الفصل الثالث
المعجزة الشخصية
توطئة عامّة
نواحي الإِعجاز في الرجل والنبي والرسول
تلك النواحي الثلاث، ثلاثة أنواع من المعجزات. كل نوع منها، إن صح حتى الإِعجاز، فهو شهادة إلهية لصاحبها. فلا يكفي أن يكون الرجل ﴿أسوة حسنة﴾ حتى نشهد له بمعجزة القداسة في السيرة. ولا يكفي أن يكون ﴿النبي﴾ داعية لله، ومبلغاً ﴿لرسالات﴾ ربه حتى نعترف له بمعجزة النبوّة. ولا يكفي أن يكون الرسول مؤسس دين حتى نقرّ له بمعجزة الرسالة. والتاريخ خير شاهد للفصل بين عمل من العبد، وعمل معجز من قبل الله.
الإِعجاز في السيرة هو ما يسمونه في الأديان معجزة القداسة. وهي معجزة أفضل من سائر المعجزات الحسية. وهي التي تجعل الرسول مثالاً حياً لرسالته، و﴿أسوة حسنة﴾ لشريعته. فالبطولة في الدعوة، والعبقرية في تكوين أمة، لا تكفيان للشهادة بمعجزة القداسة.
إنشاء أو نشر دين قد يكون ﴿نبوّة﴾ تنقل أمة من الشرك الى التوحيد. لكن للنبوّة بالمعنى الحصري صفات وأحوال ذاتية هي الإِعجاز في النبوّة الذي يجعلها معجزة من الله، لا تخفى معالمها على أحد. فليس كل إنباء عن الله وحياً وتنزيلاً، وليست كل ﴿أنباء الغيب﴾ نبوّة صحيحة جديدة من الله. فالإِعجاز في النبوّة هو معجزة النبوّة.
والرسول مرآة رسالته في ذاته وفي سلوكه وفي دعوته. نواحي ﴿البشرية﴾ القائمة في كل نبي أو رسول من الناس لا تقلّل من صحة نبوته ورسالته. لكن الإعجاز في الرسالة، وفي طرق تبليغها، وفي أسلوب الدعوة لها، هو معجزة الرسالة.
ففي ثلاثة أجزاء من هذا الفصل نرى:
الإِعجاز في السيرة، وهو معجزة القداسة.
الإِعجاز في النبوّة، وهو معجزة النبوّة.
الإِعجاز في الرسالة، وهو معجزة الرسالة.
الجزء الأول
الإِعجاز في السيرة
توطئة
العبقرية والبشرية في النبي العربي
الظاهرتان الكبيرتان في القرآن، لوصف النبي العربي، هما العبقرية و﴿البشرية﴾. وهاتان الظاهرتان تحدّدان مدى الإِعجاز في الشخصية.
في كتابنا (القرآن والكتاب ٢: ١٠٤٠) قررنا أن ﴿محمداً ترك أعظم تراث يمكن أن يتركه عظيم: فقد أنشأ من لا شيء أمةً وديناً ودولة تشغل قسماً كبيراً من العالم الى اليوم وإلى ما شاء الله. إن محمداً هو باعث القومية العربية الأول، وهو محرر العرب الأول، وهو العامل الأول لوحدة العرب الكبرى، وهو باني الدولة الدينية العربية الأولى. فيحق للمسلمين أن يتلوا كل يوم ما نزل على النبي: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً﴾.
ثم قرّرنا ميزات هذه العبقرية، فقلنا: ﴿كانت شخصية محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، النبي العربي، مجموعة عبقريات مكّنته من تأسيس أمة ودين ودولة من لا شيء. وهذا لم يجتمع لأحد من عظماء البشرية. كان محمد عبقرية دينية... وكان محمد عبقرية سياسية... وكان عبقرية دبلوماسية... وكان محمد عبقرية عسكرية... وكان محمد عبقرية إدارية... وكان محمد عبقرية تشريعية... وأخيراً كان محمد عبقرية أدبية﴾ (ص ١٠٦٥ ـ ١٠٦٧).
لكن هذه المجموعة الفريدة من العبقريات كانت مغمورة بمظاهر ﴿بشريته﴾ يعلنها القرآن في حياته الشخصية، وحياته الزواجية، وحياته النبوية، وحياته الجهادية. فالقرآن يضعنا على الصراط المستقيم في تقدير شخصية النبي العربي حق قدرها، بهذا الإعلان المتواتر: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم، يوحى اليّ...﴾ (فصلت ٦، الكهف ١١٠). واذا طُولب، كما يُطالب النبيون، بشيء من علم الغيب أو المعجزة، يصيح: ﴿قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾! (الإسراء ٩٣).
يقول الأستاذ السمان ١ : ﴿والذي لا مرية فيه أن محمداً كان بشراً بكل ما في هذه اللفظة من معنى، وبكل ما ينطبق عليها من سنن الكون وظروف الطبيعة. وُلد كما يولد البشر! وعاش كما يعيش البشر! ومات كما يموت البشر. لم يشذّ عن سنن الطبيعة، ولم يُقدَّر له أن يمتاز عن مجريات أحوالها. وما امتاز به عن البشر، قد انحصر في تكليف الله إياه مهمة الوحي، ليكون مبلغاً عن الله وداعياً اليه بإذنه. ولعل ما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ، قد وضع النقاط على الحروف، ولم يدع مجالاً لذرة واحدة من الشك: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم! يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً﴾ (الكهف ١١٠). كذلك قوله: ﴿قلْ إنما أنا بشر مثلكم! يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا اليه واستغفروه! وويل للمشركين﴾! (فصلت ٦).
ويقول أيضاً: ﴿ومحمد ـ صلوات الله عليه ـ كان بشراً ككل الرسل: وُلد كما يولد البشر! وعاش ومات كما يعيشون ويموتون! ولم تكن الرسالة التي كلفها لتخرجه عن حدود البشرية وطبائعها وسننها... له امكانيات البشر، وليس له فوقها ذرة واحدة: ﴿قلْ: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله! ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء﴾ (الأعراف ١٨٨)، ﴿قلْ: لا أقول لكم عندي خزائن الله! ولا أعلم الغيب! ولا أقول لكم: أني ملك، إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليَّ﴾ (الأنعام ٥٠).
من يتلوالقرآن لا يتمالك من مقابلة هذه الصورة لمحمد بصورة المسيح في القرآن: وُلد من أم بتول لم يمسسها بشر، يكلّم الناس في المهد وكهلاً، يطّلع على علم الغيب، ويرتفع في سلطان المعجزة، بإذن الله، الى مشاركة الخلق ـ بدون شرك ـ في السلطان على إحياء الموتى، وفي السلطان على الخَلْق: ﴿واذْ تخلق﴾ (آل عمران ٤٥ - ٤٧، المائدة ١١٠). فتلكما العبقرية و﴿البشرية﴾ عند محمد تحدّان الإِعجاز في سيرته الشخصية، والبيتية، والنبوية، والجهادية.
بحث أوّل
سيرة محمّد الشخصية
نبدأ بالناحية الايجابية في شهادة القرآن:
يقول: ﴿نَ، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون! وأنَّ لك لأجراً غير ممنون! وأنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم ١ ـ ٤). أجل إنه لخلق عظيم تحمل اعباء الدعوة بين المشركين، في سبيل التوحيد.
ويقول: ﴿لقد جاءَكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ (التوبة ١٢٨)، ﴿فبمَا رحمة من الله لِنْتَ لهم: ولوكنت فظَّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ (آل عمران ١٥٩). إن غيرة محمد على انقاذ بني قومه من الشرك، وحكمهم في الإسلام لله، جعلته من ﴿أولي العزم﴾ من المرسلين. وإن غيرته على إيلاف المؤمنين تظهر في لينه بمعاملتهم.
فكان سراجاً منيراً في جاهلية العرب: ﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه، وسراجاً منيراً﴾ (الأحزاب ٤٥ ـ ٤٦).
وكان برسالته رحمة: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء ١٠٧)، يكفّهم عن الشرك بدعوته: ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً﴾ (سبأ ٢٨).
أمّا الناحية السلبية التي يشهد لها القرآن فهي:
أوّلاً: حب السيطرة والتمتّع بطيبات الحياة فطرة في الإنسان خضع لها محمد
١ ـ فالقرآن يردعه عن السيطرة على المؤمنين: ﴿فذكّر إنما أنت مذكر! لست عليهم بمصيطر﴾ (الغاشية ٢١ - ٢٢). ويأمره: ﴿واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين﴾ (الشعراء ٢١٥)، ﴿ومَن تولّى، فما أرسلناك عليهم حفيظاً﴾ (النساء ٨٠)، ﴿وما جعلناك عليهم حفيظاً، وما أنت عليهم بوكيل﴾ (الأنعام ١٠٧).
٢ ـ والقرآن يردعه عن الغيرة من سلطان الزعماء وثرائهم: ﴿لا تمدَّن عينيك الى ما متّعنا به أزواجاً منهم! ولا تحزن عليهم! واخفض جناحك للمؤمنين!﴾ (الحجر ٨٨). فقد كان يريد مثلهم زينة الحياة الدنيا: ﴿واصبرْ نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. ولا تعْدُ عيناك عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا﴾ (الكهف ٢٨).
٣ ـ أجل كان النبي يدعو الى الزهد بالدنيا في سبيل الآخرة؛ لكنه كان يدعو أيضاً إلى أن يأخذ الانسان نصيبه من الحياة الدنيا. فدعوة الزهد في القرآن ﴿أمة وسط﴾ بين الروحانية المفرطة وبين المادية المفرطة. فهو يسير ما بين افراط وتفريط.
لكن الدعوة القرآنية للتمتّع بطيبات الدنيا لا حدّ لها: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا الله، إنْ كنتم إياه تعبدون﴾ (البقرة ١٧٢)، ﴿يسألونك: ماذا أُحِلّ لهم؟ قلْ: أُحِلَّ لكم الطّيبات﴾ (المائدة ٤). فالمبدأ العام في الدعوة القرآنية: ﴿اليوم أُحِلَّ لكم الطّيبات﴾ (المائدة ٥). ويمنّ عليهم أن الله بالإسلام ﴿أيدكم بنصره ورزقكم من الطّيبات﴾ (الأنفال ٢٦).
والدعوة القرآنية للتمتع بطيبات الدنيا تزيد على الدعوة التوراتية يقول: ﴿يا بني إسرائيل... كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه فيحلَّ عليكم غضبي﴾ (طه ٨٠ - ٨١، قابل البقرة ٥٧)، ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل مُبَوّأ صدق ورزقناهم من الطّيبات﴾ (يونس ٩٣)، كما ﴿لقد كرمنا بني آدم... ورزقناهم من الطّيبات﴾ (الإسراء ٧٠). أجل ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة، ورزقناهم من الطّيبات وفضلناهم على العالمين﴾ (الجاثية ١٦). فقد كرّم الله بني إسرائيل بالكتاب والنبوّة، والطّيبات من الرزق، والتفضيل على العالمين: فكانوا بذلك مثالاً للمسلمين: ﴿ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ أي المشركين (الجاثية ١٨). فالمبدأ العام في القرآن: ﴿يا أيها الرسل، كلوا من الطّيبات، واعملوا صالحاً، أني بما تعملون عليم﴾ (المؤمنون ٥١).
لذلك من أهداف الدعوة القرآنية على لسان النبي الأمّي لأهل الكتاب أنه ﴿يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطّيبات، ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصْرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾ (الأعراف ١٥٧)، لأنه ﴿بظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم﴾ (النساء ١٦٠). فالقرآن يزيد على التوراة في تحليل الطّيبات وزينة الحياة الدنيا، ويخصها بالمؤمنين يوم القيامة: ﴿قلْ من حَرَّم زينة الله التي أخرج لعباده، والطّيبات من الرزق؟ قلْ: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة﴾ (الأعراف ٣٢). لذلك ختم الدعوة القرآنية بقوله: ﴿اليوم أحلّ لكم الطّيبات﴾ على الإطلاق (المائدة ٥).
٤ ـ والقرآن يزخر بمظاهر ﴿بشرية﴾ الرسول العربي:
منها تبرّم النبي بضعاف المؤمنين: ﴿عَبَس وتولّى أن جاءَه الأعمى...! أما مَن استغنى فأنت له تصدّى...! وأمّا مَن جاءَك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى!﴾ (عبس ١ ـ ١٠).
ومنها طرد فقراء المؤمنين بحضرة صناديد قريش: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه! ما عليك من حسابهم من شيء! وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم، فتكون من الظالمين﴾ (الأنعام ٥٢). قال الجلالان: كان المشركون طعنوا في حقارة جماعته الأولى وطلبوا منه أن يطردهم ليجالسوه، وأراد النبي r ذلك طمعاً في إسلامهم، فعاتبه ربه هذا العتاب القاسي.
ومنها قهر اليتيم ونهر السائل: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر! وأما السائل فلا تنهر!﴾ (الضحى ٩ ـ ١٠). هل حدث ذلك مرة واحدة أم أكثر؟
ومنها الدعاء والهزء بعمّه أبي لهبٍ وزوجه: ﴿تبت يدا أبي لهبٍ، وتبّ! ما أغنى عنه مالُه وما كسب: سيصلي ناراً ذات لهب! وامرأته حمّالة الحطب، في جيدها حبل من مسد﴾ (سورة تبّت أو اللَّهَب).
ومنها ما ردّ شتيمة على قائلها: ﴿إنّا أعطيناك الكوثر، فصلِّ لربك وانحر! إنَّ شانئك هو الأبتر!﴾ (الكوثر كلها). قال الجلالان: ﴿نزلت في العاص بن وائل: سمّى النبي r أبتر، عند موت ابنه القاسم﴾.
٥ ـ وينقل الأستاذ السمان ٢ ، عن السيرة والحديث بعض ﴿طبائع وغرائز﴾.
كان أحياناً يغضب ويدعو على المؤمنين: ﴿اللهم إنما أنا بشر أغضب وآسف، كما يغضب البشر! فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعلها له رحمة﴾.
في مفاجأته بمعركة بدر يصلّي وكأنه يتحدّى ربه: ﴿اللهم إنْ تظهرْ هذه العصابة، يظهرْ الشرك، ولا يقمْ لك دين﴾!
وفي غزوة بئر معونه قُتل نحو سبعين من قرّاء القرآن، فانفعل كثيراً، ظل يبدأ صلاة الصبح بضع عشرة ليلة بهذا الدعاء: ﴿اللهم اشددْ وطأتك على مضر! اللهمّ عليك ببني لحيان، وزغب ورعل وذكوان وعصية! فإنهم عصوا الله ورسوله﴾.
واعتبر عمر بن الخطاب وزعماء المسلمين صلح الحديبية إهانة لكرامتهم. فأخذ عمر يقول للرسول على مشهد من الناس: لِمَ نعطي الدنية في ديننا! وحين أمر الرسول بالرحيل، لزم عمر يردّدها عليه ثلاثاً، فأجابه عند الثالثة: ﴿ثكلتك أُمك يا عمر! بدرت رسول الله ثلاث مرات، وكل ذلك ولا يجيبك﴾!
في سرية بني مرة، قبل الفتح، قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس، بعد نطقه بالشهادة: لا إله إلاّ الله. وبلغ الخبر محمداً، فقال لأسامة! وقد قال: لا إله إلاّ الله؟ فجعل أسامة يقول: انما قالها تعوذاً من القتل. فقال الرسول منفعلاً: أفلا شققت عن قلبه، فتعلم أصادق أم كاذب؟ هذه غضبة للحق!
وحين فتح مكّة بعث النبي خالداً بجيش إلى بني جذيمة بأسفل مكّة. فخافوا وأسلموا. لكن خالداً أسرهم وأمر كل مسلم بقتل أسيره. فاختلف الناس وحدثت مشادّة عظيمة أمام الرسول بين خالد بن الوليد وعبد الرحمان بن عوف. فانفعل محمد انفعالاً شديداً، ورفع يديه حتى رؤي بياض ابطه، وهو يقول: اللهم أني أبرأ إليك ممّا صنع خالد!
كان بنو قريظة يبالغون في المؤامرة على الإسلام، وقد تحالفوا مع احزاب قريش في غزوة الخندق، ولولا دبلوماسية النبي للتفريق بينهم، لأطبقوا من خارج ومن داخل على المسلمين. فلما ارتحلت الأحزاب غزا محمد قريظة وهو يقول لهم: يا اخوة القردة والخنازير، وعبدة الطواغيت، أتشتموني!؟
وبعد غزوة حنين، فضّل ﴿المؤلفة قلوبهم﴾ من قريش بالعطاء، فقال أحدهم: واللهِ إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله! فبلغ الخبر النبي، فانفعل وأجاب مستنكراً: فمن يعدل، اذا لم يعدل الله ورسوله؟! وفي رواية أخرى، قال له رجل من بني تميم: يا رسول الله أعدل! فقال له الرسول: ويلك، ومن يعدل اذا لم أعدل؟ قد خبتُ وخسرت إن لم أكن أعدل! - إنها ألوان من الانفعالات والثورات النفسية، حين تمسّ الكرامة الشخصية.
وفي معركة أُحُد قُتل حمزة عم النبي الذي به وبعمر بن الخطاب أعزّ الله الإسلام. فثار محمد ثورة عارمة، وجعل يتوعّد بأنه في سبيل حمزة سوف يمثل بسبعين رجلاً منهم. ونسي قول القرآن: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾. ومضت ست سنوات كاملة لم تهدأ ثورة محمد في نفسه. وجاءَ فتح مكّة، فأهدر محمد دماء وحشي بن جرب قاتل حمزة. ففرّ إلى الطائف. ثم رجع مسلماً مع وفدهم. لكن ما رآه محمد حتى صاح فيه: ﴿غيّب وجهك عني﴾!
وقبل وفاته قرّر إرسال بعثة لغزو الروم، وأمر على رأسها الفتى أسامة بن زيد، فاستاء كبار المهاجرين والأنصار، وأخذ نوع من التمرّد يجتاح الجماعة. وكان المرض قد بلغ منه مبلغه. فكابر على نفسه وأتى المسجد وصعد المنبر، وقد عصب رأسه من شدة الوجع، وخاطب المسلمين: ﴿فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ واللهِ لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبل. وايمُ الله، إن كان للإمارة لخليقا! وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة. وإنْ كان لمن أحب الناس إليَّ﴾. فالنبي يثور وهو على فراش الموت لمخالفة أوامره.
وتلك الانفعالات النفسية الطارئة التي تبلغ حدَّ الغليان والثورة النفسية، كانت تتحول أحياناً، بضغط الظروف، إلى كبتٍ يضيق به صدره ضيقاً شديداً. وهنا القرآن نفسه شاهد عدل. لقد ضايقه المشركون بتحدّيه المتواصل بآية كالأنبياء الأولين: ﴿فلعلك تارك بعض ما يُوحى إليك، وضائق به صدرك، أن يقولوا: لولا أُنزِل عليه كنز! أو جاءَ معه مَلَك! إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل﴾ (هود ١٢).
وفي عجزه الدائم عن معجزة كان المعارضون يرشقونه بشتى التهم، ويُعجزه العجز عن معجزة، فيستسلم الى الكبت والضيق: ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون! فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ (الحجر ٩٧ ـ ٩٩).
والصورة الكاملة لخُلق النبي هي الدعوة أولاً ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ بمكّة حيث كان طريداً شريداً بين بني قومه، ثم الدعوة بالمدينة، في حمى المهاجرين والأنصار، بالجهاد، ﴿والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥). وقوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾، ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾ كأنه يقصد بها جماعته لا غيرهم من الناس: ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار، وليجدوا فيكم غِلْظة ، واعلموا أن الله مع المتقين﴾ (التوبة ١٢٣). وهو يصور واقع الحال بقوله: ﴿محمد رسول الله، والذين معه؛ أشداء على الكفّار، رحماء بينهم!﴾ (الفتح ٢٩)، ﴿فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾ (الفرقان ٥٢).
والحديث الذي يصفه خير وصف هو : إنه ﴿نبي الملحمة﴾! وإنه ﴿نبي المرحمة﴾! وكلاهما يتعارضان.
ثانياً: أزمات محمد النفسيّة
عقد الأستاذ دروزة في (سيرة الرسول) فصلاً قيماً في ﴿الأزمات النبوية النفسية﴾ (١: ٢٢٦ ـ ٢٧٥) نقتطف منه بعض ما يلي:
١ ـ إن الأزمة النفسية الأولى كانت في لقاء الوحي وفي فتوره، حيث حاول الانتحار مرتين بعد رؤيا غار حرّاء، كما نقل البخاري عن عائشة (١: ٣): ﴿رجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني! فزملوه حتى ذهب عنه الروع﴾.
وروى الطبري أن الروع لم يذهب، بل فكر بالانتحار، فقد نقل عن ابن الزبير: ﴿قال: قلتُ إن الأبعد ـ يعني نفسه ـ لشاعر أو مجنون! لا تحدَّث بها عني قريش أبداً. لأعمدنَّ الى حالق من الجبل، فلأطرحنَّ نفسي منه، فلأقتلنّها. فلأستريحنّ! قال: فخرجتُ أريد ذلك. حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل﴾ ٣ .
اطمئن الرسول، لكن سرعان ما عاودته فكرة الانتحار عند فتور الوحي. يتابع البخاري حديث عائشة (١: ٤): ﴿ثم لم ينشب أن توفي ورقة وفتر الوحي﴾. كان ورقة، قس مكّة، سنده في طريق النبوّة. وها الأستاذ والسند يموت. ﴿ولقد قيل: إن النبي ضاق ضيقاً شديداً بانقطاع الوحي عنه. وإنه كان يهيم على وجهه في الصحراء يناجي ربه. وبلغ به الأمر مرة أن همَّ بإلقاء نفسه من قمة جبل شاهق. وقد انتهت هذه المحنة بنزول سورة (الضحى) التي تصف هذه الأزمة النفسية﴾ ٤ .
٢ ـ إن الأزمة النفسية الثانية كانت في انفعاله المتواصل من عدم إيمان بني قومه برسالته: ﴿فإن الله يُضل مَن يشاء ويَهدي من يشاء: فلا تذهبْ نفسك عليهم حسرات. إن الله عليم بما تصنعون﴾ (فاطر ٨). قال دروزة في تعليقه ٥ : ﴿وتلهم إنها نزلت في وقت اشتد فيه الحزن والغم على النبي r بسبب موقف الجحود الذي يقفه قومه من دعوته﴾.
وهذه الأزمة تتجدد في العهد الثاني بمكّة: ﴿لعلك باخع نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين! وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدَث إلاَّ كانوا عنه معرضين!﴾ (الشعراء ٣ و٥). علّق عليها دروزة ٦ : ﴿ومما لا ريب فيه أنها نزلت في ظرف اشتد فيه حزن النبي وهمّه من مواقف التكذيب والإعراض، وهذا ممّا احتوته الآيات صراحة﴾.
ودامت هذه الأزمة الى العهد الثالث بمكّة: ﴿فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً﴾ (الكهف ٦). قال دروزة ٧ : ﴿والآية مثل آية الشعراء الثالثة. وتكرار الخطاب المماثل في فترتين متباعدتين يدل دون ريب على تكرار الظروف، وبالتالي على تكرار الأزمة من جراء موقف الجاحدين﴾.
وقد يتدخل الوحي، في تلك الحال، حيناً لتسليته: ﴿طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى!﴾ (طه ١ - ٢)، وحيناً لاحراجه وتعجيزه في يأسه: ﴿إنك لا تُسمع الموتى! ولا تُسمع الصمّ الدعاء! إذا ولّوا مدبرين. وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إنْ تُسمع إلاّ مَن يؤمن بآياتنا، فهم مسلمون﴾ (النمل ٨٠ ـ ٨١).
٣ ـ إن الأزمة النفسية الثالثة كانت في تضايقه من استهزاء المشركين المتواصل: ﴿كانوا به يستهزئون﴾ (٦: ٥ و١٠، ١١: ٨، ١٥: ١١، ١٦: ٣٤، ٢١: ٤١، ٢٦: ٦، ٣٦: ٣٠، ٣٩: ٤٨، ٤٠: ٨٣، ٤٣: ٧، ٤٥: ٣٣، ٤٦: ٢٦). يستهزئون من شخصيته الكريمة: ﴿وإذا رأوك، إنْ يتّخذونك إلاّ هزواً: أهذا الذي بعث الله رسولاً!﴾ (الفرقان ٤١). ويستهزئون بدعوته: ﴿وإذا رآك الذين كفروا، إنْ يتّخذونك إلاّ هزواً: أهذا الذي يذكر آلهتكم﴾! (الأنبياء ٣٦). فيضيق صدراً بهذا التهكّم والاستهزاء: ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ (الحجر ٩٧). ويحزن: ﴿فلا يحزنك قولهم: إنا نعلم ما يُسرون وما يعلنون﴾ (يسن ٧٦). يحزن حزناً متواصلاً: ﴿قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون﴾! (الأنعام ٣٣). فتأتيه تعزية وتسلية: ﴿إنّا كفيناك المستهزئين﴾ (الحجر ٩٥). لكن سرعان ما يعود الهزء والسخرية في المدينة، بأسلوب أدهى، مع المنافقين: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا! وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم، إنما نحن مستهزئون﴾! (البقرة ١٤). وتدوم الحال مع المنافقين في الهزء والسخرية إلى آخر العهد بالمدينة: ﴿يحذر المنافقون أن تُنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل: استهزئوا، ان الله مخرج ما تحذرون! ولئن سألتهم، ليقولُنَّ: إنما كنا نخوض ونلعب: قلْ: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟﴾ (التوبة ٦٤ ـ ٦٥). وتأتي هذه الصورة في موقفهم من التنزيل: ﴿واذا ما أُنزلت سورة، فمنهم مَن يقول: أيكم زادته هذه إيماناً؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض، فزادتهم رجساً على رجسهم وماتوا وهم كافرون! أوَلا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين﴾؟! (التوبة ١٢٤ ـ ١٢٦). هذه إشارة الى أنه كان ينزل بالمدينة في كل عام سورة أو سورتان، فكان ذلك مناسبة لفتنتهم في العام مرة أو مرتين. وهذه السخرية بمناسبة التنزيل كانت تصيب محمداً في الصميم. وتتراكم الأزمات في نفس النبي.
٤ ـ إن الأزمة النفسية الرابعة، كانت في موقف أقاربه من دعوته. فهو يصف موقفهم منه بقوله: ﴿وهم ينهون عنه! وينأون عنه!﴾ (الأنعام ٢٦)، أي بعصبيتهم القومية يحمونه، وبسبب شركهم يبتعدون عنه. وفي (أسباب النّزول) للسيوطي: لإنها نزلت في عمومته، وكانوا عشرة: فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر، وهذا الموقف كان يؤلمه جداً لتأثيره السيّىء على الناس. وبما أنه دام حتى فتح مكّة، فإن مرارة النبي من عشيرته كان متواصلاً لا ينتهي. وذات مرة جاءَه الأمر: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين... فإن عصوك، فقل: أني بريء مما تعملون﴾! (الشعراء ٢١٤ ـ ٢١٦). فدعاهم الى وليمة أولى، ثم الى وليمة أخرى، فما أفلح في دعوتهم. فدعاهم جهاراً الى جبل الصفا، فعطّل الدعوة عمه أبو جهل، وناوأه عمّه أبو لهب. فتوسل بعمه العباس، وعمّته صفية، فما نجح. فخلف ذلك في نفسه يأساً عظيماً، زاده الوحي مرارة بتعجيزه: ﴿إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم المهتدين﴾ (القصص ٥٦)، ﴿إن تحرص على هُداهم فإن الله لا يهدي من يضل﴾ (النحل ٣٧). وهذا الموقف يجمع الى الألم الذاتي، الفشل الاجتماعي المشهود. قال دروزة ٨ : ﴿وإنه لمن الطبيعي أن يثير هذا الموقف السلبي في نفس النبي r أزمات حادة من حين لآخر. فقد عُرفتْ بيئة النبي وعصره بالتضامن أو العصبية العائلية. ومن المعقول أن ينظر الناس إلى موقف أقاربه الأدنين منها، وأن يكون لهذا الموقف أثر فيهم. وأن يتخذ الزعماء موقفهم حجة للانصراف والمكابرة، أو وسيلة للدعاء بين عامة الناس ضدها﴾. وقد دامت هذه الأزمة نحو عشرين عاماً، حتى فتح مكّة.
٥ ـ إن الأزمة النفسية الخامسة كانت في غيرة محمد وجماعته من سلطان المعارضين وثروتهم من مال وبنين. فكانوا يستعلون عليهم: ﴿واذا تُتلى عليهم آياتنا بيّنات، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أي الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسن نديّاً؟ (مريم ٧٣). وهذا الاعتداد بمقامهم ونديّهم يجعلهم يستكبرون على الدعوة: ﴿وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً! وما نحن بمعذّبين﴾ (سبأ ٣٥). وكان هذا الاستعلاء على الدعوة سبباً في صد الناس عنها وسبباً لمرارة دائمة في نفس محمد، قال يصفها على لسان موسى من فرعون: ﴿وقال موسى: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا! ربنا، ليضلوا عن سبيلك! ربنا اطمس على أموالهم! واشددْ على قلوبهم! فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم﴾ (يونس ٨٨). ويتجمع مع الألم الغيرة من حال المشركين في الثروة: ﴿ولا تمدّنَّ عينيك الى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى! نحن نرزقك والعاقبة للتقوى﴾ (طه ١٣١ ـ ١٣٢). وعاد النبي الى فتنته وأزمته، فعاد الوحي الى تأديبه: ﴿لا تمدّنَّ عينيك الى ما متعنا به أزواجاً منهم، ولا تحزن عليهم، واخفض جناحك للمؤمنين﴾ (الحجر ٨٨). وهذا الموقف النبوي ليس من الإِعجاز في الشخصية والقداسة.
٦ ـ إن الأزمة النفسية السادسة كانت، عكس السابقة، في تبرّم النبي بجماعته من الفقراء، عند أنفة المشركين من مجالسته وهم معه. فيأتيه التحذير والتأديب: ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ (الحجر ٨٨). لكنه يعود لمثلها، فيعود الوحي الى التنبيه والترهيب: ﴿واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين﴾ (الشعراء ٢١٥). وينص القرآن على تضايق محمد بأتعس المؤمنين كالأعمى واليتيم والسائل: ﴿عبس وتولّى، أن جاءَه الأعمى...﴾ (عَبس ١ ـ ٢)، ﴿أما اليتيم فلا تقهرْ! وأما السائل فلا تنهر!﴾ (الضحى ٩ ـ ١٠). وقد تشتد الأزمة بالنبي فيطرد المؤمنين من مجلسه: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه! ما عليك من حسابهم من شيء! وما من حسابك عليهم من شيء! فتطردهم، فتكون من الظالمين!﴾ (الأنعام ٥٢). فيأمره الوحي بالصبر عليهم: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه! ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا! ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه، وكان أمره فُرُطاً﴾ (الكهف ٢٨). فكأن موقف النبي في ذلك مظاهرة للكافرين، فيردعه الوحي ردعاً جميلاً: ﴿وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب، إلاّ رحمةً من ربك: فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين! ولا يصدُّنك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك! وادعُ إلى ربك ولا تكوننَّ من المشركين!﴾ (القصص ٨٦ ـ ٨٧).
وقد علّق دروزة ٩ على هذه الأزمة المتواصلة بقوله: ﴿ونعتقد أن آيات الأنعام (٥٢ ـ ٥٣) والكهف (٢٨ ـ ٣٠) والإسراء (٧٣ ـ ٧٦) والقصص (٨٥ ـ ٨٨). .. تنطوي على مشاهد من أزمات النبي r النفسية. إذ يصحّ أن يُقال في صدد آيات (الأنعام والكهف) إن النبي إذا كان خطر على باله أن يهمل الفقراء والمساكين من المسلمين، أو يصرفهم عنه، حينما احتج الزعماء وطلبوا إقصاءَهم عنه ليجلسوا اليه ويتحدثوا معه، فإنما كان هذا في ساعة من ساعات أزماته النفسية، ومنبعثاً عن حزنه الشديد لتمسك الزعماء بجحودهم ومعارضتهم ومتابعة الناس لهم، وعن أمله في انحياز المعتدلين الى صفه. وإذ يصح أن يقال هذا كذلك في صدد آيات (الإسراء والقصص)، وما يمكن أن يكون قد خطر على باله من التساهل والاستجابة لبعض مقترحات هؤلاء الزعماء﴾.
