الفصل الخامس
في التعليم بإله واحد في ثلاثة أقانيم
ما قيل في الفصل المتقدم عن طريق الخلاص بالمسيح لا يُقبل عند الطالب كل القبول حتى يطلع على عقيدة التثليث التي طالما كانت حجر عثرة في طريق إخواننا المسلمين الراغبين في البحث، لأنهم لا يفهمون معنى التثليث، فحسبوه مناقضاً للتوحيد. والحقيقة خلاف ذلك لأن التعليم بوحدانية الله من الأساسات الجوهرية التي ترجع إليها عقيدة التثليث، فإن جميع المسيحيين لا يؤمنون بثلاثة آلهة بل بإله واحد.
من يطلع على تفسير الجلالين لسورة المائدة ٥:٧٦ وتفسير البيضاوي لسورة النساء ٤:١٥٦ يرى أن أولئك المفسرين تصوروا أن النصارى يعتقدون أن الثالوث هو ثلاثة آلهة: الآب والأم والابن، وحسبوا مريم العذراء إلهاً، وأنها أحد الآلهة الثلاثة المذكورين. لا ننكر أن بعضاً من جهلة النصارى في عصر محمد أكرموا مريم إلى حد العبادة، بل أكرموا كثيراً من القديسين وقدموا لهم العبادة التي لا تجوز إلا لله وحده، كما أن كثيرين من جهلة المسلمين يفعلون مثل هذا الفعل مع أوليائهم ومشايخهم. وكما أن المطلعين من المسلمين لا يجدون ما يؤيد عبادة الأولياء في القرآن كذلك لا يصح أن نؤاخذ النصارى بما كان يعمله الجهلة في العصور المظلمة مما لا ينطبق على الكتاب المقدس بل يخالفه. فلا تحسبن القرآن يحرم عبادة العذراء والكتاب المقدس يجيزها، حاشا وكلا! بل هذا الذي ظنه المسلمون تثليثاً في ذات الله ليس هو من التثليث في شيء، فإن المسيحيين على اختلاف مذاهبهم لم يِقل فريق منهم بثلاثة آلهة. ١
وعلى ما تقدم يظهر أن هؤلاء المفسرين أضلهم التعصب الذميم حتى دونوا في كتبهم عن النصارى ما هم أبرياء منه وكان خليقاً بهم - كما بكل عالم فاضل - أنهم إذا أرادوا أن يكتبوا شيئاً في موضوع هام كهذا أن يبحثوا أو ينقبوا حتى يقفوا على الحقيقة بعينها، لئلا يكونوا عثرة في طريق الباحث الأمين. إننا كما ذكرنا لا نعتقد بثلاثة آلهة، ولا أن مريم واحدة منهم، وإننا نشدد إنكار تعدد الآلهة كالمسلمين أنفسهم، وستعلم ذلك عندما نتقدم في شرح الموضوع.
ذكرنا في ما تقدم أننا نؤمن بإله واحد كما في التوراة، حيث يقول "إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية ٦:٤) وفي العهد الجديد اقتبس المسيح هذه الآية أساساً لتعليمه (مرقس ١٢:٢٩) وأما عقيدة التثليث فهي شرح للوحدانية ذُكرت لمناسبة التعليم في مواضيع أخرى. مثال ذلك وصية المسيح لتلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للناس قال "عَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ القُدُس"ِ (بشارة متى ٢٨:١٩) فيدل هذا القول على حقيقة التوحيد، كما يدل على تثليث الأقانيم، لأنه قال "باسم" بصيغة المفرد لا "بأسماء" بصيغة الجمع، مع أنه ذكر الأقانيم الثلاثة كلاً على حدة. ومن هذه العبارة نفهم أنه لا يمكن أن يكون الابن والروح القدس مخلوقَين بدليل أنهما مقرونان باسم الآب كشيء واحد، بخلاف عدم ملاءمة الاسم نفسه لما يكون مخلوقاً. فإن كلمة "ابن الله" و "الروح القدس" لا يصح أن يسمى بهما الشيء المخلوق، وهذه حقيقة ظاهرة لمن يتأمل.
