الفصل الثامن

أيصح الإِعجاز معجزة؟

﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠)

توطئة

ما بين الإِعجاز والمعجزة

نصل الآن الى الخاتمة الحاسمة لهذا الكتاب. لقد استقرينا مواطن الإِعجاز كلها في القرآن. وهذه هي النتيجة الحاسمة لها جميعاً. إننا لا نتنكر لإِعجاز القرآن في الهدى والبيان. وان ظن بنا أحد ذلك فقد ظلم نفسه وظلم علمه بنا وبكتابنا. إنما نستنكر أن يكون هذا الإِعجاز معجزة القرآن والنبوّة. فالشواهد التي استشهدنا بها في نواحي الإِعجاز كلها، جميعُها شبهات على المعجزة الإلهية في هذا الإِعجاز اللغوي البياني. لا نقصد بها الشواهد والشبهات منفردة؛ بل نقدمها مجتمعة في عقد فريد يجعل الإِعجاز معجزة مشبوهة لا يصح الأخذ بها لصحة القرآن والنبوّة. فالإِعجاز كمعجزة بدعة قال بها أهل الإِعجاز من غير العرب، ونسبوا الى القرآن عقيدة لم يقل بها، وما أنزل الله بها من سلطان في حجة القرآن. وقديماً قال عقلاء المسلمين، في بدء المقالة بإِعجاز القرآن كمعجزة له: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة. وذلك لسبب بدهي: إن الدين للعامة، والإِعجاز للخـاصة، كمـا يشهد الباقلاني: ﴿معرفة إِعجـاز القرآن لا تتهيـأ إلاّ للعربي المتناهي الفصاحة ١ .

بحث أوّل

وجه الإِعجاز مجهول، فلا يصح التحدّي به كمعجزة

لقد خاضوا في القول بإِعجاز القرآن منذ ألف سنة. ونحن اليوم حيث بدأوا. إن وجه الإِعجاز مجهول. وإِعجاز يجهلون وجهه، ويختلفون فيه، أيصح ان يكون معجزة للتحدي في النبوّة والتنزيل؟

١ ـ إن خاتمة المحققين، في ختام العصر الذهبي من الإسلام، السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن) يصرّح: ﴿لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبينا ﷺ، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإِعجاز. وقد خاض الناس في ذلك كثيراً فبين محسن ومسيء. وهو ينقل أقوالهم المختلفة في وجه الإِعجاز، فلا يستقر لهم قرار. يبدأ بذكر قول ثم يرد عليه: ﴿فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات. وأن العرب كُلفت في ذلك ما لا يُطاق، به وقع عجزها. وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصوَّر التحدّي به! والصواب ما قاله الجمهور: انه وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ.

ونحن نردّ بأن وجه الإِعجاز في لفظ القرآن مجهول. وبما أنه مجهول، بعد محاولات ألف سنة، فلا يصح التحدّي به ﴿لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّر التحدّي به!

٢ ـ يُعتبر الخطابي أسبق علماء المسلمين الى البحث عن الإِعجاز بحثا علميّاً. والخطابي كان أول من أقرّ باستحالة معرفة وجه الإِعجاز. قال: ﴿قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كل مذهب من القول. وما وجدناهم بعد صدروا عن رأي، وذلك لتعذّر معرفة وجه الإِعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته ٢ .

فالجهل بمعرفة وجه الإِعجاز ليس واقعاً فحسب، انما هي قضية مبدأ، ﴿وذلك لتعذر معرفة وجه الإِعجاز في القرآن. لذلك يصح أن نردد: ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصوَّر التحدّي به.

٣ ـ وفي عصرنا لم نزل حيث كانوا. فها محمد زغلول سلام في ﴿أثر القرآن في تطور النقد العربي، الى آخر القرن الرابع الهجري، يختم كتابه بقوله: ﴿فقامت جهود العلماء في دراسات القرآن، على جلاء تلك المسائل الغنية والجمالية في الأسلوب، لحلّ اللغز الذي حيّر الناس، وهو الإِعجاز. وكانت محاولات شتى للوصول الى حل له والاهتداء الى تعليل. عللوه أولاً بمسائل فلسفية وكلامية؛ لكنه لم يستقم، وقامت حوله اعتراضات ومطاعن. واجتنبوا به ناحية بيانية فتوصلوا الى نتائج خدمت الأدب والنقد جميعاً ـ لكنها لم تخدم إِعجاز القرآن لأنه ظل ﴿اللغز الذي حيّر الناس.

ولغز حيّر الناس، لا يصح أن يكون معجزة القرآن للتحدي به على صحة النبوّة والتنزيل.

٤ ـ وأكبر من تصدى للبحث في إِعجاز القرآن، في عصرنا، كان مصطفى صادق الرافعي. ﴿لقد كان أول من دخل هذه الحلبة من أبناء هذا العصر... وكان آخر من دخل هذه الحلبة هو جلال الدين السيوطي. و﴿جاء الرافعي فكان مقداماً جريئاً.

﴿يأخذ الرافعي في عرض آراء السابقين في الإِعجاز، ويستنفذ جهداً كبيراً في عرض هذه الآراء ومناقشتها. ثم ينتهي به المطاف الى رفض هذه الآراء جميعاً، يقول عبد الكريم الخطيب ٣ .

فعلم من الأعلام في القول ﴿بإِعجاز القرآن ينقض أقوال السلف جميعهم فيه. فلا يزال وجه الإِعجاز مجهولاً. ومعجزة مجهولة حتى اليوم، كيف يصح أن يتحدى بها الله منذ نحو ألف وأربعمائة سنة؟

ثم يعرض الرافعي لسر الإِعجاز في القرآن فرأى وجوه الإِعجاز فيه:

١ ـ تاريخه ٢ ـ أثره النفساني ٣ ـ حقائقه.

فيأتي عبد الكريم الخطيب ويردها جميعاً، لأنها إمّا خارجة عن ذات القرآن، وإمّا جانبية لا تقوم على النظم، ﴿والنظم هو سر الإِعجاز فيه.

وعبد الكريم الخطيب الذي يرد على الرافعي، وقد درس ﴿الإِعجاز في دراسات السابقين، و﴿الإِعجاز في مفهوم جديد،، لا يزال حيث نحن من جهل وجه الإِعجاز. فهو يصرّح مراراً وتكراراً: ﴿إن إِعجاز القرآن ـ في نظرنا ـ سر محجوب عن الأنظار (١: ٣٦): ﴿غير ان هناك دراسات اتجهت مباشرةً للبحث عن وجوه الإِعجاز ودلائله في القرآن، فلم يكن من همّها شيء، إلاّ ان تكشف النقاب عن هذا السر المحجب (١: ١٢٥)، ﴿السرّ المضمر الذي اشتمل عليه القرآن (١: ٣١٥).

فالإجماع اليوم، كمـا كان قبل ألف سنة، ان إِعجاز القرآن هو ﴿اللغز الذي حيَّر الناس. فيحق لكل منطق ان يردّد كلمة السيوطي: ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصوَّر التحدّي به. وبما أن إِعجاز القرآن سرّ ولغز لم يقفوا له بعد على وجه، فلا يصح بحال التحدّي به كمعجزة الهية على صحة التنزيل وصدق النبوّة. لذلك فإن إِعجاز القرآن ليس بمعجزه للقرآن.

بحث ثان

التحدّي بالنظم والبيان بدعة على القرآن

لقد رأينا في بحث سابق تفصيل ذلك. نعود هنا إلى الموضوع لنستخرج منه النتيجة الحاسمة.

ان جميع آيات التحدّي بالقرآن لا تدل قرائنها اللفظية والمعنوية على تحدٍ بالنظم والبيان. فالقرآن عندما استفتح التحدّي بذاته كان تحديه موجهاً للمشركين وحدَهم، وتحداهم بالهدى لا بحرف القرآن: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله، هو أهدى منهما اتّبعه إن كنتم صادقين (القصص ٤٩). وفي صيغة هذا التحدّي يصرّح بأنه لا ينفرد بالهدى، بل هو الكتاب واحد في الهدى. وهذا التحدّي بهدى الكتاب والقرآن يرفع صفة الانفراد بالإِعجاز في الهدى، فلا يصح القول بالإِعجاز في الهدى، لأنه هو الكتاب سواء. وبما أن القرآن لا يتحدّى على الإطلاق بحرفه ونظمه، فدعوى الإِعجاز في حرف القرآن ونظمه انما هي بدعة ابتدعوها للقرآن، لم يقل بها، وما أنزل الله بها من سلطان.

فكل آيات التحدّي بالقرآن لا تصرّح بموضوع هذا التحدّي، فهي من المتشابهات التي يجب ردّها الى المحكمات، وهن ﴿أم الكتاب. والآية المحكمة الصريحة التي تصرح بموضوع التحدّي بالقرآن انما هي آية التحدّي بهداه (القصص ٤٩). وهذا الهدف صريح في آيات عديدة، منها: ﴿كتاب أنزلناه إليك لتخرج للناس من الظلمات الى النور، بإذن ربهم، الى صراط العزيز الحميد (إبراهيم ١). فالمقصود بإِعجـاز القرآن هـو النور والهدى. ومنها: ﴿وانه لكتـاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه (أمامه) ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد (فصلت ٤١ ـ ٤٢). فالمقصود بإِعجازه تنزيل الهدى لابطال الباطل.

أجل يصف القرآن نفسه بأنه ﴿الكتاب المبين (يوسف ٢)، ﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥). لكنه لا يجعل من هذه الإبانة معجزة له، لأن ﴿منه آيات محكمات...، وأخر متشابهات، وما تشابه منه ﴿ما يعلم تأويله الا الله (آل عمران ٧)، وهو أكثر القرآن، كما رأينا. وهذه الشهادة بالمتشابه في بيانه برهان قاطع على أن القرآن لم يجعل بيانه برهان صحته؛ وانما كان تحديه للعرب المشركين بهداه. وفي الهدى، القرآن والكتاب سواء، على حد تصريحه (القصص ٤٩).

وقد رأينا في ختام بحث النسخ وبحث المتشابه ان القرآن ختم التحدّي بإِعجازه في آية البقرة (٢٣)؛ وأنه، من بعدها، في آية النسخ (١٠٦) نسخ التحدّي بالإِعجاز في أحكام القرآن، لأن النسخ والإِعجاز ضدان لا يجتمعان؛ وأنه في آية المتشابه (آل عمران ٧) نسخ التحدّي بالإِعجاز في أخباره وأوصافه، لأن ﴿ما تشابه منه، ﴿ما يعلم تأويله إلا الله.

وهكذا فالقرآن نفسه نسخ التحدّي بذاته منذ مطلع القرآن المدني. فدعوى الإِعجاز في القرآن، سواءٌ بحرفه أم بهداه، كمعجزة له، لا أساس لها في القرآن نفسه. لذلك فإن إِعجاز القرآن ليس بمعجزة للقرآن.

بحث ثالث

الإِعجاز البياني للخاصّة، والدين للعامّة

بعد الواقع القرآني المتشابه في إِعجازه كمعجزة له؛ وبعد الواقع الكلامي المشبوه في معرفة وجه الإِعجاز؛ ننظر الى دعوى الإِعجاز البياني في نظمه كمعجزة له، من حيث المبدأ.

ومن البدهي ان الإِعجاز اللغوي البياني هو للخاصة من أرباب العربية، لا لعامة العرب، ولا لعموم غير العرب. بينما الدين لعامة العرب ولسائر البشرية. فلا يصح من الرحمٰن الرحيم أن يعطي الناس معجزة لا يفقهونها.

وهب أن القرآن كان موجها بالدرجة الأولى للعرب: ﴿وانه لذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤)؛ فإن التحدّي به لا يقتصر على أرباب الشعر الجاهلي؛ ولم يكن العرب جميعهم أرباب بيان وشعر. فلو كان ذلك لما كانت للشاعر في القبيلة تلك المنزلة الفريدة، فقد كان الشعر ديوان العرب وميزان فخرهم. وقد نقل الباقلاني قول الاصمعي: ﴿فرسان الشعر أقل من فرسان الحرب؛ وقول أبي عمرو بن العلاء: ﴿العلماء بالشعر أعزّ من الكبريت الأحمر. ولو كان عامة العرب أرباب شعر وبيان، لما قال القرآن في محمد: ﴿وما علمناه الشعر، وما ينبغي له (يسن ٦٩)؛ ولما قال في محمد أيضاً: الرحمٰن علّم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان (الرحمن ١ ـ ٤). فقوله ﴿الانسان عام يراد به الخاص، بسبب الترادف بين قوله: ﴿علمّ القرآن و﴿علمه البيان. فمحمد تعلّم البيان، وليس هو بفطرة عنده، ولا عند جميع العرب، حتى يصح التحدّي بالإِعجاز البياني لعامة العرب. واسلام القرآن دين شرعه لجميع العرب، ﴿وانه لذكر لك ولقومك. فلا يصح الإِعجاز البياني معجزة لعامة العرب. فكم بالحري لجميع البشرية.

وقد تصدّى لهذا المشكل الباقلاني، إمام القائلين بإِعجاز القرآن. قال: ﴿فإن قيل: لو كان معجزاً لم يختلف أهل المله في وجه إِعجازه. قيل: قد يثبت الشيء دليلاً، وان اختلفوا في وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.

وفات الباقلاني ان الاختلاف في وجه دلالة البرهان على حدوث العالم قسم الفلاسفة الى قائلين بالحدوث او الى قائلين بالقدم. وهكذا فجهل وجه الإِعجاز في القرآن، قد لا ينكر إِعجازه، وانما يسقط كون إِعجازه معجزة له.

ويفصل الباقلاني موقف الناس من الإِعجاز. يقول: الأعجمي لا يعرف بأن القرآن معجز إلاّ بأن يعلم عجز العرب عنه. والعرب لا تعرف إِعجازه إلاّ بمعرفتها عجز بلغائهم عنه. والبلغاء يعرفون إِعجازه من عجز أنفسهم عن مثله.

نقول: هذا ما يجعل الإِعجاز معجزة لا تصلح للدلالة، لأن الدين والإيمان مسألة شخصية تقوم على استبانة شخصية لمعجزة الإِعجاز، وهذا ما تعجز عنه عامة العرب، بل عامة البشر. فلا يصح الإِعجاز معجزةً من حيث المبدأ في البرهنة. ان معجزة لا يدركها الانسان لا تكون معجزة له. وحاشا لله أن يأتي بالعبث!

لذلك يقول بعضهم ٤ : ﴿والذي نراه هو أن الإِعجاز القرآني انما هو تحدّ للعرب وحدهم... امّا غير العرب فالحجة عليهم حجة ضمنية، إذ إن عجز أرباب البيان (العربي) عن لقاء هذا البيان السماوي يشهد للمعجزة شهادة قاطعة عند من لا يحسن العربية.

ان حجة لبعض العرب لا تصح حجة لجميع العرب، وبالحري لا تصح حجة لجميع البشر. فالإيمان لا يقوم على ﴿حجة ضمنية بل على حجة ساطعة لكل مؤمن يطلب البرهان على صحة الإيمان. فالإيمان مسألة شخصية، والبرهان عليه حجة لكل شخص يطلب البرهان على صحة الإيمان. وبما ان الإِعجاز البياني هو لخاصة العرب، والدين لعامة العرب، ولجميع البشر؛ فالإِعجاز البياني لا يصح مبدَئيّاً معجزة للإيمان بالقرآن، لعجز عامة العرب وجميع البشر عن ادراكها بأنفسهم. لذلك فإن إِعجاز القرآن ليس بمعجزة للقرآن.

بحث رابع

الإِعجاز في البيان برهان متشابه مشبوه

لكل لسان بيان؛ ولكل بليغ من بني الانسان بيان. فلا تختص العربية بالبيان. وآداب الأمم قديماً وحديثاً تتبارى في مضمار البيان. وكل الأمم التي فرضت وجودها على غيرها تدعي لنفسها الإِعجاز في بيانها على غيرها، منذ حكمة الصين، الى صوفية الهند، الى أدب اليونان، الى لغة الرومان، الى معلقات العرب، إلى ملحمات وتمثيليات الطليان والانكليز والاسبان.

فالبيان في آداب الدين واللغة شائع في كل لسان. لذلك فالادعاء بانفراده في لسان على كل لسان لا يقبله إنسان، لأن البيان واللسان توأمان لا ينفصلان.

لكن يحلو للبعض ان يجعل بيان العربية يعلو على كل بيان. يقول الخطيب ٥ : ﴿وقد يبدو هذا الكلام غريباً عند بعض الناس، حيث يرون ان ﴿الكلمة ـ ونعني بها اللغة ـ ليست مقصورة على العرب وحدهم، بل ان الناس جميعاً شركاء لهم في هذه الظاهرة الطبيعية. فلكل أمة لغتها التي تعيش بها، وتنتقل بها الآراء والأفكار بين أفرادها. فكيف ينفرد العرب بوضع خاص في هذه الظاهرة؟ وكيف يكون للكلمة عندهم شأن غير شأنها حيث تكون على لسان الأمم والشعوب؟ وهذا اعتراض له وجهه ووجاهته!...

﴿ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان، وحكمة فارس والهند في القديم. كما تذكر أساليب البيان الأوروبي وما نبغ فيه من كتاب وشعراء في العصر الحديث... لعلك تذكر هذا، فتعترض به على ما قلنا في البيان العربي، وتفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره. لعلك تذكر هذا، وربما نذكره نحن أيضاً معك، فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه. ولكننا مع هذا لا نرى ان بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، وبلاغة الأدب الأوروبي الحديث ـ لا نرى شيئاً من هذا يعلو البيان العربي أو يساويه، وان وقفت منه بعض تلك الآداب موقفاً مدانياً مقارباً.