وهذا أيضاً من الإِعجاز في الشخصية النبوية.
٧ ـ إن الأزمة النفسية السابعة كانت مزدوجة متواصلة طول مدة الدعوة. كانت أولاً في تحدّي المشركين له بمعجزة، نحو خمس وعشرين مرة صريحة، غير الضمنية، طول العهد بمكة. وكان جوابه العجز الدائم عن معجزة، والتهرّب من مواجهتهم، والقنوط من نجاح دعوته. وكانوا يقولون: ﴿لن نؤمن حتى نُؤتى مثل ما أُوتي رسل الله﴾ (الأنعام ١٢٤). وإذا لم يأتيهم بآية كالأنبياء الأولين، ﴿قالوا: أضغاث أحلام! بل افتراه! بل هو شاعر! فليأتنا بآية كما أرسل الأولون﴾ (الأنبياء ٥). فدعاهم مراراً الى الانتظار، وانتظر معهم طويلاً فما جاءَت المعجزة، حتى امتنعوا عن الإيمان به: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا... إلاّ أن تأتيهم سُنّة الأولين﴾ (الكهف ٥٥). أخيراً تحقق أن المعجزات منعت عنه منعاً مبدئياً مطلقاً: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات، إلا أن كذب بها الأولون﴾ (الإسراء ٥٩) فكاد النبي والمؤمنون أن ييأسوا: ﴿ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال! أو قطعت به الأرض! أو كُلِّمَ به الموتى! ـ بل الأمر الله جميعاً! أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً﴾ (الرعد ٣١). أما المشركون فيئسوا وكفروا: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). آيته الوحيدة شهادة أولي العلم من أهل الكتاب.
وهاجر مع جماعته الى المدينة، فلقيه هناك تحدّ أكثر ايلاماً، مناورات المنافقين واستهزاؤهم من أول العهد (البقرة ١٤) حتى آخره (التوبة ٦٤ ـ ٦٥).
فكلها أزمات نفسية متواترة متراكمة تهدّ الجبال هدّاً. فصمد النبي لها. إنها البطولة في معركة الصمود. لكنها، إن دلت على شيء، فهي تدلّ على ﴿بشرية﴾ محمد في شخصيته. وما ظهر فيها من انفعالات وثورات نفسية، وعزم حيناً على الأنتحار، وحيناً على الهجرة، كل هذا لا يدلّ على إِعجاز في الشخصية. فالإِعجاز في الشخصية يقتضي السكينة النفسية في المحنة، والصمود حتى الاستشهاد.
ثالثاً: الذنب والاستغفار
إن الرسول مثال لأمته وللبشرية جمعاء بقداسة السيرة. وقداسة السيرة قد تأتلف مع الهفوات البشرية العابرة. لكنها لا تنسجم مع الاقرار المتواتر بالذنب، ومع الأمر المتواتر بالاستغفار.
ظاهرة كبرى في القرآن هي شعور محمد بالذنب. كان يشعر بالذنب في أول أمره: ﴿ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك﴾ (الشرح ١). ووزر ينقض الظهر ليس بالصغير ولا بالحقير! فسّره الزمخشري: ﴿والوزر الذي أنقض ظهره مثل لما كان يثقل على رسول الله ويغمه من فرطاته قبل النبوّة﴾. وقال البيضاوي: ﴿ووضعنا عنك وزرك، أي عبأك الثقيل الذي انقض ظهرك: وهو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة﴾.
وفي أوج النبوّة والرسالة يزداد الشعور بالذنب، يُقال له: ﴿إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ (الفتح ١). فإن الذنوب لا تنتهي. جاءَ في تفسير ابن عباس: ﴿لكي يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك قبل الوحي، (وما تأخر) ما يكون بعد الوحي الى الموت﴾. قال الزمخشري: ﴿يريد جميع ما فرط منك، وعن مقاتل: ما تقدم في الجاهلية وما بعدها. وقيل: ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد﴾. ويجمع الجلالان الآيتين في صورة واحدة تكشف عن نفسية النبي العربي: ﴿ووضعنا عنك وزرك الذي أثقل ظهرك. وهو كقوله: ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر﴾. وهذا الشعور الدائم بالاثم يدل على ضمير حي، لكنه، لا يدل على إِعجاز في الشخصية القدْسية.
وهناك صورة قاتمة، حضور الشياطين وهمزاتهم للنبي، ﴿قلْ: ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك، ربِّ، أن يحضرون﴾! (المؤمنون ٩٧ ـ ٩٨). إن الأمر بالاستعاذة هو للنبي نفسه: ﴿قلْ﴾. والاستعاذة دليل الأمر الواقع. وهو يفرض هذه الاستعاذة خصوصاً في قراءَة القرآن، خوفاً من التبديل فيه: ﴿فإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم... وإذا بدّلنا آية مكان آية، والله أعلم بما ينزل، قالوا: إنما أنت مفتر!﴾ (النحل ٩٨ و١٠١). ويظهر أن الشيطان يحضر التنزيل ويدسّ فيه: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلاّ اذا تمنّى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته! فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته، والله عليم حكيم﴾ (الحج ٥٢). وحضور الشيطان قد يكون في أحداث السيرة: ﴿خذ العفو، وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين: وإمّا ينزَغنَّك من الشيطان نزْغ، فاستعذ بالله إنه سميع عليم﴾ (الأعراف ١٩٩ ـ ٢٠٠) أي ﴿يصرفك عمّا أمرت به صارف﴾ من الشيطان (الجلالان). وقد تكون ملاحقة الشياطين في كل أمر: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة: ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يُلقّاها، إلا الذين صبروا، وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم. وإمّا ينزغنَّك من الشيطان نزْغ فاستعذ بالله، انه هو السميع العليم﴾ (فصلت ٣٤ ـ ٣٦). أي ﴿يصرفك عن الخصلة وغيرها من الخير صارف﴾ (الجلالان). قيل: وكان محمد يصلي كل يوم قبل النوم المعوذتين ليبعد نزغ الشيطان وهمزاته. فهذا الهلع الدائم من حضور الشياطين وهمزاتهم في السيرة والدعوة، صورة لا توحي بالسلطان عليهم ولا هي دليل على إِعجاز الشخصية القدْسية.
ويأتي الأمر المتواتر للنبي بالاستغفار، فيدلّ دلالة قاطعة على وقوع الذنوب في سيرة الرسول، وأن العصمة من الخطيئة أسطورة. فالله يأمر محمداً بالاستغفار من ذنبه مراراً: ﴿فاصبرْ إن وعد الله حق، واستغفر لذنبك وسبّح بحمد ربك بالعشي والأبكار﴾ (غافر ٥٥). وبما أن الاستغفار والتسبيح مطلوبان كل يوم صباحَ مساءَ، فهذا يدل على الذنب الممكن كل يوم! والرسول والمؤمنون سواءٌ في الذنب والاستغفار: ﴿واستغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات﴾ (محمد ١٩). علق الأستاذ صبحي الصالح ١٠ : ﴿من المعلوم أن العفو لا يكون إلاّ عن ذنب، كما أن المغفرة، إلاّ بعد ذنب. وقد صرّحت الآية بهذا في سورة الفتح: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر﴾.
ويختم القرآن الدعوة والسيرة، في ذروة النصر والفتح بالأمر الدائم بالاستغفار: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً: فسبّحْ بحمد ربك واستغفره، إنه كان توّاباً﴾ (سورة النصر). إن محمداً يؤمر بالاستغفار حتى في نصر الله والفتح، لأن فيهما ما يستوجب الاستغفار من الذنوب.
فلم يكن محمد معصوماً من الذنوب في سيرته وتأدية رسالته. وعصمة الرسل إنما هي في الوحي والتنزيل، لا في السيرة ولا في السريرة، لا في القيام بالدعوة ولا في تأدية الرسالة. ومن عصمه الله في هذا فقد عصمه فوق عصمة الرسل. وهذه العصمة في السيرة لم ينلها محمد بنص القرآن القاطع، كما مرَّ بنا.
يقول الأستاذ عبد الله السمان ١١ : ﴿والفترة التي قضاها محمد r نبياً رسولاً، كان فيها بجانب النبوّة والرسالة بشراً، لم يتخلَّ عنه جانب واحد من جوانب البشرية كلها. كان مرتبطاً بالوحي حين يتكلّم ـ فحسب ـ أمّا حين لا يتكلّم الوحي، فله تفكيره وله رأيه، وبجانب ذلك آراء وتفكيرات أتباعه، يستشيرهم ويعتد بآرائهم فيمَا لا رأي للوحي فيه.
﴿ومن البلاهة المركزة أن يُصر بعض البسطاء من المسلمين، ومن كتاب السيرة، على أن محمداً كان معصوماً خلال فترة نبوته ورسالته من كلّ كبيرة وصغيرة، لأن كل حركة وسكنة، وقول وفعل منه، انما كان بوحي. وليس لهؤلاء البلهاء من حجة سوى قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهدى، إن هو إلا وحي يوحى﴾... ويجهل هؤلاء أو يتجاهلون أن المقصود من هاتين الآيتين أن الرسول منزّه عن الهوى، وأن ما يتلوه على الناس من قرآن، ليس من تأليفه، وانما جاءَ به الوحي من عند الله...
﴿إن محمداً طولب بالاستغفار من ذنبه، كما طولبت أمته أيضاً بالاستغفار من ذنوبها. وفي ذلك أكثر من آية. وليس هناك ما يدعو الى الخلط والتأويل الفاسد (كما يقول بعضهم: ان المقصود بأمر الاستغفار أمة محمد، وليس محمداً نفسه). ..
﴿في القرآن صور من عتاب الله لمحمد، وليس العتاب إلاّ نتيجة لمجانبة الصواب وارتكاب الخطأ. وليس من المعقول مجاراة أولئك المغالين الذين يحرصون ـ بل يُصرّون ـ على أن يضفوا على شخصية محمد هالة من التقديس الذي يأباه محمد نفسه، لأنه في غنى عنه. وليست عظمة الشخصية في أن تكون معصومة من الخطأ... (ثم ينقل بعض نماذج من صور العتاب لمحمد).
﴿هذه بعض نماذج من صور العتاب لمحمد، في كتاب الله عزّ وجلّ، حتى يتبين لنا أن العصمة من الزلل والخطأ إنما هي لله وحده...
﴿ومحمد كان بشراً قبل أن يكون رسولاً. ثم صار بشراً رسولاً. ولم تكن صفة النبوّة والرسالة لتحول دون طبيعته البشرية، أو تحول بينه وبين الانحراف في السلوك الشخصي، في ما هو بعيد عن نطاق الوحي. فهو معصوم حين يتدخل الوحي ـ لأن الله هو الموجه، والعصمة له وحده ـ وهو غير معصوم حين لا يتدخل الوحي، لأنه بشر، والبشر ليست العصمة واجبة بالنسبة إليهم...
﴿ولذلك كان ـ كما جاءَ في صحيح مسلم وغيره ـ يستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة. وكان من دعائه، كما ورد في الصحيح: ﴿اللهم اغفر لي خطأي وجهلي، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدّي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي﴾.
وهكذا فإن محمداً، خارج نطاق الوحي، ليس معصوماً من الخطأ، وليس معصوماً من الخطيئة. وبرهان ذلك عتاب الله مراراً له، والأمر المتواتر بالاستغفار من الذنوب.
وكم تكون عظمة الشخصية كبيرة، إذا كانت معصومة من الذنب، الذي لم يسلم منه بشر، ولا نبي ولا رسول. وهذه العصمة المعجزة في السيرة لم ينلها سوى السيد المسيح: ﴿وجعلني مباركاً أينما كنت... والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً﴾ (مريم ٣١ ـ ٣٣). انها سيرة مباركة في كل زمان ومكان، وتستحق سلام الله عليها في كل الأحوال من المهد الى اللحد، ومن الأرض الى السماء. إن روح القدس كان يؤيد السيد المسيح في الوحي، وفي السيرة، وفي الدعوة، ﴿يسير معه دائماً﴾، ﴿لا يفارقه ساعة﴾. فهذا التأييد هو مصدر العصمة من الخطيئة والخطأ عند السيد المسيح.
عصمة في الوحي، وعصمة من الخطأ في السلوك، وعصمة من الإثم، هذا هو الإِعجاز المطلق في الشخصية النبوية عند المسيح. أما محمد فليس من إِعجاز في سيرته الشخصية يجعلها معجزة رسالته ودعوته. إننا لا ننكر إِعجازاً في سيرة النبي الشخصية، لكننا نستنكر أن يكون هذا الإِعجاز معجزة إلهية.
بحث ثان
سيرة محمّد البيتية
كان النبي العربي ﴿أسوة حسنة﴾ لأمته في الجهاد. فهل كان أيضاً ﴿أسوة حسنة﴾ لأمته في تحقيق شريعة القرآن الزواجية؟ إن القرآن نفسه عدل في طغيان ﴿بشريته﴾ على الشريعة في سيرته البيتية.
أوّلاً: استباحة شريعة القرآن الزواجية
كانت إباحة تعدّد الزوجات قائمة في جاهلية العرب. وجاء القرآن فحصر عدد الزوجات الحرائر بأربع معاً، وترك الزواج من الإماء بلا حدّ: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم﴾ (النساء ٣)، ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة﴾ (النساء ١٢٩). فالعدول عن الواحدة حتى الأربع معاً مشروط بالعدل بينهن، في النفقة والمبيت (أي العلاقات الجنسية)، وعلى قدر المستطاع في الحب، لكن هذا مستحيل، فيجب تلافي خطره.
وجرى القرآن في هذا التحديد حتى الأربع معاً، على سنن أهل الكتاب الذين انتهوا في التلمود الى هذا الحصر. وكان النصارى من بني إسرائيل في الحجاز على هذه الشريعة، فجاء: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم والله عليم حكيم﴾ (النساء ٢٦). فهذا الحصر بأربع معاً، حكمة من علم الله.
١ ـ القرآن يُبيح لمحمّد شريعة الزواج فيه
ظل محمد على زوجة واحدة طالما السيدة خديجة، وابن عمها أستاذه ورقة بن نوفل، قس مكّة، على قيد الحياة.
فلمّا توفيت الحاضنة تزوج محمد في وقت قصير، من الهجرة الى غزوة الخندق، من أربع معاً على التوالي: سودة بنت زمعة ثم عائشة بنت أبي بكر ثم أُمّ سلمة بنت أبي أُميّة المخزومية ثم حفصة بنت عمر. عند هذا الحد كان على شريعة القرآن.
وجاءَت غزوة الخندق فزلزل المسلمون زلزالاً عظيماً. ولمّا فشلت الحملة وتنفّس المسلمون الصعداء تزوج محمد الخامسة، زينب بنت جحش، مطلّقة متبناه زيد. فكان الزلزال في الجماعة وفي بيت النبي أعظم، لأن هذا الزواج من خامسة نقض لشريعة القرآن، ونسخ لشرعة التبني، ممّا جعل اليهود يرددون: ﴿تزوج محمد حليلة ابنه بالتبني﴾. فجاء القرآن أولاً يمنع نبيه من كل زواج بعدها: ﴿لا يحلّ لك النساء من بعد، ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج، ولو أعجبك حسنهنَّ، إلاّ ما ملكت يمينك. وكان الله على كل شيء رقيباً﴾ (الأحزاب ٥٢). لكن الضجة الكبرى في الجماعة لم تهدأ حتى نزل التهديد بالقتل: ﴿لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة، لنغرينّك بهم، ثم لا يجاورونك فيها إلاّ قليلاً، ملعونين، أين ما ثُقفوا أُخذوا وقُتّلوا تقتيلاً﴾ (الأحزاب ٦٠ ـ ٦١).
ومع تقدّم الغزو والفتح والسلطان، تزوج محمد أيضاً ﴿جويرية بنت الحارث المصطلقية، ثم أُمّ حبيبة، رملة أخت أبي سفيان، ثم صفية بنت حيي الخيبرية، ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية، ثم فاطمة بنت سريج، ثم زينب بنت خزيمة، ثم هند بنت زيد، ثم أسماء بنت النعمان، ثم هبلة بنت قيس، أخت الأشعث، ثم أسماء بنت سبأ﴾. فهذه عشر نساء أُخر، غير الخمس الأولى، وغير السيدة خديجة المتوفاة.
نقل الواحدي: ﴿والمجمع عليه أنه تزوج أربع عشرة، التسع التي مات عنهنّ، وتزوج أيضاً خديجة وزينب بنت خزيمة وريحانة، ومتن عنده﴾. أمّا الإماء، أو ملك اليمين، فلا نعرف له إلا ريحانة القرظية، ومريم القبطية. فيكون المجموع ست عشرة زوجة.
نزلت التحلة الكاملة من شرعة الزواج القرآنية: ﴿يا أيها النبي، إنّا أحللنا لك أزواجك اللآتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك ممّا أفاء الله عليك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، اللآتي هاجرن معك، وامرأة مؤمنة ـ إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها ـ خالصة لك من دون المؤمنين. قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم، لكيلا يكون عليك حرج. وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الأحزاب ٥٠).
السبب في هذه التحلة المطلقة هو رفع الحرج عن محمد من الشريعة القرآنية، ومن الحاجة الشخصية. وذكر الغفران والرحمة إشارة الى أن تلك الزيجات كانت ضد الشريعة.
وضعوا آية التحلة الكاملة في سورة (الأحزاب ٥٠)، قبل آية المنع (٥٢) فخلقت للقوم مشكلاً في الناسخ والمنسوخ، حيث هنا يأتي الناسخ (٥٠) قبل المنسوخ (٥٢). لكن هذا دليل على أن المنع نزل قبل التحلة. وهذه لم تأتِ إلاّ في آخر حياة النبي بحسب الحديث عن عائشة: ﴿ما مات رسول الله r حتى أُحِلَّ له النساء﴾ أي ما شاء بدون قيد ولا حد من شريعة القرآن، وبحسب حديث عائشة وأم سلمة معاً: ﴿لم يمت رسول الله r حتى أحل له أن يتزوج من النساء مَن شاء، إلا ذات محرم﴾.
والاسوة الحسنة في سيرة محمد الزواجية نراها في شماتة اليهود، بعد زلزال جماعته ومشاكل حريمه. قال عمر بن عفرة: ﴿لما قالت اليهود: (ما لمحمد شغل إلاّ التزوج) فحسدوه على ذلك، فأنزل الله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله﴾). فكثرة النساء على قيد الشريعة القرآنية فضل من الله على نبيه، لرفع الحرج عنه. إن القرآن نفسه أباح لمحمد شريعة الزواج فيه، مع أن النبي مثال لشريعته وأمته، و﴿أسوة حسنة﴾.
٢ ـ ميزات محمّد في شريعة الزواج القرآنية
الميزة الأولى هي إحلال نسيباته كلهن له، وإن زاد العدد على الأربع.
الميزة الثانية هي الإباحة في العدد بلا قيد ولا حد، كما في قوله: ﴿وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي... خالصة لك من دون المؤمنين﴾. فيحق لكل مسلمة غير ذات محرم أن تهب نفسها للنبي، فإن فعلت فهي خالصة له من دون المسلمين، والتنكير دليل الإطلاق والتعدد. في (أسباب النّزول) للسيوطي، أن أُم شريك الدوسية عرضت نفسها على النبي r وكانت جميلة فقبلها. فقالت عائشة: ﴿ما في امرأة تهب نفسها لرجل خير﴾، فنزلت الآية فلما نزلت قالت عائشة: ﴿إن الله يُسرع لك في هواك﴾.
الميزة الثالثة هي تحلة النكاح لمحمد، بلفظ الهبة، من غير صداق، مع أنه لا يحل الزواج في شريعة القرآن إلا بولي وشهود وصداق أي مهر.
الميزة الرابعة هي التخيير في المضاجعة والطلاق: ﴿تُرجىء من تشاء منهنّ، وتؤوي إليك مَن تشاء﴾ (الأحزاب ٥١). فسّره الزمخشري: ﴿تؤخر وتضم، يعني تترك مضاجعة من تشاء منهنّ، وتضاجع من تشاء، أو تطلّق من تشاء، وتمسك مَن تشاء؛ أو لا تقسم لأيهنّ شئت، وتقسم لمن شئت، أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك، وتتزوّج من شئت﴾. فلا جناح على النبي ١) في الطلاق ٢) وفي المضاجعة ٣) وفي القسمة بين نسائه ٤) وفي التزوج بمن يشاء من نساء أمته غير ذات محرم. لقد أعفى القرآن محمداً من شرعة العدل بين نسائه. قال الجلالان: ﴿والله يعلم ما في قلوبكم من أمر النساء والميل الى بعضهنّ. وانما خيَّرناك فيهنّ تيسيراً عليك في كلٍ ممّا أردت﴾.
الميزة الخامسة هي التخيير في إرجاع المعزولة: ﴿ومن ابتغيت ممن عزلت، فلا جناح عليك﴾ (الأحزاب ٥١). فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة أيضاً: ﴿أرى ربك يُسارع لك في هواك﴾! أخرجه الشيخان، كما جاء في (أسباب النزول) للسيوطي.
الميزة السادسة هي الاستئذان قبل الدخول الى بيوت النبي، بدون الاستئناس الى حديث بعد الطعام (الأحزاب ٥٣). وهذه عادة الملوك والأمراء، وقد أخذ محمد يقتدي بهم في معاملة أمته.
الميزة السابعة هي الحجاب على نسائه: ﴿وإذا سألتموهن متاعاً، فاسألوهن من وراء حجاب، ذلك أطهر لقلوبكم ولقلوبهنّ﴾ (الأحزاب ٥٣). أليس في هذا شك من طهارة قلوب ﴿أُمهات﴾ المؤمنين؟ إن (اسباب نزول) آية الحجاب كثيرة. منها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: ﴿كنت آكل مع النبي r في قصب، فمرّ عمر بن الخطاب فدعاه. فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي فقال: (أوّاه، لو أطاع فيكنَّ ما رأتكن عين) فنزلت آية الحجاب. وعن ابن عباس: قال له عمر، يا رسول الله لو اتخذت حجاباً فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن. فنزلت آية الحجاب﴾. وفرض الحجاب على نساء الملوك والأمراء عادة شرقية اقتبسها النبي لأمهات المؤمنين في معاملة أمته.
الميزة الثامنة هي تحريم الزواج من نساء النبي من بعده: ﴿وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً. إن ذلكم كان عند الله عظيماً﴾ (الأحزاب ٥٣).
جاء في (أسباب النّزول) للسيوطي عن ابن عباس: ﴿إن رجلاً أتى بعض أزواج النبي r فكلّمها، وهو ابن عمها. فقال النبي r : (لا تقومنَّ هذا المقام بعد يومك هذا)! فقال: (يا رسول الله، إنها ابنة عمي! والله ما قلت منكراً، ولا قالت لي!). قال النبي r : (قد عرفت ذلك: إنه ليس أحد أغير من الله. وأنه ليس أحد أغير مني). فمضى وهو يقول: يمنعني من كلام ابنة عمي. لأتزوجنها من بعده. فأنزل الله الآية).
فلا يحق لمطلقة النبي أن يتزوجها أحد. ولا يحق لأرملة النبي ـ حتى ولو كانت صبية مثل عائشة ـ أن ينكحها أحد. لقد منع نكاح أزواجه من بعده، كما منعه التلمود بحق نساء ملوكهم من بعدهم، وكما كانت عادة الملكات والأميرات في الشرق.
إذا كان من تحرير للمرأة في الإسلام، فيجب أن يبدأ ﴿بأمهات﴾ المؤمنين. لكن ماذا نرى؟ لا حرج على محمد في عدد الزوجات. ولا حرج عليه في نكاح نسيباته كلهنّ. ولا حرج عليه في كل ﴿امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي﴾. ولا حرج عليه في شروط عقد النكاح. ولا حرج عليه في العدل بين نسائه. ولا حرج عليه في الطلاق. ولا حرج عليه في العزل والارجاع.
بل الحرج كل الحرج على نسائه في الحجاب، وفي المعاطاة مع الناس، وفي القناعة بما يقسم لهنّ، وفي الظهور والزينة، وفي الزواج من بعده.
والحرج كل الحرج على المسلمين في قيود النكاح، وشروط الطلاق؛ وبالنسبة إلى النبي، في نكاح أزواجه من بعده، مطلّقات كنّ أم أرامل، وفي نكاح كل من وهبت نفسها للنبي، وفي الاستئذان لدخول بيوته، وفي الاستعجال بالخروج منها متى قضيت الحاجة، وفي عدم إيذاء النبي بحديث في حوادث نسائه.
إن مقام النبوّة لا يُقيد بالقيود المفروضة بالقرآن على المسلمين. فقد انتهت السيرة النبوية بالتحلة المطلقة من شريعة الزواج القرآنية. مع أنه بحسب الفطرة في كل دين، يكون النبي مثالاً حياً لشريعته وأمته. فهل بتلك الميزات في شرعة الزواج كان محمد ﴿أسوة حسنة﴾؟
٣ ـ أسباب تعدّد الزوجات في سيرة محمد
يُقال: لتعدّد الزوجات في حياة محمد أسباب وجيهة:
هناك أسباب سياسية ظاهرة، كما في زواجه من بنت أبي بكرٍ، ومن بنت عمر، ومن بنات زعماء القبائل. هذا أمر لا مراء فيه.
وهناك أسباب انسانية واضحة، كما في زواجه من سودة بنت زمعة، أو السيدة القرظية التي فضّلت أن تبقى مُلك يمينه. هذا أيضاً لا مراء فيه.
وهناك سبب آخر أقوى، على زعمنا، وهو شهوة الولد. يقول الأستاذ دروزة ١٢ : ﴿روايات السيرة المتعددة، التي بلغت مبلغ اليقين تخبر أن النبي r قد رُزق أولاداً ذكوراً من السيدة خديجة. زوجته الأولى، ومن أمته مارية. ولكنهم لم يعمّروا إلاّ قليلاً. وقد رُوي أن النبي r التاع أشدّ اللوعة عندما مات إبراهيم بن مارية في يثرب. وروح السورة (الكوثر) تُلهم أن تعيير النبي r (بالأبتر) قد حزَّ في نفسه كثيراً. وقد يكون في هذا ما يدل على أن عدم تعمير أبنائه الذكور كان شديد الأثر فيه. ولقد ذكر بعض الكتّاب أن ممّا يمكن أن يخطر بالبال أن يكون زواج النبي r بعائشة وصفية وجويرية وميمونة ومارية رضي الله عنهنّ، وكلهنّ فتيات (بينما هو قد تخطى الخمسين) بسائق الرغبة في الأولاد الذكور. ولا يخلو هذا من بعض الوجاهة فيما نرى﴾.
لكن تلك الأسباب الوجيهة لا تكفي لتخطّي النبي حدود الشريعة القرآنية، أو لقيام شرعة للمسلمين وشرعة أخرى لمحمد في النكاح. فكيف يكون بذلك ﴿أسوة حسنة﴾ لأمته؟
وهناك سببان آخران لتعدّد الزوجات يصرّح بهما القرآن.
فالقرآن صريح، بنصه القاطع، بأن الهوى والجمال من أسباب تعدد الزوجات: ﴿لا يحلّ لك النساء من بعد، ولا أن تبدّل بهن من أزواج، ولو أعجبك حسنهنّ﴾ (الأحزاب ٥٢)، ﴿وتقديره: مفروضاً اعجابك بهنّ﴾ (الزمخشري).
وهذا التصريح بحسن النساء سبباً للزواج، يأتي في قصة زواجه من زينب بنت جحش، بعد أن كان عنده أربع نساء معاً، ولم تنزل التحلّة المطلقة بعد. علّق الزمخشري على قوله: ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلّق قلبه بها. وعن عائشة: لوكتم رسول الله r شيئاً مما أُوحي اليه، لكتم هذه الآية. و(الواو) في (وتخفي وتخشى) للحال. أي تقول لزيد (امسك عليك زوجك) مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قالة الناس... (والله أحق أن تخشاه) حتى لا تفعل مثل ذلك﴾. فالهوى والجمال كانا سبب زواجه من زينب بنت جحش، الذي جعله يتخطى شريعة القرآن، قبل نزول التحلة المطلقة، وكان سبباً في إبطال التبنّي، العادة الرحيمة القائمة في كل الشرائع عند جميع الشعوب (الأحزاب ٣٧).
والسبب الآخر لهذين التجاوزين كان رفع الحرج عن محمد، الحرج الشرعي والحرج الشخصي، والحرج الاجتماعي، في تحليل النساء له بلا حد ولا قيد: ﴿قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، لكي لا يكون عليك حرج. وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الأحزاب ٥٠). ففي التحلة المطلقة الشاملة كان السبب الأول رفع الحرج عن النبي، والسبب الثاني المغفرة للنبي لأنه تعدّى العدد المفروض، والرحمة به: ﴿وكان الله غفوراً رحيماً﴾. فذكر الغفران عند إباحة النساء له، دليل على أنه في زواجه من زينب، وفي تعدد الزوجات، كان ما يستوجب الغفران، قبل التحلة.
ويؤيد هذا كله كما نقل الصحيحان وكما جاء في (أسباب النّزول) قول عائشة في زواج الهبة: ﴿إن الله يُسرع لك في هواك﴾، وقول عائشة أيضاً لمّا نزلت التحلة من الشريعة القرآنية في النكاح: ﴿أرى ربك يُسارع لك في هواك﴾.
فتعدد الزوجات في حياة محمد لأسباب سياسية وانسانية وشخصية، لا يمنع أن يكون أيضاً سببه الهوى والجمال، بنص القرآن القاطع: ﴿ولو أعجبك حسنهنَّ﴾.
ثانياً: من المشاكل التي نشأت عن استجابة الشريعة القرآنية
نقول: ﴿إستباحة الشريعة القرآنية﴾، لأننا لا نعلم بالتدقيق زمن نزول آية التحلة المطلقة (الأحزاب ٥٠). والظاهر إنها مقحمة على سورة (الأحزاب) من أواخر النزول وحياة الرسول: أولاً بسبب نصّها الذي يحمل التحلة الشاملة: ﴿يا أيها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن﴾، مما يدل على أنهنَّ كنّ قبل هذه التحلة غير حلال، ونكاحهنَّ كان استباحة للشريعة القرآنية، ثانياً لأنها ناسخة لآية المنع التي نزلت بعد الزوجة الخامسة، زينب بنت جحش، والآية تابعة لها في النسق (الأحزاب ٥٢). وهذا من غريب الناسخ والمنسوخ في القرآن كما جاء في (الإتقان ٢: ٢٤) للسيوطي: ﴿ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب، إلا في آيتين، آية العدد في (البقرة) وقوله: (لا يحل لك النساء من بعد﴾). يدل أيضاً على اقحامها حديث عائشة ثم حديث عائشة وحفصة: ﴿ما مات رسول الله r حتى أحلّ له النساء﴾، ممّا يدل على أن التحلة كانت من أواخر النزول وحياة الرسول. قال دروزة ١٣ : ﴿وقد ذكرت روايات السيرة أن النبي r كان يجمع في عصمته حين نزول الآيات (الأحزاب ٥٠ ـ ٥٢) تسع زوجات بعقد﴾. والمسألة الضخمة إن محمداً، الاسوة الحسنة لأمته، قد استباح شريعة القرآن وعاش أزمة ضمير حادة، في زيجاته كلها، بعد الأربع الشرعيات، حتى نزلت آية التحلة في آخر حياته، ومعها الغفران.
