الـباب الأول
في بيان أن العهد القديم والجديد (أي التوراة والانجيل) هما كلام الله ولم يُحرّفا ولم يُنسخا
الفصل الأول
في شهادة القرآن للتوراة والانجيل
لا يخفى أن العلماء قد قسموا البرهان إلى نوعين: عقلي ونقلي. فالعقلي يحتوي على الدليلين الخارجي والداخلي. ولو كنا نؤلف تأليف لإقناع الكفار والملحدين وعبدة الأصنام، لكان يجب علينا أولاً أن نأتي بالدليل الخارجي بأن التوراة والإنجيل هما قديمان وغير محرَّفين، ونبيّن وجوب الاعتماد عليهما لأنهما وحي من الله تعالى ثم علينا أن نذكر تاريخ كل سفر من أسفارهما - بقدر إمكاننا- لنبيّن كيفية جمع الأسفار، وهل يحق لنا بعد وزن الدليل الخارجي أن ننسب الأسفار للأنبياء الذين كُتبت أسماؤهم عليها أم لا؟ وأخيراً نبحث في حقيقة الدليل الداخلي المأخوذ من نفس الأسفار ونبيّن نتيجة بحثنا.
أما المسيحيون فإنهم كرروا ذلك، لأن الملحدين وغيرهم أثاروا حرباً عواناً ضد الكتب المنزلة. ولإقناعهم فحص المسيحيون وحققوا جميع الأدلة، سواء كانت لهم أو عليهم لكونهم شديدي التمسك بالوصية المقدسة القائلة "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالحَسَن." (تسالونيكي الأولى٥:٢١) فإطاعة تلك الوصية مطلوبة منا بأمر من الله تعالى الذي وهبنا عقل لأجل هداية خطواتنا في سبيل تمجيد اسمه الأقدس. وحيث أن الحق من أخص صفات الله فهو لن يبيد ولن يتلاشى، بل يجب أن يبقى أبدياً. والذي يريد البحث عن الحق الإلهي والسير في مسالكه حسب إرادة الله المقدسة لا يخوِفه ولا يصده عن أدق تنقيب حول أسس إيمانه شيء ما، وبعد إتمام ذلك التنقيب والبحث لا يثبت على صخرة الحق وحده فقط، بل هو قادر أيضاً على إعانة آخرين مثل اللاأدرية وغيرهم من المترددين والمذبذبين في الشك، فإيمانه حينئذ يستحق أن يطلق عليه اسم إيمان إذ ليس هو كتقليد الجاهلين ولا كتمسُّك المتعصبين.
أما الأدلة العقلية على صحة الديانة المسيحية فمكاتب العلماء المسيحيين مملوءة بالكتب في موضوعها، وليس هنا محلٌّ لإيرادها. لأن غرض هذا التأليف ليس إقناع الكفرة، بل مساعدة إخواننا المسلمين الذين يقبلون القرآن كآخر إعلان من الله تعالى لهم، ويؤمنون أنه يحتوي على كلام الله نفسه، فأهم من كل شيء عند المسلم اعتقاد صدق ما قاله القرآن الشريف لأن بعض المسلمين الجاهلين يعتقدون بعكس ما قاله القرآن في ذلك وما سببه إلا سوء الفهم ١ ولا يستغرب اذا قلنا أن أكثرهم يعتقد في الكتاب المقدس غير ما يشهد القرآن له. فيجدر بكل مسلم أن يشترك معنا في البحث عن شهادات القرآن للتوراة والإنجيل، لنستفيد جميعاً فائدة تُذكر فتُشكر.
