الفصل الرابع
إِعجاز القرآن في بيان معانيه
﴿نور وكتاب مبين﴾ (المائدة ١٥)
﴿ذكر وقرآن مبين﴾ (يسن ٦٩)
﴿تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين﴾ (الحجر ١)
توطئة
واقع القرآن في البيان
إن شهادة القرآن لبيانه متعارضة .
١ـ فهو يعلن بتواتر: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين... بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٥؛ ﴿وهذا لسان عربي مبين﴾ (النحل ١٠٣)؛ فهو ﴿قرآن مبين﴾ (الحجر ١)،﴿وكتاب مبين﴾ (النمل ١). فهو أعجز ممّا أنتجت العربية في شعرها: ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له: إنْ هو إلا ذكر وقرآن مبين﴾ (يسن ٦٩).
٢ ـ لكن المبين لا يحتـاج الى تأويل، لأن معنـاه يسابق لفظه الى الادراك. فإن فيه ﴿آيات محكمات... وأخر متشابهات: فإمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ـ وما يعلم تأويله إلا الله﴾ (آل عمران ٧). إن التصريح فصيح: ما تشابه من القرآن بحاجة الى تأويل، ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾. وهذا التأويل لن يأتي الا في اليوم الآخر: ﴿هل ينظرون إلاّ تأويله؟ ـ يوم يأتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءَت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نُردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل﴾؟ (الأعراف ٥٣). وكتاب لا يعلم تأويله الا الله، ولا يكشف الله تأويله إلاّ في اليوم الآخر، فكيف يكون ﴿كتاباً مبيناً﴾، ﴿بلسان عربي مبين﴾؟
٣ ـ والكتاب المبين، بلسان عربي مبين، ليس بحاجة الى تأويل، ولا يكون متشابهاً. فهو يصرح بأنّ فيه آيات ﴿أخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧). وقد يكون كله ﴿كتاباً متشابهاً﴾ (الزمر ٢٣). والآيات المحكمات غير الآيات المتشابهات في البيان. والكتاب المبين غير الكتاب المتشابه.
٤ ـ أجل في القرآن آيات بيّنات: ﴿بل هو آيات بيّنات﴾ (العنكبوت ٤٩)، فقد ﴿أنزلنا إليك آيات بيّنات﴾ (البقرة ٩٩)، بل قد ﴿أنزلناه آيات بيّنات﴾ (الحج ١٦). لكنها ﴿بيّنات من الهدى والفرقان﴾ (البقرة ١٨٥) اي، بحسب اصطلاحه، من الكتاب وتفصيله في الفرقـان. فقد ﴿آتينا عيسى ابن مريم البيّنات﴾ (البقرة ٨٧ و ٢٥٣)، ومن قبل ﴿جاءَهم موسى بالبيّنات﴾ (العنكبوت ٣٩؛ قابل البقرة ٩٢). فليس الإِعجاز في البيان ميزة انفرد بها القرآن على الإنجيل والتوراة: فقد ﴿أرسلنا رسلنا بالبيّنات﴾ (انظر الصف ٦)، وقد ﴿جاءَتهم رسلنا بالبيّنات﴾ (المائدة ٣٢؛ الأعراف ١٠١). لكن البيان القرآني فيه متشابه بحاجة الى تأويل، بسبب تعبيره المتشابه في البيان والتبيين .
نستدل على ذلك ببعض فصول من (الإتقان) للسيوطي، خاتمة المحققين في العصر الذهبي. منها ما يرجع الى بيان لفظه؛ ومنها ما يرجع الى بيان معناه .
بحث أوّل
﴿في معرفة إعرابه﴾
(الإتقان ١: ١٨٠)
يقول: ﴿من فوئد (اعرابه) معرفة ـ المعنى، لأن الاعراب يميّز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلمين﴾
أوّلاً: تشابه النظم والمعنى
وان ﴿أول واجب عليه ان يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفرداً أو مركباً قبل الاعراب، فإن فرع المعنى﴾.
وقد تشابه قوله: ﴿وإن كان رجل يُوَرُث كلالةً﴾ (النساء ١٢). قال: ﴿انه يتوقف على المراد بها: فإن كان اسماً للميت فهو حالُ (يورث) خبر كان، أو صفة وكان تامة أو ناقصة وكلالة خبر. أو للورثة فهو على تقدير مضاف أي (ذا كلالة) وهو أيضاً حال أو خبر كما تقدم. أو للقرابة فهو مفعول لأجله﴾.
وتشابه قوله: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم﴾ (الحجر٨٧): ﴿ان كان المراد بالمثاني القرآن (فمِن) للتبعيض، أو الفاتحة، فلبيان الجنس﴾.
وتشابه قوله: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاةً﴾ (آل عمران ٢٨): ﴿وإن كان بمعنى (الاتقاء) فهو مصدر، أو بمعنى (متقى) أي أمر يجب اتقاؤه فمفعول به، أو جمعاً كرماة فحال﴾.
وتشابه قوله: ﴿والذي أخرج المرعى، فجعله غُثاء أحوى﴾ (الأعلى ٤ ـ ٥). قال الجلالان: ﴿فجعله بعد الخضرة (غثاء) جافاً هشيماً (أحوى) أسود يابساً. قال السيوطي: ﴿إن أريد به الأسود من الجفـاف واليبس فهو صفة (لغثاء)،أو من شدة الخضرة، فحال من المرعى﴾.
وتشابه قوله: ﴿قالوا: يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نتركَ ما يعبد آباؤنا، أو نفعل في أموالنا ما نشاء﴾ (هود ٨٦) فظاهر اللفظ ﴿أو نفعل في أموالنا ما نشاء﴾ معطوف على ﴿أن نترك﴾، وذلك باطل لأنه لم يأمرهم ان يفعلوا بأموالهم ما يشاؤون، وانما هو عطف على ما هو معمول للترك، والمعنى ان نترك ان نفعل ﴿وموجب الوهم المذكور (أن) والفعل مرتين وبينهما حرف العطف﴾.
ثانياً: التعارض بين ظاهر اللفظ ومعناه
ومن موجب التشابه التعارض بين الظاهر والمعنى الباطن الذي تقتضيه الصناعة.
لذلك فقد تشابه قوله: ﴿وأنه أهلك عاداً الأولى، وثموداً فما أبقى﴾ (النجم٥٠ ـ ٥١). فقد تكون ثمود معطوفاً على عاد، وقد تكون مفعول (فما أبقى) مقدّماً على فعله، ﴿وهذا ممتنع لأن (ما) النافيه لها الصدر فلا يعمل ما بعدها في ما قبلها، بل هو معطوف على عاد، أو على تقدير (وأهلك ثموداً).
وتشابه قوله: ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله﴾ (هود ٤٣)،﴿لا تثريب عليكم اليوم﴾ (يوسف ٩٢)، فالظاهر ﴿ان الظرف (اليوم) متعلق باسم (لا) وهو باطل، لأن اسم (لا) حينئذٍ مطول فيجب نصبه وتنوينه؛ وانما هو متعلق بمحذوف﴾.
وتشابه قوله: ﴿فناظرة بـِمَ يرجع المرسلون﴾ (النمل ٣٥). فالظاهر ان (بـِمَ) متعلقه (بناظرة)، ﴿وهو باطل لأن الاستفهام له الصدر، بل هو يتعلق بما بعده﴾.
وتشابه قوله: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وان فريقاً من المؤمنين لكارهون﴾ (الأنفال ٥). فقوله (كما) لا يتعلق بما قبله، بل هو ابتداء. والظاهر ﴿اطلاق ما الموصوله على الله وربط الموصول بالظاهر وهو فاعل﴾ (أخرجك)؛ لكنه لا يستقيم. ﴿وأقرب ما قيل في الآية إنها مع مجرورها خبر محذوف﴾ مقدّر من المعنى السابق.
وتشابه قوله: ﴿إن البقر تشابه علينا﴾ (البقرة ٧٠) لأن الكلام على بقرة بعينها، والقراءَة الصحيحة هي: ﴿إن البقر تشابهت علينا﴾. يقول السيوطي: ﴿انما اصل القراءَة (إن البقرة تشابهت) بتاء الوحدة ثم أدغمت في تاء تشابهت، فهو ادغام من كلمتين﴾.
ثالثاً: تشابه الإعراب والمعنى
ومن موجب التشابه الالتجاء الى الأوجه البعيدة أو الضعيفة.
من ذلك قوله: ﴿وقيله: يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون﴾ (الزخرف ٨٨). فلا يعرف على أي شيء هو معطوف بالجر أو النصب. قال بعضهم انه عطف على لفظ ﴿علم الساعة﴾ (٨٥) أو محلها؛ والمعطوف عليه بعيد مفصول. ﴿والصـواب أنه قَسَم أو مصدر (قال) مقدّاراً﴾.