فالاستباحة الأولى كانت في زواجه من زينب بنت جحش، الزوجة الخامسة. كان من نتائجها ومشاكلها آية المنع: ﴿لا يحل لك النساء من بعد﴾؛ لكن النبي استحلهنَّ. كذلك كان إبطال عادة التبنّي، وفيه رفع رحمة انسانية من الشريعة القرآنية، بخلاف عادة العالمين وشرائعهم. ثم ﴿حديث الإفك﴾ بحق عائشة، كما سيأتي بيانه، وأنفة ريحانة القرظية من الزواج حرّة بمحمد. فبعد تصفية بني قريظة من المدينة، ﴿اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة... وقد كان رسول الله r عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب. فقالت: يا رسول الله، بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك. فتركها﴾ ١٤ .
والاستباحة الثانية لشريعة الزواج القرآنية، بعد غزوة بني المصطلق، في زواجه من جويرية بنت الحارث المصطلقية، سيّد قومه. قالت عائشة: ﴿وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلاّ أخذت بنفسه. فوالله ما هو إلاّ أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها، وعرفت أن النبي r سيرى منها ما رأيت. فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه. وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك. فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس ـ أو لابن عمّه ـ فكاتبته على نفسي. فجئتُك استعينك على كتابتي. قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو ، يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك، وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. قال: قد فعلت﴾ ١٥ . أجل لهذا الزواج سبب إنساني، وهو الرفع من كرامة السيدة المسبيّة. لكن حديث عائشة قاطع بأن سبب الزواج الحقيقي الهوى والجمال. لكن ذلك خلّف الكره في نفس عائشة.
والاستباحة الثالثة كانت في زواج محمد من صفية الخيبرية. بعد صلح الحديبية مع قريش غزا محمد معاقل اليهود في الشمال. فكانت غزوة خيبر في آذار ٦٢٨ م وكان من غنائمها صفية بنت حيي الخيبرية التي قتل ﴿أباها وزوجها وقومها﴾، ﴿أعرس بها r في خيبر أو ببعض الطريق﴾. كان لهذا الزواج مسحة انسانية، التخفيف عن سيّدة قومها. لكن ما نظن محمداً بغافل عن خلْق مثل هذه اليهودية حتى يوقن أن زواجه ﴿ممن قتل أباها وزوجها وقومها﴾ يخفف عنها. وما ظن ذلك الصحابة، فإنه لما أعرس محمد بها، ﴿بات أبو أيوب، خالد بن زيد، أخو بني النجار، متوشّحاً سيفه، يحرس رسول الله r ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله r ، فلما رأى مكانه قال: ما لك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك﴾ ١٦ . إنما هي عادة الملوك الغزاة، حين الظفر بخصومهم، أن يتزوجوا من نسائهم، دليل السيطرة والاستذلال الكامل. ونعرف من السيرة أن الهوى والجمال كان لهما دور في القصة: ﴿ولما افتتح رسول الله r القَموص حصن بنى أبي الحُقيق، أُتي رسول الله r بصفيّة بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها... فلما رآها (الأخرى) رسول الله r قال: أغْربوا (أبعدوا) عني هذه الشيطانة. وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءَه. فعرف المسلمون أن رسول الله r قد اصطفاها لنفسه﴾ ١٧ .
والاستباحة الرابعة كانت زواجه من أُم حبيبة، أرملة أخت أبي سفيان، زعيم مكّة، وزوجة عبد الله بن جحش الذي توفي على المسيحية في الحبشة. في هذا الوقت رجع المسلمون الباقون من الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالبٍ، ومعهم أُم حبيبة. فتزوجها محمد أيضاً ليرتبط مع أخيها أبي سفيان برباط المصاهرة، كما فعل مع أبي بكرٍ وعمر، توكيداً لصلح الحديبية وتسهيلاً لفتح مكّة. هنا السبب السياسي ظاهر. لكن هل فيه ما يبيح لمثال أمته استباحة شريعة القرآن؟ وزواجان يقعان في فترة وجيزة، في ختام غزوة خيبر!
والاستباحة الخامسة كانت نكاح ميمونة الهلالية، وقعت عمرة القضاء سنة تسع، أي ٦٢٩ م تنفيذاً لمعاهدة الحديبية. ففي هذه العمرة تزوج محمد ميمونة بنت الحارث الهلالية، أخت زوجة العباس عمّه، وخالة خالد بن الوليد. وتولّى العباس نفسه إنكاحه إياها. فارتبط النبي بالمصاهرة مع جناحي مكّة، بني أمية وبني هاشم. فكان ذلك الزواج حافزاً لخالد بن الوليد أنْ يُسلم، فأسلم وأهدى محمداً أفراساً له. وتبعه عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، حارس الكعبة. وقد أسلم بإسلام هؤلاء كثيرون من مكّة. فبات حزب محمد قوياً فيها. وبات فتح مكّة ميسوراً سياسياً. والدافع السياسي لزواج محمد من ميمونة ظاهر. لكن كان فيه نصيب أيضاً للهوى والجمال، ﴿ويقال إنها هي التي وهبت نفسها للنبي r . وذلك أن خطبة النبي r انتهت اليها وهي على بعيرها. فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. فأنزل الله تعالى وتبارك: وامرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي... ١٨
لكن هذه البدعة بزواج الهبة أثارت حفيظة عائشة. فأحلها الوحي القرآني للنبي بتحلة مطلقة لكل ﴿امرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين﴾ (الأحزاب ٥٠). قال دروزة ١٩ في تبرير هذه البدعة: إنها ﴿تنطوي على صورة من صور زواج النبي r الخاصة. فهو، فوق أنه كان يخطب نساءَه ويمهرهنّ جرياً على العادة المعروفة، كان بعض النساء المؤمنات يعرضن أنفسهن عليه هبة. ومما لا ريب فيه إن هذا إنما كان قصد التشرّف بالصلة به والحرص على نيل الكرامة العليا في الزوجية النبوية. وقد أباح الله له الاستجابة لمن شاء منهن، تقديراً لهذه الرغبة في نيل شرف هذه الزوجية الكريمة﴾.
لكن لماذا يُستثنى النبي عن أمته بزواج الهبة، وهو ﴿الاسوة الحسنة﴾ لهم؟ ولماذا هذه الاباحة المطلقة لكل ﴿امرأة مؤمنة﴾؟ وما هذا التسلّط على نساء المسلمين: ﴿خالصة لك من دون المؤمنين﴾؟ ولماذا هذه الإباحة بالهبة من قيود الشريعة القرآنية؟ ولماذا جعل زواج الهبة للنبي مرهوناً بمشيئته، ﴿إن أراد أن يستنكحها﴾، لا بأمر الله وشريعته، مما يجعل رغبة محمد فوق شريعة الله؟ أليست ﴿الكرامة العليا﴾ المذكورة، في احترام النبي لشريعته، وفرض احترامها على النساء المسلمات، لا تحرّرهن من قيودها بزواج الهبة له؟
لذلك من الحق أن يقال: مهما كانت الأسباب وجيهة في تعدّد زوجات محمد، على خلاف الشريعة القرآنية، فتلك الزيجات براهين ناطقة على أن ﴿بشرية﴾ النبي تحدّ كثيراً من إِعجاز الشخصية النبوية.
ثالثاً: المآسي الناجمة عن تعدد زوجات النبي
بدأت هذه المآسي ببدء استباحة محمد للشريعة القرآنية والمأساة تجرّ المأساة. فتظهر هذه الصورة القاتمة في حياة محمد الزوجية. وهي، على رأينا، أخف وطأة من أزمة الضمير التي قامت في وجدانه حتى نزول التحلة المطلقة، في أواخر حياة النبي، فوضعت حداً للمآسي النفسية والبيتية والشرعية.
المأساة الأولى في نكاح زينب بنت جحش، الزوجة الخامسة.
وهذه المأساة لها وجوه عديدة. الوجه الشرعي في تخطي حدود الشريعة القرآنية. ومنه أيضاً اللجوء إلى إبطال عادة التبنّي. يقول دروزة ٢٠ : ﴿هذه الآيات (الأحزاب ٣٦ ـ ٤٠) نزلت على ما أجمعت عليه الروايات في صدد زواج النبي r بزينب بنت جحش، مطلّقة دعيّه أو متبنّاه زيد بن حارثة. ولقد روى بعض الرواة أن النبي r مال إلى زينب بعد زواجها من زيد لِمَا رآه من مفاتنها، وأنها شعرت بذلك فأخت تكايد زوجها. وأن هذا شعر بالأمر فأراد تطليقها ليتسنّى للنبي r أن يتزوجها... ولقد كانت الرواية موضوع نقد ونقاش قديماً وحديثاً. فاستبعدها بعض المفسرين القديمين واستنكروها وقالوا إنها مدسوسة﴾. إذا راجعنا الزمخشري والجلالين نرى أنها غير مدسوسة. لكن الأستاذ دروزة يأتي بتفسير جديد للقصّة: ﴿في الآيات تعليل صريح بأن تزوج النبي r مطلقة متبناه هو لإبطال تقليد حرمه زواج المتبنّي بمطلقة المتبنَّى، ورفع الحرج عن المؤمنين في تزوّج مطلّقات أدعيائهم أو أبنائهم بالتبنّي. ونعتقد أن هذا التعليل هو مفتاح الحادثة. فقد كانت العادة قوية راسخة ولم يجرؤ ـ على ما يبدو ـ أحد على نقضها، بعد أن عابت آيات (الأحزاب ٤ ـ ٦) عادة التبنّي وأمرت بإبطالها. فألهم الله النبي r أن يقوم على إبطال هذه العادة بنفسه في زينب... والعتاب الربّاني في الآيات مصبوب على تردّده في الإقدام على تنفيذ ما ألهم الله خشية انتقاد الناس وحياءً منهم﴾.
إنّما تحليل الأستاذ وتعليله ينقضان صريح القرآن كما فسره الزمخشري. والأستاذ يقلب حقيقة النص السبب مسبَّباً، والمسبّب سبباً. إن إبطال عادة التبنّي كان سبيلاً للحادث، لا سبباً له، كما نقلوا ونقلنا على لسان عائشة: ﴿إن ربك يسارع لك في هواك)! وهل في إبطال عادة التبنّي المعمول بها في عوائد الدنيا وشرائعها كلها من عبقرية في التشريع؟ هل من بطولة في النبوّة أن يقوم محمد ﴿على إبطال هذه العادة بنفسه، ولم يجرؤ أحد على نقضها﴾؟ وفات الأستاذ أنه ينظر الى الفرع، من دون الأصل. والأصل ليس إبطال عادة التبنّي، بقدر ما هو التعدّي على حدود الشريعة القرآنية بالاقتصار على أربع نساء معاً.
هذان العاملان سببّا لمحمد أزمة ضمير دامت حتى نزلت التحلة الكبرى ومعها الغفران. وذلك أيضاً لأن سبب الزواج من زينب بنت جحش كان في الحقيقة والواقع الهوى والجمال، كما في القرآن والحديث والسيرة. يكفي شاهداً تحريم النساء عليه من بعدها.
أخيراً الوجه الاجتماعي في الجماعة. فقد زُلزل المسلمون زلزالاً عظيماً أكثر زلزال غزوة الأحزاب. فهدّد النبي باللعن من يخوض في الأمر: ﴿إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً﴾ (الأحزاب ٥٧). فلم تنتهِ الأزمة. حينئذٍ هدَّد بالنفي والقتل (الأحزاب ٦٠ ـ ٦١)، فهدأت الضجة الكبرى، وعاد الرسول الى المؤالفة والمسايرة (الأحزاب ٦٩ ـ ٧١).
المأساة الثانية: ﴿حديث الإفك﴾ بحق عائشة
عند رجوع القوم من غزوة بني المصطلق، تخلّفت السيدة عائشة عن المعسكر لحاجة، وقدمت الى المدينة مع صفوان بن المعطّل السلمي. فحامت الشبهة حول عائشة ـ وإن كانت فوق الشبهات. لكن ظروف الحال جعلت للشبهة مخرج صدق.
جاءَ في (السمط الثمين، ص ٣٩) عن عائشة أنهنَّ كنَّ في بيت النبي حزبين: حزب عائشة، ومنه حفصة وسودة، وحزب زينب بنت جحش ومنه أمّ سلمة وسائر الأزواج. وكبر حزب زينب بانضمام فاطمة بنت النبي اليه، مع عليّ نفسه، وانضمام المنافقين وعلى رأسهم زعيم يثرب عبد الله بن أبي بن سلول. وجرى ﴿حديث الإفك﴾ يشنّع على عائشة.
روت السيرة لابن هشام (٣: ٣١٢) عن عائشة: ﴿وكان كبْر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول، في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش. وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله r . ولم تكن من نسائه امرأة تناصيني (تساويني) في المنزلة عند غيرها. فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلاّ خيراً، وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادّني لأختها. فشقيت بذلك﴾. واعتزلت عند أبيها.
فتنة في بيت النبي. فتنة بين محمد وأحب نسائه اليه. فتنة بين المسلمين. وكادت تقع الواقعة بين الأوس والخزرج.
وكانت تلك الحادثة السبب البعيد لحرب أهلية في الإسلام بين العلويين أهل البيت، وبين سائر المسلمين، قاتلت فيها عائشة عليّاً وهي على ظهر بعير في صفّين. وهذا أدى الى الانقسام في الإسلام الى شيعة وسنّة.
المأساة الثالثة: ﴿حديث المغافير﴾، وتحلّة القسم
جاء في سورة (التحريم ٢): ﴿قد فرض الله لكم تحلّة إيمانكم﴾
قال عبد المتعال الصعيدي ٢١ : ﴿نزلت هذه السورة في ما كان من عائشة وحفصة حين شرب النبي r عسلاً عند زينب بنت جحش. فتواطأتا وقالتا له: إنّا نشمّ منك رائحة المغافير. وريحُه كريهة منكرة. فلما سمع منها ذلك حرَّم العسل على نفسه. فنزلت هذه السورة لعتابه على تحريم العسل الذي أُحل له، ابتغاء مرضاة أزواجه. وذكر أنه شرع لهم أن يتحلّلوا من إيمانهم بالكفّارة. ليتحلّل من يمينه ويعود الى شرب العسل؛ وتهديد نسائه بطلاقهنَّ إن لم يتبن عن هذه الغيرة فيما بينهنّ. ثم أمر النبي r بمجاهدة الكفّار والمنافقين لئلا تشغله تلك الأمور من نسائه عنها﴾.
هكذا جاء ﴿حديث المغافير﴾ من عائشة وحفصة، انتقاماً لحديث الإفك من جماعة زينب بنت جحش. ففي سورة (النور) نزلت براءَة عائشة من ﴿حديث الإفك﴾؛ وفي سورة (التحريم) نزلت خيانة عائشة وحفصة لسر النبي في حديث المغافير. ويتحلّل محمد من يمينه بتشريع تحلة اليمين بالكفّارة.
المأساة الرابعة: شهر الهجر لنسائه، أو شهر العسل في قصة مارية
أهدى مقوقس مصر لمحمد جارية حسناء اسمها مارية القبطية. وكان لابد من شهر عسل معها، علَّ الله يرزقه منها ولداً. أخرج الطبراني عن أبي هريرة قال: ﴿خلا رسول الله r بمارية سريته في بيت حفصة. فجاءَت فوجدتها معه. فقالت: يا رسول الله، في بيتي، دون بيوت نسائك. قال: فإنها حرام عليَّ أن أمسّها، يا حفصة، واكتمي هذا عليّ. فخرجت حتى أتت عائشة فأخبرتها. فأنزل الله ﴿تحلة الإيمان﴾ ليستحل هو سريته. لكن الفتنة نجمت في بيته، وتحولت الى مأساة، بسبب اعتزاله نساءه شهراً. قال دروزة ٢٢ : ﴿وخلاصة الرأي الأقرب الى الصحة من غيره من أسباب نزول الآيات، أن النبي r كان يطيل المكث عند زوجته زينب ويشرب عسلاً، فتواطأت عائشة وحفصة على الكيد لها، واتفقتا على أن تقولا له: إن رائحته رائحة مغافير.. ففشا الحديث. فغضب النبي r وحلف أن لا يقرب زوجاته شهراً وهجرهنّ، حتى قيل إنه طلقهنّ. وهناك رواية تذكر أن النبي r اجتمع بمارية في بيت حفصة. فلما علمت استرضاها بيمين أن لا يقرب مارية، واستكتمها الخبر. ولكنها أفشته لعائشة. ومهما يكن من أمر الروايات، فالآيات تحتوي صورة حادث بيتي وقع بين النبي r وبعض زوجاته. وأنه وقع بسبب الغيرة النسائية، وأن اثنتين كانتا فيه متآمرتين. وأن هذا آلمه وحزَّ في نفسه حتى همَّ بتطليق نسائه، ثم أوحى الله اليه بالآيات التي اكتفى فيها بالتنديد والانذار﴾.
فالروايات تخلط بين حديث العسل، وحديث مارية. لكن قصة مارية أصحّ الروايات لأن أكل العسل لا يقتضي يميناً ولا سراً مصوناً، ولا تنزيلاً لتحلة اليمين. فشهر العسل مع مارية سبّب شهر هجران لنسائه، أو طلاق، تحولت فيه الأزمة البيتية الى مأساة. وهذه ليست صورة مثالية للحياة الزوجية في بيت النبي. وكان من معالمها تحليل القسم بالكفّارة الشخصية. ومتى كانت تحلة القسم بيد صاحبه، فأية حرمة أو قدسية تبقى للقسم بين الناس؟
المأساة الخامسة: التهديد بالطلاق لنسائه، بسبب تصرفاتهنّ
اشتدّ التحزّب والفتنة في بيت النبي، حتى صارا مأساة عائلية. فلم يكن لمحمد من سيطرة على نسائه إلا بتهديدهنّ بالطلاق: ﴿عسى ربه، إن طلقّكنّ، أن يبدّله أزواجاً خيراً منكن، مسلمات مؤمنات قاتنات تائبات عابدات سائحات، ثيّبات وأبكاراً﴾ (التحريم ٥). هذا تعريض صريح ﴿بأُمهات المؤمنين﴾ الاسوة الحسنة لنساء المسلمين.
هل كانت تقع فاحشة في بيت النبي؟ يقول: ﴿يا نساء النبي مَنْ يأتِ منكنَّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ (الأحزاب ٣٠).
هل كان بعض نسائه تتوغل بالحديث مع الرجال؟ يقول: ﴿يا نساء النبي لستنّ كأحدٍ من النساء، إن اتقيتنَّ فلا تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً﴾ (الأحزاب ٣٢).
وكانت نساء محمد كسائر بنات حوّاء يحببن التبرّج أي ﴿اظهار النساء محاسنهنّ للرجال﴾ (الجلالان). فقال: ﴿وقرْن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى﴾ (الأحزاب ٣٣).
لهذه المشاكل كان يهدّدهن بالطلاق ليحل السلام والفضيلة في بيته. فتلك التصرفات كانت سبب مأساة متواصلة.
المأساة السادسة: هل الإِعجاز الجنسي دليل النبوّة؟
يقول دروزة ٢٣ أيضاً: ﴿قد ذكرت الروايات أن النبي r كان يجمع في عصمته حين نزول الآيات (الأحزاب ٥٠ ـ ٥٢) تسع زوجات بعقد، ست منهنّ قرشيات، وثلاث غير قرشيات. أما الاماء أو ملك اليمين فكان له منهن اثنتان.
﴿ومهما يكن من أمر فآيات (الأحزاب) استهدفت: ١) استثناء النبي r من التحديد الذي ورد في سورة (النساء ٣)؛ ٢) تحريم زواج جديد عليه؛ ٣) تنظيم علاقاته الزوجية، أو صلاته الجنسية بأزواجه.
﴿والنقطة الأخيرة مستلهمة من مضمون الآية (٥١)، إذ تكاد توحي بأنها تتضمّن تعليماً للنبي r بأن يتّصل جنسيّاً في وقت واحد بأربع من أزواجه، ويغيّر في هذا الاتصال... بل تكاد تقول: ﴿إن هذا القصد ظاهر في مضمون الآية ظهوراً قوياً﴾. ويأتي الحديث فيزيد على التفسير؛ قال القاضي عياض في (الشفاء) عن ميزة النبي في قدرته الخارقة على الجماع الجنسي: ﴿وقد رُوينا عن أنس أنه r كان يدور على نسائه في الساعة، من الليل والنهار، وهن احدى عشرة. وقال أنس: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً ـ خرّجه النسائي. وروى نحوه عن أبي رافع عن طاوس: قوة أربعين رجلاً في الجماع. وفي حديث أنس عنه عليه السلام: فُضلت على النساء بأربع: السخاء، والشجاعة، وكثرة الجماع، والبطش﴾. وجاء في السنن: أحب شيء اليّ من دنياكم العطور والنساء، وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة﴾.
فميزات محمد من شريعة الزواج القرآنية كانت مصدر مشاكل ومآسٍ. وهكذا فإن القرآن والحديث والسيرة تجمع كلها وتقطع بأن حياة محمد البيتية والعائلية والزوجية لا تحمل براهين الإِعجاز في الشخصية النبوية، بل دلائل جازمة على ﴿بشرية﴾ النبي فيها.
بحث ثالث
سيرة محمد النبوية
إن العصمة النبوية في تلقّي الوحي والتنزيل تقتضي العصمة في البلاغ والتبليغ؛ لكنها لا تقتضي العصمة في السلوك حين التنزيل وحين التبليغ. هذا ما نراه في حياة محمد قبل البعثة، وفي حياته النبوية بعد البعثة.
أولاً: حياة محمد قبل النبوّة: ﴿وجدك ضالاً فهدى﴾
لم يولد محمد، مثل المسيح، على الهدى والنبوّة.
يقطع القرآن بحق المسيح أنه ولد نبيّاً: ﴿قال (في مهده): أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً﴾ (مريم ٣٠)، وعاش نبيّاً رسولاً في طفولته كما في كهولته: ﴿وإذا قال الله: يا عيسى، ابن مريم، اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس: تكلّم الناس في المهد وكهلاً، واذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل﴾ (المائدة ١١٠، قابل آل عمران ٤٥ - ٤٦). وهذه ميزة استعلى بها المسيح على الأنبياء والمرسلين أجمعين.
ويقطع القرآن والحديث والسيرة بأن محمداً اهتدى إلى النبوّة كهلاً في سنّ الأربعين، بعد خمس عشرة سنة من زواجه بخديجة بنت خويلد، ابنة عم ورقة بن نوفل قس مكّة.
ففي القرآن إشارة الى ما قبل البعثة في قوله: ﴿قلْ: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به: فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون﴾ (يونس ١٦)، فإنه ﴿لم يكن يعلم من نبوته شيئاً قبل نزول الوحي عليه﴾ (دروزة).
والتصريح الصريح عن حال محمد قبل البعثة قوله: ﴿ألم يجدك يتيماً فآوى؟ ووجدك ضالاً فهدى؟ ووجدك عائلاً فأغنى﴾؟ (الضحى ٦ ـ ٨).
علّق عليها دروزة ٢٤ بقوله: ﴿إن آيات سورة الضحى (٦ ـ ٨) من أقوى وأوضح النصوص القرآنية في نشأة النبي r وحياته الى مبدأ الوحي ، إذ تقرّر الآيتان الأولى والثالثة ١) ما هو من البدائه المعروفة اليوم من أن النبي كان يتيماً، وأنه نشأ في حضانة رحيمة من جدّه ثم من عمه أبي طالبٍ... استمرت حتى انقلبت الى حماية قوية من عمه كما يدل معنى ﴿الايواء﴾. ٢) أنه كان فقيراً فأغناه الله وأخبار السيرة التي لا اختلاف في جوهرها ولا تناقض تذكر ظروف ذلك على ما هو معروف من صلة السيدة خديجة بنت خويلدر. عن طريق عمله لها في التجارة، واقترانه بها نتيجة لهذه الصلة... هذه الصلة التي كانت فاتحة عهد جديد، بل حادثاً حاسماً في حياة السيد الرسول r كان له أكبر الأثر في الاتجاه النهائي الذي اتجه اليه. وتهيأت به نفسه وقواه الروحية لتلقي الرسالة العظمى والنهوض بها، إذا أغناه الله عن الضرب في الأرض في سبيل الرزق، فاستطاع أن يتمتع في جانب السيدة بالحياة العائلية الهنيئة من جهة، وأن يتفرّغ من جهة أخرى بنفسه وقلبه وفكره وروحه للتدبر في ملكوت الله وآلائه، والقيام برياضاته أو اعتكافاته الروحية، فارغ القلب من هموم المعيشة وضروراتها﴾ ـ على مثال معلمه ورقة بن نوفل قس مكّة الحنيف ﴿النصراني﴾.
﴿أما الآية الثانية أي ﴿وجدك ضالاً فهدى﴾ فإنها تقرّر فيما نعتقد حالة ذات خطورة ودلالة كبيرتين في صدد نشأة النبي r الروحية. ولقد قال المفسرون: إن الآية تحتوي اشارة الى حادث تيهان وقع للنبي r في طفولته أو في احدى رحلاته، ورووا في ذلك روايات. كما قالوا إنها تعني أنه كان غافلاً عن الشريعة التي لا تتقرّر إلا بالوحي الرباني. أو إنه كان حائراً في أسلوب العبادة لله. ونفوا عنه على أي حال أن يكون ضالاً أي مندمجاً في العقائد والتقاليد الشركية. والنفس لا تطمئن الى رواية تيهان النبي r مضموناً وسنداً، بل إنها ليست متسقة مع ما تضمنته الآية مِن مَنَّ الله على النبي r بأعظم أفضاله عليه. وتفسير ضال ﴿بحائر﴾ يحمل معنى الآية على أن المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يُسار فيها الى الله وعبادته على أفضل وجه. وهو المعنى الذي نراه. ويعضد ذلك جملة: ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء مَن عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم﴾ (الشورى ٥٢).
نقول: إن آية الضحى (٧) وآية الشورى (٥٢) تدلان على هدايتين لمحمد قبل بعثته: الهداية الأولى من ضلال الشرك الى التوحيد الكتابي، تلك الهداية المقرونة بزواجه من السيدة خديجة، ابنة عم ورقة بن نوفل قس مكّة، وهو الذي أشار عليها، على حدّ قول السيرة، بذلك الزواج إيلافاً لهدايته. والهداية الثانية التي تشير اليها آيتا (الشورى ١٥ و٥٢) كانت الى الإيمان بالكتاب نفسه؛ وإلى الانضمام في سلك النصارى المسلمين: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ - ٩٢)، والى الدعوة للإيمان بالكتاب على طريقة موسى وعيسى معاً: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرتُ لأعدِل بينكم﴾ (الشورى ١٣ ـ ١٥).
ففي آية الضحى (٧) هداية الى التوحيد الكتابي، في كنف خديجة وورقة.
وفي آية الشورى (٥٢) هداية الى تبليغ التوحيد الكتابي على طريقة موسى وعيسى معاً، وهذا ما يسميه الهداية الى ملّة إبراهيم ﴿قلْ: إنني هداني ربي الى صراط مستقيم، ديناً قيماً، ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين﴾ (الأنعام ١٦١).
لاحظ اقتران التعابير الثلاثة: الصراط المستقيم، والدين القيّم، وملّة إبراهيم. وكلها صفات الإسلام ﴿النصراني﴾ الذي أُمِر محمد بأن ينضم إليه، ويتلو مع أصحابه النصارى من بني إسرائيل قرآن الكتاب: ﴿وأمرت أن اكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢) فالمسلمون موجودون قبل محمد، وهو ينضم اليهم ويتلو معهم ﴿القرآن﴾ قبل القرآن العربي. وما القرآن العربي سوى نسخة عن ﴿القرآن﴾ الذي معهم: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله﴾ (الأحقاف ١٠).
فالهداية الثانية كانت الى النبوّة، نبوّة التبليغ: فهو دُعي ﴿ليعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل (البقرة ١٢٩ و١٥١، آل عمران ١٦٤، الجمعة ٢)، كما تعلمها المسيح من الله (آل عمران ٤٨، المائدة ١١٠).
ثانياً: حياة محمّد النبوية: الأزمات الإيمانية العشر
يظهر القرآن المكي تأديباً لمحمد في التوحيد، قبل أمته. فإن محمداً قد انتابته في دعوته أزمات إيمانية خانقة، تدل عليها ظواهر قرآنية غريبة.
ففي القرآن المكي ظواهر غريبة مريبة في تحذير النبي من الشرك، وتهديده في ترك التوحيد، وتحريضه على الاستقامة، وأمره بالاستغفار من ذنبه.
الظاهرة الأولى هي تحذير محمد المتواصل من الانزلاق الى الشرك. فمنذ سورة (القلم) يُقال له: ﴿فلا تطع المكذبين: ودّوا لو تُدهِن فيُدهنون﴾ (٨ ـ ٩) ـ ولا تحذير بدون سبب ويتواتر التحذير: ﴿فلا تدعُ مع الله إلها آخر﴾ (الشعراء ٢١٣، القصص ٨٨).
الظاهرة الثانية هي تهديد النبي من ترك التوحيد والميل الى الشرك: ﴿فلا تكوننَّ ظهيراً لكافرين، ولا يصدُّنك عن آيات الله بعد إذ أُنزِلت إليك، وادعُ إلى ربك، ولا تكوننَّ من المشركين﴾! (القصص ٨٦ ـ ٨٧). وتتنوع التهديدات في سورة (الأنعام): ﴿ولا تكوننَّ من المشركين﴾! (١٤)، ﴿فلا تكوننَّ من الجاهلين﴾ (٣٥)، ﴿والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزَّل من ربك بالحق: فلا تكوننَّ من الممترين﴾ (١١٤). والتهديد لمحمد صريح: ﴿لئن أشركت ليحبطنَّ عملك، ولتكوننَّ من الخاسرين﴾ (الزمر ٦٥)؛ وسببه صريح: ﴿فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء﴾ (هود ١٠٩).
الظاهرة الثالثة هي الأمر بالاستغفار من ذنبه: ﴿واستغفر لذنبك﴾ (غافر ٥٥، محمد ١٩). ودام هذا الأمر بالاستغفار لذنبه، حتى آخر سورة نزلت في المدينة: ﴿فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان توّاباً﴾ (النصر). والتحذيرات والتهديدات المتواترة تدل على أن الذنب الأكبر كان في شكه من صحة التوحيد: ﴿فلا تك في مرية ممّا يعبد هؤلاء﴾ (هود ١٠٩).
الظاهرة الرابعة هي في دعوة محمد الى الاستقامة في دعوة التوحيد: ﴿فاستقم كما أُمرتَ، ومن تاب معك﴾ (هود ١١٢)، ﴿فلذلك فادعُ، واستقم كما أُمرت﴾ (الشورى ١٥).
وهكذا نرى أن القرآن نزل لتثبيت محمد في التوحيد الكتابي قبل أمته: ﴿وكلاًّ نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك! وجاءَك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين﴾ (هود ١٢٠)، ﴿فاستقم كما أمرتَ، ومن تاب معك﴾ (هود ١١٢).
ثم إن تلك التحذيرات المتواترة، وتلك التهديدات المتواصلة، توضح معنى الازمات الإيمانية التي كان يقاسيها النبي من حين الى حين، بطريقة متواترة في ﴿أم مسائل الإسلام جميعاً: في التوحيد﴾.
١ ـ الأزمة الإيمانية الأولى كانت في قصة الغرانيق، من سورة النجم، وهي أول سورة أعلنها محمد في مكّة.
ففي (أسباب نزول) الآية (٥٢) من سورة الحج، ﴿أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير (الطبري) وابن المنذر، من طريق بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ النبي r بمكّة (النجم) فلمّا بلغ: ﴿أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى...﴾ ألقى الشيطان على لسانه: ﴿تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لتُرتجى﴾. فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخبر قبل اليوم، فسجد، فسجدوا، فنزلت: ﴿وما أنزلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته (قراءَته)، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته﴾ (الحج ٥٢).