يعلم الجميع أن المصحف يشهد أنه وُجد في جزيرة العرب زمن صاحب القرآن أمتان مختلفتان في الدين، قال في سورة البقرة ٢:١١٣ "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِم." وملخص ما قاله البيضاوي في تفسيره لهذه الآية إنها نزلت عند قدوم وفد نجران على صاحب القرآن، حيث تناظروا مع أحبار اليهود وتقاولوا بذلك، ليست على شيء أي على أمر يصح ويعتد به والحال إنهم من أهل العلم والكتاب، ومثل قولهم قال الذين لا يعلمون كعبدة الأصنام والمعطلة. لكنهما وإن اختلفا ديناً فقد اتحدا بتسمية كل منهما أهل الكتاب؛ ألا وهما المسيحيون واليهود. قال في سورة آل عمران ٣:٦٩-٧١ "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون."َ وفي آل عمران ١٢٠ "وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكتَابِ لَكَانَ خَيْر لهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون." وفيها أيضاً آية ١٩٩ "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم." وفي سورة النساء ٤:١٥٣ "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ." وفيها آية ١٥٧ "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه." وفي سورة العنكبوت آية ٤٦ و ٤٧ "وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون."
إن القرآن يشهد أن الكتاب الذي انتمى إليه هذان الشعبان لم يزل موجوداً بصحته إلى زمنه. قال في سورة البقرة ٢:١٠٥ و١٠٩ "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ .. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَاب ..". وفي سورة آل عمران ٣:٢٠ و٢٣ "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكتَابَ والأُمِيِينَ .. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُون."
قال البيضاوي: ما ملخصه الداعي محمد، وكتاب الله القرآن والتوراة. وفيها أيضاً آية ٦٤ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ..الخ." وآية ٦٥ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إلا مِنْ بَعْدِهِ .. الخ." وآية ٦٩ "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُم." وآية ٧٠ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ." وآية ٧١ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ .. الخ." وآية ٧٢ "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ .. الخ." وآية ٧٥ "وَمِنْ أَهْلِ الْكتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ.. الخ." إلى آيات كثيرة يسمي القرآن اليهود والنصارى بأهل الكتاب، ولا شك أنه هو الذي كان وقتئذ موجوداً بأيديهم. قال في سورة المائدة آية ٤٧ "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ .. الخ." (وآية ٤٨) "إِنَّا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ .. الخ." وآية ٧٢ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .. الخ." وفي سورة الأعراف يصرح بأن اليهود تلقوا الكتاب -التوراة- بالتوارث عن آبائهم حيث يقول في آية ١٦٨ "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكتَابَ .. الخ." حتى أن القرآن يأمر محمداً أن يسأل أهل الكتاب إن حصل عنده شك في القرآن ليتثبَّت به. قال في سورة يونس ١٠:٩٤ "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ..الخ."
وحتى أنه يشهد شهادات مفصلة ومبينة لأجزائه الثلاثة أي التوراة والزبور والإنجيل. قال في سورة آل عمران ٣:٣ و٤ "وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ .. الخ." وفي سورة الأنعام ٦:٩١ "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا .. الخ." وآية ٩٢ "وَهَذَا كِتَابٌ (أي القرآن) أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ .. الخ" قال البيضاوي: يعني التوراة أو الكتب التي قبله. وفي آية ١٥٤ "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيل الكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون."َ وفي آية ١٥٦ "أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا .. الخ." قال البيضاوي أي اليهود والنصارى. وقال في سورة هود آية ١١٢ "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ .. الخ." وفي سورة المائدة يصف حالة اليهود في آية ٤٦ "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ .. الخ." وآية ٤٧ "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ إلى أن قال فيها وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِرُون." وقال في المسيح والإنجيل آية ٤٩ "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ." وقال في حالة القرآن (آية ٥١) "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ (أي القرآن) بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ (أي من جنس الكتب المنزلة) وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" أي رقيباً على جميع الكتب يحفظها عن التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات هكذا قال البيضاوي.
وقال بخصوص المسيح والإنجيل وأتباعه كما في سورة الحديد ٥٧:٢٧ "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون." وقال بخصوص زبور داود (المزامير) كما في سورة الإسراء ١٧:٥٥ "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً." وقال في سورة الأنبياء ٢١:١٠٥ "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُون."
لقد شهد القرآن في عدة آيات أن التوراة والزبور والإنجيل منزلة من عند الله، وأنه جاء مصدقاً ومهيمناً أي مراقباً وحافظاً ومثبتا لها، كما تقدم، وكما في سورة الملائكة آية ٣١ "وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .. الخ."