وتشابه قوله: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن﴾ (الأنعام ١٥٤): فهل (أحسن) فعل أم اسم؟ قال بعضهم: انه بالرفع لأن ﴿أصله (أحسنوا) فحذفت الواو اجتزاءً عنها بالضمة. والصواب تقدير مبتدأ أي (هو أحسن).
رابعاً: من موجب التشابه في إعرابه الحذف والبتر
مثل قوله: ﴿إن الذين كفروا بالذكر لمّا جاءَهم، وإنه لكتاب عزيز﴾ (فصلت ٤١): فأين خبر (إنَّ)؟ قال بعضهم انه في قوله ﴿أولئك ينادون من مكان بعيد﴾ في ختام الآية (٤٤). أجل انه خبر في مكان بعيد! ﴿والصواب انه محذوف﴾. فما الغاية من حذفه؟ والأصح ان قوله ﴿وانه لكتاب عزيز﴾ قام مقام الخبر أي كفروا بكتاب عزيز.
والآيات المبتورة كثيرة، مثل الاستفتاح بهذا القسم: ﴿والقرآن ذي الذكر، بل الذين كفروا في عزة وشقاق﴾ (ص١ ـ ٢). فأين جواب القسم؟ وما يدل عليه ويقوم مقامه؟ ولا يصح الحذف اذا لم يكن في القرائن اللفظية أو المعنوية ما يسد مسده.
وهناك امثلة عديدة يذكرها السيوطي ويحاول اخراجها مخرجاً حسناً في معرفة اعرابه، مثل ﴿لحن القرآن عن قوله تعالى (ان هذان لساحران) وعن قوله تعالى (والمقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة) وعن قوله تعالى (ان الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون﴾ ـ فهل هو لحن من الكتاب أو نعس في الكتبة؟ أم ان لها مخرجاً غريباً في الإعراب؟
ويختم السيوطي بفصل ﴿فما قرِىء بثلاثة أوجه الاعراب أو البناء أو نحو ذلك﴾ (الإتقان ١: ١٨٧). ويعطي على ذلك مثلاً الفاتحة: ﴿الحمد لله: بالرفع على الابتداء، والنصب على المصدر، والكسر على اتباع الدال اللام في حركتها. (رب العالمين) قرِىء بالجر على انه نعت، وبالرفع على القطع بإضمار مبتدأ، وبالنصب عليه بإضمار فعل، أو على النداء. (الرحمان الرحيم) قرئا بالثلاثة﴾. كذلك ﴿والحب ذو العصف والريحان: قرِىء برفع الثلاثة ونصبها وجرها. (وحور عين كأمثال اللؤلؤ) قرىء برفعهما وجرهما ونصبهما وبفعل مضمر أي ويزوجوك﴾...
والعجز أو التعجيز في اعراب الكلام هل هو من حسن البيان؟
بحث ثانٍ
في الضمائر
(الإتقان ١: ١٨٧)
يقول: ﴿وأصل وضع الضمير للاختصار... ولا بدَّ له من مرجع اليه، ويكون ملفوظاً به سابقاً مطابقاً أو متضمناً له نحو (اعدلوا هو أقرب للتقوى) فإنه عائد على العدل المتضمن له (اعدلوا). ويُسمى مرجع الضمير﴾.
أولاً: قد يختفي مرجع الضمير فيشتبه المعنى
كما في قوله مراراً: ﴿إنا أنزلناه﴾. فقالوا: أي القرآن لأن الانزال يدل عليه التزاماً. وفاتهم انه قد يكون الكتاب الذي يصدقه ويفصله؛ أو غير ذلك كقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنا كنا مرسلين﴾ (الدخان ٣ ـ ٥). فهو ضمير الشأن للدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه بأن يذكر أولاً مبهماً ثم يفسر: فالمنزل في الليلة المباركة هو الأمر بالرسالة، كما تدل عليه الآية المعترضة (٤).
وقد يُعاد الى شيئين فيشتبه كقوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة﴾ ـ فهل يُعاد الضمير الى الصلاة، أم الى الاستعانة المفهومة من (استعينوا)؟
وقد يعود على لفظ المذكور دون معناه نحو ﴿وما يعمّر من معمّر، ولا ينقص من عمره﴾؟ عمر مَن؟ قالوا: عمر المعمّر. لكن هل يسمّى معمراً اذا نقص من عمره؟
وقد يعود الى عائدين فيشتبه العائد اليه كقوله: ﴿والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ والأصل أن يرضوهما، ولكن في افراد الضمير التباس .
وقد يُثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين نحو ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ وانما يخرج من احدهما.
وقد يجئ الضمير متصلاً بشيء وهو لغيره كقوله: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة﴾: فهل الضمير لآدم أم لولده كما يظهر؟ أو كقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم... قد سألها قوم من قبلكم﴾ (المائدة ١٠١ ـ ١٠٢) فهل الضمير في (سألها) يعود الى الاشياء عينها أم لغيرها كما هو ظاهر؟
وقد يعود الضمير على ما ليس ما هو له نحو: ﴿كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها﴾ (النازعات ٤٦)، أي ضحى يومها، لا ضحى العشية نفسها لأنه لا ضحى لها.
وقد يعود على غير مشاهد محسوس، والأصل خلافه، نحو: ﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون﴾ (آل عمران ٤٧) ـ فهل يقول للأمر أم لموضوع الأمر؟ ولماذا عدل عن جزم جواب الأمر، مراعاةً للفاصلة؟...
ثانياً: الأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور
وعند المضاف والمضاف اليه فالأصل عوده للمضاف لأنه المحدَّث عنه كقوله: ﴿وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها﴾. فلماذا شذ في قوله: ﴿إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً﴾ ـ حيث الضمير يعود الى المضاف اليه كما هو ظاهر. ولذلك اختلفوا في العائد اليه، أهو المضاف أو المضاف اليه، في قوله: ﴿أو لحم خنزير، فإنه رجسٌ﴾. قال السيوطي: ﴿فمنهم من أعاده الى المضاف، ومنهم من أعاده الى المضاف اليه﴾. وهذا حكم تشريعي لا يصح فيه الابهام: فبحسب الأصل اللغوي يعود الضمير الى المضاف أي الى اللحم، لا الى الخنزير نفسه .
ثالثاً: الأصل أيضاً توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتيت
وجاء قوله: ﴿أن اقذفيه في التابوت، فاقذفيه في اليم﴾ مثيراً للدهشة والهجنة، لأن ظاهر الضمير الأول يعود لموسى، وظاهر الضمير الثاني للتابوت. وأرجعهما الزمخشري، على خلاف الظاهر، الى موسى. ﴿عابه الزمخشري وجعله تنافراً مخرجاً للقرآن عن إِعجازه فقال: الضمائر كلها راجعة لموسى، ورجوع بعضها اليه وبعضها الى التابوت فيه هجنة لما يؤدي اليه من تنافر النظم الذي هو أم إِعجاز القرآن﴾.
وتشابه في قوله: ﴿ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزّزوه ويوقروه ويسبّحوه﴾. والأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور. ويمنع من ذلك ظاهره. والضمير في ﴿يعزّزوه﴾ للرسول، وفي ﴿يوقروه ويسبّحوه﴾ لله. وهذا مثال صريح على تنافر النظم في البيان .
وهذا مثال آخر: ﴿ولا تستفت فيهم منهم أحداً﴾. قال السيوطي: ﴿فإن ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف؛ وضمير (منهم) لليهود. قاله ثعلب والمبرد﴾.
وهذا مثال آخر على تنافر الضمائر: ﴿ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم، وضاق بهم ذرعاً﴾ ـ فالضمير في الثاني يعود الى الرسل أو الى قوم لوط .
وقد يخرج ضمير على سائر الضمائر كقوله: ﴿إلاّ تنصروه فقد نصره الله، إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين، إذ هما في الغار، اذ يقول لصاحبه: لا تحزن ان الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه (؟) وأيّده بجنود لم تروها، وجعل (؟) كلمة الذين كفروا السفلى﴾ (التوبه ٤٠). قال السيوطي: ﴿فيها اثنا عشر ضميراً كلها للنبي ﷺ إلاّ ضمير (عليه) فلصاحبه كما نقله السهيلي عن الأكثرين﴾؛ وكما هو الظاهر لأنه موضوع خطاب النبي لصاحبه. وشذ أيضاً عن اجماع الضمائر في اضمار الفاعل بقوله ﴿وجعل كلمة﴾.
تلك بعض الأمثله في تنافر الضمائر في النظم، يتنافر معها النظم الذي هو أمّ الإِعجاز في القرآن .
