الفصل الخامس
المعجزة الظرفية
توطئة عامة
هل في ظروف الدعوة القرآنية من معجزة؟
قد لا تكون المعجزة في الحدث النبوي نفسه، بل في ظروفه، من حيث البيئة أو الزمان أو لغة النبوّة، أو حال النبي الداعية.
بيئة النبوّة التي لا شيء ينبئ عن منبتها قد تكون ظرفاً معجزاً. أمّا قيام نبوّة على دعوة قائمة سبقتها ورافقتها فكانت الدعوتان واحدة، فهذا ليس من إِعجاز البيئة في شيء. والتحقيق بأن القرآن دعوة ﴿نصرانية﴾ يرفع عنها إِعجاز البيئة.
زمن ظهور النبوّة، بلا أسباب لها ولا مقدمات، قد يكون أيضاً ظرفاً معجزاً. أمّا متى كانت البيئة مهيّأة للدعوة، فليس في زمن ظهور صاحبها من معجزة: إنما هو تسلسل التاريخ المحتوم.
قد تكون لغة أفضل من لغة من بعض نواحيها. أمّا أن تكون هناك لغة أدعى الى استخدام الله لها لوحيه وتنزيله، فتاريخ الوحي والتنزيل بلغات مختلفة يكذّب هذه المقولة. إن الله يكلّم الإنسان بكل لسان؛ وكل لسان يختاره الله يكون أهلاً لبيان وحيه وتنزيله.
وفي اختيار الله بشراً لرسالته يكون ذلك فضلاً منه على نبيه المصطفى، لا معجزةً في اصطفائه. وتاريخ النبوّة عند بني إسرائيل يشهد بأن الله اختار الملك العليم الحكيم، كما اختار ابن الشعب الأمّي.
فكلّ هذه الظروف مناسَبات لقيام النبوّة، إذا أرادها الله تعالى رحمة بعباده.
فهل للقرآن من معجزة ظرْفية حقيقية؟
الجزء الأول
الإِعجاز القرآني من حيث البيئة
توطئة
الإِعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة
﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام ١٢٤)
منذ أن قال الجاحظ، الفارسي المستعرب، بإِعجاز القرآن في لفظه ونظمه، أخذوا يستنبطون المناسبة في معجزة موسى وعيسى ومحمد. فوجدوا إشاعة السحر في زمن موسى، وإشاعة الطب، أو الطب الروحاني، في زمن عيسى، وإشاعة سحر الكلمة في زمن محمد وبيئته. فكانت معجزات موسى ممّا يشبه السحر ويُعجزه، ومعجزات عيسى مما يشبه الطب والابراء ويُعجزه، ومعجزة محمد ممّا يشبه سحر الكلمة ويُعجزها.
وفي هذه المناسبة ﴿زمان المعجزة ومكانها﴾ كما يقول عبد الكريم الخطيب ١ : ﴿كان من تدبير الحكيم العليم وتقديره أن تقع معجزات الرسل موقعها المناسب، كي تطلع الثمر المرجو منها (ص ٨٣). والذي كان يرصد مجرى الحياة العربية قُبيل البعثة النبوية، كان يرى أن أوضح ظاهرة في هذه الأمة، وأقوى قوة عاملة فيها هي الكلمة... فما عرفت الحياة أمة من الأمم كانت الكلمة مالكة زمامها، ومصرّفة أمرها، ومنطلق حياتها ومسبح آلامها وآمالها، كالأمة العربية منذ جاهليتها الى أن طلع عليها الإسلام ونزل عليها القرآن (ص ٨٧). وهنا يأتي دور الكلمة فتؤدّي رسالتها العظيمة في هذا المجال. إذ لا يملك العربي إذ ذاك شيئاً غيرها: فلا رسم ولا نحت، ولا تصوير، ولا تمثيل، ممّا تسمح به الحياة المستقرة المطمئنة، الأمر الذي لم يكن ليتاح لأهل البادية وسكان الصحراء ـ ليس غير الكلمة إذن... ونستطيع أن نؤكد أن العرب وحدَهم من بين سائر الأمم هم الذين استطاعوا أن يصوغوا الحياة كلها في تلك الكلمات التي أصبحت لغة مكتملة البناء راسخة الأركان، بما أبدعوا وولدوا من أمهاتها وأصولها. ونستطيع أن نؤكد أيضاً أن العرب قد استطاعوا أن يحمّلوا لغتهم كل ما تحمل الفنون الجميلة كلها من ملهمات وأسرار. فالموسيقى بألوانها وأنغامها ومقاماتها قد حواها الشعر العربي في تفاعيله وبحوره وقوافيه (ص ٩١). فإن كان ما في الحياة من معطيات الفنون والآداب قد ضمته العربية اليها وجعلته بعضا منها... فالشعر الجاهلي الذي أدرك الإسلام أو أدركه الإسلام هو الصورة الكاملة للبيان العربي، وهو الشهادة القاطعة لما بلغته الكلمة في اللسان العربي من امتلاكها كل ما يمكن من قدرة على الإبانة عن أدق المشاعر الانسانية، وأعمق الأحاسيس، بما لا تقدر عليه وسائل الابانة من لغة ورسم ونحت وتصوير وتمثيل متفرقة أو مجتمعة (ص ٩٢). ومن الواضح أن الشعر الجاهلي الذي حُفظ عن تلك الفترة اعتُبر الصورة الكاملة للشعر الجاهلي﴾ (ص ٩٤).
﴿اللغة العربية ومكانتها بين اللغات. ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، في القديم! كما تذكر أساليب البيان الأوربّي وما نبغ فيه من كتاب وشعراء في العصر الحديث. لعلك تذكر هذا فتعترض على ما قلناه في البيان العربي وفي تفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره. لعلك تذكر هذا، وربما نذكره نحن أيضاً معك فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه. ولكنا مع هذا لا نرى أن بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، وبلاغة الأدب الأوربي الحديث، لا نرى شيئاً من هذا يعلو البيان العربي أو يساويه! وإن وقفت منه بعض تلك الآداب موقفاً مدانياً مقارباً وشاهدنا على هذا قائم بين أيدينا على مرّ الايام والسنين: وهو القرآن الكريم﴾ (ص ١١٣).
بعد تلك المقدمات يخلص الى القول: ﴿ونستطيع بعد هذا أن ننتهي الى مقرّرات. أولاً: أن القرآن الكريم معجزة في ذاته، وأن معجزته محمولة في كلماته التي نزل بها. ثانياً: أن المعجزة القرآنية جاءَت في زمانها ومكانها... ولعل في قوله تعالى: ﴿الله اعلم حيث يجعل رسالته﴾ ما يشير الى هذا المعنى. فان كلمة ﴿حيث﴾ يعبّر بها عن المكان. والمكان يحويه زمان. ويعيش فيه أشخاص. وبهذا يكون استعمال القرآن لهذه الكلمة ﴿حيث﴾ معجزة تنطلق منها اشارات مضيئة، تشير الى الرسول، والى المرسل إليهم، والى زمن الرسالة ومكانها. فقد أصابت الرسالة مكانها في شخص الرسول، وفي العرب المرسل اليهم، في زمان ومكان معلومين. ثالثاً: إن الأدب الجاهلي، وخاصة الشعر ـ هو المنظور اليه في معرض التحدي. وهو الذي وقع الإِعجاز عليه، إذ كان هذا الأدب، وهذا الشعر، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فنّ القول في مجـال العمل الإنساني، في استصحاب الكلمة والتعامل بها﴾ (ص ١١٧ ـ ١١٨).
إنّ تعميمات الشيخ عبد الكريم الخطيب عن الآداب العالمية تجاه الأدب العربي، وعن البيان العالمي تجاه الشعر الجاهلي ليس لها من أساس علميّ. ولسنا ندري هل يقرّه علماء الآداب واللغات العالمية على سيادة اللغة العربية عليها، خصوصاً في الأدب الجاهلي وبيانه. فهل يقاس بما أعطته جاهلية اليونان من آداب وفنون من الياذة هوميروس، أو إنياذة فرجيل، أو فردوس دانته، أو أسطورة الدهور لفكتور هوجو؟ ولا أظن أن الأدباء العرب يقرونه على تفضيل الشعر الجاهلي على الشعر العربي كله بدون استثناء. فالمقدمتان الكبرى والصغرى من قياسه ساقطتان.
والآن نبحث وجه الحكمة ١) في اختيار الجزيرة العربية ٢) واختيار لسان العرب ٣) وفي توقيت الرسالة المحمدية، لنرى هل من معجزة في بيئتها: إذ ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾.
بحث أول
هل من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للقرآن؟
يصف القرآن عهد العرب قبله ﴿بالجاهلية﴾ (١٥٤:٣؛ ٥٠:٥؛ ٣٣:٣٣؛ ٢٦:٤٨). وهو تعبير نصراني يطلقونه على البلاد والشعوب التي لم يصلها نور الكتاب والإنجيل كما قال بولس الرسول في ندوة أثينا: ﴿لقد اغضى الله عن أزمنة الجاهلية، وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان أن يتوبوا﴾ (سفر الاعمال ٣٠:١٧).
فجاهلية العرب لم تكن جهلاً بالثقافة والأدب، بل جهلاً بالدين والتوحيد الخالص. وفي التوحيد كانت دعوة أهل الكتاب، من يهودية ومسيحية، قد عمت أطراف الجزيرة، حتى تغلغلت الى الحجاز، فحولته من الوثنية الى الشرك أي عبادة الله الواحد الأحد مع شريك من خلقه. وقد أمسى شركهم ظاهرياً بشهادة القرآن: ﴿ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى﴾ (الزمر ٣). ونتيجة الدعوة الكتابية أن ﴿عبادة أهل مكّة هي عبادة محمد، وتوحيدهم توحيد اسلامي، أو توحيد قريب من التوحيد الإسلامي﴾ ٢ . فليس في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية من معجزة. يكفي شهادة على ذلك حديث ورقة بن نوفل، قس مكّة، واستاذ محمد مدة خمسة عشر عاماً قبل مبعثه؛ وكان يدعو في مكّة الى نصرانيته بترجمة الإنجيل من حرفه العبراني الى العربية، بحضور محمد، زوج خديجة، ابنة عمه، في بيتها. وما كانت الدعوة القرآنية إلا ﴿تفصيل الكتاب﴾ للعرب (يونس ٣٧). غفلوا عن دراسته: ﴿أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين﴾ (الأنعام ١٥٦)؛ فدرسه محمد ليفصله لهم: ﴿وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون﴾ (الأنعام ١٠٥). فسكوته عن الرد على تهمة الدرس، وعدوله الى بيان حكمته، دليل على صحة الدرس والتدريس. ولذلك تتواتر الشهادات القرآنية إن الدعوة القرآنية إنما كانت ﴿ليعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل (١٥١:٢ و١٢٩؛ ١٦٤:٣؛ ٢:٦٢).
فدين الكتاب، دين إبراهيم وموسى وعيسى، هو الدين الذي يشرعه القرآن للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ (الشورى ١٣). ودين موسى وعيسى ديناً واحداً هو دين النصرانية الإسرائيلية التي تقيم التوراة والإنجيل معاً، كما يدعو القرآن (المائدة ٦٨)؛ وكما يردّد: ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله، ونحن له مسلمون﴾ (١٣٦:٢ و٢٨٥؛ ٨٤:٣؛ ١٥٠:٤).
فالإسلام هو محور الدعوة القرآنية. وهذا الإسلام كان قائماً في الحجاز، بمكّة والمدينة، قبل القرآن؛ وذلك بنص القرآن القاطع: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا﴾ القرآن (الحج ٧٨). فقد ﴿شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وفي اصطلاح القرآن، أولو العلم هم أهل الكتاب؛ والقائمون منهم بالقسط هم النصارى من دون اليهود الظالمين لكفرهم بالمسيح ثم لمحمد. ويسميهم أيضاً الراسخين في العلم، ويميّزهم عن المؤمنين من العرب بمحمد ودعوته، وعن اليهود بقوله: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم... لكن الراسخون في العلم منهم، والمؤمنون، يؤمنون بما أنزل إليك﴾ (النساء ١٠٦ ـ ١٦٢) ـ وهؤلاء النصارى الراسخون في العلم هم الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل محكمه: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كلٌ من عند ربنا﴾ (آل عمران ٧). فالدعوة للاسلام هي دعوة النصارى الراسخين في العلم المنزل القائمين بالقسط في الإيمان بالمسيح والإنجيل، وبمحمد والقرآن لأن دعوته من دعوتهم. فكان الإسلام القرآني قائماً في مكّة والحجاز قبل الدعوة القرآنية. وما الدعوة القرآنية سوى انتصار له لظهوره على اليهودية هناك: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري الى الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين﴾ (الصف ١٤). فانتصرت النصرانية الإسرائيلية على اليهودية بفضل الدعوة القرآنية. فما الإسلام في القرآن سوى النصرانية الإسرائيلية التي تشهد مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾. والقرآن يشهد بشهادتهم.
فليس من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية. بل هي امتداد للدعوة النصرانية الإسرائيلية القائمة في مكّة والحجاز، وذلك بشهادة القرآن القاطعة.
بحث ثان
هل من معجزة في اختيار لسان العرب للقرآن؟
تنزيل الله معجز بحد ذاته بأيّ لسان أُنزل. وقد نزل وحي الله باللسان العبري فالأرامي فاليوناني، قبل أن يُفصّل في القرآن العربي. فمن حيث الأوّلية في التنزيل ليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن. وليس اختيار لسان العرب للقرآن لأنه أحق بالشفعة والامتياز للإِعجاز اللغوي والبياني.
فالقرآن نفسه يشهد للكتاب بالإمامة في التنزيل، ويشهد لنفسه بأنه تابع: ﴿أفمن كان على بيّنةٍ من ربه ـ ويتلوه شاهد منه؛ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً ـ اولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده: فلا تكُ في مرية منه، إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ (هود ١٧). إن القرآن يأمر محمداً بأن لا يشك من القرآن البالغ له لثلاثة أسباب: لأن مَن هم على بيّنة من ربهـم في الوحي والتنزيل يؤمنـون به؛ ثم لأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً﴾، فإمامة الكتاب للقرآن العربي برهان على صحته؛ ويتلو القرآن العربي على محمد شاهد من قِبَله تعالى؛ وهو مثل قوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠) فمثل القرآن العربي عند بني إسرائيل النصارى ـ نقول النصارى لأنه على خلاف دائم مع اليهود، ولأن القرآن يقسم بني إسرائيل الى طائفتين (الأنعام ١٥٦)، ﴿فآمنت طائفة (بالمسيح) وكفرت طائِفة﴾ (الصف ١٤) ـ ﴿ويتلوه شاهد منه﴾.
ما على محمد أن يشك بلقائه بالكتاب في القرآن العربي، لأن أئمته يهدون محمداً اليه بأمر الله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). فما على محمد أن يشك بلقاء الكتاب في القرآن لأن الله جعل من بني إسرائيل النصارى أئمة يهدون الى هدى الكتاب الذي معهم. فمحمد بالقرآن العربي يهتدي الى هدى الكتاب بواسطة أئمة بني إسرائيل النصارى. لذلك فهو يسمّي هؤلاء الأئمة ﴿الراسخين في العلم﴾، وهو يستشهد بإيمانهم ﴿بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ (النساء ١٦٢)، ويستشهد بإيمانهم بمتشابه القرآن كما بمحكمه: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنّا به كلٌ من عند ربنا﴾ (آل عمران ٧).
وهذا كله لأن القرآن العربي ليس إلاّ تصديقاً للكتاب بلسان عربي: ﴿قل: أرأيتم إنْ كان من عند الله، وكفرتم به ـ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ـ إن الله لا يهدي القوم الظالمين... ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين﴾ (الأحقاف ١٠ ـ ١٢). فالقرآن من عند الله لأن شاهداً من بني إسرائيل النصارى ﴿شهد على مثله﴾، ولأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة﴾، فإمامة الكتاب للقرآن، بعد ﴿المثل﴾ النصراني هما البرهان على أن القرآن العربي من الله، وصفته الكبرى إنه ﴿كتاب مصدق لساناً عربياً﴾ فميزته الخاصة تصديق الكتاب بلسان عربي، ليس فيه سوى هذا. وهذا المعنى متواتر في القرآن. ففي هاتين الآيتين سر القرآن كله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠)، ﴿ويتلوه شاهد منه﴾ (هود ١٧). إن ﴿مثل﴾ القرآن عند النصارى من بني إسرائيل، ويتلوه على محمد شاهد منهم بأمره تعالى. وبما أن ميزة القرآن العربي تصديق الكتاب، عن طريق ﴿المثل﴾، بلسان عربي، فليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن، فهو ليس سوى مصدّق.
فتعريف القرآن العربي أنه ﴿تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين﴾ (يونس ٣٧). إنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ أي تعريبه بلغة القرآن. فالميزة باختيار اللسان ليست للمفصِّل، بل للمفصَّل؛ وحسب النسخة المعرَّبة أن تكون مثل الإمام الأصْل، طبق ﴿المِثْل﴾ الذي ﴿يتلوه شاهد منه﴾، ﴿شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾. وهذا المعنى متواتر أيضاً في القرآن: فهو ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧)؛ ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود ١)؛ وتنزيل من الرحمان الرحيم ﴿كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت ٢ ـ ٣). فالتنزيل هو أولاً في الكتاب الإمام، وفي ﴿المثل﴾، ثم تُرجمت آياته قرآناً عربياً، بواسطة حكيم خبير. لذلك فهو يجزم: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ النصارى (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧). فالقرآن هو تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين، أي ﴿كتبهم كالتوراة والإنجيل﴾ (الجلالان). وآية محمد أن الراسخين في العلم يعلمون ذلك، ويشهدون به، ويؤمنون به. وهذه الشهادة تكفيه: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). فشهادة القرآن لنفسه أنه تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين؛ وأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾؛ وأنه تصديق الكتـاب ﴿لساناً عربياً﴾؛ وأن إمامه الكتاب في الهدى والبيان؛ وأن ﴿مثل﴾ القرآن عند بني إسرائيل النصارى يتلونه على النبي ويفصله له حكيم خبير ـ كلها ميزات يشهد بها القرآن ان الفضل للسان الإمام قبل أن يكون للسان المفصَّل قرآناً عربياً.
قد يقولون: إنَّ التحدي باللسان لم يقع في الكتاب الإمام، بل بالقرآن العربي، فالفضل للسان العربي على السنة العالمين. يُردّ عليه بأن التحدي بإِعجاز القرآن لم يكن بلسانه بل بهداه: ﴿قل فاتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتّبعه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩). والفضل في الهدى للكتاب المفصَّل، لا للكتاب المفصِّل.وقد رأينا أن التحدّي بإِعجاز القرآن كان بمكّة وحدها للمشركين؛ فلمّا تحوّل الخطاب في القرآن المدني لأهل الكتاب سكت عنه بعد (البقرة ٢٣)، ونسخه بالنسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦) والمتشابه في أخباره وأوصافه (آل عمران ٧) وهو أكثر القرآن. فالواقع القرآني نفسه يشهد بأنه ليس من معجزة في اختيـار اللسان العربي للقرآن، فهـو ﴿تفصيل الكتـاب﴾ للعرب، وتعليمهم ﴿الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل.