وقصة الغرانيق التي يحاول بعضهم انكارها ثابتة بالحديث والقرآن والنص نفسه. قال الأستاذ حسين هيكل ٢٥ : ﴿حديث الغرانيق أورده ابن سعد في طبقاته الكبرى، والطبري في تاريخ الرسل والملوك؛ وأورده كثيرون من المفسرين المسلمين وكتاب السيرة، وأخذ به جماعته المستشرقين﴾. قال الحافظ بن حجر: ﴿كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً؛ مع أن لها طريقين صحيحين مرسلين أخرجهما ابن جرير الطبري﴾. وللقصة في القرآن سند مبدئي أولاً في آية (الحج ٥٢) التي لا تفهم بدون القصة، وثانياً في آية (الزمر ٤٥): ﴿وإذا هم يستبشرون﴾. جاء عنها في (أسباب النّزول) للسيوطي: ﴿أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها نزلت في قراءة النبي r (النجم) عند الكعبة، وفرحهم عند ذكر الآلهة﴾. والقصة أيضاً سند واقعي في كل التحذيرات من الشرك، والتهديدات من عاقبته، التي تتواتر في القرآن. أخيراً نص الآية المبتور يدل عليها: فإن فعل (أفرأيتم) يتعدى الى مفعولين، ولا يتم المعنى بدونهما كليهما؛ والمشهود أن المفعول الأول مذكور، ﴿اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى﴾، بينما الثاني محذوف (عن الجلالين)؛ فالجواب ساقط، كما يظهر، ولا يسد مسده شيء في النص. فإجماع القرآن والحديث والسيرة برهان على صحة قصة الغرانيق. وقد ختموا الرواية هكذا: ﴿جلس محمد في بيته، حتى اذا أمسى أتاه جبريل، فعرض عليه النبي سورة النجم (وفيها قصة الغرانيق) فقال جبريل: أوَجئتك بهاتين الكلمتين؟ قال محمد: قلتُ على الله ما لم يقلْ﴾!
٢ ـ الأزمة الإيمانية الثانية: التحذير المتواتر من الشرك.
وقعت الأزمة ما بين سورتي (الإسراء) و(القصص). وهذه الأزمة لا تنسجم مع آية الإسراء فالمعراج. يُقال للنبي: ﴿وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب، إلا رحمة من ربك: فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين! ولا يصدُّنك عن آيات الله بعد إذا أنزلت إليك! وادعُ إلى ربك ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدعُ مع الله إلهاً آخر! لا إله إلاّ هو﴾ (القصص ٨٦ ـ ٨٨). تحذير صارخ، ولا تحذير إلاّ من واقع!
ويعود القرآن الى التحذير نفسه في (الإسراء): ﴿لا تجعلْ مع الله إلهاً آخر، فتقعد مذموماً مخذولاً﴾! (٢٢). ويكرّر: ﴿ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتُلقى في جهنم ملوماً مدحوراً﴾ (٣٩). وتعطي السورة سببين لهذه الفتنة. الأول نزغ الشيطان في نفس الانسان: ﴿وقلْ لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للانسان عدواً مبيناً﴾ (٥٣). يظهر أن الشيطان يتدخل في الوحي، وفي نفس النبي، تسهيلاً لفتنة محمد عمّا يوحى اليه: ﴿وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره! وإذاً لا تخذوك خليلاً! ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً! إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً﴾ (٧٣ ـ ٧٥). إن الإشارة صريحة: لقد كاد محمد يركن الى المشركين شيئاً قليلاً.
علق على ذلك الأستاذ دروزة ٢٦ : ﴿سورة القصص تأتي في الترتيب قبل سورة الإسراء، ويُلمح في الآيات شيء مما جاء في آيات (الإسراء) بصراحة أكثر، إذ احتوت أمر للنبي r بأن يشهد الله على المهتدي من الضال، وتنبيهاً له بأن لا يُظاهر ولا يُوادّ الكافرين، وبأن لا يدعهم يصدّونه عما أنزل الله اليه، وبأن لا يأتي بأي شيء فيه أي معنى من معاني اشراك أحد غير الله، مع الله. ويُلهم هذا أن النبي r كان يختلج في نفسه مسايرة الزعماء شيئاً ما، رغبة في كسبهم الى صفه﴾.
إن آيات (القصص) و(الإسراء) تُلهم أكثر من المسايرة: إن حملتهما المتواصلة مصبوبة على جعله مع الله إلهاً آخر! ولا تحذير إلاّ من أمر محتمل الوقوع! إنه التحذير المتواتر لمحمد نفسه من الشرك!
٣ ـ الأزمة الإيمانية الثالثة: التردّد بين التوحيد العربي والتوحيد ﴿النصراني﴾.
كان همّ محمد الأكبر ﴿إيلاف قريش﴾ لدعوته. فنزل ﴿لإيلاف قريش... فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف﴾. ﴿رب البيت﴾ إما هو إله التوحيد، وإما هو إله الشرك. وحاشا للقرآن والنبي أن يدعوا لشرك. فكان ﴿رب البيت﴾ بالكعبة إله التوحيد. وهذه شهادة قرآنية على التوحيد القائم في كعبة مكّة. وبما أنه ليس عند العرب من توحيد فلسفي مستقل، وبما أن اليهودية كانت بعيدة عن مكّة، فالتوحيد العربي الملتزم في الكعبة كان توحيداً مسيحياً. وهبه كان عربيّاً مستقلاً. ففي سورة (قريش) يظهر تأييد القرآن لتوحيد قومه.
لكن القرآن كان دعوة ﴿نصرانية﴾. فنزل التصحيح: ﴿إنما أُمرتُ أن أعبد ربّ هذه البلدة... وأُمرتُ أن أكون من المسلمين﴾ (النمل ٩١). إن ﴿المسلمين﴾ موجودون بمكّة قبل محمد، وهو يُؤمر بالانضمام اليهم. ونعرف أنهم كانوا النصارى من بني إسرائيل (الصف ١٤، الأعراف ١٥٩). فالآية دليل على صراع في نفس النبي بين التوحيد العربي (لعله المسيحي) وبين التوحيد ﴿النصراني﴾ الإسلامي. والآية شهادة قرآنية أيضاً على أنتشار التوحيد العربي (لعله المسيحي) في مكّة. وهذا الصراع دام حتى نزول قوله: ﴿إن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحداً﴾! وأنه لمّا قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبداً! قل: إنما أدعو ربّي، ولا أشرك به أحداً! ... قلْ: أني لن يُجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحداً﴾ (الجن ١٨ ـ ٢٢).
٤ ـ الأزمة الإيمانية الرابعة: فتنة النبي عمّا يُوحى اليه.
لقد مر بنا قوله: ﴿وإن كادوا ليَفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، واذاً لاتّخذونكَ خليلاً! ولولا ان ثبّتناك، لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً (الإسراء ٧٣ ـ ٧٤). التصريح واضح: لقد كادوا يفتنون النبي عمّا يُوحى اليه، وكاد محمد ان يركن اليهم شيئاً قليلاً.
ونعرف من قصة الغرانيق أن ذلك وقع له، واعترف محمد بذلك: ﴿قلتُ على الله ما لم يقلْ﴾!
وتأتي آية التبديل في التنزيل فتزيد الأمر بياناً: ﴿وإذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ!﴾ (النحل ١٠١). فالتبديل في آي القرآن وقع لمحمد، بنص القرآن القاطع، وإن كان ذلك بأمر الوحي نفسه. والحادث مشهود، لذلك شنّع الكافرون على النبي. وهذا التبديل في آي القرآن يسبب فتنةً للناس وأزمة إيمانية لمحمد نفسه.
٥ ـ الأزمة الإيمانية الخامسة: الشك من التنزيل القرآني نفسه
إن فتنة محمد عن الوحي المُنزل اليه وصلت في منتصف العهد الثاني بمكّة الى ذروتها، حتى بلغت الشك من التنزيل القرآني نفسه: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأُون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكونَنَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله، فتكونَنَّ من الخاسرين﴾ (يونس ٩٤ ـ ٩٥).
هذه صورة قاتمة مؤلمة في الحياة النبوية، نشاهد فيها ذروة الصراع في نفس محمد بين الإيمان والشرك، في ﴿الشك... والمرية... والتكذيب بآيات الله﴾. أيشكّ نبي بما يُوحى إليه؟ أجل التصريح مشروط، لكن التنويه بإمكان الشك في نفس النبي من وحيه، دليل أزمة إيمانية يعانيها محمد في ما يوحى اليه.
وفي هذه الحالة القصوى من الصراع الوجداني مع الوحي نفسه، يحيل القرآن محمداً، على عادته، الى أساتذته من أهل الكتاب، ليطمئنوه على صحة الوحي والإسلام. ويظهر فضل ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾ ـ أي علماء النصارى من بني إسرائيل ومن تنصّر معهم من العرب مثل ورقة بن نوفل، قس مكّة ـ على محمد، بإرشاده الى ﴿الحق﴾ ونشله من المرية والشك. فلا يحيله القرآن الى المعجزة، بل إلى علماء النصارى، ومحمد يكتفي بذلك ويفخر به على أخصامه: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! قل: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣).
التجأ اليهم واطمأن، فخرج على الناس بهذا البلاغ المبطن بالتحذير: ﴿قلْ: يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم! وأُمرتُ أن أكون من المؤمنين! وأنْ أقمْ وجهك للدين حنيفاً، ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك، فإن فعلت فإنك اذاً من الظالمين﴾ (يونس ١٠٤ ـ ١٠٦). فمن هم ﴿المؤمنون﴾ الذين أُمر بالانضمام اليهم؟ إنهم النصارى من بني إسرائيل كما تشهد كل قرائن القرآن. فالصراع قائم في نفس محمد بين النصرانية والمسيحية والشرك العربي. أخيراً وحيه يأمره بالانضمام الى النصارى ﴿المؤمنين﴾، ﴿المسلمين﴾ من قبله.
وأزمة الشك من التنزيل القرآني تزول عنه بالدرس لدى أساتذته: ﴿وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درستَ! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون. اتّبع ما أوحي إليك من ربك، لا إله إلاّ هو ، وأعرض عن المشركين﴾ (الأنعام ١٠٥ ـ ١٠٦). فدرس واطمأن لدى ﴿قوم يعلمون﴾، وتبرَّأَ من ﴿الذين لا يعلمون﴾ أي من المشركين، وطلع على الناس بفعل الإيمان والتوبة: ﴿واذا جاءَك الذين يؤمنون بآياتنا! فقلْ: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه مَن عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم، وكذلك نفصّل الآيات، ولِتَستبنَ سبيل المجرمين. قلْ: أني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله! قلْ: لا أتّبع أهواءَكم! قد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين!﴾ (الأنعام ٥٤ ـ ٥٦). بالدرس لدى ﴿الراسخين في العلم﴾ صار على بينة من ربه: ﴿قل: أني على بيّنة من ربي وكذبتم به!﴾ (الأنعام ٥٧)، وليس بالمعجزة: ﴿ما عندي ما تستعجلون به... قل: لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم﴾ (الأنعام ٥٧ ـ ٥٨). فالأزمات الإيمانية تنتاب النبي من داخل ومن خارج.
٦ ـ الأزمة الإيمانية السادسة: الفتنة بترك بعض الوحي القرآني
في صراع محمد النفساني بين الإيمان والشرك، تراكمت عليه أزمة جديدة يصفها بقوله: ﴿فلعلّك تارك بعض ما يُوحى إليك، وضائق به صدرك! أن يقولوا: لولا أُنزل عليه كنز! أو جاء معه مَلَك! ـ إنما أنت نذير! والله على كل شيء وكيل﴾ (هود ١٢). لقد بلغت أزمة الإيمان في نفس محمداً حداً أوشك فيه أن يترك بعض ما يُوحى اليه!
وسبب الفتنة الجديدة عجز محمد عن معجزة تؤيده في دعوته. فيجيب القرآن على لسانه: ﴿ما عندي ما تستعجلون به﴾. ثم يحدّد له معنى نبوته ورسالته: ﴿إنما أنت نذير﴾! وما على النذير اجتراح المعجزة لصحة النبوّة والدعوة.
فشهادته على صحة رسالته، ليست المعجزة، بل شهادة أساتذته له، الذين هم على بيّنة من ربهم في كتابهم: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به! ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده! فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ (هود ١٧). وقوله: ﴿ويتلوه شاهد منه﴾ هو مثل قوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠). فإن شاهداً من بني إسرائيل النصارى، ﴿مَن عنده علْم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣) يتلو على محمد ﴿مثل﴾ القرآن العربي، فما عليه أن يترك بعض ما يُوحى إليه! ويُؤمَر: ﴿فلا تك في مرية منه﴾! أي من هذا الوحي القرآني، النصراني. ويؤمر أيضاً: ﴿فلا تك في مرية مِمّا يعبد هؤلاء: ما يعبدون إلاّ كما يعبد آباؤهم من قبل، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص﴾ (هود ١٠٩). فلا سبيل الى الشك في الوحي، وترك بعضه، ولا الى الشك في الشرك! لذلك ﴿فاستقم كما أمرت ومَن تاب معك﴾! (هود ١١٢)، بسبب هذا الأمر كان محمد يقول: ﴿شيبتني هود﴾! لقد شاب محمد في صراع الإيمان.
٧ ـ الأزمة الإيمانية الدائمة: عجز محمد عن معجزة تشهد له
القرآن المكي صراع قائم دائم بين النبي العربي والمشركين من بني قومه على صحة نبوّته، التي لا تؤيّدها في نظرهم ـ كما في نظر أَهل الكتاب جميعاً ـ إلاّ المعجزة. وقد رأينا مع الأستاذ دروزة ٢٧ ﴿موقف القرآن السلبي﴾ من كل معجزة تشهد لمحمد. قال: ﴿وقف الزعماء إزاء هذا الموقف القرآني من تحدّيهم، وأخذوا يطالبون النبي r بالمعجزات والآيات، برهاناً على صدق دعواه أولاً، ثم أخذوا يدعمون مطالبهم بتحدٍّ آخر، وهو سُنّة الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالآيات والمعجزات. وقد تكرَّر طلب الآيات من جانب الجاحدين، أو بالأحرى زعمائهم، كثيراً، حتى حكى القرآن المكي عنهم نحو خمس وعشرين مرة صريحة، عدا ما حكى عنهم من التحدّي الضمني، ومن التحدّي بالإتيان بالعذاب واستعجاله والسؤال عنه﴾.
وهذا التحدّي الدائم بالمعجزة، دليلاً على صحة النبوّة والدعوة ـ يقابله عجز محمد الدائم عن كل معجزة تشهد له ـ هما سبب أزمة إيمانية في نفسه لا تنتهي! ويتردّد صداها في القرآن المكي كله. فقد منعت عنه المعجزة منعاً مبدئياً مطلقاً (الإسراء ٥٩) ومنعاً واقعياً شاملاً (الإسراء ٩٣)، حتى اضطر الى الاقرار الصريح البسيط: ﴿ما عندي ما تستعجلون به... لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم﴾ (الأنعام ٥٧ ـ ٥٨). فالتحديات المتواصلة بالمعجزة، والتصريحات المتواصلة بالعجز عنها، أزمة إيمانية متواصلة في ضمير النبي العربي.
في خضم هذا الصراع النفساني الدائم، من العجز القائم عن معجزة تشهد له، يُفهم معنى تحدّي محمد للمشركين بإِعجاز القرآن (الإسراء ٨٨، يونس ٣٨، هود ١٣). إنه تحدٍّ بهداه للمشركين (القصص ٤٩). والقرآن نفسه لا يرى في إِعجاز القرآن معجزة له: فهو يصرّح بأن المعجزة مُنعت على محمد منعاً مبدئياً (الإسراء ٥٩) في السورة عينها التي يعلن فيها التحدّي بإِعجاز القرآن (الإسراء ٨٨) الذي يعقّب عليه بإعلان العجز الواقعي المطلق (الإسراء ٩٠ - ٩٣). فهذه المحاصرة بالمنع المبدئي والامتناع الواقعي برهان على أن القرآن نفسه لا يرى في إِعجازه معجزة إلهية له. ولو رأى محمد في إِعجاز القرآن معجزة له لكان هو أول المؤمنين من دون شك في التنزيل (يونس ٩٤)، ومن دون محاولة لترك بعض ما يُوحى اليه (هود ١٢) ومن دون مرية في الوحي القرآني (هود ١٧) ومن دون مرية في ما يعبد أولئك المشركون (هود ١٠٩).
إن أزمات محمد الإيمانية برهان قاطع على أن إِعجاز القرآن ليس معجزة له.
٨ ـ الأزمة الإيمانية الثامنة: حث النبي على الاستقامة في الدين.
في آخر العهد الثاني بمكّة، بعد تلك الأزمات الإيمانية المتلاحقة المتراكمة، أخذ القرآن يحث محمداً على الاستقامة في الدين بطريقة سافرة: ﴿إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق، فاعبد الله مخلصاً له الدين﴾ (الزمر ٢). وتكرار هذا الأمر، في هذه الفترة، يحمل في طياته معنى الشك والريبة في الإخلاص للدين: ﴿ألا لله الدين الخالص! والذين اتّخذوا من دونه أولياء ـ ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى ـ إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون﴾ (الزمر ٣). ونشعر بخوف النبي في شكّه: ﴿قلْ: أني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين! وأمرت أن أكون أول المسلمين. قلْ: أني أخاف، إن عصيت ربي، عذاب يوم عظيم! قلْ: الله أعبد مخلصاً له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه﴾! (الزمر ١١ ـ ١٥).
إن الاستقامة في الإخلاص للاسلام ﴿النصراني﴾ تعوز النبي، فيقال له: ﴿فلذلك فأدع واستقم كما أُمرت، ولا تتبع أهواءَهم! وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب! وأمرتُ لأعدل بينكم!﴾ (الشورى ١٥).
والاستقامة عينها تعوز جماعة محمد في هذه الفترة: ﴿قلْ: إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا له، واستغفروه! وويل للمشركين﴾! (فصلت ٦). والحثّ على الاستقامة والإخلاص يشمل النبي وجماعته معاً: ﴿فاستقم كما أُمرت، ومَن تاب معك! ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار﴾ (هود ١١٢ - ١١٣). ﴿الذين ظلموا﴾ كناية متواترة عن المشركين وعن اليهود: فهل انضم اليهود الى المشركين في فتنة النبي عن دعوته، منذ العهد المكي؟
إن حثّ القرآن المتواتر على الاستقامة والإخلاص، في آخر العهد الثاني بمكّة، دليل على أن أزمة الإيمان قد بلغت ذروتها في نفس محمد وجماعته، حتى اضطر الى الهجرة الشخصية الى الطائف. علق الزمخشري على (هود ١١٢): ﴿عن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية. ولهذا كان يقول: (شيّبتني هود). قيل: ما الذي شيّبك فيها؟ قال: (فاستقم كما أُمرت)! ثم قال: أفتقر الى الله بصحة العزم﴾!
إن الافتقار المشهود للاستقامة والإخلاص في الدين الذي يدعو اليه ليس من الإِعجاز في الشخصية النبوية.
٩ ـ الأزمة الإيمانية التاسعة: التبديل في آي القرآن
بعد الهجرة الشخصية الخاطفة الفاشلة الى الطائف، قضى محمد السنتين الأخيرتين بمكّة في أزمة إيمانية عاتية، نجم عنها ارتداد بعض جماعته عن الإسلام.
جاء في سورة (النحل ٩٨ ـ ١٠١): ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم... وإذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ﴾!
إن تبديل آية بآية في تنزيل القرآن أمر واقع، بشهادة هذا النص القاطع. أما اقتران التبديل بالاستعاذة من الشيطان في تلاوة القرآن، فهو يوحي بأن التبديل في القرآن كان يوسوسه الشيطان! أإلى هذا الحد يصل سلطانه؟ ولهذا شاهد في سورة (الحج ٥٢).
وهذا التبديل اطلع عليه المسلمون والمشركون: فشنّع المشركون على النبي، وحمل ذلك بعض المسلمين على الارتداد على الإسلام! علّق على ذلك السيد دروزة ٢٨ : ﴿إننا نرجح أن حادث الارتداد الذي أشارت اليه الآيات (النحل ١٠٦ - ١٠٩) كان بسبب وظروف ما حكته الآيات التي سبقت هذه الآيات من تبديل آية بآية. وروح الآيات، ومضمونها في الجملة، يلهم أنها نزلت في صدد حادث له صلة بالقرآن، ويُلهم أنه أوحي للنبي r ببعض الآيات لتكون مكان بعض آيات أخرى، فلما تلا الجديدة وأهمل الأولى، استغل زعماء الكفّار ذلك، فأخذوا يشنّعون عليه، ويهاجمون دعواه كون القرآن وحياً إلهياً، وينسبون اليه الإفتراء والتعلّم من الشخص الأجنبي المعيّن. ولعلّهم قالوا: إن الشيطان هو الذي يوسوس له ويلقي عليه، لا الملاك؛ وأن التبديل دليل ذلك. وتوسلوا بالاغراء، إلى جانب الاستغلال والتهويش. وكان من نتيجة ذلك ان ارتدّ بعضهم نتيجة لهذه الدعاية واستحباباً لمنافع الدنيا معاً﴾. فكانت تلك الرِدة صدمة لمحمد، زادته أزمة على أزمة.
١٠ ـ الأزمة الإيمانية العاشرة: المحو في آي القرآن
تدوم الأزمات الإيمانية في ضمير محمد حتى آخر العهد بمكّة. فبعد أزمة التبديل، تأتي أزمة المحو في آي القرآن: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت. وعنده أُم الكتاب﴾ أي أصله (الرعد ٣٩). فهل كان القرآن العربي المُنزل بحاجة الى تنقيح ليطابق أصله، ﴿أم الكتاب﴾؟ والحدث أمر واقع، بنص القرآن القاطع. ولنا شاهد من الحديث الذي يروي بأن محمداً كان يُراجع جبريل كل سنة في نص القرآن، وفي آخر العهد بالمدينة مرتين في السنة.
وتلك الحالة أو قعت اليأس في نفس جماعته: ﴿أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو شاء الله لهدى الناس جميعاً﴾ (الرعد ٣١).
والأزمة الإيمانية، والفتنة الناجمة عنها، ظلّتا قائمتين مدة العهد الأخير بمكّة كله، من سورة (النحل) الى سورة (العنكبوت)، وهي من آخر ما نزل بمكّة: ﴿أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا: آمنّا، وهم لا يُفتنون؟ ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنَّ الله الذين صدقوا، وليعلمنَّ الكاذبين﴾ (العنكبوت ٢ ـ ٣).
وحالات الأزمة الإيمانية، والفتنة عن الإسلام، واليأس من الدعوة بمكّة، عجلت كلها بمفاوضات الهجرة الى المدينة.
تلك الأزمات الإيمانية العشر أوصلت النبي وجماعته، في آخر العهد بمكّة، الى حالة اليأس (الرعد ٣١) حتى جاءَهم الفرج بالهجرة الى المدينة.
ان تلك الأزمات الإيمانية المتلاحقة التي أوصلت محمداً وجماعته الى اليأس والهجرة، لا عهد لنا بمثلها في سيرة الأنبياء الأولين. فهي لا تدلّ على إِعجاز في الشخصية النبوية، بلغ حدّ المعجزة الإلهية التي تشهد له.
بحث رابع
سيرة محمّد الجهادية
كانت الهجرة النبوية الى المدينة ثورة وانقلاباً: انقلاباً في الرسول، وانقلاباً في الرسالة، وانقلاباً في طريقة الدعوة وانقلاباً في الإسلام كله.
والانقلاب الأكبر في طريقة الدعوة. كانت ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ مثل سائر النبيّين، فصارت بالجهاد، و﴿بالحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥). يقول محمد صبيح ٢٩ : ﴿وكانت مهمة النبي، وهو يهاجر، واضحة: وهي أن يكره قريشاً على الإسلام بحدّ السيف، بعد أن بذل لها النصح ثلاثة عشر عاماً، فلم تزدهم إلاّ عتواً﴾.
والجهاد حوّل الدين الى دولة دينية. يقول عمر فرّوخ: ﴿كان للهجرة قيمة خاصة في تاريخ الإسلام: لقد كانت حداً فاصلاً بين عهد كان فيه الإسلام دعوة دينية، يحميها نفر قليلون مستضعفون، وبين عهد أصبح الإسلام فيه دولة قوية مرهوبة﴾؟
أوّلاً: شريعة الجهاد والحرب
شريعة الجهاد والقتال تملأ القرآن المدني كله. ﴿والآيات القرآنية في موضوع الجهاد قد شغلت من حيث كثرتها حيزاً كبيراً يكاد يبلغ نصف القرآن المدني. وفي هذا دلالة على أن هذا الموضوع كان من أهم أدوار السيرة النبوية في العهد المدني، أو أهمها﴾ ٢٩ .
وانقضت السيرة النبوية في العهد المدني كله في الجهاد والقتال والحروب. ﴿ويكفيك أن تعلم مثلاً أن عدد الغزوات والسرايا والبعوث قد بلغ خمساً وستين، قاد النبي r منها بنفسه سبعاً وعشرين، وكل ذلك في نحو عشر سنين ـ لتقدر خطورة الدور الذي كان للجهاد في هذا العهد، وتفهم حكمة ما شغل موضوعه ذلك الحيّز الكبير من القرآن﴾ ٣١ .
﴿والآيات في هذا الموضوع على نوعين: نوع تضمّن دعوة عامة الى الجهاد بالنفس والمال... وما كان من أزمات حادة في سبيل ذلك. ونوع ثانٍ أُشير فيه الى وقائع الجهاد النبوي البارزة وما كان فيها، ومن الجدير بالتنبيه أن آيات النوع الثاني قد نزلت بعد الوقائع: ممّا يسّوغ القول إن الوقائع قد كانت بأمر النبي r ورأيه وبدون وحي قرآني، كما هو شأن أكثر أحداث السيرة النبوية﴾.
وصار الجهاد ركناً من أركان الإسلام: ﴿كتب عليكم القتال، وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦)، كما كان الصوم: ﴿كتب عليكم الصيام﴾ (البقرة ١٨٣). وجعْل الجهاد المقدس ركناً من أركان الدين، هو الذي صبغ الإسلام القرآني بصبغته الحربية، سواء في الدفاع عن الدين، أم في الهجوم لنشر الإسلام.
وفي الواقع يقسم القرآن المدني الى عهدين: عهد الدفاع بالسلاح عن الإسلام، مدة خمس سنوات نزل فيه اثنتا عشرة سورة، وعهد الهجوم بالسلاح لفرض الإسلام على الحجاز والجزيرة، مدة خمس سنوات، نزل فيه أيضاً اثنتا عشرة سورة. فلم يكن الجهاد في حد ذاته لحماية الإسلام والدفاع عنه فقط؛ بل تطور في العهد الثاني المدني، بعد صلح الحديبية، الى حرب أهلية لفرض الإسلام بالقوة على العرب. وهذه هي الصورة الرهيبة التي ينقلها التاريخ القرآني للسيرة النبوية في المدينة: نبي يقاتل عشيرته وقومه ليفرض عليهم دينه بالسيف فرضاً ـ ولا محاباة في سبيل الله.
وقد تطوّرت شرعة الجهاد بسرعة فائقة: بدأ بالإذن بالقتال: ﴿أُذنِ للذين يقاتلون، بأنهم ظُلموا ـ وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلاّ أن يقولوا: ربنا الله! ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً! وليَنصرنَّ الله من ينصره ـ إن الله لقوي عزيز﴾ (الحج ٣٩ ـ ٤٠). فالقتال مشروع لسببين. الأول لردّ الظلم، والانتقام من أهل مكّة الذين ألجأوهم إلى الهجرة. الثاني لبناء الدين. ولولا الجهاد لهدمت بيوت الدين والعبادة! فحماية الدين بالقوة تحمل في أكنافها إرادة فرضه وقيامه بالقوة.
ومنذ السورة المدنية الأولى يعلن الشرعة في صورتها الكاملة: ﴿كتب عليكم القتال، وهو كره لكم! وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ (البقرة ٢١٦). فالقتال فريضة دينية مكتوبة، وهي خير لهم.
وفلسفة القتال في سبيل الدين أن الفتنة فيه أشد من القتل: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل﴾ (البقرة ١٩٠ ـ ١٩١). إن تبرير القتال برد الفتنة يرفع الحرية الدينية. ولا ينفع مع هذه الفلسفة الدينية الحربية قوله: ﴿لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغيّ﴾ (البقرة ٢٥٦). إن الحرية الدينية والقتال في سبيل الدين ضدان لا يجتمعان. فغاية الجهاد منع الفتنة عن الدين، وفرض الدين كله لله: ﴿قل للذين كفروا، إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف؛ وإن يعودوا فقد مضت سُنّة الأولين: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله﴾ (الأنفال ٣٨ ـ ٣٩).
وصوفية الجهاد مزدوجة. إنها أولاً شراء الحياة الدنيا يالآخرة: ﴿فليقاتِلْ في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة: ومن يقاتل في سبيل الله فيُقْتَلْ أو يَغلِب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً﴾ (النساء ٧٤). وإنها ثانياً فتح ومغانم ومنافع: ﴿إنا أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥)، ﴿وأثابهم فتحاً قريباً، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً. وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فعجّلَ لكم هذه، وكفَّ أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين﴾ (الفتح ١٨ ـ ٢٠). إن الفتح والمغانم الكثيرة آية من عزّة الله وحكمته للمؤمنين. فالذين يدّعون أن المغانم ليست الهدف الثاني للجهاد، فقد ظلموا أنفسهم وظلموا علمهم بالقرآن.
ومنذ صلح الحديبية، الحدّ الفاصل بين عهد الدفاع وعهد الهجوم، لم يعد الجهاد لرد العدوان، بل لفرض الإسلام: ﴿قل للمخلفين من الاعراب: ستدعون الى قوم أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون﴾ (الفتح ١٦). لقد ظهرت أخيراً غاية الجهاد الأولى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً﴾ (الفتح ٢٨). إن معنى الجهاد كله لإظهار الإسلام ﴿على الدين كله﴾، وهو شهادة الله بصحة الإسلام. هذه الغاية المزدوجة، الظهور والشهادة، هي شريعة الجهاد وفلسفته وصوفيته. ولذلك يركز الدعوة في العهد الأخير عليها، فيكرر: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾! (الصف ٩). ويختم حياته الجهادية بقوله: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ (التوبة ٣٣). فالجهاد كان لإظهار الإسلام على الدين كله، على كره من الجميع؛ وهو آية محمد الكبرى (الفتح ٢٨).
لذلك فالذين يدّعون أن الجهاد إنما كان للدفاع فقط، فهم يتجاهلون أو يجهلون صريح القرآن وتطوّر شريعة الجهاد. لقد تطوّرت شريعة الجهاد من الدفاع الى الهجوم: ﴿تقاتلونهم أو يسلمون﴾ (الفتح ١٦)، ﴿ليظهره على الدين كله﴾ (الفتح ٢٨، الصف ٩، التوبة ٣٣).
إن غاية الهجرة النبوية الى المدينة، وجمع الأنصار والمهاجرين، إنما كانت لفرض الإسلام بالسيف على أهل مكّة والعرب: ﴿وكانت مهمة النبي، وهو يهاجر واضحة: وهي أن يكره قريشاً (ومن ورائها العرب) على الإسلام بالسيف﴾ ٣٢ .
هذه هي شريعة الجهاد والحرب في القرآن. وكل أطوارها تنقض المبدأ الموقوت الذي وضع حين الضعف: ﴿لا اكراه في الدين﴾ (البقرة ٢٥٦). إن شريعة القتال القرآنية هي عين الاكراه في الدين وتؤيدها شِرْعة قتل المرتد عن الإسلام: ﴿ومَن يرتدِدْ منكم عن دينه فيمتْ وهو كافر﴾ (البقرة ٢١٧).
فشريعة الجهاد القرآنية صورة عن ﴿نبي الملحمة﴾. هل يفرض الله دينه على الناس فرضاً؟ وإذا كان ذلك، فماذا يبقى الحرية الانسانية؟ وماذا يكون من مبدأ التكليف، ومن مبدأ الجزاء؟ فهل في شريعة الجهاد القرآنية صورة كاملة للإِعجاز في الشخصية النبوية؟
ثانياً: صدى شريعة الجهاد في نفوس المسلمين
إن أهوال شريعة الجهاد القرآنية تظهر آثارها في نفوس المسلمين أنفسهم.