يرى السّيد الخطيب ذروة البيان العربي في الشعر الجاهلي الذي وقع عليه التحدّي بالقرآن ٦ فهل يُقاس الشعر الجاهلي بإلياذة هوميرس أو انياذة فرجيل أو فردوس دانته أو تمثيليات شكسبير؟

إن الإِعجاز البياني في القرآن أمر واقع. لكن لكي نجعله معجزة البيان الإنساني على الإطلاق لا يجوز ان نجعل البيان العربي يعلو كل بيان في كل لسان. هذه التعميمات لا يقدر أن يقول بها إنسان، لأنه لا يقدر أن يطلع على ما في كل لسان. إن الإِعجاز البياني في القرآن هو بيان لسان، وقد يختلف في فقهه عن بيان غير لسان، فلا يصح بحال ان نجعله معجزة كل بيان في كل لسان. وكل بيان، في كل لسان، ينفرد بذاته على كل بيان. ولذلك فالإِعجاز البياني في القرآن يقتصر في التحدّي على البيان العربي، ولا يصح أن يتعداه إلى كل بيان في كل لسان. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لكل بليغ من بني الانسان بيان.

والبيان في الانسان صفة ذاتية لا ينازعه فيها بيان أي انسان. قد يكون بيان أفضل من بيان ـ وهذا أمر واقع ـ ولكن لكل انسان بيان يقدر ان يتحدّى به كل بيان عند كل انسان. فهوميروس يقدر ان يتحدّى بيانه كل بيان، لأنه لا يمكن لبيان انسان ان يطابق بيان انسان. فالبيان في الانسان صفة ذاتية كالشخصية لا يشاركنا فيها أحد من بني الانسان. فكل بليغ في البيان يقدر أن يتحدى بيان كل انسان لأنه لا يقدر انسان أن يأتي ببيان انسان. لذلك لا يصح التحدّي مبدئيّاً ببيان انسان لكل بيان عند بني الانسان. هذه هي عقيدة القرآن: ﴿وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم (إبراهيم ٤)؛ ﴿وإنه لذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤).

لذلك فإن إِعجاز القرآن في البيان ـ وهو أمر واقع ـ لا يصح معجزة للقرآن.

بحث خامس

التحدّي بالإِعجاز في البيان قلب للموازين في الدين

رأينا ان تفسير التحدّي بالقرآن كتحدّ بإِعجازه البياني بدعة لا يقول بها القرآن. ونقول الآن: إنها شرْك عند عباد الحرف، الذين يرون معجزة الله في الحرف لا في المعنى والهدى؛ لأنها تقلب المفاهيم والموازين في الدين.

إن التنزيل كتاب من الله يهدي الى دين الله، لا الى الأدب والبيان. وبيانه ليس للبيان، بل للهدى. هذا ما يصرح به بتواتر: ﴿قد جاءَكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذن ربهم، ويهديهم الى صراط مستقيم (المائدة ١٥ ـ ١٦). إنه كتاب مبين للهداية، لا للبيان.

ويقول: ﴿فقد جاءَكم بينة من ربكم وهدى ورحمة (الأنعام ١٥٧). فإن بيّنة القرآن في هداه.

ويقول: ﴿كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين (الأعراف ٢). فهو للانذار والذكرى، لا للبيان واللغة.

ويصرّح: ﴿هذا بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين (آل عمران ١٣٨). فبيان القرآن للهدى والموعظة، لا للبيان لأجل الإِعجاز في البيان.

ويصرح: ﴿آلر. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور، بإذن ربهم الى صراط العزيز الحميد (إبراهيم ١). فلم ينزل للبيان إِعجازه، بل للهداية الى صراط الله.

ويعلن: ﴿قل: نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (النحل ١٠٢). فليس غايته البيان، انما الهدى والبشرى والثبات.

ويعلن ان غاية بيانه ليست البيان بل الهدى في روعة بيانه: ﴿الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء (الزمر ٢٣). إن الناس تلين جلودهم وقلوبهم بذكر الله، وهدى الله، لا بالبيان والإِعجاز في البيان. تصريح كهذا يكفي لردع عبّاد الحرف عن اعتبار إِعجاز القرآن معجزة للتحدي والهداية!

وهذا تصريح آخر مثله: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله! (الحشر ٢١). إنها أروع صورة لإِعجاز القرآن وسحر بيانه. لكن الجبل، والانسان المؤمن كالجبل، لا يخشع ولا يتصدع لبيان القرآن، بل ﴿من خشية الله!

وهذا تصريح غيرهما مثلهما: ﴿الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيّماً، لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين (الكهف ١ ـ ٢). إن بيان القرآن القيم بلا عوج هو للإنذار والتبشير، لا للبيان والإِعجاز في البيان. يقول: ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين، وتنذر به قوماً لدّاً (مريم ٩٧). ان تيسير القرآن باللسان العربي، ليس للبيان العربي، بل للهداية بالتبشير والانذار.

فاللسان العربي والبيان العربي في القرآن، للذكرى لا للبيان: ﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (الدخان ٥٨). وهو يكرر مراراً: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر! (القمر ١٧)

فالإعلان المتواتر فيه: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين (الإسراء ٩)، لا إلى البيان، والإِعجاز في البيان، كقوله أيضاً: ﴿هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (الجاثية ٢٠).

نقف عند هذا الحد. فالشواهد لا تنتهي. إن غاية القرآن الهدى، لا البيان.

وقلْب الواسطة الى غاية انما هو قلب للمفاهيم والموازين في الدين. فمعجزة القرآن في النهاية نظم وبيان. فإذا بنا في النهاية أمام لغة وبيان، لا أمام وحي ودين! واذا معجزة القرآن إِعجاز بياني، أي في النهاية شكل، لا جوهر! واذا الشكل، في القرآن، أهم شيء وكل شيء! أيصح ان يكون الشكل معجزة الجوهر؟ لذلك لا يصح ان يكون إِعجاز القرآن معجزة القرآن، على خلاف صريح القرآن.

بحث سادس

نظرية فريد وجدي ٧

لا يتحدّى القرآن بإِعجاز لفظه

يقول: ﴿وصف الله كتابه بأوصاف كثيرة، وليس من بينها واحد يشير الى بلاغته اللفظية... ذلك ان البلاغة من الصفات الثانوية التي لا يصح ان يمتدح الله بها في كتابه. ولو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره، أما كان يشير الى تلك البلاغة، ولو في آية واحدة، وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيقته وحكمته وروحانيته؟... أليس في هذا إشارة الى ان وجه إِعجازه غير البلاغة اللفظية.

فالمرحوم فريد وجدي يرد نظرية القوم في الإِعجاز بالنظم والبيان، لسببين: من العقل أولاً: ان البلاغة صفة ثانوية خصوصاً في التنزيل والدين، فلا يصح ان يمتدح الله بها؛ ومن النقل عن القرآن، حيث لا يشير الى الإِعجاز في البلاغة والبيان في آية واحدة من آياته.

يردّون عليه بأنه يصف نفسه ﴿كتاب مبين، ﴿بلسان عربي مبين. أجل، ولكن لا يجعل بيانه معجزته، بل يشهد أن ﴿فيه آيات محكمات... وأخر متشابهات.

ويرد فريد وجدي على القائلين بإِعجاز بيانه معجزة له، بسبب ثالث: ﴿حصر المتكلمون في إِعجاز القرآن كل عنايتهم في بيان الإِعجاز من جهة بلاغته. فكتبوا في ذلك فصولاً ضافية الذيول، وبعضهم خصها بالتأليف. وإننا، وإن كنا نعتقد ان القرآن قد بلغ الغاية من هذه الوجهة، إلاّ أننا نرى أنها ليست هي الوجهة الوحيدة لإِعجازه، بل ولا هي أكثر جهات إِعجازه سلطانا على النفس. فإن للبلاغة على الشعور الإنساني تسلطاً محدوداً لا يتعدّى حد الاعجاب بالكلام والاقبال عليه. ثم يأخذ هذا الاعجاب والاقبال يضعف شيئاً فشيئاً بتكرار سماعه، حتى تستأنس به النفس، فلا يعود يحدث فيها ما كان يحدثه في مبدأ توارده عليها.

﴿ولكن ليس هذا شأن القرآن، فإنه قد ثبت ان تكرار تلاوته تزيده تأثيراً؛ ولكنه تسلّط على النفس والمدارك فوجب على الناظر في ذلك ان يبحث عن وجه إِعجازه في مجال آخر، يكفي لتعليل ذلك السلطان البعيد الذي كان للقرآن على قلوب الملحدين.

وفريد وجدي يجده في ﴿روحانية القرآن: ﴿نعم ان جهة إِعجاز الكتاب الإلهي الأقدس هي تلك (الروحانية العالية) التي قلبت شكل العالم.

نقول: إن روحانية القرآن لا شك فيها. لكنه يستند في برهانه الى أساس واهٍ. فهو يجدها في قوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدَى الى صراط مستقيم (الشورى ٥٢).

يظن ويظنون انه يصف القرآن بأنه ﴿روح. وفاتهم، وهم القائلون بأزلية القرآن، انه ﴿روح من أمرنا أي من عـالم الأمر والخلق. فليس القرآن بالـروح، انمـا أرسل الله اليه ﴿روحاً من أمرنا أي ملاكاً يهديه الى الإيمان بالكتاب، ويأمره بالـدعوة له. وهو مثل قوله: ﴿يُلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده (المؤمن ١٥)؛ أو قوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤).

فليس للإِعجاز بروحانية القرآن ـ وان كانت واقعة ـ من أساس في التحدّي بها. فليس فيها معجزة القرآن.

وهكذا يردّ المرحوم فريد وجدي إِعجاز القرآن في النظم والبيان، كمعجزة له، بعد ما قالوا به مدة الف سنة؛ ويجدها في روحانية القرآن المبنية على هداه. والقرآن والكتاب في ذلك سواء. وللاسباب الوجيهة الثلاثة التي يرد بها فريد وجدي إِعجاز القرآن كمعجزة له، يظهر أيضاً أن إِعجاز القرآن لا يصح معجزة له.

بحث سابع

الدلالة ما بين الإِعجاز والمعجزة

إن الناس حتى اليوم على شهادة السيوطي وابن خلدون في المفاضلة بالدلالة ما بين الإِعجاز والمعجزة.

يقول السيوطي (الإتقان ٢: ١١٦): ﴿اعلم ان المعجزة أمر خارق للعادة ـ مقرون بالتحدّي ـ سالم عن المعارضة. ثم يقول: ﴿وهي إما حسيّة وإما عقلية. وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم.

ثم يقول: ﴿ولأن هذه الشريعة، لما كانت باقية على صفحات الدهر الى يوم القيامة، خُصّت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر... إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا مَن حضرها. ومعجزة القرآن مستمرة الى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته... إن المعجزات الماضية الواضحة كانت حسية تشاهد بالأبصار... ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة... وقال تعالى: ﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم، فأخبر ان الكتاب آية من آياته كاف في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات مَن سواه من الأنبياء.

ففي عرفهم أن معجزات الأنبياء حسية وقتية كانت وانقرضت، فلا تدوم للشهادة. وإِعجاز القرآن معجزة عقلية دائمة قائمة في حرف القرآن.

هذا ما أوجزه ابن خلدون في قوله: ﴿واعلم ان أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن... لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وقال: ﴿ان الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي، ويأتي بالمعجزة شاهدة على صدقه ـ فهي زائدة عليه من خارجه. ﴿والقرآن هو نفسه الوحي المدَّعى، وهو الخارق المعجز: فشاهده في عينه ولا يفتقر الى دليل مغاير له مع الوحي، كسائر المعجزات.

ونقول: لكن معجزة الإِعجاز البياني هي لغوية عقلية. وفي هذا عينه، هي قاصرة عاجزة عن الدلالة المطلقة لكل الأمة، ولسائر الأمم. فالمعجزة اللغوية العقلية لا يفقهها إلا الأقلية من الناس، وتبقى دلالتها عند الأكثرية لا معنى لها ولا فائدة فيها.

بينما المعجزة الحسية، وان انقضت، فإن شهادتها للنبوّة والتنزيل لا تنقضي. فإن معجزات موسى ومعجزات عيسى تشهد الى يوم القيامة، ولجميع الناس على السواء، بلا استثناء، أن الله أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى. وفي الفطرة البشرية، والخبرة الانسانية، ان أعم وأفضل ما يُعلم هو ما يقوم على الحس والمشاهدة، على البصر أكثر من البصيرة. فهو ملموس محسوس، لا يماري فيه أحد.

﴿هذه عصا موسى. انها عصا من العصي. لا أكثر ولا أقل... ومع هذا فهي بين يديه تحمل ما تحمل من قوى الحق التي تعجز يد البشر على ان تنال منها منالاً. يلقيها من يده فإذا هي حية تسعى. ويضرب بها البحر فينفلق، فإذا كل فرق كالطود العظيم. ويضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً ٨ .

﴿كذلك معجزات عيسى: يهتف بالميت فيصحو: ويشير الى الأكمه والأبرص فيبرأ... وليس في صوته الذي يهتف به شيء يخالف مألوف الأصوات المعروفة للناس. انه مجرد كلمة تنطلق من فم؛ فإذا هي حياة، واذا هي روح تسري في موات فتبعثه من مرقده... ومجرد اشارة تتجه الى أعمى فإذا هو مبصر، أو الى أصم فإذا هو سميع مجيب.

﴿واذن فليس الشأن في هذا الصوت أو في تلك الاشارة، وانما هو قوة قادرة، لا تُرى، قد جعلت لهذه الكلمة ولتلك الاشارة هذا الأمر المعجز.

﴿وليس للناس إزاء هذا الانقلاب الشامل لطبائع الأشياء، وخروجها على مألوف الحياة عندهم، رأي أو نظر. وانما هو الدهش والعجب. أو الحيرة والتبلد. اذ ماذا يرى الناس أو يقولون في كلمة يحيا بها الميت؟ وماذا يرى الناس أو يقولون في إشارة يبرأ بها الأكمة أو الأبرص؟

﴿أما القرآن الكريم فشأنه غير هذا الشأن وأمره على خلاف هذا الأمر ـ إنه إِعجاز كلمات وألفاظ وعبارات. ﴿انها معجزة لا ترى بالعين، ولا تُلمس باليد.

ولذلك فدلالة المعجزة أقوى وأعم وأظهر من دلالة الإِعجاز. لا يجادل مؤمن في معجزات موسى ومعجزات عيسى. إنما أهل الإِعجاز فما يزالون مختلفين في وجه الإِعجاز، وبالتالي في وجه دلالته على النبوّة والكتاب. فالمعجزة تشهد شهادة قاطعة لجميع الناس. والإِعجاز البياني قد يشهد شهادة مشبوهة لبعض الناس.

يقول الخطيب ٩ : ﴿مع هذا الاجماع على أن القرآن هو معجزة الرسول، ومع هذا الاجماع أيضاً على وقوع الإِعجاز به... فإن الوقوف على الجهة التي كان منها الإِعجاز القرآني، أمر لم تلتقِ عنده الآراء ولم يكن محل اتفاق بين الباحثين والناظرين في وجوه الإِعجاز في كل زمان ومكان... وليس كذلك الشأن في معجزات الأنبياء. اذ كل معجزة كانت تنادي معلنة في وضوح عن صفتها التي أعجزت بها. وتسير بصراحة الى الجهة التي جاء منها الإِعجاز، فيعلم الناس ماذا في المعجزة من دلائل الإِعجاز.

فلا يصح أن يكون إِعجاز القرآن معجزة الله على صحة النبوّة والتنزيل.

فصل الخطاب

الإِعجاز بالحرف أم الإِعجاز بالهدى؟

الإِعجاز القرآني، في عرفهم، ﴿معجزة لغوية: فالله يتحدى العالمين بالحرف، وعلى التخصيص بالحرف العربي. وفي هذا عينه بطلان معجزة الإِعجاز:

١ ـ لا يليق بالله أن يتحدى بالحرف، بل بالهدى. إن التحدّي، في الله والحقيقة والدين، باللغة والبيان والنظم، أبعد وجه من وجوه المعجزة يمكن ذكره في كتاب الله.

٢ ـ والتحدّي بالحرف باطل مبدئيّاً، لأن ﴿المعجزة اللغوية لا يفقهها إلا أرباب البيان العربي، كمـا قال الباقلاني، شيخ المتكلمين في (إِعجاز القرآن ـ ص ١٧١ و ٣٩٦): ﴿معرفة إِعجاز القرآن لا تتهيأ إلاّ للعربي المتناهي الفصاحة. فتحدي الله أهل العربية أجمعين بالإِعجاز البياني هو تكليفهم بما لا يطاق، ﴿ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وكيف القول أيضاً بأنه تعالى يتحدى العالمين بالحرف العربي؟

٣ ـ إن دين الله لعامة الناس، لا لخاصتهم فقط. ومعجزة دين الله يجب ان يفهمها عامة الناس. وعامة الناس من أهل العربية ـ فكم بالحري من الأعاجم عنها ـ لا يفقهون شيئأ من ﴿معجزة لغوية، فالقول بها ينافي الله، وعدل الله، ورحمة الله.

٤ ـ التحدّي بحرف القرآن، لا بهدى القرآن، يجعل كتاب الله الحرف لا الهدى؛ ودين الله الحرف، لا الهدى؛ ويتحول التنزيل من الهدى الى الحرف. ويصير الإسلام والقرآن دين الحرف، لا دين الهدى. ويظهر القائلين بالإِعجاز عُبَّـاد الحرف، لا عِباد الله.

٥ ـ والتحدّي بحرف القرآن باطل أيضاً في الحقيقة والواقع. فقد رأينا السيد فريد وجدي ينفي ان يكون القرآن تحدى الناس بإِعجاز حرفه؛ إنما كان التحدّي بروحانيته وهداه. والبرهان القاطع على ذلك أن وجه الإِعجاز مجهول، ولم يُتفق حتى اليوم على تحديده، بل كان على الدوام ﴿اللغز الذي حيّر الناس. فهذا المجهول كالمعدوم في التحدّي به.

