أن بعض المفسرين يرتابون في صحة هذه العبارة ويقودهم ريبهم إلى اتخاذ الوسيلة لتصحيحها، كما أنهم صححوا بالفعل كلمة "يفرق" بكلمة "يفرقون" جرياً على سياق الكلام (سورة البقرة ٢ :٢٨٥ قراءة يعقوب) وظنها بعضهم مصحفة عن كلمة نفرق في (قراءة حفص) وأشار إلى ذلك البيضاوي.
ليس من مقصدنا هنا إيراد القراءات المختلفة التي جاءت في القرآن بل نضرب لكم مثلاً لإزالة ما عساه يكون قد علق بأذهانكم من الشبهة في ما يقابل هذه القراءات في الكتاب المقدس، وأما القراءات في كتابنا فتنقسم باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام: (١) القراءات الناتجة عن إهمال الناسخ أو جهله (٢) وتلك التي اقتضاها بعض النقص في الأصول المنسوخة (٣) وتلك التي وضعت لتصحيح عبارة ظنها الكاتب الأخير خطأ من الكاتب الأول وهي ليست بخطأ. ولا يسوغ عقل أن أحداً من المسيحيين قصد أن يتلف كتابه الذي يدين به ويهتدي بنوره، نعم إن بعض الهراطقة ليبرهنوا عقيدة عندهم أتوا بآيات ليس لها وجود إلا في نسخهم الخاصة من العهد الجديد. كما ادّعوا بأن الآيات التي تنقض تعليمهم لم تكن موجودة في النسخ الأصلية، ولو أن هؤلاء الهراطقة بلغوا لهذه الدرجة فإنهم لم يقصدوا أن يتلفوا كتابهم. وغاية ما في الأمر أنهم انخدعوا ببعض الأضاليل، غير أن المسيحيين على العموم ميزوا في كل وقت وفي كل حال الخطأ المدخل في نسخ الكتاب بمقابلتها على النسخ القديمة.
ثم نقول لو فرضنا أن فريقاً من اليهود أو النصارى غلت مراجل الحقد والتعصب في قلوبهم ضد الإسلام فتواطأوا معاً واجتمعت كلمتهم أن يحذفوا من التوراة والإنجيل كل ما يتعلق بمحمد، وقد فعلوا، فماذا يكون رأيك في بقية المسيحيين واليهود المتفرقين في كل أنحاء المعمورة؟ فإنهم بدون شك يرفضون أعمال تلك الجمعية الشيطانية ويرفضون الكتاب المزور خوفاً من أن يشتركوا في جريمتهم العظيمة، ومالنا ولهذا الفرض، ففي وقائع التاريخ ما يغنينا عنه، لقد حدث قبل محمد بزمن طويل أن الهراطقة سعوا كثيراً، لكنهم عجزوا أخيراً عن أن يحرفوا العهد الجديد على وفق مبادئهم، وهذا يدل على عدم إمكانية هذا المشروع، وحاول رجل من أهل العصور الأولى اسمه ماكرون أن يحذف الأصحاحين الأولين من بشارة لوقا فلم يفلح، لا بين الجمهور، ولا بين فريق قليل منهم.
ثم نقول لو أن ملكاً أو صاحب سلطة سياسية قام بعد وفاة موسى بقليل وجمع كل نسخ التوراة أو أصحاحات منها وأحرقها، واستنسخ توراة جديدة من محفوظات بعض اليهود، ومن السطور المكتوبة على العظام وشقق الأخشاب ونشرها بأمر سلطاني، وألزم رعاياه في كل مكان بالاعتماد على هذه النسخة الجديدة، لما كانت تبلغ قراءاتها المختلفة إلى المقدار الذي بلغت إليه بدون هذا الفرض، إلا أننا كنا نقع في ورطة أدهى وأمر بكثير من اختلاف القراءات، هي ضياع الثقة من التوراة بالمرة، لأنه لا يبقى دليل على أن النسخة الجديدة طبق الأصل، وتكثر الظنون في البواعث التي حركت ذلك الملك أن يفعل تلك الفعلة المنكرة.