بحث ثالث
هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية؟
فضل الرسالة القرآنية على العرب لا ينكره إلاّ أعمى لا يرى النور. فقد أنشأ منهم أمة عظيمة، ودولة عظيمة؛ وأتحفهم بالإسلام ديناً؛ وأودعهم القرآن دستور الدين والدولة والأمة. لكن ليس في توقيت الرسالة القرآنية من معجزة فيهم.
فقد يظن بعضهم ويحلو لهم أن يقولوا بأن القرآن نقل العرب من ﴿جاهليتهم﴾ الى الإسلام؛ ويفسّرون ذلك بأنه نقلهم من الوثنية والهمجية الى التوحيد والحضارة التي دوّخت العالم دهراً من الزمن. وفاتهم جميعاً ان كلمة ﴿الجاهلية﴾ اصطلاح قرآني موروث عن النصارى من أهل الكتاب. فقد كانوا يقسمون العالم، مثل اليهود، الى أهل الكتاب والأميّين الذين ليس لهم الكتاب المنزل كما في قوله: ﴿وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأميّين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا﴾ (آل عمران ٢٠)؛ وكما في تسمية محمد ﴿النبي الأمّي﴾ (الأعراف ١٥٧ و ١٥٨) أي من الأميّين الذين ليس لهم كتاب منزل: ﴿هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل (الجمعة ٢). وقد كان النصارى يسمون زمن الأمم قبل الإيمان بالكتـاب والإنجيل ﴿جاهلية﴾ الأمم، لا الجهل في المعرفة، بل الجهل بالعلم المنزل، ولذلك يسمون أنفسهم أهل الكتاب وأولي العلم، كما وصفهم القرآن أيضاً. وفي تسمية القرآن ـ والنصارى ـ زمن العرب قبل الإيمان بالعلم المنزل ﴿الجاهلية﴾ لا يقصد الجهل بالمعرفة، بل الجهل في الدين والإيمان والإسلام.
وكانت جاهلية العرب بالحجاز في نهضة عارمة قومية وثقافية وتجارية، مهّدت السبل لقيام الدعوة القرآنية في ذروتها، كما يشهد بذلك الواقع القرآني. فقد تمّيزت مكّة، بعد تضعضع اليمن بخراب سد مأرب واحتلال الحبشة مرتين لليمن، وبالتجارة الدولية بين اليمن والشام وبين الشرق والغرب. وقد أشاد القرآن بفضل الله ﴿لإيلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف﴾. وقد ازدهرت هذه التجارة الى دولة الفرس والى دولة الروم. بفضل الحياد الايجابي العربي بين الدولتين. ولمّا شعروا أن في الدعوة القرآنية ميلاً إلى أهل الكتاب فدولة الروم، ردّوا على دعوة القرآن: ﴿إن نتّبع الهدى معك نُتَخطّف من أرضنا﴾ (القصص ٥٧). فاستقلالهم السياسي يقتضي استقلالهم الديني عن أهل الثنوية: ﴿لا تتّخذوا الهين اثنين﴾ (النحل ٥١)، وعن أهل التثليث: ﴿ولا تقولوا: ثلاثة﴾ (النساء ١٧١). فصراع أهل مكّة مع محمد سياسي ديني؛ لذلك يبين لهم القرآن أن التوحيد الإسلامي ينفي الثنوية وتبعيتها، والتثليث وتبعيته. وهذه النهضة القومية والتجارية يرافقها نهضة ثقافية تمثلت في الشعر الجاهلي، في القرنين الخامس والسادس م. كما قامت أسواق الأدب الى جانب أسواق التجارة، في مواسم الحج. وهذا هو المظهر الأكبر للنهضة الجاهلية في مظاهرها الثلاثة القومي والتجاري والثقافي. ومواسم الحج دليل أيضاً على النهضة الدينية. ويفيض القرآن بوصف نعمة الله عليهم بالبلد الحرام، والبيت الحرام، وموسم الحج الذي يفيض عليهم بالخير بالبركات: ﴿وقالوا: إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا! ـ أولم نمكّن لهم حَرَمْاً آمنّاً ـ يُجبى اليه ثمرات كل شيء، رزقاً من لدنّا، ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ (القصص ٥٧)؛ ﴿أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً، ويتخطّف الناس من حولهم﴾ (العنكبوت ٦٧).
بتلك النهضات الأربع، صارت مكّة ﴿أم القرى﴾، حول الحرم (القصص ٥٩).
لكن تلك النهضة الدينية كانت تدرجاً من الوثنية الى التوحيد الكتابي. والبرهان الأثري الأكبر هو الشعر الجاهلي الخالي من الوثنية والشرك. والقرآن خير برهان على بلوغهم الى التوحيد: ﴿ولئن سألتهم: مَن خلق السماوات والأرض، وسخَّر الشمس والقمر؟ ـ ليقولُنّ الله﴾ (العنكبوت ٦١؛ قابل ٢٥:٣١؛ ٣٨:٣٩؛ ٩:٤٣)؛ ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجّاهم الى البرّ، إذا هم يشركون﴾ (العنكبوت ٦٥). لقد بلغوا الى التوحيد، لكنه لم يزل مشوباً بشرك. مع ذلك فهو شرك ظاهري أكثر ممّا هو حقيقي، فهو من رواسب الماضي: ﴿ألا لله الدين الخالص! والذين اتّخذوا من دونه أولياء ـ ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى﴾ (الزمر ٣). فالقرآن يدعوهم الى الإخلاص في الدين والتوحيد، كما يدعـو محمداً نفسه: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق: فاعبد الله مخلصاً له الدين﴾ (الزمر ٢).
تلك هي حال أهل مكّة حين الدعوة القرآنية في نهضتهم الدينية والثقافية والسياسية والقومية: فهل من معجزة في توقيت الدعوة القرآنية الى التوحيد الخالص؟
وهنا نتساءَل: ما هو سر هذه النهضة الجاهلية الشاملة؟ قد يفسرونها بسيطرة مكّة على طرق المواصلات والتجارة الدولية، بعد ضعف اليمن وانشغاله بالحرب السجال بين الفرس والحبشة على احتلاله، ومحاولة الحبشة من اليمن احتلال الحجاز، في عام الفيل سنة ٦٧٠، سنة مولد محمد. لكن هذا السبب لا يفسّر كل مظاهر النهضة الجاهلية، خصوصاً من الناحية الدينية. والقرآن في خطاب اليهود والنصارى يشهد بوجودهم النافذ في مكّة والمدينة والحجاز كله. وفي تضامن القرآن والدعوة ﴿النصرانية﴾، حلُّ سرّ النهضة الجاهلية كلها بالحجاز.
لقد انقسم أتباع المسيح، على زمن الرسل الحواريين، الى شيعة وسُنّة. فالذين اهتدوا الى الإنجيل من الأمميّين سُمّوا ﴿مسيحيّين﴾ في العالم كله؛ والذين اهتدوا الى الإنجيل من بني إسرائيل دُعوا ﴿نصارى﴾. ومؤتمر الرسل الحواريين عام ٤٩ م. حرَّر ﴿المسيحيّين﴾ من شريعة موسى والختان شعارها، وترك النصارى من بني إسرائيل أحراراً لم يبتّ في أمرهم، فكانوا يقيمون التوراة والإنجيل معاً، والعماد المسيحي والختان الموسوي معاً؛ وقد أمّروا عليهم أساقفة آل بيت المسيح. وهكذا تشيّعوا لآل البيت وللتوراة. فكان النصارى من بني إسرائيل شيعة؛ وكان المسيحيون من سائر الامم سُنّة لاتباعهم سُنّة الرسل الحواريين في مؤتمرهم. وهذا كله موجود في سفر ﴿اعمال الرسل﴾ من العهد الجديد.
ولمّا ثار اليهود على الرومان في الثورة الأولى عام ٧٠ م، وفي الثورة الثانية عام ١٣٣، أجلى الرومان اليهود و﴿النصارى﴾ من اورشليم، فتشتتوا في البلاد. ووقع النصارى بين نارين: نار بني قومهم اليهود، ونار بني دينهم المسيحيين.
ولمّا اهتدت الدولة الرومانية الى المسيحية، فكاد لها اليهود، وكانوا الطابور الخامس للفرس عند العرب والروم، أمر القيصر ثاوضوسيوس بإجلاء اليهود وشيعة النصارى عن دولة الروم، في منتصف القرن الخامس. فهاجر اليهود الى فارس. ولم يبق أمام النصارى من بني إسرائيل سوى الحجاز، لأن أطراف الجزيرة العربية كانت في غالبيتها على المسيحية. فهاجر النصارى من بني إسرائيل الى الحجاز. وفي خبر سلمان الفارسي بالسيرة الهاشمية دلائل على انسحاب آخر النصارى الى الحجاز. وفي حديث ورقة بن نوفل قسّ مكّة النصراني، وخبر ترجمته الإنجيل من الحرف العبراني الى العربية ـ وهو الإنجيل الوحيد الذي كانوا يعترفون به، أي الإنجيل بحسب متى في حرفه العبراني، ولغته الأرامية كما دوّن في الأصل، قبل ترجمته الى اليونانية ـ الخبر اليقين على إقامة النصارى وتنظيمهم بمكّة جماعة دينية مستقلة، تدعو أهلها الى ﴿النصرانية﴾. وزعامة ورقة بن نوفل للجماعة النصرانية، وترجمة الإنجيل للعربية، البرهان على تغلغل ﴿النصرانية﴾، في قريش، وعلى سيطرتها بمكّة. فقد كانت السيدة خديجة، ابنة عم ورقة، سيدة تجار قريش، وكانت تجارتها تعدل تجارة قريش. ففي يد آل نوفل ﴿النصارى﴾ الزعامة الدينية والتجارية بمكّة حين البعثة المحمدية.
ففي مدة قرن ونصف توصّل النصارى من بني إسرائيل الى السيطرة الدينية والتجارية والثقافية على مكّة. وفي انخراط محمد في تجارة خديجة، بأمر عمه، ثم في تثقّفه بالتوحيد الكتابي و﴿النصراني﴾ بجوار ابن عمها ورقة قس مكّة، بعد زواجه منها، مدة خمس عشرة سنة قبل مبعثه، دلائل على ذلك.
ومن الدلائل على ذلك أيضاً ﴿بناء الكعبة على الطراز الحبشي، في سنة ٦٠٨ ميلادية، ووجود الصـور المسيحية التي كانت تحلّي باطنهـا، وقيـام معمار حبشي ببنائها﴾ ٣ . وبحسب السيرة النبوية كان من روم الشام، وقد أمروه: ﴿ابنها لنا ببناء أهل الشام﴾ أي على شكل كنيسة ـ وقد كانت الكعبة على عهد محمد ودعوته كنيسة مسيحية، للنصارى من بني إسرائيل فيها الحجر الأسود رمز المسيح الى جوار صورة مريم العذراء تحتضن السيد المسيح ٤ على عادة المسيحيين الشرقيين في كنائسهم. واشتراك المسيحيين والنصارى من بني إسرائيل في مقام الكعبة دليل على سيطرة الفريقين في مكّة وعلى الصراع الخفي بينهما، وهو من أسباب مقاومة قريش للدعوة الإسلامية ﴿النصرانية﴾.
فهجرة النصارى من بني إسرائيل الى مكّة والحجاز كانت سبب النهضة الجاهلية الشاملة، وسبب تخلّص أهل مكّة من الوثنية وتحولهم الى التوحيد. فقد أطلق هؤلاء النصارى على دعوتهم أولاً اسم ﴿الحنيفية﴾ أي الميل عن الوثنية لإيلاف قريش والعرب. وهذا سبب الترادف الذي نراه في المصادر في صفة ورقة بن نوفل تارة بالحنيف وتارة بالنصراني. وقبيل الدعوة القرآنية، ربما على زمن ورقة بن نوفل، وصفوا ﴿نصرانيتهم﴾ بالإسلام، وسموا أنفسهم ﴿المسلمين﴾، كما يتّضح من القرآن نفسه الذي يشهد مع الله وملائكته وأولي العلم قائماً بالقسط، أي الراسخين في العلم، ـ وهم النصارى من بني إسرائيل، بحسب القرائن القرآنية كلها ـ ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٧ ـ ١٨) ولذلك خالفه اليهود من أهل الكتاب ﴿من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم﴾ (آل عمران ١٨)، ولذلك أيضاً كانوا ﴿يقتلون الذين يأمرون بالقسط﴾ كما كانوا يقتلون النبيّين من قبلهم (آل عمران ٢٢). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني إسرائيل، بعد أن جاءَه الأمر بالانضمام اليهم وقراءَة قرآن الكتاب معهم: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩٠ ـ ٩١). فالمسلمون موجودون بمكّة قبل محمد وهو يُؤمر بالانضمام اليهم، ليشهد معهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾.
فالإسلام كان قائما بمكّة قبل محمد، وقد أُمر محمد برؤيا غار حرّاء بالهداية النهائية اليه والدعوة له (الشورى ٥٢ مع ١٥). وجاءَت الدعوة القرآنية نصرة ﴿للنصرانية﴾ على اليهودية في الحجاز، بنص القرآن القاطع: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: مَن أنصاري الى الله؟ وقال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود): فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين﴾ (الصف ١٤). لقد ظهرت النصرانية على اليهودية في الحجاز بفضل الدعوة القرآنية. فما إسلام القرآن سوى إسلام هؤلاء ﴿النصارى﴾.
هذا هو الواقع التاريخي والقرآني. فهل من معجزة في توقيت زمن الدعوة القرآنية؟ والرسالة المحمدية؟ إن القرآن دعوة ﴿نصرانية﴾.
بحث رابع
اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية؟
أجل إنه لفضل عظيم من الله تعالى على محمد باصطفائه للدعوة القرآنية بالإسلام. ولهذا الاصطفاء الفضل الكبير بنجاح الدعوة وسيطرتها على العرب. فقد عجزت اليهودية ثم المسيحية ثم النصرانية الإسرائيلية عن السيطرة التامة على الحجاز، عرين العرب. ولكن، بعد اصطفاء الله محمداً، فطرتُه ونشأته وزواجه من السيدة خديجة، وتلمذته على علاّمة مكّة ورقة بن نوفل مدة خمس عشرة سنة، جعلت محمداً أهلاً وقابلاً لاصطفاء الله له، ﴿واللّه أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام ١٢٤). فقلّما عرفت البشرية بطولة كبطولة النبي العربي.
وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها دبّرت له نشأة سليمة على الفصحى الخالصة. يقول الأستاذ العقاد ٥ : ﴿ثم عُهد به الى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعته في بادية قَومها بني سعد، على سُنّة العلية من أشراف مكّة، يبتغون النشأة السليمة واللغة الفصحى بعيداً من اخلاط مكّة وأهوائها. ولم يكن الطفل اليتيم على يسار لأن أباه مات في مقتبل الشباب، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفّلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة في قريش... ولبث معها الى الخامسة أو قبلها بقليل. وتكلّم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد، فذاك فخره بعد النبوّة اذ يعجب الصحابة من فصاحته، فلا يرى عليه السلام عجباً في فصاحة عربي نشأ في بني سعد، وتربى في الذؤابة من قريش﴾.
وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها، دبّرت له زواجه من السيدة خديجة التي كانت تجارتها تعدل تجارة قريش، فجاءَه معها المال والجمال وهناء البال. وتروي السيرة النبوية لابن هشام أن السيدة خديجة قد استشارت ورقة بن نوفل بصفته ابن عمها، وبصفته قسّ مكّة، في أمر زواجها من محمد. ﴿فقال ورقة: لئن كان هذا حقاً، يا خديجة، إن محمداً لنبيُّ هذه الأمة﴾ ٦ . يقول ورقة ذلك قبل مبعث محمد بخمس عشرة سنة. فهل كان ورقة نبيّاً ليعرف مصير محمد بعد خمس عشرة سنة؟ وبعد خمس عشرة سنة يرى محمد رؤياه في غار حرّاء، فيرجع الى خديجة ترتعد فرائصه. ﴿فقالت: أبشرْ يا ابن عم واثبتْ، من الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة﴾ ٧ . فهل كانت خديجة أيضاً نبية لتعرف قبل محمد أنه نبي هذه الأمة؟ ففي موافقة ورقة وخديجة على زواجها من محمد تصميم على تهيئة محمد لمهمة الدعوة، وتسلّمها من ورقة والقيام بها من بعده.
وقد بيّنا في كتاب آخر أن أميّة محمد قول ٨ لا نستطيع الأخذ به. ولا تضير الثقافة النبوّة، فقد كان موسى قبل مبعثه قد تثقّف بكل ثقافة المصريين في بيت فرعون، وثقافة الكنعانيين مدة أربعين سنة في مدين، قرب شيخها وكاهنها، وهو يرعى له أنعامه.
وفي حديث ورقة بن نوفل في صحيح البخاري وغيره، نرى صلة محمد بورقة وتلمذته للقس العلامة مدة خمس عشرة سنة، من زواجه بخديجة الى مبعثه في سن الأربعين. وذلك في قوله في ختام الحديث: ﴿وما نشب أن توفّي ورقة وفتر الوحي﴾. فهو يجعل وفاة ورقة سبب فتور الوحي. وما هذا سوى دليل على تأثير ورقة البالغ في محمد ودعوته.
ويأتي القرآن بالقول الفصل، فيشهد أن محمداً درس الكتاب ليعلمه للعرب: وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون﴾ (الأنعام ١٠٥). فهو لا يرد التهمة، وسكوته عنها وعدوله الى بيان غاية الدرس برهان على صحة واقع الدرس. غفلوا هم عن دراسة الكتاب (الأنعام ١٥٦) فدرسه محمد ليدَرّسهم إياه، ﴿ويعلّمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل (البقرة ١٢٩؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢)، ﴿ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ (البقرة ١٥١). لذلك كان يستعلي على المشركين بعلم الكتاب المنير وهداه: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير﴾ (الحج ٨؛ لقمان ٢٠). ويتحدى المشركين بقوله: ﴿أم لكم كتاب فيه تدرسون﴾ (القلم ٣٧)، فهو عنده الكتاب فيه يدرس. ويتحداهم أيضاً بقوله: ﴿أم عندهم الغيب فهم يكتبون﴾ (القلم ٤٧؛ الطور ٤١)؛ فهو عنده الغيب في الكتاب يكتب منه. وهذا ما لاحظه أهل مكّة وقالوه له: ﴿وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً﴾ (الفرقان ٥). وكان استعلاؤه الدائم على المشركين قوله: ﴿وما آتيناهم من كتب يدرسونها﴾ (سبأ ٤٤) ممّا يوحي بأنه هو كان له كتب يدرسها.