٦ ـ والواقع القرآني يشهد بأن التحدّي بالقرآن كان للمشركين، لا لأهل الكتاب؛ فهو اذن التحدّي بهداه. يشهد بذلك واقع المتشابه في أوصافه واخباره: ﴿منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات (آل عمران). ونعرف ان المحكمات هي أحكام القرآن، فيكون أكثر القرآن من المتشابه: والمتشابه ليس من الإِعجاز! ويشهد أيضاً واقع النسخ في أحكامه؛ فبعد التصفية النبوية كل سنة للمنسوخ وغيره، والتصفية العثمانية، ظل في أحكام (القرآن ناسخ ومنسوخ، وواقع النسخ لا يدل على الإِعجاز. ويشهد أيضاً واقع التبديل في التنزيل (النحل ١٠١) وهذا الواقع ينسف الإِعجاز من أساسه. يشهد بذلك أيضاً واقع الاختلاف في المواقف: كانت الدعوة بمكّة ﴿بالحكمة والموعظة الحسنة، فصارت في المدينة بالجهاد؛ كانت الدعوة بمكّة الى دين الإسلام، فصارت بالمدينة الى دولة الإسلام؛ كانت الـدعوة بمكّة الى ﴿أمة واحدة، فصارت في المدينة الى ﴿أمة وسط؛ فهذا الاختلاف لا يحمل معنى الإِعجاز. فهذا الواقع الجامع لا يدل على أن القرآن اعتبر إِعجازه معجزة له.

٧ ـ وأنّى له أن يعتبر إِعجازة معجزة له وهو الذي يصرّح قبل تحدّي المشركين بإِعجاز هداه ان المعجزات مُنعت عنه منعاً مبدئيّاً مطلقاً: ﴿وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون (الإسراء ٥٩). وهذا المنع المبدئي يلازمه منع واقعي في السورة عينها: يقترحون عليه أنواع المعجزات فيرد ﴿قلْ: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً (الإسراء ٩٠ ـ ٩٣). ويتكرر الموقف السلبي من كل معجزة نحو خمس وعشرين مرة صريحاً، غير الضمني المتواتر. فالمعجزة ممنوعة على النبي والقرآن من حيث المبدأ، ومن حيث الواقع: فكيف يمكن ان يكون إِعجاز القرآن معجزة له؟

فلا يشهد القرآن بإِعجاز حرفه، أي لفظه ونظمه، على الإطلاق. والمرة الأولى، في تاريخ النزول، التي يقول بها القرآن بإِعجاز فيه هي (الإسراء ٨٨) التي تقع ما بين المنع المبدئي (الإسراء ٥٩) والمنع الواقعي لكل معجزة فيه أو له. وهذا الواقع القرآني المشهود خير شاهد على أن القرآن لا يعتبر إِعجازه معجزة له؛ وعلى ان التحدّي فيه بإِعجازه، هو بهداه، لا بحرفه، كما يظهر من ختام الجدل في سورة (الإسراء ٩٤) عينها: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا، إذ جاءَهم الهدى....

والواقع الشاهد الذي سها عنه أهل الإِعجاز ان القرآن ينسب لنفسه البيّنات: ﴿أنزلنا إليك آيات بيّنات (٢: ٩٩)، ﴿من بعد ما جاءَتكم البيّنات (٢: ٢٠٩)؛ من بعد ما جاءَتهم البيّنات (٢: ٢١٣ و ٢٥٣؛ ٤: ١٥٣): ﴿فيه آيات بيّنات (٣: ٩٧)؛ ﴿بل هـو آيات بيّنات (٢٩: ٤٩)؛ ﴿واذا تُتلى عليهم آياتنا بيّنات (١٠: ١٥؛ ١٩: ٧٣؛ ٢٢: ٧٢؛ ٣٤: ٤٣؛ ٤٥: ٢٥؛ ٤٦: ٧)؛ ﴿أنزلنـاه آيات بيّنات (٢٢: ١٦) ﴿على عبده آيات بيّنات (٥٧: ٩). لكن ﴿البيّنات صفة كل تنزيل من الله قبل القرآن: ﴿جاءَتهـم رسلهم بالبيّنات (٥: ٣٢؛ ٧: ١٠١)؛ ﴿وجاءَتهم رسلهم بالبيّنات (١٠: ١٣؛ ١٤: ٩؛ ٣٠: ٩؛ ٣٥: ٢٥؛ ٤٠: ٨٣)؛ ﴿تأتيهم رسلهم بالبيّنات (٤٠: ٢٢؛ ٦٤: ٦)؛ ﴿تأتيكم رسلكم بالبيّنات (٤٠: ٥٠)؛ ﴿أرسلنا رسلنا بالبيّنات (٥٧: ٢٥). و﴿البيّنات على التخصيص صفة التنزيل في التوراة: ﴿جاءكم موسى بالبيّنات (٢: ٩٢)، ﴿جاءَهم موسى بالبيّنات (٢٩: ٣٩)؛ وتلك البيّنات كانت آيات ومعجزات، ﴿موسى بآيتنا البيّنات (٢٨: ٣٦)، ﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات (١٧: ١٠١؛ ٤٠: ٢٨). وهي بالحري صفة الإنجيل؛ ﴿جاء عيسى بالبيّنات (٤٣: ٦٣)، ﴿فلما جاءَهم بالبيّنات قالوا: هذا سحر مبين (٦١: ٦)؛ ﴿إذ جئتهم بالبيّنات (٥: ١١٠). والقرآن يفضل السيد المسيح ببيّناته على سائر الرسل، وعلى محمد نفسه، إذ يقرنها بتأييد الروح القدس الدائم للمسيح في دعوته وسيرته: ﴿وآتينا عيسى، ابن مريم، البيّنات، وأيدناه بروح القدس (البقرة ٨٧: ٢٥٣). فليس في إِعجاز القرآن من فضل على غيره، وليس إِعجازه معجزة له. فقد نسخ إِعجاز ﴿بيّناته بالتمييز فيها بين المحكمات والمتشابهات: ﴿منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات (آل عمران ٧)، ومن المعروف أن أكثر القرآن ـ ما عدا احكامه ـ آيات متشابهات، لا ﴿بيّنات.

والنتيجة الحاسمة المطلقة ان تحدي القرآن بإِعجازه، كان التحدّي بهداه، لا بحرفه، لفظه ونظمه؛ وكان للمشركين لا لأهل الكتاب، لان مطلع كل تحدٍّ فيه كان في سورة (القصص ٤٩)، التاسعة والأربعين من تاريخ النزول: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما، أتّبعه إن كنتم صادقين. ففي الإِعجاز بالهدى، الكتاب والقرآن سواء. وبما أن القرآن جاء لتصديق وتفصيل الكتاب فهو في الهدى تابع، لا متبوع.

فالقول بإِعجاز القرآن، معجزةً له، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك بنص القرآن القاطع. فلا يشهد القرآن بمعجزة له في إِعجازه، سواءٌ في حرفه أو في هداه.

القول الفصل في الإِعجاز القرآني كله

إنه يتحدى ﴿بمثْله. وهذا ﴿المثل موجود قبله. يتحدى ﴿بمثل هذا القرآن (الإسراء ٨٨). يتحدى ﴿بعشر سور مثله مفتريات (هود ١٣). يتحدى ﴿بسورة مثله (يونس ٣٨). يتحدى ﴿بحديث مثله (الطور ٣٤). يتحدى أخيراً ﴿بسورة من مثله (البقرة ٢٣). والباقلاني، شيخ المتكلمين ﴿بإِعجاز القرآن يقول فيه: ﴿احتجَّ عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره. والقرآن نفسه يعلن بنصه القاطع أن هذا ﴿المثل موجود قبله: و﴿شهد شـاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقـاف ١٠). لاحظ حرف التعبير عيـنه: التحدّي ﴿بمثله ووجود ﴿مثله من قبله. وهذا الشاهد ليس من اليهود، ﴿أول كافر به، بل من النصارى من بني إسرائيل الذين آمنوا بالمسيح، ويؤمنون بمحمد، وكانت الدعوة القرآنية تأييداً ﴿لنصرانيتهم (الصف ١٤). وهؤلاء النصارى من بني إسرائيل يشهد علماؤهم ان ﴿تنزيل رب العالمين هو ﴿في زبر الأولين: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٧). وهذا التنزيل من زبر الأولين قد جُمع في ﴿مثل القرآن الذي يشهد بوجوده أولو العلم، النصارى من بني إسرائيل؛ لذلك فالقرآن نفسه ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩)، لان ﴿مثل القرآن بين أيديهم، ومنه يعرفون القرآن ﴿كما يعرفون أبناءَهم (الأنعام ٢٠؛ البقرة ١٤٦).

فالشهادة الناصعة القاطعة، والجامعة المانعة، ان ﴿مثل القرآن موجود قبله. وهذه الشهادة بوجود ﴿مثل القرآن، تُسقط تحديه ﴿بمثله. ولا ندري كيف فاتت القوم، تلك الشهادة القرآنية حتى اليوم! فالقول الفصل في الإِعجاز القرآني كله، أن القرآن نفسه ينسخ التحدّي كله ﴿بمثله، في قوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. فالقرآن لا يعتبر إِعجازه معجزة له. ولا يصح الإِعجاز معجزة على الإطلاق. واذا كان القرآن ﴿لم يذكر حجة غيره فأين هي معجزة القرآن؟

ملحق

الإِعجاز والمعجزة عند المسيح

بشهادة الإنجيل والقرآن

 

توطئة

الإِعجاز المطلق عند المسيح بالأحوال والأعمال والأقوال

إن الإنجيل، كما يظهر للعيان، دعوة بالحكمة والمعجزة والشخصية الخارقة. فقد اجتمع فيه الدليل والمدلول عليه جميعاً؛ ففيه الإِعجاز المطلق بالاحوال والأعمال والأقوال.

والإنجيل والقرآن يشهدان للسيد المسيح بأنه رب الحكمة، وسيد المعجزة، وآية الشخصية المتميزة على العالمين: ﴿لنجعله آية للناس، ورحمة منا وكان أمراً مقضياً (مريم ٢١) ﴿وجعلناها وابنها آية للعالمين (الأنبياء ٩١).

والمتكلمون والحكماء يلتقون عنده في نظرياتهم الى الإِعجاز والمعجزة. ففي أركان الإِعجاز والمعجزة نقل ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة (ص ٩٠) الخلاف المستحكم بين المتكلمين والحكماء. قال: ﴿فالمتكلمون قائلون بأنها ـ المعجزة ـ واقعة بقدرة الله، لا بفعل النبي... وليس لنبي فيها إلا التحدّي بها بإذن الله... فإذا وقعت نزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه ـ أي النبي ـ صادق، وتكون دلالتها على الصدق قطعية. فالمعجزة الدالة بمجموع الخارق والتحدّي ولذلك كان التحدّي جزءاً منها.

﴿وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي... وأن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور الخوارق بقدرته، وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي عندهم مجبول على التصرف في الأكوان مهما توجه اليها واستجمع لها، بما جعل الله له من ذلك. والخارق عندهم يقع للنبي، كان للتحدي أو لم يكن، وهو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان... لا بأن يتنزّل منزلة القول الصريح بالتصديق... فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية، كما هي عند المتكلمين، ولا يكون التحدّي جزءاً من المعجزة.

فالخلاف بين الحكماء والمتكلمين في الإِعجاز والمعجزة يقوم على مصدرهما وعلى التحدّي بهما وعلى دلالتهما القطعية. لكن الفريقين يتفقان على خرق العادة في كل الأحوال، وهذا وجه الدلالة.

والسيد المسيح، سواءٌ كان سلطانه الخارق في الإِعجاز والمعجزة، من ذاته أو بإذن الله ـ وكلاهما صحيح فيه ـ فهو الإِعجاز المطلق في المعجزة المطلقة، في أحواله وأعماله وأقواله، بشخصيته وسيرته ورسالته في إنجيله، إنجيل الله.

بحث أوّل

المسيح في الإنجيل

لقد بلغ السيد المسيح الإِعجاز المطلق في الشخصية بسلطانه المطلق، وفي السيرة والرسالة بالحكمة المطلقة والمعجزة المطلقة.

أوّلاً: الإِعجاز المطلق في الشخصية بسلطانه

بدأ يسوع دعوته في جامع الناصرة، حيث نشأ، في سبت حافل حاشد. دُعي الى الكلام فقرأ في الكتاب نبوءة أشعيا في المسيح الموعود: ﴿إن روح الله عليّ. فقد مسحني لأعلن البشرى (أي الإنجيل بالحرف العبري) للمساكين؛ وأرسلني لأنادي بالحرية للمأسورين، وبالبصر للعميان، وبالتخفيف عن المرهقين، وأعلنها سنة نعمة لله. ﴿ثم طوى السفر ودفعه للخادم وجلس. وكانت عيون الذين في الجامع شاخصة اليه بأجمعها. فشرع يقول لهم: اليوم تمت هذه الآية المكتوبة على مسمع منكم (لوقا ٤: ١٤ ـ ٢٢). فهو يعلن بتورية أنه المسيح الموعود، وأن الإنجيل تحقيق النبوّة. والنبوّة والإنجيل يجمعان البشرى والمعجزة معاً، بشرى الخلاص والمعجزات الروحية والحسية التي تؤيدها.

وشرع في الدعوة. فأخذ الإِعجاز في الشخصية يظهر بسلطانه المطلق.

١ ـ سلطان على شريعة الله نفسها. ففي خطبته التأسيسية على الجبل، يعلن الدستور الإنجيلي في تكميل الدستور التوراتي في الكلمات العشر (متى ٥ ـ ٧). وفيه يطورّ الدين من علاقة عبد بربه الى علاقة ابن بأبيه السماوي في المسيح يسوع، ويطور الشريعة من السلبية إلى الإيجابية، ومن الظاهرية الى الباطنية، ومن المادية الى الروحانية، حتى ﴿بُهت الجموع من تعليمه لأنه كان يعلمهم كذي سلطان، لا مثل علمائهم (متى ٧: ٢٨). فكان المشترع الأعظم.

٢ ـ سلطان على الانسان. فإنه يعرف غيب المخلوق وسرائره. ويفعل فيه ما يريد، في إسرائيل، مثلاً، بشفاء أبرص بكلمة منه (متى ٨: ١ ـ ٤)؛ وبين الأميّين الوثنيين بشفاء غلام لقائد حامية كفرناحوم الرومانية، على بعد (٨: ٥ ـ ١٣). فكان سلطاناً شاملاً مطلقـاً: ﴿ولمّا كان المساء قدموا اليه كثيرين بهم شياطين، فطرد الأرواح بكلمة. وأبرأ أيضاً جميع مَن بهم سوء (متى ٨: ١٦). إن سلطان المسيح على الانسان هو فوق سلطان المخلوق.

٣ـ سلطان على الطبيعة، كتسكين عاصفة هوجاء في بحيرة طبريا: ﴿حينئذٍ نهض وزجر الريح والبحر، فساد هدوء عظيم! فدهش أولئك الناس وقالوا: مَن تُرى هذا، حتى يطيعه الريح والبحر! (متى ٨: ٢٦ ـ ٢٧). ومثل تكثير الخبز لآلاف الجياع، مرة لبني إسرائيل، ومرة في أرض المشركين. وكالسير على الماء، على مشهد من الجمهور. ومَن له سلطان ذاتي على الطبيعة هو أكثر من إنسان.

٤ ـ سلطان على الشياطين. غيره يخافهم، وهو يُخيفهم! صادفهم في رجل به جِـنّة فأمرهم بمغادرة المسكين: ﴿فأخذ الشياطين يبتهلون الى يسوع... (٨: ٢٨ ـ ٣٤).

٥ ـ سلطان على مغفرة الخطايا ـ وهو سلطان إلهي محفوظ لله وحده ـ ادعاه لنفسه قبل شفاء مقعد في كفرناحوم. فاتهمه الأحبار والعلماء بالكفر. فتحداهم بالمعجزة: ﴿لكي تعلموا أن ابن البشر (لقب المسيح المتواتر في الإنجيل) له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا ـ عندئذٍ قال للمقعد ـ قم، احمل فراشك وامض الى بيتك! فنهض ومضى الى بيته، ولدى هذا المشهد استولى على الجموع خوف، وحمدوا الله الذي آتى الناس مثل هذا السلطان (متى ٩: ١ ـ ٨).

٦ ـ سلطان على ملكوت الله، يدعو اليه مَن يريد، مثل متى الجابي، ويرفض من يريد ممن لا يستحقون (متى ٩: ٩ ـ ١٣). وجوده بين الناس برهان ظهور ملكوت الله. فهو سيد الملكوت.

٧ ـ سلطان على الحياة والموت، بإحياء ابنة يائير، رئيس جامع كفرناحوم: ﴿أخذ الفتاة بيدها فقامت من الموت! (متى ٩: ١٨ ـ ٢٦). نادى لعازر من القبر فقام (يوحنا ١١).

٨ ـ سلطان على غيب الله نفسه، ﴿فلا أحد يعرف الابن إلاّ الآب؛ ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومَن يريد الابن أن يكشف له (متى ١١: ٢٧).

وهذا السلطان كله مطلق كسلطان الله: ﴿لقـد آتاني أبي كل شيء (متى ١١: ٢٧)، ﴿لقد أوتيتُ كل سلطان في السماء وعلى الأرض (متى ٢٨: ١٨).

لمّا رأى الشعب هذا كله، هتف الناس والعميان الذين شفاهم أنه ﴿ابن داود أي المسيح الموعود (متى ٩: ٢٧). وتاريخ بني إسرائيل في الكتاب مشحون بمعجزات النبوّة. لكنهم لمّا شاهدوا معجزات يسوع قالوا: ﴿لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل! (متى ٩: ٣٣).

