الفصل السابع
في خلاصة الأدلة على أن أسفار العهد القديم والعهد الجديد تتضمن الوحي الحقيقي
بيّنا في مقدمة الكتاب المقاييس الصحيحة التي نقيس عليها كل كتاب يزعم أصحابه أنه وحي، ونرجو أن يكون قد تحقَّق القارئ النبيل من الفصول المتقدمة أن الكتاب المقدس مستكمل الشروط، ولكن لزيادة الفائدة نتوسع أكثر في هذا البحث ونأتي بالأدلة القاطعة التي لا تدع مجالاً للشك.
(أولاً) يُظهر الإنجيل لنا أن المسيح عاش أقدس حياة وكان أكمل مثال ظهر على الأرض وعاش بين البشر. صحيح أن كل أمة أسهبت في مدح بطلها الديني ورفعت درجته إلى ذروة المجد وأقامت له التماثيل، إلا أن أكثر الحكايات في هذا الموضوع ترجع إلى خرافات عجائزية كما يؤخذ في أساطير الهنود عن أبطالهم مثل "رامة" و "كريشنه"، إلا أن بعض القصص ترجع إلى أصل صحيح، ولكنهم غالوا فيها وبالغوا كما حكوا عن بوذا إله الهنود. ومع ذلك إذا قارنا هؤلاء الأقطاب والأبطال في كل أمة تحت السماء (حتى الذين صوَّرهم الوهم) بالمسيح، لظهر فرق عظيم بينهم وبينه في جميع صفات الخير والكمال. فشتان بينهم وبين المسيح في التواضع والصلاح والنقاوة والعدالة واللطف والمحبة والرحمة والقداسة وسائر الفضائل المعترف بها من جميع الناس، بل قد علا صلاحه وفاق مبالغة الشعراء في مدح أبطالهم. على أن حياة المسيح حقيقية لا ريب فيها كما يقر ويعترف الجميع، فالكتاب الذي سجل هذه الحياة التي لا مثيل لها هو كتاب الله، بمعنى أن الذين عرفوا المسيح وعاشروه واتبعوه وكتبوا سيرته وتعليمه كتبوا ما كتبوا بإلهام الروح القدس كما وعدهم يسوع نفسه (يوحنا ١٦:١٢ و١٣) وعصمهم الروح من الخطأ وأمدَّهم بالنور والمعرفة، فجاءت شهادتهم للمسيح طبق الواقع (أعمال الرسل ١:٨) سواء كانت شهادتهم قولاً أو كتابة، فالمسيح دليل نفسه.
(ثانياً) إن إعلان الله أو مظهره لا يمكن أن يكون كتاباً، بل يجب أن يكون شخصاً. وحتى تطَّلع الناس على حياته وأعماله وتعليمه يجب أن تُكتب في كتاب تحت إرشاد وهيمنة من هو معصوم من الخطأ ومنزَّه عن الكذب. ومن يطلع على الكتاب المقدس بروح الإخلاص والصلاة تنجلي له الحقيقة، ويجد المسيح الموعود به في التوراة والمسطورة حياته في الإنجيل بأنه "المخلّص" و "كلمة الله" وهو الشخص الوحيد الكفؤ لإعلان الله للناس، وقد أعلنه في صفاته وحياته وسيرته وموته وقيامته وتعليمه ووعوده. وبمقتضى هذا الإعلان الوحيد يحل الإنجيل معضلة الدهور التي لم يستطع كتاب آخر أن يحلها، ألا وهي: كيف يعلن الإله الغير محدود نفسه لمخلوقاته المحدودة؟ هذه معضلة أجهدت الفلاسفة في حلها وأسفر اجتهادهم عن خيبة، حتى أن علماء اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عجزوا أيضاً عن الإجابة على هذا السؤال، وكذا عجز علماء الإسلام. ومن أقوالهم في هذا الصدد ما ورد في كتاب ميزان الموازين حيث قال المؤلف: كل مُدرَك لا بد له من وسيلة يُدرَك بها، فيجب أن يكون بين المدرَك والمدرِك صلة توصّله إلى الإدراك. ولما كان الله غيرمحدود وخلائقه محدودة، عُدمت كل علاقة وانقطعت كل صلة بين الطرفين، وعليه لم تكن هناك وسيلة للإنسان أن يدرك الله. ولا يقدر أي مخلوق كائناً ما كان أن يدرك الخالق إلا أن مؤلف ميزان الموازين زعم أنه يوجد مخلوق يُدعى المخلوق الأول هو الحق الأعظم، خليقة الله الوحيدة، وجمال الأزل المطلق والنور الكلي ومظهر الله الكامل. فلما قصد الله أن يخلق الخلق ويعلن لهم ذاته خلق هذا المخلوق الأول، فصار موضوع محبته ومظهر صفاته. وبما أن الله أحبه فقد أحب الله كذلك وهذا المخلوق (على زعم المؤلف) هو الوسيط الأعظم والنبي المطلق، وكل ما حدث من بدء الخليقة وما يحدث إلى المنتهى حدث بواسطته!