وعقيدة التثليث يمكن تلخيصها على هذا المنوال:
(١) الآب والابن والروح القدس جوهر واحد وإله واحد فقط.
(٢) كل من هؤلاء الأقانيم الثلاثة له خاصيّة لا يشترك فيها معه أقنوم آخر.
(٣) إن انفصل أقنوم عن الأقنومين الآخرين - وذلك مستحيل - لا يمكن أن يكون هو الله.
(٤) كل أقنوم متحد مع الأقنومين الآخَرين من الأزل، وهذه الوحدة غير القابلة للانفصال هو الله.
(٥) كل أقنوم مساوٍ للأقنومين الآخرين في الذات والمجد.
(٦) العمل الخلاصي لكل أقنوم وُصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب: الأول "الآب والخالق" والثاني "ابن الله والفادي" والثالث "المقدس والمعزي."
(٧) كما أن الأقانيم المقدسة واحد في الذات هكذا هم واحد في المشيئة والقصد والسلطان والقِدم وسائر الصفات الإلهية.
أما قول المسيح "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي" في يوحنا ١٤:٢٨ فهذا بالنسبة إلى ناسوته، لأنه يعبّر عن وحدته مع الآب في الذات بقوله "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ"(يوحنا ١٠:٣٠). وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة، وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأً بل هو سر عجيب، ويجب أن ننتظر أسراراً كثيرة في الكتب المقدسة وخصوصاً ما يتعلق بجوهر الله. إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة، وهذا محال، لأن السر هو أن لا تعرف كيف ينمو الزرع مع أنك تعرف أنه ينمو، والعالم مملوء بالأسرار، والإنسان سر في نفسه فإنه لا يقدر أن يعرف كيف تسكن روحه في جسده وكيف تدبّره فهل تؤخذ هذه البراهين على بطلان الحقائق؟ لو كان الأمر هكذا لكان كل شيء باطلاً. والكتاب المقدس أحق وأولى بأن يتضمن أسراراً غامضة تحار في معرفة كنهها فطاحل العلماء. فهل من الصواب والحكمة أن نرفض كتاب الله لاشتماله على مسائل تفوق عقولنا ونستبد بآرائنا الخصوصية؟ فاحكموا أنتم!
كل مطلع خبير بالكتاب المقدس يعلم أن عقيدة الثالوث مأخوذة منه بدلالة آيات كثيرة في غاية الصراحة، وهي التي منها صاغ المسيحيون نصَّها مع اختلاف قليل في اللفظ فقالوا: "لا يوجد إلا إله واحد حي حقيقي أزلي، ليس له جسد، ولا يتألم، غير متناهٍ في القدرة والحكمة والصلاح، صانع وضابط كل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى، ولذاته القدوس ثلاثة أقانيم في جوهر واحد، الآب والابن والروح القدس."
وعدا موافقة هذه الصيغة للأسفار المقدسة فإنها موافقة لمؤلفات المسيحيين الأولين الذين بقيت كتاباتهم إلى عصرنا الحاضر مما يدل على أنهم فهموا الكتاب من جهة هذه الحيثية كما فهمناه.
ويعلّمنا العقل أن لا نتجاوز في البحث والاستقصاء ما أعلنه الله عن ذاته وقال الحكماء: البحث عن ذات الله كُفر.
يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث، لكن الحقيقة هي حيث أن العقيدتين معلنتان في كلام الله، فلا يمكن أن يكون يبنهما تناقض لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد. مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات، يقال رحيم حكيم قدير عادل .. الخ، حتى وصفه علماء المسلمين بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال، لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات. ومثل ذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي وعلى فرض أنه لا يوجد في الخليقة ما يصلح أن يؤخذ مثالاً موافقاً لشرح هذه الحقيقة إلا أنه يوجد بعض الأمثلة التقريبية - ورد في التوراة أن الله خلق الإنسان على صورته (تكوين ١:٢٦).