إِعجاز في القول، وإِعجاز في الفعل! إِعجاز في الشخصية، وإِعجاز في السلطان!

          ثانياً: الإِعجاز المطلق في السيرة والرسالة، بالكلمة والمعجزة

١ـ هذا الإِعجاز المطلق وصلت أخباره الى يوحنا المعمدان، وهو في سجنه الذي استشهد فيه. فأرسل وفداً من تلاميذه يستطلع أخبار يسوع، ويسألونه: ﴿أأنت النبي الموعود، أم ننتظر آخر؟ وفي تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين. ثم أجاب الوفد، قال: ﴿انطلقوا وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون. والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يشك فيَّ (متى ١١: ٢ ـ ٦؛ لوقا ٧: ١٨ ـ ٢٣).

تلك المعجزات كانت دلائل النبوّة في الكتاب عن المسيح الموعود. فصنع يسوع المعجزات الموعودة: فتمّم النبوءات الدالة عليه، وصنع المعجزات المشهودة. لذلك كان جواب يسوع ليوحنا وتلاميذه الجواب المعجز بالأقوال والاعمال، بالنبوءات والمعجزات.

٢ ـ وأخذ يسوع يكشف شيئاً فشيئاً سر شخصيته بأقواله وأعماله: إنه ﴿عيسى ابن مريم ـ وكلمة الله ألقاها الى مريم روح منه، فهو المسيح، رسول الله الأعظم.

مرة يصرح: ﴿ان ابن البشر هو رب السبت (متى ١٢: ٨) والسبت تأسيس الله عندهم، وحرمته مطلقة. ومرة ينادي: ﴿وههنا أعظم من الهيكل، حيث سكينة الله عندهم (متى ١٢: ٦). وأيّد تطاوله على مقدّساتهم بمعجزاته الدالة على سره: أشفية بالجملة (١٢: ١٥)، شفاء مجنون أعمى وأخرس، به جِنّة (متى ١٢: ٢٢ ـ ٢٩). فهو مؤسس ملكوت الله الموعود، وسيده فيما بينهم؛ ومعجزاته، خصوصاً على الشياطين، دليل على أن ملكوت الله قد حل بين ظهرانيهم: ﴿إن كنت بروح الله أخرج الشياطين، فهذا دليل على أن ملكوت الله قد حلّ في ما بينكم (متى ١٢: ٢٨). والتنكر لذلك من قبل الجاحدين هو تجديف على روح الله (١٢: ٣١ ـ ٣٣).

تحداهم بشخصه، فقال: ﴿ههنا أعظم من يونان ومن الأنبياء! ﴿ههنا أعظم من سليمان ومن الملوك! فتحدوه بمعجزة من السماء. فأعطاهم معجزة في نبوءة: إن آية المسيح الكبرى تشبه مصير يونان النبي: ﴿فكما ان يونان أقام في بطن الحوت ثلاثة أشهر وثلاث ليالٍ، كذلك ابن البشر يقيم في بطن الأرض ثلاثة أشهر وثلاث ليال ثم يُبعث حياً (متى ١٢: ٣٨ ـ ٤٢).

٣ ـ ودخل معهم في جدال على سُنّة موسى، فاستنكر السُنّة التي تنسخ الكتاب. وكان ذلك بمثابة كفر عندهم (متى ١٥: ١ ـ ٢٠). فأيّد سلطانه وتعليمه في تعديل السنة والشريعة، بالمعجزات يجريها بالجملة: ﴿فأقبل عليه جموع غفيرة معهم عرج وشُلٌّ وعُمْي وخرْس، وآخرون كثيرون. وألقوا بهم عند قدميه. فشفاهم (١٥: ٢٩).

٤ ـ واعتزل يسوع بصحابته الى أرض المشركين، في بانياس، عند سفح جبل الشيخ. وهناك كاشفهم على انفراد بسر شخصيته. واستخلص الشهادة له، من زعيمهم بطرس، ترجمان الجميع: ﴿انت المسيح، ابن الله (متى ١٦: ١٦) ـ و﴿ابن الله ليس على طريقة بشرية مخلوقة؛ انما على طريقة التفاعل الإلهي في الذات الصمدانية، بصفة كونه ﴿كلمة الله وروح الله، أي ﴿نطْق الله في ذات الله، وقد تدرّع بجسد.

ثم أخذ الثلاثة المقربين وصعد بهم الى جبل الشيخ للصلاة ومناجاة الحق. وقصده أن يكشف لهم سرّه من خلال بشريته، هناك ﴿تجلّى أمامهم. فأضاء وجهه كالشمس! وصارت ثيابه كالنور! واذا موسى وايليا قد ظهرا لهم يخاطبانه. واذا غمامة نيّرة تظلّلهم واذا صوت من الغمامة يقول: هذا هو ابني الحبيب، موضوع رضاي، له فاسمعوا (متى ١٧: ١ ـ ١٠). لتأييد الإعلان الضخم على لسان الله تعالى ذاته، تجمعت الشهادات الكبرى كلها. الغمامة النيّرة رمز حضور الله في لغة الكتاب: فهذه شهادة الله نفسه بحضوره وصوته. ونور الله ينبعث من خلال بشرية المسيح النيّرة. وشهادة موسى سيد الشريعة، وايليا سيد النبوّة، يحفان بالمسيح في مجده. أخيراً حديث يسوع مع موسى وايليا في استشهاده المقبل في اورشليم، وانبعاثه حياً ورفعه الى السماء. إنها قمة المكاشفة.

٥ ـ وجاء يسوع وصحابته الى كفرناحوم. وجاء وقت التصاريح الكبرى عن سر شخصيته، وتأييدها بالتحدّي بالمعجزات العظام. كثّر خمسة أرغفة وأشبع منها خمسة آلاف، سوى النساء والصبيان. ودخل جامع كفرناحوم، وأعلن مراراً متتاليات: ﴿أنا خبز الحياة النازل من السماء (يوحنا ٦: ٥ ـ ١٦). وصعد الى اورشليم. هنـاك في عيد الخيام أعلن ﴿أنا نور العالم (يوحنا ٨: ١٢). وبرهن على ذلك بإبراء الأكمه، أي الأعمى منذ مولده (يوحنا ف ٩ كله). وعرّج على بيت عنيا، وكان لعازر قد توفي منذ أربعة أيام وقد أخذ يبلى في قبره. فأعلن أمام الجمهور: ﴿أنا القيامة والحياة. وأحيى بكلمة منه لعازر برهانا منه على صحة قوله (يوحنا ف ١١ كله).

٦ ـ أعطى يسوع آخرته لليهود كآيته الكبرى (متى ١٢: ٣٩ ـ ٤٠). وهذه الآخره كانت بالاستشهاد صلباً، والاستشهاد في سبيل الدعوة سُنّة الأنبياء. فاختار المسيح الاستشهاد صلباً ليكون أعظم استشهاد في سبيل الحق عرفه تاريخ النبوّة والبشرية. وبما أن الصليب كان في نظر اليهود وسيظل في نظر الناس رمز العار الذي لا يليق بمسيح الله، فقد قضى يسوع سنته الأخيرة يهيئ صحابته لتلك الآخرة، ويريهم خاتمتها المجيدة بقيامته وارتفاعه حياً الى السماء، فتتم فيه معجزة المعجزات.

قبل سنة من استشهاده، وبعد تجليه على جبل الشيخ، الفاصل بين سوريا وفلسطين، حيث كشف لهم بلسان الحال عن سر شخصيته، ﴿منذئذ شرع يسوع يبين لتلاميده أنه ينبغي له أن يمضي الى أورشليم ويتعذّب كثيراً من قبل الأحبار والزعماء والعلماء، وأن يُقتل وأن يقوم في اليوم الثالث (متى ١٦: ٢١). فنفروا من الرؤيا كسائر اليهود.

وبعد مدة، ﴿فيما كانوا يطوفون في الجليل قال لهم يسوع: ان ابن البشر سيُسلم الى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم (متى ١٧: ٢٢ ـ ٢٣).

لكن في كلا النبوءتين لا ذكر للصلب بعد، لئلا يزيدهم نفوراً.

أخيراً ودّع الجليل وتوجه الى اليهودية الى بيت المقدس؛ ﴿وفيما كان يسوع صاعداً الى أورشليم أخذ الاثني عشر (الحواريين) على انفراد، وقال لهم في الطريق: ها نحن صاعدون الى أورشليم، وابن البشر سيسلم الى الأحبار والفقهاء، فيحكمون عليه بالموت. ثم يدفعونه الى الأميّين فيسخرون به ويجلدونه ويصلبونه، وفي اليوم الثالث يقوم (متى ٢٠: ١٧ ـ ١٩). إنّها نبوءة تصويرية للواقع المنتظر. هذه المرة، وقد تم لهم الاعداد النفسي، يصرّح بالصلب.

ثم كشف لهم عن معنى استشهاده، في تعليمهم التواضع بحضرة الله؛ ﴿على مثال ابن البشر (لقب يسوع): فإنه لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم، ويبذل نفسه فدية عن الجميع (متى ٢٠: ٢٨). إن النبوءة والرسالة خدمة في سبيل الله، وتضحية في سبيل البشرية.

وبلغوا إلى بيت عنيا، في ضاحية أورشليم الى الشرق. وجلس الى العشاء في بيت سمعان الأبرص الذي أبرأه. وكان معه لعازر الذي أقامه من الموت والقبر. فاستفزت المعجزة الكبرى في نفس مريم أخت لعازر فأخذت رطل طيب من خالص الناردين كثير الثمن، وسكبته على رجلي يسوع. فاستنكر بعض المنافقين من اصحابه ذلك، فقال لهم: ﴿دعوها، إنها قد حفظت هذا الطيب ليوم دفني (يوحنا ١٢: ١ ـ ١١).

وفي الغد أتى الى اورشليم ودخلها دخول الفاتحين، في أحد ﴿الشعانين، وفي زحمة العيد والنصر، وهداية بعض الأميّين المتقين عند سماعه ومشاهدته، اعتراه شعور نبوي بدنو الساعة، وهو في زحمة الجماهير؛ فصاح: ﴿لقد حانت الساعة التي يمجّد فيها ابن البشر (فهو يرى مجده في استشهاده). إن حبة الحنطة، إن ماتت أتت بثمر كثير (فهو يرى في استشهاده شهادة مثمرة للشهادة والفداء)... الآن نفسي قد اضطربت، ماذا أقول؟ يا أبتاه أدركني في هذه الساعة... ولكن، اني لأجل هذه الساعة قد أتيت... أيها الآب مجّد اسمك! فجاء صوت من السماء: قد مجّدته، وسأمجده أيضاً. وسمع الجمهور الواقف هناك (يوحنا ١٢: ٢٠ ـ ٣٠).

وقبل الاستشهاد بيومين جرى ليسوع مع السلطات اليهودية والأحزاب الدينية الجدال الأكبر في سلطانه ورسالته. فأوجز لهم تاريخ النبوّة في إسرائيل ومكانته منه، بمثل الكرامين القتله (متى ٢١: ٢٣ ـ ٤٦). وصف الأنبياء انهم عبيد الله في كرمه. ووصف نفسه أنه الابن الوحيد لرب الكرم، والوارث الوحيد له الذي سيقتله ﴿الكرامون في إسرائيل ليستولوا على الميراث، ملكوت الله. وختم بهذا التهديد: ﴿من أجل هذا، أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُسلّم الى أمة أخرى تؤدي لله ثماره.

وختم جداله مع اليهود بهذا الهتاف الذي يصور مصيره ومصيرهم: ﴿يا أورشليم! يا أورشليم! يا قاتلة النبيّين، وراجمة المرسلين!... هوذا بيتكم يترك لكم خراباً! فإني أقول لكم: انكم لن تروني وتدركوني، من الآن حتى تشهدوا قائلين: مبارك الذي أتى باسم الرب (متى ٢٣: ٣٧ ـ ٣٩).

وفي خلوة ساهرة على جبل الزيتون تنبّأ لهم بخراب الأمة والدولة والمدينة والهيكل، الذي تتم فيه أيضاً نبوءة دانيال بقيام ﴿رجاسة الخراب في المقام المقدس أي راية الوثنية في الهيكل (متى ٢٤: ١٥) وختم بتحديد زمان تتميم النبوّة: ﴿الحق الحق أقول لكم: إن هذا الجيل لا يزول حتى يكون هذا كله قد تم! السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلن يزول البتّة (٢٤: ٣٤ ـ ٣٥). هذا كلام وسلطان يفوق سلطان المخلوق. وقد تمت النبوءة الكبرى سنة سبعين ميلادية على يد الرومان أي في جيل من الناس كما قال.

وفي ختام رسالته ودعوته يصرح لتلاميذه: ﴿ان الفصح، على ما تعلمون، بعد يومين، وابن البشر يُسلم للصلب (متى ٢٦: ١ ـ ٢). أخيراً يوجز لهـم استشهـاده بكلمة واحـدة: ﴿الصلب وهو أفظع طريقة عرفتها البشرية.

وليلة الاستشهاد اختلى بصحابته في عشاء الوداع. وكان يهوذا تلميذه الخائن قد اشترك مع اليهـود في المؤامرة على المعـلم (متى ٢٦: ١٤ ـ ١٦). ففضحه يسوع على العشـاء: ﴿وفيما هم يأكلون قال: الحق الحق أقول لكم: إن واحداً منكم سيسلمني!... ان الذي غمس يده معي في الصحفة هو الذي يسلمني... قال يهوذا نفسه: يا معلم، ألعلّي أنا هو؟ قال له: لقد قلت (متى ٢٦: ٢٠ ـ ٢٥). ثم قال له يسوع: ﴿ما أنت فاعله، افعله عاجلاً! (يوحنا ١٣: ٢٧). ولما خرج الخائن قال يسوع لتلاميذه: ﴿الآن تمجّد ابن البشر! وتمجد الله فيه! (يوحنا ١٣: ٣١).

فيسوع المسيح يرى في استشهاده مجده ومجد الله. لأن شهادة الدم في سبيل الله أعظم الشهادات. فاستشهد السيد المسيح صلباً، كما تنبأ.

٧ ـ وأيد الله شهادة الدم بقيامة المسيح من الموت والقبر حيّاً في مجد سماوي. وظهر لرسله وأتباعه ﴿مدة أربعين يوماً. أخيراً ارتفع حيّاً الى السماء، على مشهد منهم. فتمت، في بعثه ورفعه حيّاً، معجزة المعجزات.

لقد دخل المسيح العالم بمعجزة لا مثيل لها في العالمين، وخرج منه بمعجزة لا مثيل لها في الأنبياء والمرسلين. فأنشد القرآن بحق: ﴿والسلام عليَّ يوم ولدت! ويوم أموت! ويوم أُبعث حيّاً (مريم ٣٣).

هذا هو المسيح: إِعجاز في الشخصية! وإِعجاز في السيرة! وإِعجاز في الرسالة!

وهذا هو الإنجيل: إِعجاز في لسان الحال، وإِعجاز في الحكمة، وإِعجاز في المعجزة.

بحث ثان

المسيح في القرآن

ذلك الإِعجازالمطلق، الشامل الكامل، للمسيح في الإنجيل، نراه أيضاً في القرآن. إنه أيضاً إِعجاز في الشخصية، وإِعجاز في السيرة، وإِعجاز في الرسالة.

أوّلاً ـ إِعجاز المسيح في الشخصية، بحسب القرآن

في عرْف القرآن، إن المسيح وحده بين الرسل، معجزة في ذاته: ﴿ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمَراً مقضيّاً (مريم ٢١). وزيادة في الإِعجاز قد أشرك الله مريم العذراء في معجزة ابنها: ﴿وجعلناها وابنها آية للعالمين (الأنبياء ٩١ كذلك المؤمنون ٥٠).

١ ـ والمسيح معجزة في شخصيته، لأنه وحده، من دون العالمين والمرسلين أجمعين: مسيح الله، وكلمة الله، وروح الله، كما في هذا التعريف القرآني الجامع المانع:

﴿انما المسيح عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه (النساء ١٧٠).

لا يقول القرآن ذلك في حق أحد من المخلوقين. واللقبان فيه، ﴿كلمته وروح منه يفسّر بعضهما بعضاً. إنه ﴿كلمة الله أي نطقه الذاتي في ذاته ـ لا كلام الله الصادر منه، مجرّد أمر خلاّق، كما فسره بعضهم بمقارنته بخلق آدم: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم: خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون (آل عمران ٥٩)؛ فهذه المطابقة تنطبق على المسيح من حيث هو ﴿عيسى ابن مريم، لا من حيث هو ﴿كلمته وروح منه. لا حظ الترادف المقصود: المسيح هو كلمة الله من حيث هو ﴿روح منه تعالى، و﴿روح منه تعالى لا يكون مجرد أمر خلاّق. لاحظ أيضاً الفرق في التعبير: ﴿روح منه أي صادر منه (البيضاوي)، بخلاف قوله في أرواح الملائكة: ﴿فأرسلنا اليها روحنا، فتمثل لها بشراً سوياً (مريم ١٧)، هنا إضافة إليه تعالى، كما في قوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا (الشورى ٥٢)، فإضافة الروح الى الله تشريف يبقيه في عالم الأمر. وشتان ما بين النسبة المصدرية في ﴿روح منه والنسبة الاضافية في ﴿روحنا، روح من أمرنا. و﴿كلمته القاها الى مريم كونه ﴿روحا منه تعالى، ليست أيضاً مثل كلماته تعالى في الخلق أو في الوحي والتنزيل، لأن ﴿كلمته هو أيضاً ﴿روح منه. ﴿كلمته وروح منه شخص قائم بذاته هو مسيح الله، وليس كلمة خلق أو وحي.