بحث ثالث
﴿في التذكير والتأنيث﴾
(الإتقان١: ١٩٠)
ويقول السيوطي: ﴿التأنيث ضربان حقيقي وغيره. فالحقيقي لا تُحذف تاء التأنيث من فعله غالباً إلا إن وقع فصل، وكلما كثر الفصل حسن الحذف؛ والاثبات مع الحقيقي أولى، ما لم يكن جمعاً. أما غير الحقيقي، فالحذف فيه مع الفصل أحسن﴾.
لكن هل يكون الفصل المذكور بضمير فقط، كقوله: ﴿فمن جاءَه موعظة من ربه﴾. ﴿قد كان لكم آية﴾. وجاءَ الاثبات في قوله: ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ (الحجر ٧٣ و٨٣؛ المؤمنون ٤١) .
وقد جمع الاثبات والحذف مع الفصل كقوله في سورة (هود): ﴿وأخذ الذين ظلموا الصيحة﴾ (٦٧)، ﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة﴾ (٩٤) .
وقد يقع التذكير والتأنيث معاً في الضمير والاشاره متى وقعا بين مبتدإٍ وخبر أحدهما مذكـر والآخـر مؤنث، كقوله: ﴿قال: هذا رحمة من ربي﴾ فذكّـر والخبر مؤنث؛ وكقوله: ﴿فذانك (اليد والعصا) برهانان من ربك﴾ فذكر المبتدأ والمشار اليه اليد والعصا وهما مؤنثان لتذكير الخبر وهو (برهانان).
فليس من اضطراد في التذكير والتأنيث. وتجاه الواقع القرآني في ﴿غرائبه﴾ قالوا: كل اسماء الاجناس يجوز فيها التذكير حملاً على الجنس، والتأنيث حملاً على الجماعة. لكن ما الحكمة في قوله: ﴿إِعجاز نخل خاوية﴾ و﴿إِعجاز نخل منقعر﴾، حيث تعود الصفة في الأول الى المضـاف، وفي الثـاني الى المضاف اليه؟ ومـا الداعي الى التمييز في قـوله: ﴿السماء منفطر به﴾، وفي قوله: ﴿إذا السماء انفطرت﴾؟ وما وجه الحق اللغوي في قـوله: ﴿منهم مَن هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة﴾، وفي قوله: ﴿فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة﴾؟
قد يجدون لتلك الغرائب مبرّرات تتسع لها اللغة العربية، بعد أن ضاق بها القرآن فاتسعت له. لكن المبّرر الوحيد، في نظرنا، هو تمييزهم، عند الجمع، بين التعابير الواحدة في آي القرآن لتسهيل معرفتها، وإن أتت ﴿بالغرائب﴾. فصارت ﴿غرائب﴾ القرآن قواعد في البيان.
بحث رابع
﴿في التعريف والتنكير﴾
(الإتقان ١: ١٩١)
المبدأ عند السيوطي: ﴿اعلم ان لكل منهما مقاماً لا يليق بالآخر﴾.
أولاً ـ ومن غرئب التنكير فيه أنه يأتي للوحدة والنوع جميعاً، كقوله: ﴿وجاءَ رجل من أقصى المدينة يسعى﴾ ـ فالمراد واحد؛ وكقوله: ﴿هذا ذكر﴾ أي نوع من الذكر ـ لكنه عرفه بالإضافة في قوله: ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر من قبلي﴾ ـ فما الحكمة البالغة في التنكير تارة والتعريف تارة .
وقد تأتي الوحدة والنوعية معاً كما في قوله: ﴿والله خلق كل دابة من ماء﴾.
ومن غرائب التنكير فيه أن يأتي للتعظيم والتحقير جميعاً، كقوله في التعظيم: ﴿وسلامٌ عليه (يحيى) يوم ﴿وُلد﴾، ﴿سلام على إبراهيم﴾ ـ لكنه يقول في حق المسيح: ﴿والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً﴾ ـ وكقوله في التحقير: ﴿أن نظن إلاّ ظناً﴾ ـ مع قوله أيضاً: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾.
ومن غرائب التنكير فيه أن يأتي للتكثير والتقليل جميعاً، كقوله في التكثير: ﴿أإنَّ لنا لأجراً﴾ أي وافراً؛ وكقوله في التقليل: ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ أي رضوان قليل منه تعالى أكبر من الجنات وما فيها. ومن التقليل تجاهل العارف: ﴿هل ندلكم على رجل يُنبئكم﴾، بعكس التنكير مع (لا) نافية الجنس: ﴿لا ريب فيه﴾،﴿فلا رفث﴾.
ثانياً ـ وكذلك التعريف فيه قد يأتي للتعظيم والتحقير جميعاً كقوله في التعظيم عند ذكر يعقوب باسم إسرائيل؛ وكقوله في الاهانة: ﴿أهذا الذي يذكر آلهتكم﴾؟ ﴿أهذا الذي بعث الله رسولاً﴾!
وقد عدّوا من التعظيم في التعريف قصد تعظيمه بالبعد: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ (البقرة ١ ـ ٢) ـ وفاتهم ان ﴿ذلك﴾ اشارة للبعيد الماضي، لا للقريب الآتي .
وقد يأتي التعريف لإرادة الخصوص أو العموم جميعاً، كقوله في الخصوص ﴿والذي قال لوالديه: أف لكما﴾! ﴿وراودته التي هو في بيتها﴾! وكقوله في العموم: ﴿إن الذي قالوا: ربنا الله، تم استقاموا﴾، ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾.
وأشكل عليهم قوله: ﴿قل: هو الله أحد، الله الصمد﴾ (سورة الإخلاص) فالخبر في الأول نكرة، وفي الثاني معرفة.
كما أشكل تكراره: ﴿فإن مع العسر يسراً: إن مع العسر يسراً﴾! فتعريف الاسم يدل على الوحدة، وتنكير الخبر يدل على التعدّد.
فاشتقوا لاستساغة غرائبه هذه القاعدة: ﴿إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال، لأنه إما ان يكونا معرفتين؛ أو نكرتين؛ أو الأول نكرة والثاني معرفة؛ أو بالعكس﴾. لكنهم وجدوا ان الواقع القرآني ينقض ذلك، كقوله في الحال الأولى: ﴿هل جزاء الاحسان إلا الاحسان﴾؟ ـ فإنهما معرفتان والأول غير الثاني، كما في قوله أيضاً ﴿ان النفس بالنفس﴾ أي القاتلة بالمقتولة؛ وكما في قوله أيضاً: ﴿وكذلك أنزلنا إليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به﴾، فإن الأول القرآن، والثاني التوراة والإنجيل. ومنها في الحـال الثانية كقـوله: ﴿وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله﴾، أو كقوله: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه؟ قلْ: قتال فيه كبير﴾ ـ فإن الثاني فيهما هو الأول وهما نكرتان. ومنها في الحال الثالثة والرابعة، كقولـه: ﴿أن يصالحـا بينهما صلحاً، والصلح خير﴾، ﴿ويؤت كل ذي فضل فضله﴾، ﴿ويزدكم قوة الى قوتكم﴾، ﴿ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم﴾، ﴿زدناهم عذاباً فوق العذاب﴾، ﴿ما يتبع أكثرهم إلاَّ ظناً إن الظن﴾ ـ فإن الثاني فيها غير الأول .
وهكذا ليس من قاعدة مقرّرة في ﴿غرائبه﴾، بل يعود البيان والتبيين فيه الى القرائن اللفظية أو المعنوية، لا الى التعابير المتشابهة وحدها .
بحث خامس
في الافراد والجمع
(الإتقان ٢: ١٩٣)
الافراد والجمع مخصوصان بالأحدية والعددية. لذلك يجمع السماء ويفرد الأرض وشذّ قوله: ﴿الله الذي خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن﴾ (الطلاق ١٢) فقد جعل الأرض سبع أرضين، ولا مثيل فيه لهذه الآية.
﴿أخرج ابن ابي حاتم وغيره عن أبَي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب... وقد خرج على هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس (وجرين بهم بريح طيبة)، فلما شذّ قيدها بصفة.
وذكروا: ﴿حيث ورد الأخ مجمـوعاً، في النسب، قيل ﴿اخوة﴾؛ وفي الصداقة قيـل ﴿اخوان﴾. لكن ورد فيه في الصداقة: ﴿إنما المؤمنون اخوة﴾؛ وفي النسب: ﴿أو اخوانهن أو بني اخوانهن، أو بيوت اخوانكم﴾.
والقاعدة مقابلة الجمع بالجمع، إما عن طريق مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله: ﴿واستغشوا ثيابهم﴾ اي استغشى كل منهم ثوبه؛ ﴿حرمت عليكم امهاتكم﴾ أي على كل من المخاطبين أمه؛ وإما عن طريق ثبوت الجمع لكل فرد كقوله: ﴿فاجلدوهم ثمانين جلدة﴾. لكن ﴿تارة يحتمل الأمرين فيحتاج الى دليل يعيّن أحدهما﴾.