الأثر الأول هو الكره الذي رافق الشريعة منذ سَنّها: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦). إن العرب الذين كانوا يعيشون على الغزو والسّبي كانوا أول من استفظع شريعة الجهاد والقتال، وتقبّلوها مرغمين.
الأثر الثاني وهو الخوف منها: ﴿فلما كُتب عليهم القتال، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله، أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لِمَ كتبت علينا القتال؟ لولا أخّرتنا إلى أجل قريب؟﴾ (النساء ٧٧). لقد نزلت عليهم شريعة القتال نزول الصاعقة! وحال الناس المنافقين كانت أشد هلعاً: ﴿ويقول الذين آمنوا: لولا نُزِّلت سورة! فإذا أُنزِلت سورة محكمة، وذكر فيها القتال، رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت﴾ (محمد ٢٠) صورة قرآنية رائعة لأهوال شريعة الجهاد في نفوس العرب والمسلمين عينهم.
الأثر الثالث كان استفظاع الحرب الأهلية بسبب الدين! يقول في تهيئة فتح مكّة: ﴿يا أيها الذين آمنوا، لا تّتخذوا آباءَكم وإخوانكم أولياء، إن استحبوا الكفر عن الإيمان، ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون. قلْ: إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ (التوبة ٢٣ ـ ٢٤).
علق عليه دروزة ٣٢ : ﴿المتبادر أن النهي الشديد الوارد في الآيات موجه الى المهاجرين، وأن الآيات نزلت قُبيل الفتح المكي... والآيات تدلّنا على أن بعض المسلمين المهاجرين كانوا يقاسون أزمات نفسية في اضطرارهم الى الوقوف من ذوي قرباهم موقف العداء، وأن بعضهم كان رغم اخلاصه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الاستشعار لصلة الرحم... إذ كان لبعض المهاجرين آباء أو أبناء ما يزالون كفاراً في مكّة مندمجين مع أهلها في موقف العداء من النبي والمسلمين وآبائهم وأبنائهم المهاجرين معه﴾.
وفي هذا الموقف المدني من الآباء والأبناء تطور جديد لموقف القرآن المكي منهم في حسن المعاشرة والصحبة والبر بهم (لقمان ١٤ ـ ١٥، العنكبوت ٨). فالإسلام يقطع الصلة ما بين لآباء والأبناء، إن استحبوا الكفر على الإيمان؛ ويوجب قتالهم لإظهار دين الله عليهم. وفي هذا كل أهوال الحرب الأهلية بسبب الدين!
إن السيرة النبوية في المدينة كانت حرباً أهلية بسبب الدين: فهل في واقع الحال كما يشهد القرآن من إِعجاز في الشخصية النبوية؟
ثالثاً: استباحة الحرمات بسبب شريعة الجهاد
١ ـ من الحرمات عند العرب كان القتال في الشهر الحرام، والقتال عند المسجد الحرام. فبدأ بالنهي عن القتال فيهما إلاّ إذا بدأهم المشركون: ﴿ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه؛ فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين...﴾ (البقرة ١٩١)؛ ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ (البقرة ١٩٤). تُباح الحرمات قصاصاً لمقابلة العدوان بمثله. إنها الشريعة التوراتية، العين بالعين، والسن بالسن!
لكنْ تطورت الشريعة الى الاستباحة المطلقة في سبيل إعلاء الإسلام: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه؟ قلْ: قتال فيه كبير! وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام، واخراجُ أهله منه، أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل﴾! (البقرة ٢١٧). يستبيح القتال في الشهر الحرام، وعند المسجد الحرام لثلاثة أسباب: الصدّ عن الإسلام، وإرغام المسلمين على الهجرة، ومحاولة فتنتهم عن دينهم.
٢ ـ ومن الحرمات عند العرب وغير العرب حفظ العهود في عدم الاقتتال. فنزلت البراءَة من العهد مع المشركين: ﴿براءَة من الله ورسوله الى الذين عاهدتم من المشركين (١): فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (٢) ـ وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله: فإن تبتم فهو خير لكم؛ وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليمٍ (٣) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم الى مدتهم، إن الله يحب المتّقين (٤) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾ (٥) (التوبة).
يرتبك المفسرون ارتباكاً عظيماً في فهم هذه الآيات. وهذا الارتباك ناجم عن التعارض القائم بين البراءَة وبين الأذان في حق المشركين المعاهدين. وفاتهم أن ﴿الأذان يوم الحج الأكبر﴾ يقطع البراءَة المطلقة من المشركين حتى المعاهدين منهم. والقرينة الحاسمة هي الأشهر الأربعة الحرم في الآية الثانية والخامسة. فالأذان مقحم على شريعة البراءَة المطلقة من المشركين. وما جاءَ في الأذان من الأمر بالوفاء مع المشركين المعاهدين الى مدتهم، نسخة في البراءَة المطلقة من المشركين حتى المعاهدين منهم. وسياق البراءَة هو هذا: ﴿براءَة من الله ورسوله الى الذين عاهدتم من المشركين: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم، واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم﴾.
تلك البراءَة التي تنقض العهد بعدم الاعتداء هي آية السيف (التوبة ٥) في القرآن.
قال النحاس في (الناسخ والمنسوخ، ص ٢٦٥): ﴿نسخ بهذه ماية وثلاثة عشر موضعاً في القرآن. وقال ابن حزم: نسخ بهذه الآية ماية وأربع عشرة آية، في ثمان وأربعين سورة﴾. ونقل (الإتقان ٢: ٢٤) للسيوطي: ﴿قال ابن العربي، كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار والتولّي والإعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف﴾! إن القرآن شرع قتال المشركين العرب حتى يُسلموا؛ وفي براءَة شرع نقض العهد مع المشركين المعاهدين أنفسهم وفرض قتالهم كسائر المشركين العرب حتى يسلموا. وبهذه الشريعة ـ البراءَة، مع تحريم المسجد الحرام على المشركين (التوبة ٢٨) دانت العرب للاسلام عنوة واقتداراً.
٣ ـ وكان صلح الحديبية مع مشركي مكّة أن لا يمنع من البيت الحرام أحد. فجاءَت سورة براءَة بتحريم البيت الحرام على المشركين أجمعين: ﴿يا أيها الذين آمنوا، إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ (التوبة ٢٨). قال النحاس في (الناسخ والمنسوخ، ص ١٦٥): ﴿قال أبو جعفر: الآية ناسخة لما كان رسول الله صالح عليه المشركين أن لا يمنع من البيت أحد﴾.
ففي العرْف الدولي، هل يكفي فارق الدين لنقض المعاهدات؟
٤ ـ وبعد نصر بدر ووقوع الأسرى من المشركين في قبضة المسلمين نزل قوله: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض: تريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم! لولا كتاب من الله سبَقَ، لمسّكم في ما أخذتم عذاب عظيم! فكلوا ممّا غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله إن الله غفور رحيم﴾ (الأنفال ٦٧ ـ ٦٩).
جاءَ في الزمخشري والبيضاوي على الآية (٤) من سورة (محمد): ﴿كانت الشريعة الأولى في الإسلام: قتل الأسرى. ثم عدلها فخير قومه بين قتل الأسير أو المن أو الفداء﴾.
وفي (أسباب النّزول) للسيوطي، بمناسبة أسرى بدر: ﴿استشار النبي r في الأسارى يوم بدر. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضربْ اعناقهم! فأعرض عنه. فقام أبو بكر فقال: نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. فقال عمر (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) فنزل القرآن بقول عمر؛ وأنزل الله: لولا كتاب من الله سبق...﴾ بمقالة أبي بكرٍ. قال الجلالان: ﴿وقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) منسوخ بقوله: (فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً﴾).
لقد تطورت شريعة الأسرى من الاستباحة الى المن أو الفداء.
٥ ـ وهناك حالة ثالثة واردة غير المَنّ أو الفداء: هي استرقاق الأسرى. قال: ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضربَ الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإمَّا منّاً بعد، وإمّا فداءً، حتى تضع الحرب أوزارها﴾ (محمد ٤).
علق دروزة ٣٤ : ﴿قد احتوت تقريراً لمبدأ تشريعي عام: إذا جعل أمر الأسرى للنبي r بعد أن تنتهي المعركة، فإما أن يسرّحهم عفواً ومنّاً بدون فداء، وإمّا أن يستوفي منهم الفدية ويسرّحهم. ومما يُلفت النظر أنه ليس في هذا المبدأ استرقاق للأسرى. مع أن بعض الروايات ذكرت أن النبي r ذهب الى استرقاق سبي هوازن وأنه استرقّ سبي بني قريظة وباعه. وعدم احتواء المبدأ القرآني تشريع الاسترقاق يجعلنا نتوقف في التسليم بالروايات، إلاّ أن يكون ما ذكرته ـ إذا صحّت ـ كان قبل نزول الآية، ومن قبيل الاجتهاد المستمدّ من العرف العام السائد في عصر النبي وفي مختلف البيئات. أو من قبيل التفسير النبوي لِمَا سكتت عنه الآية، وهو مصير الذين لا يُطلق سراحهم منّاً ولا يفتدون أنفسهم﴾.
وفات الأستاذ أن استرقاق سبي هوازن كان بعد غزوة حنين وبعد سورة (محمد أو القتال) بزمن بعيد.
٦ ـ وظل القرآن كله يمنع الجدال إلا بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب ـ إلا الذين ظلموا منهم أي اليهود ـ حتى آخر العهد بالمدينة. وفي آخر سورة نزلت قبل (براءَة) أو في زمنها، (المائدة) كان النصارى أهل ﴿المودة﴾ حتى النهاية. وإذا بالقرآن كله يُختتم بالأمر بقتال النصارى مع أهل الكتاب ﴿حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ (براءَة ٢٩). أجل لا يشرع عليهم القتال أو الإسلام مثل المشركين؛ إنما يشرع عليهم القتال حتى الخضوع لدولة الإسلام، كي ﴿لا يجتمع في جزيرة العرب دينان﴾ ٣٥ . لكن بهذه الآية الأخيرة نسخ القرآن كله في المعاملة ﴿بالتي هي أحسن﴾ أي الأمر المتواتر: ﴿وقولوا: آمنَّا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون﴾ (العنكبوت ٤٦) أي التنزيل واحد والاله واحد والإسلام واحد ـ مع أهل ﴿المودّة﴾ حتى النهاية (المائدة ٨٢). وعلى هذه الآية، من دون القرآن كله، سار التاريخ الإسلامي كله.
فهل في استباحة الحرمات، بسبب شريعة الجهاد، إِعجاز في الشخصية النبوية؟
رابعاً: الاغتيالات السياسية، نتيجة شريعة الجهاد
بالهجرة الى المدينة تحول الدين الى دولة دينية! يقول عمر فرّوخ ٣٦ : ﴿الإسلام دولة، في المدينة أصبح الإسلام ديناً ودولة معاً. فبدأت قواعد الدولة الإسلامية بالرسوخ. وأخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي يجب أن تقوم عليها الدولة﴾.
والدولة الدينية لها سياسة، والسياسة قد تطغى عليها. وقد تقتضي سياسة الدولة ما لا يقتضيه الدين والنبوّة والقداسة، من الاغتيالات السياسية. جاء في الحديث: ﴿اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله﴾!
من تلك الاغتيالات والقتل ما تروي السيرة لابن هشام:
١ ـ غزوة عبد الله بن رواحة لقتل اليُسير بن رزام الذي كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله.
٢ ـ غزوة عبد الله بن عتيك خيبر لاغتيال أبي رافع بن أبي الحقيق ٣٧ .
٣ ـ بُعْثُ رسول الله عبد الله بن أُنيس لقتل خالد بن سفيان بن نُبَيح الهذلي، الذي كان بنخلة أو بعزنة يجمع لرسول الله الناس ليغزوه، فقتله ٣٨ .
٤ ـ بُعْثُ عبد الله بن أبي حدر لقتل رفاعة بن قيس الجشمي الذي نزل بالغابة يجمع قيساً على حرب رسول الله. قال: ﴿نفحته بسهمي، فاحتززت رأسه وجئت برأسه أحمله معي﴾ ٣٩ .
٥ ـ بُعْثُ عمرو بن أُمية الضمري لاغتيال أبي سفيان بن حرب في مكّة، بحبيب بن عدي وأصحابه. فعرفه القوم. فنجا، وفي طريقه قتل قرشياً لحق بهم؛ ثم بكريا بالغار ٤٠ .
٦ ـ ﴿نجم نفاق أبي عفك، حين قتل رسول الله r الحارث بن سويد الصامت ـ وهجا الرسول، وهو ابن مائة وعشرين سنة! ـ فقال رسول الله: مَن لي بهذا الخبيث؟ فخرج سالم بن عمير فقتله﴾ ٤١ .
٧ ـ ﴿فلما قُتل أبو عفك، نافقت عصماء بن مروان، فقالت شعراً تعيب الإسلام وأهله. فقال رسول الله r حين بلغه ذلك: ألا آخذ لي من ابنة مروان؟ فسمع ذلك عمير بن عدي الخطمي، وهو عنده، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها في بيتها فقتلها. ثم أصبح مع رسول الله r فقال: يا رسول الله أني قد قتلتُها! فقال: نصرت الله ورسوله، يا عُمير! ... وأسلم، يوم قُتلت ابنة مروان، رجال من بني خطمة، لما رأوه من عز الإسلام﴾! ٤٣ .
٨ ـ ﴿أصاب رسول الله في غزوة عبداً يقال له يسار. فجعله في لقاح له كانت ترعى في ناحية الجماء (أو الحمى). فقدم على رسول الله نفر من قيس قبّة، قبيلة من بُجيلة، قد استوبئوا وطحلوا، فقال لهم رسول الله: لو خرجتم الى اللقاح فشربتم من ألبانها وأبوالها. فخرجوا إليها. فلمّا صحّوا عدوا على راعي رسول الله فذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه، واستاقوا اللقاح. فبعث رسول الله في آثارهم كرْز ابن جابر فلحقهم فأتى بهم رسول الله r فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم﴾ ٤٣ .
٩ ـ جاء في (أسباب نزول) الآية: ﴿وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ (الأنفال ٣١) ـ ﴿أخرج بن جرير ابن سعيد بن جبير قال: قتل النبي r يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط وطُعَيْمة ابن عدي والنضر بن الحارث (ثلاثة من الأسرى). وكان المقداد أسر النضر؛ فلمّا أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله r إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! وفيه نزلت الآية﴾. ولما أمر عليّ بن أبي طالبٍ ـ أو عاصم بن ثابت ـ بقتل عقبة، قال عقبة: فمن للصبية، يا محمد؟ قال: النار﴾!
١٠ ـ وكان عند رسول الله أسيران من بدر: أبو عزة الجمحي ومعاوية بن المغيرة؛ وقد مَنَّ عليهما. فلمّا كانت هزيمة أحد، قال أبو عزة للنبي: أقلني! فقال رسول الله: اضربْ عنقه، يا زبير! فضرب عنقه. وأرسل في إثر معاوية بن المغيرة قوماً فقتلوه ٤٤ .
١١ ـ وكان كعب بن الأشرف، من بني النضير اليهود، قد خشي تفوق محمد، بعد بدر ﴿فخرج حتى قدم مكّة، وجعل يحرّض على رسول الله، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش... ورجع الى المدينة، فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهن! فقال رسول الله: مَن لي بابن الأشرف؟ فتصدّى له أبو نائلة سلْكان ابن سلامة، أخو كعب من الرضاعة، في نفر، وقد ﴿مشى معهم رسول الله الى بقيع الفرقد ثم وجّههم فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهمّ أعنهم﴾. ورجع. فقصدوا خيبر في الليل، واحتالوا على كعب فأخرجوه من داره، وتماشوا معه بعيداً عن الحصن، وضربوه ضربة رجل واحد. ورجعوا الى محمد ﴿وهو قائم يصلي. فسلمنا عليه، فخرج الينا. فأخبرناه بقتل عدو الله﴾ ٤٥ .
وهكذا قتلت الأوس، بأمر محمد، كعب بن الأشرف حليف الخزرج.
١٢ ـ فاستأذن الخزرج الرسول في قتل سلاّم بن أبي الحقيق، حليف الأوس. فأذن لهم. وأمّر عليهم في قتله عبد الله بن عتيك. ففعلوا.
١٣ ـ وقال رسول الله: ﴿من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه! فوثب محيصة ابن مسعود على ابن سنينة، رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم، فقتله! فلامه أخوه. فقال لأخيه: واللهِ لقد أمرني بقتله مَن لو أمرني بقتلك لضربتُ عنقك﴾!
١٤ ـ وتفاقم نفاق ابن أُبَي، زعيم المدينة. ﴿فخطب رسول الله r الناس فقال: من لي بمن يؤذيني؟ ويجمع في بيته مَن يُؤذيني؟﴾. واختلف الأوس والخزرج في قتله فئتين. فأنقذه اختلافهم من القتل ٤٦ .
١٥ ـ قبل فتح مكّة، ﴿كان رسول الله r قد عهد الى امرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكّة، أن لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سمّاهم أمر بقتلهم وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة! منهم: عبد الله بن سعد لأنه كان قد أسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله r فارتدّ مشركاً راجعاً الى قريش. وكانت له قينتان، فرتني وصاحبتها. وكانتا تغنّيان بهجاء رسول الله r فأمر بقتلهما معه . والحويرث بن نُقَيذ بن وهب بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكّة. وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وكانت سارة ممن يؤذيه بمكّة. وعكرمة بن أبي جهل﴾ ـ ابن عمّه. ٤٧
﴿وكتب بجيْر بن زهير بن أبي سلمى الى أخيه كعب يخبره أن رسول الله r قتل رجالاً بمكّة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن مَن بقى من شعراء قريش قد هربوا في كل وجه. فإن كانت لك في نفسك حاجة فطرْ الى رسول الله r فإنه لا يقتل أحدا جاءَه تائباً. وإن أنت لم تفعل فانجُ إلى نجائك في الأرض﴾ ٤٨ . فنظم قصيدته (بانت سعاد) وجاء مسلماً ليسلم.
ـ فأين هذا كله من عفو المسيح لصالبيه، وهو على الصليب، على ما يرويه الإنجيل: ﴿يا أبتاه اغفر لهم، فإنهم لا يدركون ما يفعلون﴾! فأين الإِعجاز في الشخصية النبوية؟
خامساً: الشبهات على شريعة الجهاد في القرآن
كانت الهجرة الى المدينة، وما تبعها من شريعة الجهاد والقتال، انقلاباً في الرسول والرسالة، وانقلاباً في الدعوة والدين.
١ ـ انقلاب النبوّة الى إمارة
لقد لاحظ المؤرخون المسلمون الانقلاب العميق في سيرة النبي العربي، بعد الهجرة الى المدينة. قال حسين هيكل ٤٩ : ﴿هنا يبدأ الدور السياسي... وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبي أو رسول. فقد كان عيسى، وكان موسى، وكان من سبقهما من الأنبياء، يقفون عند الدعوة الدينية يبلّغونها للناس من طريق الجدل، ومن طريق المعجزة. ثم يتركون لمن بعدهم من الساسة وذوي السلطان أن ينشروا هذه الدعوة بالمقدرة السياسية، وبالدفاع عن حرية إيمان الناس بها... وكذلك أمر سائر الأديان في شرق العالم وغربه. فأما محمد فقد أراد الله أن يتمّ نشر الإسلام وانتصار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح﴾.
هذه الظاهرة الفريدة، في تاريخ النبوّة والدين، تعني انقلاب النبوّة الى إمارة. فالنبوّة تأسيس دين، لا تكوين دولة! والنبوّة رسالة السماء، لا سياسة الدنيا!
لكن تلك الظاهرة الغريبة في تاريخ الأديان تنبع، بحسب ابن خلدون، من واقع الأمة العربية في الحجاز. قال: ﴿إن العرب لا يحصل لهم الملك إلاّ بصبغة دينية، من نبوّة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة. والسبب في ذلك أنهم لخلْق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبُعد الهمه والمنافسة في الرئاسة﴾ ٥٠ .
وهذه الثنائية، في دمج الدين بالدولة، أصيلة في المجتمع العربي، لذلك انتهى اليها الإسلام في تأسيسه: ﴿فالديانة في المجتمع العربي البدائي كان يعبر عنها، كما كانت تنظم، بطريقة سياسية، لعدم وجود شكل آخر للتعبير عنها وتنظيمها. وبالعكس كانت الديانة وحدها هي التي تُعدّ أساس كل حكومة عند العرب الذين كان كل تصوّر للسلطة السياسية غريباً عنهم﴾ ٥١ .
والشهادات من السيرة النبوية على تحويل النبوّة إلى إمارة كثيرة. فقد رأى الأنصار والمعارضون في المدينة، منذ مطلع العهد بالمدينة، في محمد، ملكاً أكثر منه نبيّاً.
فهذا زعيم المعارضة في المدينة، عبد الله بن أُبَيّ العوفي ﴿رأى أن محمداً قد استلبه الملْك﴾ ٥٢ . وشاع بين الناس قول ابن أُبَيّ. فقال سعد، أحد سادة المدينة، للرسول: ﴿يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءَنا الله بك، وإنّا لننظم له الخرز لنتوّجه. فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكاً!﴾ ٥٣ هذا رأي الأنصار.
وتلك كانت نظرة اليهود الى محمد. لمّا أسلم عبد الله بن سلام، قال له اليهود: ﴿ما تكون النبوّة في العرب، ولكن صاحبك ملك!﴾ ٥٤ وظلّ هذا رأي اليهود حتى النهاية. ففي غزوة خيبر رأت صفية بنت حيي بن أخطب في منامها ان قمراً وقع في حجرها. فعرضت رؤياها على زوجها. فقال: ﴿ما هذا إلاّ أنك تمنّين ملك الحجاز محمداً! فلطم وجهها لطمة خضر عينيها منها﴾ ٥٤ .
وهذا كان أيضاً رأي زعماء المشركين في مكّة. في فتح مكّة انضم العباس عم النبي الى المسلمين. وجاء بأمر محمد يفاوض أبا سفيان بن حرب زعيم مكّة على فتحها بدون حرب. أمره بالشهادة لله، فتشهد. وأمره بالشهادة للنبي، فأجاب أبو سفيان: ﴿أمّا هذه، والله فإنَّ في النفس منها حتى الآن شيئاً! فقال له العباس: ويحك، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تُضرب عنقك! قال: فشهد شهادة الحق فأسلم... ثم قال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! قال: يا أبا سفيان إنها النبوّة! قال: نعم اذن﴾ ٥٦ .
وبعد فتح مكّة، ظل المكيّون الذين أسلموا بالفتح على هذا الرأي. هرب من وجه محمد صفوان بن أثمية، سيد قومه. فاستأمنه عُمير بن وهب لدى النبي، وخرج في طلبه ﴿وقال له: هذا أمان من رسول الله r . قال: ويحك! اغرب عني، فلا تكلمني. قال: أي صفوان، فداك أبي وأمي! أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس! ابن عمك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك!﴾ فرجع معه مسلماً ٥٧ .
وفي معركة حنين، ﴿لمّا انهزم الناس، رأى من كان مع رسول الله r من جفاة مكّة، الهزيمة، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن. فقال أبو سفيان ابن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وصرّح جبلة بن الحنبل: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان بن أمية: اسكتْ! فضَّ الله فاك! فوالله لأن يربّني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربّني رجل من هوازن﴾! ٥٨
فالرأي العام المعاصر للسيرة النبوية، رأى في محمد ملكاً أكثر منه نبيّاً.
وفي القرآن نفسه نرى أن النبي العربي اتخذ في سيرته مظاهر الإمارة والملك. فقد أخذ يقتفي في المدينة آثار الملوك الأنبياء من بني إسرائيل، حتى حسده اليهود وعيّروه، فنزل: ﴿أم يحسدون الناس (أي محمداً) على ما آتاهم الله من فضله! فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيماً!﴾ (النساء ٥٤). فسره الجلالان: ﴿فضل الله: النبوّة وكثرة النساء!﴾ وكانت كثرة النساء من مظاهر الإمارة والملك. فمثال محمد النبوّة والملك العظيم، وذلك بنص القرآن القاطع.
وقد أباح القرآن لمحمد ما فرض على المسلمين (النساء ٣ مع الأحزاب ٥٠) لئلا يكون على النبي حرج، ﴿سُنّة اللهِ في الذين خلوا من قبل﴾ (الأحزاب ٣٨). قال الجلالان: ﴿سُنّة اللهِ في الذين خلوا من الأنبياء أن لا حرج عليهم في ذلك، توسعة لهم في النكاح﴾!
ومن مظاهر السلطان كثرة الأسرى والغنائم. وقد كان محمد يَعلم أنه ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض﴾! فأباح له الأسرى والغنائم، من دون الأنبياء: ﴿فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً﴾ (الأنفال ٦٧ ـ ٦٩).
وسلك محمد في مكّة مسلك عيسى في النبوّة فكان يدعو الى الزهد في الدنيا. ولكن بالهجرة الى المدينة أخذ يسلك مسلك الملوك الأنبياء، فشرع القرآن له وللمؤمنين: ﴿اليوم أحلَّ لكم الطّيبات﴾ (المائدة ٥).
واقتضت مظاهر النبوّة والسلطان أن يخاطبه الناس كما يخاطبون الملوك بالغضّ من أصواتهم في حضرته: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله... لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي! ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض... إنَّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى... واعلموا أن فيكم رسول الله﴾! (الحجرات ١ ـ ٧). قال الجلالان: ﴿لا تقدّموا: لا تتقدّموا بقول أو فعل بدون اذن. نزلت في مجادلة أبي بكرٍ وعمر عند النبي r . ونزل في من يرفع صوته عند النبي r ﴾.
ومن مظاهر السلطان والمُلك أن تحترم الرعية نساء النبي ﴿كأمهاتهم﴾ (الأحزاب ٦)، ﴿ولا أن ينكحوا أزواجه من بعده أبداً﴾ (الأحزاب ٥٣) ـ كما كانت عادة الملوك! ولا أن يستأنسوا الحديث معهنّ! ﴿وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب﴾ (الأحزاب ٥٣). بذلك تقضي طهارة القلب وضرورة الملك.
وبلغت الحرمة التي يطلبها النبي لنفسه أن أمرهم القرآن بتقديم ﴿صدقة﴾ قبل مقابلته (المجادلة ١٢). لكنه نسخها لمّا استثقل الجماعة ذلك: ﴿أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقة﴾؟! (المجادلة ١٣).
أجل لقد كانت الهجرة انقلاباً في الرسول، فتحولت النبوّة إلى إمارة، بشهادة القرآن والسيرة.
٢ ـ انقلاب الرسالة الى دولة
بيعة العقبة الثانية كانت معاهدة عسكرية، قبل الهجرة: ﴿بايعهم رسول الله r في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود من الناس... صائحاً: الدم الدم! والهدم الهدم!﴾ ٥٩ . والقرآن المدني صورة لهذه البيعة العسكرية. فكانت الهجرة، وتحقيق أهدافها بشريعة الجهاد، انقلاباً في الدين الى دولة، وفي الرسالة الى سياسة حربية.
قال الإمام حسن البنّا، مرشد الإخوان المسلمين في مصر: ﴿الإسلام دين ودولة... وإنه تعرّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرَّض للأعمال التعبدية... إن الدين جزء من نظام الإسلام، والإسلام ينظمه كما ينظّمه كما ينظم الدنيا... ومَن ظن أن الإسلام لا يعرض للسياسة وأن السياسة ليست من مباحثه فقد ظلم نفسه وظلم علمه بهذا الإسلام. وجميل قول الإمام الغزالي: ﴿إن الشريعة أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع﴾ ٦٠ .
ويقول عمر فرّوخ ٦١ : ﴿كان الإسلام في مكّة دعوة دينية فصار في المدينة دولة دينية﴾. ثم يقول: ﴿الإسلام دولة. في المدينة أصبح الإسلام ديناً ودولة معاً. فبدأت قواعد الدولة الإسلامية بالرسوخ. وأخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي يجب أن تقوم عليها الدولة. وسيبرز في الوحي بعد ذلك ناحيتان: ناحية الجهاد لتثبيت الإسلام وإنشاء الدولة الجديدة، وناحية التشريع لإدارة هذه الدولة﴾.
والتشريع والجهاد هما القرآن المدني كله، وكلاهما لإقامة دولة الإسلام. وبتحويل الدعوة الدينية ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ الى جهاد وتشريع لإقامة الدولة الإسلامية تحوّلت الرسالة الى دولة: ﴿لقد كان الإسلام الى ذلك الوقت عبارة عن دين في دولة. أما في المدينة بعد بدر، فقد أصبح أكثر من دين دولة: إنه أصبح الدولة نفسها. ومن هناك، منذ ذلك الوقت، خرج الى العالم قوة حربية سياسية﴾ ٦٢ .
٣ ـ انقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية
كان أسلوب القرآن كله في مكّة دعوة دينية سمحاء: ﴿ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن: إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين﴾ (النحل ١٢٥). وكانت الدعوة بمكّة في وحدة تامة مع أهل الكتاب: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم (أي اليهود) ـ وقولوا: آمنا بالذي أُنزِل الينا وأُنزِل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون﴾ (العنكبوت ٤٦). فحتى آخر العهد بمكّة كان التنزيل واحداً، والاله واحداً، والإسلام واحداً، بين القرآن وأهل الكتاب النصارى.
وبالهجرة الى المدينة انقلبت الدعوة الدينية الى حرب أهلية.
أولاً مع المشركين. فنزل الإذن بالقتال: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلاّ أن يقولوا: ربنا الله﴾ (الحج ٣٩ ـ ٤٠). قال الزمخشري: ﴿هي أول آية أُذن فيها بالقتال، بعدما نهي عنه في نيّف وسبعين آية﴾. ثم صار الإذن فريضة وشريعة: ﴿كتب عليكم القتال، وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦). فالقتال على المسلم واجب إلهي، لفرض الإسلام وإقامة دولته.
ثانياً مع اليهود أهل الكتاب في ديار العرب. والحرب الأهلية مع اليهود تعقب الجدال الديني المتواصل معهم في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. قامت الحرب معهم لأنهم كانوا ﴿أول كافر به﴾ (البقرة ٤١)، ولأنهم ﴿كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون﴾ (البقرة ١٠٠). فنزل الأمر: ﴿وإمّا تخافنَّ من قوم خيانة فانبذْ اليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين﴾ (الأنفال ٥٨). فنابذهم فريقاً فريقاً حتى قضى على بعض منهم وأجلى بعضاً عن المدينة، وحتى أخضعهم في الشمال، كخيبر ووادي القرى.
وكانت الحرب الأهلية مع اليهود حرباً دينية وعنصرية معاً لتحرير الجزيرة منهم. تحالف فيها مع النصارى للتنكيل بهم: ﴿فآمنت طائفة من بني إسرائيل (بالمسيح) وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ (الصف ١٤). نزلت بعد فتح الشمال وكمال اخضاع اليهود لسلطان الدولة الإسلامية.
وكان يجري التنكيل بفريق من اليهود كلما فشل في حملة على مشركي مكّة: كان التنكيل ببني قينقاع، وكانوا أشجع اليهود، بعد بدر الأخرى لتهكمهم بالنبي، كما نقل ابن سعد في (طبقاته): ﴿يا محمد إنك ترى أنّا قومك! لا يغرّنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة: إنّا والله إنْ حاربناك لتعلمنَّ أنّا نحن الناس﴾. وبعد هزيمة أُحد حاصر بني النضير حتى أجلاهم. وبعد حصار غزوة الخندق، غزا بني قريظة حتى ﴿استُنزلوا من حصونهم فحبسهم رسول الله في دار. ثم خرج الى سوق المدينة فخندق بها خنادق. ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ٦٣ . وكانت غزوة الشمال الى خيبر ووادي القرى بعد فشل الحملة في الحديبية: ﴿أثابهم فتحاً قريباً... ومغانم كثيرة تأخذونها، فعجل لكم هذه، وكفّ أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين﴾ (الفتح ١٨ ـ ٢٠). حتى صار يساوي في العداوة والكفر ما بين اليهود والمشركين (البيّنة ١ ـ ٦، المائدة ٨٢).