٢ ـ هذان اللقبان المترادفان يجعلان المسيح، قبل القائه الى مريم وبعد تكوينه فيها كعيسى ابن مريم، في صلة شخصية ذاتية مع الله لا ينسبها القرآن الى أحد المخلوقين. أجل ان ﴿عيسى، ابن مريم بشر؛ لكن المسيح في ﴿عيسى ابن مريم هو أيضاً ﴿كلمته وروح منه تعالى فهو فوق البشر ومن غير البشر. فسر شخصية المسيح يرشح من هذا التعريف القرآني. فالمسيح شخصية ثنائية، بنص القرآن القاطع: ﴿إنما المسيح ١) عيسى ابن مريم رسول الله ٢) وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه. فهو كائن، قائم في الله قبل إلقائه الى مريم ﴿والقاؤه إلى مريم أكسبه بشريتها، لكنه لم يغيّر من شخصيته السامية. وبإلقاء ﴿كلمته وروح منه في عيسى ابن مريم، صار مسيح الله ورسول الله الأعظم، في شخصيته الثنائية التي لا مثيل لها في العالمين ولا في المخلوقين. هذا هو نص القرآن القاطع.

والقرآن على حق عظيم عندما يؤكد بشرية ﴿عيسى ابن مريم ومقارنته بآدم الذي خلقه من تراب ثم قال له: ﴿كن فيكون. ولكنه على حق عظيم أيضاً عندما يصف شخصية عيسى ابن مريم بأنه أيضاً ﴿كلمته ألقاها الى مريم وروح منه، فالمسيح قبل إلقائه الى مريم كان شخصاً قائماً، هو ﴿كلمته وروح منه تعالى.

وهذا الاسم الكريم ليس تعبيراً عابراً في القرآن، انما هو محور تعليمه في سر شخصية السيد المسيح. فإن يحيى لم يوجد إلاّ ليصدق كلمة الله: ﴿فنادته (أي زكريا) الملائكة، وهو قائم يصلي في المحراب: ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله (آل عمران ٣٩). ان رسالة يحيى هي الشهادة لشخص آتٍ اسمه ﴿كلمة الله، فهو شخص لا لفظ في ألفاظ الخلق أو الوحي. والملائكة أيضاً تبشر مريم، ﴿إذ قالت الملائكة: يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم ـ وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين ـ ويكلّم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين (آل عمران: ٤٥ ـ ٤٦). ان ﴿كلمة الله اسم علم به تعلم شخصيته: فالمسيح، عيسى، ابن مريم هو أيضاً ﴿كلمة من الله ـ لاحظ تواتر ﴿مِن المصدرية. والمسيح بصفته ﴿عيسى ابن مريم فهو ﴿من الصالحين؛ لكن كونه ﴿كلمة من الله فهو ﴿من المقربين، وهو اصطلاح قرآني متواتر في الملائكة المقربين منه تعالى. رسالته معجزة: ﴿يكلم الناس في المهد وكهلاً. وشخصيته معجزة: فهو وجه الدنيا ووجه الآخرة.

٣ ـ والدعوة القرآنية هي الشهادة للتوحيد أي الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لكنها أيضاً الشهادة لعيسى ابن مريم أنه المسيح كلمة الله: ﴿قلْ: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلاّ هو، يحيي ويميت؛ فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلمته (الأعراف ١٥٧). هناك قراءَة اخرى: ﴿وكلماته لكن قراءَة ﴿كلمته أصح لان إيمان النبي ﴿بكلمات الله من نافله القول، ولا تميّز رسالته عن غيرها؛ وهنا يدعو الى الإيمان به لأن رسالته شهادة ﴿لله وكلمته، وهذه هي ميزتها على غيرها.

فالقرآن تصديق الإنجيل في شخصية السيد المسيح المعجزة في ذاتها.

ثانياً: إِعجاز المسيح في سيرته، بحسب القرآن

في عرْف القرآن، لا يوجد مخلوق، ولا رسول، ولا ﴿خاتم النبيّين جمع الله في سيرته من المعجزات، كما جمعها في سيرة المسيح، الخارجة في وجودها كله على سنن الكون كله. يفصّل القرآن قصص المسيح في (مريم ١٥ ـ ٣٤) وفي (آل عمران ٣٣ ـ ٦٤). والقرآن يستجمع في سيرة المسيح من الآيات الخارقة ما لا يحلم به نبي ولا رسول ١٠ .

الآية الأولى: المسيح وأمه خاتمة الذرية المصطفاة على العالم

يبدأ القرآن قصص المسيح بقوله: ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم، وآل عمران على العالمين، ذريةً بعضها من بعض، والله سميع عليم (آل عمران ٣٣ ـ ٣٤). فآل عمران هم ختام الذرية المصطفاة على العالمين، والمسيح وأمه قمة هذه الذرية المصطفاة على العالمين. فلا نسب ولا حسب عند الله أفضل من نسب وحسب المسيح وأمه، وذلك بنص القرآن القاطع. فالمسيح هو ﴿المصطفى الأعظم على العالمين.

الآية الثانية: المسيح هو ابن المصطفاة على العالمين

﴿واذ قالت الملائكة: يا مريم ان الله اصطفاك، وطهرك، واصطفاك على نساء العالمين (آل عمران ٤٢)

لهم تفسيرات في تكرار ﴿اصطفاك، أقله التركيز والتأكيد: إن الله اصطفى مريم أم المسيح على العالمين، وليس على عالم زمانها، أو عالم ملتها، بل ﴿على العالمين فالتعبير مطلق يشمل كل زمان ومكان. والمسيح هو ﴿المصطفى، ابن المصطفاة على العالمين.

الآية الثالثة: عصمة المسيح وأمه عند ولادتهما من مسّ الشيطان

﴿واني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (آل عمران ٣٦)؛ ﴿قال: إنما أنا رسول ربك ليهب ١١ لك غلاماً زكياً (مريم ١٩). والحديث يضيف الى العصمة في التكوين العصمة مدى الحياة. نقل الطبري عن كثيرين، وعن قتادة: ﴿كل بني آدم طعن الشيطان في جنبه عند ولادته، إلاّ عيسى ابن مريم وامه، جُعل بينهما وبينه حجاب، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ إليها شيء! وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم. إنها العصمة في التكوّن، والعصمة مدى الحيـاة. فالمسيح هو ﴿الزكي منذ مولده أي ﴿الطاهر من الذنوب، والمعصوم مدى الحياة. وأم المسيح هي الأنثى الوحيدة، في القرآن، التي ذكرها باسمها، والتي كلمها الملائكة واستنبأها الله تعالى.

الآية الرابعة: تكوين عيسى من أمٍّ لم يمسسها بشر

﴿قالت: أنّى يكون لى غلام، ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً؟ قال: (هو) كذلك! قال ربك: هو عليَّ هيّن، ولنجعله آية للناس ورحمة منـا، وكان أمراً مقضيّاً (مريم ٢٩ ـ ٢١). ﴿قالت: ربّ، أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال: (هو) كذلك! الله يخلق ما يشاء، اذا قضى أمراً، فإنما يقول له: كن! فيكون (آل عمران ٤٧).

ولادة المسيح من أمّ بتول، تحبل وتلد وهي بتول، ولم يمسسها بشر، معجزة لا يذكر الكتاب ولا الإنجيل ولا القرآن، لأحد من العالمين مثلها. بها أنفرد المسيح على البشر وعلى المرسلين أجمعين. فهو يدخل العالم بمعجزة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، ولا القداسة، ولا النبوّة. بهذه المعجزة جعله الله ﴿آية للناس في وجوده (مريم ٢١).

الآية الخامسة: الحمل المعجز في مدته

﴿فحملته. فانتبذت به مكاناً قصيّاً. فأجاءَها المخاض الى جذع النخلة (مريم ٢٢ ـ ٢٣) لا تذكر الآية مدة الحمل. وظاهر السياق أنه كان لمدة قصيرة. واختلف الحديث والتفسير في طولها. لكن الاجماع على أنها كانت خارقة للعادة، سالمة عن المعارضة: ﴿والحمل والتصوير والولادة في ساعة (الجلالان).

الآية السادسة: المولد المعجز

﴿فحملته. فأجاءَها المخاض الى جذع النخلة (مريم ٢٣).

المخاض، في أصل اللغة، كما في الصحاح ﴿تحرّك الولد في بطن الحامل. قال البيضاوي: ﴿هو مصدر: مخضت المرأة، اذا تحرك الولد في بطنها للخروج. وليس للمخاض معنى ﴿وجع الولادة كما وهم الجلالان. قال الزمخشري: ﴿كما حملته نبذته أي كما حملته بمعجزة، ولدته بمعجزة. أي ولدته وهي بتول، بدون وجع الولادة. إنها تتوارى تحت النخلة للولادة، ولا تستند الى جذع النخلة من ألم المخاض. يؤيد ذلك قول الحديث ان عيسى وُلد ﴿ولم يستهل أي لم يبكِ في ولادته: ﴿وما من مولود إلاّ يستهلّ، غيره.

الآية السابعة: نطق المسيح منذ مولده

﴿فناداها من تحتها: ألاّ تحزني... فأشارت إليه. قالوا: كيف نكلّم مَن كان في المهد صبيّاً؟ قال: إني عبد الله (مريم ٢٤ و٢٩ ـ ٣٠).

قال الزمخشري والبيضاوي: ﴿فناداها أي عيسى ـ وقيل جبريل كان يقبل الولد. فالمسيح يتكلّم ساعة مولده. يؤيد ذلك نطقه لبني قومها: ﴿قال: إني عبد الله....

والتأكيد الجازم: ﴿يكلّم الناس في المهد وكهلاً (آل عمران ٤٦؛ المائدة ١١٠). والذين يرون في ﴿ناداها من تحتها: ﴿جبريل كان يقبل الولد يجعلون للمسيح وأمه كرامة لم ينلهما سواهما في العالمين؛ ان جبريل نفسه يقوم مقام القابلة.

الآية الثامنة: الطعام المعجز عند ولادة المسيح

﴿فناداها من تحتها: ألاّ تحزني، قد جعل ربك تحتك سرياً (٢٤)

﴿وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنيّا (٢٥)

قال الجلالان: ﴿قد جعل ربك تحتك سريّاً أي نهر ماء كان قد انقطع. كذلك كانت النخلة يابسة فأثمرت للحال وأينعت جنى رطبا (البيضاوي). قال الزمخشري: ﴿لم تكن التسلية لهما من حيث انهما طعام وشراب، ولكن من حيث انهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة، والبعد عن الريبة.

الآية التاسعة: النبوّة المعجزة منذ مولده

﴿قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً (مريم ٣٠)؛ ﴿ويكلم الناس في المهد وكهلاً (آل عمران ٤٦)؛ ﴿اذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً (المائدة ١١٠).

صفة المسيح منذ مولده ينطق بها في مهده: ﴿إني عبد الله. في لغة الكتاب كله، كلمة ﴿عبد الله كناية عن النبوّة، كما يظهر من الآية نفسها: قال: ﴿إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبيّاً، فقد وُلد المسيح، ولم يصر نبياً في كهولته كسائر الأنبياء. وقد وُلد على الهدى، ولم يهتدِ بالدعوة للنبوّة.

قال الزمخشري والبيضاوي: ﴿أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً. فالمعجزة مزدوجة: اكمال العقل، وهو طفل، والاستنباء وهو طفل. وقوله: ﴿تكلم الناس في المهد وكهلاً يدل على أن نبوته لا تفاوت فيها بين الحداثة والكهولة. والمعجزة الخارقة بين الرسل أجمعين. ان المسيح وحده ولد نبيّاً، بينما يحيى ﴿آتاه الحكم (الحكمة) صبياً، وموسى في سن الشيخوخة، ومحمد في سن الأربعين، وقد قضى من قبل عمره في ضلال: ﴿ووجدك ضالاً فهدى (الضحى ٧).

الآية العاشرة: النبوّة والمعجزة في شمولها وكمالها، وفي طريقة تلقّيها وتبليغها

﴿ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل (آل عمران ٤٨)؛ ﴿اذ ايدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً؛ واذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل (المائدة ١١٠).

إن ﴿الحكمة هنا اصطلاح قرآني كناية عن الإنجيل، كما يظهر من عطف البيان بين الكتاب والحكمة، ثم التوراة والإنجيل، وكما يدل عليه قوله: ﴿ولما جاءَ عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة أي بالإنجيل (الزخرف ٦٣).

فالسيد المسيح قد أوتي الوحي والتنزيل كله: ﴿الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل. وهذا الشمول في النبوّة لم ينله أحد من الرسل أجمعين. وتلقى المسيح الوحي كله من الله مباشرة، بلا وسيط ولا وسط: ﴿يعلمه ﴿علمتُك. فلا هو ﴿تكليم من وراء حجاب مثل موسى الكليم؛ ولا هو وحي بواسطة جبريل مثل محمد.

وامتاز أيضاً على جميع الأنبياء والمرسلين بتأييد روح القدس له: ﴿واذ ايدتك بروح القدس، تكلّم الناس في المهد وكهلاً. كان تأييد روح القدس للأنبياء في ساعة التبليغ عن ربهم لا غير. فهم خارج حالة الوحي غير معصومين. أما السيد المسيح فكانت العصمة ميزته طول حياته، ﴿في المهد وكهلاً. قال الرازي: ﴿وذلك من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء، قبله ولا بعده.

وامتاز أيضاً بالعصمة قولاً وعملاً. كان روح القدس ﴿لا يفارقه ساعة ١٢ : ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و٢٥٣)، ﴿يسير معه حيث سار (الجلالان) ـ إِعجاز في الأقوال وإِعجاز في الاعمال، إِعجاز في السيرة وإِعجاز في الدعوة. بهذا انفرد المسيح على العالمين وعلى المرسلين أجمعين.

فنبوءة المسيح معجزة كيفما واجهتها: معجزة في كيفية تلقيها مباشرة من الله؛ معجزة في كيفية ممارستها، بتأييد الروح القدس، ﴿لا يفارقه ساعة، ﴿يسير معه حيث سار؛ معجزة في شمولها على الوحي كله؛ معجزة في كمالها بالدعوة والسيرة معاً؛ معجزة بالأقوال والاعمال. هذا هو الإِعجاز المطلق في النبوّة، الذي لا يذكر القرآن له مثيلاً عند إبراهيم وموسى ومحمد.

الآية الحادية عشرة: التكليف طفلاً

﴿وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً (مريم ٣١) يعلن المسيح ذلك منذ مولده. قال الزمخشري: ﴿أوصاني بالصلاة وكلّفنيها واحد. فالله قد استنبأ المسيح طفلاً، وكلّفه طفلاً. وهذا لم ينله أحد من العالمين والمرسلين.

الآية الثانية عشرة: العصمة في السيرة مدى الحياة

﴿وجعلني مباركاً أينما كنت (مريم ٣١)، ﴿ومن الصالحين (آل عمران ٤٦).

إنَّ البركة في لغة الكتاب والقرآن تعني تخصيص الله للمبارك بالعناية والتقديس والتفضيل. فالمسيح هو ﴿المبارك في كل الأحوال، ومدى الحياة. وهذه البركة التي اختصه الله بها من دون العالمين والمرسلين جعلته، في حياته، ﴿من الصالحين. بالمعنى اللغوي، المسيح هو رجل الصلاح أينما كان: فلا عتاب له على عمل، ولا تحذير له من موقف يقفه، ولا دعوة للاستغفار من ذنب، مثل غيره. وبالمعنى الاصطلاحي الذي يتضح من الآية ﴿ويكلم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين (آل عمران ٤٦)، فالمسيح قدوة في النبوّة، لا شائبة على نبوته ورسالته، فليس بحاجة الى الاستغفار من فرطاته فيها ﴿اذا جاء نصر الله والفتح. إنها العصمة في السيرة مدى الحياة، دليلاً على صحة الرسالة والعصمة فيها.

الآية الثالثة عشرة: العصمة في الرسالة بتأييد روح القدس له

﴿وأيدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و ٢٥٣)، ﴿اذ ايدتك بروح القدس (المائدة ١١٠). وهذا التأييد لا يقتصر على حال الوحي والتنزيل، بل يشمل السيرة والرسالة جميعـاً، ﴿يسير معه حيث سار، ﴿لا يفارقه ساعة.

الآية الرابعة عشرة: الوجاهة في الدنيا والآخرة

﴿وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين (آل عمران ٤٥)

قال الطبري: ﴿وجيهاً: ذو وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة. أجمع المفسرون على ان الوجاهة في الدنيا هي النبوّة، وفي الآخرة الشفاعة في يوم الدين. والتعبير أشمل: انه وجه الدنيا، عند الله، ووجه الآخرة؛ انه وجه النبوّة في الدنيا، ووجه الشفاعة في يوم الـدين. إنه وجه الخلق والكون في القربى من الله في الجنة والخلود، قال أيضاً الطبري: ﴿وجيهاً يعني انه ممن يقرّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جوراه ويدنيه منه. إنه ﴿من المقربين في الجنه لكنه وجيه المقربين ووجههم عند الله. هذا بحسب التعبير اللغوي. لكن كلمة ﴿المقربين اصطلاح قرآني يعني المقربين من الملائكة: ﴿لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون (النساء ١٧٢). فقول القرآن في شأن المسيح أنه ﴿من المقربين يعني انه من ﴿الملائكة المقربين والوجيه فيهم. وهذا يرفع المسيح من صف البشر الى صف الملائكة المقربين. يقول بحق محمد: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً (الإسراء ٧٩). أما المسيح فهو وجه البشر، ووجه الرسل، ووجه الملائكة، عند الله في الدنيا والآخرة، إنه سيد الخلق والكون. هذا هو الإِعجاز الشخصي الذي لا يرقى اليه مخلوق. وذلك بنص القرآن القاطع ومعناه الساطع.