﴿وأما مقابلة الجمع بالمفرد، فالغالب أن لا يقتضي تعميم المفرد؛ وقد يقتضيه كما في قوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية: طعام مسكين﴾ ـ المعنى على كل واحد، لكل يوم طعام مسكين﴾.
وهكذا فالبيان عنده في القرائن أكثر منه في تعابير القرآن.
بحث سادس
﴿في السؤال والجواب﴾
(الإتقان ١: ١٩٧)
يقول: ﴿الأصل في الجواب المطابقة للسؤال، والخـروج عن الأصل يحتـاج الى دليل﴾. ومن ﴿الأسلوب الحكيم﴾ أن يأتي الجواب أعم من السؤال، لكن ليس من ﴿الأسلوب الحكيم﴾ ان يأتي أنقص.
أولاً: في القرآن خمسة عشر سؤالاً صريحاً، منها أحد عشر سؤالاً شرعياً يأتي فيها الجواب مطابقاً للسؤال، لأنه توقيف من النبي المرسل. وهذه هي: ﴿يسألونك ماذا ينفقون﴾ (البقرة ٢١٥ و٢١٩)؛ ﴿يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه؟﴾ (البقرة ٢١٧)؛ ﴿يسألونك عن الخمر﴾ (البقرة ٢١٩)؛ ﴿ويسألونك عن اليتامى﴾ (البقرة ٢٢٠)؛ ﴿ويسألونك عن المحيض﴾ (البقرة ٢٢٢)؛ ﴿يسألونك ماذا أحلَّ لهم﴾ (المائدة ٤)؛ ﴿يسألونك عن الساعة﴾ (الأعراف ١٨٧؛ النازعات ٤٢)؛ ﴿يسألونك عن الأنفال﴾ (الأنفال ١)؛ ﴿ويسألونك عن الجبال﴾ (في اليوم الآخر) (طه ١٠٥) ـ والسؤال عن النفقة، وعن الساعة، مكرران.
ثانياً: ومنها أربعة أسئلة صريحة، غير شرعية، كان الجواب فيها أنقص من السؤال، بما لا يقتضيه أربعة الحال؛ ويظهر في الجواب تهرّب من السؤال، وتردد في الجواب .
السؤال الأول عن الله: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني﴾ (البقرة ١٨٦). فكأنهم سألوه أين الله؟ لكن يظهر من سؤال آخر شبيه به أنهم سألوه عن ذات الله: ﴿قالوا وما الرحمن؟﴾ (الفرقان ٦٠). أجاب في (البقرة ١٦٣) أولاً ثم في (الحشر ٢٢): ﴿عالم الغيب والشهادة هو الرحمن﴾ ـ فلا يأتي الجواب مطابقاً للسؤال. لكن هل من جواب في ذات الله؟
السؤال الثاني: ﴿يسألونك عن الأهلّة؟ ـ قل: هو مواقيت للناس والحج﴾ (البقرة ١٨٩). هذا جواب شرعي عن سؤال كوني. فقد كانوا يسيرون بحسب التقويم القمري، لا الشمسي، ويعرفون ان يقيسوا مواقيتهم على الأهلّة.
السؤال الثالث: ﴿يسألونك عن الروح؟ ـ قل: الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥). انه يجيب أولاً: ﴿الروح من أمر ربي﴾ اي من عالم الأمر والخلق، فالروح مخلوق. لكن ﴿الروح﴾ في غير موضع فوق عالم الأمر: ﴿ينزّل الملائكة بالروح﴾ كأنه سيدهم (النحل ٢)؛ وروح الله في عيسى صادر من ذات الله: ﴿كلمته ألقاها الى مريم وروح منه﴾ (النساء ١٧٠). ممّا يدل على ان عقيدة الروح في القرآن من متشابهاته. ويقرّ ببساطة رائعة: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾؛ وهذا هو جوابه الثاني النهائي، لذلك قال قوم: مضى محمد ولمّا يدر ما الروح؟
وهذا التردّد في الجواب يظهر في السؤال الرابع: ﴿ويسألونك عن ذي القرنين﴾ (الكهف ٨٣). فتلا منه ذكراً، هو أقرب الى الأساطير منه الى التاريخ؛ وجعل الذي أله نفسه ليعبد من دون الله، داعياً الى التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها .
وتأتي قصة أهل الكهف، والتردد باد في عدد الفتيه، وفي عدد السنين، فتعطي المثل الصارخ على ان العلم المنزل في القرآن شرعي، لا من الكونيات ولا من الطبيعيات ولا من التاريخيات. لذلك يأمره: ﴿قلْ: ربي اعلم بعدتهم. ما يعلمهم الاّ قليل. فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً. ولا تستفتِ فيهم منهم أحداً﴾ (الكهف ٢٢). أربعة مواقف متعارضة. والشهادة صريحة بأن محمداً في معارفه كان يستفتي أهل الكتاب.
بحث سابع
﴿في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل﴾
(الإتقان ١: ١٩٩)
يعطي السيوطي المبدأ: ﴿الاسم يدل على الثبوت والاستمرار؛ والفعل يدل على التجدد والحدوث. ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر﴾.
وفي القرآن من إِعجاز التعبير فيهما الشيء الكثير. لكن فيه ما يخرج عن القاعدة، بدون نكتة ظاهرة، كقوله: ﴿يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي﴾ (الأنعام ٩٥)؛ أو كقوله: ﴿يُخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي﴾ (يونس ٣١؛ الروم ١٩). فلم يقصدوا الى نكتة بيانية في التنوع، كما قصدوا الى التمييز بين الآيات. وتوصلوا الى هذه النتيجة: ﴿وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والعمى والضلالة والبصر ـ كلها لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر وآثار تتجدد وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين﴾.
لكن الواقع القرآني لا يستمر في ذلك، كقوله: ﴿ثم إنكم بعد ذلك لميتون﴾ ـ والموت يكون مرة واحدة؛ وكقوله: ﴿ثم انكم يوم القيامة تبعثون﴾ والبعث يكون مرة واحدة؛ وكقـوله: ﴿الذين هم من خشية ربهم مشفقون﴾ ـ مع قوله: ﴿والذين هم بآيات ربهم يؤمنون﴾. فليس الثبوت والاستمرار من دلالة الاسم فيه، ولا التجدد والحدوث من دلالة الفعل فيه. ﴿وقال ابن المنير: طريقة العربية تلوين الكلام، ومجيء الفعلية تارة، والاسمية اخرى، من غير تكلف لما ذكروه﴾.
بحث ثامن
﴿في العطف﴾
(الإتقان٣٠٠)
يعطي السيوطي المبدأ: ﴿العطف ثلاثة أقسام: عطف على اللفظ ـ وهو الأصل وشرطه امكان توجه العامل الى المعطوف ـ وعطف على المحل، وله ثلاثة شروط: أحدها إمكان ظهور ذلك المحل في الصحيح؛ الثاني ان يكون الموضع بحق الأصالة؛ الثالث وجود المحرز اي الطالب لذلك المحل ـ وعطف على المعنى.
أوّلاً: الواقع القرآني يشهد بغرائبه في العطف
كقوله: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون﴾
وقوله: ﴿واتبعوا في هذه الدنيا لعنةً، ويوم القيامة﴾.
وقوله: ﴿لولا أخّرتني الى أجل قريب، فأصدق وأكنْ﴾
وقوله: ﴿انه مَن يتقي ويصبرْ﴾
وقوله: ﴿ومن وراء اسحاق يعقوبَ﴾ بالفتح .
وقوله: ﴿إنا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظاً من كل شيطان مارد﴾ (الصافات ٦ ـ ٧) .
وقوله: ﴿ودّوا لو تدهن فيدهنون﴾!
وقوله: ﴿لعلي أبلغُ الأسباب، أسباب السماوات، فأطّلع﴾ بالفتح.
وقوله: ﴿ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم﴾.
ثانياً: وجاء عنده عطف الخبر على الانشاء وعكسه:
قال السيوطي: ﴿ومنه البيانيون... وأجازه جماعة مستدلين بقوله تعالى: ﴿وبشر الذين آمنوا...﴾ (البقرة ٢٥) حيث عطف الانشاء على الخبر ﴿اعدت للكافرين﴾ (البقرة ٢٤)؛ وكقوله: ﴿وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين﴾ (الصف ١٣) حيث عطف الانشاء وعلى الخبر.