وكذلك تكون النتيجة لو وقع مثل هذا الفرض لأسفار العهد الجديد في ختام القرن الأول للمسيح، لأنه كان يتعذر علينا اليوم الإتيان بدليل شاف أن النسخة الجديدة موافقة للأسفار التي أُحرقت وتلاشت من الوجود، وتبقى الأذهان مرتبكة ومرتابة في صحتها إلى يوم يبعثون! ولكن لله الحمد، فإن مثل هذا لم يقع في كتابنا لا في أسفار العهد القديم ولا في أسفار العهد الجديد، والحمد لله الذي لم يسمح أن يكون بيننا عثمان ولا بين اليهود الحجاج.
قد حدث أن بعض أباطرة الرومان الوثنيين شرعوا أن يحرقوا نسخ الكتاب المقدس على أمل أن يلاشوه من الوجود، لا ليستنسخوا كتاباً جديداً على هواهم، فدافع المسيحيون عن كتابهم وفدوه بدمائهم، وكثيراً ما شرع مضطهِدوهم بمثل هذا الشروع فلم يفلحوا.
ولو فرضنا أن كل كتبنا أُحرقت عن آخرها بحيث لم يبق كتاب واحد، لكان المحروق هو الورق فقط، ولكانت كلمة الله هي الباقية، جاء في هذا المعنى "يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأبَدِ" (إشعياء ٤٠ :٨). وكيف تبقى كلمة الله إن أحرقت الكتب؟ تبقى بوسائط كثيرة، منها أن كثيرين من المسيحيين في كل عصر شغفوا بالكتاب المقدس حتى استظهروا أهم اجزائه، سيما المزامير وأسفار العهد الجديد، وعليه لا يمكن أن نتصور ملاشاة الكتاب من الأرض والمسيحيون على ظهرها.
لما حدث الاضطهاد العظيم في فرنسا في القرن السادس عشر أقبل قسوس كنائس الإصلاح إلى الكتاب المقدس يحفظونه غيباً حتى إذا سُلب من بين أيديهم يكون مدخراً في صدورهم ليستقوا من ينبوع الحياة رأساً ويرووا الآخرين، وقد أصبح معلوما لدى جميع الذين لهم قسط من الفطنة ما بذلته اليهود والنصارى من منتهى الجهد والحذر في الاحتفاظ على أسفارهم الإلهية نظير أرواحهم، وأصبحت الدعوى عليهم بأنهم بدلوا وغيروا أسفارهم قبل أو بعد الهجرة دعوى باطلة لا تصدر إلا من جاهل أو متعصب!
ولزيادة الشرح نقول: ما الفائدة التي كانت ترجوها اليهود والنصارى من وراء هذه الفعلة المحرمة وكلٌّ يعلم بحكم العقل والنقل عظم جريمة تحريف الكتب الإلهية، وقد ورد في ختام العهد الجديد ذكر دينونة هائلة تحيق بمن يحذف أو يزيد شيئاً على ما هو مكتوب في الكتاب وورد مثل ذلك في العهد القديم (تثنية ٤ :٢ ورؤيا ٢٢ :١٨ و١٩) وفضلاً عن كونهم لا يستفيدون شيئاً بل يخسرون رجاءهم فإنهم يعلمون أنهم بتحريفهم كتابهم لا يضرون أنفسهم فقط بل يضرون أولادهم وأحفادهم وهلم جراً.
وعدا ذلك نقول إن محمدا لم يلبث زمناً طويلاً حتى بات ذا سلطان عريض وجنود وبيت مال، وكان الأقرب إلى العقل أن النصارى واليهود الذين في بلاد العرب على الأقل لو كان في كتابهم أخبار عنه أو خبر لكانوا أسرعوا به إليه والنسخة في أيديهم تزلّفاً إليه إن لم يكن حباً في الدين فحباً في الدنيا، ولكان محمد وأتباعه يحرصون الحرص كله على كل تلك النسخ العزيزة التي شهدت له وشهد لها عوضاً عن أن يحذفوا من كتابهم تلك الأخبار، ويعرّضون أنفسهم بغير داعٍ لحرب لا قِبل لهم بها، ويدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (سورة التوبة ٩ :٣٠) وينحدرون من مقام الحرية والمساواة إلى مقام الذمي الوضيع، ويبيتون هدفاً من آونة إلى أخرى للمذابح والفظائع كالتي جرت حتى في القرن العشرين في أطنة وما جاورها.