الآية الخامسة عشرة: الرسالة المعجزة

﴿ورسولاً الى بني إسرائيل: أني قد جئتكم بآية من ربكم... (آل عمران ٤٩). قال الطبري: ﴿آية: التنوين للتفخيم، والتنكير دليل العدد، فالمراد ﴿بآية الجنس، لا الفردية. والمسيح يستهل دعوته بالمعجزة. والآية تفصّل منها أربعة انواع، كما سنرى. فالقرآن يجعل المعجزة برهان النبوّة والرسالة في دعوة المسيح. وقد استجمع القرآن للمسيح ما لم يستجمعه أحدٌ من المرسلين. فهو ليس كمحمد قد منعت عنه المعجزات مبدئياً (الإسراء ٥٩) وفعلاً (الأنعام ٣٧). فالمسيح سيد الرسل في رسالته المعجزة.

الآية السادسة عشرة: الآخرة المعجزة

﴿اذ قال الله: يا عيسى اني متوفيك ورافعك اليَّ (آل عمران ٥٥) ﴿والسلام عليّ يوم ولدت! ويوم أموت! ويوم أُبعث حياً (مريم ٣٣).

فالمسيح منذ ولادته يتنبأ عن آخرته: وهذه النبوءة في المهد معجزة، وهي دليل صحة النبوءة عن آخرته: إنه سيموت وسيبعث حيّاً. وهذان الموت والبعث سيقعان في آخرة المسيح على الأرض، وقد وقعا حين مؤامرة اليهود: ﴿ومكروا ومكر الله بهم والله خير الماكرين، إذ قال الله، يا عيسى إني متوفيك ورافعك اليّ (آل عمران ٥٤ ـ ٥٥). فالنص مترابط محكم، يجزم بأنّ الموت والبعث والرفع وقعت للمسيح رداً على مؤامرة اليهود لقتله. وعن ابن عباس ﴿متوفيك ﴿مميتك. فالمسيح في آخرته على الأرض مات ثم انبعث حياً وارتفع الى السماء. وهذه الصراحة في (مريم ٣٣) وفي (آل عمران ٥٥) ترفع ما تشابه في آية النساء: ﴿وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبّه لهم (١٥٧) والبعث حيّاً لا يقوم إلاّ بعد موت، بقتل أو سواه. وهذه هي الآخرة المعجزة التي انفرد بها المسيح على العالمين والمرسلين: كلهم ينتظرون يوم يبعثون؛ والمسيح وحده بُعث حيّاً ورفع حيّاً إلى السماء، بعد موته. وهذه معجزة المعجزات في كل السير والرسالات.

الآية السابعة عشرة: رفع المسيح حيّاً إلى السماء

﴿وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله اليه (النساء ١٥٧ ـ ١٥٨). ﴿اذ قال الله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ (آل عمران ٥٥).

قضية رفع المسيح حيّاً الى السماء، الى عند الله، حقيقة قرآنية صريحة قائمة لا ريب فيها. قال الرازي: ﴿ورفع عيسى عليه السلام الى السماء ثابت بهذه الآية (النساء ١٥٨). ونظير هذه الآية قوله في (آل عمران ٥٥): إني متوفيك ورافعك اليّ. وهذا التفسير المتواتر عند الأقدمين ينقض تفسير بعض المعاصرين بأنه رفع معنوي، قد يكون بالروح أو بالمعنى. ورفع المسيح حيّاً الى السماء، أمات وبُعث ورفع كما في (سور مريم ٣٣؛ آل عمران ٥٥؛ المائدة ١١٧)، أم رفع حيّاً بدون قتل ولا موت، كما في ظاهر آية النساء: ﴿وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم (١٥٧) ثابت قائم بنصوص القرآن الصريحة القاطعة.

والمشكل هو كيفية الرفع الذي تخلقه آية النساء (١٥٧)، مع تعارضها لما سبقها (مريم ٣٣ آل عمران ٥٥)، ولما لحقها: ﴿فلمّا توفيتني كنت انت الرقيب عليهم (المائدة ١١٧). آية متشابهة (النساء ١٥٧) لا تنقض ثلاث سور في آيات محكمات. والسبيل الوحيد لرفع التعارض هو في فهم آية النساء (١٥٧) على ضوء آية النساء (١٥٨): ﴿وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله اليه. فالبعث والرفع حيّاً انتصار على مكر اليهود بقتله، فكأنهم بهذه الطريقة الإلهية ﴿ما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم أي ظنوا ذلك، وخُيّل اليهم. وأسلوب القرآن في آيتي النساء هو الإثبات في معرض النفي، وهو أبلغ. يرد على ﴿قولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، لا ينفي الحقيقة التاريخيّة المتواترة التي تؤكدها اليهودية والمسيحية والآيات القرآنية كلها، بل بتوكيد وجوده حيا في السماء، فكأنهم ﴿ما قتلوه وما صلبوه. إنه الأسلوب البياني للإثبات في معرض النفي. وهذا الأسلوب القرآني البياني هو ما فات جميع الذين ينقضون قتل المسيح وصلبه، ويخلقون تناقضاً في القرآن نفسه، وتناقضاً ما بين الإنجيل والقرآن لا وجود له.

ورفع المسيح حيّاً الى السماء، بدون موت، هو أبلغ في الإِعجاز والمعجزة من رفعه بعد موت وبعث: لأن رفعه حيا بدون موت هو رفع المسيح فوق طبيعة المخلوقين ومصير البشر المحتوم؛ فيجعلون المسيح، من حيث لا يدرون، فوق جنس البشر.

لكن آخر آية نزلت في آخرة المسيح تقضي على كل جدل ومراء: ﴿وكنت عليهم رقيباً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم (المائدة ١١٧). فهي تعلن موت المسيح في آخر حياته على الأرض، كما اعلنتها أول آية نزلت فيها: ﴿والسلام عليّ يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أُبعث حياً (مريم ٣٣). ان القرآن صريح بأن المسيح مات وبعث حيّاً ورُفع حيّاً الى السماء. لكن هل مات بقتل وصلب؟ ظاهر آية النساء ينفيه، لكن باطنها وأسلوب التعبير فيها يؤكده.

ورفـْع المسيح حيا الى السماء معجزة انفرد بها المسيح على العالمين وعلى المرسلين أجمعين. لقد امتاز على البشر أجمعين بمعجزة دخوله الحياة الدنيا، وامتاز عليهم بمعجزة خروجه منها: فهو سيد البشر، وسيد الأنبياء والرسل.

الآية الثامنة عشرة: وعد الله بإعلاء المؤمنين بالمسيح على العالمين

﴿وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة (آل عمران ٥٥). قال الطبري: ﴿الذين اتبعوك: من هم؟ عن السدي: هم المؤمنون به. وعن الحسن هم المسلمون. وقيل: بل هم الروم. وقال آخرون: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود الى يوم القيـامة. وقال ابن وهب: ليس بلد فيه من النصارى، إلاّ وهم فـوق يهود، في شرق ولا غرب.

إن قرائن الآية القريبة تجعل رفعة النصارى على اليهود الى الأبد. لكن نص الآية المطلق يعني رفعة المؤمنين بعيسى على الكافرين به شاملاً العالمين. ووعد القرآن المسلمين باستخلافهم في الأرض فقط: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض...؛ وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم (النور ٥٥). أما قوله: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون (الصف ٩، الفتح ٢٨؛ التوبه ٣٣)، فان قرينة ﴿المشركين تدل على ظهور الإسلام على الشرك في جزيرة العرب.

إن الوعد برفعة المؤمنين بالمسيح، والوعيد بذل وعذاب الكافرين به (٥٦) ميزة لم يذكرها القرآن لغيرهم.

الآية التاسعة عشرة: الخلاص أو الهلاك يقومان على الإيمان بالمسيح أو الكفر به

﴿فأما الذين كفروا (بالمسيح) فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة، وما لهم من ناصرين. وأما الذين آمنوا (بالمسيح) وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، والله لا يحب الظالمين (آل عمران ٥٦ ـ ٥٧).

هذا تفصيل الحكم على المؤمنين بالمسيح وعلى الكافرين به، كما يقول الزمخشري والبيضاوي. فإن الخلاص في الدنيا والآخرة يقوم على الإيمان بالمسيح، والهلاك بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة يعود الى الكفر بالمسيح. ولا يقول القرآن ذلك بحق نبي ولا رسول.

الآية العشرون: أوحى الله الى صحابته

﴿واذ أوحيت الى الحواريين: أن آمنوا بي وبرسولي (المائدة ١١١)

لا يذكر القرآن ان الله أوحى لصحابة أحد من الرسل. وقد خص المسيح بهذه الميزة التي انفرد بها على المرسلين، فأوحى الى صحابة المسيح كما أوحى الى الأنبياء، فجعل تلاميذه الحواريين أنبياء له في إيمانهم ودعوتهم.

الآية الحادية والعشرون: المسيح علامة وعلـْم للساعة

﴿وإنه لعلم للساعة (الزخرف ٦١).

فسرة الزمخشري: ﴿وان عيسى عليه السلام (لَعِلـْم للساعة) أي شرط من أشراطها، تُعلم به، فسمّي الشرط علـْماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس (لَعَلَمٌ) وهو العلامة. فرجوع المسيح على الأرض في آخر العالم واضح بهذه الآية، ورجوعه شرط من أشراطها، وعلامة على وقوعها. فهو علامة عليها وعلـْم بها. وهذه ميزة للمسيح انفرد بها على المرسلين أجمعين. جميعهم أدّوا رسالتهم وانقضى أمرهم؛ أما المسيح فدوره فوق الزمان، يدوم الى آخر الزمان. وظهوره لليوم الآخر يجعله خاتمة النبوّة والرسالة.

الآية الثانية والعشرون: المسيح هو الشفيع وحده في يوم الدين

﴿وجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين (آل عمران ٤٥)

لقد أجمع المفسرون ان الوجاهة في الدنيا هي النبوّة، والوجاهة في الآخرة هي الشفاعة. ونرى في سورة المائده (١٠٩) ﴿يوم يجمع الله الرسل للحساب على تبليغ رسالاتهم، صورة من شفاعة المسيح. ولا يذكر القرآن الشفاعة لنبي ولا لرسول ولا لمحمد نفسه. يقول لمحمد: ﴿ومن الليل فتهجّدْ به نافله لك، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً: وقلْ: ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً (الإسراء ٧٩ ـ ٨٠). فالقرائن الواضحة تدل على ان المقام المحمود المأمول هو في مصير محمد على الأرض، بمناسبة الهجرة الى المدينة. وليس من قرينة في النص توحي بالمقام المحمود في الآخرة. وهب انه ﴿المقام المحمود في الآخرة، فهذا المقام لا يعني الشفاعة يوم الدين، حيث ﴿الشفاعة لله جميعاً، إلا للملائكة المقربين والمسيح.

تلك هي آيات سيرة المسيح التي تتخطى، في عرْف القرآن، حدود الزمان والبشرية. وقد ميّز الله المسيح على الرسل بأن جعل سيرته معجزة رسالته، وبرهان شخصيته. وما آتى ذلك أحداً من العالمين والمرسلين. فالمسيح وحده هو في سيرته ﴿آية للناس.

تلك هي آيات إِعجاز المسيح في سيرته.

إن العبقرية والبطولة ليستا إِعجازاً في الشخصية، فليسا هما أمراً خارقاً للعادة في البشرية، سالماً عن المعارضة، مقرونا بالتحدّي، كما جعل القرآن إِعجاز الشخصية في السيد المسيح. فهي خارقة لعادة البشرية، وعادة الأولياء وعادة الأنبياء. وقد اقترنت شخصية المسيح بالتحدّي في أحوالها وأعمالها وأقوالها. وسلمت شخصية المسيح من المعارضة، بينما كل عبقرية، وكل بطولة، وكل نبوّة، لها مثيل في تاريخ البشرية والنبوّة.

أما الإِعجاز المطلق فهو في شخصية السيد المسيح.

ثالثاً: إِعجاز المسيح في رسالته، بحسب القرآن

ان إِعجاز شخصية المسيح، وإِعجاز سيرته، دعامتان لإِعجاز رسالته. والإِعجاز في رسالة المسيح قائم في التنزيل، وفي البلاغ، وفي التبليغ وفي البيان والتبيين؛ فهو إِعجاز في الرسول والرسالة معاً.

١ ـ الإِعجاز في التنزيل بالإنجيل

بحسب نظرية القرآن في التنزيل، طرقُ الوحي ثلاث: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه لله الاّ وحياً، أو من وراء حجاب، أو يُرسل رسولاً فيُوحي بإذنه ما يشاء، انه عليٌ حكيم (الشورى ٥١). فالتنزيل إما وحي مباشر من الله لعبده، وهذه طريقة عيسى؛ وإمّا وحي من وراء حجاب، وهي طريقة موسى بالتكليم (النساء ١٦٤)؛ وإمّا بواسطة ملاك رسول إلى النبي، وهذه أدنى طرق الوحي، وهي طريقة محمد: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا (الشورى ٥٢) أي بواسطة ملاك من عالم الأمر: ﴿قلْ: من كان عدواً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه (البقرة ٩٧).

فالوحي القرآني كان بالواسطة؛ والوحي التوراتي كان بالتكليم؛ والوحي الإنجيلي كان بالحديث المباشر، وذلك بنص القرآن القـاطع: ﴿واذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل (المائدة ١١٠)، ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل (آل عمران ٤٨).

بالوحي والتنزيل أرسل الله الى البشر كلمات: ﴿قلْ: لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنَفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي، وجئنا بمثله مدداً (الكهف ١٠٩). لكنه في المسيح نزلت كلمة الله الذاتية عينها ﴿كلمته ألقاها الى مريم، وروح منه (النساء ١٧١)، أي ﴿كأنه صار عين كلمة الله (الرازي). كان كلام الله مع جميع الأنبياء والمرسلين، وحياً وكتاباً منزلاً؛ فصار كلام الله في المسيح شخصاً منزلاً، هو ﴿كلمته وروح منه. كان الوحي ﴿كلمات لفظية، فصـار بالمسيح ﴿كلمة الله الذاتية. فعيسى ابن مريم يحمل الى النـاس في شخصه ﴿كلمة الله الذاتية عينها. وهذا هو الإِعجاز المطلق في التنزيل.

٢ ـ الإِعجاز في البلاغ

الإنجيل هو ﴿الحكمة المنزلة، و﴿العلم.

المنزل إِعجاز الإنجيل في البلاغ يتضح في وصفه بانه ﴿الحكمة و﴿العلم، بتأييد روح القدس.

في عرْف القرآن، إن الإنجيل هو ﴿الحكمة المنزلة، على الإطلاق.

يأخذ القرآن تعبير الحكمة حيناً بالمعنى اللغوي، وأحياناً بالمعنى الاصطلاحي. يرد المعنى اللغوي في خمس آيات، فهو يقول في داود: ﴿وآتاه الله الملك والحكمة (البقرة ٢٥١)، ﴿وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (ص ٢٠)؛ وفي لقمان: ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة (لقمان ١٢)؛ وفي القصص القرآني: ﴿لقد جاءَهم من الأنباء ما فيه مزدَجَر، حكمة بالغة، فما تُغني النذر (القمر ٤ ـ ٥)؛ وفي كل حكمة يمنّ الله بها على بشر: ﴿يُؤتي الحكمة من يشاء، ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً (البقرة ٢٦٩).

لكن المعنى الاصطلاحي هو الغالب في التعبير؛ وفي عرْف القرآن، إن ﴿الحكمة كناية عن الإنجيل، كما في تصريحه: ﴿ولما جاءَ عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة (الزخرف ٦٣)، وهو مثل قوله: ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور (المائدة ٤٦). يطلق القرآن صفة النور والهدى على التنزيل كله في الكتاب؛ لكنه يختص الإنجيل ﴿بالحكمة. وقد تعلّم المسيح الكتاب والحكمة، أي التوراة والإنجيل، من الله مباشرة، فهو يرادف بينهما بعطف بيان: ﴿واذ علمتك الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (المائدة ١١٠)، ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (آل عمران ٤٨). ففي اصطلاح القرآن، إن الكتاب والحكمة هما كناية عن التوراة والإنجيل. فالإنجيل هو الحكمة المنزلة.

وهذا هو عهد الله مع النبيّين: ﴿واذ أخذ الله ميثاق النبيّين: لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءَكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنُنَّ به ولتنصُرُنّه (آل عمران ٨١). فهو يوجز التنزيل كله الى محمد في الكتاب والحكمة، أي التوراة (ومن عليها من الأنبياء) والإنجيل.

وما رسالة محمد إلاّ ليعلّم العرب الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل: ﴿ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، يعظكم به (البقرة ٢٣١)، ﴿وأنزل عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم (النساء ١١٣). لذلك فالقرآن ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة (البقرة ١٢٩؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢)، ومحمد في القرآن ﴿يعلمكم الكتاب والحكمة (البقرة ١٥١). فالقرآن هو ﴿من آيات الله (الكتاب) والحكمة (الأحزاب ٣٤)، لكنه بنوع خاص من حكم الإنجيل: ﴿أوحى إليك ربك من الحكمة (الإسراء ٣٩). لـذلك كانت طريقة محمـد الأولى، ﴿ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة (النحل ١٢٥).

وهكذا ففي اصطلاح القرآن العام، إن ﴿الحكمة كناية عن الإنجيل. فالإنجيل هو الحكمة الإلهية المنزلة، هذه ميزته على التنزيل كله. لاحظ أيضاً اطلاق التعبير وشموله، فهو يقول دائماً ﴿الحكمة: فالإنجيل هو ﴿الحكمة الإلهية المنزلة على الإطلاق. والإنجيل هو أيضاً في عرف القرآن ﴿العلم الإلهي المنزل على الإطلاق؛ وأهل الإنجيل هم ﴿أولو العلم قائماً بالقسط.