هذا الرأي كيفما كان ليس له أصل في الإسلام، وإنما تطرق إليه أصحاب البدع وفلاسفة الوثنيين، ومنهم آريوس الهرطوقي الذي زعم أنه يوجد مخلوق أول خلق الله به العالم، وهكذا زعم ماني الفارسي. إلا أن ماني قال أن الشيطان بعد ذلك خلق الإنسان على صورة المخلوق الأصلي وصورته هو، أي جمع فيه النور الأعظم والظلمة كما في العالم الصغير. وتوجد طائفة يقال لها النحشية أو عبدة الأفاعي أو العرفاء، هؤلاء اعتادوا أن يحترموا الخنثى ويدعونه غير المغلوب، ويزعمون أن معرفته بداية معرفة الله. ومن أقوالهم إن بداية الكمال هي معرفة الإنسان، ونهايته هي معرفة الله، وعندهم أن آدم خُلق على صورة ذلك الإنسان الذي يدعونه الإنسان الأعظم والأكمل. ويزعم قوم من فرق اليهود يدعون "بالقبالاه" أخذوا عن الوثنين أيضاً، كما أخذ عنهم المسلمون، فقالوا إن الله الغير المحدود أراد من الأزل أن يُعرَف، وللوصول لهذا الغرض انبثق منه كائن، ومن ذلك الكائن انبثق كائن آخر وهلم جراً إلى العشرة. ومن هؤلاء العشرة يتألف الإنسان الأصلي ويسمونه بلسانهم (اذام قذمون) أو الإنسان السماوي، ورأسه مؤلفة من الانبثاقات الثلاثة الأولى، وأن آدم (أو الإنسان الترابي) خُلق على صورته بدون وضوح.
غير أن هذه التخمينات مع كونها من مواليد الأوهام لم تمهد السبيل قط إلى حل المعضلة المتقدمة، لأن المخلوق الأول مهما بلغت عظمته وسمت صفاته لا يزال مخلوقاً وبينه وبين الله ما لا يُقاس، وعليه لا يقدر أ ن يدرك الله لأنه لا توجد صلة بين المحدود والغير المحدود (كما قرر مؤلف ميزان الموازين) فضلاً عن أن بدعة المخلوق الأول تؤدي إلى عبادته دون الله، وهذا هو الشرك الذي يقول القرآن إنه خطية لا تُغتفر.