ويوافق ذلك ما قاله علي بن أبي طالب "من عرف نفسه فقد عرف ربه." فلنتخذ هذا مثالاً تقريبياً لموضوعنا، فنقول إن كل رجل هو واحد غير أنه يصح أن يتكلم عن روحه ونفسه وجسده قائلاً عن كل منها (أنا) هنا ثلاثة أشياء يكاد يتميز أحدها عن الآخر، لأن الروح ليست النفس، ولا هذه ولا تلك هي الجسد. وعليه فليس من الخطأ أن ندعو كلاً من هذه الثلاثة رجلاً، إلا أنه لا يوجد في الثلاثة إلا رجل واحد. ومما لا شك فيه لا يكون أحد الثلاثة خلواً من الاثنين الآخَرين، كما لا يمكن التفريق بين الواحد والآخر على الأقل في هذه الحياة.
إن هذا سر من الأسرار الكثيرة المودعة في طبيعتنا ولسنا نفهمها، فإن كل امرئ على وجه الأرض يشعر بهذا التمييز في طبيعته بين روحه وعقله ونفسه، في حين أنه لا يرتاب في وحدة ذاته، على أننا لسنا نقيم هذا المثال ولا غيره دليلاً على صحة التثليث، بل الدليل على صحته كما قلنا مراراً الكتاب المقدس وكفى به دليلاً لأنه صادر من الله وهو يعرف نفسه أكثر مما نعرفه. وغاية ما نقصده من سرد الأمثلة أن ندفع الشبهات التي يعترض بها على هذا الموضوع ونبرهن أنها صادرة عن سوء فهم لإزالة ما عساه يكون عثرة أمام طالب الحقيقة المخلص.
ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله في أن أمثلة ذلك أقل بكثير في التوراة عما هي في القرآن ومما ورد في التوراة هذه المواضع (تكوين ١:٢٦ و٣:٢٢ و١١:٧) وفي القرآن ما ورد في سورة "العلق" وهي عند المسلمين أول ما نزل من الوحي على محمد، فقد ورد في عدد ٨ لفظ "الرب" اسماً للجلالة وعدد ١٣ لفظ "الله" وكل من اللفظين في صيغة المفرد، ولكن في عدد ١٨ ورد ضمير الجلالة بصيغة الجمع حيث يقول "سَنَدْعُ الزَبَانِيَةَ" (سورة العلق ٩٦:١٨).
وحيث أن الكتاب المقدس والقرآن يتفقان على هذا الأسلوب من التعبير عن ذات الجلالة بضمير الجمع، فلا يخلو ذلك من قصد. أما اليهود فيعللون عنه بكون الله كان يتكلم مع الملائكة، إلا أن هذا التعليل لا يلائم نصوص التوراة ولا القرآن. ويقول المسلمون إن صيغة الجمع هي للتعظيم وهو تعليل سخيف لا يشفي غليل الباحث النبيه، وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن إنما أوردنا ذلك إشعاراً بأننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن.
وقلنا إنه لا توجد مشابهة وافية بين الله والمخلوقات، إلا أنه توجد بعض الأشياء عدا ما ذكرنا آنفاً تثبت التعدد في الوحدة، مثال ذلك خيط واحد من أشعة الشمس يتضمن ثلاثة أنواع من الأشعة: ( ١ ) النور ( ٢ ) الحرارة ( ٣ ) العمل الكيماوي. وهذه الثلاثة شعاع واحد بحيث لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لتتكون ثلاثة أشعة بل بالعكس الشعاع الواحد لا يتكون إلا من الثلاثة معاً. وكذلك النار والنور والحرارة ثلاثة أشياء، ولكنها واحد فلا نار من غير نور وحرارة مع أن النور والحرارة من طبيعة النار وأصلها، نقول إن النار تعطي نوراً وحرارة، إذ أن النور والحرارة تنبعثان من النار. ولكن ذلك لا يجعلهما تنفصلان عن النار أبداً، فلا تسبقهما في الوجود، ولا تتأخر عنهما في العدم. وكذلك العقل والفكر والكلام واحد، مع اختلاف كل منها عن الآخر، لا نقدر أن نتصور العقل عارياً عن الفكر ولا الفكر عارياً عن الكلام منطوقاً به أو غير منطوق. ففي هذه الأمثلة جميعها لا يشوش التعدد على الوحدة بل يتفقان تمام الاتفاق، ولنا أن نستنتج من ذلك أن وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت ليس مضاداً للعقل السليم، بل له شبه ونظائر في الطبيعة وسند قوي في الكتاب.