ثالثاً: واختلفوا في جواز عطف الاسمية على الفعلية، وعكسه:
وذلك بمناسبة حكم تشريعي: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وانه لفسق﴾. (الأنعام ١٢١). فهل يقول بتحريم أكل متروك التسمية؟ قالت الحنفية بالتحريم. ورد الرازي فقال في الآية: ﴿هي حجة للجواز، لا للتحريم، وذلك ان (الواو) ليست عاطفة لتخالف الجملتين بالاسمية والفعلية؛ ولا للاستئناف لأن أصل (الواو) ان تربط ما بعدها بما قبلها؛ فبقي ان تكون للحال، فتكون جملة الحال مفيدة للنهي. ومعنى (لا تأكلوا منه) في حال كونه فسقاً، والفسق فسره بقوله: ﴿أو فسقاً أُهِلّ لغير الله﴾. فالمعنى: لا تأكلوا منه اذا سُمّي عليه غير الله؛ ومفهومه: فكلوا منه اذا لم يُسَمّ عليه غير الله تعالى﴾.
رابعاً: واختلفوا في جواز العطف على معمولي عاملين:
وخرج عليه قوله: ﴿إن في السماوات والأرض لآياتٍ للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات (؟) لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات (؟) لقوم يعقلون﴾ (الجاثية ٣ ـ ٥) ـ فآيات الثانية والثالثة منصوبة أم مرفوعة؟
خامساً: واختلفوا في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار:
فاختلفوا في قراءة: ﴿واتقوا الله الذي تساءَلون به والارحام﴾ (النساء ١). فهل (الارحام) منصوب عطفاً على (اتقوا الله)؟ أو مجرور بالعطف على (به) من غير اعادة الجار؟
وأشكل قوله: ﴿يسألونك عن الشهرالحرام، قتال فيه؟ ـ قل: قتالٌ فيه كبير، وصدٌ عن سبيل الله، وكفرٌ به والمسجد الحرام... (البقرة ٢١٧). فهل يصح العطف على الضمير المجرور من غير اعادة الجار؟ اختلفوا لأنه ورد في القرآن؛ وجمهور البصريين على المنع.
وهكذا ترى ان اختلافهم في قواعد البيان ناجم عن غرائب القرآن.
بحث تاسع
﴿في مقدمه ومؤخره﴾
(الإتقان ٢: ١٣)
أوّلاً: التقديم والتأخير باب جميل في البيان
وهو وافر في القرآن. وقد وجد السيوطي لذلك عشرة أنواع من الأسباب للتقديم: الأول التبرّك، والثاني التعظيم، الثالث التشريف، كتقديم الذكر على الانثى... وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام ـ وقدم هارون عليه في سورة (طه) رعاية للفاصلة ـ والشمس على القمر حيث وقع إلاّ في قوله (وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً)، فقيل لمراعاة الفاصلة... ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله (عالم الغيب والشهادة) لأن علمه أشرف؛ وأما قوله (يعلم السرّ وأخفى) فأخر فيه رعايه للفاصلة. الرابع المناسبه وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام... واما مناسبة لفظ هو من التقدم والتأخر كقوله: ﴿وله الأولى والآخرة﴾؛ وأما قوله: ﴿فلله الآخرة والأولى﴾ فلمراعاة الفاصلة... الخامس الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به، كتقديم الوصية على الدَين في قوله: ﴿من بعد وصية يوحى بها أو دين﴾ ـ مع ان الدين مقدم عليها شرعاً. السادس السبق في الزمان أو باعتبار الانزال. السابع السببية. الثامن الكثرة. التاسع الترقي من الأدنى الى الأعلى. ﴿ومن هذا النوع تأخير الأبلغ ـ وقد خرج عليه: الرحمن الرحيم، والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي وقوله: (وكان رسولاً نبياً). وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة. العاشر التدلّي من الأعلى الى الأدنى؛ ﴿وخرج عليه قوله (لا تأخذه سنة ولا نوم)، (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة)، (لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون).
فترى ان رعاية الفواصل قد تحمله على الشذوذ عن قواعد البيان في التقديم والتأخير.
ثانياً: وهناك قسم أشكل معناه بحسب ظاهره
فسروه بالتقديم والتأخير:
كقوله: ﴿فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم: انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا﴾ (التوبة ٥٥) وكررها بحذف (لا) (٨٥). وأصله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ انما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ـ فما النكتة البيانية في التأخير؟
وقوله: ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى﴾ (طه ١٢٩). وأصله: ولولا كلمة سبقت من ربك، وأجل مسمى، لكان لزاماً ـ فما السر في التأخير؟
وقوله: ﴿أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيّماً﴾ (الكهف ١). وأصله: أنزل على عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً ـ فما نكتة التأخير في النظم والبيان؟
وقوله: ﴿لهم عذاب شديد، بما نسوا، يوم الحساب﴾ (ص ٢٦). فقوله (يوم الحساب) قد يتعلق (بما نسوا)، وقد يتعلق ﴿بعذاب شديد﴾: فاشتبه الأمر بسبب النظم، وقالوا اصله: لهم عذاب شديد يوم الحساب، بما نسوا ـ فهل التأخير من محكم البيان؟
وقوله: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تّبعتم الشيطان، إلا قليلاً﴾ (النساء ٨٣) فظاهر القول ان الله لم يعصم منهم الا القليل، واتبع الشيطان الأكثرون. أخرج ابن جرير الطبري قال: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، انما هي (اذاعوا به إلاّ قليلاً) منهم ولولا فضل الله ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. لكن فاتهم ان بين التقديم والتأخير في هذه الآية بوناً شاسعاً لا يصح معه. فجاءَت متشابهة، ليست من محكم البيان والتبيين.
وقوله: ﴿فقالوا أرنا الله جهرة﴾ (النساء ١٥٣) ـ ظاهر السياق ان كلمة (جهرة) ترجع الى ﴿أرنا الله﴾؛ ولكن يمنع من ذلك أنهم رأوا الله يتجلى على سيناء. فكان لا بد من ارجاع (جهرة) الى (فقالوا جهرة) ـ لكن ما الذي يُلجئنا الى هذا التقديم والتأخير؟
وقوله: ﴿واذ قتلتم نفساً فادّاراتم فيها﴾ (البقرة ٧٢) ـ ﴿قال البغوي: هذه اول القصة، وان كان مؤخراً في التلاوة﴾. فسؤالهم موسى كان بعد تخاصمهم، كما نظمه الواحدي: ﴿واذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فسألتم موسى فقال: ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة (٦٧) ـ فهل من الإِعجاز في البيان تقديم الجواب على السؤال؟ وهل في هذا التقديم والتأخير إِعجاز في ترتيب القصة؟
وقـوله: ﴿أرأيتَ من اتخذ الهه هـواه، أفأنت تكـون عليه وكيلاً﴾ (الفرقـان ٤٣)؛ ﴿أفرأيت من اتخذ الهه هواه، وأضله الله على علم... فمن يهديه من بعد الله؟﴾ (الجاثية ٢٢) ـ فهل من يتّخذ الهه هواه يضله الله على علم؟ وتكرار التعبير ليس هفوة بيانية؛ إنما هو مقصود متواتر. وظاهره غير باطنه. فقالوا: ﴿والاصل (هواه الهه) لأن من اتخذ الهه هواه غير مذموم. فقدم المفعول الثاني للعناية به﴾. لكنه أخلّ بالمعنى في بيانه.
وقوله: ﴿أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى﴾ ـ على تفسير أحوى بالأخضر وجعله نعتاً للمرعى أي (أخرج المرعى أحوى فجعله غثاءً) وأخر رعاية للفاصلة، فأشكل المعنى .
وقوله: ﴿غرابيب سود﴾ ـ ﴿والأصل: (سود غرابيب) لأن الغربيب الشديد السواد﴾ ـ فهل التقديم من الإِعجاز في البيان؟
وقوله: ﴿فضحكت، فبشرناها﴾ ـ والأصل: (فبشرناها فضحكت). فما النكتة البيانية في هذا التقديم والتأخير؟
وقوله: ﴿ولقد همت به، وهمَّ (يوسف) بها؛ لولا أن رأى برهان ربه﴾ ـ والأصل لتنزيه يوسف عن الهوى والهم بها: (وهمت به، ولولا ان رأى برهان ربه، لهمَّ بها). فالتقديم والتأخير هنا يوجب الاثم على النبي.
نختم بقوله: ﴿إنّي متوفيك ورافعك اليّ﴾ (آل عمران ٥٥). وهذا يتعارض مع قـوله: ﴿وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه﴾ (النساء ١٥٧ ـ ١٥٨). لذلك أخرجوا عن قتادة قال: هذا من المقدَّم والمؤخر، أي رافعك إليّ ومتوفيك. وفاتهم ما جاءَ قبلهما في سورة مريم: ﴿والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيّاً﴾ (٣٣)؛ وبعدهما في سورة المائدة: ﴿وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم﴾ (١١٧). فليس في (آل عمران ٥٥) تقديم وتأخير، بل تحقيق وتوكيد يترك آية (النساء ١٥٧ ـ ١٥٨) متعارضة في ظاهرها مع ما قبلها ومع ما بعدها. ولا يرفع التعارض الا أسلوبها البياني، فهي اثبات في معرض النفي، رداً على كفرهم.