أما الإنجيل فيجيبنا على السؤال الغامض أفضل إجابة بينما الفلاسفة والعلماء عجزوا عن تصور وجود "كلمة الله" الذي هو واحد مع أبيه بالذات (يوحنا ١٠:٣٠) وصار واحداً مع الإنسان بتجسده. فالكتاب الذي أظهر لنا هذه الحقيقة يجب أن يكون صادراً عن الله. فالفرق إذاً بين تعليم المسيحيين وفلاسفة الإسلام في ما تقدم ذكره هو أن أولئك الفلاسفة استنبطوا من عالم الخيال كائناً لا هو إله ولا إنسان وقالوا إنه هو الوسيط بين الله والناس وشفعوا استنباطهم لهذا الكائن بآراء يهودية ووثنية مبنية على الحدس والتخمين. وأما نحن النصارى فنقول إن الوسيط الوحيد بين الله والناس، هو يسوع المسيح الذي هو إنسان تام وإله تام واستندنا في قولنا لا على رأي الفلاسفة ولا المبتدعين، بل على كتاب الله الأمين. ومن المعلوم أن المسيح كائن حقيقي ليس وهميا افترض وجوده للضرورة بل له وجود حقيقي، كما هو مثبوت في الإنجيل والقرآن. هذا الذي أعلن الله لنا بمثال حياته الكاملة في القداسة كما بأقواله وهو الذي قدم لله كفارة عن خطايانا بذبيحة نفسه على الصليب. فإن قارنت بين آرائهم وآرائنا ظهر لك الحق من الباطل وعرفت أي الفريقين المبتدع وأيهم المتبع لتعليم الله على لسان أنبيائه ورسله الذين أوحى إليهم الكتاب بالروح القدس.
(ثالثاً) ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله أنه يملأ فراغ النفس من حيث شوقها لمعرفة الله وتبريرها أمامه من تبعة الإثم ومغفرة خطاياها وتطهير القلب والحياة. (١) يخبرنا الإنجيل بقصد الله الأزلي من جهة الإنسان، ويشرح على التوالي السبب الذي من أجله خُلق وكيفية سقوطه في حمأة الخطية وحاجته العظمى إلى القداسة. (٢) يخبرنا كيف نحصل على مغفرة خطايانا بالإيمان بالمسيح وبذلك نتبرر أمام الله. (٣) يخبرنا كيف تطهر قلوبنا بالإيمان بالمسيح وتصبح هيكلاً لسكناه وتتنقى أفكارنا ورغباتنا من الخبائث، وكيف تتشدد عزائمنا في الجهاد ضد الخطية وإبليس كلما عظمت محبتنا له. (٤) ويرينا كيف أننا بالإيمان بالمسيح نصير أولاد الله المختارين وتفيض قلوبنا سلاماً وفرحاً روحياً متوقعين بالتحقيق واليقين وبفارغ الصبر ذلك اليوم السعيد الذي يقوم فيه الأموات وحينئذ نتمتع بالسعادة الدائمة والقداسة الكاملة في حضرة الله. وبالإجمال ما من رغبة روحية تصبو إليها النفس إلا وتتوافر في الإنجيل، لذا هو رسالة الله إلى ابن آدم المسكين.
ومن المحقق الذي دل عليه الاختبار أن كتب أهل الأديان الأخرى لا تؤدي بأصحابها إلى شيء مما ذكرنا، فأي كتاب منها يسكِّن روع الخاطئ من هول الحساب، وأي منها يستميل القلب لمحبة الله وأي منها يكلّف الإنسان بطهارة القلب والحياة ويعدّه لسماء طاهرة لا تدخلها الشهوات ولا تحوم حولها الأدناس يسكن فيها جماعة المخلَّصين الذين نالوا الحرية الكاملة من كل عيب ودنس ونقص إلى غير ذلك مما هو مغاير لطبيعة الله الكلي القداسة. فهذه الكتب لا تدل على طريق الخلاص من الخطية، ولا إحراز القبول لدى الله، بل تغادر الإنسان بدون أن تروي له غليلاً. نعم قد تأمره بالحج والصوم ونحر الضحايا مما ليس له أقل مساس بنقاوة القلب ولا بإعلان صفات الله، فيصبح المتعبد بها هائماً لا يستقر على حال من القلق منفياً من بيت الآب السماوي.
(رابعاً) ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله هو تجديد القلب والحياة الذي يحصل عليه الذين يقبلون تعليمه ويبتدئ هذا التجديد من الداخل ويمتد إلى الخارج وهو من الأهمية بمكان حتى أنه وُصف بالميلاد الثاني الروحي (يوحنا ٣:٣ و٥) ويتم بواسطة عمل روح الله القدوس.