وفضلاً عن ذلك يخبرنا القرآن أن من لا يقبل هذه الكتب ولا يؤمن بها سوف يُعاقب في الآخرة عقاباً شديداً كما في سورة غافر٤٠:٥٣ و٧٠ "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ .. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ."
ثم نجد القرآن يقول بموافقة تعليم التوراة لتعليم الانجيل الذي جاء به سيدنا عيسى المسيح كما جاء في سورة المائدة آية ٤٩ "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ .. الخ." وحيث أن القرآن يقول كل ذلك عن الكتاب المقدس فالحاجة لا تمس إلى إظهار الأدلة على صحة ذلك الكتاب كما يكون لو كنا نكتب لإفادة كافر مثلاً.
ورب معترض يقول (اولاً) إنكم يا جماعة المسيحيين لا يسعكم الاستشهاد من القرآن لأنه غير مقبول لديكم ككتاب منزل من عند الله تعالى (وثانياً) ان الأسفار الموجودة الآن بأيدي المسيحيين باسم العهدين القديم والجديد ليست هي الكتب الأصلية المشار إليها في القرآن، أو إنها تحرفَّت. وإن لم تُحرَّف فهي على كل حال منسوخة. فرداً على ذلك نسلم بأن الاعتراض الأول كان في محله لو كان البرهان على المسيحيين، وحيث أنه أُقيم على المسلمين المعتقدين بإنزال القرآن من عند الله، فالاستشهاد منه يكون برهاناً قاطعاً، لأنه مسلَّم عند الخصم، وإلا فنحن المسيحيين لا نحتاج إلى إثبات صحة الكتاب المقدس بالاستشهاد من القرآن. وأما الاعتراض الثاني فإنه يعارض نصوص القرآن على خط مستقيم، إذ يقول بعدم تغيير كلمات الله. قال في سورة (الأنعام ٦: ٣٤ ) "وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ." وفي سورة يونس ١٠:٦٤ "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ." وفي سورة الكهف ١٨:٢٧ "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه"، كما ستراه في بقية فصول هذا الباب. والآن نكتفي قبل الشروع في ذلك بإيراد بعض نصوص القرآن الذي يشهد فيها للكتاب المقدس ثم نكشف عن أقوال أشهر المفسرين لكي نكون على بينة من معنى الآيات التي نستشهد بها.
جلي من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد. ولم يكن كما يزعم اسماً بلا مسمى. ولأجل إثبات ذاك نكتفي بقليل من كثير. ففي سورة المائدة آية ٧١ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابِئُونَ وَالنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون." وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن ابن عباس قال: جاء رافع وسلام ابن مشكم ومالك ابن الصيف فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا. قال: بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أُمرتم أن تبينوه للناس. قالوا: نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق (أسباب النزول).
فمن هذا يظهر أن محمداً أعلن قبوله للكتب المتداولة بين اليهود. ولو أنه رفض البدع والأحداث التي قال إنهم قد أدخلوها في رسوم ديانتهم الظاهرية، ومن هذا القبيل يوافق قول محمد لقول سيدنا المسيح لليهود في زمنه كما في بشارة متى ٢٣:١٦-٢٤ "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيّهُمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذهَبَ؟ الخ..."
ولكن المهم هنا هو أن هذه الآية ورواية ابن عباس لسبب نزولها تثبتان أن التوراة والإنجيل كانا موجودين عند اليهود والمسيحيين، وإلا فلا معنى لأمرهم بإقامة الأوامر والنواهي الموجودة بتلك الكتب إن كانت أُعدمت أو تحرَّفت، ففي الحالة الأولى تكون طاعة الأمر غير ممكنة بل مستحيلة. وأما في الثانية فطاعة المحرَّف تُضلهم عن سواء السبيل.
وفي سورة البقرة ٢:١١٣ "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَاب." ومعنى صيغة قوله (يتلون) إنهم كانوا في ذلك الوقت يتلون التوراة والإنجيل، وهما موجودان بين أيديهم، وإلا كان الواجب استعمال صيغة الماضي دلالة على أنهم تلوه في الماضي فقط. تأمل.