وكم من المشاهد المؤلمة تمثلت على مسارح الإسلام جيلاً بعد جيل بتحريض سورة التوبة على ألسنة حكام السوء وجمهور العوام.
لو كان اليهود والنصارى آمنوا بمحمد ورحبوا برسالته على العين والرأس لما نجوا فقط من هذه الرزايا بل كانوا شاركوا المسلمين في حظوظهم وامتيازاتهم الدنيوية، لكن أبت نفوسهم أن ترد هذا المنهل واعتصموا بإيمان آبائهم ولم يعيروا جانباً من الالتفات لخطبة الجمعة المذيلة بدعاء التهديد والإرهاب ينادى بها على المنابر في سائر أطراف مملكة آل عثمان، كقول الخطيب على منبره: اللهم رمِّل نساءهم ويتِّم أطفالهم، وخرِّب كنائسهم، وكسر صلبانهم، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين .. الخ، أليس من البيّن والجلي أنه إذا وُجد يهودي أو مسيحي كائن من كان جزءاً في كتابه يأمره بانتظار نبي من جزيرة العرب اسمه أحمد لكان بكل سرور اندمج في سلك الصحابة والتابعين ويفوز بسعادة الدارين. ولست بمبالغ إن قلت إن الترغيبات التي اقترنت بالإسلام من نعيم الدنيا ومجدها لجدير بها لولا عناية الله ومخافته أن تغري أهل الكتاب لا أن يحذفوا منه خبر محمد بل يختلقوه فيه ويحشروه في كل فصل من فصوله، فعدم إدخال اليهود والمسيحيين خبر محمد في أسفارهم وقد بلغ محمد وخلفاؤه ما بلغوا من السلطان أعظم دليل عند من وهبهم الله العدل والإنصاف على أمانة أهل الكتاب في حفظهم كتابهم على أصله بدون زيادة ولا نقصان.
ولو فرضنا أن طائفة من طوائف النصارى أو اليهود أضمرت السوء لمحمد حسداً وحقداً وحذفت خبره من الكتاب، لا لدفع غُرم ولا لجلب غُنم، بل على سبيل المكيدة، لظهرت مكيدتهم للطوائف الأخرى وبادروا إلى إصلاح التحريف وردّوا الكتاب إلى أصله، وغني عن البيان ما بين النصارى واليهود من العداوة القديمة وما بين طوائف النصارى من الاختلاف المذهبي في دقائق الدين مما لا يتصور معه جمع كلمتهم والتأليف بين آرائهم على تغيير كتابهم، ولو فرضنا أنه أمكن ذلك بين يهود ونصارى جزيرة العرب فلا يمكن تعميمه في كل جهات العالم. وكانت تقع تلك الفئة الباغية تحت سخط وزجر الجمهور في كل مكان.
وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان، وباطلاعنا على تواريخهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد.
وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس، بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس، وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل، فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً، حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح، بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً، ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها، فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية، وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني، وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية، وسُميت الترجمة السبعينية، وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح.
ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها، وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة، وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة، فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها، وتنادي عليها بالويلات بدون رحمة. وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى هؤلاء مع اختلاف طوائفهم وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية، وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من السيرة المحمدية، فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله. فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة، هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين؟ ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس. فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي.
والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم، يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم، فإن صدق علماؤكم وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها؟ أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد؟
ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا ١٦ :٧ لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد، إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنها لم تُحذف منه، ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد، حيث يقول "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (سورة الصف ٦١ :٦)، وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله، ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي (كما يعلم ذوو الاطلاع) وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها. وتبعه بعض المسيحيين، ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته، لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته، وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم.
ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة، واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق، وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم. ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً، فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد، لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها هذه البينات الراهنات (تكوين ٤٩ :١٠ وتثنية ١٨ : ١٥ و١٨ ومزمور ٢٢ :١٤ - ١٨ وإشعياء ٧ :١٤ و٩ :٦ و٧ و١١ :١ - ١٠ و٥٢ :١٣ .. الخ، والإصحاح ٥٣ كله، ودانيال ٨ :١٣ و١٤ و٩ :٢٤-٢٧ وميخا ٥ :٢ وزكريا ١٢ :١٠) قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل، لوقا ٢٤ :٢٥-٢٧.
وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها، وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح، فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!
أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة (يشوع ١ :٧) وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها (تثنية ٤ :٢ و١٢ :٣٢) فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم، وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها، بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم، وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى، وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة.
ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح. ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة. أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض، لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا لما معهم من التوراة، ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف. وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة، في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة، بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله، وأنها باقية على أصلها، ويحرض المسيحيين على قرائتها والعمل بها، ومن ذلك الآيات الآتية في الإنجيل (متى ٥ :١٧ و١٨ و٢٢ :٣١ و٣٢ ومرقس ٧ : ٦- ١٠ ولوقا ١١ :٢٩-٣٢ و٢٤ :٢٥-٢٧ ويوحنا ٥ :٣٩ و٤٥-٤٧ وتيموثاوس الثانية ٣ :١٦)، من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير، لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم، ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته.
وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي، ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة.
إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة، ويعينوا الآيات المحرفة، ومنها على ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية ٢٧ :٤ ففي النسخة السامرية مكتوب "جبل جرزيم" وفي العبرانية "جبل عيبال" ولكن الحقيقة هي أنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية.
وعليه فالعبارة الأصلية "جبل عيبال" كما في الأصل العبري لا "جبل جرزيم" كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم، ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى. وهناك احتمال آخر في هذه المسألة، فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد ١٢ من ذلك الأصحاح، ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك. ويقول الشعب آمين، فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية (إن صح أنه تحريف!)
ولو كان اليهود هم الذين حرفوا نسختهم لا السامريون لكان الأولى بهم أن يحرفوا عدد ١٢ لا عدد ٤.
ثم إننا كنا قد أشرنا في ما تقدم إلى الخلاف الموجود بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية والترجمة السبعينية من حيثية أعمار بعض الآباء الأولين في أصحاحي ٥ و١٠ من سفر التكوين. وفي الغالب يجب أن يُحمل هذا الخلاف على محمل الخطأ، لأن الأرقام قابلة الخطأ حيث يسهل أن يحل بعضها محل الآخر، ومن الواضح أن اختلاف النسخ في هذه الأرقام لا يمس جوهر الكتاب في شيء.
وحاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس، وزعموا أن هذا الاختلاف دليل على تحريفه، غير أن الكتّاب المطلعين ذوي العقول الراجحة والأفكار النيرة يسلّمون أنه إن كتب كاتبان أو أكثر عن واقعة حال، وكتب كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر، تأتي كتاباتهم مختلفة اختلافاً ظاهرياً، ولكن إن اتفقت اتفاقاً تاماً يستدل من اتفاقهم على أنهم متواطئون.
أما البسطاء فيشتبه عليهم ظاهر الاختلاف بين سفر وآخر ويعثرون في صحة الأسفار، أما المطلعون فيعلمون أصله ويحلونه حلاً جميلاً، والاختلاف الظاهري بين أسفار الكتاب المقدس أعظم دليل على أمانة أهله، وإلا لكانوا أزالوه منه لكي لا يبقى عرضة لانتقاد المنتقدين، ومن أمثلة والاختلاف الظاهري ما ورد عن نسب المسيح في بشارة متى الإصحاح ١ وبشارة لوقا الإصحاح ٣ وما ورد عن موت يهوذا في بشارة متى ٢٧ :٥ وسفر الأعمال ١ :١٨ و١٩ فلو كان استباح أهل الكتاب التحريف لكانوا وفَّقوا بين هذه المواضع من كتابهم.