ثالثاً مع المسيحيين على حدود الشام وفي اليمن، وهم غير النصارى من بني إسرائيل المقيمين بمكّة والحجاز. غزاهم النبي لأنهم عرب مسيحيون، لإقامة الوحدة العربية الشاملة. وفيهم نزلت آية براءَة: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ (براءَة - التوبة ٢٩).
وفي حرب المشركين واليهود والمسيحيين يردّد: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون﴾ واليهود العرب والمسيحيون العرب.
ويُختتم القرآن بهذه الصورة في الحرب الأهلية القائمة: ﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض. منها أربعة حرم، ذلك الدين القيّم، فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم. وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة! واعلموا أن الله مع المتّقين﴾ (براءَة ٣٦). فالحرب الأهلية شاملة طول السنة، مدى الحياة، ما عدا الأشهر الحرم الأربعة، واذا اقتضى الأمر ﴿قتال فيه (الشهر الحرام) كبير﴾ (البقرة ٢١٧). على هذه الصورة ينتهي القرآن: ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾.
إنها تحويل الدعوة الدينية الى حرب أهلية شاملة.
٤ ـ الرحمان الرحيم، رب العالمين، يصير إله الحرب
إن الدعوة المتواصلة، في القرآن المدني، للجهاد باسم الله، تعطي إله القرآن، مثل إله التوراة، صورة إله الحرب! ﴿فالرحمان الرحيم﴾، الذي باسمه يستفتح كل سورة، وباسمه يصلّي كل صلاة يتوارى وصفه الكريم ذلك في القرآن المدني والسيرة النبوية. فقد تبدل التنزيل والنبوّة وصار، الرحمان الرحيم، رب العالمين، إله الجهاد والغزو والقتال.
لقد صار ﴿رب العالمين﴾ عدو الكافرين: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودّة، وقد كفروا بما جاءَكم من الحق﴾ (الممتحنة ١).
وصار ﴿رب العالمين﴾ رئيس حزب: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه: أولئك حزب الله! ألا إنّ حزب الله هم المفلحون﴾ (المجادلة ٢٢). وحزب الله هم الذين يتبعون محمداً من دون العالمين: ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانهم أو عشيرتهم﴾ (المجادلة ٢٢)، ﴿انما وليّكم الله ورسوله... ومَن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون﴾ (المائدة ٥٥ ـ ٥٦).
وصار الرحمان الرحيم في الجهاد، خير الماكرين، لأن ﴿الحرب خدعة﴾ كما يقول الحديث. من مَكْر الله بالمكذبين استدراجهم الى كيده: ﴿والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين﴾ (الأعراف ١٨٢ - ١٨٣). ومن مكْر الله بهم استباق الخيانة: ﴿فإمّا تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء﴾ (الأنفال ٥٨) والدفاع عن المحاربين المؤمنين (الحج ٣٨). فالله يحارب مع النبي (الأنفال ٦٤) ويرسل ملائكته يقاتلون مع المسلمين جنوداً لا يرونها (الأنفال ٥٠؛ آل عمران ١٢٤ ـ ١٢٥) يمدّهم طوراً بألف من الملائكة مردَفين (الأنفال ٩)، وطوراً بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين (آل عمران ١٢٤). وطوراً بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين (آل عمران ١٢٥). وهكذا ﴿يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ (الأنفال ٣٠).
ومن مكر الله بسائر الناس، ﴿حزب الشيطان﴾ (المجادلة ١٩) أن يحتال عليهم بواسطة الشيطان: ﴿واذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وأني جار لكم، فلما تراءَت الفئتان نكص على عقبيه﴾ (الأنفال ٤٨). فالله يحتال على النبي ليقويه: ﴿يريكهم الله في منامك قليلاً﴾! وعلى المسلمين ليشدّ أزرهم: ﴿واذ يريكموهم في أعينكم قليلاً﴾! وعلى المشركين ليكيد لهم: ﴿ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً﴾ (الأنفال ٤٣ - ٤٤). ويستغلّ الله عناصر الطبيعة لمحالفة المسلمين: ﴿إذ يغشّيكم النعاس أمنةً منه! وينزل عليكم من السماء ماء ليطهّركم به﴾! (الأنفال ١١).
ويزيّن الله الجهاد للمؤمنين بالوعد العظيم بالجنة أو بالنصر؛ فعاقبة الجهاد ﴿احدى الحسنيين﴾: استشهاد أو شهادة (التوبة ٥٢). ويحرّض الله على القتال المجاهدين فيعدهم بالغفران والجنة، مهما كانت حالهم قبل الجهاد، ومهما كان سلوكهم في الجهاد: ﴿فالذين هاجروا... وقاتلوا وقُتِلوا لأكفرنَّ عنهم سيئاتهم، ولأدخلنهم جنّات تجري من تحتها الأنهار﴾ (آل عمران ١٩٥). وما الجهاد، في عرْف القرآن، سوى مبايعة الله على القتال والجنة: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: يقاتلون في سبيل الله، فيَقتلون ويُقتلون... وذلك هو الفوز العظيم﴾ (التوبة ١١١).
تلك هي صورة الله في القرآن المدني: إن الله، الرحمان الرحيم، رب العالمين، صار إله الحرب الشاملة الدائمة: ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ طول السنة، ما عدا الأشهر الأربعة الحرم، ومدى الحياة، فإن ﴿الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون! فقد كان النبي العربي، في شريعة الجهاد، والقيام بها، ﴿بدْعاً من الرسل﴾ (الأحقاف ٩) لأنه كان في رسالة السماء ﴿الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح﴾.
خاتمة
ليس إِعجاز محمّد في السيرة معجزة إلهية
يقول عبد الكريم الخطيب ٦٤ في ﴿مكانة النبي من القرآن وإِعجازه﴾: ﴿إن الكتاب ـ كما يقولون ـ يُقرأ من عنوانه. والرسول، في كل أمر، ولكل أمر، هو عنوان الرسالة التي يحملها، وهو الوجه الذي يلقى به الناس، قبل أن يلقاهم من رسالته وجه من وجوهها، وهو الروح التي تبسط أرواحهم أو تقبضها، قبل أن يبسطها أو يقبضها من الرسالة مضمون ومفهوم... و﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾. إنه يتخير لها من خلقه مَن هو أهل لها، ومَن يرى الناس فيه ثمرات الرسالة ونفحاتها، قبل ان يسمعوها كلمات وآيات! فيكون ذلك شاهداً مفصحاً بأقوى دليل لها، وأعظم برهان على ما تحمل من معالم الحق ومعاني الخير والاحسان... وإذن فنستطيع أن نقرّر: أن الرسول نفسه هو معجزة من معجزات القرآن، ووجه من وجوه إِعجازه، ودليل من أدلة هذا الإِعجاز﴾.
أجل إن النبي العربي ﴿هو عنوان الرسالة التي يحملها﴾؛ وهو بطل في العبقرية البشرية. لكن مظاهر سيرة النبي الشخصية والزوجية والنبوية والجهادية، كما يصفها القرآن والحديث والسيرة، ليست معجزة ذاتية، وليست من الإِعجاز في الشخصية النبوية، والقرآن نفسه، بتأكيده المتواتر على ﴿بشرية﴾ الرسول يقطع بذلك: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم﴾ (فصلت ٦؛ الكهف ١١٠).
هناك حديث مرفوع الى النبي: ﴿إن الله اصطفى من ولْد إبراهيم اسماعيل؛ واصطفى من ولد اسماعيل مضر؛ واصطفى من مضر كنانة؛ واصطفى من كنانة قريشاً؛ واصطفى من قريش هاشماً؛ واصطفاني من بني هاشم﴾.
لكنه حديث مدسوس لأنه ينقض صريح القرآن: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم، وآل عمران على العالمين: ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم﴾ (آل عمران ٣٣ ـ ٣٤). بحسب هذا النص القاطع الصريح، إن اصطفاء الله آدم الى نوح الى إبراهيم الى آل عمران، الى مريم بنت عمران كان للسيد المسيح، ذروة الذرية المصطفاة على العالمين. وهو وحده في شخصيته آية للعالمين: ﴿وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾ (الأنبياء ٩١)؛ ﴿وجعلنا ابن مريم وأُمّه آية﴾ (المؤمنون ٥٠)؛ فهو منذ مولده: ﴿آية للناس﴾ (مريم ٢١). ولا يقول القرآن في حقّ شخصية نبي من موسى الى محمد ما يقوله في شخصية المسيح المعجزة في ذاتها وفي سيرتها التي تستحق سلام الله من المولد الى الرفع الى السماء: ﴿والسلام عليَّ يوم وُلدت! ويوم أموت! ويوم أُبعث حيَّاً﴾ (مريم ٣٣).
فليس إِعجاز محمد في السيرة معجزة إلهية شخصية إنها سيرة بطولة، لا معجزة قداسة.
الجزء الثاني
الإِعجاز في النبوّة
توطئة
صفة نبوّة محمد وكيفيتها
﴿يا أيها النبي، إنّا جعلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً﴾ (الأحزاب ٤٥ ـ ٤٦)
﴿وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم﴾ ـ ولا يُقفّي القرآن على عيسى بأحد. (المائدة ٤٦)
ليس موضوع دراستنا صحة نبوءة محمد. فهذا موضوع خارج إطلاقاً عن أبحاثنا. مع ذلك فإني أؤمن بأن محمّداً قام برسالته ودعوته بناءً على وحي شخصي له من ملاك الله في رؤيا غار حرّاء.
لقد بحثنا في الفصل السابق مدى الإِعجاز في الشخصية النبوية، في سيرة محمد الشخصية والعائلية والنبوية والجمادية. وندرس في هذا الفصل صفة نبوّة محمد في القرآن، وكيفيتها بحسب المأثور عنها بما أسموه ﴿برحاء الوحي﴾.
إن النبوّة لها معنيان، عام وخاص: بالمعنى العام ، النبي هو الذي يُنبىء عن الله، ويبلغ الناس كلام الله. وبالمعنى الخاص، النبي هو الذي ينبىء المحجوب، غيب الخالق وغيب المخلوق. وقد درسنا في بحث سابق هل في القرآن من إخبار عن الغيوب، ماضية وحاضرة ومستقبلة؛ ورأينا القرآن يشهد بأن محمداً لا يعلم الغيب: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ (الأنعام ٥٠)، ﴿ولو كنت أعلم الغيب، لاستكثرتُ من الخير وما مسّني السوء﴾ (الأعراف ١٨٨).
فندرس الآن نبوءة محمد بمعناها العام، صفتها وكيفيتها.
بحث أوّل
معنى نبوءة محمّد بحسب القرآن
في أول سورة أعلنها النبي العربي من القرآن، سورة النجم ٦٥ ، يكشف كيفية اتصاله بملاك الوحي:
﴿والنجم اذا هوى .. ما ضلّ صاحبكم ولا غوى
وما ينطق عن الهوى .. إنْ هو إلا وحي يوحي
علّمه شديد القوى .. ذو مِرَّة فاستوى
وهو بالأفق الاعلى .. ثم دنا فتدلّى
فكان قاب قوسين أو أدنى .. فأوحى الى عبده ما أوحى
ما كذب الفؤاد ما رأى .. أفتمارون على ما يرى؟
ولقد رآه نزلة أخرى .. عند سدرة المنتهى
عندها جَنّة المأوى .. اذ يغشى السدرة ما يغشى
ما زاغ البصر وما طغى .. لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾
(النجم ١ ـ ١٨)
لقد رأى محمد ملاك الوحي مرتين. والملاك نزل إليه، ولم يصعد محمد بالروح الى الملاك: إنها ﴿نزلة أخرى﴾. لذلك ليس في تعابير ﴿جنة المأوى﴾ و﴿سدرة المنتهى﴾ تعابير لأماكن في السماء؛ إنما هي إشارات الى أماكن على الأرض: فقد كانت الرؤية نزلة أولى، و﴿نزلة أخرى﴾، حيث ملاك الوحي ﴿دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى﴾.
وكانت رؤيا ﴿بالفؤاد﴾، لا رؤية بالبصر: ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾، وفيها ﴿ما زاغ البصر وما طغى﴾ في رؤياه. وكانت رؤيا عظيمة: ﴿لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾، أي ملاك الوحي.
وموضوع الرؤيا لم تحدّده السورة، بل تركته مجملاً مبهماً: ﴿فأوحى الى عبده ما أوحى﴾. والقرآن كله يكشف لنا أن موضوع الرؤيا كان ﴿أمراً له من عند الله، لا القرآن السماوي نزل عليه جملة كما يتوهمون. إن القرآن صريح لا يحتمل تأويلاً: ﴿حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة ـ إنا كنّا منذرين ـ فيها يُفرق كل أمر حكيم، أمراً من عندنا: إنا كنا مرسلين﴾ (الدخان ١ ـ ٥). فتعابير التنزيل كلها في القرآن تشير الى أن ما ﴿أنزلناه﴾ كان ﴿أمراً من عندنا: إنا كنا مرسلين﴾ أي أنزل اليه أمر الله بالرسالة والدعوة، لا بمضمونها ولا بموضوعها. وكانت تلك الليلة المباركة ﴿ليلة القدر... تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ (سورة القدر) ﴿فيها يُفرق كل أمر حكيم﴾ (الدخان). فالتكرار المتواتر ﴿إنا أنزلناه﴾ في سورة الدخان وفي سورة القدر، كان ﴿أمراً من عندنا﴾، لا القرآن نفسه. فالقرآن الذي نزل في رؤيا غار حرّاء المزدوجة هو الأمر بتلاوة قرآن الكتاب على العرب في ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ـ وبيّنات من الهدى والفرقان﴾ (البقرة ١٨٥). في لغة القرآن إن الهدى كناية عن الكتاب، والفرقان كناية عن السُنة التي تفصّله. فالقرآن العربي هو ﴿بيّنات من الهدى والفرقان﴾، لذلك فهو غير
﴿القرآن﴾ الذي نزل في ﴿شهر رمضان﴾. هذا كان ﴿أمراً من عندنا: إنا كنا مرسلين﴾ (الدخان ٥). وتعبير ﴿القرآن﴾ يعني قراءَة الكتاب و﴿تفصيل الكتاب﴾.
والشواهد متواترة مترادفة في القرآن على أن ﴿القرآن﴾ الذي نزل في رؤيا غار حرّاء كان ﴿أمرا ً﴾ لا كتاباً كقوله: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن معهم﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢) وكقوله: ﴿إنما أُمرتُ أن أعبد الله ولا أشرك به؟ إليه أدعو وإليه مآب﴾ (الرعد ٣٦). هذا هو موضوع رؤيا غار حرّاء، في ليلة مباركة، ليلة القدر، من شهر رمضان، حيث كان محمد معتكفاً يصوم ويصلّي على عادة الرهبان، وعلى طريقة أستاذه ورقة بن نوفل، قس مكّة وحنيفها الأكبر في التحنّف والاعتكاف للصوم والصلاة.
وتكشف لنا سورة الشورى موضوع هذا الأمر الرباني: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً - أو من وراء حجاب ـ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه علي حكيم: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا؛ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه، نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم، صراط الله﴾ (٥١ ـ ٥٣).
إن ﴿روحاً من أمرنا﴾ يعني روحاً من عالم الأمر أي ملاكاً. والملاك الرسول ﴿يوحي بإذنه (تعالى) ما يشاء﴾: فالوحي يأتي مباشرة من الملاك، لا من الله؛ لذلك يقول: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾. والتعبير عن الارسال بالوحي دليل على انها رؤيا في المنام، لا رؤية في اليقظة. وموضوع هذه الرؤيا صريح: إنه هداية الى الإيمان بالكتاب، لأن الله جعله نوراً يهدي به من يشاء، والملاك يؤكد له أنه ﴿يهدي الى صراط مستقيم﴾. ﴿وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ حيث دين إبراهيم وموسى وعيسى الذي شرعه للعرب (الشورى ١٣ و١٥).
فرؤيا محمد كانت ﴿أمراً﴾ بالكتاب، والانضمام النهائي إلى ﴿المسلمين﴾ من قبله، وتلاوة ﴿قرآن﴾ الكتاب الذي معهم على العرب. فليس فيها تنزيل كتاب جديد على الإطلاق. هذا هو الواقع القرآني.
والملاحظة الحاسمة أن القرآن لا يذكر لمحمد من اتصال بملاك الوحي، إلاّ في هاتين النّزلتين من رؤيا غار حرّاء. والقرآن العربي كله ينتسب الى هذه الرؤيا، في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، من شهر رمضان.
فمعنى النبوّة عند محمد، بنص القرآن القاطع، هو الأمر بالإيمان بالكتاب: ﴿وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ (الشورى ١٥)، والدعوة له على طريقة ﴿المسلمين﴾ من قبله (النمل ٩١) أي النصارى من بني إسرائيل، وقسهم الأكبر ورقة بن نوفل، استاذ محمد، الذي كاد ينتحر عند وفاة معلمه. إنها نبوّة هداية لدعوة قائمة، تزعمها وفرضها على العرب.
بحث ثان
صفات النبي محمّد في القرآن
كثيراً ما يصف القرآن محمداً، ويسميه ﴿النبي﴾ و﴿الرسول﴾ وبما أن تعابير الوحي والتنزيل من متشابهات القرآن، فإنها لا تقطع بمعنى محدود لتعابير ﴿النبي﴾ و﴿الرسول﴾. وهذا يُلجئنا الى تحديد معناهما من القرآئن القرآنية.
أوّلاً: صفات عامة
الصفة المتواترة إنه نذير وبشير بالوعد والوعيد: ﴿وما أرسلناك إلاَّ مبشراً ونذيراً﴾ (الفرقان ٥٦)، ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً: وإنْ من أمة، إلاَّ خلا فيها نذير﴾ (فاطر ٢٤) ـ فهو نذير مثل كل نذير في كل أمة.
ويكرر: ﴿قلْ: إنما أنت منذر، وما من إله إلاّ الواحد القهار﴾ (ص ٦٥)، ﴿ألاَّ تعبدوا إلاّ الله، إنني لكم منه نذير وبشير﴾ (هود ٢). لذلك يقول: ليس عليه تقديم معجزة لهم لأن المعجزة شيمة الأنبياء الأولين، أما هو فليس سوى منذر: ﴿ويقول الذين كفروا: لولا أُنزِل عليه آية من ربه ـ إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد﴾ (الرعد ٧). فهو نبي ورسول بصفة منذرٍ هادٍ كما لكل قوم هادٍ، فهو لا يتميّز عن سائر الهداة من كل قوم. فهو يصف نفسه بميزة كل هادٍ في كل قوم، لا بصفة النبي في الكتاب، الذي يؤيد نبوته بمعجزة.
إن محمداً هو نبي ورسول بصفة الشاهد والداعي الى الله: ﴿يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً الى الله بإذنه، وسراجاً منيراً﴾ (الأحزاب ٤٥ ـ ٤٦). لاحظ كيف يجمع صفة المبشر والنذير الى صفة الشاهد فالداعي الى الله. ولاحظ دقة التعبير: ﴿وداعياً الى الله بإذنه﴾، فهو يدعو الى الله، ﴿بإذنه﴾ لا بكتاب منزل مباشرة من عنده.
فنبوءته شهادة: ﴿إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً﴾ (الفتح ٨) فهو شاهد كما في كل أمة شاهد عليها: ﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾. ويضيف: ﴿ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ (النحل ٨٩). إن ﴿المسلمين﴾ في لغة القرآن ليسوا جماعة محمد من العرب، بل النصارى من بني إسرائيل الذين أمِر بالانضمام اليهم (النحل ٨٩): فالكتاب الذي ﴿أُنزل﴾ عليه هو هدى وبشرى أي توراة وإنجيل للمسلمين، النصارى من بني إسرائيل ـ وهذا إشارة الى ﴿لقاء﴾ الكتاب فلا يكن في مرية من ذلك (السجدة ٢٣). وتنزيل الكتاب إليه هو تفصيله قرآناً عربياً: ﴿حم. تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب – فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً﴾ (فصلت ١ - ٤). إنه بشير ونذير ﴿بتفصيل الكتاب﴾ الذي فيه تنزيل الرحمان الرحيم.
فنبوءة محمد إنذار، وذكر، وشهادة، بتفصيل الكتاب القدسي قرآناً عربياً. لذلك فالقرآن العربي هو ﴿تفصيل الكتاب﴾ وتصديقه بين العرب (يونس ٣٧). إنه دعوة الى الله ﴿بإذنه﴾ تعالى، الذي ﴿شرع﴾ للعرب دين موسى وعيسى ديناً واحداً (الشورى ١٣).
ثانياً: صفاتٌ ثلاث تصف النبي العربي
١ ـ ﴿النبي الأمّي﴾
﴿الذين يتّبعون الرسول، النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل... قلْ يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً ـ فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمّي، الذي يؤمن بالله وكلمته (كلماته) واتّبعوه لعلكم تهتدون. ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ (الأعراف ١٥٧ ـ ١٥٩).
﴿الأمّي﴾ اصطلاح قرآني يعني من ﴿الأميّين﴾ الذين ليس لهم كتاب منزل.
نلاحظ أولاً إنها صفة وحيدة فريدة في القرآنّ لا ترد إلاّ في هذا النص. ومن أسلوب القرآن تواتر الصفة بشكل مضطرد.
ثانياً إن قصة ﴿النبي الأمّي﴾ تقطع سياق قصص موسى (١٠٢ ـ ١٦١) والاقحام صريح ظاهر: فقوم موسى يطلبون الى الله: ﴿واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة، أنا هدنا إليك﴾ (١٥٦) فيجيب: ﴿سأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ـ الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّي﴾. ففي ختام الآية (١٥٦) الجواب على طلبهم؛ ولكن لا يعقل أن يجيب الله على سؤال قوم موسى بأن الحسنة لقوم محمد بعد ألفي سنة!
فقصة ﴿النبي الأمّي﴾ مقحمة على السورة وحديث موسى.
يؤيد الاقحام الأول اقحام ثان: ﴿النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلمته﴾ (١٥٨) وهي قراءَة أصح من قراءة ﴿وكلماته﴾ ـ صفة ﴿النبي الأمّي﴾ إيمانه بالله والمسيح كلمة الله: ولا يُعقل أن يرد هذا في جواب الله على سؤال قوم موسى.
ويؤيده اقحام ثالث: ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ (١٥٩)؛ وهو مثل قوله: ﴿فآمنت طائفة من بني إسرائيل (بالمسيح) وكفرت طائفة﴾ (الصف ١٤). فالأمة من قوم موسى الذين يهدون بالحق وبه يعدلون هم الطائفة من بني إسرائيل التي آمنت بالمسيح. وما دخل هذا في سياق حديث موسى مع ربّه؟
والنتيجة الحاسمة لهذا الواقع القرآني أن حديث ﴿النبي الأمّي﴾ دخيل على السورة، وهذا الاقحام المفضوح دليل على أنه دخيل على القرآن.
والبرهان على ذلك من القرآن نفسه: ﴿النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل﴾، فهو ينسب الى التوراة والإنجيل إنهما يقولان بمجيء ﴿النبي﴾ الموعود من ﴿الأميّين﴾ غير أهل الكتاب. مع أن القرآن نفسه يحصر النبوّة في أهل الكتاب من ذرية اسحاق ويعقوب، ولا يشرك فيها ذرية اسماعيل بن إبراهيم. يقول: ﴿ووهبنا له اسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب﴾ (العنكبوت ٢٧). فالنبوّة والكتاب محصوران في ذرية إبراهيم من اسحاق ويعقوب، فهم أهل الكتاب من دون العالمين، ومن دون ذرية إبراهيم من اسماعيل الذين يسميهم لذلك ﴿الأميّين﴾: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم﴾ (الجمعة ٢)، ﴿وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأميّين: أأسلمتم؟﴾ (آل عمران ٢٠)، والقرآن انما يُسمّي العرب ﴿أميين﴾ لأنهم ليسوا من أهل النبوّة والكتاب. فكيف يقول ﴿بالنبي الأمّي﴾ من العرب؟
وصريح آية العنكبوت: ﴿ووهبنا له اسحاق ويعقوب، وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب﴾ (٢٧) يرفع ما تشابه في تصميم آية الحديد: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب﴾ (٢٦) كما يتضح من قرائنها التالية: ﴿فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون﴾ (٢٦): فلا يقول ذلك عن جماعة محمد ذرية اسماعيل. ويؤيده ما يليه: ﴿ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم﴾ (٢٧). فالنبوّة والكتاب في ذرية إبراهيم الذين منهم الرسل وعيسى ابن مريم، فهم أهل ﴿الكتاب والحكم والنبوّة﴾ (آل عمران ٧٩؛ الأنعام ٨٩؛ الجاثية ١٦)، وعلى محمد نفسه أن ﴿يقتدي بهداهم﴾ (الأنعام ٩٠).
وليس في التوراة والإنجيل ذكر ﴿للنبي الأمي﴾. ونبوءة التوراة ﴿بالنبي مثل موسى﴾ صريحة، مهما حاولوا استجلابها لتعني محمداً: ﴿يقيم لك الله الهك نبيّاً من وسطك، من اخوتك، مثلي، له تسمعون﴾ (التثنية ١٨: ١٥). يقولون إن اخوة إسرائيل هم بنو اسماعيل. ولماذا ليسوا بني مدين بن إبراهيم من قطورة، زوجه الثانية؟ وفاتهم التصريح: ﴿من وسطك﴾ وهو قرينة حاسمة على معنى ﴿من اخوتك﴾. فالنبي الموعود هو من ﴿وسط﴾ بني إسرائيل. والقرينة الثانية هي ﴿يقيم لك﴾: فالنبي الموعود يُقام لإسرائيل لا للعرب، والقرآن ﴿ذكر لك ولقومك﴾.
والمسيح في الإنجيل يطبّق نبوءة موسى في ﴿النبي﴾ الموعود على نفسه، لا على غيره. ففي زمن المسيح كان اليهود ينتظرون رجوع ﴿إيليا﴾. وظهور ﴿النبي﴾ الموعود، وظهور المسيح، كما يتضح من سؤال وفد مجلس السنهدرين ليوحنا المعمدان: ﴿فلِمَ تعمّد إن كنت لست المسيح ولا ايليا ولا النبي﴾ (يوحنا ١: ٢٥). وقد صرح المسيح أن إيليا رجع بشخص يوحنا المعمدان (مرقس ٩: ١٣). وقد صرح أيضاً لوفد المعمدان أنه هو نفسه ﴿النبي الموعود﴾، بالمعجزات الموعودة التي تظهر على يده وقد أجراها أمام الوفد (متى ١١: ٢ ـ ٦). كما صرّح للأحبار والعلماء في هيكل أورشليم: ﴿لوكنتم تصدقون موسى لصدقتموني أنا أيضاً، لأنه كتب عني﴾ (يوحنا ٥: ٤٦).
وهكذا فلا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن نفسه تذكر ﴿النبي الأمّي﴾، سوى القصة الدخيلة على حديث موسى في سورة الأعراف (١٥٦ ـ ١٥٧).
فلا يسعنا الاستناد الى قوله ﴿النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل﴾ لتأليف الكتب والفصول في استجلاب نصوص التوراة والإنجيل، بدون منطق ولا موضوعية ولا فهم صحيح لنصوصها وقرائنها القريبة والبعيدة، لتؤيد قهراً وزوراً آية دخيلة على القرآن، ضدّ معطيات التوراة والإنجيل والقرآن نفسه. وتعبير ﴿النبي الأمّي﴾ متعارض في نفسه: فاصطلاح ﴿الأمي﴾ يعني أنه من الأمميين الذين ليس لهم كتاب منزل، ولا عندهم وحي ونبوءة، فكيف يكون النبي ﴿أميّاً﴾ أي من الأمم، وكيف يكون ﴿الأمي﴾ نبيّاً؟
٢ ـ الرسول أحمد
﴿واذا قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل أني رسول الله إليكم، مصدّقاً لما بين يدّي من التوراة ـ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ـ فلما جاءَهم بالبيّنات قالوا: هذا سحر مبين﴾ (الصف ٦).
نلاحظ أولاً إن القرآن كله لا يذكر للمسيح نبوءة برسول يأتي من بعده. فهذا الجزء من الآية وحيد فريد في القرآن كله. ومن أسلوب القرآن التواتر في أخباره.
ثانياً: في حديث التقفية بالرسل بعضهم على بعض يختم دائماً بالمسيح ولا يقفّي عليه بأحد، وذلك في المواطن الثلاثة الوحيدة:
١) ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفينا من بعده وبالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءَكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم، وفريقاً تقتلون﴾ (البقرة ٨٧). هذا كل تاريخ النبوّة في إسرائيل.
٢) وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل في هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين﴾ (المائدة ٤٦). قفّى على جميع الرسل بعيسى، ولم يقفِّ عليه بأحد. وإنجيله ﴿هدى وموعظة للمتقين﴾، والمتقون اصطلاح كتابي قرآني للمؤمنين من الأمم كالعرب؛ فهم جماعة محمد من العرب، والإنجيل نفسه ﴿هدى موعظة﴾ لهم.
٣) ﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب (كتاب موسى) فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل﴾ (الحديد ٢٦ ـ ٢٧). ففي تاريخ النبوّة والكتاب لا يقفّي على عيسى بأحد. فهو في عرْف القرآن خاتمة النبوّة والكتاب.
والنتيجة الحاسمة لهذا الواقع القرآني إن قوله: ﴿ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾ مقحم على الآية. ولو سقط لَمَا شعر أحد بخلل في نظم القرآن المحكم كقولنا: ﴿واذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل أني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدَيَّ من التوراة. فلما جاءَهم بالبيّنات قالوا: هذا سحر مبين﴾. يؤيد هذا التكرار في آية (المائدة ٤٦).
ولقد فلّوا الإنجيل كله فلم يعثروا على نبوءة للمسيح برسول يأتي من بعده. لكنهم وجدوا في وعد المسيح ﴿بالروح القدس الفارقليط﴾ لرسله ركيزة متشابهة فتمسكوا بها وقالوا منذ سيرة ابن هشام: ﴿صفة رسول الله صفحة من الإنجيل: ﴿مَن أبغضني فقد ابغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة. ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزّونني (يقلبونني) وأيضاً للرب. ولكن لا بدَّ من أن تتم الكلمة التي في الناموس: إنهم أبغضوني مجاناً أي باطلاً. فلو قد جاء المُنْحَمنّا، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب، روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي. في هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا﴾.
ويضيف ابن هشام: ﴿والمُنْحَمنّا بالسريانية: محمد! وهو بالرومية البرَقليطس، صلى الله عليه وسلم﴾.
إن البرقليطس أو الفارقليط هو ﴿روح القدس﴾، وروح القدس في القرآن جبريل، وفي الإنجيل شخصية الهية بسبب مصدره: ﴿هو الذي من عند الرب خرج﴾ فهو على كل حال ليس بشراً مثل محمد تنطبق عليه الآية، كما يتضح من الآيات (يوحنا ١٤: ١٦ ـ ١٧؛ ١٤: ٢٦؛ ١٥: ٢٦؛ ١٦: ٧ ـ ١١؛ ١٦: ١٣ ـ ١٥).
ونسى بعضهم أن الفارقليط هو الروح القدس، بنص الآية القاطع، وراحوا يتحذلقون في قراءَة التعبير اليوناني قراءة محرفة لم ترد في نسخة من النسخ، واختلاف القراءة لا يظهر في النقل العربي ﴿الفارقليط﴾. وهو في الأصل ﴿المعين﴾ وبتحريف حرفين من الكلمة تعني ﴿المحمود، المحمّد، الأحمد﴾. وهي قراءَة لا وجود لها في النسخ ـ ولكن مهما كانت القراءَة، فصفة الفارقليط تمنع منعاً باتاً أن نرى فيه محمداً أو أي بشر رسول لأنه ﴿روح القدس﴾ وعلى الأصح: ﴿الروح القدس﴾، روح الحق الذي من الآب ينبثق﴾ (يوحنا ١٥: ٢٦): فمصدره إلهي، لا مخلوق.