وفي سورة يونس ١٠:٩٤ "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ .. الخ." وملخص ما حكاه جل المفسرين أن المخاطَب محمد، والمراد أمته وكل سامع وآمر بسؤال أهل الكتاب لأنه محقق عندهم، ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة فإن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه، أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته كما في البيضاوي وخلافه. فألفاظ هذه الآية تؤكد أن الكتاب المقدس كان موجوداً في زمن مجيء القرآن، وأنه يعترف بصحته، ويثق به وبقرَّائه من اليهود والنصارى. وإلا لما جاز له أن يطلب من محمد أو أمته أو كل سامع أن يسألهم ليتثبَّت الإيمان في قلوبهم ويزول عنهم الشك بشهادة هؤلاء الثقات وكتابهم الموجود الذي لم يُغيَّر ولم يُحرَّف. ولا ريب أنه لم يبق عند القارئ شك بسلامة الكتاب من كل شين إن كان يعتقد بصدق قرآنه المبين.
وقال في سورة الأعراف آية ١٥٨ مادحاً اليهود "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ." وقال البيضاوي على هذه الآية ما ملخصه "ومن بني إسرائيل طائفة يهدون الناس محقين، أو بكلمة الحق وبالحق يعدلون بينهم في الحكم." والمراد بها: الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب. هذه الآية تشهد أن الكتاب المقدس كان موجوداً بصحته وسلامته من كل تغيير في زمن إتيان القرآن، وكانت أمة موجودة عاملة بأوامره ونواهيه.
وفي سورة آل عمران ٣:٢٣ "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ." وملخص ما قاله البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية أن محمداً دخل مدراس اليهود. فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت؟ فقال: على دين إبراهيم. فقال له: إبراهيم كان يهودياً. فقال: هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا. فنزلت. وقال - الكتاب - أي التوراة أو جنس الكتب السماوية - يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم - الداعي محمد وكتاب الله التوراة. فهذه الآية تبين جلياً أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن، ولثقته بها سماها كتاب الله، وطلب من خصومه أن تكون حكماً بينهم.
وفي السورة أيضاً آية ٩٣ مع ملخص ما قاله البيضاوي "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لبَنِي إِسْرَائِيلَ (أي حلال لهم) إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ (يعقوب) عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التوْرَاةُ - أي قبل إنزالها - قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين." أمر بمحاجتهم وتبكيتهم. ومع محاولة البيضاوي ومحايدته فالآية تفيد أن التوراة كانت موجودة في زمن محمد بأيدي اليهود. وقوله عقب هذه الآية فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك من بعد ما لزمتهم الحجة "فأولئك هم الظالمون." الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم. وقول البيضاوي أن التوراة كانت عند المدّعي ثقة وحقاً من الله. تأمل.
وفي سورة المائدة آية ٤٦و٤٧ مع ملخص تفسير البيضاوي "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ." تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به. والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم (إلى أن قال) وفيها حكم الله حال من التوراة "وما أولئك بالمؤمنين." بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه أو بك وبه "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى" يهدي إلى الحق "ونور" يكشف ما اشتبه من الأحكام "يحكم بها النبيون" من بني إسرائيل أو موسى ومن بعده "الذين أسلموا" صفة مدح للنبيين الذين هادوا والربانيون والأحبار زهّادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على (النبيون) "بما استحفظوا من كتاب الله" بسبب أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف "وكانوا عليه شهداء" رقباء لا يتركون أن يغيروا أو شهداء يبينون ما خفي منه.