أجل إن محمداً على أثر رؤيا في غار حرّاء اهتدى نهائيّاً الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢)؛ وأُمر بالانضمام الى المسلمين، النصارى من بني إسرائيل، يدعو بدعوتهم الى قرآن الكتاب: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢)؛ وكان يشهد معهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩).
وهذا الواقع التاريخي والقرآني يشهد بأنه ليس من معجزة في اصطفاء محمد للدعوة القرآنية بالإسلام، إلاّ الاصطفاء والرؤيا؛ وهذه حال كل أنبياء الله. فما عدا الاصطفاء بالرؤيا للإيمان بالكتاب، (الشورى ٥٢)، والأمر بالدعوة له ولاسلامه (النمل ٩١)، كان محمد في شخصيته عبقرية دينية، وعبقرية سياسية، وعبقرية دبلوماسية، وعبقرية عسكرية، وعبقرية إدارية، وعبقرية تشريعية، وعبقرية أدبية ٩ . وهذه العبقريات هي التي أهلته للقيام بالدعوة القرآنية خير قيام. وهذه العبقريات التي قد لا تجتمع لرجل ليست من الوحي والتنزيل في شيء. لذلك نستطيع أن نقرّر أن محمداً ليس معجزة من معجزات القرآن، ولا وجهاً من وجوه إِعجازه. ولا دليلاً من أدلة هذا الإِعجاز ١٠ .
خاتمة
معجزات ليس النبي ولا القرآن بحاجة اليها
أجل ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾. وقد فطر محمداً على مجموعة من العبقريات، تجعله يقوم بمجموعة من البطولات. ولكن اصطفاء الله للمصطفى لا يجعله معجزة شخصية ﴿من معجزات القرآن﴾. وليس في توقيت الرسالة المحمدية، والدعوة القرآنية من معجزة زمانية. وليس في اختيار لسان العرب للقرآن العربي من معجزة لغوية. وليس في قيام الدعوة القرآنية بالحجاز في جاهلية العرب من معجزة مكانية. إن القرآن والحديث والسيرة تشهد بأن بيئة القرآن والنبي كانت ناضجة لقيام محمد بالدعوة القرآنية، بعد فضل الله عليه باصطفائه لها. فليس من معجزة للقرآن في بيئة النبي والقرآن. انما إِعجاز القرآن في ذاته، بالنسبة الى المشركين.
الجزء الثاني
الإِعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها
توطئة
الشمول والكمال في الدعوة القرآنية
من الإِعجاز في دعوة دينية شمولها وكمالها. وهم يرون في الدعوة القرآنية شمولاً في النبوّة والعقيدة، جاء مصحّحاً متمّماً لكل نبوّة وعقيدة سبقتها، شمولاً في موضوع الدعوة، فالإسلام دين ودنيا، دين ودولة، دنيا وآخرة؛ شمولاً في عالمية الدعوة، وكانت كل دعوة قبلها قومية. إن ﴿عقيدة الشمول﴾ هي الصفة التي امتازت بها الدعوة الإسلامية ١١ . فكمالها في شمولها وفي عالميتها.
وقد فات العقاد حقيقة الواقع القرآني. فقومية الدعوة القرآنية ظاهرة في تصاريحها: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ (الزخرف ٤٤)؛ ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون﴾ (الأنبياء ١٠)، ﴿بل آتيناهم بذكرهم، منهم عن ذكرهم معرضون﴾ (المؤمنون ٧٢). فالدعوة القرآنية قومية عربية؛ وانتهت عالمية بالفتوحات الإسلامية. والشمول محدود بأمر الوحي لمحمد: ﴿أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده﴾ (الأنعام ٩٠)؛ ومقيّد ﴿بالمثـْل﴾ الذي يتّبعه: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠). والكمال يقتصر على الدعوة ﴿النصرانية﴾: فمحمد يشهد بشهادة ﴿أولي العلم قائماً بالقسط... إن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فهو يمنع الجدل مع أهل الكتاب النصارى إلاّ بالحسنى، وهذه الحسنى هي الأمر لأمته أن يقولوا: ﴿آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون﴾ (العنكبوت ٤٦)، فالإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد. فأين الشمول والكمال في الدعوة القرآنية؟
بحث أوّل
الشمول في التصحيح والتتميم
يقول العقاد ١٢ في كتابه للمؤتمر الإسلامي: ﴿ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصحّحة متمِّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو مذاهب الفلسفة، ومباحث الربوبية... والواقع أن النبوّة الإسلامية جاءَت مصحِّحة متمِّمة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوّة، كما كانت عقيدة الإسلام الالهية مصحّحة متمّمة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله﴾.
وفات الأستاذ المعلم أن الواقع القرآني ينقض قوله في هذين التصحيح والتتميم. إن القرآن صريح بأن الكتاب ﴿إمامه﴾: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً﴾ (الأحقاف ١٢. كذلك هود ١٧). فميزة القرآن، بنصه القاطع، أنه تصديق الكتاب؛ وفي هذا التصديق ليس عنده من جديد سوى اللسان العربي. فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم. والقرآن يستعلي على المشركين بالكتاب المنير، الإنجيل: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير﴾. وهو يردّ ذلك في مكّة (لقمان ٢٠) وفي المدينة (الحج ٨). فمحمد يجادل في دعوته بهدى وعلم الكتاب المنير. فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم. فالتوراة والإنجيل هما دين موسى ودين عيسى اللذين شرعهما للعرب ديناً واحد، ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله، ونحن له مسلمون﴾ (البقرة ٢٨٥ قابل البقرة ١٣٦؛ آل عمران ٨٤؛ النساء ١٥٠). يقول ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الـدين ولا تتفرّقوا فيه﴾ (الشورى ١٣). فإقامة توراة موسى وإنجيل عيسى معاً هي الإسلام في القرآن، وهي الدين الذي شرعه الله للعرب. فليس من جديد في القرآن، بل ﴿هذا ذكر من معي وذكر مَن قبلي﴾ (الأنبياء ٢٤). فليست الدعوة القرآنية مصحّحة متممة لدين التوراة والإنجيل، بل تبليغ له الى العرب.
إنّ ﴿الكتاب والحكمة﴾ في اصطلاح القرآن كناية عن التوراة والإنجيل (٦٣:٤٣؛ ٤٨:٣؛ ٥٤:٤ و١١٣؛ ١١٠:٥): ﴿لقد مَنَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران ١٦٤)؛ ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم، ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ (البقرة ١٥١)؛ ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة ٢). لاحظ دقة التعبير وتواتره: فهو أولاً ﴿يتلو عليهم آيات الله﴾ في الكتاب الإمام وفي الكتاب المنير؛ ثم يفصّلها لهم بسور القرآن؛ وبذلك يعلمهم الكتاب والحكمة، التوراة والإنجيل. فليس القرآن العربي سوى تعليم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل. فليس فيه تصحيح ولا تتميم للتوراة والإنجيل.
والأمر لمحمد صريح بالاقتداء بأهل الكتاب والحكمة: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِه﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠) على محمد أن يقتدي بهدى أهل الكتاب والحكمة ـ لاحظ استعمال التعبير العبراني الأرامي بحرفه ﴿الحُكم﴾ أي الحكمة، دليلاً على التبعية في التعبير والتفكير ـ فلا يكون ما أتى به مصحّحاً متمّماً لكل ما تقدمه من عقائد بني الانسان في الإله.
وأهل ﴿الكتاب والحكمة﴾ معاً هم المسلمون الذين أُمر أن ينضمّ اليهم وأن يتلو قرآن الكتاب معهم، على طريقتهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢). فهو يتلو على العرب قرآن الكتاب مع المسلمين، النصارى من بني إسرائيل، الذين عندهم ﴿مثل﴾ القرآن العربي: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠). فليست الدعوة القرآنية تصحيحاً ولا تتميماً لما سبقها. إنما الدعوة القرآنية هي الدعوة ﴿النصرانية﴾ باسمها ومضمونها. فهو يسمّي هؤلاء ﴿المسلمين﴾ من قبله أولي العلم المقسطين، أو الراسخين في العلم (آل عمران ٧، النساء ١٦٢). ويصرّح: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وهذا الإسلام هو تنزيل الله على إبراهيم وموسى وعيسى، ﴿لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون: ومَن يبتغ غير الإسلام (هذا) ديناً فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ (آل عمران ٨٤ ـ ٨٥). فإسلام النصارى ﴿المسلمين﴾ هو اسلام القرآن نفسه: فما جاءَت عقيدة الإسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله؛ فهي اسماً وعقيدة مِمّن يسميهم ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾، ﴿الراسخين في العلم﴾، الذين أُمر بأن ينضمّ اليهم، ويقتدي بهداهم.
فأين الشمول بالتصحيح والتتميم في النبوّة والعقيدة؟ فالقرآن يصرح بأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧)، وليس فيه من جديد سوى التصديق لساناً عربياً: ﴿وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً﴾ (الأحقاف ١٢). هذه الصفات تقضي على مقولة الشمول، والقول بالكمال، فكل تحدّيه ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩).
بحث ثان
الشمول في موضوع الدين
تلك المواقف القرآنية الصريحة، وغيرها كثير، تحدّد الشمول والكمال في موضوع الدين في الإسلام والدعوة القرآنية. إنه شمول وكمال مقصوران على ﴿تفصيل الكتاب﴾، وتعليم ﴿الكتـاب والحكمة﴾ للعرب، وتصديق الكتـاب الإمام، والكتاب المنير بين العرب: ﴿وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً﴾.
فمهما كان الشمول في الإسلام، ومهما كان الكمال في الدعوة القرآنية، فهما شمول وكمال من إسلام أولي العلم المقسطين، والراسخين في العلم، الذين أُمر محمد بأن يقتدي بهداهم (الأنعام ٩٠).
أولاً: الشمول في توحيد شئون الدنيا والآخرة
يقول العقاد ١٣ : ﴿كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة﴾. فالإسلام يهتم بشؤون الدنيا كما يهتم بشؤون الآخرة. وفي هذا كمال وشمول. لكن هل الاهتمام بشؤون الدنيا من أغراض الوحي والتنزيل؟ إن الله تعالى خلق العقل، وجعل في كتاب الخلق ميداناً للعقل يتدبّر به الإنسان أمور دنياه، ويتدبرها بحسب تطور البشرية في الحضارة والثقافة. فالدنيا عالم الشهادة لا يحتاج الى وحي يكشفه لنا. فالعقل هو نبي كتاب الخلق يقرأه كلما اتّسع ادراكه واتسعت معرفته.
والقرآن يقرّر: ﴿إن النفس الأمّارة بالسوء﴾ (يوسف ٥٣)؛ ﴿لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين﴾ (التين ٤ ـ ٥). فبانقلاب الإنسان من أحسن تقويم الى أسفل سافلين، صارت فيه النفس أمّارة بالسوء. هذا التعليم القرآني هو تعليم المسيحية في الخطيئة الموروثة عن آدم، في ميلها الفطري الى السوء.
فهل الشمول والكمال في التحريض على الزهد في الدنيا، أم في التحريض على الأخذ بالنصيب من الدنيا: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا﴾ (القصص ٧٧) ﴿إن النفس الأمّارة بالسوء﴾، فهل من الكمال والشمول تحريضها على الاستمتاع بطيبات الدنيا، بتشريع يزداد في التحريض: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم﴾! (البقرة ١٧٢) ﴿يسألونك: ماذا أُحلَّ لهم؟ ـ قل: أُحلَّ لكم الطّيبات﴾ (المائدة ٤) ﴿اليوم أحلَّ لكم الطّيبات﴾ (المائدة ٥) ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أُحلَّ لكم، ولا تعتدوا (أمر الله) إن الله لا يحب المعتدين﴾ (المائدة ٨٧). قال الجلالان: ﴿نزل لمّا هم قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام (في الليل للصلاة)، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفراش. (ولا تعتدوا) ولا تتجاوزوا أمر الله﴾. ﴿وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيباً﴾ (المائدة ٨٨) فقد نسخ القرآن المدني بهذه الدعوة لاستباحة الطّيبات من الدنيا، دعوة القرآن المكي الى الزهد.
ومن طيبات الدنيا المرأة: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء: مثنى وثلاث ورباع ـ فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذلك أدنى ألاّ تعولوا﴾ أي تجوروا (النساء ٣). إباحة الجمع بين أربع نساء معاً من طيبات الحياة. أمّا التسري بملك اليمين من الإماء فلا حدّ له ولا قيد. والحدّ في أربع نساء معاً يخرقه إباحة الطلاق، فيعود الزواج بالنكاح والطلاق بلا حد ولا قيد. أماّ تعبير ﴿ما﴾ بحق النساء، وهو يُستعمل لغير العاقل، فالخوف أن يستشفّ من أن المرأة شيء لمتعة الرجل.
ومن تسهيل الدين في سبيل الدنيا: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج ٧٨).
فهل في رفع الحرج من الدين في طيبات الدنيا، وإباحة الطّيبات من الرزق ومن النساء بالطلاق والتسري، وأخذ النصيب من الدنيا، هو من الشمول والكمال في جمع شؤون الدنيا الى شؤون الآخرة؟
ثانياً: الشمول في الجمع بين الجسد والروح في الدين
يقول العقاد ١٤ : ﴿كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، وبين الجسد والروح؛ ولا يعاني هذا الانفصام الذي يشق على النفس احتماله، ويحفزها في الواقع الى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام... وينبغي أن نفرّق بين الاعتراف بحقوق الجسد وانكار حقوق الروح، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم انكار الروحانية... إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح﴾.
هنا يعرِّض العقاد بالموسوية وماديتها على حساب الروح، وبالمسيحيّة وروحانيتها على حساب الجسد، كما يقولون. والشمول يجده في الإسلام الذي يعترف بحقوق الجسد، كما يعترف بحقوق الروح.
أجل يقول الإنجيل: ﴿لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون! ولا لأجسادكم بما تلبسون﴾ (متى ٢٥:٦). لكن هذا لا يعني التنكّر لحقوق الجسد، بل الفصل كله تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد: يستفتح بالمبدأ: ﴿لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال﴾ لأن عبادة المال وثنية على حساب عبادة الله: ﴿لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين: فإنه إمّا يبغض الواحد ويُحب الآخر، أو يلزم الواحد ويرذل الآخر﴾ (متى ٢٤:٦). ويستنتج من ذلك: ﴿من أجل ذلك أقول لكم: لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما تلبسون: أليست النفس أعظم من الطعام، والجسد أعظم من اللباس﴾ (متى ٢٥:٦) فالقضية قضية تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد، وحق الروح أفضل من حق الجسد. فالذي يقوت طير السماء، ويلبس زنابق الحقل، ﴿كم بالأحرى يلبسكم أنتم، يا قليلي الإيمان؟ فلا تقلقوا إذن قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ ـ فهذا كله يطلبه الأمّيون، وأبوكم السماوي عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله﴾ (متى ٢٦:٦ ـ ٣٢). والنتيجة المطلوبة هي هذا التعليم السامي الذي يضع شؤون الروح وشؤون الجسد كلاًّ في مكانها: ﴿فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبِرَّه، وهذا كله يُزاد لكم﴾ (متى ٣٣:٦). ففي سبيل الله يجب الاهتمام أولاً بالروح، من دون اهمال للجسد؛ لأن حق الروح علينا أفضل من حق الجسد. وهذا التقييم ليس انكاراً لحق الجسد، ولا يجعل انفصاماً في الانسان يشق عليه احتماله، فيهيم بين الحيرة والانقسام. لكن هذا التقييم يعصم الانسان من الانزلاق في شهوات الجسد على حساب الروح.
فالروح قائم في الجسد، غارق في الحسّ وفي دنيا المحسوسات، حتى صارت ﴿النفس أمّارة بالسوء﴾؛ فقد ﴿زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ـ ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب﴾ (آل عمران ١٤).
فليس الانسان بحاجة الى تذكيره بحقوق الجسد، فإنه متكالب عليها. إنما هو بحاجة الى حمله على القيام بحقوق الروح في سبيل الله واليوم الآخِر: ﴿وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو، وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون، أفلا تعقلون﴾ (الأنعام ٣٢). فليس الانسان بحاجة الى تخفيف في أحكام الجسد، ليلة الصيام: ﴿أحلَّ لكم، ليلة الصيام، الرَّفَث الى نسائكم: هنَّ لباس لكم، وأنتم لباس لهن. علم الله أنكم كنتم تختانون (تخونون) أنفسكم، فتاب عليكم وعفا عنكم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ (البقرة ١٨٧). وهكذا يُبطل الليل ما حرّم النهار.
وليس بحاجة الى تخفيف في كيفية مباشرة النساء. قال: ﴿فإذا تطهّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله﴾ (البقرة ٢٢٢). فاعترض عمر ومَن معه فنزل للحال: ﴿نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم﴾ (البقرة ٢٢٣). وفي (أسباب النّزول) نقل السيوطي إنها ﴿رخصة في إتيان الدير﴾ ونقل أيضاً أن الأنصار كانوا ﴿يرون لأهل الكتاب فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة. وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك؛ وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً، ويتلذّذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرت عليه وقالت: إنّما كنّا نؤتى على حرف. فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم﴾!
فميزة القرآن التخفيف من سنن أهل الكتاب: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم... يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً﴾ (النساء ٢٦ و٢٨).
إن مسايرة الضعف الانساني، في أحكام الله، للتخفيف منها، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟ وهل تخفيف أحكام الله في سبيل حقوق الجسد، من الإِعجاز في الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد؟ أجل إن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية، في الدعوة القرآنية. أجل أيضاً ﴿لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح﴾! لكن هل يوصف بالشمول والكمال دين يركّز دعوته على حقوق الجسد، كما يركّزها على حقوق الروح؟ أليس الشمول والكمال في تقييم حقوق الروح والجسد في سلّم القِيم؟
إن في رفع الحرج في الدين ﴿بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح﴾ خطر على الروح وعلى الآخرة: ﴿إن النفس لأمّارة بالسوء﴾. وهذا ما تنبّه له الأستاذ العقاد ١٥ في كتابه الى المؤتمر الإسلامي: ﴿في تنبيه المتدين الى حقيقتين لا ينساهما الانسان في حياته الخاصة أو العامة إلاّ هبط الى درك البهيمية في هموم مبتذلة لا فرق بينهما وبين هموم الحيوان الأعجم، إن صح التعبير عن شواغل الحيوان الأعجم بكلمة الهموم. ﴿إحدى الحقيقتين التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبّه اليها ضمير الانسان على الدوام هي وجوده الروحي الـذي ينبغي أن تشغله على الدوام مطالب غير مطالبه الجسدية وشهواته الحيوانية. ﴿والحقيقة الأخرى التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبه اليها ضميره، هي الوجود الخالد الباقي، الى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية. ولا مناص من تذكر الفرد لهذا الوجود الخالد الباقي، إذا أُريد فيه أن يحيا حياة تمتد بآثارها الى ما وراء معيشته اليومية، ووراء معيشة قومه، بل معيشة أبناء نوعه﴾.