وهكذا فلا الإنجيل يبشر برسول بشر يأتي بعد المسيح، ولا القرآن نفسه ينسب لعيسى البشرى برسول يأتي من بعده، إلا في جزء مقحم على آية، لا مثيل له في متواترات القرآن.
إن هذا الجزء من الآية: ﴿ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد﴾ هو أيضاً دخيل على الآية وعلى القرآن كله. إِن برهانهم لإِعجاز النبوّة المحمدية في التماس البشائر لها في الكتاب، كما يجدونها للمسيح، لا أساس له في التوراة والإنجيل على الإطلاق، مع كل الكتب والفصول التي يكتبون. فالكتاب كله، من التوراة الى النبيّين، الى الزبور، الى الحكمة، الى الإنجيل لا تعرف نبيّاً موعوداً يأتي من غير أهل الكتاب، على الإطلاق. والقرآن نفسه في حديث ﴿التقفية﴾ على الرسل يقفي على الجميع بالمسيح ولا يقفي عليه بأحد، فهو في نظره خاتمة النبوّة والكتاب.
٣ ـ ﴿خاتَم النبيّين﴾
﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبيّين﴾ (الأحزاب ٤٠).
للتعبير ﴿خاتم﴾ قراءَتان: خاتم (بالكسر) أي ﴿آخرهم الذي ختمهم. أو خُتموا به، على قراءَة عاصم (بالفتح﴾) (البيضاوي)، ﴿وخاتم النبيّين: فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيَّاً، وفي قراءَة بفتح التاء كآلة الختم أي به ختموا﴾.
فالتعبير ﴿خاتم النبيّين﴾ متشابه قراءة ومعنى، فلا يصلح أن تقوم عليه قضية ولا عقيدة.
وللتعبير ثلاثة معان: ١) خاتمة الأنبياء ٢) خاتَم، يختمهم كآلة الختم أي يصدّقهم ٣) ﴿فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيّاً﴾.
أما معنى: لا ابنَ له يخلفه نبيّاً، فهو أقربها الى نصّ الآية: ﴿ما كان محمد أبَ أحد من رجالكم﴾. وهذا يقضي على المعنيين الآخرين.
وأما معنى ﴿خاتمة الأنبياء﴾ فلا أصل له في القرآن كله.
وأما معنى ﴿خاتَم النبيّين﴾ أي ﴿كآلة الختم﴾ يصدّقهم، فهو المعنى المتواتر في القرآن: ﴿بل جاءَ بالحق وصدَّق المرسلين﴾ (الصافات ٣٧)، ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧ قابل يوسف ١١١)، ﴿مصدّق لما معهم﴾ (٢: ٨٩ و١٠١)، ﴿مصدّق لما معكم﴾ (٣: ٨١)، ﴿مصدّق الذي بين يديه﴾ (٦: ٩٢)، ﴿مصدقاً لما معكم﴾ (٢: ٤١، ٤: ٤٧)، ﴿مصدقا لما معهم﴾ (٢: ٩١)، ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ (٢: ٩٧؛ ٣: ٣؛ ٥: ٤٦ مرتين؛ ٥: ٤٨؛ ٣٥: ٣١؛ ٤٦: ٣٠).
فصفة القرآن المتواترة أنه ﴿كتاب مصدّق﴾ (الأحقاف ١٢)؛ وصفة محمد المتواترة أنه ﴿صدق المرسلين﴾، وهذا هو المعنى الوحيد للتعبير المتشابه، ﴿خاتم النبيّين﴾.
فليس في القرآن من تصريح بأن محمداً خاتمة الأنبياء. إنه ﴿خاتمَ النبيّين﴾ أي الذي ﴿صدَّق المرسلين﴾.
بحث ثالث
نبوءة محمّد هداية واقتداء
قلنا ونقول: إن تعابير ﴿الوحي﴾ و﴿التنزيل﴾ من متشابهات القرآن، فلا تقطع بمعنى محدود، ولا بكيفية معيّنة. فلا يصح أن يُبنى عليها قضية ولا عقيدة. لذلك فتعابير ﴿النبي﴾ و﴿الرسول﴾ لا تقطع بمعنى محدود.
وتصاريحه مثل قوله: ﴿إنا أوحينا إليك، كما أوحينا الى نوح والنبيّين من بعده﴾ (النساء ١٦٣) لا تدل على المطابقة في كيفية الوحي، ولا على المقابلة أو المماثلة، فإن تصاريح أخرى تقيد معناها، كقوله: ﴿وإن هذا لفي الصحف الأولى﴾؛ ﴿أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى﴾.
وتصاريحه مثل قوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين...﴾ لا تقطع بمعنى محدود لقوله: ﴿وإنه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧)، ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم، (الأنعام ٢٠؛ البقرة ١٤٦) لأن القرآن العربي له ﴿مثله﴾ عندهم من قبله (الأحقاف ١٠).
فيجب أن نلتمس صفة النبوّة المحمدية من القرائن القرآنية.
عند فتور الوحي، يعدّد له الله عليه فيقول: ﴿ووجدك ضالاً فهدى﴾ (الضحى ٧). فنبوءته هداية. وهذه الهداية تستمر حتى الفتح المبين، مع ما تقدم وتأخر من ذنبه: ﴿وليتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً﴾ (الفتح ٢).
وصلاة الفاتحة هي صلاة محمد قبل أمته: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾.
والقرآن نفسه ينصّ على أن رؤيا الوحي اليه كانت هداية الى الإيمان بالكتاب والدعوة له بين العرب والعدل به بين أهل الكتاب: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى ٦٦ الى صراط مستقيم﴾ (الشورى ٥٢)؛ ﴿فلذلك فادعُ واستقم كما أمرتَ، ولا تتبع أهواءَهم! وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرتُ لأعدل بينكم﴾؛ وهذا العدل هو بإقامة دين موسى وعيسى معاً (الشورى ١٥ مع ١٣).
ومما يؤيد أن نبوته هداية الأمر المكرر اليه: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ - ٩٢) ﴿وأمرتُ أن أكون من المؤمنين﴾ (يونس ١٠٤)، ﴿وأمرتُ أن أسلم لرب العالمين﴾ (غافر ٦٦)، ﴿وقلْ: أني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين﴾ (الزمر ١١ - ١٢). في رؤيا غار حرّاء - يؤمر محمد بالإيمان بالكتاب، وبالانضمام الى ﴿المسلمين﴾ الموجودين قبله، هذه هي الهداية عينها، كما ينص الحرف عينه: ﴿وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم﴾ (الشورى ٥٢).
إن نبوءة محمد مصدرها وحي في رؤيا حراء، كما يقول: ﴿وإن اهتديتُ فيما يوحي اليّ ربّي﴾ (سبأ ٥٠)، ولكن موضوعها ليس وحياً جديداً، بل إقامة التوراة والإنجيل معاً (المائدة ٦٨)، على دين موسى وعيسى معاً (الشورى ١٣ على طريقة ﴿المسلمين﴾ الذين أُمر أن ينضم اليهم (النمل ٩١)، وهو يشهد بالقرآن، ﴿تفصيل الكتاب﴾، مع هؤلاء ﴿المسلمين﴾ النصارى، أولي العلم المقسطين، الراسخين في العلم: ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩ مع ٧).
إن محمداً، في رؤيا حراء، اهتدى الى الإيمان بالكتاب، والى إسلام المسلمين من قبله، النصارى من بني إسرائيل؛ وهو بالقرآن يدعو الى هذا الإسلام ﴿النصراني﴾. لذلك يأتيه الأمر المتواتر: ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). اهتدى نهائيّاً برؤيا غار حرّاء، لكن الأمر له أن يقتدي على الدوام بهدى أهل ﴿الكتاب والحكمة﴾ الذين يقيمون التوراة والإنجيل معاً، على دين موسى وعيسى معاً، وهم النصارى من بني إسرائيل.
وهذا الأمر بالاقتداء المتواصل في دعوته بهدى ﴿المسلمين﴾ من قبله، برهان أيضاً على أن نبوّة محمد كانت هداية الى إسلام النصارى من بني إسرائيل. يؤيّد ذلك أيضاً هذه الظاهرة الكبرى المستغربة: إن القرآن العربي إخبار عن ﴿القرآن﴾، إخبار عن غيره، لا عن نفسه. لم ينزل القرآن العربي بعد، وهو يؤمر منذ مطلعه: ﴿ورتل القرآن ترتيلاً﴾ (المزمل ٤) - لاحظ التعريف المطلق: ﴿القرآن﴾. وقد أُمِر في رؤيا حراء أن يكون من المسلمين وأن يتلو معهم ﴿القرآن﴾ (النمل ٩١ - ٩٢). لذلك يستفتح كثيراً من سوره بالاشارة الى تلاوة ﴿القرآن﴾ المطلق، ثم يعلّق عليه بالسورة الورادة: ﴿ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين﴾ من العرب (البقرة ١ ـ ٢)، ﴿تلك آيات القرآن وكتاب مبين، هدى وبشرى للمؤمنين﴾ (النمل ١ ـ ٢) أي، بحسب اصطلاحه، توراة وإنجيل معاً للمؤمنين المسلمين، أولي العلم المقسطين؛ ﴿تلك آيات الكتاب المبين﴾ (الشعراء ٢، القصص ٢)، ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ (يونس ١)؛ ﴿تلك آيات الكتاب وقرآن مبين﴾ (الحجر ١) ـ لاحظ المقابلة مع (النمل ١ ـ ٢) ـ ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ (لقمان ٢)؛ ﴿تلك آيات الكتاب﴾ (الرعد ١).
كلها إشارات الى ما تلا من الكتاب أي قرآن الكتاب، ثم يليها في سورة القرآن العربي تعليق عليه، كما يتضح أيضاً من قوله: ﴿تلك آيات الكتاب المبين: إنا أنزلناه. قرآناً عربياً﴾ (يوسف ١ ـ ٢). فالقرآن العربي هو غير الكتاب المبين وغير القرآن المبين: إنه إخبار عنه وتعليق عليه. وقوله: ﴿إنا أنزلناه قرآناً عربياً يعني: إنا جعلناه قرآناً عربياً كما يقسم: ﴿والكتاب المبين: إنا جعلناه قرآناً عربياً﴾ (الزخرف ٢ ـ ٣).
والتمييز بين القرآن المنزل القرآن العربي الذي يفصله صريح قوله: ﴿تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب ـ فصلت آياته قرآناً عربياً﴾ (فصلت ٢ ـ ٣)، فهما: ﴿كتاب أحكمت آياته ـ ثم فصّلت من لدن خبير حكيم﴾ (هود ١). فالقرآن العربي، القرآن المفصِّل، هو إخبار عن القرآن المحكَم، ﴿القرآن العظيم﴾، القرآن المفصَّل. وكما يستفتح بالاشارة الى ﴿القرآن﴾ المطلق، في الكتاب الذي مع أهل الكتاب؛ فهو يستفتح أيضاً بالقسم به على صحة الدعوة بالقرآن العربي: فالتمييز بين القرآن المقسَم به، والقرآن العربي المقسَم عليه متواتر مترادف، ولا يصح أن يكون المقسَم به والمقسَم عليه واحداً:
﴿قَ. والقرآنِ المجيدِ...﴾ (ق ١)
﴿ص. والقرآنِ ذى الذكر...﴾ (ص ١)
﴿يس. والقرآن الحكيم...﴾ (يس ١ ـ ٢)
فالقرآن الحكيم القرآن ذي الذكر، القرآن المجيد، ليس القرآن العربي كما يتضح من القسم به. يتضح أيضاً من القسَم به على حقيقة القرآن العربي:
﴿والكتاب المبين: إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً﴾ (الزخرف ٢ ـ ٣)
﴿والكتاب المبين: إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا، إنا كنا مرسلين﴾ (الدخان ٢ ـ ٥). إن الضمير المستتر المتواتر في مثل هذه المواطن لا يعني القرآن العربي بل الأمر بالهداية الى قرآن الكتاب، وتلاوته على العرب.
فالقرآن المشهور المعروف الذي يخبر عنه القرآن العربي هو غيره، بصريح قوله أيضاً: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم... كما أنزلناه على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين﴾ (الحجر ٨٧ و٩٠ ـ ٩١). فسره الجلالان: ﴿الذين جعلوا القرآن أي كتبهم المنزلة عليهم؛ (عضين) أجزاء، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض﴾.
فالقرآن على الإطلاق هو الكتاب المقدس؛ والقرآن العربي إنما هو إخبار عنه ودعوة إليه، لأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧).
وهكذا يتضح لنا، من الواقع القرآني، إن نبوءة محمد هداية الى إسلام ﴿المسلمين﴾ من قبله، النصارى من بني إسرائيل، واقتداء دائم بهداهم في الكتاب الإمام، القرآن العظيم، بحسب ﴿المثل﴾ الكريم الذي معهم: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠) فقد ﴿شرع﴾ الله للعرب دين موسى وعيسى ديناً واحداً (الشورى ١٣) بحسب ﴿مثله﴾ الذي من قبله. فلا جدال في ذلك مع أهل الكتاب النصارى، لأن الإله واحد والتنزيل واحد والإسلام واحد معهم (العنكبوت ٤٦).
بحث رابع
هل القرآن العربي أسلوب جديد في النبوّة والمعجزة
إن المدرسة العصرية في علوم القرآن ثبت لها موقف القرآن السلبي من كل معجزة حسية: فلا معجزة حسية في السيرة النبوية والدعوة القرآنية، مهما ماحك المماحكون الرجعيون.
وكان ردّ القرآن العربي على تحديهم له بمعجزة ﴿كما أرسل الأولون﴾ (الأنبياء ٥)، العجز المطلق عن كل معجزة حسية، كما يقرّر: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا... إلا أن تأتيهم سُنّة الأولين﴾ (الكهف ٥٥)، المعجزة التي يشهد بها الله لأنبيائه. لذلك ظلوا دائماً يقولون: ﴿لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسل الله﴾ (الأنعام ١٢٤). لكن لمّا أتاهم محمد بمعجزة ﴿الحديد الذي فيه بأس شديد، ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥) دخلوا في دين الله أفواجاً (النصر ٢).
تجاه هذا الواقع القرآني قال الأقدمون بإِعجاز القرآن في النظم والبيان معجزة له. وسنرى أمرها بعد حين.
ولعدم اقتناع المدرسة العصرية بصحة إِعجاز القرآن والبيان معجزة له ـ وقد حطمها المرحوم فريد وجدي تحطيماً - قالوا: ليست المعجزة بلازمة لصحة النبوّة والتنزيل؟ وقالوا مع الأستاذ دروزة ٦٧ :
﴿وهذه النواحي الايجابية في النصوص القرآنية يصح أن تكون مفسرة لحكمة ذلك الموقف السلبي (من المعجزات)، بحيث يصح أن يُستلهم منها وأن يقال ـ وقد ألمع الى ذلك غير واحد من الباحثين أيضاً ـ إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوّة سيدنا محمد عليه السلام، وبرهاناً على صحة رسالته، وصدق دعوته التي جاءت بأسلوب جديد:
﴿هو أسلوب لفت النظر الى الكون وما فيه من آيات باهرة، والبرهنة بها على وجود الله، وقدرته الشاملة، ووحدته، واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة والاتجاه، وبطلان الشرك والوثنية أو سائر العقائد والتقاليد المتناقضة مع هذا الأصل النقي البسيط.
﴿ثم أسلوب مخاطبة العقل والقلب، في الحث على الفضائل، والتنفير من الرذائل، وإثبات قدرة الله على الحياة الأخرى، وفكرة الحق والعدل فيها.
﴿وعلى اعتبار أن الدعوة التي تقوم على تقرير وجود الله واستحقاقه وحده للعبودية، واتصافه بجميع صفات الكمال، وعلى التزام الفضائل، واجتناب الفواحش، هي في غنى عن معجزات خارقة للعادة، لا تتصل بها في الذات.
﴿وفي هذا ما فيه من وضوح ميزة الرسالة المحمدية وترشيحها للخلود والتعميم. وآيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت وانقضت. ولكن أسلوب الدعوة القرآنية ـ هذا الذي اختلف كل الاختلاف عن أسلوب الكتب المنزلة على بعض أولئك الأنبياء ـ هو أسلوب خالد حي في كل زمان ومكان ببراهينه ودلائله، وحيويته وفصاحته ومعقوليته وسموه. ولذلك كان وظل معجزة النبوّة الخالدة الكبرى، من هذه النواحي﴾.
هذا موجز مواقف المدرسة الحديثة في النبوّة والمعجزة. نقول:
أولاً: ليس هذا الأسلوب القرآني، ﴿أسلوب لفت النظر الى الكون... ثم أسلوب مخاطبة العقل والقلب، في الحث على الفضائل والتنفير من الرذائل﴾، بجديد . إنه أسلوب الكتاب من قبله. وقد جعله القرآن نفسه في ذلك أيضاً ﴿إمامه﴾ في الهدى والبيان (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢). وإنه أسلوب أشعيا في القسم الثاني من نبوءته (ف ٤٠ ـ ٥٥). إنه أسلوب سفر الامثال في قسمه الأول (ف ١ ـ ٩)؛ إنه أسلوب سفر ابن سيراخ في كثير من فصوله. إنه خصوصاً أسلوب سفر الحكمة، والزبور كله. إنه أسلوب الإنجيل، مع الكشف عن سر الله والكون والانسان، كقوله في خطابه على الجبل: ﴿انظروا الى طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى أهراء، وأبوكم السماوي يقوتها: أفلستم أنتم أفضل منها؟... تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، إنها لا تتعب ولا تغزل! وأنا أقول لكم، إن سليمان في كل مجده لم يلبس كواحدة منها، فإذا كان عشب الحقل، الذي يكون اليوم ويطرح غداً في التنور، يلبسه الله هكذا، فكم بالأحرى يلبسكم أنتم، يا قليلي الإيمان...﴾ (متى ٦: ٢٤ ـ ٣٤).
وقد أوجز بولس الرسول أسلوب لفت النظر الى الكون، والبرهنة بالخليقة عن خالقها في الهيته وقدرته: ﴿إن ما يُعرف عن الله واضح لهم، إذ إن الله قد أوضحه لهم: فإن صفاته غير المنظورة، ولا سيما قدرته الأزلية والهيته تُبصر منذ خلق العالم مدركة بمبروءاته. فهم اذن بلا عذر: هم الذين استبدلوا حقيقة الله بالباطل، واتقوا المخلوق وعبدوه من دون الخالق، تبارك الى الدهور آمين﴾ (الرسالة الى الرومانيين ١: ١٨ ـ ٢٨)
فالكتاب وأهله يعرفون أن الله تعالى قد وضع كتاب الخلق، قبل كتاب الوحي، للكشف به عن نفسه، وإن كان ﴿ليس كمثله شيء﴾. فليس أسلوب القرآن بجديد.
ثانياً: إن أسلوب الدعوة القرآنية لم يختلف كل الاختلاف عن أسلوب الكتب المنزلة من قبله ببراهينه ودلائله وحيويته وفصاحته ومعقوليته وسموه. فالقرآن يشهد، وهو خير الشاهدين، ان الكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى والبيان، ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠ ـ ١٢ قابل هود ١٧): إن ﴿مثل﴾ القرآن موجود قبله.
ثالثاً: إن البرهنة بكتاب الخلق عن الخالق أسلوب في النبوّة والكتاب، وأسلوب كل منطق عند الانسان وعلماء الكلام في كل الأديان. ومع ذلك لا يدّعي اصحابه انه تنزيل من الله، ولا يكفي صدقه للإيمان بوحيه، فلا بدَّ له من قرين معه يشهد له انه وحي من الله: وهذه هي المعجزة، سلطان الله المبين.
والإِعجاز في النظم والبيان ﴿سر محجوب﴾، ﴿السر الذي حير الناس﴾ في كل زمان، فلم يهتدوا فيه الى وجه المعجز في البيان. فلا يصلح في النبوّة والتنزيل للبرهان، حتى يكون ﴿معجزة النبوّة الخالدة الكبرى﴾.
رابعاً: إن ﴿آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت وانقضت﴾. لكنها أدت دورها في الشهادة على صحة الرسالة وصدق الدعوة، عند الذين جاؤوا بها: وما يزل تاريخها الصحيح الصادق خير برهان على ضرورة الإيمان.
خامساً: اقتصار الوحي على لفت النظر الى آيات الكون الباهرة، هو تنزيل الوحي من ﴿علو الجهة المنزل منها﴾ إلى مرتبة وحي الفطرة. وما يدرك بالفطرة، لا حاجة لنا به الى وحي منسوب الى الله. إن ﴿الأسلوب الجديد﴾ في الوحي القرآني يجعله وحي الفطرة، لا وحي التنزيل.
سادساً: لو لم يكن عند الله، جلّ جلاله، شيء يقوله لنا غير ما في كتاب الخلق، لما أنزل الينا كتاب الوحي.
يقول السيد قطب ٦٨ : ﴿فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول (والغيب) حصته، وإن يحسب له حسابه: لا يدعو الى هذا مجرّد القداسة الدينية، ولكن يدعو اليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح نوافذ المعرفة. ﴿فالمعقول﴾ في عالم الذهن، و﴿المحسوس﴾ في تجارب العلم، ليسا هما كل ﴿المعروف﴾ في عالم النفس. وما العقل الإنساني ـ لا الذهن وحده ـ إلاَّ كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة. ولن يُغلق انسان على نفسه هذه المنافذ إلاّ وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح للحكم في هذه الشئون الكبار. فلندع الذهن يدبر أمور الحياة اليومية الواقعة، أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة، فهي في أفقها العالي، هناك﴾.
وهكذا فلا جدّة، ولا مخالفة، ولا ميزة، ولا إِعجاز ينفرد به القرآن فيما وصفوه ﴿أسلوب جديد﴾ في النبوّة والمعجزة. فقد ﴿شهد شاهدين من بني إسرائيل على مثله﴾، والكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى والبيان (الأحقاف ١٠ - ١٢): ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتّبعه إن كنتم صادقين﴾. فالقرآن والكتاب، كلاهما في الهدى واحد؛ فليس القرآن ﴿أسلوباً جديداً﴾ في النبوّة والمعجزة.
بحث خامس
كيفية الوحي القرآني ـ ﴿برحاء الوحي﴾
إن ﴿الأسلوب الجديد﴾ الحق، في الوحي والتنزيل، هو ما أسموه ﴿برحاء الوحي﴾، أي كيفيته وحالاته عند النبي العربي.
وقد نقل لنا السيوطي أقوالهم في حالة الوحي (الإتقان ١: ٤٥ ـ ٤٦): ﴿فصل: وقد ذكر العلماء للوحي كيفيات:
﴿احداهما: أن يأتيه الملاك في مثل صلصلة الجرس، كما في الصحيح. وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر: سألت النبي r هل تحس بالوحي؟ فقال: أسمع صلاصل ثم اسكت عند ذلك؛ فما روى مرة بوحي إلاَّ ظنت نفسي تقبض... وفي الصحيح ان هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه﴾.
﴿الثانية: أن يُنفث في روعه الكلام نفثاً...﴾
﴿الثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح: ﴿وأحياناً يتمثل لي الملاك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول﴾. زاد أبو عوانه في صحيحه: ﴿وهو أهونه علي﴾.
﴿الرابعة: أن يأتيه الملاك في النوم.
﴿الخامسة: أن يكلمه الله إمّا في اليقظة، كما في ليلة الإسراء، أو في النوم كما في حديث معاذ: ﴿أَتاني ربي فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى﴾...
نقول:
١) إن القرآن كله وحي بالواسطة (الشورى ٥٢): فلم يكلّم الله محمداً مباشرة أبداً: ﴿قلْ: نزّله روح القدس﴾ (النحل ١٠٢)، ﴿قلْ: من كان عدواً لجبريل، فإنه نزل على قلبك بإذن الله﴾ (البقرة ٩٧).
٢) وان القرآن وحي ليلي: ﴿حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ (الدخان ١ ـ ٣)؛ ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر ١). لاحظ الإطلاق في التعبير: ﴿أنزلناه﴾. فلا مجال لجميع الحالات التي يصفون. حتى الإسراء كان ليلاً: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾! (الإسراء). حتى البشرى بفتح مكّة ـ كانت رؤيا ليل: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخُلُنّ المسجد الحرام، إن شاء الله﴾ (الفتح ٢٧). حتى البشرى بالنصر في بدر كانت رؤيا منام: ﴿إذ يريكهم الله في منامك قليلاً﴾ (الأنفال ٤٣). فالقرآن جملة وتفصيلاً وحي ليلي!
ويذكر السيوطي (الإتقان ١: ٤٦) من أمثلة الوحي النومي سور الكوثر والضحى والشرح، وآخر سورة البقرة ـ فما صح في بعضه جاز في كله.
٣) وان القرآن وحي في حالة ﴿البرحاء﴾ و﴿الإغماء﴾:
يقول (الإتقان ١: ٢٣): ﴿أما النومي فمن أمثلته سورة الكوثر، لما روى مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله r بين أظهرنا إذ غفا إغفاءَة، ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أُنزِلَ عليَّ آنفاً سورة، فقرأ ﴿باسم الله الرحمن الرحيم. إنا اعطيناك الكوثر، فصلِّ لربك وانحر، إن شانئك هو الابتر﴾. وقال الإمام الرافعي في (أماليه): ﴿فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت في تلك الاغفاءَة، وقالوا: من الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن رؤيا الأنبياء وحي. قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال إن القرآن كله نزل في اليقظة... قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه، وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي ويُقال لها: برحاء الوحي. (قلتُ) الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي كنت أميل اليه قبل الوقوف عليه، والتأويل الأخير (حال الإغماء) أصح من الاول (حال النوم) لأن قوله ﴿أنزل عليَّ آنفاً﴾ يدفع كونها نزلت قبل ذلك. بل نقول: نزلت في تلك الحالة (الإغماء)، وليس الاغفاء اغفاء نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يُؤخذ عن الدنيا﴾.
يُستدل من ذلك أنّ محمداً كانت تعتريه حالة الإغماء، ففسّروها بحالة صوفية ﴿أنه كان يؤخذ عن الدنيا﴾ وسموها ﴿برحاء الوحي﴾.
٤) وينقلون عن عائشة في وصف ﴿برحاء الوحي﴾ حديثاً قالت: ﴿كان رسول الله r إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه ويتربّد وجهه أي يتغيّر لونه بالجريدة، ويجد بَرْدَاً في ثناياه، ويعرق حتى يتحّدر منه مثل الجمان﴾ (الإتقان ١: ٤٦).
وينقل الأستاذ دروزة ٦٩ : ﴿قالت عائشة: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً)... أخبر صفوان بن يعلى: (فإذا بالنبي محمرّ الوجه يغطّ كذلك ساعة)... أخبر زيد بن ثابت (فأنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي، ثم سُرّي عنه فأنزل الله ﴿غير أولي الضرر﴾.
فما أسموه ﴿برحاء الوحي﴾ وصفه الشهود بأنه حالة إغماء، من أوصافها: ﴿محمر الوجه يغط كذلك ساعةً﴾، ﴿يغط في رأسه ويتربد وجهه﴾؛ ﴿وإن جبينه ليتفصّد عرقاً﴾، ﴿فثقلت فخذه علي حتى خفت أن تُرض فخذي﴾.
يسمّي الأطباء هذا الإغماء داء الصَرْع.
والمرض لا يتنافى والنبوّة. لكن من الغريب ان يقرنوا ذلك الداء بحالة الوحي، ويسموه ﴿برحاء الوحي﴾، وقد بدأ معه في سن الطفولة لمّا كان معه مرضعه، وهو دون الخامسة، وسموا الحادث أسطورة ﴿شق الصدر﴾.
٥) إن ما اسموه ﴿برحاء الوحي﴾ كان مرض الإغماء أي داء الصرع الذي اعتراه منذ الصغر. ولعلهم أخذوا الاسم عن الأقدمين الذي كانوا يسمون الصرع ﴿المرض الإِلهي﴾. يقول العقاد ٧٠ :
﴿كان الغالب على الرائين أنهم قوم تملكهم حالة ﴿الوجد﴾ أو ﴿الجذابة﴾ أو ﴿الصرع﴾. فيتدفقون بالوعد والوعيد، وينذرون الناس بالويل والثبور، ويقولون كلاماً لا يذكرونه وهم مفيقون. فيحسب السامع ان الوثن المعبود يجري هذا الكلام على ألسنتهم للموعظة والتبصرة. وسمّي الصرع من أجل هذا بالمرض الإلهي في الطب القديم﴾. نجلّ النبي العربي عن مثل ذلك؛ لكن حالة ﴿المرض الإلهي﴾ واحدة.
والعرب سمّوا صاحب هذا ﴿المرض الإلهي﴾ مَن ﴿به جِنّة﴾، فهو في عرْفهم ﴿مجنون﴾ أي تسكنه جِنة. والقرآن ينقل شهادتهم وتفسيرهم البسيط البدائي لداء النبي: ﴿أم يقولون: به جِنّة﴾ (٢٣: ٧١)، ﴿إن هو إلا رجل بهِ جِنّة﴾ (٢٣ ـ ٢٥) ﴿أم به جنة﴾ (٣٤: ٨). فلا ينكر القرآن المرض، لكن يردّ على تفسيرهم له: ﴿ما بصاحبكم من جِنّة﴾ (٣٤:٤٦)، ﴿ما بصاحبهم من جِنّة﴾ (٧: ١٨٤).
كان العرب يشاهدون اغماء محمد فينسبونه ﴿للجنون﴾ أي به جِنّة، ﴿ويقولون: إنه لمجنون﴾ (٦٨: ٥١)، ﴿إنك لمجنون﴾ (١٥: ٦)، ﴿قالوا: مَجنون وازدُجر﴾ (٥٤: ٩). وبعضهم شك ما بين السحر و﴿الجنون﴾: ﴿قالوا: ساحر أو مجنون﴾ (٥١: ٥٢)، ﴿وقال: ساحر أو مجنون﴾ (٥١: ٣٩). وبعضهم خلط بين الشعر و﴿الجنون﴾: ﴿ويقولون: أإنا تاركوا آلهتنا لشاعر مجنون﴾ (٣٧: ٣٦). وبعضهم زاد التعلّم من الغير على ﴿الجنون﴾: ﴿وقالوا: معلَّم مجنون﴾ (٤٤: ١٤). وبعضهم نسب حاله الى الكهانة أو الجنون (٥٢: ٢٩). فيجيبهم دائماً بسماحة وحزم: ﴿فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون﴾ (٥٢: ٢٩)، ﴿ما أنت بنعمة ربك بمجنون﴾ (٦٨: ٢)، ﴿وما صاحبكم بمجنون﴾ (٨١: ٢٢).
فالقرآن ينفي تفسير حال النبي ﴿بالجنون﴾، لكنه لا ينفي مرض الإغماء الذي يشاهدون. ففي تهمة ﴿الجنون﴾ الشعبية دليل على صحة المرض ـ وبما أن التهمة متواترة في القرآن كله، فهي الدليل على أن حالات الصرع رافقت تنزيل سوره، فسموها ﴿برحاء الوحي﴾.
تلك هي كيفية الوحي القرآني بحسب القرآن والحديث. لكن ذلك المرض لم يمنع العبقرية والبطولة في الدعوة، ولا الاستبسال والاستماتة في الرسالة حتى النصر المبين.
خاتمة
﴿برحاء الوحي﴾ ليست من الإِعجاز في النبوّة
إن كيفية الوحي القرآني التي أسموها بسبب مرض النبي الذي رافقها ﴿برحاء الوحي﴾ جعلت النبي العربي ﴿بدْعاً من الرسل﴾.