يأتي تعبير ﴿العلم كثيراً بالمعنى اللغوي. لكنه يأتي أحياناً بالمعنى الاصطلاحي. فالقرآن يقسم العرب الى ﴿أولي العلم و﴿الذين لا يعلمون أي إلى أهل الكتاب والمشركين: ﴿قال الذين لا يعلمون (البقرة ١١٣ و١١٨)، ﴿سبيل الذين لا يعلمون (يونس ٨٩)، ﴿على قلوب الذين لا يعلمون (الروم ٥٩)، ﴿أهواء الـذين لا يعلمون (الجاثية ١٨)؛ وأهل الكتـاب هم ﴿الذين أوتوا العلم (١٦: ٢٧؛ ٢٨: ٨٠؛ ٣٠: ٥٦؛ ١٧: ١٠٧؛ ٢٢: ٥٤؛ ٢٩: ٤٩؛ ٣٤: ٦؛ ٤٧: ١٦). ويميّز ويفاضل بين الفريقين بقوله: ﴿هل يستوي الذين يعلمون، والذين لا يعلمون! (الزمر ٩) ـ ومن الجهل حمل هذا التعبير على المعنى اللغوي.

لكن القرآن يميّز بين ﴿أولي العلم المقسطين، المحسنين أي النصارى، وبين ﴿أولي العلم الظالمين أي اليهود: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب، إلاّ بالتي هي أحسن، إلاّ الذين ظلموا منهم (العنكبوت ٤٦). والنصارى، أولو العلم المقسطون هم ﴿الراسخون في العلم الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل المحكم فيه (آل عمران ٧). فهم ﴿أولو العلم قائماً بالقسط الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). لذلك فالقرآن يجعل في منزلة واحدة أهل القرآن وأولي العلم من دون الناس أجمعين: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة ١١).

وما تفرّق اليهود ﴿إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم (آل عمران ١٩؛ الشورى ١٤؛ الجاثية ١٧). فالقرآن يحصر ﴿العلم بالإنجيل. ويجادل المشركين بهدى الكتاب وعلم الإنجيل، في الكتاب المنير كله: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨)؛ ويتحداهم بقوله: ﴿ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين (الأحقاف ٤).

ويستشهد على الدوام ﴿بمن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣) أي النصارى من دون اليهود. فما عليه ان يجاريهم في أهوائهم ﴿بعد الـذي جاءَك من العلم (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١). ففي اصطلاح القرآن المتواتـر، ان ﴿العلم كناية عن الإنجيل؛ و﴿أولو العلم قائماً بالقسط ﴿الراسخون في العلم، ﴿من عنده علم الكتاب هم النصارى. فالإنجيل هو ﴿العلم الإلهي المنزل على الإطلاق. وهذه ميزة ثانية للبلاغ الإنجيلي، في اصطلاح القرآن.

ويمتاز البلاغ الإنجيلي أيضاً عن التنزيل كله أنه ﴿الحكمة، وأنه ﴿العلم على الإطلاق، بسبب امتياز التنزيل الإنجيلي بتأييد روح القدس: ﴿واذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً (المائدة ١١٠). فالإِعجاز الإلهي يرافق البلاغ الإنجيلي منذ المهد الى الكهولة. قال الرازي: ﴿وذلك من غير ان يتفاوت كلامه في هذين الوقتين؛ وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.

هذا هو إِعجاز المسيح المطلق في البلاغ الإنجيلي: إنه ﴿الحكمة الالهية المنزلة على الإطلاق، بنص القرآن القاطع. إنه ﴿العلم الإلهي المنزل على الإطلاق، بنص القرآن القاطع. وهو البلاغ الإلهي الوحيد الذي امتاز بتأييد روح القدس، بنص القرآن القاطع.

والى جانب هذه الميزات الايجابية التي انفرد بها البلاغ الإنجيلي، هناك أيضاً ميزات سالبة مانعة. فلا يذكر القرآن أن في البلاغ الإنجيلي ﴿آيات محكمات وأخر متشابهات (آل عمران ٧) أو تبديل آية مكان آية (النحل ١٠١) أو نسخ حكم بحكم (البقرة ١٠٦) أو ينسخ الله ما يلقي الشيطان في قراءَته (الحج ٥٢) فالبلاغ الإنجيلي كامل لأنه ﴿الحكمة ولأنه ﴿العلم على الإطلاق.

وهذه ﴿الحكمة المعجزة، وهذا ﴿العلم المعجز، في البلاغ، قد اقترنا بالمعجزة المطلقة في التبليغ.

٣ ـ الإِعجاز في التبليغ

لقد أجمع علماء الكلام، من كل ملة، إن المعجزة دليل النبوّة الأوحد. والقرآن يجعل المعجزة ميزة التبليغ الإلهي في الوحي والتنزيل: فهي، كما رأينا، ﴿السلطان المبين الذي به يؤيد الله أنبياءَه في تبليغ رسالات ربهم. لذلك كانت المعجزة، في نظر القرآن، ﴿سنّة الله في أنبيائه. فلا رسالة من الله بدون معجزة تؤيدها.

ويشهد القرآن ان رسالة المسيح قد امتازت على سائر الرسالات بالمعجزات البيّنات، التي لم تبلغ عند أحد من المرسلين ما بلغته عند السيد المسيح في سموّها، وفي تنوّعها، وفي كثرتها. أجل إن ﴿البيّنات سُنّة اللهِ في بعثة رسله: ﴿وجاءَتهم رسلهم بالبيّنات (١٠: ١٣؛ ١٤: ٩؛ ٣٠: ٩؛ ٣٥: ٢٥؛ ٤٠: ٨٣). لكن المعجزات كانت ميزة عيسى الكبرى في رسالته: ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات، وأيدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و ٢٥٣ قابل الزخرف ٦٣). ولقد امتاز السيد المسيح على الرسل أجمعين بالمعجزات العظام، بسبب تأييد روح القدس الدائم له. ولا يذكر القرآن ذلك لنبي ولا رسول.

يقتصر دور الروح القدس عند الرسل على التنزيل وحده؛ وخارج حالة الوحي فهم لا يتمتعون بتأييد روح القدس لهم؛ أما السيد المسيح فهو يتمتع على الدوام في كل الأحوال والأقوال والاعمال بعصمة الروح القدس وتأييده. فقد أجمع المفسرون الطبري والزمخشري والبيضاوي والجلالان على نقل قول ابن عباس: ﴿ان روح القدس هو الاسم الاعظم الذي كان يُحيي به عيسى عليه السلام الموتى؛ ﴿وكان لا يفـارقه ساعة (الرازي على البقرة ٢٥٣)، ﴿يسير معه حيث سار (الجلالان).

ويفصّل القرآن معجزات المسيح البيّنات بقوله: ﴿ورسولاً الى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؛ وأبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم. إن في ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين... وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (آل عمران ٤٩ ـ ٥٠ قابل المائدة ١١٠).

لاحظ عنصر التحدّي في معجزات المسيح: فالقرآن يكرر ثلاث مرات ان معجزاته دلائل نبوته ورسالته ودعوته.

والقرآن يحكي أربعة أنواع من المعجزات للمسيح: نوعان شاركه فيها غيره من الأنبياء، وهما معجزات الابراء، ومعجزات الانباء بالغيب؛ ونوعان انفرد بهما على المرسلين أجمعين، وهما الإحياء والخلق.

النوع الأول من معجزات المسيح: الابراء، كان في السيد المسيح قدرة خارقة على ابراء المرضى، لم تعرف لها البشرية مثيلاً: ﴿روي أنه عليه الصلاة والسلام، ربما اجتمع اليه خمسون ألفاً من المرضى، مَن أطاق منهم أتاه، ومَن لم يطق أتاه عيسى. وما كانت مداواته إلاّ بالدعاء وحده (البيضاوي). والقرآن يخص بالذكر شفاء الأبرص، والأكمه أي الأعمى منذ مولده.

والنوع الثاني هو الانباء بالغيب: ﴿وأنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم. هذا عن غيب المخلوق؛ وأما عن غيب الخالق فهو الكشف عن الله واليوم الآخر. بينما يعلن القرآن عن محمد: ﴿ولا أعلم الغيب (الأنعام ٥٠)، ﴿ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء (الأعراف ١٨٨). فالسيد المسيح كان عنده ﴿علم الغيب من دون العالمين.

والنوع الثالث هو إحياء الموتى (آل عمران ٤٩؛ المائدة ١١٠). والإحياء عمل إلهي مباشر فوق طاقة المخلوق. وقد كانت هذه القدرة الإلهية في السيد المسيح. ولا يُنقص منها فيه تكرار وصفها ﴿بإذن الله (آل عمران ٤٩)، ﴿بإذني (المائدة ١١٠)، لأن العمل المعجز واحد في الله ومسيحه.

والنوع الرابع، وهو الأعظم، القدرة على الخلق: ﴿واذ تخلق من الطين كهيئة الطير، بإذني، فتنفخ فيها فتكون طيراً، بإذني (المائدة ١١٠)، ﴿إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً، بإذن الله (آل عمران ٤٩). إنه يملك قدرة الله على الخلق، وان كان ذلك بإذن الله. فالله يقول ﴿تخلق، والمسيح يقول ﴿أخلق، ولا يستعمل القرآن لفظ الخلق بحق أحد من المخلوقين على الإطلاق، إلاّ بحق المسيح وحده، بعد الخالق سبحانه. بسلطان الخلق يرفع القرآن السيد المسيح من رتبة المخلوق الى رتبة الخالق؛ هذا رباه، بدون شرك ولا كفر.

وهناك نوع خامس، المعجزة من السماء. لقد تحداه الحواريون بتنزيل مائدة من السماء عليهم، ﴿نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم ان قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين: فقبل التحدّي: ﴿قال عيسى، ابن مريم: اللهم ربنا، أنزل علينا مائدة من السماء. ولبى الله تعالى الدعاء: إني منزلها عليكم (المائدة ١١٢ ـ ١١٥). لقد رأى صحابة عيسى منه معجزات أرضية، وهنا يطلبون منه معجزة من السماء (الرازي). فنزلت وصارت ﴿عيداً لأولهم وآخرهم. فآمن الحواريون ومعهم العالم، حتى الاستشهاد.

طلب المشركون من محمد ان ينزّل عليهم كتاباً من السماء يقرأونه، فصاح: ﴿قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً (الإسراء ٩٣). وتحدى الحواريون عيسى بمائدة من السماء، فاستنزلها عليهم وصارت ﴿عيداً لأولهم وآخرهم. هذا منتهى الإِعجاز، في التحدّي بالمعجزة الإلهية.

بهذه المعجزات العظام والتي لم يستجمعها نبي ولا رسول فضّل القرآن السيد المسيح على الرسل أجمعين: ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم مَن كلّم الله، ورفع بعضهم درجات، وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس (البقرة ٢٥٣). لقد فضل موسى على غيره بالتكليم؛ وادريس ﴿رفعناه مكاناً عليّاً (مريم ٥٦ ـ ٥٧)؛ وفضّل عيسى على سائر الأنبياء والرسل ﴿بالبيّنات من أقوال وأعمال معجزة، وخصوصاً باختصاصه من دون المرسلين أجمعين بتأييد روح القدس له. قال البيضاوي: ﴿وجعل معجزاته (أي عيسى) سبب تفضيله، لأنهـا آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. وقال الزمخشري: ﴿وهذا دليل بيّن أن مَن زيد تفضيلاً بينهم بالآيات، فقد فُضّل على غيره. فالقرآن لذلك يفضّل المسيح على الرسل أجمعين بلا استثناء. واختصاصه في سيرته ورسالته بتأييد روح القدس، يجعله في مرتبة فريدة فوق الرسل كلهم؛ فروح القدس هو ﴿الاسم الأعظم الـذي كان عيسى يحيي به الموتى (عن ابن عباس بالاجماع)، ﴿وكان لا يفارقه ساعة (الرازي)، ﴿يسير معه حيث سار (الجلالان). ولا يذكر القرآن لنبي أو رسول حتى ولا ﴿لخاتم النبيّين شيئاً من مثل هذا.

هذا هو الإِعجاز المطلق في المعجزة، برهان الدعوة والشخصية.

٤ ـ إِعجاز الإنجيل في البيان والتبيين

إن القرآن يستخدم تعبير ﴿البيّنات بالنسبة الى معجزات المسيح: ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات، وايدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و ٢٥٣ قابل المائدة ١١٠)؛ وبالنسبة الى تعليمه وأسلوبه في البيان والتبيين: ﴿ولمّا جاء عيسى بالبيّنات، قال: قد جئتكم بالحكمة (الزخرف ٦٣)، ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا (اليهود) من بعد ما جاءَهم البيّنات (آل عمران ١٠٥ قابل البقرة ٢١٣ و٢٥٣).

فآيات المسيح في الإنجيل ﴿بيّنات. يقول القرآن ذلك أيضاً بحق التوراة: ﴿جاءَكم موسى بالبيّنات (البقرة ٩٢ قابل العنكبوت ٣٩)؛ وبحق القرآن: ﴿وشهدوا ان الرسول حق، وجاءَهم البيّنـات (آل عمران ٨٦؛ البقرة ٢٠٩)، والنعت لـه متواتر؛ وبحق الرسل كلهـم: ﴿أرسلنا رسلنا بالبيّنات (الحديد ٢٥)، ﴿تأتيهم رسلهم بالبيّنات (المؤمن ٢٢: ٥٠) والنعت أيضاً متواتر. فالإِعجاز البياني صفة التنزيل كله عند الرسل كلهم.

لكن البيّنات في الإنجيل تمتاز على بيّنات الكتب المنزلة كلها، بأنها بيان وتبيين بروح القدس: ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات، وايدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و ٢٥٣)، ﴿وإذ أيدتك بروح القدس تكلّم الناس في المهد وكهلاً (المائدة ١١٠). فكلام المسيح معجز ليس بالنطق في المهد فقط، بل هو أيضاً معجز ببيانه الذي يبيّنه روح القدس.

وبيان الإنجيل لا يتفاوت في المهد والكهولة. قال الرازي: ﴿في المهد وكهلاً: وذلك من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين؛ وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.

وقد حاول الأستاذ العقاد ١٣ وصف بيان المسيح في الإنجيل، فقال:

﴿وقد كان ولا ريب فصيح اللسان، سريع الخاطر، يجمع الى قوة العارضة سرعة الاستشهاد.

﴿وكان له قدرة على وزن العبارة المرتجلة، لأن وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا يُنظم كنظم الشعر، ولا يُرسل إرسالاً على غير نسق... ويغلب عليه إيقاع الفواصل، وترديد اللوازم، ورعاية الجرس، في المقابلة بين السطور.

﴿وذوق الجمال باد في شعوره، كما هو باد في تعبيره وتفكيره... عنوان لما طُبع عليه من ذوق الجمال....

﴿لقد كانت اللغة التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة في القوة والنفاذ. كانت لغة فذة في تركيب كلماتها ومفرداتها؛ فذة في بلاغتها وتصريف معانيها؛ فذة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب. ولولا ذلك لما أُخذ بها السامعون ذلك المأخذ المحبوب مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.

﴿كانت في نمطها بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فنّاً خاصاً ملائماً لدروس التعليم والتشويق، وحفز الذاكرة والخيال....

﴿وكان أسلوبه في ايقاع الكلام أسلوباً يكثر فيه الترديد والتكرير....

﴿أما أسلوب المعنى فقد اشتهر منه نمط الامثال، في كل قالب من قوالب الأمثال. ومنه القالب الذي يعوّل على الرمز، والقالب الذي يعول على الحكمة، والقالب الذي يعوّل على القياس، والقالب الذي يعوّل على التشبيهات... وكلها تتّسم بطابع واحد، هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير ـ وان كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال....

﴿وبحق سُمّي (المعلم). ونودي به في مختلف المجامع والمحافل... ولم تكن كفاية المعلم الذي يبث الحياة الروحانية في النفوس، وينفث في الخواطر تلك الراحة التي تشبه راحة السريرة، حين تتناسق فيها الأنغام التي كانت متنافرة قبل أن تُجمع....

﴿والواقع أيضاً ان الناس حين يستمعون اليه يرونه غريباً وقريباً في وقت واحد: غريباً لأنه كان يُساورهم ولا يدركونه؛ وقريباً لأنهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الادراك....

﴿والأمر المحقق ان سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحيّة كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم الى ذلك المعلم المحبوب، الذي كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حية، يحسبون أنها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة، أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق أو يستولي عليهم من عطفه الطيب، وحنانه الطهور....

٥ ـ الإِعجاز في الرسالة والرسول معاً

يجمع القرآن بين الإِعجاز في الرسالة، والإِعجاز في الرسول، عند السيد المسيح؛ وينسب هذا الإِعجاز في الرسالة والرسول معاً الى روح القدس؛ وهذا ما يرفعه فوق قدرة البشر والمرسلين أجمعين: ﴿واذ ايدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً (المائدة ١١٠)؛ ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البينّنات، وأيدناه بروح القدس (البقرة ٨٧ و ٢٥٣) فالإِعجاز الخارق في الرسول يظهر من نطقه بالنبوّة وهو طفل؛ والإِعجاز الخارق في الرسالة أنها كاملة منذ الطفولة، لا تفاوت فيها بين الطفولة والكهولة.

والجامع المانع للإِعجاز المطلق عند المسيح في الرسول والرسالة هو روح القدس العامل في الرسول والرسالة في كل الاحوال والأقوال والاعمال، ﴿لا يفارقه ساعة (الرازي)، ﴿يسير معه حيث سار (الجلالان).