وملخص مفهوم هاتين الآيتين أنه يتعجب من تحكيم اليهود لصاحب القرآن مع أنهم لا يؤمنون به. والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم وليسوا بمؤمنين به لإعراضهم عن تحكيمها بينهم. والله أنزل التوراة تهدي إلى الحق، وهي نور يكشف ما اشتبه من الأحكام. تحكم بها الأنبياء المسلمون أنفسهم لربانيي اليهود، وتحكم بها أيضاً ربانيوهم وأحبارهم بسبب أمر الله لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف. فلذا هم عليه رقباء، لم يمكّنوا أحداً من تحريفه أو تغييره، فهل هذه الآيات تسمع دعوى التحريف والتغيير للتوراة؟
ومن الأدلة الشاهدة على وجود الكتاب المقدس أي العهدين الجديد والقديم بسلامته حين مجيء القرآن، الاقتباسات الموجودة فيه المصرحة بأنها مقتبسة منهما كما في سورة المائدة آية ٤٩ "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا -أي في التوراة- أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ." فهذه الآية منقولة من سفر الخروج ٢١:٢٣-٢٥ ونصه "وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ، وَعَيْناً بِعَيْنٍ، وَسِنّاً بِسِنٍّ، وَيَداً بِيَدٍ، وَرِجْلاً بِرِجْلٍ .. الخ."
وفي سورة الأنبياء ٢١:١٠٥ قوله "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ" كتاب داود "مِنْ بَعْدِ الذكْرِ" أي التوراة "أَنَّ الأرْضَ" أرض الجنة أو الأرض المقدسة "يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ" عامة المؤمنين." ملخصاً من البيضاوي. فهذه الآية مقتبسة من مزمور ٣٧:٢٩ ونصه "الصدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأبَدِ."
وفي سورة الأعراف آية ٣٩ قال "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ." فهذه الآية مقتبسة من الإنجيل كما في بشارة متى ١٩:٢٤ قال "وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ." وفي بشارة مرقس ١٠:٢٥ لفظ العدد بعينه وفي بشارة لوقا ١٨:٢٥ قال "لأنَّ دُخُولَ جَمَلٍ.." إلى آخر العدد بلفظه.
فهذه الاقتباسات الثلاثة، أحدها من التوراة، وثانيها من الزبور، وثالثها من الإنجيل هي برهان جلي بأن الكتب المنزَلة التي كانت بأيدي اليهود والنصارى هي التي بأيدينا الآن، وتُسمى بالأسماء التي كانت بعينها. ومثال ذلك إذا ما اقتبسنا أبياتاً من مثنوي جلال الدين الرومي أو من الديوان المنسوب لعلي ابن أبي طالب أو من كتاب آخر مشهور، فمن أول نظرة من القارئ الخبير يحكم حكماً قطعياً بأن هذه المصنفات موجودة في وقتنا الحاضر. كذلك كان ينبغي لعلماء القرآن المنصفين أن يحكموا بأن الآيات التي اقتبسها من الكتاب المقدس تدل على أنه كان موجوداً في زمن محمد، بل الآيتان المقتبستان من التوراة والزبور في قوله وكتبنا لهم فيها أي التوراة وقوله ولقد كتبنا في الزبور فيهما برهان صريح أن هذين السفرين كانا موجودين حينئذ كما هما الآن.
عدا ذلك أن كثيراً من القصص الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس. ومن أمثال ذلك قصة يوسف (سورة يوسف) وقد تكون في القرآن مغيرة عن الأصل تغييراً يطابق التقاليد اليهودية المتأخرة أكثر من آيات التوراة المتقدمة، كما شرحنا ذلك في كتاب تنوير الأفهام في مصادر الإسلام وكذلك يشتمل القرآن على مقتبسات كثيرة جداً من أسفار الكتاب المقدس لا يمكن تعليلها ولا فهمها إلا بمراجعة الأصل، فنقتصر على ذكر واحدة منها. ورد في سورة آل عمران ٣:٩٣ اسم إسرائيل بدل يعقوب وأنه حرم على نفسه طعاماً، فمن المستحيل أننا نقدر أن نفهم لماذا أبدل اسم يعقوب بإسرائيل، وما هو نوع الطعام الذي حرمه على نفسه إلا بمراجعة التوراة. اُنظر سفر التكوين ٣٢:٢٢-٣١ حيث تجد ذلك مشروحاً شرحاً وافياً.