ويزعم قوم من المسلمين أن الإنجيل محرف لقول بعض النصارى إن الآيات الآتية غير موجودة في النسخ القديمة وهي بشارة مرقس ٩:١٦ إلى ٢٠ وبشارة يوحنا ٥ : ٣ و٤ و٧ :٥٣ - ٨ :١١ ورسالة يوحنا الأولى ٥ :٧، ولو أن هذه الآيات لم تكن موجودة في المتن في النسخ الأكثر أقدمية إلا أنها موجودة على الهامش، فظنها الناسخ من الأصل فأدمجها فيه بسلامة نية، وسواء أصاب في ظنه أو أخطأ، فإن وجود هذه الآيات وعدمه لا يؤثران في جوهر الكتاب ولا في عقيدة من عقائد الكنيسة لأن الحقائق الأساسية التي تضمّنها مستوفاة بأكثر تفصيل في مواضع أخرى من كتابهم.
وبالنسبة لهذه المسألة يوجد فرق عظيم بين الكتاب والقرآن فإن المطلعين من المسلمين يعلمون أن فريقاً من الشيعة أثبتوا أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وعثمان بن عفان الخليفة الثالث غيَّرا جملة آيات من القرآن بسوء النية والقصد ليخفيا عن المسلمين حقيقتين هما من الأهمية بمكان: الأولى، هي يجب أن يكون عليٌّ صاحب الخلافة بعد محمد. والحقيقة الثانية يجب أن تحصر الإمامة في ذريته، ويدّعي فريق آخر أنه أسقط من القرآن سورة بجملتها يقال لها سورة النورين للغاية المشار إليها. أما نحن فلا يهمنا التحري عما إذا كانت هذه الدعوى صحيحة أو مُختلقة، ولكن تهمّ أهل السنة من المسلمين، لأنه إن كانت سورة النورين من القرآن حقيقة يكون ما أشقاهم واسوأ حظهم، لأنها تنذرهم بسوء العاقبة كما في قوله "إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون"، وكتب ميرزا محسن بكشمير في كتاب له سنة ١٢٩٢ هجرية يسمى (داستاني مذاهب سورة النورين) وذكر أن بعض الشيعيين يؤكدون بأن عثمان عندما أحرق المصاحف القديمة وأمِن على نفسه مناقشة الحساب، عمد إلى النسخة التي كانت بين يديه وشطب منها كل ما كان من مصلحة علي ابن أبي طالب وذريته من السيادة والإمامة، وقال أن بعض العلويين ينكرون القرآن المتداول اليوم، ولا يسلمون بأنه هو الذي نزل من الله على محمد، كما يعتقد المسلمون. بل يقولون إنه اختلقه أبو بكر وعمر وعثمان. نعم إن لدى العلماء المحققين من الأدلة ما يكفي لدحض هذه الدعاوي الباطلة، غير أنهم لا يسعهم إلا التسليم بأن هذه التهم الشائنة صوبها نفس المسلمين إلى القرآن، والذي يهمنا من المسألة أن هذه التهم في اعتبارهم مخلة بجوهر الخلاص لكل فرد من المسلمين، إن كان في الإسلام خلاص، في حين أن الدعاوى المزعومة على كتابنا المقدس محصورة في آيات قليلة، وهي التي سبقت الإشارة إليها إن حذفت من الكتاب أو زيدت عليه لا تخل بشيء من عقائد الدين والخلاص على الإطلاق - لأنها عرضية لا جوهرية.
ويدّعي بعض المسلمين عدا ما تقدم ذكره أنه قد ضاع من بين دفتي الكتاب المقدس أسفار كانت معدودة منه يوماً ما كسفر ياشر (كما في سفر يشوع ١٠ :١٣) وكتاب حروب الرب (كما في سفر العدد ٢١ :١٤)، فنقول دحضا لهذا الاعتراض إن السفرين المذكورين لم يندرجا قط في سلسلة أسفار التوراة، وإن كانت أشارت إليهما التوراة، وحكمها حكم الأسفار التي أشار إليها القرآن وهي ليست منه كصحف إبراهيم مثلاً.