فالقرآن ينسب الإِعجاز للمسيح والإنجيل ليس فقط في التنزيل، كما في كل تنزيل؛ بل الى الرسول والرسالة أيضاً، ممّا انفرد به المسيح والإنجيل على الرسل والرسالات، بتأييد روح القدس الخاص المعجز.

والإِعجاز المطلق في الرسول والرسالة عند المسيح يظهر أيضاً من الاسم الفريد الذي ميّز به القرآن السيد المسيح على العالمين والمرسلين. أجل ﴿ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل (المائدة ٧٥)، وذلك من حيث هـو ﴿ابن مريم، لكـن من حيث هو ﴿كلمته القاها الى مريم وروح منه (النساء ١٧١) فهو سيد الرسل والرسالات. شخصيته الكامنة فيه من قبل إلقائها الى مريم أنه ﴿كلمته وروح منه أي نطق الله الذاتي القائم في ذات الله ﴿روحاً منه يصدر منه وفيه كالنطق الذاتي من الذات وفي الذات. فالرسول في المسيح هو ﴿كلمة الله وروح منه. والرسالة في المسيح هي أيضاً ﴿كلمة الله الذاتية نزلت الينا بإلقائها الى مريم؛ فليست كلمات قولية فقط، بل ﴿كلمة الله الشخصية. إن ﴿كلمة الله في المسيح ليس فقط كتاباً منزلاً في الإنجيل، بل هو شخص منزل، تتوحّد فيه الرسالة والرسول، بما لا يمكن ان يجري لأحد من العالمين والمخلوقين. إن الرسالة والرسول همـا في المسيح ﴿كلمته وروح منه، وهذا ممّا يرفعهما فوق طاقة المخلوقين أجمعين وبما أن السيد المسيح هو ﴿كلمته وروح منه، فقد توحدت الرسالة والرسول في شخصه، أكثر من إنجيله؛ وهذا أيضاً ناحية اخرى من الإِعجاز المطلق الذي انفرد به على الخلق.

وقد لاحظ الأستاذ العقّاد ١٤ فضل الرسول في الرسالة عند السيّد المسيح: ﴿وفي وسعنا أن نتخيّل من ثمّ فضل الرسول في الرسالة. فلا رسالة في الحق بغير رسول. ولا سبيل الى قيام المسيحية بغير مسيح. فإن مصدر الرسالة الروحية هو زبدتها وجوهرها وهو الأصل الأصيل في قوتها ونفاذها. وكل ما عداه فروع وزيادات. لقد كان لبّ الرسالة المسيحية، في لبّ رسولها المسيح.

وقال أخيراً: ﴿ومن بعد فمن الحق أن نقول: ان معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن؛ ولم تنقض بانقضاء ايامها في عصر الميلاد: رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولا تضيع في أطوائها دولة الرومان! ولا ينقضي عليه الزمن، في انجاز هذه الفتوح، ما قضاه الجبابرة في ضم اقليم واحد، قد يخضع الى حين ثم يتمرد ويخلع النير! ولا يخضع كما خضع اناس للكلمة بالقلوب والاجسام.

خاتمة النبوّة والكتاب، في نظر القرآن

لذلك كله فلا عجب ولا مرية ان يجعل القرآن السيد المسيح خاتمة النبوّة والكتاب.

أوّلاً: محمّد خاتم النبيّين؟

أجل يصف القرآن محمداً بأنه ﴿خاتم النبيّين (الأحزاب ٤٠)، وهو تعبير مفرد في القرآن، ليس له قرائن توضحه، فهو تعبير متشابه لا يتضح معناه من حرفه. وسواء كانت القراءَة ﴿خاتم (بالفتح) أو ﴿خاتِم (بالكسر)، فلغة القرآن لا تسمح ان نرى في التعبير معنى ﴿خاتمة النبيّين. فإننا لا نجد في القرآن سوى هذه الآيات السبع لحرف ﴿ختم: ﴿ختم الله على قلوبهم (البقرة ٧)، ﴿وختم على قلوبكم (الأنعام ٤٦)، ﴿وختم على سمعه وقلبه (الجاثية ٢٣)، ﴿فإن يشإِ الله يختم على قلبك (الشورى ٢٤) ﴿اليوم نختم على أفواههم (يسن ٦٥)، ﴿ختامه مسك (المطففين ٢٦) ﴿يُسقون من رحيق مختوم (المطففين ٢٥). فهل في لغة هذه الآيات السبع الوحيدة في القرآن معنى الخاتمة؟ ان حرف ﴿ختم يعني طبع على، منع من، ربط على؛ فهو ﴿خاتم و﴿مختوم لا يفكّ ختمه. فالمعنى المقصود التصديق.

وهذا هو المعنى المتواتر في أوصاف القرآن.

فالقرآن هو ﴿تصديق الذي بين يديه أي قبله (يونس ٣٧؛ يوسف ١١١)؛ ﴿مصدّق لما معهم (البقرة ٨٩ و ١٠١)؛ ﴿مصدق لما معكم (آل عمران ٨١)؛ ﴿مصدّق الذي بين يديه (الأنعام ٩٢)؛ والقول الفصل في قوله: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢). فإن محمداً هو ﴿خاتم النبيّين كونه مصدّقا لهم.

والقرآن هو أيضاً ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧) أي تعريبه بلسان عربي مبين (حم السجدة ٤٤). والقول الفصل في كيفية تبليغ التنزيل: ﴿حم. تنزيل من الرحمٰن الرحيم: كتاب، فُصّلت آياته قرآناً عربياً (حم السجدة أو فصلت ١ ـ ٣): بالقرآن العربي تم تفصيل التنزيل في الكتاب؛ وهو مثل قوله أيضاً: ﴿آلر. كتاب أُحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير (هود ١)، فالتنزيل المحكم في الكتاب، والتفصيل في القرآن. وليس في هذا معنى ختام النبوّة، ولا خاتمة النبيّين.

والقرآن هو أيضاً ﴿بيان الكتاب للعرب بلسان عربي مبين: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل اليهم، ولعلهم يتفكرون (النحل ٤٤). فرسالة محمد تقتصر على بيان الكتاب أي ﴿تفصيل الكتاب وتصديقه.

والقرآن هو أيضاً ﴿تيسير الكتاب بلسان محمد. فهـو يردّد: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر (القمر ١٧ و٢٢ و٣٢ و٤٠)؛ ويؤكد: ﴿فإنما يسّرناه بلسانك (مريم ٩٧؛ الدخان ٥٨) وهو مثل قوله ﴿تفصيل الكتاب أي ﴿تنزيل من الرحمن الرحيم: كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً. فرسالة محمد هي تيسير قرآن الكتاب بلسان عربي مبين.

فتلك الأوصاف الأربعة للقرآن العربي تحدّد معنى النبوّة والرسالة عند محمد. وليس فيها معنى خاتمة النبيّين على الإطلاق. لذلك قوله المتشابه ﴿خاتم النبيّين يعني فقط مصدّقهم، كما يعني حرف الكلمة، والمعاني المتواترة في أوصاف القرآن.

يؤيد ذلك تصريح القرآن بأن الله جعل في بني إسرائيل النبوّة والكتاب: ﴿ووهبنا له (أي لإبراهيم) اسحاق ويعقوب، وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب (العنكبوت ٢٧) فالنبوّة والكتاب هما في ذرية إبراهيم من اسحاق ويعقوب، لا في ذريته من اسماعيل؛ وهذا بنص القرآن القاطع. لذلك يصف القرآن محمداً بأنه ﴿النبي الأمّي أي العربي الذي ليس من أهل النبوّة والكتاب (الأعراف ١٥٧ ـ ١٥٨). لكنه بوحي من الله في غار حرّاء اهتدى الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢ و١٥)، وأمر ان يهدي اليهما: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). وتلاوة ﴿القرآن على العرب تقوم ﴿بتفصيل الكتاب لهم. هذه هي نبوته ورسالته، بأمر الله في رؤيا غار حرّاء.

ثانياً: ختام النبوّة والكتاب

أمّا ختام النبوّة والكتاب فهو، بحسب القرآن، عند المسيح في الإنجيل. هذا هو تاريخ النبوّة بحسب القرآن: ١) ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين: ذريةّ بعضها من بعض، والله سميع عليم (آل عمران ٣٣ ـ ٣٤)، ﴿اصطفى بجعل الأنبياء من نسلهم (الجلالان)، فالصطفاء والتفضيل هما بالنبوّة. وقد انحصرت النبوّة في ذروتها ببني إسرائيل، في آل عمران، فكان السيد المسيح ختام الذرية المصطفاة على العالمين. ٢) ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه (الشورى ١٣). إن دين الله هو ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى. واقحام ﴿والذي اوحينا إليك بين نوح وإبراهيم، هو اقحام ظاهر، لكن يفسر معناه في السورة عينها أن ﴿الذي أوحينا إليك هو الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢). فيظل عيسى خاتمة النبوّة في دين الله. ٣) في سورة ا(الأنبياء) يذكر أنبياء بني إسرائيل من إبراهيم الى المسيح ويختم بقوله: ﴿والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين: إن هذه أمتكم امة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون (٩١ ـ ٩٢). فأهل النبوّة أمة واحدة ختامهـا السيد المسيح. ٤) كذلك في سورة (المؤمنون) يختم ذكر الأنبيـاء بقوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون. وجعلنا ابن مريم وأمة آية... وإن هذه امتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون (٤٩ ـ ٥٢). فهو يحصر النبوّة المكتوبة ما بين موسى وعيسى، ويجعل أهلها أمة واحدة، فيكون السيد المسيح بحسب السياق ختام النبوّة والكتاب. ٥) ﴿قولوا: آمنا بالله ـ وما أنزل إلينا ـ وما أنزل الى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط؛ وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة ١٣٦)؛ هنا أيضاً ﴿وما أنزل الينا يفسره قوله في السورة عينها: ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة (١٢٩)، ﴿ويعلمكم الكتاب والحكمة (١٥١) أي التواراة والإنجيل. كذلك في (آل عمران ٨٤) مع قوله ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة (١٦٤). فالإيمان بالتنزيل ينتهي بالمسيح، فالمسيح هو ختام التنزيل الـذي فيه ﴿دين الله (٨٣). ٦) يذكر أنبياء الله ثم يقول: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب، والحكم (الحكمة) والنبوّة... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). فعلى محمد ان يقتدي بهدى الكتاب والحكمة والنبوّة عند بني إسرائيل، وختام الهدى هو في الإنجيل، وخاتمة الأنبياء هـو المسيح. كذلك (الجاثية ١٦). ٧) يحصر نبـوّة محمد في تعليم ﴿الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل، للعرب: ﴿ويعلّمهم الكتاب والحكمة (البقرة ١٢٩؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢)، ﴿ويعلمكم الكتاب والحكمة (البقرة ١٥١). و﴿الحكمة اصطلاح قرآني كناية عن الإنجيل. فختام النبوّة الإنجيل، وخاتمة الأنبياء المسيح. وما القرآن سوى ﴿تفصيل الكتاب كله.

أخيراً هذا ما يظهر بصريح التعبير في قوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفّينا من بعده بالرسل، وآتينـا عيسى ابن مريم البيّنـات، وأيدنـاه بروح القدس (البقرة ٨٧). فتعبير ﴿قفينا يجعل خاتمة الرسل عيسى ابن مريم، وميزة الخاتمة تأييده بروح القدس الذي رفعه على الرسل أجمعين. كذلك في قوله: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم... ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل (الحديد ٢٦ ـ ٢٧). قفى على الرسل كلّهم بعيسى، وما قفى على عيسى بأحـد. فعيسى، بنص القرآن القاطع، هـو خاتمة الأنبيـاء. وما ﴿النبي الأمّي أي العربي من غير أهل الكتاب، إلاّ ﴿خاتم النبيّين أي مصدقهم، ﴿بتفصيل الكتاب كله للعرب.

ثالثاً: الإِعجاز المطلق والمعجزة المطلقة عند المسيح في الإنجيل

وهكذا، بحسب القرآن نفسه، فإن إِعجاز المسيح المطلق في شخصيته، وفي سيرته، وفي رسالته أي في التنزيل، والبلاغ، والتبليغ، والبيان والتبيين، وذلك في الرسول والرسالة معاً، جعل السيد المسيح سيد الأنبياء والمرسلين، وخاتمة النبوّة والكتاب، لأنه ﴿كلمة (الله) ألقاها الى مريم وروح منه. هذا هو الإِعجاز المطلق في النبوّة، والمعجزة المطلقة في الرسالة لقد اجتمع الإِعجاز والمعجزة معاً في الرسول والرسالة كليهما، في السيد المسيح. إِعجاز بالكلمة، وإِعجاز بالسيرة، وإِعجاز بالرسالة، وإِعجاز بالشخصية.

فالإِعجاز البياني سواء، في التوراة والإنجيل والقرآن لأنها جميعاً ﴿الفرقان (آل عمران ٣ ـ ٤). ولكن ما بين الإِعجاز في الإنجيل والقرآن بون: فالإِعجاز في القرآن بالقول الجميل، والإِعجاز في الإنجيل بالقول والعمل معاً.

قد أجمع القوم على أن إِعجاز القرآن الأولي والجوهري كان في سحر بيانه أي في القول الجميل فقط. لأن القرآن ذاتَه يشهد بأن تعليمه في الكتاب قبله ﴿وانه لفي زبر الأولين أي ﴿كتب الأولين كالتوراة والإنجيل (الجلالان: شعراء ١٩٦) فالكتاب إمامه في الهدى (أحقاف ١٢) وبهدى الكتاب يجب ان يقتدي (أنعام ٩٠) وما القرآن سوى تصديق الكتاب، وتفصيله للعرب (يونس ٣٧).

وكان إِعجاز الإنجيل في القول المعجز والعمل المعجز معاً. فالسلطة والشعب اليهودي أقروا ﴿بأنه ما تكلّم انسان قط مثل هذا الانسان (يوحنا ٧: ٤٦). وكان المسيح يقدّم لهم اعماله المعجزة دلائل نبوته ورسالته أكثر من أقواله المعجزة ولو ادهشتهم هذه الأقوال واعجزتهم. شفى المسيح مخلعاً يوم السبت فاعترض عليه اليهود لصنعه المعجزة يوم السبت فأجابهم ﴿ان أبي يعمل بلا انقطاع وأنا أيضاً أعمل يوم السبت... فما يفعله الاب يفعله الابن كذلك لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما يفعل، وسيريه أعمالاً أعظم من هذه فتأخذكم الدهشة: فكما ان الآب ينهض الموتى ويحييهم كذلك الابن أيضاً يحيي مَن يشاء... وإن الاعمال التي خوّلني الآب ان أعملها ـ هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها ـ هي تشهد لي بأن الآب قد أرسلني (يوحنا ٥: ١٧ و ١٩ ـ ٢١ و ٣٦). وقد شهد بإِعجاز هذه الاعمال علماء اليهود بلسان احد اعضاء الساندرين، محفلهم الأكبر، وهو السلطة العليا عندهم. ﴿جاءَ نيقودمس الى يسوع ليلاً وقال له: رابّي، نحن نعلم أنك جئتَ من قبل الله، معلّماً: اذ ما من أحد يقدر أن يصنع المعجزات التي أنت تصنعها اذا لم يكن الله معه (يوحنا ٣: ٢).

وقبل أن يستشهد يحيى المعمدان بن زكريا النبي الكاهن، أرسل الى المسيح سفارة من أتباعه كي يدلّهم على المسيح ويجعلهم يتبعونه من بعده. فسألوا يسوع المسيح: ﴿هل أنت النبي الأعظم المنتظر؟ أم ننتظر آخر غيرك؟. حينئذٍ صنع أمامهم شتّى انواع المعجزات بالجملة ممّا لا يدع مجالاً لريبة أو شك أو وهم (لوقا ٧: ٢١) وقال لهم: ﴿انطلقوا وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون! والعرج يمشون! والبرص يطهرون! والصم يسمعون! والموتى يقومون! والمساكين يُبشّرون! ـ وطوبى لمن لا يشكُّ فيّ (متى ١١: ٢ ـ ٦؛ لوقا ٧: ١٨ ـ ٢٣).

وفي جواب المسيح اشارة الى نبوءات الأنبياء عن أعمال المسيح المصطفى: نفّذها أمام تلاميذ يحيى والشعب، واستشهد بالاعمال والنبوءات معاً. فبلغ الإِعجاز الإلهي بالقول والعمل وتتميم النبوءات المتواترة عنه منذ أجيال وأجيال. وهذا هو الإِعجاز المطلق الكامل الذي لا إِعجاز بعده.


١. الباقلاني: إِعجاز القرآن، ص ١٧١ و ٣٩٦.

٢. محمد خلف الله: ثلاث رسائل في الإِعجاز. للخطابي: ﴿بيان إِعجاز القرآن.

٣. إِعجاز القرآن ١: ٣٠٤.

٤. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٣٢٥.

٥. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٨٨ و ١١٣.

٦. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ١٠٦.

٧. فريد وجدي. تفسير القرآن: المقدمة. ثم دائرة معارف القرن العشرين: مادة ﴿قرأ مجلد ٧ ص ٦٧٧.

٨. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٦٥ و ١١٩ ـ ١٢١.

٩. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ١١٨.

١٠. نأخذ كلمة ﴿آية بمعنى كرامة أو بمعنى معجزة، والفارق عنصر التحدّي بالخارقة في المعجزة. ونلاحظ ان القرآن يجعل مولد المسيح ﴿آية للناس، فالكرامة في نظره أخت المعجزة.

١١. هناك قراءة أخرى متواترة ﴿لأهب.

١٢. الرازي على آية البقرة ٢٥٣.

١٣. حياة المسيح، ١٧٠ ـ ١٧٧.

١٤. سيرة المسيح، ص ١٧٧.