أليس هذا هو التقييم الذي أراده الإنجيل بتفضيل الروح على الجسد، مع اعطائه حقه؛ وتفضيل الآخرة على العاجلة، مع أخذ النصيب الصالح منها؟
فليس الشمول والكمال في جمع وتوحيد شؤون الجسد والروح معاً.
ثالثاً: الشمول في جعل الإسلام ديناً ودولة معاً
يقولون: ومن الشمول في الإسلام أنه دين ودولة معاً؛ فهو نظام حياة كامل. ففي المدينة: ﴿أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعملية التي يجب أن تقوم عليها الدولة﴾ ١٦ ؛ ﴿وانه تعرَّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرَّض للأعمال التعبدية﴾ كما نقلوا عن الامام حسن البنّا ١٧ .
لكن اذا كان القرآن المدني تشريعاً لبناء الدولة، وجهاداً لحمايتها، فيكون كله تنزيلاً لقيام دولة أكثر مما هو وحي لقيام دين. وهل البشر بحاجة الى وحي وتنزيل لقيام الدولة، أم بحاجة الى كلام الله لقيام الدين؟ فليس الكمال في تحويل الدين الى دولة دينية، يكون الدين فيها رهين الدولة، وعرضة لتقلباتها. وليس الشمول في توحيد الدين والدولة في عقيدة واحدة ونظام واحد؛ لأن الدولة قومية، والدين عالمي فوق القوميات والدول، ممّا يجعل صراعاً مستديماً بين الدين والقومية، وبين الدين والدولة؛ وممّا يجمّد الدولة على أحكام للدين نزلت في بيئة بدائية.
يقول العقاد ١٨ : ﴿ومن هنا (شمول العقيدة للدين والدولة) لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر... وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين، وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله﴾.
وفات الأستاذ أن الإنجيل ﴿لم يذهب مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر﴾، بل مذهب التمييز لاعطاء قيصر حقه في الحكم واعطاء الله حقه في الدين، حتى ولو كان قيصر خليفة الله في أرضه، وأمير المؤمنين. فالتمييز بين الدين والدولة ـ لا التفرقة ـ هو الكمال لأنه يُعطي كل ذي حق حقه. فقد يأتي يوم يكون فيه قيصر أحمر، لا يستطيع المتدين تطويع قيصر لأمر الله. وفي تطور البشرية قد يأتي يوم تصطدم فيه أحكام الدين مع ضرورات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتصطدم الدولة مع الدين في تشغيل رأس المال بالبنوك كما في التجارة؛ وفي قطع يد السارق وقد يكون السارقون في الأمة كثيرين؛ وفي قبول تعدد الأديان والمذاهب في الدولة الواحدة؛ وفي ضرورة تحديد النسل ﴿خشية املاقٍ﴾ وارهاقٍ لطاقات الأمة؛ وضرورة تحديد الطلاق ووحدة الزوجة. ففي وحدة الدين والدولة تقييد لتطور الأمم والدول، لأن أحكام الدين لا ينسخها إلاّ لله، أمّا أحكام الدولة فيضعه دستورها حسب حاجاتها وطاقاتها، فيقوم دستور مكان دستور.
فليس الشمول، ولا الكمال في جمع الدين والدولة معاً، بل في تمييز الدين عن الدولة، وفي تنزيل أحكام الدين دستورية فوق الزمان والمكان، لا قانونية مرهونة بزمان ومكان. فلن تقبل البشرية على الدوام أن يكون ﴿حظ الذكر مثل حظ الانثيين﴾! ولا تكون الأمة طبقات: ﴿وهو الذي... رفع بعضكم فوق بعض درجات﴾ (الأنعام ١٦٥)؛ ولا أن يكون الطلاق في عصمة الرجل يجري فيه على هواه...
إن الكمال في تمييز الدين عن الدولة، لا في دمج الدين بالدولة. ودمج الدين بالدولة شمول مشبوه.
بحث ثالث
الكمال في تحرير الدين من كل سلطة في الدين
يقولون: إن الدين علاقة عبد بربه. وكلما خلا الدين من واسطة بين العبد وربه كان الدين كاملاً في ذاته، شاملاً في المتعبدين به. فهل خلوّ الدين من سلطة بين العبد وربه كمال أم نقص؟
إن السلطة التي تفرض ذاتها بين العبد وربه في الدين شبهة على هذه السلطة وعلى هذا الدين. أمّا السلطة التي يقيمها الله حتى تفقّه الناس في الدين، وحتى تقيم أحكام الدين، وحتى ﴿كلما عتق الدين جدّدوه﴾ ـ هذا التأسيس كمال لا نقص.
فالقرآن نفسه يشرع تخصّص فرقة بالفقه بالدين والدعوة له: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة ـ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ـ ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم﴾ (التوبة ١٢٢). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيمة كل مؤمن؛ لكن القرآن نفسه يشرع تخصّص أمة من المؤمنين بهذا الأمر: ﴿ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون﴾ (آل عمران ١٠٤). بهذا العمل يرى في المسلمين خير أمة أُخرجت للناس (آل عمران ١١٠). ويرى في رهبان عيسى ﴿أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون؛ يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين﴾ (آل عمران ١١٣ ـ ١١٤)؛ إنهم الصالحون، عباد الرحمان، الذين يطلبون: ﴿وجعلنا للمتقين إماماً﴾ (الفرقان ٧٤).
فتأسيس الأئمة في الأمة تدبير الهي، به اهتدى محمد نفسه الى الإيمان بالكتاب ولقائه: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه. وجعلناه هدى لبني اسرائيل. وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). وبنو إسرائيل يهود ونصارى؛ وبما أنه على خلاف دائم مع اليهود، فهو يقصد هنا أئمة النصارى: فالله جعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى. لكن القرآن الذي أمر بتخصص أمة من آله بالتفقّه في الدين وتفقيه الآخرين، لم يجعل لهم سلطة على أحكام الدين وشعائره، كما فعل السيد المسيح، ليفسّروها للناس جيلاً بعد جيل. لذلك لمّا شعرت الأمة، بعد النبي، بحاجة الى أحكام تفصّل القرآن، لجأت الى السُنّة في الحديث: فوضعوا آلاف الأحاديث على لسان النبي. فانقسمت الأمة الى سُنّة تقول بالكتاب والسنة، والى شيعة تقول بالكتاب وحده من دون السنة. ولمّا لم تكف السنة في تطوّر الأمة لتفصيل أحكام الدين، لجأوا أيضاً إلى اجماع الأئمة كمصدر للتشريع، من دون أن يكون له صفة الإلزام في الدين. ولمّا لم تكف السنة ولا الاجماع، لجأوا الى الرأي والقياس، فقامت المذاهب الأربعة أو الخمسة في الفقه. وهذا التطور في تلمّس مصادر التشريع في الإسلام برهان على ضرورة قيام سلطة في الأمة لإقامة أحكام الدين وشعائره.
فهل السلطة في الدين واسطة بين العبد وربه؟ قد يكون فيها شيء من ذلك. ولكن أليست الملائكة الحفظة واسطة بين الله وعبيده، وهو وحده الحفيظ العليم؟ أليست النبوّة أيضاً واسطة بين الله والناس لهداية الناس الى الله؟
أليست الخليقة نفسها واسطة بين الخالق والمخلوق، ليعرف المخلوق من الخليقة خالقه؟ وهذا برهان التوحيد كله في القرآن! فليس الكمال في الدين تجريده من سلطة يتيه بدونها الشعب في دينه، والبشرية ستظل في معظمها شعباً الى ما شاء الله.
يقول العقاد ١٩ : ﴿لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناساً من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود الى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة... لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواءٌ في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب، الى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة. فلمّا ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يُصلّي حيث شاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهّان﴾.
العبادات لها شعائر في كل دين، وهي توقيفيّة، قد يقوم بها المؤمن بنفسه، أو يساعده فيها مَن انتدب نفسه لها، أو اختاره الله بسلطة لها، بالنص والوصية. وعند أهل الكتاب ليس ﴿المعبد والكاهن والايقونة﴾ من مقوّمات العبادة في حدّ ذاتها. فالإنجيل صريح بأن العبادة فرض شخصي يقوم بها المؤمن بنفسه، في كل زمان ومكان. وقد علم المسيح اتباعه صلاة ﴿أبانا الذي في السماوات﴾ كفاتحة لكل صلاة. لكن المسيح رسم مراسمَ ورموزاً دينية، هي شعائر المسيحية التي تميّزها، وأوقف على صحة القيام بها تطهيراً وتقديساً؛ فلا بدَّ لها بمن يقوم بها، وهذا هو الكاهن المسيحي الذي أوتي سلطاناً من المسيح للقيام بتلك المراسم والعبادات التوقيفية؛ ولا بدَّ لها من مكان تُقام به، وهو المعبد. فالحياة الدينية الخاصة ليست مقيّدة بمعبد وكاهن وأيقونة، إنما الحياة الدينية العامة الاجتماعية هي التي تقتضي الكاهن والمعبد. وكل حياة اجتماعية منظّمة، دينية أم مدنية، لا بدَّ لها من إمام يؤمُّها. وقيام إمام بالوصية والنص أفضل من الحرية الفوضوية.
والإسلام الذي يزعمونه دين التحرير من المراسم، قد انتحل مراسم الحج الى كعبة مكّة، وتركها على حالها كما في وثنية العرب، مع تغيير روحها بالتوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر. فهل في مراسم الحج كمال أفضل من كمال غيره؟ وما معنى الحج الى بيت يلثمون فيه حجراً؟ وما معنى هذا الحجر في التوحيد الخالص؟ والصلاة الإسلامية وكيفياتها أليست ملأى بالمراسم؟ وكيف لمس المتوضئ للصلاة ليد امرأة للسلام ينقض الوضوء؟ إلاّ أن تكون المرأة المسلمة نَجَساً ينقض لمس يدها الوضوء؟
لكن العقّاد ٢٠ يعود، في كتابه الى المؤتمر الإسلامي، فيقول في العبادات ومراسمها: ﴿لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب الى العقل من المجادلة فيها. لهذا يقل الخلاف بين أصحاب الأديان في شعائر العبادة، حيث يكثر في كل كبيرة وصغيرة من شؤون العقائد الفكرية أو عقائد الضمير﴾. وهكذا فلم يتحرر الإسلام نفسه من المراسم والشعائر في العبادات، ولم يتحرّر من كل سلطة في الدين: ﴿يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (النساء ٥٩) وسلطة بالنص والوصية أفضل من إمامة في العلم والدين بلا نص ولا وصية تكون أقرب الى الحرية الفوضوية، منها الى النظام الحر المنتظم.
فليس الجمع والتوحيد في شؤون الدنيا والآخرة، وفي مشاكل الجسد والروح، وفي مسائل الدين والدولة، وتحرير الدين من كل سلطة مع بقاء دولة الإسلام بسلطة، من الشمول، برهان الكمال. إنما الدين سبيل الى الله، لا الى الدنيا أو الجسد أو الدولة. وفي السبيل الى الله من الأفضل والأكمل تمييز الدين عن الدولة وتمييز الروح عن الجسد، وتمييز الآخرة عن الدنيا ـ التمييز، لا التفرقة. وذلك لئلا يتيه الدين في متاهات الجسد والدولة والدنيا؛ وتصير الدنيا والدولة والجسد قيوداً وحدوداً للدين والروح والآخرة. فلنُطلق الدين والروح من تلك العُقالات، التي ليست في مقياس الكمال، وقسطاس الشمول، من معجزات.
بحث رابع
الدعوة القرآنية قومية أم عالمية؟
يستفتح القرآن بتسمية الله تعالى ﴿الرحمان الرحيم، رب العالمين﴾ (الفاتحة)؛ ويقول عن نفسه: ﴿إن هو إلاّ ذكر للعالمين﴾ (١٠٤:١٢؛ ٨٧:٣٨؛ ٢٧:٨١؛ ٥٢:٦٨)؛ ويقول في نبيّه: ﴿قلْ، يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً﴾ (الأعراف ١٥٨)، ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء ١٠٧)، ﴿وما أرسلناك إلاّ كافةً للناس﴾ (سبأ ٢٨)، ﴿قلْ، يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين﴾ (الحج ٤٩)، ﴿يا أهل الكتاب قد جاءَكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا: ما جاءَنا من بشير ولا نذير! ـ فقد جاءَكم بشير ونذير، والله على كل شيء قدير﴾ (المائدة ١٩). ألا تكون هذه التصاريح دلائل على عالمية الدعوة القرآنية؟ إنما هي أساليب بيانية قامت عليها شبهة العالمية في الدعوة القرآنية. إنما الدعوة القرآنية دعوة قومية، بنص القرآن القاطع في تصاريحه الصريحة، ومبادئه المتواترة.
أولاً: تصاريح القرآن في قومية دعوته ـ سبع مجموعات
١) ثلاثة تصاريح تحصر رسالة محمد في ﴿أم القرى﴾ وما حولها
يصرّح في سورة الأنعام: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك، مصدّق الذي بين يديه، ولتنذير أمّ القرى ومن حولها﴾ (٩٢). فالدعوة القرآنية مكية حجازية. ويصرح في سورة الشورى: ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ (٧). فالدعوة القرآنية مكية حجازية. ويصرّح في سورة القصص: ﴿وما كان ربك مهلك القرى، حتى يبعث في أمّها رسولاً﴾ (٥٩). فمحمد هو أولاً رسول مكّة، ثم رسول قراها؛ فدعوته مكية حجازية والتصريح المتواتر بحصر الدعوة ﴿بأم القرى وما حولها﴾ (الأنعام ٩٢) يفسّر ما تشابه في قوله ﴿وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به، ومَن بلغ﴾ (الأنعام ١٩). فالآية (٩٢) من السورة نفسها تفسر ما تشابه في الآية (١٩) من السورة ذاتها.
٢) خمسة تصاريح تجعل القرآن ذكراً قوميّاً
في الزخرف: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ (٤٤). فالقرآن دعوة قومية. وفي المؤمنين: ﴿بل آتيناهم بذكرهم، فهم عن ذكرهم معرضون﴾ (٧١). فالقرآن ذكر يخص العرب من دون سواهم، فهو دعوة قومية. وفي الأنبياء: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون﴾ (١٠). فالقرآن ذكر الى العرب، نزل اليهم وحدهم، فهو دعوة قومية. وفي الأنبياء أيضاً: ﴿هذا ذكر مَن معي، وذكر من قبلي﴾ (٢٤). فالقرآن ذكر مَن مع محمد من العرب، يخصهم ولا يخص سواهم، فهو دعوة قومية. وفي الطلاق: ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيِّنات﴾ (١٠ و١١). فالقرآن قومي، والرسول قومي. فهذا التصريح الصريح المتواتر برهان على عقيدة قائمة في قومية الدعوة القرآنية، وتزيل بتخصيصها ما تشابه في قوله: ﴿إن هو إلاّ ذكر للعالمين﴾.
٣) سبعة تصاريح تجعل القرآن عربيّاً للعرب
في يوسف: ﴿تلك آيات الكتاب المبين: إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون﴾ (١ ـ ٢). فالكتاب المبين نزل قرآناً عربيـاً لكي يعقله العرب؛ فهو دعـوة قومية. وفي الرعد: ﴿والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك؛ ومن الأحزاب من ينكر بعضه... وكذلك أنزلناه حُكْما عربيّاً، ولئن اتبعت أهواءَهم بعد ما جاءك من العلم، ما لك من الله من وليّ ولا واق﴾ (٣٦ ـ ٣٧). إنه يعدّد المخاطبين بالقرآن، أهل الكتاب العرب، وأحزاب القبائل العربية، والمشركين العرب الذين يحذره من ﴿أهوائهم﴾. فلهؤلاء جميعاً من مؤمنين ومترددين وكافرين ﴿أنزلناه حكماً عربيّاً﴾ أي حكمة عربية للعرب. وفي طه: ﴿وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً، وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتقون، أو يحدث لهم ذكراً﴾ (١١٣). نزل قرآناً عربياً ليحدث للعرب ذكراً ولعلهم يتقون. وفي الزمر: ﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلّهم يتقون﴾ (٢٧ ـ ٢٨). إن صفته، ﴿قرآناً عربياً﴾ تحدّد معنى ﴿الناس﴾ النازل اليهم، لعلهم يتذكرون، ولعلهم يتقون: عربية القرآن تدل على عربية قومه. وفي فُصّلت: ﴿حم. تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب ـ فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (١ ـ ٣). إن تنزيل الله في الكتاب قـد فُصلت آياته قرآناً عربياً حتى يعلمها العرب. فهو دعـوة عربية قومية. وفي الشورى: ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً، لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ (٧). هذا نص قاطع على أن عربية القرآن تدل على عربية قومه المخاطَبين به، فقد نزل عربيّاً لأم القرى، مكّة، ومَن حولها من الأعراب. وفي الزخرف: ﴿حم. والكتاب المبين: إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون﴾ (١ ـ ٣). يقسم بالكتاب المبين إنه جعل الكتاب المبين قرآناً عربياً لكي يعقله العرب. فهو دعوة قومية عربية.
وهكذا فإن عربية القرآن برهان على رسالته العربية وقوميته العربية؛ كما يدل عليها أيضاً تواتر تعابير الفهم والعلم والعقل من عربيته؛ وكما يدل عليها تصريحه المتواتر بأن القرآن عربي لأم القرى، مكّة، ومَن حولها من الأعراب؛ وكما يدل عليها قوله: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً، لقالوا: لولا (هلاّ) فُصّلت آياته؟ أأعجمي وعربي؟﴾ (فصلت ٤٤) أي ﴿أقرآن أعجمي ونبي عربي﴾ (الجلالان). فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن وعروبة رسالته. فالنبي عربي والقرآن عربي: فالدعوة قومية عربية. وذلك بنص القرآن القاطع الذي لا مراء فيه.
٤) لسان النبي والقرآن برهان على قوميتهما
يصرّح: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين... ولو نزّلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٩). نزل القرآن بلسان عربي مبين لكي يفهموه ويؤمنوا به؛ فلو نزل على أعجمي بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين، لأنهم لا يفهمونه. فتعريب التنزيل بلسان عربي مبين كان ليفهم العرب ويؤمنوا به. فالدعوة القرآنية ترجمة عربية لكتاب الله لكي يفهموه ويؤمنوا به. فلسانه العربي دليل على رسالته العربية القومية.