وورد في الأحاديث المحمدية فقرات منقولة عن الكتاب المقدس. من أمثال ذلك ما ورد في كتاب - مشكاة المصابيح ص٤٨٧ من طبعة سنة ١٢٩٧هـ الباب الأول والفصل الأول في كلامه عن وصف الجنة وأهلها - قال رسول الله: "قال الله تعالى أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.." فلا يشك أحد أن هذا الحديث منقول من الرسالة الأولى لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس ٢:٩. ومما هو جدير بالملاحظة هنا أنه بينما يقرر محمد أن هذا الوصف من كلام الله ينكر كثيرون من علماء الإسلام أن بولس رسولٌ، وأن رسائله موحى بها من الله.
ينقسم الكتاب المقدس في الغالب إلى قسمين العهد القديم ويتضمن الأسفار المقدسة القانونية عند الأمة اليهودية، وكُتبت في الأصل باللغة العبرانية، ما عدا القليل منها فإنه كتب باللغة الآرامية. والعهد الجديد وقد كُتب باللغة اليونانية، أما اليهود فلا يؤمنون إلا بواحد منهما أما نحن المسيحيين فنؤمن بالعهدين كليهما. ولكن القرآن يشير إلى الأسفار المقدسة جميعها بكتاب واحد هو الكتاب المقدس مع أنه يذكر له ثلاثة أقسام وهي التوراة والزبور والإنجيل.
ويقسم اليهود أسفارهم أو كتبهم إلى ثلاثة أقسام وهي الناموس والأنبياء والمزامير، كما يظهر من بشارة لوقا ٢٤:٤٤. وهذا التقسيم يرجع عهده إلى سنة ١٣٠ قبل المسيح ٢، وفي الوقت الحاضر يسمي اليهود القسم الثالث الصحف، ولأنها تبتدئ بالمزامير يدعوها القرآن والإنجيل "الزبور". ويدعو القرآن القسم الأول توراة هي معدولة من الكلمة العبرانية مع تغيير طفيف في اللفظ. وقد يطلق المسلمون هذا الاسم على الكتاب المقدس كله لأنه يبتدئ بالتوراة. وكثيراً ما يشير القرآن إلى أنبياء العهد القديم ويعلق على الإيمان بهم أهمية عظيمة، ومن ذلك قوله في سورة البقرة ٢:١٣٦ "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون" وجاء مثل ذلك في سورة آل عمران ٣:٨٤. من هنا يظهر جلياً أن القرآن يتفق مع الإنجيل في الشهادة بأن كل أسفار الكتاب في تلك الأقسام الثلاثة موحى بها.
وقد يطلق أيضاً المسيحيون اسم الإنجيل على كل أسفار العهد الجديد كما يطلقه عليها القرآن، ومن أسباب ذلك أن العهد الجديد يبتدئ بالبشائر الأربع، ومنها أن الإنجيل معناه خبر سار أو بشارة، وهذا الخبر السار خلاصة العهد الجديد من أوله إلى آخره، فسُمي به، وذلك واضح من بشارة مرقس ١٣:١٠ حيث يقول "وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ" ومن مواضع أخرى كثيرة.
وكان العهد الجديد (أي الإنجيل) منتشراً في عصر محمد في قسم عظيم من العالم بين الشعوب المسيحية، لذلك لم يقتبس منه القرآن فقط آية موجودة في ثلاثة من أقسامه (بشائره) أي ( بشارة متى ١٩:٢٤ وبشارة مرقس ١٠:٢٥ وبشارة لوقا ١٨:٢٥) كما ورد في سورة الأعراف آية ٣٩ بل اقتبس منه أيضاً محمد نفسه كما تقدم ذكره. وعلى هذا ينبغي لكل ذي عقل سليم خال من التعصب الذميم أن يعترف بأن القرآن يشير إلى الكتاب المقدس بأنه كتاب منتشر في عصره وموحى به من الله تعالى.