واعترض بعضهم بأن الكتاب المقدس عند الكنيسة الرومانية يتضمن أسفاراً معدومة عند كنيسة البروتستانت، ورداً على هذا نقول: إن أسفار العهد الجديد موجودة بذاتها عند عموم المسيحيين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس، وأما أسفار العهد القديم فقد زادت عليها الكنيسة الكاثوليكية أسفارا لم تكن مدرجة من ضمن التوراة عند المسيحيين الأولين ولا عند اليهود فضلاً عن كونها لا توجد في الأصل العبراني، نحن معاشر البروتستانت نعتمد أسفار العهد القديم حسبما هي مدرجة في قانون اليهود وتثبَّتت لنا من المسيح ورسله. ولكن إن فرضنا أن هذه الأسفار المزيدة موحى بها فإنها بجملتها لا تؤثر على أية عقيدة من عقائد الديانة المسيحية. وأما الفروق المذهبية بين كنيسة البروتستانت وغيرها فلم تنتج عن زيادة هذه الأسفار على العهد القديم، ولا عن اختلاف في الكتب، كما أن مذاهب الإسلام لم تنتج عن اختلاف في القرآن بين مذهب وآخر.
قد تكلمنا عن نسخ أسفار العهد القديم والجديد في اللغات الأصلية، وتكلمنا عن التراجم القديمة في جملة اللغات التي لم تبق إلى اليوم، ونتكلم هنا بالإيجاز عن الأدلة التي أقامها لنا كتبة المسيحيين الأولين على الموضوع الذي نحن بصدده. فنقول إن بين أيدينا مؤلفات مسيحية كثيرة يختلف تاريخها من القرن الأول للميلاد إلى ما بعد الهجرة في لغات مختلفة يونانية ولاتينية وسريانية وقبطية وأرمنية، أقدمها رسالة اكلميندس إلى كورنثوس سنة ٩٣ إلى ٩٥ ورسائل أغناطيوس السبع سنة ١٠٩ إلى ١١٦ ورسالة بوليكاربوس سنة ١١٠ تقريباً ورسالة نُسبت خطأ إلى برنابا سنة ١٠٠ إلى ١٣٠ كتبت جميع هذه باليونانية.
ثم قام كّتَّاب كثيرون بعد هؤلاء وكتبوا ما عنَّ لهم في لغات مختلفة. وأولئك أجمعون كأنهم اليوم أحياء بين ظهرانينا يشهدون بأن إيماننا اليوم كإيمان الكنيسة في عصورهم الأولى، وعدا ذلك اقتبسوا آيات كثيرة من أسفار العهد القديم والعهد الجديد منها ما هو بالمعنى ومنها ما هو باللفظ، وجميع ما اقتبسوه مطابق لكتابنا المقدس المتداول اليوم. وهذا دليل قوي على أن الكتاب المقدس لم يُحرف لا قبل الهجرة ولا بعدها، ولو فرضنا أنه قامت جمعية في عصر محمد أو بعده وضمت بين أحضانها أخبث من على وجه الأرض وتعاونوا على تحريف الكتاب المقدس فستمنعها جبال من الصعوبات لا يستطيعون تذليلها إذ عليهم أولاً أن يجوبوا أقطار الأرض المنتشرة فيها المسيحية واليهودية من قارة آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويزوروا كل مجمع لليهود، وكل كنيسة ومكتبة وبيت يهودي ومسيحي. ويجمعوا كل النسخ في كل اللغات ما بين عبرانية ويونانية ولا تينية وقبطية وأرمنية وحبشية وعربية وغيرها. وعليهم أن يحتالوا على السامريين ويستكشفوا خبايا أسفارهم المتوغلة في القدم وتراجمها المتأخرة في لغتهم الخاصة، ويسلبوها منهم، وعليهم أيضاً أن يحرفوا الترجوم الآرامي اليهودي. وبعدما ينتهون من جمع نسخ الكتاب المقدس من