وهنا فكر آخر له علاقة بالتثليث إن من أسماء الله الحسنى عند المسلمين كونه "ودوداً" أي محباً (وهذا يوافق ما جاء في الكتاب في إرميا ٣١:٣ ويوحنا ٣:١٦ ويوحنا الأولى ٤: ٧ - ١١ ). وبما أنه غير متغيّر فهو ودود من الأزل ويلزم عن ذلك أن يكون له مودود أي محبوب من الأزل قبل خلق العالم، فمن عساه يكون ذلك المحبوب الموجود من الأزل عند الله؟ ففي عقيدة التثليث نجد الجواب الصريح والوحيد لهذا السؤال، فنقول إن أقنوم الآب هو الودود، وأقنوم الابن المودود، وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى مخاطباً أبيه "أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ" (يوحنا ١٧:٢٤) وعليه لا يمكن الاعتقاد بوجود صفة المحبة في الله من الأزل ما لم نعتقد بتعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر، وإلا كان الله متغيراً ابتدأ أن يحب من الوقت الذي خلق له محبوباً من الملائكة أو البشر، وهذا باطل لأنه قال "أَنَا الرَّبُّ لا أَتَغَيَّرُ"(ملاخي ٣:٦).
وربما يسأل سائل: ما فائدة الإيمان بالثالوث المقدس؟ ألا يكفي أننا نؤمن بأن الله واحد بصرف النظر عما إذا كان ذا ثلاثة أقانيم أو ذا أقنوم واحد؟ فأجيب: فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد لجملة أسباب جديرة بالنظر، منها حل المعضلات الكثيرة التي يُعترَض بها على الوحدانية المحضة، مثل كيف يكون الله هو الكافي والصمد والمتكلم والغني والودود من قبل أن يكون كائن سواه، لأن كل هذه الصفات وما شاكلها لا يمكن التعليل عنها إلا بتعدد الأقانيم الإلهية مع توحيد الذات كما مر بيانه في كلامنا عن وصف الله بالودود. وهذا التعليم أيضاً يمكّننا من فهم بعض تعاليم الكتاب المقدس، كما أنه يبين لنا شرح بعض الآيات القرآنية. وأهم ما ذكر أن الإيمان بالتثليث مفيد لأنه يمهد السبيل لتصديق دعوى المسيح أنه "كلمة الله" المثبوتة في كل من الإنجيل والقرآن وتسمية المسيح "كلمته" في سورة النساء ٤:١٦٩ "وقول الحق" في سورة مريم ١٩:٣٥ أسلوب حسن للتعبير عن طبيعة المسيح ووظيفته بأنه الوسيلة الوحيدة لإعلان الله للناس. لأن المراد من "كلمة" أو "قول" هو ما يعبر به المتكلم عن فكره، والمتكلم هنا الله. وحيث أنه دعى المسيح كلمته فيكون هو المعبر الوحيد الكامل عن فكر الله ومظهره القدوس الذي يظهر به لخليقته المحدودة وبه تكلم الأنبياء مسوقين من الروح القدس ( لوقا ١٠: ٢٢ و يوحنا ١:١-٢ و ١٨ و ١٤: ٦ - ٩ وبطرس الأولى ١: ١٠ – ١٢ ) وحيث أن المسيح هو الواسطة الوحيدة لإعلان الله يجب أن يعرفه هو أولاً ويعرف إرادته، وقد عرفه كل المعرفة بدليل قوله "أما أنا فأعرفه" "الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يوحنا ٨:٥٥ و١٠:١٥). ومن هذه الحيثية تمتاز معرفة المسيح لله عن معرفة الإنسان. رُوي عن محمد أنه قال في حديث له مخاطباً لله "ما عرفناك حق معرفتك"، ويعترف علماء الإسلام أن الله عظيم وسام بحيث لا يدرك كنهه عالِم ولا نبي ولا رسول، فلا يعرف الله حق معرفته إلا "كلمته" أي المسيح. فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يكون المسيح مجرد مخلوق ولو كان أسمى المخلوقات وإلا لقصرت معرفته دون إدراك الله إدراكاً كاملاً، لأنه لا يعرف الله إلا الله. وعليه يكون المسيح أقنوماً إلهياً، فعقيدة التثليث إذاً تزيل كل صعوبة تخالج العقل في قبول دعوى المسيح بأنه كلمة الله، وبالتالي قبول خلاصه.