بحث عاشر
﴿في عامّه وخاصّه﴾
(الإتقان٢: ١٦)
يقول السيوطي: ﴿العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر:
والعام على ثلاثة أقسام: الأول الباقي على عمومه. قال البلقيني: ومثاله عزيز، اذ ما من عام إلاّ ويتخيّل فيه التخصيص﴾ ـ والمقصود الأحكام الشرعية.
﴿الثاني العام المراد به الخصوص .
الثالث العام المخصوص﴾.
أوّلاً: ومن أمثلة العام المراد به الخصوص
﴿الذين قال لهم الناس: ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم﴾ ـ والقائل واحد، والجماعة المجموعة واحدة. ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله﴾ ـ والمقصود رسول الله وحده. ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس﴾ ـ والمقصود قريش، من حيث أفاض إبراهيم. ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب﴾ أي جبريل كما في قراءة ابن مسعود.
وهذا العام المراد به الخصوص أسلوب بياني قرآني يفسر كثيراً من التعابير المتشابهة في القرآن كقوله: ان القرآن ﴿ذكر للعالمين﴾ أي المخاطبين العرب. فلا يدل بحرفه على عالمية الدعوة .
﴿وأما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً. وهي أكثر من المنسوخ. اذ ما من عام الا وقد خُصّ.
ثم المخصّص له، إمّا متصل وإما منفصل .
فالمتصل خمسة وقعت في القرآن: الاستثناء، الوصف، الشرط، الغاية، بدل البعض من الكل.
والمنفصل آية اخرى في محل آخر ـ أو حديث ـ أو اجماع ـ أو قياس﴾.
ويعطي أمثلة على ١) ما خُصّ بالقرآن ٢) وعلى ما خُصَّ بالحديث والسنة ٣) وعلى ما خُصَّ بالإجماع ٤) وعلى ما خُصَّ بالقياس (الإتقان ٢: ١٧).
ونحن نقول: إن البيان الذي يحتاج الى تخصيص وتبيين بالسُنَّة أو الاجماع أو القياس، أيكون من الإِعجاز في البيان والتبيين؟
ثانياً: ومن غرائب القرآن، ما كان مخصِّصاً لعموم السُنّة
وهو عزيز. ومن أمثلته، قوله تعالى: ﴿حتى يعطوا الجزية﴾ خص عموم قوله ﷺ: أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله. وقوله: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى﴾ خصَّ عموم نهيه ﷺ عن الصلاة في الأوقات المكروهة، بإخراج الفرائض. وقوله: ﴿ومن أصوافها وأوبارهـا﴾ خص عموم قـوله ﷺ: ما أبين من حي فهـو ميت. وقـوله: ﴿والعاملين عليها﴾؛ ﴿والمؤلفة قلوبهم﴾ خصّ عموم قوله ﷺ: لاتحلّ الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سوى. وقوله: ﴿فقاتلوا التي تبغي﴾ خصّ عموم قوله ﷺ: اذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار﴾.
ونحن نقول: ان البيان الذي يتعارض ما بين القرآن والسنة، حتى يبينه تخصيص القرآن أو تخصيص السنة، هل هو من محكم البيان؟
ثالثاً: فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص
﴿الأول: اذا سيق العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه؟ ـ فيه مذاهب... ﴾
﴿الثاني: اختُلف في الخطاب الخاص به ﷺ نحو (يا أيها النبي)؛ (يا أيها الرسول) هل يشمل الأمة؟ ـ فقيل نعم لأن أمر القدرة أمر لأتباعه معه عرْفا. والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصيغة به﴾.
﴿الثالث: اختلف في الخطاب ﴿بيا أيها الناس﴾ هل يشمل الرسول ﷺ؟ ـ على مذاهب﴾.
﴿الرابع: الأصح في الأصول ان الخطاب ﴿بيا أيها الناس﴾ يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ. وقيل: لا يعم الكافر بناءً على عدم تكليفه بالفروع؛ ولا العبد، لصرف منافعه الى سيده شرعاً﴾.
﴿الخامس: اختلف في (مَن) هل يتناول الانثى؟ ـ فالأصح نعم... واختلف في جمع المذكر السالم: هل يتناولها؟ فالأصح لا، وإنما يدخلن بقرينة. أمّا المكسّر، فلا خلاف في دخولهن فيه﴾.
﴿السادس: اختُلف في الخطاب ﴿بيا أهل الكتاب﴾ هل يشمل المؤمنين؟ ـ فالأصح لا، لأن اللفظ قاصر على مَن ذُكر... واختلف في الخطاب ﴿بيا أيها الذين آمنوا﴾ هل يشمل أهل الكتاب؟ ـ فقيل: لا، بناءً على أنهم غير مخاطبين بالفروع؛ وقيل: نعم لأنه خطاب تشريف، لا تخصيص﴾.
ونحن نقول؛ تلك الأبواب الستة التي يختلفون فيها ما بين العموم والخصوص في بيان القرآن، هل تدل على إِعجاز في البيان والتبيين؟
وهكذا ففي عامّ القرآن وخاصه قد يكون محكم؛ لكن أكثره متشابه لا يقوم بيانه على نفسه، بل على غيره؛ وما كان هكذا فهل هو من الإِعجاز في البيان؟
بحث حادي عشر
﴿في مجمله ومبيّنه﴾
(الإتقان ٢: ١٨)
ننقل هذا الفصل أيضاً عن السيوطي لأنه مثال على الإِعجاز في البيان.
أوّلاً: تسعة أبواب من المجمل غير المبين
﴿المجمل: ما لم تتضح دلالته. وهو واقع في القرآن، خلافاً لداود الظاهري. وفي جواز بقائه مجملاً أقوال؛ أصحها: لا يبقى المكلف بالعمل به، بخلاف غيره﴾. وللاجمال أسباب:
﴿منها الاشتراك نحو (والليل اذا عسعس) فإنه موضوع (لأقبل وأدبر). ونحو (ثلاث قرؤٍ) فإن القرء موضوع للحيض والطهر. ونحو (يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يحتمل الزوج والولي فإن كلاً منهما بيده عقدة النكاح﴾.
﴿ومنها الحذف نحو (وترغبون أن تنكحوهنَّ) يحتمل (في) و(عن﴾) .
﴿ومنها اختلاف مرجع الضمير نحو (اليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه) يحتمل عود ضمير الفاعل في (يرفعه) الى ما عاد عليه ضمير (اليه) وهو الله؛ ويحتمل عودة الى العمل، والمعنى أن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيّب؛ ويحتمل عودة الى الكلم الطيب اي ان الكلم الطيب، وهو التوحيد، يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلاَّ مع الإيمان﴾.
﴿ومنها احتمال العطف الاستئناف نحو (وما يعلم تأويله، إلاّ الله، والراسخون في العلم، يقولون) ـ أزيد عليه قوله: ﴿شهد الله... أن (إن) الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩).
﴿ومنها غرابة اللفظ نحو (فلا تعضلوهن﴾).
﴿ومنها عدم كثرة الاستعمال نحو (يلقون السمع) اي يسمعون؛ (ثاني عطفه) أي متكبر؛ (فأصبح يقلّب كفّيه) أي نادماً﴾.
﴿ومنها التقديم والتأخير نحو (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى) أي (ولولا سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً). ونحو (يسألونك كأنك حفي عنها) (يسألونك عنها كأنك حفي﴾).
﴿ومنها قلب المنقول نحو (طور سينين) أي سينا؛ ونحو (على ال ياسين) اي (على الياس﴾).
﴿ومنها التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر نحو (للذين استُضعفوا) أي (لمن آمن منهم﴾).
تلك الأبواب التسعة في ما جاءَ من القرآن مجملاً لا تتضح دلالته بنفسه، بل بغيره من القرائن اللفظية أو المعنوية القريبة أو البعيدة، فهل هي من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في بيان القرآن؟
ثانياً: من المبيّن بآية أخرى في غير موضع
في المبيّن: ﴿قد يقع التبيين مفصّلاً نحو (من الفجر) بعد قوله (الخيط الأبيض من الخيط الأسود). ومنفصلاً في آية أخرى نحو (فإن طلّقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره) بعد قوله (الطلاق مرتان). فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرجعة بعده، ولولاها لكان الكل منحصراً في الطلقتين﴾.