وبعروبة القرآن يردّ على من اتهمه بتعلّمه من أعجمي: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين﴾ (النحل ١٠٣). فليس القرآن من أعجمي، لأنه بلسان عربي مبين.
نبي عربي، وقرآن عربي، لتعريب الكتاب الإمام للعرب: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً: لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين﴾ من العرب (الأحقاف ١٢) فلسان النبي، ولسان القرآن، برهان مزدوج على قوميتهما.
٥) رسالة الرسول بين قوم تدل على قومية رسالته
المبدأ العام: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام ١٢٤). لذلك ﴿لكل أمة رسول﴾ (يونس ٤٧)؛ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً﴾ (النحل ٣٦)؛ ﴿وما كنّا معذَبين (المشركين العرب) حتى نبعث رسولاً﴾ (الإسراء ١٥)؛ ﴿وجاهدوا في الله حقَّ جهاده: هو اجتباكم (اختاركم)... ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس﴾ في ديار العرب (الحج ٧٨). فرسالة الرسول بين العرب تدل على أن رسالته قومية عربية.
تلك شهادة القرآن المتواترة بالتخصيص لرسالة محمد والقرآن بالعرب: ﴿لقد جاءَكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حريص عليكم﴾ (١٢٨:٩)؛ كما طلب إبراهيم واسماعيل: ﴿ربنا وابعث فيهم، رسولاً منهم، يتلو عليهم آياتك﴾ (١٢٩:٢)؛ وقد فعل الله: ﴿كما أرسلنا فيكم، رسولاً منكم، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم﴾ (١٥١:٢) ـ لاحظ تواتر التخصيص. بمحمد والقرآن مَنَّ الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين (من العرب) إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم﴾ (١٦٤:٣). فمحمد رسول الى أم القرى: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً، يتلو عليهم آياتنا﴾ (القصص ٥٩)؛ ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيّنات﴾ (الطلاق ١٠ ـ ١١). ومحمد رسول الى العرب شاهد عليهم: ﴿إنّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم؛ كما أرسلنا الى فرعون رسولاً﴾ (المزمّل ١٥)؛ ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطّا لتكونوا شهداء على الناس (العرب) ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ (البقرة ١٤٣). فتواتر التخصيص المتواصل في رسالة محمد برهان فاصل على أن دعوته قومية ورسالته عربية.
٦) إن رسالة محمد هي تعليم العرب الكتاب والحكمة
لقد طلب إبراهيم واسماعيل الى الله: ﴿ربنا وابعث فيهم (ذريتنا) رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم﴾ (البقرة ١٢٩) لذلك ﴿فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة﴾ (النساء ٥٤)؛ ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً﴾ (النساء ١١٣). وهذا كله كان، حتى يعلّم محمد العرب الكتاب والحكمة: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ (البقرة ١٥١). فالقرآن هو تعليم العرب الكتاب والحكمة. بهذا مَنَّ الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران ١٦٤).
إن محمداً من العرب أنفسهم لكي يعلم العرب الكتاب والحكمة: فليس أصرح ولا أوضح دلالة على قومية الرسالة (الجمعة ٢).
٧) فمحمد هو ﴿النبي الأمّي﴾ للعرب الأميّين
صفة محمد أنه ﴿النبي الأمّي﴾ (الأعراف ١٥٧)، وهذا ﴿النبي الأمّي يؤمن بالله وكلمته﴾ (الأعراف ١٥٨)، فهو على صراط عيسى كلمة الله. وإنه ﴿النبي الأمّي﴾ لأنه من الأميّين العرب، وللأميّين العرب: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة ٢). هذا التصريح يقطع كل مراء ومكابرة: إن محمداً نبي أمّي أي عربي، للأميّين العرب: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم﴾.
ثانياً: سبعة مبادئ قرآنية تجعل القرآن دعوة قومية
١) المبدأ القرآني الأول: ﴿لكل أمة رسول﴾، ومحمد رسول الى العرب. المبدأ القرآني المتواتر، المؤيد بالواقع النبوي المتواتر، أن ﴿لكل أمة رسول، فإذا جاءَ رسولهم، قُضي بينهم بالقسط، وهم لا يُظلمون﴾ (يونس ٤٧). هذا المبدأ واقع تاريخي أيضاً: ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولاً (النحل ٣٦). إنه مبدأ قائم متواتر الى آخر العهد: ﴿ولكل قوم هاد﴾ (الرعد ٧)؛ وواقع قائم متواتر: ﴿وإنْ من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير﴾ (فاطر ٢٤). ويطبق المبدأ والواقع على محمد مع العرب: ﴿إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد﴾ (الرعد ٧) فهو هادي قومه، فهدايته قومية. ورسالته شهادة لقومه وعلى قومه: ﴿ويوم نبعث في كل أمّة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ (النحل ٨٩). فدعوته قومية: ﴿تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوماً ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون﴾ (يس ٥ ـ ٦).
هذه النظرية القرآنية الأولى المتواترة أن ﴿لكل قوم هاد﴾ ومحمد شهيد على قومه، تجزم بأن الدعوة القرآنية قومية.
٢) المبدأ القرآني الثاني: قومية الرسول تحدّد قومية رسالته. يعمل بوحي هذا المبدأ بمكّة: ﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ (النحل ٨٩). فمحمد رسول من العرب، فهو رسول الى العرب. وهذه النظرية تدوم في المدينة: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ (آل عمران ١٦٤). فمحمد رسول من العرب أنفسهم ليعلّم العرب كتاب الله. وهذه القومية في الرسول والرسالة تدوم الى يوم الدين: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ يومئذٍ يودَ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض﴾ (النساء ٤١ ـ ٤٢).
هذه النظرية القرآنية الثانية تجزم أيضاً بتلازم قومية الرسول وقومية الرسالة. فمحمد رسول عربي: فرسالته قومية عربية في اليوم الحاضر، وفي اليوم الآخر.
٣) المبدأ القرآني الثالث: لغة الرسول تحدّد قومية رسالته. إن المبدأ عام وصريح: ﴿وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم﴾ (إبراهيم ٤). فلسان الرسول دليل على قومية رسالته. وجاء القرآن ﴿بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء ١٩٥) لأنه نزل ﴿بلسان قومه ليبيّن لهم﴾. والقرآن يركّز جدله معهم على عروبته وعروبة رسوله لكي يؤمنوا به: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين. ولو نزّلناه على بعض الأعجمين؛ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٩). فقد نزل قرآناً عربياً لكي يفهموه ويعقلوه، ولا يحتجوا عليه بلسانه: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً (كالتوراة والإنجيل) لقالوا: لولا فُصّلت آياته؟ أأعجمي، وعربي؟﴾ (فصّلت ٤٤) أي ﴿أقرآن أعجمي، ونبي عربي﴾ (الجلالان). فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن، وعروبة النبي والقرآن تقتضي عروبة رسالته وقوميتها. فهم إنما غفلوا عن دراسة التوراة والإنجيل لأنهما بغير لسانهم، فهذا كتاب لهم بلسانهم: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك، فاتّبعوه واتّقوا لعلكم ترحمون؛ أنْ تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين﴾ (الأنعام ١٥٥) لأنهما ليسا بلسان العرب. فهذا كتاب بلسان العرب، يتلو عليهم آياته ﴿رسول من أنفسهم﴾ وهذه مِنّة الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين (العرب) إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران ١٦٤).
فلسان الرسول يحدّد قومية رسالته؛ وعروبة لسان محمد تحصر رسالته في بني قومه العرب. هذا هو مبدأ القرآن وبرهنته في هذه النظرية الثالثة.
٤) المبدأ القرآني الرابع: لغة القرآن تحدّد رسالته القومية العربية. في اثني عشر وضعاً يصرّح بأن القرآن نزل ﴿عربيّاً﴾ لكي يفهمه العرب. منها: ﴿حم. والكتاب المبين، إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون﴾ (الزخرف ١ ـ ٣). فقد نزل قرآناً عربياً لأم القرى ومن حولها. ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى (مكّة) ومّن حولها﴾ (الشورى ٧). وما نزل القرآن عربياً إلاّ لأنه ذكر لمحمد وقومه: ﴿وانه لذكر لك ولقومك، وسوف تُسألون﴾ (الزخرف ٤٤). فمحمد هو ﴿النبي الأمّي﴾ أي العربي، لأن رسالته مختصة بالعرب، محصورة فيهم: ﴿هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم﴾ (الجمعة ٢).
فهذه النظرية القرآنية الرابعة تجزم بأن لغة القرآن تحصر رسالته في العرب، وتقتصرها عليهم.
٥) المبدأ القرآني الخامس: القرآن دعوة الى ﴿ملّة إبراهيم﴾ باسماعيل، جدّ العرب المستعربة. يفتتح القرآن المدني دعوته بصلاة إبراهيم، ﴿إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، واسماعيل: ربنا تقبّل منا، إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم ـ ومَن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ مَن سَفِه نفسه﴾ (البقرة ١٢٧ ـ ١٣٠)، والدعوة القرآنية الى ملّة إبراهيم، جد العرب باسماعيل، متواترة في القرآن. فهو يجعل اسلام القرآن، على ملّة إبراهيم باسماعيل، اسماعيليّاً عربيّاً، للاسماعيليين العرب. فاسلام القرآن هو لذرية اسماعيل، على ملّة إبراهيم.
٦) المبدأ القرآني السادس: القرآن دعوة الى الحنيفية، دين إبراهيم، جد العرب باسماعيل يصرح: ﴿إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله، حنيفاً، ولم يكُ من المشركين... ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين﴾ (النحل ١٢٠ ـ ١٢٣). ويؤكد: ﴿أقم وجهك للدين حنيفاً﴾ (يونس ١٠٥؛ الروم ٣٠). ويدعو الى حنيفية إبراهيم: ﴿وقالوا؛ كونوا هوداً ـ أو نصارى ـ تهتدوا؛ بل ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين﴾ (البقرة ١٣٥)، ﴿قلْ: صدق الله، فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾ (آل عمران ٩٥)؛ ﴿ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وهو محسن، واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً، واتّخذ الله إبراهيم خليلاً﴾ (النساء ١٢٥). فالحنيفية الإبراهيمية هي في اتباع ملّة إبراهيم، على طريقة المحسنين من آله. هذا هو الدين القيّم: ﴿قلْ إنني هداني ربي الى صراط مستقيم، ديناً قيّماً، ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين﴾ (الأنعام ١٦١). وحنيفية إبراهيم هي الإسلام؛ ﴿ما كان إبراهيم يهودياً، ولا نصرانياً (بمعنى مسيحي)، ولكن كان حنيفاً مسلماً ـ وما كان من المشركين﴾ (آل عمران ٦٧). وهذا الإسلام الحنيف يدعو اليه القرآن مع أولي العلم المقسطين، أي النصارى من بني إسرائيل، الذين يشهدون مع الله وملائكته: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فجماعة محمد من العرب هم مسلمون لأنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وهو الذي سماهم المسلمين في الكتاب والقرآن: ﴿وجاهدوا في الله حقّ جهاده: هو اجتباكم (اختاركم)... ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شـهداء على الناس﴾ من العرب (الحج ٧٨). فالإسلام الذي يدعو اليه القرآن هو الحنيفية المسلمة، ملة أبيهم إبراهيم. فالدعوة القرآنية قومية للعرب، على ملة أبيهم إبراهيم. فالدعوة والداعي والمدعوّون، قوم إبراهيم باسماعيل، جد العرب.
٧) المبدأ القرآني السابع: شعائر الإسلام القرآني تجعله ديناً قومياً عربياً اسماعيلياً. كعبته هي كعبة إبراهيم واسماعيل: ﴿واذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، واسماعيل﴾ (البقرة ١٢٧). قبلته هي قبلة إبراهيم واسماعيل، ﴿ولكل أمة جعلنا منسكاً، ليذكروا اسم الله﴾ (الحج ٣٤)؛ ﴿ومن حيث خرجتَ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره، لئلاّ يكون للناس عليكم حجة﴾ (البقرة ١٥٠). فالقبلة تميّزهم عن سواهم من الناس، فلا يحتجون عليهم بها. وهذه القبلة هي شعار ﴿الأمة الوسط﴾، لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً: ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ ليعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه﴾ (البقرة ١٤٣). فتحويل القبلة الى كعبة مكّة تميّز العرب المسلمين من سواهم.
وحجه هو حج إبراهيم واسماعيل: ﴿واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا... وعهدنا الى إبراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود﴾ (البقرة ١٢٥).
والبلد الحرام هو بلد إبراهيم واسماعيل، وذريته المسلمة: ﴿واذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلداً آمناً، وارزق أهله من الثمرات، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر﴾ (البقرة ١٢٦).
فشعائر الإسلام في القرآن تجعله ديناً قوميّاً عربيّاً إبراهيميّاً اسماعيليّاً. والقول الفصل: ﴿إنه ذكر لك ولقومك﴾ في كل مبادئه وتصاريحه؛ وإن محمداً هو ﴿النبي الأمّي﴾، أي العربي، لأن الله ﴿هـو الـذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم﴾. فمحمد رسول الى ﴿الأميّين﴾ العرب: فرسالته قومية عربية. وهكذا فإن مبادئ القرآن كلها، وتصاريح القرآن كلها، تشهد بلا مراء ولا ريب، أن الدعوة القرآنية قومية عربية، لا عالمية في نصّها؛ إنما أمست عالمية بالفتوحات الإسلامية.
ثالثاً: آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها
من تلك المبادئ الجازمة، وتلك التصاريح الحازمة، وكلها قاطعة جامعة مانعة، نأتي الى بعض آيات متشابهات يُظن فيها تنويهاً بعمومية الدعوة القرآنية وعالميتها، يفسّرها التفسير الصحيح أسلوب القرآن في البيان والتبيين.
١) منها قوله المتواتر: ﴿إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين﴾ (١٠٤:١٢؛ ٨٧:٣٨؛ ٢٧:٨١؛ ٥٢:٦٨). فتعبير ﴿العالمين﴾ في هذه المواطن عام يُقصد به الخاص، وهو أسلوب متواتر في القرآن، كما تدل عليه القرائن القريبة والبعيدة. هكذا قوله في سورة يوسف: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر، إنْ هو الاّ ذكر للعالمين. وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون﴾ (١٠٣ ـ ١٠٦) ـ فالقـرائن اللفظية والمعنوية، من قبلُ ومن بعدُ، إن تعبـير ﴿العالمين﴾ عام مراد به الخصوص في الحجاز والجزيرة. وهكذا قوله: ﴿إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين، لمَنْ شاء منكم أن يستقيم. وما تشاؤون، إلاّ أن يشاء الله رب العالمين﴾ (التكوير ٢٧ ـ ٢٩) ـ فتعبير ﴿ذكر للعالمين﴾ مقيد للحال بما يليه: ﴿لمن شاء منكم﴾ فالعالمون هم المخاطبون من العرب؛ أما تعبير ﴿رب العالمين﴾ فهو مطلق لا يقيده شيء، فهو عام.
٢) منها قوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل اليهم ولعلهم يتفكّرون﴾ (النحل ٤٤)؛ وقوله: ﴿قلْ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي﴾ (الأعراف ١٥٨). هذه الصفة ﴿جميعاً﴾ لا تدل على أن المقصود ﴿بالناس﴾ جميع البشر، بل هو أسلوب بياني مضطرد في القرآن، حيث العام فيه يراد به الخصوص، ومن العام ما هو مخصوص. وللسيوطي في (الإتقان ١٦:٢ ـ ١٨) فصل قيم على النوعين، قال: ﴿ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى (الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) والقائل واحد، نعيم بن مسعود الأشجعي، أو أعرابي من خزاعة... وممّا يقوّي أن المراد به واحد قوله: (انما ذلكم الشيطان) فوقعت الإشارة بقوله (ذلكم) الى واحد بعينه، ولو كان المراد به جمعاً لقال: (انما أولئكم) الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. ومنه قوله: (أم يحسدون الناس) أي رسول الله ﷺ. ومنها قوله: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) ٢١ . أما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام إلاّ وقد خُصّ. ثم المخصّص له إمّا متّصل، وإمّا منفصل، والمنفصل آية أخرى في محل آخر﴾.
هكذا في حديث ﴿النبي الأمّي﴾ حيث يقول: ﴿يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي﴾ (الأعراف ١٥٨) فالمخصص له المنفصل هو قوله: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم﴾ (الجمعة ٢). فليس محمد رسولاً للبشرية جمعاء، بل للأميّين العرب.
٣) ومنها قوله: ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً﴾ (سبأ ٢٨). فقد يظن أن معناه ﴿للناس كافة﴾، فيظن أن رسالة محمد عالمية. لكنّ الصفة في العربية لا ترد قبل الموصوف. جاءَ أيضاً في (الإتقان ٨٤:٢): ﴿نقلت من خط شيخ الإسلام ابن حجر، إن من التورية في القرآن قوله (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس) فان ﴿كافة﴾ بمعنى مانع أي تكفهم عن الكفر والمعصية، والتاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد (جامعة) بمعنى (جميعاً)، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكّد؛ فكما لا تقول (رأيت جميعاً الناس) لا تقول (رأيت كافة الناس﴾). ويدعم هذا التفسير قوله في الحديث: ﴿أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة﴾ أي كافّا عن الشرك، والتاء المربوطة للمبالغة.
والقرائن القريبة والبعيدة للآية ﴿كافة للناس﴾ (سبأ ٢٨) ترفع كل شبهة. فهو قبلها يعلن أن رسالة محمد محصورة ﴿بأم القرى ومن حولها﴾ (الأنعام ٩٢)، ويؤكد ذلك بعدها، فيحصرها ﴿بأم القرى ومَن حولها﴾ (الشورى ٧).
٤) ومنها قوله في سورة الأنبياء: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾ (١٠٧) ـ فلا يدل على عالمية الدعوة، لأنه في السورة عينها يصرّح مرتين بأنها خاصة للعرب: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتـاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون﴾ (الأنبياء ١٠)؛ ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي﴾ (الأنبياء ٢٤)، ومن كان معه في مكّة سوى نفر من أهلها؟
٥) ومنها قوله: ﴿تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً﴾ (الفرقان ١). هـو عـام يُراد به الخاص، بحسب أسلوب القرآن البيـاني. ولا تأتي كلمة ﴿العالمين﴾ على اطلاقها الى مضافة الى الله، رب العالمين.
جاء في تفسير الطبري ٢٢ : ﴿قال أبو جعفر: العالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه. والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالم. وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منه عالم زمانه. وهذا القول هو معنى قول عامّة المفسرين﴾، ثم يعطي على ذلك مثلاً في وصف اليهود: ﴿وإني فضلتكم على العالمين﴾ (البقرة ٤٧) ويقول: ﴿أخرج جلّ ذكره قوله مخرج العموم، وهو يريد به خصوصاً، لأن المعنى: إني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه أي فضلهم على عالم ذلك الزمان﴾.