وعدا ما ذُكر فإنه في الإيمان بالتثليث حسنة كبيرة تغمر الشرقيين والهنود، الذي ساد عليهم الاعتقاد بالقضاء والقدر حتى أنهم استسلموا للجمود والتهاون فتأخروا عن غيرهم من الأمم في جهاد الحياة، مع أنهم من حيث الذكاء والإقدام يتساوون مع الجميع إن لم يزيدوا عنهم كما هو مثبوت في التاريخ. فما الذي حدا بهم إلى التقهقر في سلّم المدنية غير استحكام عقيدة القضاء والقدر في أذهانهم؟ فلو آمنوا أن الله لم يقدِّر عليهم سوءاً ولا قضاء بخرابهم بل يحبهم حباً فائقاً بحيث أنه أعلن لهم نفسه في شخص كلمته الأزلي وحمل آلامهم وأحزانهم ومات بالجسد لخلاصهم وقام ثانياً لأجلهم، لما بقي عندهم محل للشك في حُسن مراد الله من جهتهم، ولاستنارت أذهانهم وفهموا نصوص الإنجيل الذهبية كقوله "هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ا بْنَهُ الوَحِيدَ. لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة"ُ (يوحنا ٣:١٦ ويوحنا الأولى ٤:٧-١٦).
إن رفض إخوتنا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح، فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعداً عن معرفته، وعليه نجد في مصر اليوم حديثاً حل محل مثل شائع هو "كل ما خطر ببالك فهو هالك. والله بخلاف ذلك." وهكذا نرى الإسلام يؤول إلى عدم معرفة الله، وإن إيماننا نحن المسيحيين بمظهر الله الكامل يمكّننا من معرفة الله ومن محبته، إذ أحبنا أولاً (يوحنا الأولى ٤:١٩) وإن روح الله القدوس يحل في قلوب المسيحيين الحقيقيين وينيرها بإرشاداته إلى معرفة الله ويقرّبهم إليه (يوحنا ١٤:١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:٢٦ و١٦:٧ و١٥ وأعمال الرسل ١:٥ و٢:١-٤ وكورنثوس الأولى ٣:١٦ و١٧ و٦:١٩). وبذلك يتصالح المسيحيون مع الله ويكونون في شركة معه كأبناء مع أبيهم المحب السماوي عوضاً عن أن يكونوا عبيد خائفين في حضرة سيدهم القهار (كما هي حال غيرهم).
إذاً نتعلم من الكتاب المقدس أن الله العلي العظيم أعلن لنا نفسه: (١) أنه الآب القدوس المحب الذي وإن كان شديد البغض والمقت للخطية، غير أنه قَصَد منذ الأزل في محبته وكثرة رحمته أن يدبر طريقة خاصة تيسّر الخلاص لجميع البشر الذين يقبلون نعمة الله، فيتصالحون معه بالقلب والعقل والإراداة والسلوك، (٢) وأعطى الله هذا الإعلان للناس على يد "كلمته" ابن الله الوحيد الذي بواسطته فقط يصل المخلوق أياً كان لمعرفة الآب السماوي، وإذ أخذ ابن الله جسداً ولبس طبيعة البشر حمل أحزاننا وهمومنا، ومات على الصليب من أجل خطاياناً، قام من أجل تبريرنا (رومية ٤:٢٥). (٣) ولكي يقبل الناس هذا الخلاص المبارك أرسل روحه القدوس، الأقنوم الثالث من اللاهوت، ليبكتهم على خطاياهم ويحقق لهم عظيم احتياجهم إلى مخلّص يخلّصهم وينير أذهانهم بمعرفة غِنى الإنجيل، حتى يطلبوا وينالوا ويتمتعوا بالحياة الأبدية.