(خامساً) في الكتاب المقدس صفات الله العظمى التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها وهو مؤهل لإدراكها إلى حد معلوم وصفات الله الكمالية هي القداسة والمحبة والرحمة والعدل وصفاته الجلالية كالقِدَم والقدرة والحكمة والخلق وحفظ الكون. هذه الصفات وتلك مبينة بمزيد الوضوح. وجاء في الكتاب أن الله أعلن نفسه في المسيح الذي جال يصنع خيراً ولم يصرف أحداً من أمام وجهه خائباً من الذين أتوه طالبين منه المغفرة والمعونة. ومع أنه كان منزهاً عن الخطية إلا أنه أظهر التعاطف نحو الخطاة المعترفين بخطاياهم الخائفين من دينونة اليوم الرهيب ورحمهم. وقد كلفه ذلك تضحية حياته حتى يتهيأ له إنقاذ الذين يؤمنون به من سلطان الخطية ونتائجها المريعة، فلم يخبرنا الكتاب بصفات الله بالكلام والأمثال من أساليب التعبير فقط، بل أظهره لنا بالعيان وجهاً لوجه حتى يراه كل من أراد في حياة يسوع المسيح. وعلى ذلك قوله "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ" (يوحنا ١٤:٩) وبهذا الإعلان الوحيد أدركنا أكثر بكثير من غيرنا كم هي مكروهة الخطية في نظر الله القدوس، وأنه بدون قداسة لا يتمتع أحد برؤية الله (عبرانيين ١٢:١٤) وهاكم فلسفة القدماء والمتأخرين بين أيدي طلبة العلم، فهل رأيتم كتاباً من كتبهم يصف الله بما يصفه به الكتاب المقدس من صفات الكمال؟ أظن لا. بل أقول حتى الكتب المقتبسة من الكتاب المقدس ضلت ضلالاً بعيداً لأنها فيما هي تعلّم عن وحدة الله فاتها أن تقرر الطريقة الوحيدة التي بها أعلن الله نفسه للناس وتركت بين الخالق والمخلوق هوَّة لا تُعبر مع أن الوصول لله هو بيت القصيد في الدين كله.
(سادساً) إن روحانية الإنجيل أشرف وأنقى وأرفع من أي كتاب آخر وكل المساعي التي بُذلت لإنكار هذه الحقيقة أسفرت عن خيبة. فاستعار بعضهم أقوالاً ماثورة عن فلاسفة الصين والهند واليونان وأرادوا أن يضاهوها بما يقابلها في الإنجيل. ومن أمثلة ذلك علّم المسيح تلاميذه قانوناً ذهبياً "كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ" (متى ٧:١٢) وعلّم بعض الفلاسفة في الهند واليونان الصيغة السلبية من هذا القانون الذهبي فقالوا: لا تفعلوا بالآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه بكم، ومن يتأمل في القولين يجد الفرق كبيراً. وكذلك كونفوشيوس فيلسوف الصين المشهور ذكر ذلك القانون بالصيغة السلبية مراراً ولم يذكره ولا مرة واحدة بالصيغة الإيجابية، إلا أن حفيده كنغ تشي اقترب إلى الصيغة الإيجابية أكثر منه حيث يقول إن أربعة أشياء ترفع قدر الإنسان لم أظفر بواحد منها بعد إلى أن قال عن الشيء الرابع وددتُ أن أعامل صديقي كما أريد أن يعاملني لكني لم أدرك هذه الغاية. ومع ذلك لا يزال بين قوله وقول المسيح فرق عظيم. لأن المسيح أوجب المعاملة بمقتضى ذلك القانون لكل الناس وأما هذا الفيلسوف فقد حصرها بين الصديق وصديقه فضلاً عن كونه أقرَّ بفشله.