هكذا فإن اقتران النبي أو القرآن بلفظ ﴿العالمين﴾ يقصد به المخاطبين من العرب والنتيجة الحاسمة في مثل تلك الآيات المتشابهات التي يدل ظاهرها على عمومية الدعوة القرآنية، أنها تخضع في مدلولها لأساليب البيان العربي والقرآني. منها أسلوب اخراج الخاص مخرج العام، كما مرّ بنا. ومنها الإخبار عن الواحد بمذهب الجمع ٢٣ ، كما في تفسير الطبري أيضاً: ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب (آل عمران ٣٩)، إذ قالت الملائكة يا مريم (آل عمران ٤٥) ـ قيل جبريل. فإن قال قائل: كيف جاز أن يقال على هذا التأويل (الملائكة) وهي جمع لا واحد ـ قيل: ذلك جائز في كلام العرب بأن تُخبر عن الواحد بمذهب الجمع. كما يقال في الكلام: (خرج فلان على بغال البرد) وانما ركب بغلاً واحداً؛ (وركب السفن)، وانما ركب سفينة واحدة؛ وكما يقال (ممن سمعت هذا الخبر)؟ فيقال: (من الناس) وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إن منه قوله: (الذين قال لهم الناس؛ ان الناس قد جمعوا لكم ـ آل عمران ١٧٣) والقائل كان فيما ذُكر واحداً. وقوله: (اذا مسَّ الناس ضرٌّ ـ الروم ٣٣) والناس بمعنى واحد منهم. وذلك جائز عندهم﴾.
نلاحظ في لهجة الطبري نزعته الآرية تجاه السامية، والايرانية تجاه العربية، في بيان الفارق في التعبير والتفكير، بين البيان العربي والبيان الآري. وقد أوجز ذلك منذ القديم ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن). قال: ﴿وللعرب المجازات في الكلام. ففيها... مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع؛ والجميع خطاب الواحد؛ والواحد والجميع خطاب الاثنين. والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص﴾. وهذا ما جاء به القرآن في آياته المتشابهات التي توهم عمومية الدعوة القرآنية. فالتشابه في الآيات التي قد يظهر منها عمومية الدعوة القرآنية، انما يرجع الى أساليب البيان العربي والقرآني. إنها آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها، وهي دعوة قومية عربية، كما تبرهن تصاريح القرآن ومبادئه المتواترة.
رابعاً: من دلائل التاريخ الخاص والعام
١ـ قيل: إن مكاتبة الملوك والامراء قيصر وكسرى والمقوقس وولاتهم، خير دليل على أن الدعوة الإسلامية كانت عامة عالمية لكل الناس. لكن يطعن في صحة تلك المكاتبات أنها مذكورة بالاجماع قبل فتح مكّة. لم يكن النبي قد فتح الحجاز، فكيف به يكاتب قيصر وكسرى ليدينوا بالإسلام، كقوله الى هرقل عظيم الروم: ﴿أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسلمْ تسلمْ﴾، كما أخرجه صحيح البخاري وصحيح مسلم عن ابن عباس. إن منطق الأحداث يدفع هذه الغلواء عن النبي الحصين. وليس في القرآن كله، قبل فتح مكّة، ما يشير الى مثل تلك الرغبة في فتح العالم للإسلام.
٢ـ قيل: إن في غزوة مؤتة، وغزوة تبوك، الى مشارف الشام، دليلاً على أمل فتح دولة الروم للاسلام. لكن ظروف الغزوتين التاريخية تدل على أن محمداً كان يبغي نصارى العرب عند مشارف الشام والعراق، لا الروم ولا دولتهم؛ لا الفرس ولا دولتهم. ولا شك أن العصبية العربية ستحملهم على قبول دعوته الدينية والقومية، في سبيل الاستقلال الديني والقومي عن الشرق وثنائيته في مجوسيته، وعن الغرب وتثليثه في مسيحيته، كما يقول في فتح شمال الحجاز: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله﴾ (الفتح ٢٨). ولم تكن فكرة المغانم ببعيدة عن أهدافه، كما يقول أيضاً: ﴿وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه﴾ (الفتح ٢٠). وكان محمد يعلم أن أمراء الحيرة وبصرى كانوا حينئذٍ على خلاف مع أسيادهم. فأرسل الى ذات الطلْح خمسة عشر من رجاله يدعون للإسلام. فقتلوهم جميعاً، لم ينج منهم إلاّ رئيسهم، رجع فأخبر النبي. فعرضت الفرصة النادرة لتسيير أول غزوة الى بلاد الروم. فجهَّز ثلاثة آلاف لتأديب الغادرين بدعاته. وكثر الزعماء بين المحاربين، فسُمّي الجيش جيش الأمراء، والسرية سرية الأمراء.
سار القوم حتى بلغوا معان، من أرض البلقاء. فتصدّى لهم من بصرى شرحبيل بن عمرو الغسّاني، عامل هرقل، في جموع غفيرة من نصارى العرب، عند مآب من البلقاء، والتقى الجمعان في قرية ﴿مشارف﴾. فشعر المسلمون أن لا قِبَلَ لهم بقتال هذا الجيش العرم، فانحازوا الى مؤته، قرب معان، يتحصنون بها من ملاقاة العدو. لكن جيش العرب النصارى أحاط بهم، فكان لا بدّ من القتال. فدارت رحى الحرب على المسلمين، وقتل الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. فاستلم القيادة المسلم الجديد خالد بن الوليد، وأظهر مقدرة فائقة في تدبير انسحاب جيشه من المعركة. واقتنعوا من الهزيمة والغنيمة بالإياب.
هذا هو التاريخ الحق. لكن، لكي يُظهر نية الفتح الإسلامي في الغزوة، قالوا: ﴿فلمّا وصل المسلمون الى معان، عرفوا أن في انتظارهم ماية ألف من الروم، وماية ألف أخرى من نصارى العرب﴾ ٢٤ وكان الجيش بقيادة هرقل نفسه. والمؤرخ الرومي ثوفانس ٢٥ يذكر أن جيش الشام كان من العرب النصارى وحدهم، المقيمين على الثغور لحمايتها من الأعراب؛ وهو لا يمكن أن يبلغ ماية ألف. وهرقل الذي غزا الفرس وكسرهم لم يكن معه ماية ألف، حتى يجمع للأعراب ماية ألف من الروم غير ماية ألف من العرب! فتلك المبالغات والمغالطات تحريف للتاريخ. والقضية كلها تنحصر بين عرب الحجاز وعرب بني غسان النصارى، لغاية قومية دينية، لا تخلو من روح الغزو والغنيمة. وبما أن غزوة مؤتة وقعت في ايلول سنة ٦٢٩ م. قبل فتح مكّة في كانون الثاني سنة ٦٣٠ م. فليس في منطق الأحداث ما يدل على نقل الإسلام الى الروم.
وبعد فتح مكّة، حاول محمد فتح الطائف. فامتنعت ثقيف في حصونها. واضطرّ محمد أن يرفع الحصار وأن يرحل عنها خائباً. وإنها لخُطّة ثابتة في سيرة النبي من أنه إذا فشل في جهة استعاض بحملة الى جهة أخرى. وبعد أن استتب له الأمر في الحجاز كله، واطمأن بتصفية اليهود، وجّه أنظاره في آخر أيامه الى العرب المسيحيين في الشام واليمن. وبدأ بالشمال لأن دويلاتهم كانت أضعف من اليمن، وأضعف من أن تقاومه، وقد استطاع أن يجمع لغزوهم جيشاً عظيماً بلغ ثلاثين ألفاً قاده بنفسه. وسبب الحملة الثأر من فشل غزوة مؤتة، وتأمين طريق القوافل، فإن قبائل العرب المسيحيين على حدود الشام تجرّأت أكثر من ذي قبل على القوافل بعد ما كان من فشل غزوة مؤتة. وفي (أسباب النّزول) ٢٦ : ﴿أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: اغزوا تغنموا بنات الأصغر! فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فنزلت﴾.
﴿ووصل النبي ﷺ تبوك بعد عشرين يوماً وعسكر فيها ولم يتعدَّها﴾ ٢٧ . ﴿ولكن الروم لم يتعرّضوا للرسول. فعقد الرسول معاهدات مع البلدات المتاخمة للحجاز كأيلة (العقبة) وأذرح وجرباء ومَقْنا، وفرض على كل بلدة جزية معينة﴾ ٢٨ .
إن عدم تعرض جيش الروم، القافل من سحق جيش كسرى، للعرب؛ واكتفاء النبي بتلك المعاهدات مع الإمارات العربية، دليل على أن الروم لم يفكّروا بغزو الحجاز واكتفوا بعملائهم من العرب المسيحيين على حماية الثغور من الأعراب؛ ودليل أيضاً على أن محمداً لم يكن يفكّر بغزو الروم، بل كان يفرح بنصرهم على الفرس الوثنيين (سورة الروم ٢ ـ ٣). إنما حصر همه كله في جمْع كلمة العرب في وحدة دينية وقومية.
٣ ـ قيل أخيراً: إن فتح المسلمين لدولة الأكاسرة ودولة القياصرة برهان على أن الإسلام منذ تأسيسه دعوة عالمية.
إن الفتوحات العربية في صدر الإسلام لم تكن جديدة على عرب الجزيرة. فمنذ خمسة آلاف سنة، تقوم على رأس كل ألف هجرة كبرى من الجزيرة الى الهلال الخصيب وتؤسس فيه أمماً ودولاً. وفي الألف الأخير قبل الإسلام هاجرت قبائل عديدة الى أطراف الهلال الخصيب فكانت لهم ديار ربيعة، وديار بكر؛ وأسست بعض القبائل دويلات مستقلة في تدمر (الزّباء) والبلقاء (دولة الأنباط) والحيرة (دولة المناذرة) وبصرى (دولة بني غسان). ولكن الهجرة العربية الكبرى الى الهلال الخصيب في العراق والشام كانت حملة الخلفاء الراشدين. فهي في منطق سابقاتها. ولم تكن لحمل الإسلام الى غير العرب. إنما كانت كمخرج لحروب الردّة، خشية انقسام العرب بعد وحدتهم الإسلامية. وكان الاغراء بالفتوحات لصرفهم عن الاقتتال الأهلي الى الغزو والفتح. ولا يُستبعد بعد الفتوحات العظيمة، أن تطورت الفكرة الى الفتح الديني بالدعوة العسكرية والسلمية الى الإسلام. فكانت الدعوة الدينية نتيجة الفتوحات، لا سببها، ولو جدّد الإسلام فيهم روح العزّة العربية.
خاتمة
القول الفصل في تصاريح القرآن
وفي الختام، مهما يكن من أمر التاريخ، فلدينا القول الفصل في القرآن الكريم. إن جميع تصاريحه، وجميع مبادئه تقضي بأن الدعوة القرآنية كانت دعوة قومية، لا دعوة عامة عالمية في ذاتها ـ صارت عالمية بعد محمد بالفتوحات الإسلامية ـ فهل من إِعجاز في شمول الدعوة لتصحيح وتتميم ما سبقها من جميع الدعوات الكتابية والأميّة؟ وهل من إِعجاز في شمول الدعوة في موضوعها ليشمل شؤون الدنيا والآخرة، ومشاكل الجسد والروح، ومسائل الدين والدولة؟ وهل من إِعجاز في شمول الدعوة ﴿للعالمين﴾؟
الجزء الثالث
معجزة حفظ القرآن
توطئة
إِعجاز القرآن في نظمه قائم على معجزة ﴿حفظه﴾ في حرفه
الإجماع على أن إِعجاز القرآن في نظمه، كما نادى بذلك أهل الإِعجاز منذ الجاحظ. والإِعجاز في النظم واللفظ يقتضي معجزة ﴿حفظ﴾ القرآن سالماً كما نزل.
ويقولون: ان القرآن تنبّأ بمعجزة ﴿حفظ﴾ القرآن سالماً كما نزل بقوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر ٩). والواقع التاريخي في تدوين القرآن بالحرف العثماني شاهد على تتميم النبوّة بحفظه، وقيام المعجزة بحفظ القرآن بحرفه سالماً كما نزل.
لكن ليس في آية ﴿الحفظ﴾ ركيزة قرآنية للقول بنبوءة ومعجزة في حفظ القرآن؛ وليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه من ضمانة كافية للقول بمعجزة في حفظه؛ وليس في الرخص النبوية لقراءة القرآن قبل جمعه من طُمأنينة كافية للقول بمعجزة في حفظة؛ وليس في تاريخ تدوين القرآن ما يمكّن القول بمعجزة في حفظه. فقوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر ٩) ليس بمعجزة له.
لذلك فإن ما حُفظ من القرآن جليل يستحق التقدير، لكن ليس في ﴿حفظ﴾ القرآن معجزة إلهية تميّزه وينفرد بها على كل تنزيل.
بحث أول
معنى آية الحفظ
إن معجزة إِعجاز القرآن في حرفه تقوم على معجزة حفظه سالماً كما أنزل. ويقولون إن في قوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر ٩) نبوءة عن حفظه، وشهادة بمعجزة حفظه. وفاتهم أن القرائن القريبة والبعيدة لا تقتصر ﴿الذكر﴾ على القرآن، بل هو مرادف للكتاب، كما أن ﴿أهل الذكر﴾ مرادف ﴿لأهل الكتاب﴾.
ترد آية الحفظ في ردّه عليهم في تهمة الجنون: ﴿وقالوا: يا أيها الذي نزّل عليه الذكر، إنك لمجنون! لو ما تآتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!
(ردّ اول) ـ ما نزّل الملائكة إلاّ بالحق، وما كانوا إذاً منظَرين!
(جملة معترضة) ـ إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون
(ردّ ثانٍ) ـ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزِئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به، وقد خلق سُنّة الأولين.
(ردّ ثالث) ـ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: ﴿إنما سُكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون﴾! (٦ ـ ١٥).
يعتبر المشركون ادعاء تنزيل الذكر على محمد جنوناً، ويطلبون شاهداً على صحة ادعائه من إتيان الملائكة معه. فيردّ عليهم أولاً بأن نزول الملائكة مع القرآن سبب بلاء عظيم لهم (٨). ويرد عليهم ثانياً بأن الاستهزاء بالرسل مرض قديم وأن سُنّة اللهِ هي تعذيبهم بتكذيب أنبيائهم (١٠ ـ ١٣). ويرد عليهم ثالثاً بأنه اذا فتح الله باباً من السماء فظل الملائكة فيه يعرجون، لقالوا: انما سُكّرت أبصارنا! بل نحن قوم مسحورون! (١٤ ـ ١٥).
فالأجوبة الثلاثة متناسقة مترابطة في الردّ عليهم. لكن ما صلة حفظ الذكر بالرد على تهمة الجنون أو تنزيل الملائكة؟ إنها آية مقحمة على السياق، فهي في غير موضعها.
ثم نلاحظ الإطلاق في تعبير ﴿الذكر﴾ في الآية (٩) كما في الآية (٦). فليس التعبير خاصاً بالقرآن حتى يكون تعهّد الله بحفظه خاصاً بالقرآن وحده. فالذكر، في لغة القرآن، مرادف للكتاب. وعلى الحصر، فهو مخصوص بالتوراة، كقوله: ﴿ولقد كتبنا في الزبور، من بعد الذكر، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (الأنبياء ١٠٥)؛ كما هو مخصوص بالإنجيل كقوله: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم﴾ (آل عمران ٥٨). ﴿ذلك﴾ أي قصص عيسى وآل عمران (٣٣ ـ ٥٨). فالذكر الحكيم، خلافاً لما يتوهمه العامة، مرادف للإنجيل. وتخصيص الذكر بالكتاب، أي التوراة والإنجيل، يتّضح من تسمية القرآن ﴿أهل الكتاب﴾ ﴿أهل الذكر﴾: ﴿فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر﴾ (النحل ٤٣ ـ ٤٤)؛ كقوله دائماً: ﴿فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون﴾ (الأنبياء ٧). فالذكر على الإطلاق هو الذي عند أهل الكتاب، أهل الذكر. وما الذكر الذي نزل على محمد سوى تفصيل للذكر الحكيم، كما أن القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧). فإنه بعد استشهاده بأهل الذكر يقول للحال: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزل اليهم ولعلّهم يتفكرون﴾ (النحل ٤٤). فالذكر نزل في الكتاب الإمام، ﴿والذكر الحكيم﴾ نزل في الإنجيل؛ والقرآن انما هو بيان الذكر الذي نزل من قبل للناس. فتعهد الله بحفظ الذكر المنزل إنما يتعلّق أولاً بالكتاب ثم بالقرآن.
ومطلع سورة الحجر يشهد بذلك: ﴿آلر. تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين﴾. إن النبي، كما يظهر من الاشارة ﴿تلك﴾ قد تلا ﴿آيات الكتاب﴾ في قرآن عربي مبين لها، ثم علّق عليها بما تيسّر في سورة الحجر. فاسم الاشارة ﴿تلك﴾ يتعلق بما سبق، لا بما يأتي. فالذكر الذي يتعهد الله بحفظه هو ﴿آيات الكتاب وقرآنٍ مبين﴾، قبل ما يأتي في سورة الحجر، وسائر سور القرآن العربي.
وتنزيل ﴿الذكر﴾ الى النبي العربي، تعبير متشابه لا يجزم بكيفيّة، كقوله في السورة عينها: ﴿وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه، وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم. وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء، فأسقيناكموه، وما أنتم له بخازنين﴾ (الحجر ٢١ ـ ٢٢). فالله أنزل القرآن العربي، كما أنزل من السماء ماء، وكما ينزّل من كل شيء بقدر معلوم. فتنزيل القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧)، وهو ﴿تيسير﴾ القرآن أي الكتاب للذكر، كما يردّد: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر﴾ (القمر ١٧ و٢٢ و٣٢ و٤٠)؛ وكما يُقسم: ﴿والقرآن ذي الذكر﴾ (ص ١)، فلا يكون القرآن العربي المقسَم به والمقسَم عليه معاً: فهو يقسم ﴿بالقرآن ذي الذكر﴾ على أمرٍ ما، ﴿وجواب هذا القسم محذوف﴾ (الجلالان). فالقرآن ذو الذكر هو الكتاب الإمام! ﴿والذكر الحكيم﴾ هو الإنجيل. فالذكر على الإطلاق الذي تعهّد الله بحفظه هو أولاً الكتاب، أي التوراة والإنجيل، ثم القرآن العربي، لأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧) وتلاوة من آي ﴿الذكر الحكيم﴾. هذا معنى آية ﴿الحفظ في قرائنها القريبة والبعيدة. فليس فيها برهان على نبوءة بحفظ القرآن العربي، ولا على معجزة في حفظه سالماً.