ولا يبرح من ذهنك أن البرهان الذي يُقام على صحة عقيدة الثالوث الأقدس بعينه يُقام على صحة عقيدة الحياة بعد الموت ويوم القيامة، وغير ذلك من العقائد التي يمتاز بها المؤمن عن الكافر وعابد الله عن عابد الصنم، بمعنى أن هذه العقائد جميعها مؤيدة بكلام الله، فإن قبلنا عقيدة منها لأنها مؤيَّدة بكلام الله، فلماذا لا نقبل العقائد الأخرى في حين أنها مؤيدة بكلام الله أيضاً؟
ولنتقدم الآن لإيضاح حقيقة أخرى لعلها تساعد القارئ للتثبُّت من الموضوع الذي نحن بصدده. نعلم بدليل قلوبنا عن الخلاص الذي يقدمه لنا الرب يسوع وكيف نحصل على الحياة الأبدية إن آمنا به (يوحنا ١٧:١-٣) كما نحصل على سائر البركات العظمى التي يريد الله أن يمنحها لمخلوقاته.
وبناء على إرشاد وتعليم الإنجيل - أي أسفار العهد الجديد - نعلم أنه بواسطة الإيمان الحي بالمسيح والاتكال عليه (أعمال الرسل ٤:١٢ و١٦:٣١ ويوحنا الأولى ٣:٢٣) نصير ورثة الأفراح الفائقة والبركات العظمى التي لا يعبر عنها "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللّهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (كورنثوس الأولى ٢:٩). وليس الإيمان بالمسيح مجرد الاعتراف بأن تعليمه حق بل الثقة الكاملة بمخلّص حي حبيب جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة (تيموثاوس الأولى ١:١٥) من خطاياهم (متى ١:٢١) وقادر أن يخلّص إلى التمام كل الذين يتقدمون به إلى الله (عبرانيين ٧:٢٥). إيمان حي كهذا يربطنا روحياً بالمسيح ويجعلنا وإياه واحداً (يوحنا ١٥:٤-١٠) كما يجعلنا أولاد الله فيه (يوحنا ١:١٢ و١٣ ويوحنا الأولى ٣:١-١٢) بل يقوينا حتى نعتق من نير الخطية وإبليس (يوحنا ٨:٣٤-٣٦) فنخلع أعمال الظلمة (رومية ١٣:١٢ وأفسس ٥:١١ وكولوسي ١:١٣ وتسالونيكي الأولى ٥:٤ و٥ وبطرس الأولى ٢:١٩ ويوحنا الأولى ١:٦) ونسلك كما يحق للدعوة التي دعينا بها. أو بعبارة أخرى نسلك كأولاد نور (يوحنا ٨: ١٢ و ١٢: ٣٥ و ٣٦ ).
ولما كان الإنسان من تلقاء نفسه لا يقدر أن يؤمن بالمسيح إيماناً حياً عاملاً، رأى الله من فرط محبته لنا أن يرسل روحه القدوس ليعمل في أرواحنا ويبثّ فينا حياة روحية نستعين بها على الإيمان بالمسيح الإيمان المطلوب، ما لم نغش قلوبنا ونرفض نهائياً احتجاج ذلك الروح الصالح المنعِم.