وكثيراً ما اجتهد العلماء أن ينقبوا ويبحثوا في جميع ما وصلت إليه أيديهم من كتب الأديان والحكم والأمثال وجمعوا من الوصايا والشرائع ما قدروا أن يجمعوه، فكانت النتيجة أن وصايا الإنجيل أفضل وأسمى مما استطاعوا أن يجمعوه من كتب العالم كافة. على أن الوصايا التي جمعوها كانت أشبه بكومة زهور ذابلة، أما وصايا الإنجيل فكزهور نضيرة وكجنة فيحاء. أليس هذا وحده دليلاً راهناً أنه موحى به من الله؟ وإلا فكيف استطاع كتبة الإنجيل أن يضمنوه ما أودعته الحكماء والفلاسفة في بطون كتبهم من خالص الوصايا وصميم الشرائع في الهند والصين واليونان ومصر والفرس والرومان في كل زمان ومكان، إلا أن يقال إن الله المحيط بكل شيء أوحى إلى رسله الأطهار بما ليس في استطاعة العلماء أجمع أن ياتوا به؟
وأهم من ذلك لنا في حياة المسيح على الأرض كما دوّنها رسله الأطهار أعظم ناموس وأصلح مثال، فإنه عاش حسبما علّم من الوصايا الذهبية عديمة النظير. وعدا هذا كله فإن الكتب الأخرى وإن تضمنت شيئاً من الوصايا الجيدة لم تخْلُ من التعاليم الخبيثة التي طالما أدت إلى البوار وليس الخالص من الشوائب كالممزوج بها امتزاج السم بالدسم كفخذ الضان الذي قُدِّم لمحمد وأصحابه بعد واقعة خيبر فهو طعام شهي لكنه موت زؤام. وأما الإنجيل فلا يحمل بين دفتيه إلا الصلاح المحض.
بقي علينا أن نقول إن الإنجيل لا يأمر بالصلاح ويدع الإنسان وشأنه بل يمنحه القوة التي تدفعه إلى العمل. ما هي تلك القوة العجيبة؟ إنها المحبة للمسيح وهي قوة لا توجد إلا في الإنجيل. سأل تلميذ مسيحي أحد علماء الهند البوذيين فقال: إنك قرأت الكتاب المقدس وقرأت كتبكم فماذا وجدت؟ قال: وجدت مشاعر شريفة في كل من كتبكم وكتبنا إلا أن الفرق عظيم وهو أنكم معاشر النصارى تعرفون الواجب ولكم من القوة ما يؤّهلكم للعمل. أما نحن فنعرف الواجب ولكننا غير قادرين على القيام به. فمثل الأديان الأخرى مثل قوم مدوا سكة حديد ولكن ليس لهم القوة المحركة وأما الديانة المسيحية ففضلاً عن كونها مدّت سكة أقوم سبيلاً ففيها القوة المحركة التي تحرك الطالب إلى السير وتلك القوة هي المسيح. والفرق جوهري وعظيم. ولا يبرح من ذهن القارئ الكريم أن فيلسوف الصين لم يذكر اسم الله في جميع مؤلفاته إلا مرة واحدة وتلك المرة ليست من كلامه بل مقتبسة، فهو ليس من رجال الدين بالمرة.
(سابعاً) ومن الأدلة على أن الكتاب المقدس موحى به إتمام النبوات المتضمنة فيه مما ليس له نظير في كتب الأديان الأخرى، فإنه عدا النبوات الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم بشأن المسيح وتمت فيه كما هو مقرر في أسفار العهد الجديد، قد وردت نبوات أخرى ليست أقل من الأولى. سأل ملك من ملوك بروسيا مسيحياً: هل تقدر أن تبرهن على وحي الكتاب بكلمتين؟ أجاب: "اليهود يا مولاي." إن النبوات التي وردت في الكتاب عما يصيبهم تحققت كما تشاهد أحوالهم اليوم، ومن أمثلة ذلك ما ورد في (تثنية ٢٨:١٥-٢٨ ومتى ٢٤:٣-٢٨ ومرقس ١٣:١-٢٣ ولوقا ٢١:٥-٢٤) وكما تمت النبوات الأخرى المنذرة بخراب نينوى وبابل وكثير من المدن العظيمة، وعدا ذلك تنبأ دانيال النبي قبل ملك الاسكندر بزمن طويل عن انتصاره على مادي وفارس وانقلابهما (دانيال ٨:٣-٢٧) وعن انقسام مملكة الإسكندر من بعد موته، وقد حقق التاريخ ذلك. ثم تنبأ الإنجيل عن امتداد الديانة المسيحية وما يلحقها من الاضطهادات، كما تنبأ عن قيام الأنبياء الكذبة والارتداد عن الإيمان وسريان الإلحاد والكفر في الأيام الأخيرة. وكل ذلك تحقق كما هو مشاهد بالعيان، فليس سوى الله علام الغيوب الذي سبق وأنبأ بهذه الأمور على ألسنة كتبة الأسفار المقدسة.