وعدا ما تقدم لا يفتأ القرآن يذكر الكتاب المقدس بالاحترام والتعظيم ويلقّبه بأعظم الألقاب، مثل قوله كلام الله (سورة البقرة ٢:٧٥) ويسميه بها "الفرقان" آية ٥٣ "وضياء وذكرى للمتقين" (سورة الأنبياء ٢١:٤٨) "وكتاب الله" (سورة البقرة ٢:١٠١). وفي البيضاوي وكتاب أسباب النزول يشير إلى مقام الكتاب المقدس في تفسير آية ٢٣ من سورة آل عمران بأن محمداً طلب من اليهود التوراة لتكون حكماً بينه وبينهم. وفوق ذلك يفيد القرآن أن نوع الوحي الذي أُوحي به إلى محمد كالذي أوحي به إلى الأنبياء المتقدمين، كما يدل على ذلك قوله "قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ" (سورة آل عمران ٣:٧٣) وقوله "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ." (سورة النساء ٤:١٦٢) وقوله "كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (سورة الشورى ٤٢:٣). مما ذكر نعلم أن التنزيل المنسوب إلى القرآن يجب أن ينسب إلى الأسفار المتقدمة عليه حيث أن من أول البديهيات المسلم بها في علم أصول الهندسة هو أنه إذا ساوى شيئان ثالثاً فهما متساويان لبعضهم لا محالة فأسفار العهدين منزلة من عند الله بنفس التنزيل الذي ينسبه القرآن لنفسه، وعليه فالقرآن يأمر أتباعه أن يعترفوا بالأسفار المتقدمة عليه كما يعترفون به بلا أقل تمييز، وهم مأمورون أيضاً أن يعتقدوا بأن القرآن نزل مصدِّقا لكتاب اليهود والنصارى، ومن أمثال ذلك ما ورد في سورة آل عمران ٣:٣ "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ." ولزيادة التوكيد على أن التوراة والإنجيل موحى بهما جاء في القرآن تهديد صارم لمن يكفر بهما أو يظن بهما الظنون، ومن ذلك قوله "الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ." (سورة المؤمن آية ٧٠). والبيضاوي في تفسيره لهذه الآية يفسر قوله الكتاب بالقرآن أو الكتب السماوية على العموم ويفسر قوله وما أرسلنا به رسلنا بسائر الكتب أو الوحي والشرائع وبمقتضى هذا التفسير على افتراض أن المقصود هنا بالكتاب ليس الكتاب المستعمل في قوله يا أهل الكتاب بل هو القرآن، تكون الكتب السماوية الأخرى هي أسفار العهد القديم والجديد لا محالة.
ويشهد القرآن أن أسفار العهد القديم تتفق مع أسفار العهد الجديد في المسائل العمومية، ومن ذلك قوله "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" - سورة المائدة ٤٩.
والخلاصة لما تقدم حيث أننا انتهينا من هذا الفصل نلحقه بالمواد الآتية: (أولاً) ان أسفار العهد القديم والجديد، أي التوراة والزبور وأسفار الأنبياء، والإنجيل ورسائل رسل المسيح كانت جميعها منتشرة في عصر صاحب القرآن بين اليهود والنصارى. (ثانياً) يقرر القرآن أن هذه الأسفار موحى بها من الله، أي منزلة من عنده تعالى. (ثالثاً) بينما يعظّم القرآن نفسه إلى أعلى درجات التعظيم، فإنه يساوي بين نفسه وبين الأسفار المقدسة المتقدمة عليه. (رابعاً) يسمّي القرآن الكتاب المقدس "كتاب الله وكلام الله والفرقان والذكر ونوراً وهدى ورحمة .. الخ." (خامساً) يأمر القرآن محمداً أو المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب المقدس في تحقيق ما يرتابون فيه من أصول دينهم ويحرضون النصارى واليهود أن يفعلوا مثل ذلك. (سادساً) يشير القرآن على اليهود أن يتخذوا التوراة حكَمَاً فيما هم فيه يختلفون. (سابعاً) يأمر القرآن المسلمين أن يشهدوا أنهم مؤمنون بالكتاب المقدس كما هم مؤمنون بقرآنهم. (ثامناً) إن الذين لا يؤمنون بالكتاب المقدس لهم عذاب عظيم في الآخرة كما لو لم يؤمنوا بالقرآن.