فها تاريخ أنبياء الكتاب، إننا لا نجد فيهم من أوصاف ﴿برحاء الوحي﴾ شيئاً. نكتفي بذكر أقربهم عهداً اليه.
إن السيد المسيح يعلّم الإنجيل أيام السبت في جوامعهم. ويدعو في الساحات والبيوت، على البحر وفي البرّ، في السهل وعلى الجبل. ولا نلحظ في الإنجيل، ولا في ما نقلوه في ﴿العهد الجديد﴾ شيئاً من حالات النبي العربي، من إغماء وصرع و﴿برحاء الوحي﴾. لا نراه يخرج عن الفطرة إلاّ مرة واحدة، في حالة ﴿التجلّي﴾ وهو يناجي الحق سبحانه على قمة جبل الشيخ الفاصل بين لبنان ودمشق: ﴿تجلّى أمامهم فأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور﴾ (متى ١٧: ٢). هذا هو الإِعجاز المطلق في كيفيات النبوّة وحالات الكشف الإلهي.
أجل أن ﴿برحاء الوحي﴾ كما وصفوها لنا ليست من الإِعجاز في النبوّة، ولا هي معجزة لمحمد كما يتوهمون ويوهمون.
الجزء الثالث
الإِعجاز في الرسالة
توطئة
ما بين الرسول والرسالة
﴿لا إكراه في الدين﴾. (البقرة ٢٥٦)
﴿كتب عليكم القتال، وهو كره لكم﴾. (البقرة ٢١٦)
الرسول صورة رسالته. والرسالة صورة رسولها. وسرّ الرسول والرسالة بخواتيمهما أكثر من مقدماتهما.
إن سورة (البقرة) هي مفترق الطرق بين القرآن المكي ورسوله والقرآن المدني ورسوله. وقد اجتمعتا وافترقا على مبدأين متعارضين، في سورة واحدة: فمن جهة ﴿لا إكراه في الدين﴾ (البقرة ٢٥٦)، ومن جهة أخرى ﴿كُتب عليكم القتال، وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦). ويزيد التعارض ظهوراً، أن مبدأ التسامح في الدين (٢٥٦) ورد في النسق بعد مبدأ القتال في سبيل الدين (٢١٦).
إن الرسالة المعجزة ليست الرسالة الناجحة مهما كان أسلوبها. إنما الرسالة الإلهية هي التي ترتكز على المعجزة الإلهية، مهما بدت ظواهرها فاشلة. وقد يكون نجاح الرسالة باستشهاد رسولها شهادة لها.
كانت دعوة النبي العربي في مكّة ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ على طريقة أنبياء الكتاب، ففشلت لأنهم أعجزوه بمعجزة عجز عنها؛ وتحداهم بإِعجاز قرآنه، فما أعجزهم ولا هداهم. فهاجر الى المدينة طريداً شريداً ينجو بنفسه متخفّياً، خشية الاستشهاد. ونعرف بالمقارنة أن السيد المسيح مشى بدعوته بالمعجزة حتى الاستشهاد، يحدّد زمانه ويصف كيفيته. فتحول الفشل الظاهري الى نصر مبين بشهادة الدم التي لا ترد. هاجر محمد الى المدينة ليطلع على الناس بأسلوب جديد في الرسالة والدين، هو أسلوب الجهاد والقتال في سبيل الدين، فكان بذلك ﴿بدْعاً من الرسل﴾ على غير ما عوّدنا الله في أنبياء الكتاب. ونحن ندرس هنا هذا الأسلوب الجديد في النبوّة والدين، لنرى مدى الإِعجاز في الرسالة.
بحث أوّل
الرسالة ما بين الفشل والنجاح
ظاهرة كبرى في الدعوة القرآنية، ما بين مكّة والمدينة، هي الفشل في مكّة؛ والنجاح في المدينة. فما هو السر؟
قامت الدعوة بمكّة على مبدأ وأسلوب. لكن المبدأ فشل، والأسلوب فشل.
كان مبدأ الدعوة: ﴿ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل ١٢٥). وتلك هي سبيل أنبياء الكتاب.
فالقرآن المكي كله يمشي على هذا المبدأ. ولا يردّ على القوة بمثلها، لا على عجز، بل عن مبدأ. وعند شدة الاضطهاد الأول حمل جماعته على الهجرة الى الحبشة. وعند شدة المحنة والأذى عليه هاجر شخصياً الى الطائف. أخيراً دبر الهجرة الكبرى الى يثرب.
ومثله ومثل جماعته في مكّة صورة ﴿عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هَوْنا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً! والذين يبيتون لربهم سجّداً وقياماً... واجعلنا للمتقين إماماً﴾ (الفرقان ٦٣ ـ ٧٤). عباد الرحمان، يسميهم بالمدينة ﴿الراسخين في العلم﴾ أي النصارى من بني إسرائيل. فهم مثال الدعوة السمحاء حتى في الفتنة والاضطهاد: ﴿ادفع بالتي هي أحسن السيئة، نحن أعلم بما يصغون﴾ (المؤمنون ٩٦)، ﴿ولا تستوى الحسنة ولا السيئة: ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ (فصلت ٣٤). هذا المبدأ صورة قرآنية لمبدأ الإنجيل: ﴿من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له الآخر﴾ فاللطف أفعل في الخصم نفسه من العنف.
لكن الدعوة بمبدأ ﴿الحكمة والموعظة الحسنة﴾ فشل في الرسالة كلها بمكّة. فدبّر الرسول الهجرة الكبرى الى يثرب للفرار من القتل والاستشهاد، وتدبير أمر الدعوة بمبدأ آخر، وأسلوب آخر.
كان أسلوب الدعوة بمكّة إِعجاز القرآن في النظم والبيان، فتحداهم ﴿بسورة مثله﴾ (يونس ٣٨)، ﴿بعشر سور مثله﴾ (هود ١٣)، ﴿بمثل هذا القرآن﴾ (الإسراء ٨٨) ﴿بحديث مثله﴾ (الطور ٣٤).
لكن هذا التحدّي بالإِعجاز جاء بعد عجز النبي عن ﴿آية كما أُرسل الأولون﴾ (الأنبياء ٥)؛ وقرّر: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا... إلاّ أن تأتيهم سُنّة الأولين﴾ (الكهف ٥٥) أي المعجزة الحسية. فصرّح أن الناس لم يقبلوا منه التحدّي بإِعجاز القرآن. وظلوا الى آخر العهد بمكّة يتحدونه ﴿بسُنّة الأولين﴾ لأنها من الله ﴿سلطان مبين﴾ على صحة الدعوة وصدق النبوّة.
والنتيجة الحاسمة أن التحدّي بإِعجاز القرآن قد فشل في مكّة، ولم يحمل أهلها على الإيمان بصحة الدعوة، ولا على تصديق النبوّة.
فقد فشلت الرسالة بمكّة في مبدئها ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾، وفي أسلوب دعوتها بإِعجاز القرآن في النظم والبيان. وعلى أهل الإِعجاز أن لا ينسوا هذا الفشل الذريع الذي حمل النبي، بعد المناداة به في مطلع الدعوة بالمدينة ﴿بسورة من مثله﴾ (البقرة ٢٣)، على السكوت نهائياً عنه، والتحول الى أسلوب آخر. وكانت الهجرة النهائية الى يثرب، فصارت ﴿مدينة﴾ الرسول. فكانت هذه الهجرة ثورة وانقلاباً في الرسول والرسالة، في الدعوة والدين.
يقول القرآن المكي على لسان النبي: ﴿ما كنت بدْعاً من الرسل﴾ (الأحقاف ٩). ونراه في القرآن المدني ﴿بدْعاً من الرسل﴾. فقد كانت الهجرة الى المدينة هجرة في النبوّة الى السياسة: ﴿هنا يبدأ الدور السياسي... وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه اليه نبي أو رسول. فقد كان عيسى، وكان موسى، وكان من سبقهما من الأنبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل ومن طريق المعجزة... فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام وانتصار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح﴾ ٧١ .
فالنبي صاحب دعوة دينية، وليس رجل السياسة، ولا زعيم دولة. فهو يحمل كلام الله الى الناس، لا سيف الإسلام للجهاد والفتح.
كانت الدعوة بمكّة للإيمان بالله واليوم الآخر! فصارت بالمدينة الى الإيمان باليوم الحاضر. كان يقول: ﴿ولا تمدَّنَّ عينبك الى ما متّعنا به أزواجاً منهم، ولا تحزن عليهم﴾ (الحجر ٨٨)، فصار يقول: ﴿اليوم أحلّ لكم الطّيبات... يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم﴾ (المائدة ٥ و٨٧؛ قابل البقرة ١٦٨). كانت الدعوة بمكّة دينية، فصارت بالمدينة دنيوية أيضاً، حتى امتزجت شؤون الروح بشجون الجسد، وأحوال الدين بأمور الدنيا، وحاجات الدنيا بميزات الآخرة، وانقلب الدين الى دولة.
منذ مطلع الدعوة بالمدينة جاءَت شرعة الجهاد القرآنية: ﴿كُتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦). فتحولت الرسالة الدينية الى رسالة دولية؛ وصار الإسلام دنياً ودولة معاً. وصار محمد ﴿نبي الملحمة﴾ بعد أن كان ﴿نبي المرحمة﴾. وانتشر الإسلام بالجهاد للدفاع أولاً عن وجوده وكيانه، ثم للهجوم بالسيف على سائر الجبهات، فنجحت الدعوة. فالرسالة ما بين مكّة والمدينة قامت على الفشل بمكّة، وعلى النجاح بالمدينة. وذلك بسبب فرض الجهاد في الدين، والقتال على الإيمان.
وهو يبرّر نشر الإسلام بالجهاد بقوله: ﴿إنا أنزلنا الحديد (أي السيف) فيه بأس شديد، ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥). تقوم لديه منفعة الدين والدنيا بالسيف. فكان نصر الله والفتح، كما يشهد في آخر سورة: ﴿إذا جاءَ نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك، واستغفره إنه كان تواباً﴾ (سورة النصر). إن فرض الاستغفار، بعد الفتح، يفترض أنه فتح مشبوه من حيث الإِعجاز في الرسالة الدينية.
بحث ثان
فرض القتال في الدين
ما زال طول العهد بمكّة، حتى مطلع العهد بالمدينة يقول: ﴿لا إكراه في الدين﴾ (البقرة ٢٥٦). لكن منذ مطلع العهد بالمدينة يشرع: ﴿كتب عليكم القتال﴾ (البقرة ٢١٦)، وليس القتال ضرورة عابرة، بل إنه ركن من أركان الإسلام، نزل من الله لنصرة الله ورسله: ﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب: إن الله قوي عزيز﴾ (الحديد ٢٥).
تلك نفحة ناشزة لها صدى في التوراة؛ وجاء الإنجيل فقضى على القتال في الدين. لكن القرآن يعود فيشرع القتال في سبيل الدين، وتتطور شريعة الجهاد والقتال حتى تملأ الدعوة والسيرة بالمدينة: ﴿والآيات القرآنية في موضوع الجهاد قد شغلت من حيث كثرتها حيزاً كبيراً يكاد يبلغ نصف القرآن المدني. وفي هذا دلالة على أن هذا الموضوع كان من أهم أدوار السيرة النبوية في العهد المدني أو أهمها﴾ ٧٢ .
بهذا التشريع المتواتر صار الإسلام دين قتال، بدل أن يظل دين سلام كما يؤخذ من اسمه.
وتبرير تشريع القتال في الدين يزيد الأمر حَرَجاً. فالغاية الأولى منه رد الفتنة عن الدين بالقوة: ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ (البقرة ١٩١). إن الفتنة تبرر القتل: ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾ (البقرة ٢١٧). وقامت الحرب الأهلية بين العرب ﴿حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله﴾ (البقرة ١٩٣). إن الحرب الأهلية مفروضة مشروعة: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله﴾ (الأنفال ٣٩). ويتبع ذلك قتل المرتد عن دينه: ﴿ومن يرتددْ منكم عن دينه. فيمت وهو كافر﴾ (البقرة ٢١٧).
والغاية الثانية في دين القتال المغانم الكثيرة: ﴿وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها، فعجّلَ لكم هذه، وكفّ أيدي الناس عنكم، ولتكون آية للمؤمنين﴾ (الفتح ٢٠). فالمغانم الكثيرة التي تجْنى من فريضة الجهاد وشريعة القتال هي آية الله في دينه!
تلك الغاية المزدوجة برهان على أن القتال لم يُشرعْ فقط للدفاع عن حرية الدين، بل فرض لفرض الإسلام بالقوة على العرب: ﴿كانت مهمة النبي، وهو يهاجر، واضحة: وهي أن يكره قريش على الإسلام بحد السيف، بعد أن بذل لها النصح ثلاثة عشر عاماً فلم تزد إلا عتواً﴾ ٧٣ . فليس صحيحاً أن ﴿حروب النبي عليه السلام كانت كلها حروب دفاع، ولم تكن منها حرب هجوم إلاّ على سبيل المبادرة بالدفاع، بعد الايقان من نكْث العهد والاصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش، وحروبه مع اليهود أو الروم﴾ ٧٤ . فبعد احتلال مكّة والسيطرة على الحجاز، ظلت الحروب قائمة: أللدفاع أم للهجوم؟ وبعد تصفية اليهود بالمدينة، هل كان غزو اليهود في الشمال للدفاع أم للهجوم؟ وبعد استضافة المهاجرين بالحبشة، أكانت غزوة مؤتة ثم تبوك للدفاع أم للهجوم؟ إن دولة فارس، ودولة الروم كانتا قائمتين منذ الف سنة قبل الإسلام، ولم يفكر أحد من الدولتين بغزو الحجاز، فهل توجيه المسلمين لحرب الروم ثم لحرب الفرس، بعيداً عن جزيرة العرب، كان للدفاع أم للهجوم لفرض دولة الإسلام في العالم؟
يقول العقاد ٧٥ : ﴿إن الإسلام إنما يُعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والاقناع. ولكن لا يُعاب عليه أن يحارب بالسيف ﴿سلطة﴾ تقف في طريقه وتحول بينه وبين اسماع المستعدّين للاصغاء اليه، لأن السلطة تُزال بالسلطة، ولا غنى في اخضاعها عن قوة﴾. وفات الأستاذ أنه لم تقم ﴿سلطة﴾ بالحجاز في وجه الإسلام، بل قام سادة المشركين بمكّة عليه لحماية شركهم ومصالح الحج ومنافعه. وهبْ أنهم كانوا سلطة وقوة، فهل هذا يبرّر في منطق الدين، لا في منطق السياسة ـ قتالهم لحماية الدين منهم وفرض الإسلام عليهم؟ وبعد خضوعهم بفتح مكّة، أي سلطة بقيت في الحجاز تقف في وجه الإسلام؟ لقد ظل القتال مشروعاً وقائماً لفرض الإسلام على الحجاز كله وعلى الجزيرة كلها ﴿لئلا يجتمع في جزيرة العرب دينان﴾: ﴿قلْ للمخلفين من الاعراب: ستدعون إلى قوم أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يُسلمون﴾ (الفتح ١٦). فليس أمام العرب من مهرب: القتال أو الإسلام.
يقول العقاد أيضاً ٧٦ : ﴿إن الإسلام لم يحتكم الى السيف إلاّ في الأحوال التي أجمعت شرائع الانسان على تحكيم السيف فيها: فالدولة التي يثور عليها مَن يخالفها بين ظهرانيها ماذا تصنع إن لم تحتكم الى السيف؟﴾ إنّما نحن في الدين، وشريعة الله، لا في الدولة وشرائع الانسان. وهل جاء الإسلام ديناً أم دولة، ليحتكم الى السيف في من يخالفه؟ ففي الاحتكام الى السيف تحول الدين الى دولة، والنبوّة الى إمارة.
إن فرض القتال في الدين، لا عهد لنا به في دين. هل هذا هو الإِعجاز في الرسالة الدينية؟
بحث ثالث
تحويل الدين بالجهاد الى دولة ونظام دنيا
بفرض القتال في الدين، تحول الدين الى دولة. لذلك يقولون: ﴿الإسلام دولة. في المدينة أصبح الإسلام ديناً ودولة معاً. فبدأت قواعد الدولة الإسلامية بالرسوخ. وأخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعملية التي يجب أن تقوم عليها الدولة. وسيبرز في الوحي بعد ذلك ناحيتان: ناحية الجهاد لتثبيت الإسلام وانشاء الدولة الجديدة؛ وناحية التشريع، لإدارة هذه الدولة﴾ ٧٧ .
وهذا هو القرآن المدني كله: جهاد وتشريع لإقامة دولة دينية. فأين هو الدين الخالص، كما كان يقول: ﴿ألا لله الدين الخالص﴾ (الزمر ٣). ففي مكّة كان محمد ﴿مخلصاً له الدين﴾ (الزمر ١١)، ﴿مخلصاً له ديني﴾ (الزمر ١٤). وكان يدعو جماعته أن يكونوا ﴿مخلصين له الدين﴾ (٧: ٢٩؛ ١٠: ٢٢؛ ٢٩: ٦٥؛ ٣١: ٣٢؛ ٤٠: ١٤ و٦٥؛ ٩٨: ٥). وفي المدينة تحول الدين الى دولة بجهاده وتشريعه: فالقرآن المدني هو قرآن الدولة. ففي المدينة صار الدين جزءاً من نظام شامل: ﴿الإسلام دين ودولة... وإنه تعرّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية، بأكثر ممّا تعرّض للأعمال التعبدية... إن الدين جزء من نظام الإسلام، والإسلام ينظمه كما ينظم الدنيا﴾ ٧٨ .
وهكذا فالإسلام نظام دنيا، ونظام دولة، وما الدين فيها سوى ﴿جزء من الإسلام﴾. فهل هذا هو الإِعجاز في الرسالة الدينية، عند مَن كان الكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى؟ (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢). هل يُنزل الله كتاباً يهدي الى الدين الحق، أم الى نظام الدنيا، ونظام الدولة؟ وهل تنظيم الدنيا وتنظيم الدولة من الإِعجاز في الرسالة الدينية؟
بحث رابع
تحويل الدين الى سياسة
إذا كان الجهاد لإنشاء دولة جديدة، والتشريع القرآني لإدارة هذه الدولة، كما نقلنا عن السيد عمر فرّوخ، فهذا يعني تحويل الدعوة الدينية الى دعوة سياسية. فهل هذا ما كان يهدف اليه محمد في مكّة، فتم له في المدينة؟ ألا تصدق في ذلك فراسة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ٧٨ : ﴿إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوّة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة. والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة﴾.
هل تكون الدعوة القرآنية فترة في المنافسة على الرئاسة بمكّة بين بني أمية وبني هاشم؟ كانت حامية قبل مبعث محمد. وكانت سبب المقاومة الكبرى في وجه محمد. وبعده بُعثت في مكامنها وصبغت التاريخ الإسلامي بالدماء. يظهر أنها كانت كذلك في نظر زعماء المشركين، كما يتضح من قول زعيم مكّة أبي سفيان للعباس عم النبي قبل اسلامه: ﴿لقد أصبح ملك ابن اخيك الغداة عظيماً﴾.
فمهما يكن الأمر، فإن فرض القتال في النبوّة والدين كان: انقلاب النبوّة الى إمارة وانقلاب الرسالة الى سياسة وانقلاب الدين الى دولة وانقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية وانقلاب الإسلام الى نظام دنيا ونظام دولة وانقلاب فكرة الله الرحمان الرحيم الى فكرة الإله الجبّار في القتال، وبكلمة: انقلاب الدين الى سياسة ودولة. هذا ما فصلناه في فصل ﴿الإِعجاز في الشخصية النبوية﴾.
وهكذا ففي تشريع الجهاد، وفرض القتال في سبيل الدين، ﴿من هناك منذ ذلك الوقت خرج (الإسلام) الى العالم قوة حربية سياسية﴾ ٨٠ . فتحولت الدعوة الى سياسة.
فهل هذا من الإِعجاز في الرسالة؟ رسالة دين الله؟
بحث خامس
الجهاد أسلوب غريب في الدعوة لدين اللَّه
سار محمد على طريقة أنبياء الكتاب العهد بمكّة في الدعوة ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾، وكان القرآن يقول على لسانه ﴿ما كنت بدْعاً من الرسل﴾. وبالهجرة الى المدينة بدأ أسلوباً غريباً في الدعوة لدين الله بالجهاد، وتشريع القتال، ليُظهر الإسلام القرآني على الدين كله، ولو كره المشركون والكافرون.
وتشريع الجهاد جعل الإسلام القرآني دين القتال، مهما غلّفنا هذه الشريعة الحربية في الدين بغلافات البيئة، وضرورات الحاجة، وملزمات الدعوة، وشروط الشريعة. فكل الموجبات والمفارقات تذوب في الصورة الأخيرة لشريعة القتال، في اسمها، ﴿براءَة﴾ وفي موضوعها القتال العام الدائم: ﴿براءَة من الله ومن رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين (...) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ حتى يسلموا (براءَة ١ و٢ و٥). قال ابن حزم: ﴿نسخ بهذه الآية ماية وأربع عشرة آية، في ثمان وأربعين سورةً! ونقل (الإتقان ٢: ٢٤): ﴿قال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار، والتولّي والاعراض والكف عنهم، منسوخ بآية السيف﴾.
فآية السيف هي إذن روح القرآن، وهدفه البعيد الحقيقي، كما جاء في الحديث عن الرسول: ﴿أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلاَّ بحقّها، وحسابهم على الله﴾. ويقول حديث آخر: ﴿ديني بالسيف ومع السيف وفي السيف﴾. فلا حرّية بعد للانسان تجاه الإسلام. فآية السيف تنقض مبدأه: ﴿لا اكراه في الدين﴾. فالحديث والقرآن يجعلان الإسلام دين القتال؛ فليس له شأن في اجتناب القوة كشأن كل دين. وهذا أسلوب غريب في الدعوة لدين الله يرفع الحرية الفطرية عن المشرك بإكراهه في الدين، وعن المؤمن، إذ يبيح قتل المرتد. فالإكراه في الدين من روح الجهاد وحرفه.
لقد خلق نظام حياة فريداً في النقل والعقل: فقد مزج الدين بالدنيا وفرض صبغها بمظاهر الدين، فجعل المجتمع الإسلامي ينفرد عن كل مجتمع، ولا يندمج بأي مجتمع. وقد دمج الدين بالقومية، وخلق قومية دينية فوق القومية العنصرية، فلا مجال في أرضه لقومية أخرى غير قوميته الدينية. وتسامحه في الوطن الواحد يجعل أبناء دين آخر أبناء جارية، لا من أبناء ﴿الست﴾؛ ومواطنين مشبوهين بين المواطنين المسلمين. وبذلك اخضع الدين لتقلبات القومية، وعرْضةً لصراع الدين والقومية. وقد حوّل الدين الى دولة دينية، ليس منها مَن هو فيها على غير دين. وليس أبناؤه في دولة غير دولته إلاّ طارئين أو دولة ضمن الدولة. فخضع الدين الى تقلّبات الدولة، وكان عرضة لصراع الدين والدولة. وقد اصطبغ الدين بالسياسة، فكان على المسلم أن يهتم بالسياسة اهتمامه بالدين؛ وكان الاهتمام بالسياسة من صميم الدين. فخضع الدين لتقلبات السياسة كما شهدنا في التاريخ، وكما نشهد في الواقع. وكان عرضة لصراع السياسة في نفس كل مؤمن، وكل مجتمع، وكل دولة. وخضع الاجتماع والاقتصاد للدين، كما خضع الدين للاجتماع والاقتصاد. ومع تطور الحياة ومفاهيم الحياة، خلق الصراع بين الدين والاجتماع، وخلق الصراع بين الدين والاقتصاد. فتجمّد الاجتماع والاقتصاد على أحكام الدين كما ظهر في بيئة محدودة؛ أو تطور الاجتماع والاقتصاد على حساب أحكام الدين.
فهل هذا كله من الإِعجاز في الرسالة؟ رسالة دين الله؟
خاتمة
معجزة ﴿الحديد﴾ هي الإِعجاز في الرسالة
آن لنا أن نتساءَل: هل نجحت الرسالة المحمدية وثبتت نبوتها بإِعجاز القرآن أم بسيف الإسلام؟
شهادة الواقع التاريخي أن الرسالة المحمدية فشلت بمكّة ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾، ونجحت في المدينة بشريعة القتال وسيف الإسلام. وشهادة القرآن المدني كله أن الدعوة المحمدية نجحت بالقتال والفتح. بعد تحدّي المشركين بمكّة ـ في فترة عابرة ـ بإِعجاز القرآن، نسخ هذا التحدّي في المدينة، بالناسخ والمنسوخ في أحكام (البقرة ١٠٦) وبالمحكم والمتشابه في أوصافه (آل عمران ٧). وتحدّي العالمين بمعجزة ﴿الحديد﴾: ﴿إنا أنزلنا الحديد، فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله مَن ينصره ورسله بالحق﴾ (الحديد ٢٥). فبدون السيف لا نصرة لله، ولا نصر لرسوله، ولا منافع لأتباعه! فتحول الإسلام، في رسالة النبي العربي، من دين السلام ـ كما يعني اسمه ـ الى دين القتال: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ (البقرة ٢١٦). وصارت رسالة السلام رسالة الحرب؛ وتحوّل ﴿نبي المرحمة﴾ الى ﴿نبي الملحمة﴾: ﴿محمد رسول الله، والذين معه، أشداء على الكفّار، رحماء بينهم﴾ (الفتح ٢٩).
وشهادة القرآن في ختام الرسالة والدعوة أن الناس دخلوا في الإسلام ﴿بنصر الله والفتح﴾: ﴿اذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك، واستغفره، إنه كان توّاباً (سورة النصر). والأمر بالاستغفار، بعد النصر والفتح، دليل على أن أسلوب الدعوة بالقوة مشبوه.
فنجاح الرسالة قام بسيف الإسلام، لا بإِعجاز القرآن، وهذا بنص القرآن القاطع في آخر سورة نزلت منه. فلم يكن الإِعجاز معجزة محمد والقرآن. فلم تنجح الدعوة القرآنية ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة﴾، كما هو سبيل الدعوة الدينية، بل ﴿بالحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾. ولم تنجح بالمعجزة الحسية، بحسب ﴿سُنّة الأنبياء الأولين﴾. ولم تنجح بالمعجزة الشخصية. ولم تنجح بإِعجاز القرآن، بل بشرعة القتال وسيف الإسلام.
فهل هذا هو الإِعجاز في الرسالة، رسالة دين الله؟
١. محمد عبد الله السمان: محمد الرسول البشر، ص ١٠ ثم ٢٢.
٢. محمد الرسول البشر، ص ٢٤ ـ ٣٩.
٣. نقله دروزة في (القرآن المجيد)، ص ٢١.
٤. محمد صبيح: عن القرآن، ص ٤٠.
٥. سيرة الرسول ١: ٢٧٦.
٦. سيرة الرسول ١: ٢٧٧.
٧. سيرة الرسول ١: ٢٧٨.
٨. سيرة الرسول ١: ٢٨٥.
٩. سيرة الرسول ١: ٢٨٢.
١٠. مباحث في علوم القرآن، ص ٧٤، مستنداً إلى تفسير المنار ١٠: ٤٦٥.
١١. محمد الرسول البشر، ص ٥٦ ـ ٧٠.
١٢. سيرة الرسول ١: ٨٩.
١٣. سيرة الرسول ١: ٧١.
١٤. السيرة، لابن هشام ٣: ٢٥٦.
١٥. السيرة، لابن هشام ٣: ٣٠٧.
١٦. السيرة، لابن هشام ٣: ٣٥٤.
١٧. السيرة، لابن هشام ٣: ٣٥٠.
١٨. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٩٦.
١٩. سيرة الرسول ١: ٧٤.
٢٠. سيرة الرسول ١: ٧٨.
٢١ النظم الفني في القرآن، ص ٣٢٠.
٢٢. سيرة الرسول ١: ٨٥.
٢٣. سيرة الرسول ١: ٧١ ـ ٧٢.
٢٤. سيرة الرسول ١: ٢٨ ـ ٣٠.
٢٥. حياة محمد ـ الفصل السادس
٢٦. سيرة الرسول ١: ١٩٧.
٢٧. سيرة الرسول ١: ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
٢٨. سيرة الرسول ١: ٢٤٣ ـ ٢٤٤.
٢٩. عن القرآن، ص ٦٢.
٣٠. العرب والإسلام، ص ٤٢.
٣١. دروزة: سيرة الرسول ٢: ٢٢١ ـ ٢٢٢.
٣٢. محمد صبيح: عن القرآن، ص ٦٢.
٣٣. سيرة الرسول ٢: ٢٤٩.
٣٤. سيرة الرسول ٢: ٢٥٤.
٣٥. السيرة، لابن هشام ٣: ٣٦٨.
٣٦. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٦٦.
٣٧. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٦٧.
٣٨. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٦٧.
٣٩. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٦٨.
٤٠. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٨٢.
٤١. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٨٤.
٤٢. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٨٧.
٤٣. السيرة، لابن هشام ٤: ٢٩٠.
٤٤. السيرة، لابن هشام ٣: ١١٠.
٤٥. السيرة، لابن هشام ٣: ٥٤.
٤٦. السيوطي: أسباب نزول الآية ٨٧ من سورة النساء.
٤٧. السيرة، لابن هشام ٤: ٥١ ـ ٥٢.
٤٨. السيرة، لابن هشام ٤: ١٤٤.
٤٩. حياة محمد، ص ١٩٠.
٥٠. المقدمة ـ نشر دار الكتاب اللبناني، ص ٢٦٩.
٥١. كتاب: العرب في التاريخ، ص ٥٤ و٥٧.
٥٢. السيرة، لابن هشام ٢: ٢٣٤.
٥٣. السيرة، لابن هشام ٢: ٢٣٨.
٥٤. السيرة، لابن هشام ٢: ٢٤٠.
٥٥. السيرة، لابن هشام ٣: ٣٥٠.
٥٦. السيرة، لابن هشام ٤: ٤٦ ـ ٤٧.
٥٧. السيرة، لابن هشام ٤: ٦٠.
٥٨. السيرة، لابن هشام ٤: ٨٦.
٥٩. صحيح البخاري ٢: ٢١٧.
٦٠. عن أحمد محمد جمال: دين ودولة ـ المقدمة الأولى.
٦١. العرب والإسلام: ص ٤٢ و٤٣.
٦٢. الدكتور فيليب حتي: تاريخ العرب ١: ١٦٢.
٦٣. السيرة، لابن هشام ٣: ٢٤٤ ـ ٢٤٦.
٦٤. إِعجاز القرآن ـ الكتاب الثاني ص ١٣٣ ـ ١٣٥.
٦٥. السيوطي: الإتقان ١: ٢٥.
٦٦. لتُهدى قراءَة أصح من ﴿لتَهدي﴾ لأنها تنسجم مع الأمر بالإيمان بالكتاب.
٦٧. سيرة الرسول ١: ٢٢٦. في هذا البحث تكرار للتقرير، واستكمال الموضوع والتقدير.
٦٨. سيد قطب: التصوير الفني في القرآن ص ١٨٦.
٦٩. القرآن المجيد. ص ٢٢ ـ ٢٣.
٧٠. العبقريات الإسلامية ـ ﴿مطلع النور﴾ ص ٥٨ ـ دار الآداب، بيروت.
٧١. حسين هيكل: حياة محمد. ص ١٩٠.
٧٢. دروزة: سيرة الرسول ٢: ٢٢١ ـ ٢٢٢
٧٣. محمد صبيح: عن القرآن ص ٦٢.
٧٤. العقاد: مطلع النور ١٣٩ في (العبقريات الإسلامية).
٧٥. المصدر نفسه.
٧٦. المصدر نفسه.
٧٧. عمر فرّوخ: العرب والإسلام ص ٤٢.
٧٨. الإمام حسن البنّا عند أحمد محمد جمال في ﴿دين ودولة﴾ ـ المقدمة الأولى.
٧٩. نشر دار الكتاب اللبناني ص ٢٦٩.
٨٠. حتى: تاريخ العرب ١: ١٦٢.