(ثامناً) ومن الأدلة على وحي الكتاب المعجزات التي أتى بها المسيح ورسله، ومن أهمها قيامة المسيح من الموت بعد ثلاثة أيام في القبر مما يؤيد دعواه أنه مخلّص وكلمة الله.
(تاسعاً) يظهر حق الإنجيل من انتشار المسيحية في العصور الأولى وغلبتها على وسائل التدمير التي أثارها عليها إبليس والأشرار (متى ١٦:١٨) ولا تزال رافعة أعلام النصر إلى عصرنا الحاضر. والعجب العجاب أنها انتشرت وغلبت بدون وسائط بشرية لأن الرجال الذين وكلت إليهم الكرازة بالإنجيل كانوا فقراء مالاً وعلماً وكرزوا بما يخالف رغبات الناس وميولهم وعاداتهم وبما هو بعيد عن عقولهم وتصوراتهم واشترطوا على الذين يقبلون كرازتهم أن يقبلوا الاضطهاد من الأعداء مهما اشتدت وطأته حتى الموت الأليم بدون أن ينتقموا لأنفسهم أو يطلبوا النقمة من الله على مضطهديهم، بل الأحرى يباركوهم ويدعوا لهم بالدعوات الصالحات (أعمال الرسل ٧:٦٠) فمن كان يظن أن ديانة كهذه يروج سوقها في هذا العالم الأثيم ولكن بما أنها من عند الله راجت بالرغم عن سهام الأعداء الملتهبة حتى أنه لم يمض عليها بضعة قرون حتى امتدت إلى كل جهات العالم وقلبت كيان الوثنية رأساً على عقب في سوريا ومصر وآسيا الصغرى واليونان والرومان إلى غير ذلك من البلدان المشهورة، بدون سيف ولا إكراه، بل بالإيمان واللطف والمحبة والشجاعة الأدبية والأمانة حتى موت الاستشهاد مع الكرازة ببساطة الإنجيل. ألا يدل ذلك على أن روح الله القدوس أيد المسيحيين الحقيقيين ووهبهم صبراً وشجاعة حتى شهدوا لسيدهم واستمالوا قلوب الأعداء وربحوهم للإيمان بالمسيح إلى أن صاروا له جنوداً وأعواناً. نعم إننا لا ننكر أن بعض الأديان الأخرى انتشرت ولكن بالترغيب والتهديد العاجلين والآجلين مثل أن يأتي الداعون البلاد يحملون في اليد الواحدة الكتاب الذي يدعون إليه وفي اليد الأخرى السيف. ولست أخالك تجهل أن السيف عند الكثيرين برهان قاطع حتى قالوا إنه أصدق أنباءً من الكتب. وأما الترغيب مثل أن يرغبوا الناس بتعدد الزوجات وتبديلهن من حين إلى حين بما لذ وطاب في هذه الحياة الدنيا وتعليق رجائهم في الحياة الأخرى بزوجات أكثر وجمال رائع فتان. فإن انتشرت ديانة بمثل هذه الوسائل لا يكون انتشارها دليلاً على أنها من عند الله لأن الله قدوس يبغض الشر ويمقت الفجور والبغي والبهتان فشتان بين المسيحية وبين الأديان الأخرى.
فإن قِسْت الكتاب المقدس على الشروط التي نتوقعها بالبداهة في الوحي الحقيقي حسبما ذكرنا في المقدمة نجدها متوفرة فيه بحيث لا نتردد في الجزم بأنه موحى به من الله وخصوصاً لأنه يشهد من أوله إلى آخره للمسيح كلمة الله، أي مظهره الكامل الحقيقي.