﴿وقوله (وجوه يومئذٍ ناضرة، الى ربها ناظرة) دال على جواز الرؤية. ويفسره ان المراد بقوله (لا تدركه الابصار) أي لا تحيط به. قلتُ: قد تنظر الى الله، ولكن لا تراه! بل ترى مصدر قدرته ومكان عرشه في يوم الدين﴾.
﴿وقوله (أُحلت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يُتلى عليكم)، فسره قوله (حُرّمت عليكم الميتة...﴾)
﴿وقوله (مالك يوم الدين) فسره قوله (وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين﴾)
﴿وقوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) فسره قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا﴾)
﴿وقوله (واذا بُشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) فسره قوله في آية النحل (بُشّر بالانثى﴾).
﴿وقوله (أوفوا بعهدي، أوف بعهدكم). قال العلماء: بيان هذا العهد قوله: (لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) فهذا عهده؛ وعهدهم (لأكفّرن عنكم سيئاتكم﴾) .
﴿وقوله (صراط الذين انعمت عليهم) بيّنه قوله: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين...﴾).
تلك أمثلة ثمانية لبيان القرآن بآية أخرى منه. فهل الكلام الذي لا يُبين إلا بكلام آخر من زمن آخر هو من معجز البيان؟
ثم أضاف السيوطي: ﴿وقد يقع التبيين بالسُنّة، مثل (وأقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (والله على الناس حج البيت). وقد بيّنت السنة أفعال الصلاة والحج، ومقادير الزكوات في أنواعها﴾.
فقرآن لا تستبين أحكامه إلا بالسُنّة، هل هو من الإِعجاز المطلق في البيان والتبيين؟
ثالثاً: ﴿اختلف في آيات أهي من قبيل المجمل أو لا﴾:
﴿ومنها آية السرقة (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا ـ (المائدة ٣٨): قيل: انها مجملة في اليد لأنها تطلق على العضو الى الكوع والى المرفق والى المنكب؛ وفي القطع لأنه يطلق على الإبانة وعلى الجرح؛ ولا ظهور لواحد من ذلك؛ وإبانة الشارع من الكوع تبين ان المراد ذلك. وقيل: لا إجمال فيها لأن القطع ظاهر في الإبانة﴾.
﴿ومنها (امسحوا برؤوسكم). قيل: انها مجملة لتردّدها بين مسح الكل والبعض؛ ومسح الشارع الناصية مبين لذلك. وقيل: لا، وانما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم، وبغيره.
﴿ومنها (حرمت عليكم أمهاتكم) قيل: مجملة، لأن اسناد التحريم الى العين لا يصح، لأنه انما يتعلق بالفعل فلا بدَّ من تقديره هو محتمل لأمور لا حاجة الى جميعها ولا مرجح لبعضها. وقيل: لا، لوجود المرجح وهو العرْف، فإنه يقضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطءٍ ونحوه. ويجري ذلك في كل ما علق فيه التحريم والتحليل بالأعيان﴾.
﴿ومنها (وأحلّ الله البيع وحرم الربا). قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر الى بيان ما يحل وما يُحرم. وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعاً، فحُمل على عمومه، ما لم يقم دليل التخصيص. وقال الماوردي للشافعي: في هده الآية أربعة أقوال... لكن لما قام بإزائه من السُنّة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلاّ بالسنة.
﴿ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو (أقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (ولله على الناس حج البيت). قيل: انها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قصد؛ والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر الى البيان. وقيل: لا، بل يُحمل على كل ما ذكر، إلا ما خُصّ بدليل﴾.
ويختم بهذا التنبيه: ﴿قال ابن الحصار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد. قال: والصواب أن المجمل اللفظ المبهم الذي لا يفهم المراد منه؛ والمحتمل اللفظ الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو بعضها. قال: والفرق بينهما ان المحتمل يدل على أمور معروفة واللفظ مشترك متردّد بينهما؛ والمبهم (المجمل) لا يدل على أمر معروف. مع القطع بأن الشارع لم يفوّض لأحد بيان المجمل، بخلاف المحتمل﴾.
تلك الآيات الخمس موجز التشريع التعبدي والاقتصادي. والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر إلى البيان. مع القطع بأن الشارع لم يفوّض لأحد بيان المجمل فيها. فنحن بإزاء بيان تشريع لا يستبين من نفسه، وقد يقوم بإزائه من السنه ما يعارضه. ولم يتعين المراد منه إلاّ بالسُنّة. وبيان بحاجة إلى بيان، هل هو من الإِعجاز في البيان؟
بحث ثاني عشر
﴿في منطوقه ومفهومه﴾
(الإتقان ٢: ٣١)
وهذا فصل آخر يدل على مدى الإِعجاز في حرف القرآن وبيانه.
أوّلاً: منطوقه الظاهر بحاجة الى بيان وتأويل
﴿المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص نحو (فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة اذا رجعتم، تلك عشرة كاملة) ـ أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً فالظاهر، نحو (فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد) فإن الباغي يُطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب. ونحو (ولا تقربوهن حتى يطهرن) فإنّه يقال للانقطاع طهراً وللوضوء والغسل، وهو في الثاني أظهر﴾ ـ والاحتمال على المرجوح على ثلاثة أنواع:
﴿وإن حُمل على المرجوح لدليل فهو تأويل. ويُسمى المرجوح المحمول عليه مؤولاً، كقوله (وهو معكم أينما كنتم) فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم والحفظ والرعاية. وكقوله (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة ان يكون للانسان أجنحة، فيُحمل على الخضوع وحسن الخلق﴾.
- وهذا هو مجاز القرآن؛ وهو أكثره.
﴿وقد يكون مشتركاً بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعاً، فيحمل عليهما جميعاً ـ سواءٌ قلنا بجواز استعمال اللفظ في معنيَيْه أو لا، ووجهه على هذا ان يكون اللفظ قد خوطب به مرتين، مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته (ولا يُضار كاتب ولا شهيد) فإنه يحتمل (ولا يضارِر) ـ بالكسر ـ الكاتب والشهيد صاحبَ الحق بجور في الكتابة والشهادة؛ (ولا يُضارَر) ـ بالفتح ـ أي لا يضارهما صاحبُ الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما، واجبارهما على الكتابة والشهادة﴾.
﴿ثم ان توقفت صحة دلالة اللفظ على اضمار سميت دلالة اقتضاء نحو (واسأل القرية) أي أهلها﴾.
﴿وان لم تتوقّف، ودل اللفظ على ما لم تقصد به سميت دلالة اشارة، كدلالة قوله تعالى (أحلَّ لكم ليلة الصيام الرَفَث الى نسائكم) على صحة صوم مَن أصبح جنباً، إذ إِباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم جنباً في جزء من النهار﴾.
ان البيان الذي يكون أكثره بحاجة الى تأويل ودلالة اقتضاء ودلالة إشارة، لأنه يفيد معنى مع احتمال غيره احتمالاً مرجوجاً، لا يكون من معجز البيان. ان البيان الذي يفيد معنى لا يُحتمل غيره، فهو قليل جداً في القرآن كما يدل عليه خلافهم في ندور النص: ﴿وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد، قال: لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال؛ وهذا، وان عزَّ حصوله بوضع الصيغ رداً الى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية﴾. وهكذا يحصل الاجماع بندور النص جداً في الكتاب والسنة، بوضع الصيغ رداً الى اللغة. والبيان الذي بحاجة الى القرائن الحالية والمقالية لظهور معناه ليس من الإِعجاز في البيان. وكتاب العقيدة والشريعة الذي في منطوقه يندر النص جداً، هل يكون من معجز البيان؟
بسبب هذا الواقع القرآني تواتر القول بأن الأحكام الشرعية ظنيّة. وكتاب الشريعة الذي لا تؤخذ الأحكام منه إلاّ ظنيّة، هل يكون من محكم البيان؟
ثانياً: مفهومه قد يخالف منطوقه
أمّا مفهوم القرآن، ﴿فالمفهوم ما دلّ عليه اللفظ، لا في محل النطق. وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة﴾.
﴿فالأول مـا يوافق حكمه المنطوق. فإن كان أولى سُمّي (فحوى الخطاب) كدلالـة ﴿فلا تقل لهما أفّ﴾ على تحريم الضرب لأنه أشد. وان كان مساويا سمي (لحن الخطاب) أي معناه كدلالة ﴿الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً﴾ على تحريم الاحراق، لأنه مساوٍ للأكل في الاتلاف. واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال.