كل العالم عليهم أن يتفقوا على ما هم شارعون في حذفه ويحذفوه، ويبقى عليهم بعد ذلك كله أن يجمعوا مؤلفات اليهود والنصارى الدينية في كل اللغات من كل أقطار الأرض ليخفوا الاقتباسات المتضمنة فيها لئلا تنكشف حيلتهم ويذهب تعبهم باطلاً، وعليهم في ختام مشروعهم أن يكون لهم سلطان فائق الطبيعة حتى يمحوا من ذاكرة المسيحيين واليهود الذين على وجه الأرض ما حفظوه غيباً من توراتهم وإنجيلهم الأصليين لكي لا يفطنوا إلى التوراة والإنجيل المحرفين، أظن ما من عاقل يتصور جواز هذه المستحيلات، فمن باب أولى لا يتصورها إخواننا الراسخون في العلم، مع أن القرآن صرح في سورة آل عمران بقوله "مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" - سورة آل عمران ٣ :١١٣ فمن ذلك نستنتج ثلاثة أمور (١) أنه كان يوجد بعض الأتقياء الذين لم تسمح لهم ذمتهم بتحريف الكتاب (٢) أن الكتاب كان موجوداً بين أيديهم (٣) أنه كان معروفاً عندهم وهم يتلونه.
ولايمكن لذي عقل أن يتصور إمكانية اتفاق اليهود والمسيحيين على ارتكاب هذا الإثم الفظيع الموجب للمذمة في الدنيا وغضب الله في الآخرة، لأنه لا يوجد سبب يدعو إلى هذا الاتفاق.
ولنفرض أن جماعة أقوياء من المسلمين في وقتنا أو قبل ظهور مطابع الحروف والحجر عزموا أن يحرّفوا القرآن وكل الكتب الإسلامية ألا يهزأ بهذا الكفر حال كون القرآن لم يترجم إلى لغات متعددة كالكتاب المقدس في عصر محمد؟
ولنفرض أنه لو تيسر لهم أن يجمعوا نسخ القرآن المنتشرة في أقطار العالم ويحرفوها، فليسوا هم بقادرين على جمع الكتب الدينية الإسلامية ولا التفاسير الكثيرة للقرآن، ولو فرضنا أنهم قدروا على ذلك أيضاً، ألا يظهر تحريفهم من الكتب التاريخية كابن هشام والواقدي والغازي وفتوح مصر وفتوح العجم أو على الأقل الطبري وابن الأثير؟ لا يمكن لأي عاقل أن يتصور إمكانية ذلك، حتى لو كانت كل هذه الكتب في لغة واحدة. فبالأحرى لا يمكن تحريف الكتاب المقدس في عصر محمد أو بعده لانتشار الاقتباسات الكثيرة ولتعدد تراجمه.
ولو سلمنا جدلاً بإمكان تحريف الكتاب المقدس بغضّ النظر عن كل هذه الصعوبات، أفما كان يظهر هذا التحريف من الكتب التي اكتُشفت حديثاً وقد كنا نعرف أسماءها ولم نر مسمياتها وهي في اللغات اليونانية والقبطية والأرمنية والسريانية منها: (١) قانون الرسل (سنة ١٣١ - سنة ١٦٠ ب م)، (٢) كتاب محاربة أرستيدس (سنة ١٣٨ - سنة ١٤٧ ب م)، كتاب اتفاق البشيرين لستاتيانوس (سنة ١٦٠ - سنة ١٧٠ ب م) وهذه الكتب قد ضاعت من قبل محمد بمدة طويلة، واكتُشفت في هذه الأيام الأخيرة، فلا يمكن تحريفها في حياته أو بعد موته، وهي تشهد بوحدة الإيمان المسيحي في العصور الأولى وفي هذا العصر، كما هو مثبت في الكتاب المقدس المنتشر اليوم في كل العالم، فترى من هذه الأدلة الساطعة والحجج الدامغة أن التوراة باقية على حالها كما كانت في زمن المسيح، والإنجيل باق على حاله كما كان في زمن رسله الأطهار - الحواريين.