وحفظ القرآن العربي قد يقوم بتواتر معناه من دون حرفه. فقد أجاز النبي، وعمل الخلفاء الراشدون بإجازة قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف. وهم إنما أجازوا قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف، لأنها في نظرهم ﴿لم تختلف في شيء من شرائع الإسلام؛ ولا يتنافى هذا مع قوله جلّ شأنه (إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون) لأن المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ لا منطوقها... لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستَدلّ بها على معانٍ مخصوصة، قُصد بها أوامر ونواه، وعبادات ومعاملات. وجميعها مصان محفوظ مهما تقادم الدهر وتطاول العمر﴾ ٢٩ .
فحفظ القرآن العربي لا يقتضي حفظ حرفه، بل حفظ معناه. وهذه النتيجة الحاسمة، القائمة على رخصة قراءَة القرآن بالمعنى من دون الحرف، قبل جمعه، شبهة قائمة على سـلامة حفظ حرف القرآن من التحريف أو على إِعجـاز الحرف العثمـاني. فليس في آية ﴿الحفظ﴾ (الحجر ٩) نبوءة بحفظ القرآن العربي؛ وليس فيها شهادة بمعجزة حفظه سالماً كما نزل.
بحث ثان
أدوات حفظ القرآن قبل جمعه ليست مأمونة
في بيئة بدائية بدوية، كبيئة النبي والقرآن، كان الاعتماد في الحفظ أولاً على الذاكرة، ثم على بعض الأدوات البدائية التي لا تكاد تحفظ شيئاً.
نحن في عصر الطباعة والكتب المكتوبة لا نقدّر حفظ الذاكرة من الحفظ حقَّ تقديره. فكل كتب الأقدمين، منزلة وغير منزلة، قد وصلت الينا أولاً عن طريق الحفظ بالذاكرة. لكن الذاكرة قد استعانت بأدوات مادية للحفظ لم تتيسّر في الحجاز الجاهلي.
ومهما كانت الذاكرة، كذاكرة البدائيين، في قوة الحفظ؛ فإنها لم تكن مأمونة لنقل حرف القرآن كما نزل. والذاكرة، حتى ذاكرة النبي، لم تكن المثال الأعلى للحفظ والنقل. فالقرآن يؤكد لنا بأن النبي كان ينسى من الوحي (الأعلى ٦). ويجاهد في حفظ الوحي، ويضرع الى ربه أن لا ينسى (الكهف ٢٤).
ويأتيه الجواب أنه لا بدَّ من أن ينسى، وقد يُنسيه الله نفسه (البقرة ١٠٦). وفي (أسباب النّزول) على آية البقرة: ﴿ما ننسخ من آية أو نُنسِها﴾ (البقرة ١٠٦) ورد: ﴿ربما نزل الوحي على النبي بالليل، ونسيه بالنهار﴾! (السيوطي). ونقل الطبري: ﴿إن نبيَّكم أُقرِئَ قرآنا ثم نسيه﴾ (٤٧٣:١ ـ ٤٨٠). وكان محمد يصلّي: ﴿اللهمّ ذكّرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت﴾ ٣٠ . فإذا كان وسيط الوحي المصطفى قد ينسى الوحي، ما بين ليلة وضحاها، فكم بالأحرى المستمعون عَرَضاً واتفاقًا، أو عن متابعة واستظهار!
وهناك ظاهرة ثانية تاريخية: كان حفظ القرآن موزّعاً على الصحابة، وإن انفرد بحفظه بعض القراء. يقول محمد صبيح ٣١ : ﴿ولا بدَّ لنا هنا من أن نسأل سؤالاً آخر: هل كان الصحابة جميعاً يحفظون القرآن كله؟ ورد في (فجر الإسلام) للأستاذ أحمد أمين: ﴿ولم يكن شائعا في عهد النبي ﷺ حفظ القرآن جميعه كما شاع بعد؛ إنما كانوا يحفظون السورة، أو جملة آيات، ويتفهمون معانيها؛ فإذا حذفوا ذلك، انتقلوا إلى غيرها. فكان حفظ القرآن موزّعاً على الصحابة﴾. قال أبو عبد الرحمان السلمي: ﴿حدَّثنا الذين يقرأون القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، أنهم كانوا، إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل﴾. وقال أنس: ﴿كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا ـ رواه أحمد في مسنده﴾. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، ذلك أنه إنما كان يحفظ، ولا ينتقل من آية الى آية حتى يفهم﴾.
فهذه الآثار والأخبار دلائل على الشبهة القائمة على صحة حفظ الحرف القرآني بواسطة الذاكرة؛ وعلى تفرّق القرآن بين الصحابة والقراء، في ذاكراتهم.
٢ ـ والوسائل الأثرية لحفظ القرآن من الضياع كانت هي أيضاً بدائية تعجز عن حفظه. فقد نقل البخاري حديث زيد أول من كُلّف بجمع القرآن، قال: ﴿فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمراني به من جمع القرآن... فتتبّعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللِخَاف، وصدور الرجال﴾ ٣٢ أي جريد النخل، وصفائح الحجارة. وزاد السيوطي: ﴿وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف. وفي رواية: والرقاع. وفي أخرى: وقطع الأديم. وفي أخرى: والأكتاف ٣٣ . وفي أخرى والأضلاع. وفي أخرى: والأقتاب﴾. فتأمل القرآن المكي، موزعاً على الحجارة، وأكتاف الجمال والشاه، وعلى أخشاب البعران، بين جماعة مضطهدة مُلاحقة، تسهر على حفظ كيانها قبل قرآنها، كم حفظت لنا تلك الوسائل البدائية من القرآن المكي؟ وكم كان يتقضي من جمل لحمل القرآن المكتوب على تلك الوسائل البدائية. يقول محمد صبيح ٣٤ تعليقاً على هذه الوسائل البدائية في حفظ القرآن: ﴿كتابة القرآن المكي على هذه الأدوات الخشنة كان مصحفاً يحتاج الى عشرين بعيراً لحمله. ولم نعلم من أنباء الهجرة أن قافلة من الأحجار فرّت قبل النبي أو مع النبي، ومعها هذا الحمل الغريب﴾. وكانت هذه الوسائل الخشنة هي المستعملة في المدينة أيضاً. وهل كان لهم في المدينة بين الغزوات والحروب المتواصلة حتى آخر يوم من حياة محمد، من فراغ كاف لتدوين القرآن المكي فالمدني عليها؟ تلك هي أدوات حفظ القرآن قبل جمعه.
٣ ـ وهذه هي حال القرآن عند وفاة النبي.
يقول الأستاذ دروزة ٣٥ : ﴿إن هناك أقوالاً وروايات تفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جُمع في شيء، وأن جمعه وترتيبه إنّما تمّا بعد وفاته. وان ما كان يدوّن منه في حياته كان يدوّن على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج. وان المدوّنات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة. وكانت على الأكثر متفرّقة عند المسلمين. وان المعوّل في القرآن كان على القراء وصدور الرجال﴾. وقد رأينا أن آفة الذاكرة النسيان، كما يصف القرآن حال نبيه.
فليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه، وسط حياة حافلة بالاضطهاد في مكّة، والقتال المتواصل في المدينة، من ضمانة كافية، ولا من طمأنينة وافية، لحفظ الحرف القرآني، أو حفظ القرآن نفسه، كما نزل. والشهادة المتواترة أنه ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾، وأن عثمان ﴿غيَّر المصاحف﴾. فأين هي ركائز المعجزة في حفظ القرآن سالماً؟
بحث ثالث
الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه
بعد الشهبة القائمة على وسائل حفظ القرآن، تأتي الشبهة الضخمة على سلامة حرفه، من الرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن قبل جمعه. وهذه الرخص الأربع قائمة على الشبهة الأساسية في نزول القرآن على سبعة أحرف، وفي إجازة قراءَته على تلك الأحرف السبعة بهذه الرخص النبوية الأربع.
أولاً: قراءَة القرآن بالمعنى، من دون الحرف، قبل جمعه
لقد نقلت الأخبار والآثار المتواترة أن النبي رخّص لجماعته قراءَة القرآن بالمعنى، من دون حرف التنزيل؛ وذلك على أحرفه السبعة التي نزل بها. وإن الصحابة، من بعده، قد أجازوا هم أيضاً القراءَة بالمعنى، وعملوا بها. فابن عباس، ترجمان القرآن، كان يجيز قراءَة القرآن بالمعنى ٣٦ . وهو مذهب الصحابة كمجاهد وأُبي بن كعب الـذي كان يقرأ بدل ﴿انظرونا﴾ (الحديد ١٣): ﴿أمهلونا، أخّرونا، ارقبـونا﴾! وبدل ﴿مشوا فيه﴾ (البقرة ٢٠): ﴿مروّا فيه، سعوا فيه﴾ ٣٧ . والخلفاء الراشدون أنفسهم أجازوا تلك الطريقة وعملوا بها ٣٨ .
ويُبرّر ابن الخطيب ٣٩ القراءَة بالمعنى، وخروجها على مبدأ ﴿حفظ الذكر﴾ (الحجر ٩) بقوله: ﴿المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ، لا منطوقها، لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستدَلَّ بها على معان مخصوصة، قُصد بها أوامر ونواه، وعبادات ومعاملات؛ وجميعها مصان محفوظ، مهما تقادم الدهر، وتطاول العمر﴾. وفات الأستاذ الخطيب أن صحة التنزيل في سلامة حرفه، وأن صحة الإِعجاز في القرآن في سلامة حرفه الذي يضيع في القراءَة بالمعنى. فإباحة القراءَة بالمعنى قد تقضي على حرف التنزيل القرآني، وبالتالي على صحة التحدي بإِعجازه. والإِعجاز القرآني قائم على حرفه، في فصاحة ألفاظه، وبديع نظمه، ومحكم أسلوبه. فإذا ضاع الحرف المنزل، في القراءَة بالمعنى، ضاع معه الإِعجاز.
وقد تنبّه لهـذا الأمر الخطير العلمـاء المسلمون ٤٠ والمستشرقون. قال الأستاذ بلاشير ٤١ ، أحد أئمة مترجمي القرآن: ﴿إن نظرية قراءَة القرآن بالمعنى كانت بلا ريب أخطر قضية في التاريخ الإسلامي، لأنها أسلمت النص القرآني الى هوى كل شخص يثبته على ما يهوى﴾. ففي الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى، مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه، شبهة لا تردّ على سلامة النص المنزل من التحريف، وبالتالي على إِعجازه.
ثانياً: إباحة القراءات المختلفة للنص الواحد
إن حديث الأحرف السبعة يجرّ وراءَه إباحة القراءات المختلفة على تلك الأحرف المختلفة. وحديث القراءات المختلفة للقرآن قبل عثمان غير قصة القراءات المتواترة للنص العثماني.
قال ابو شامة ٤٢ : ﴿ظنَّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث (الأحرف السبعة)؛ وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة. وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل﴾. فقد قرأ الصحابة، بحضرة النبي، القرآن، بقراءات مختلفة، وأقرَّها جميعاً. وهذه التوسعة في قراءَة القرآن عمل بها الخلفاء الراشدون. وما اتفقوا على قراءَة واحدة، قبل التوحيد العثماني. ونقل ابن الخطيب ٤٣ أمثلة متعدّدة على اختلاف القراءَة عند أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان؛ ويليهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وابن عبّاس وابن الزبير. ويقول: ﴿وهذه القراءات ثابتة في مصاحف أصحابها ومنقولة عنها... وكذا مصاحف التابعين﴾. وقد بلغ اختلاف الخلفاء الراشدين في القرآن واختلاف الصحابة والتابعين الى الأمصار البعيدة! ﴿فأخذ أهل البصرة القرآن عن أبي موسى الأشعري؛ وأهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود؛ وأهل دمشق عن أُبي بن كعب؛ وأهل حمص عن المقداد بن الأسود. وكان كل قطر من هذه الأقطار يدّعي أنه أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً﴾ ٤٤ .
ولنا خير شاهد على فوضى قراءَة القرآن قبل عثمان، من الفوضى التي نشأت بعد جمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة. فقد قامت قراءات مختلفة للحرف العثماني، بلغت عند الإمام ابن مجاهد سبع قراءات، وعند غيره عشر قراءات؛ وأوصلها بعضهم الى أربع عشرة. ﴿وذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات﴾ ٤٥ . قال الزمخشري من قبله: ﴿إن القراءات اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء﴾. والى اليوم بعد انتشار الخط ثم الطباعة، ﴿قد بلغ الاختلاف في القراءات حدّاً لا مزيد عليه﴾.
فتلك الحال من الفوضى، بعد التوحيد العثماني للحرف القرآني أكبر شاهد على الفوضى البالغة في قراءَة القرآن قبل عثمان، مع وجود الأحرف السبعة لنصه، والرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن على كل من تلك الأحرف السبعة!
فإباحة قراءَة القرآن بالقراءات المختلفة إنما هي شبهة ضخمة على سلامة النص القرآني كما أنزل، وخصوصاً كما أثبته عثمان، وعلى سلامة إِعجاز القرآن في حرفه الباقي.
ثالثاً: الرخصة في قراءة القرآن بجميع لغات العرب
لم تكن اللغة العربية واحدة في الجزيرة، ولا شعوبها واحدة؛ ومهما اختلف الباحثون، فقد أصبح واضحاً جليّاً أن اللغة العربية في الجاهلية لم تكن لغة واحدة يتفق نطقها وصرفها ونحوها. لم يبق هناك شك في أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب، لا شعب واحد. وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة، قد تتفق بينها بعض الألفاظ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية، ولكن كل لغة قائمة بنفسها مستقلة استقلالاً لا شك فيه﴾ ٤٦ .
وكانت رخصة نبوية بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب، قبل الجمع العثماني. ﴿أمّا جمع عثمان. فلم يكن إلاّ لكثرة اختلافهم في وجوه القراءَة، حتى إنهم قرأوه بسائر لغاتهم، على اتّساع تلك اللغات. فلما خشي عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصراً على لغة قريش، محتجّاً بأنه قد نزل بلغتهم﴾ ٤٧ . نرى إذن كم اتسعت الفوضى في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة، وكم يجب من معجزة وعصمة، لا شاهد عليهما، للاهتداء الى النص المنزل الصحيح.
وفي الحرف العثماني الموحّد على لغة قريش نجد ثلاث ظواهر تنبئ بما كان عليه أمر النص المنزل قبل التوحيد العثماني من فوضى: ١) غريب القرآن ٢) ما وقع فيه بغير لغة الحجاز ٣) ما وقع فيه بغير لغة العرب ٤٨ . والاختلافات في قراءَة النص العثماني خير شاهد على سعة الاختلافات قبله، لمّا ﴿كانت المصاحف بوجوه من القراءات مطلقات، على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن﴾. جاءَ في (شرح المواقف ص ٤٩٠) أن في النص العثماني الموحّد ﴿من الاختلافات ما يزيد على اثني عشر ألفاً﴾. فكيف كان الأمر من الفوضى الضاربة أطنابها في قراءَة القرآن قبل توحيد النص العثماني على حرف واحد وقراءَة واحدة؟
أيجوز بعد ذلك الزعم بأن الحرف العثماني هو الحرف المنزل الصحيح سالماً من التحريف؟ إن سلامة النص العثماني من التحريف معجزة لا شاهد لها من قرآن ولا من حديث صحيح. فالرخصة في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب، نيّفاً وثلاثين سنة قبل الجمع العثماني، القت على صحة النص المنزل شبهة عظمى لا مردَّ لها، وبالتالي على صحة التحدي بإِعجازه.
رابعاً: بعد نزول القرآن على سبعة أحرف، إباحة القراءَات بها
على أساس إباحة قراءَة القرآن، قبل عثمان، قراءات مختلفة بسائر لغات العرب المختلفة، نجد حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وما يتبعه من إباحة قراءَته بهذه الأحرف السبعة، وكل حرف منه بجميع لغات العرب. قال السيوطي ٤٩ : ﴿ليس المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة﴾. فالعدد الحقيقي أكثر من سبعة.
وكانت القراءات، قبل عثمان، مطلقات على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. يقول ابن الخطيب ٥٠ : ﴿ويرجع تاريخ الاختلاف بالقراءات الى زمن الصحابة. وهذا الذي حدا بعثمان الى كتابة مصحفه وجمْع الناس على قراءَة واحدة... ولم يكتب عثمان المصحف إلاَّ خشية الاختلاف في القراءَات والتغالي فيها وتفضيل احداها على الأخرى... فأمّا قبل عثمان فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات مطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن﴾. وهكذا مع تفرّق القرآن على سبعة أحرف وأكثر، جاءَت القراءَات المختلفة على كل حرف منها، فزادت في فوضى النص المنزل، حتى خشي عثمان من ضياع القرآن. فجمع القرآن على حرف واحد، وجمع الأمة على قراءَة واحدة، بالحديد والنار.
ولكن بعد تلك الفوضى في القراءَات المختلفة، على الفوضى في الأحرف السبعة المختلفة، أنّى لعثمان ولجانه المتتابعة من العثور على النص الصحيح المنزل، بدون تحريف؟ وليس ثمَّتَ من شاهد في القرآن، ولا من أثر أوجز في الحديث، ينص على أن كتبة الوحي، أو القراء، أو الصحابة، أو الخلفاء الراشدين، أو جامعي القرآن من لجان عثمان، كانوا معصومين ليهتدوا الى النص المنزل. فلا ضامن لاختيار عثمان الحرف المنزل الصحيح، ولا عصمة لهم في صحة اختيار الحرف الصحيح والقراءَة الصحيحة. واذا كان كل حرف أي نص من القرآن، ظل يُقرأ نحو نصف قرن قبل عثمان، بجميع لغات العرب، نرى الفوضى التي لا مثيل لها، والتي وصل اليها النص المنزل. قال ابن عبد البرِّ في اختلاف نصوص القرآن وفي شرط القراءَة بها: ﴿إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده﴾. فالشرط الوحيد لاختلاف الأحرف القرآنية وإباحة القراءَة بها أن لا يكون في شيء منها معنى وضده، كآية عذاب بدل آية رحمة. فهل من ضابط بعد هذه التوسعة لحفظ نص القرآن المنزل؟ وهل يمكن بعدها، وبعد وفاة كتبة الوحي وأكثر القراء الأوائل، العثور على النص الأصلي بدون تحريف؟ إن ذلكم ضرب من المعجزة ومن العصمة لا شاهد لهما من قرآن أو من حديث.