﴿والثاني ما يخالف حكمه المنطوق. وهو انواع. مفهوم صفة، نعتاً كان أو حالاً أو ظرفاً أو عدداً... ومفهوم شرط... ومفهوم غاية... ومفهوم حصر... واختلف بالاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة. والأصح في الجملة أنها كلها حجة بشروط. منها ان لا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثَمَّ لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله (وربائبكم اللاتي في حجوركم) فإن الغالب كون الربائب في حجور الازواج، فلا مفهوم له، انما خصَّ بالذكر لغلبة حضوره في الذهن. وأن لا يكون موافقاً للواقع، ومن ثمَّ لا مفهوم لقوله (ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له) به؛ وقوله (لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وقوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً﴾).
وهكذا ففي القرآن ما يخالف حكمه المنطوق به. ففي قوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء، إن أردنا تحصناً) هل يعني: إن لم يردن تحصّناً، فأكرهوهنّ على البغاء؟ وقد شعر القرآن نفسه بهذا المتشابه الكثير فيه (آل عمران ٧) .
والكتاب الذي يكون أكثره من المتشابه، فلا يُبنى عليه حكم محكم بنص محكم، لأن فيه ما يخالف حكمه المنطوق به، هل يكون من الإِعجاز في البيان؟
بحث ثالث عشر
﴿في مطلَقه ومقيده﴾
(الإتقان ٢: ٣١)
هذا بحث آخر يكشف كثيراً من أسرار البيان القرآني ومدى إِعجازه في تعبيره.
أولاً: مذهب القرآن في البيان الإطلاق في التعبير والأحكام
يقول السيوطي: ﴿المطلق هو الدل على الماهية بلا قيد. وهو مع القيد كالعام مع الخاص﴾.
﴿قال العلماء: متى وجد دليل على تقييد المطلق صير اليه؛ وإلاّ فلا، بل يبقى المطلق على اطلاقه، والمقيّد على تقييده. لأن الله خاطبنا بلغة العرب. والضابط أن الله اذا حكم في شيء بصفة أو شرط، ثم ورد حكم آخر مطلقاً، نظر فإن لم يكن له أصل يُرَدّ إليه إلاَّ ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به؛ وان كان له أصل يرد اليه غيره لم يكن ردّه الى أحدهما بأولى من الآخر﴾.
﴿فالأول مثل اشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والفراق والوصية، في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقوله (شهادة بينكم، اذا حضر أحدَكم الموت، حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم) وقد اطلق الشهادة في البيوع وغيرها في قوله (وأشهدوا اذا تبايعتم؛ فإذا دفعتم اليهم أموالهم فأشهدوا عليهم). والعدالة شرط في الجميع. ومثل تقييد ميراث الزوجين بقوله (من بعد وصية يوصين بها أو دين) واطلاقه الميراث فيما أطلق فيه. وكذلك ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والـدين. وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من ﴿الرقبة المؤمنة﴾ واطلاقها في كفارة الظهار واليمين. والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة. وكذلك تقييد الأيدي بقوله (الى المرافق) في الوضوء، واطلاقه في التيمّم. وتقييد احباط العمل بالردة، بالموت على الكفر، في قوله (ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر)؛ وأطلق في قوله (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله). وتقييد تحريم الدم بالمسفوح (في الأنعام) وأطلق فيما عداها﴾.
ثانياً: اختلافهم في حمل المطلق على المقيّد
﴿فمذهب الشافعي: حمل المطلق على المقيد في الجميـع. ومن العلمـاء مَن لا يحمل﴾. ويختم بهذا السؤال: اذا قلنا يُحمل المطلق على المقيد، هل هو من وضع اللغة أو بالقياس؟ ـ مذهبان. وجه الأول (من وضع اللغة) إن العرب من مذهبها استحباب الإطلاق، اكتفاءً بالقيد، وطلباً للإيجاز والاختصار. ويقول آخرون بالقياس لتعارض الإطلاق مع القيد.
وفائدة هذا البحث جليلة في الشرع وفي البيان. ففي البيان تأتي تعابير أو أحكام كثيرة على الإطلاق في ظاهرها، لكن لها قيد من ناحية أخرى؛ لذلك لا تؤخذ على اطلاقها. من ذلك تعابير القرآن في عمومية الدعوة وعالميتها كقوله (ذكر للعالمين) فإنه يقيده بقوله: ﴿فهو ذكر لك ولقومك﴾، ﴿كتاب فيه ذكركم﴾؛ وقوله: ﴿لتنذر أم القرى وما حولها﴾.
فالقرآن يقيد دعوته ببني قومه، وان استحب الإطلاق في تعبيره على مذهب العرب. فالإطلاق في التعبير القرآني يجعله أيضاً من المتشابه. وكتاب عقيدة وشريعة من مذهبه البياني اطلاق تعابيره واحكامه، هل يكون من المحكم ومن المعجز في البيان والتبيين؟
بحث رابع عشر
﴿في أقسام القرآن﴾
(الإتقان ٢: ١٢٣)
في أقسام القرآن شبهات على إِعجازه في بيانه.
يقول السيوطي: ﴿والقصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده﴾.
أوّلاً: وقد قيل: ما معنى القسم منه تعالى؟
﴿فإنه ان كان لأجل المؤمن، فالمؤمن مصدق بمجرّد الاخبار من غير قسم؛ وان كان لأجل الكافر فلا يفيده﴾.
﴿وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم القسم اذا أرادت أن تؤكد أمراً. وأجاب أبو القاسم القشيري: بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها. وذلك ان الحكم يُفصل باثنين إمّا بالشهادة، وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة﴾.
وعليه يُجاب: العرب من عادتهم القسم. فهل ننزل الله منزلة مخلوقاته؟ واذا كانت حجة المخلوق لا تقوم إلاّ بالشهادة أو القسم، أتكون حجة الله بالقسم كحجة خلقة؟ ألا يكفي الحق سبحانه الخبر والشهادة. ولتصديق شهوده الأنبياء لا يأتي بقسم، بل بمعجزة تؤيدهم. فالقسم لا يليق بالحق سبحانه. واذا أقسم بنفسه لأنه الأعلى ولا أعلى منه يقسم به!
ثانياً: مشكل أقسام القرآن بغير الله
﴿لا يكون القسم إلا باسم معظم. وقد أقسم الله تعالى بنفسه في سبعة مواضع... والباقي كله ﴿قسم بمخلوقاته...﴾.
﴿فإن قيل: كيف أقسم الله بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟ قلنا أجيب عنه بأوجه: أحدها انه على حذف مضاف أي (ورب التين)، (ورب الشمس)، الثاني ان العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون. الثالث ان الاقسام لإنما تكون بما يعظمه المقسِم أو يجلّه وهو فوقه... القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأنها تدل على بارىء وصانع﴾.
وعليه يُجاب: ان اضمار المضاف في القسم ليس من أسلوب العرب؛ وليس من أسلوب عرب الجاهلية القسم بالمصنوعات لأنه يستلزم القسم بالصانع، لأنهم كانوا على الوثنية أو الشرك. فلا يبقى إلاَّ ان القسم في القرآن من أساليب العرب في الدين والبيان. كانت العرب تعظّم في شركها تلك الكائنات فكانت تقسم بها، فصح القول: ﴿إن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون﴾. لذلك فالنتيجة الحاسمة أن أقسام القرآن من رواسب الشرك في القرآن. وكيف ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؛ والقرآن يقسم بغير الله؟ والله نفسه في القرآن يقسم بمخلوقاته؟ إنها شبهة يحار فيها المؤمن وغير المؤمن، ولا جواب لها. فهل أقسام القرآن من إِعجازه الإلهي في البيان؟
والقول الفصل ان بيان القرآن متشابه بحاجة إلى تأويل
إن آية القرآن بيانه، فهو ﴿قرآن مبين﴾ (الحجر ١)، ﴿بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء ١٩٥ قابل النحل ١٠٣). لكن الحق انه ﴿فيه آيات محكمات... وأخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧)، وما تشابه منه فهو أكثره في العقيدة والشريعة والقصص والأمثال. وما تشابه منه، وهو بحاجة الى تأويل، ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ (آل عمران ٧) لا يكون من الإِعجاز في البيان .
قالوا: ﴿إِعجاز القرآن كان بتجاوزه الحدود الانسانية في البيان﴾. إن الحدود والقيود في بيانه بادية عليه، فلا يصح بحال تجاوزه الحدود الانسانية في البيان، ليكون إِعجازه معجزة إلهية. ان الإِعجاز البياني قائم فيه، لكنه ليس بمعجزة إلهيّة. ودليل ذلك ﴿غرائبه التي لا تنتهي﴾؛ فقد ورد حديث مـأثور عن أبي هريرة مرفوعـاً: ﴿أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه﴾ ١ ! والغرائب في اللسان العربي المبين ليست من دلائل الإِعجاز في البيان. وبتقريره المتشابه في بيانه، نسخ هو نفسه إِعجازه في بيانه.
١. الإتقان ١ : ١١٥.