وقد رأينا في ما تقدم أن المسيح "كلمة الله" هو مظهر الله الحقيقي، وعليه يتضح جلياً أنه بواسطته فقط يستطيع الإنسان أن يأتي إلى الله (يوحنا ١٤:٦) وبدون إيمان بالمسيح لا يقبل الله الناس ولا يغفر لهم خطاياهم. لهذا جاء الروح القدس ليحث الناس على التوبة ويستميلهم إلى الإيمان بحيث يعتنقون ذلك الخلاص المقدَّم لهم مجاناً في المسيح. كما أن الروح القدس يكشف لنا الستار عن حالة قلوبنا الرديئة ويبكتنا على خطايانا وينذرنا بالدينونة الآتية (يوحنا ١٦:٨) يحرّضنا على السعي والجد في طلب المصالحة مع الله بقبول الكفارة الوحيدة التي قدمها المسيح عن خطايا العالم (عبرانيين ١٠:١٠-١٤) والذين ينقادون بإرشاد الروح القدس يتبررون بإيمانهم بالمسيح، ويكون لهم سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رومية ٥:١) يعطيهم السلام الذي لا يقدر أن يعطيه العالم (يوحنا ١٤:٢٧) فالخاطئ النادم متى أتى إلى المسيح يُعتق من الخوف والرعب الشديد الناتج عن خطاياه، ويزول عن عنقه ذلك الحمل الثقيل ويُطرح في بحر نسيان رحمة الله (متى ٢١:٢١ ومرقس ١١:٢٣) وتتبدد غياهب ظلمة قلبه ويحل محلها نور السماء وتملك عليه محبة الله ويعلم أن الله أبوه السماوي بيسوع المسيح فيهجر خطاياه ويجدّ في حفظ وصايا الله، ويواظب على معاشرته، فتجري في نفسه أنهار السعادة الحقيقية التي تفوق الوصف حتى تصير الأرض في عينيه سماء بالرغم من تجارب الحياة الكثيرة واضطهاد المضطهدين. ويتحقق صدق الكتاب لا بالبرهان الخارجي فقط بل بالوجدان والاختبار أيضاً.
وهذا التغيير الذي ينتجه عمل الروح القدس في نفس الخاطئ الآتي إلى المسيح لا ينحصر في تحويل القلب عن الخطية إلى البر ومن الظلمة إلى النور ومن عبودية إبليس إلى حرية الله، بل أعظم من ذلك هو ميلاد جديد حقيقي روحي (يوحنا ٣:٣ و٥) الذي به يصير المؤمن خليقة جديدة روحياً (كورنثوس الثانية ٥:١٧ وغلاطية ٦:١٥) وأن الله يريد أن يتوب كل إنسان عن خطاياه وينال الخلاص بالإيمان بالمسيح (حزقيال ٣٣:١١ وتيموثاوس الأولى ٢:٣-٦ وبطرس الثانية ٣:٩) من أجل ذلك ليس أحد على وجه الأرض مقضياً عليه بالحرمان من رجاء الخلاص، بل كل من يريد بسلامة قلب أن يُفدى بدم المسيح فإنه يُفدى بكل تأكيد (يوحنا ٦:٣٧). وأما الذين يعتمدون على ما يتخيلونه من أعمالهم الصالحة ويتوهمون أن لهم خزانة بر ذاتي في السماء ويرفضون المسيح، فهم مقاومون لإرشاد روح الله القدوس ويحكمون على أنفسهم بأنفسهم (يوحنا ٣:١٦-٢١ و٥:٤٠) ومع أنه استطاع في هذه الحياة أن يقاوم محبة المسيح ويعاند رحمة الله، إلا أنه يضطر في النهاية أن يسجد أمام المسيح كما ينبئنا الكتاب (إشعياء ٤٥:٢٣ ورومية ١٤:١١ وفيلبي ٢:٩-١١).
ومما قيل يتبرهن أن التغيير الذي يحدثه الإيمان بالمسيح في القلب لا يدعنا نهمل واجباتنا المسيحية أو نتمادى في ارتكاب الخطية لأنه إيمان حي مُحْيي يدفع صاحبه إلى فعل الخير ويمنعه عن فعل الشر، لذلك إن كان أحد مؤمناً بالمسيح إيماناً حقيقياً ينتصر بمعونة روح الله القدوس على الخطية الداخلية، كما ينتصر على العالم والجسد والشيطان، ويدوس على هوى نفسه، ويكرس ذاته حتى يعيش بحسب إرادة الله من حيث قداسة العمل والطبع لأنه ذاق بحاسته الروحية محبة الله الفائقة ورحمته العظيمة المعلنة في المسيح واختبر الفرح الحقيقي والسعادة الكاملة التي فاض بها الإيمان في نفسه. لهذا أصبح يبتعد عن كل خطية أو فكر شرير ويجاهد ليله ونهاره على الاحتراس والاحتفاظ بوصايا الله سالكاً في النور كما ينبغي لدعوة الإنجيل.
١. وعلى ذلك نطلب من القارئ مراجعة دستور الإيمان الرسولي والقانون النيقوي والقانون الاثناسيوسي وقانون الكنيسة المصلحة