ومن الحقائق التي تدحض الرأي الشائع بين المسلمين بتحريف الكتاب المقدس، هو أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر، وفتح أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد الشام، وسعد بن أبي وقاص العراق، وقعت بين أيديهم أشهر مكاتب العالم في ذلك العصر. وأخصّ بالذكر مكتبة اسكندرية وقيصرية، وكان في هذه المكتبات عدد وفير من نسخ الكتاب المقدس والمؤلفات المسيحية القديمة، وما كان أيسر عليهم أن يحفظوا هذه المكتبات أو على الأقل الكتب المقدسة التي جاء القرآن مهيمناً عليها، وتكون لهم في مستقبل الايام حَكَماً يحكمون بها عما إذا كان ما يستحدث من النسخ محرفاً أو هي طبق الأصل، ولكنهم أحرقوها. أحرقوا التوراة والزبور والإنجيل التي قال القرآن إنها كلام الله وخبر إحراق هذه المكاتب ورد في تاريخ أبي الفرج وكشف الظنون.
لو حفظ المسلمون نسخ الكتاب التي وقعت بين أيديهم لأمكنهم منع ا حتمال تحريفه في العصور الأخيرة لكنهم لم يبالوا بوصية قرآنهم ولا قضوا حق هيمنته. أما المسيحيون فقد استحفظوا على ما وقع في أيديهم من هذه الكتب المقدسة القديمة التي كتبت قبل الهجرة بقرون عديدة وسلمت من أيدي المسلمين في الاسكندرية وغيرها، وهاكم هي اليوم محفوظة في مكتبة روما وبطرسبرج وباريس ولندن وغيرها من مكتبات أوروبا. ويمكن لسياح المسلمين ونزلائهم في أوروبا أن يزوروا هذه المكتبات ويتحروا حقيقة دعوانا. وقد أخذت صورة بعض النسخ القديمة بواسطة آلة التصوير الشمسي ونشرت بين الناس لكي يراها من ليس في وسعه أن يزور هذه المكتبات من أهل الأقاليم القاصية الذين يهمهم الاطلاع عليها، ومن مقارنة هذه النسخ الأصلية القديمة بعضها على بعض حصلنا على النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد والنسخة العبرانية للعهد القديم وهما مطابقتان للنسخ القديمة المتفرقة في العالم. ومن النسختين الأصليتين ترجمنا الكتاب المقدس إلى أكثر من أربعمائة لغة أي أكثر لغات العالم التي تصلح للترجمة.
ومما سبق أقمنا الأدلة القاطعة الدالة على عدم تحريف الكتاب المقدس على الاطلاق لا قبل عصر محمد ولا بعده. وأن العلماء المحققين من المسلمين السالفين والمتأخرين يوافقون على عدم التحريف. وقد أثبتنا أيضاً بطلان وقوع نسخ في الكتاب المقدس لا في أخباره التي رواها ولا في مبادئه الأخلاقية ولا عقائده الدينية، وقد بيّنا أن الكتاب المقدس اليوم هو بعينه كتاب العصور الأولى المتقدمة على زمن محمد بمئات من السنين، وشهد له القرآن بأنه كلام الله وكتابه في أكثر من مائة وعشرين موضعاً إلى أن قال إنه جاء مهيمناً عليه.
وعلى ما تقدم يجب على كل مسلم مؤمن بالقرآن إيماناً حقيقياً أن لا يدع روح التعصب الذميم يحول بينه وبين الاعتقاد بصحة الكتاب المقدس، واتخاذه لنفسه نوراً وهدى في سبيل الحياة (انظر سورة غافر ٤٠ :٥٦)، وحتى تتوفق إلى الهداية به يجب أن تقرأه بانتباه طالباً من الله بإخلاص واشتياق أن ينير ذهنك ويفتح قلبك لتفهم تعليمه وتهتدي إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين - آمين.