وهذه شواهد قاطعة نقلوها لقراءات القرآن المختلفة عن الأئمة. نقل الطبري ٥١ مثلاً على تصرف أنس بن مالك في قراءَته. قرأ ﴿إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأً وأصوب قيلاً (المزّمل ٦). فقال له بعضهم: ﴿يا أبا حمزة، إنما هي: أقوم! فقال: أقوم وأصوب وأهيا، كلها واحد﴾. ونقل السيوطي ٥٢ عن أبي بكر أنه كان يقرأ: ﴿كلما أضاءَ لهم مشوا فيه﴾، مرّوا فيه، سعوا فيه... وكان ابن مسعود يقرأ: ﴿للذين آمنوا، انظرونا، أمهلونا، أخرونا﴾. فهذه الشواهد تدل على أنهم تصرّفوا بنص القرآن على هواهم وبحسب سليقتهم العربية، وألسنتهم المختلفة. وهذا التصرف بقراءَة القرآن على سبعة نصوص مختلفة فما فوق، وبجميع لغات العرب المختلفة، أضاع النص الأصيل، أو أدخل عليه التحريف الطويل. لذلك، لمّا كلّف أبو بكر وعمر، لأول مرة، زيد بن ثابت بجمع القرآن، صُعِق وقال: ﴿فوالله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمراني به من جمع القرآن﴾ ٥٣ .
ففي هذه الإباحة والرخصة بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة، على كل حرف من نصوصه السبعة، شبهة قائمة دائمة على صحة النص المنزل، وعلى إِعجاز القرآن نفسه في الحرف العثماني.
والنتيجة المذهلة الحاسمة القاطعة التي نصل اليها بعد تلك الرخص الأربع لقراءَة القرآن، على سبعة أحرف، وقراءات مختلفة، وبجميع لغات العرب، وبالمعنى من دون الحرف واللفظ، هي: ١ ـ الشبهة القتّالة على سلامة النص المنزل من التحريف؛ ٢ ـ الشبهة المريبة على ﴿حفظ﴾ القرآن، الذي يعتبرونه معجزة؛ ٣ ـ الحجة القائمة التي لا مردّ لها لاستحالة التحدي بإِعجاز القرآن، لأن هذا الإِعجاز يقوم، في نظرهم، لا على المعنى، بل على اللفظ والنظم والأسلوب أي على الحرف، وهذا الحرف لا يمكن أن يسلم في تلك الفوضى، مدة نصف قرن تقريباً، التي خلقتها الرخص الأربع لقراءَة القرآن قبل أن يجمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة، بلغة واحدة. فهذا الحرف العثماني الباقي، لم يكن هناك من معجزة تعصمه في صحة الاختيار بين سبعة أحرف، على قراءات مختلفة، بجميع لغات العرب، وأحياناً بالمعنى من دون اللفظ المنزل، وذلك مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه.
فأين الإِعجاز في التنزيل المعصوم من التحريف؟ وأين المعجزة في حفظه كما نزل؟ فحق لهم أن يقولوا: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة!
بحث رابع
في معرفة حفّاظه ورواته (الإتقان ٧٢:١)
إن واقع البيئة، وواقع السيرة النبوية، يدلاّن على أن حفظ القرآن قام على حفظه في الصدور، لا على تدوينه في الأحجار والقشور. فصحة حفظه تقوم على ﴿معرفة حفّاظه ورواته﴾. وقد جمع السيوطي من الأحاديث ما يحمل على الشبهة والريبة.
الواقع الأول: ﴿روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: خذوا القرآن من أربعة (من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبَي بن كعب). أي تعلموا منهم. والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين، وهما (ابن مسعود وسالم) واثنان من الأنصار (معاذ وأبي). وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة؛ ومعاذ هو ابن جبل.... وقد قتل سالم، مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة؛ ومات معاذ في خلافة عمر؛ ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان. وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت اليه الرئاسة في القراءَة، وعاش بعدهم زمناً طويلاً﴾. فالنتيجة الحاسمة لهذا الحديث الصحيح أن زيد بن ثابت لم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه. ولم يحضر نزول القرآن بمكّة، لحداثة سنه، وهو أنصاري. فإسناد رئاسة قراءَة القرآن وجمعه اليه موضوع نظر. ولمّا جمع زيد بن ثابت القرآن الجمع الأخير على زمن عثمان كان القراء الأربعة الذين أوصى بهم النبي قد توفوا. فلم يبق له من سند لا شبهة عليه.
الواقع الثاني: أجل لا نحصر حفظة القرآن بالأربعة الموصى بهم. لكن جاء ﴿في الصحيح في غزوة بئر معونة إن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء. وكانوا سبعين رجلاً... وقال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي ﷺ ببئر معونة مثل هذا العدد﴾. فعلى عهد النبي ثم في حروب الردّة على أيام أبي بكر كان قد قُتل من القراء نحو أربعين وماية قارئاً. وذلك قبل أن يباشر زيد بن ثابت بأمر أبي بكر، على نصيحة عمر، بجمع القرآن. فالنتيجة الحاسمة الثانية أن أكثر حفظة القرآن قد ماتوا قبل جمعه وتدوينه. وحفظته من الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين كانوا يحفظون شذرات، ولا يحملون القرآن كله، وأنّى لهم الفراغ مع النبي وبعده.
الواقع الثالث، في ثلاثة أحاديث متعارضة:
﴿روى البخاري أيضاً عن قتادة قال: سألتُ أنس بن مالك، مَن جمع القرآن على عهد النبي ﷺ؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلتُ: مَن أبو زيد؟ قال أحد عمومتي. وروى أيضاً من طريق ثابت عن أنس: مات النبي ﷺ ولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (عم أنس بن مالك). وفيه المخالفة لحديث قتادة من وجهين حدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة. والآخر ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب. وقد استنكر جماعة من الأثمة الحصر في الأربعة﴾.
والظاهر أنه جمع حفظ، لا جمع تدوين ـ وإلاّ فلا معنى لتدوين زيد بن ثابت. والمشكل أنهم ﴿كلهم من الأنصار﴾، لم يشهدوا التنزيل في مكّة؛ وليس بينهم عبد الله بن مسعود ولا سالم، وكلاهما من المهاجرين. والتعارض الأكبر بين هذين الحديثين، والحديث البخاري الأول أنه ليس بينهم أحد ـ سوى أبي زيد ـ ممن أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم. ولا ذكر لأبي زيد في قصة تدوين القرآن. وفي قول أنس أنه ﴿لم يجمعه غيرهم﴾. وهو متعارض مع حديث وصية النبي بأخذ القرآن عن غيرهم. فممّن أخذوا القرآن؟
ويأتي الحديث الثالث فيغمرنا بالظلمة: ﴿أخرج ابن اشته بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن؛ وقتل عمر ولم يُجمع القرآن. قال ابن اشته: قال بعضهم يعني لم يُقرأ جميع القرآن حفظاً؛ وقال بعضهم هو جمع المصاحف﴾. وحديث ابن سيرين ينقض قصة جمع القرآن وتديونه بواسطة زيد بن ثابت على أيام أبي بكر وعمر.
والنتيجة الحاسمة الكبرى أن حفظ القرآن ثم جمعه يقومان على أكتاف زيد بن ثابت، وهو فتى أنصاري على حياة النبي؛ ولم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه. فرئاسته في قراءَة القرآن وجمعه وتدوينه محل شبهة، بسبب سنه على حياة النبي، وبسبب وصية النبي في أخذ القرآن عن غيره. فهل التاريخ الثابت من الحديث الصحيح يدل على معجزة في حفظ القرآن؟
بحث خامس
من تاريخ جمع القرآن وتدوينه
إن تاريخ جمع القرآن يُلقي ظلاً ثقيلاً على سلامة حرفه، موضوع إِعجازه.
بعد وفاة النبي ظهرت محاولات فردية ثم رسمية لجمع القرآن.
أولاً: المحاولات الفردية لجمع القرآن
إن تعدّد أنواع الجامعين، وتنوّع المصاحف المجموعة المختلفة تثير شبهات.
١ ـ في المحاولات الفردية اختلفوا في أول مَن حاول جمع القرآن.
قيل أن أول مَن حاول جمع القرآن علي بن أبي طالب. بعد بيعة أبي بكر قعد في بيته. فقيل لأبي بكر: كره بيعتك! فأرسل إليه فقال: أكرهتَ بيعتي؟ قال: لا واللهِ! قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نِعم ما رأيت! ـ هذا حديث محمد بن سيرين عن عكرمة. وقيل جمع علي القرآن كما أنزل الأول فالأول، بحسب تاريخ نزوله. وأخرجه ابن أشـته في (المصاحف) من وجـه آخر عن ابن سيرين أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ٥٤ .
ويُرجع أهل السنة الفضل في جمع القرآن لأبي بكر الصديق. ﴿أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عبد خير قال: ﴿سمعت عليّاً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر. رحمة الله على أبي بكر هو أول مَن جمع كتاب الله﴾! لكن ابن أبي داود ينقل أيضاً الحديث المناقض لابن سيرين عن عكرمة أن عليّاً كان أول من جمع القرآن ٥٥ .
﴿وأخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية في كتاب الله فقيل: كانت مع فلان قُتل يوم اليمامة. فقال: إنّا لله! وأمر بجمع القرآن فكان أول مَن جمعه في المصحف﴾. يفسّره السيوطي: ﴿المراد بقوله (فكان أول مَن جمعه) أي أشار لجمعه﴾ ٥٦ .
وهكذا ينسبون الأولية في جمع القرآن الى كلٍّ من الخلفاء الراشدين الأربعة.
لكن لم يكن لهم في مهام خلافتهم متّسع من الوقت للاهتمام شخصياً بجمعه. لذلك أخرج ابن اشته في كتاب (المصاحف) عن ابن بريدة قال: ﴿أول من جمع القرآن في مِصحف سالم، مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه. ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم سمّوه: السفر. قال؛ ذلك تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيتُ مثله في الحبشة يُسمى المصحف، فاجتمع رأيهـم على أن يسـموه المصحف﴾. فسّره السيوطي: ﴿وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر﴾ ٥٧ .
لاحظ الاختلافات وكثرة الاحتمالات في قصة جمع القرآن.
والحديث المعتمد عن صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق، بإشارة عمر، أمر زيد بن ثابت في جمع القرآن؛ ﴿فتتبعت القرآن أجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفـاه الله، ثم عند عمر حيـاته، ثم عند حفصة بنت عمر﴾ ٥٨ . فيكون زيد بن ثابت هو أول جامع للقرآن. والشبهة الكبرى في ذلك أن زيداً، على حياة النبي، لم يكن قد بلغ الحلم بعد.
٢ ـ وذكروا أيضاً أنّ أمهات المؤمنين، أزواج النبي، قد حاولن هنّ أيضاً جمع القرآن. فذكروا أن عمر بن رافع، مولى حفصة، بنت عمر وزوج النبي، جمع لها مصحفاً، عُرف باسمها. وهذا يُلقي شبهة أخرى على الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر، ﴿فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر﴾ كما نقل البخاري من حديث زيد بن ثابت.
وذكروا أيضاً أن أبا يونس، مولى عائشة، بنت أبي بكر وزوج النبي المفضّلة، جمع لها مصحفاً عُرف أيضاً باسمها. وقد روى عروة بن الزبير حديثاً عن عائشة: ﴿إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدر منها إلاّ ما هو الآن﴾، أي (٧٣ آية). وروي عن حميدة بنت أبي أوس قالت: ﴿قرأ عليَّ أبي، وهو ابن ثمانين، في مصحف عائشة: (يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ـ وعلى الذين في الصفوف الأولى)، وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف﴾.
فعليُّ يشهد بأن كتاب الله يُزاد فيه؛ وعائشة تشهد بأن عثمان غيّر المصاحف.
فهناك تيّار ينسب جمع القرآن الى كل من الخلفاء الراشدين. وهناك تيار ينسبه الى موالي أمهات المؤمنين.
٣ ـ وهناك تيار ثالث ينسب مصاحف أخرى لأئمة القراء الذين أوصى بهم النبي: مصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أُبي بن كعب، ومصحف معاذ، ومصحف سالم، مولى حذيفة. وأشهرهما مصحف ابن مسعود، ومصحف أُبي. ﴿وإن المصحفين ظلاّ موجودين يُقرأان إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة، وإن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة، ومغاير لترتيب المصحف العثماني من جهة أخرى. وإن في أحدهما زيادة، وفي أحدهما نقص﴾ ٥٩ . فلم تكن الفاتحة، ولا خاتمة القرآن (المعوذتان) في مصحف ابن مسعود، وكان يحكهما ويقول؛ إنهما ليستا من كتاب الله ٦٠ . فابن مسعود يشهد بأن (الفاتحة) ليست من القرآن.
وفي مصحف أُبي، كانت سورة اسمها ﴿الحفد﴾ وأخرى اسمها ﴿الخلع﴾ وكان عليّ يعلّمهما الناس، وعمر بن الخطاب يُصلّي بهما. وقد أسقطهما عثمان في الجمع الأخير ٦١ .
٤ ـ وهذا هو الواقع القائم بين هذه التيارات: كان الناس في الأقطار يقرأون القرآن بقراءَة القرّاء المختلفة. روى ابن الأثير (٨٦:٣) أن الأمة قبل عثمان كانت تقرأ القرآن في أربع نسخ مختلفة: نسخة أُبي في دمشق، ونسخة المقداد في حمص، ونسخة ابن مسعود في الكوفة، ونسخة الأشعري في البصرة. وممّا يدل على اختلافها البعيد اقتتال أهل الشام وأهل العراق في معارك أذربيجان، بسبب قراءاتهم المختلفة للقرآن الواحد. وهذا ما أفزع القائد حذيفة (وكان مولاه سالم قد جمع له قرآناً) ففزع الى عثمان بن عفان يحرّضه على توحيد المصاحف.
وحديث الأحرف السبعة، يرفع النصوص المختلفة من أربعة الى سبعة.
قال حذيفة بن اليمان: ﴿غزوتُ مرج أرمينية فحضرها أهل العراق والشام. فإذا أهل الشام يقرأون بقراءَة أُبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع به أهل العراق، فتكفرهم أهل العراق. وإذا أهل العراق يقرأون بقراءَة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فتكفّرهم أهل الشام﴾ ٦٢ .
وهذا الاختلاف والاقتتال والتكفير في حرف القرآن، في الثغور والفتوحات، قد وصل الى الغلمان والمعلمين في بيوت حفظ القرآن. ﴿وقد رُوي حديث عن أنس بن مالك جاء فيه: إنّ الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون. فبلغ ذلك عثمان، فقال: عندي تكذبون وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشدّ تكذيباً ولحناً! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً﴾ ٦٣ .
فالتكفير والاقتتال في مدارس القرآن، وفي غزوات الفتح، على صحة حرف القرآن، شهادة قائمة على وقوع التحريف في نص القرآن، قبل الجمع العثماني. وأنى لعثمان ولجانه المختلفة الوصول الى النص الأصلي المنزل، بعد أن أمسى قبل جمعه سبعة أحرف، أي سبعة نصوص، بقراءات مختلفة. إن إتلاف عثمان، برضى الصحابة لجميع المصاحف سوى مصحفه، برهان قاطع على اختلافها في حرف القرآن، ودليل قائم على استحالة الوصول الى النص الصحيح المنزل المعجز.
ففي الوضع القائم للقرآن على سبعة أحرف، عند وفاة النبي، شبهة أولى ضخمة على صحة حرف القرآن. وفي الوضع الذي انتهوا إليه عند الجمع العثماني شبهة أخرى ضخمة على صحة حرف القرآن. وهذه الشبهات التاريخية القائمة لا يصح معها ادّعاء وسلامة الحرف القرآني، موضوع التنزيل، وموضوع التحدي بإِعجاز القرآن. فالتحدي بإِعجاز حرف القرآن، لا أساس له. والواقع التاريخي ﴿لحفظ﴾ القرآن ينقض معجزة ﴿حفظه﴾ المزعومة.
ثانياً: المحاولات الرسمية لجمع القرآن
إن المحاولات الرسمية لجمع القرآن تمت على مراحل تثير أيضاً الشبهات.
١ ـ الاصدار الرسمي الأول للقرآن، في زمن أبي بكر.
يؤخذ من حديث زيد بن ثابت، في صحيح البخاري أنه كان أول جامع للقرآن، بأمر أبي بكر الصديق، بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب، ﴿فإن القتل قد استمرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء في المواطن﴾ ٦٤ . وشعور زيد بهذا التكليف يدل على استحالة الجمع بعد أن استمر القتل بقراء القرآن: ﴿فوالله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمّا أمراني به، من جمع القرآن﴾!
والشبهة الثانية على هذا الجمع الأول هي في تكليف زيد بن ثابت، وقد كان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد على حياة النبي. لذلك أيضاً قال قوله السابق! فما السر في تكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن على عهد أبي بكر، ثم على عهد عمر، ثم على عهد عثمان، ولم يكن زيد من الذين أوصى النبي بأن يأخذوا القرآن عنهم؟ فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن العاص قال: ﴿سمعت النبي يقول: خذوا القرآن من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب﴾. وهما اثنان من المهاجرين واثنان من الأنصار. وقد قُتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة. ومات معاذ في خلافة عمر. ومات أبي بن كعب وابن مسعود في خلافة عثمان وكانا يشنّعان عليه في طريقة جمعه للقرآن، وتولية زيد بتلك المهمة؛ ﴿فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن. هو، فيما كان يقول، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد﴾ ٦٥ .
ففي سنّ زيد، جامع القرآن الرسمي، شبهة ضخمة على صحة جمعه. وفي ما أسندوه اليه من عمل شبهة أخرى. جاء عنه في صحيح البخاري: ﴿فتبعت القرآن أجمعه... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عنـد عمر حياته، ثم عنـد حفصة بنت عمر﴾ ٦٦ . وينقل البخاري عنه حديثاً ثانياً ينقضه: ﴿قال ابن حجر: ووقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال: فأمرني أبو بكر فكتبتُه في قطع الأديم والعُسُب؛ فلما توفّي أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده ـ قال: والأول أصح؛ إنما كان في الأديم والعُسُب أولاً قبل أن يُجمع في عهد أبي بكر، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة﴾ ٦٧ .
فهل كان القرآن الذي جمعه زيد، على زمن عمر، في صحف أم في صحيفة واحدة؟ ثم، لمّا توفي عمر، هل كانت الصحف عند حفصة بنت عمر، كما في صحيح البخاري، أم كانت في ربعة عمر، من حيث جاءَ بها عثمان؟ كما أخرج أبو داود في سنته ٦٨ . وهذا الجمع الأول لم يوقف الخلاف في حروف القرآن، حتى عمّ التكفير والاقتتال.
٢ ـ الاصدار الثاني للقرآن كان على زمن عثمان بن عفان، عام ٢٥ بعد الهجرة.
رأينا أن سبب جمع عثمان الجديد للقرآن كان بسبب اقتتال الغلمان والمعلمين في المدارس، واقتتال وتكفير المحاربين بعضهم بعضا في الحروب والفتوحات.
ولدينا روايتان على الجمع العثماني. الرواية الأولى إن اللجنة العثمانية لجمع القرآن كانت من أربعة: زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث. روى البخاري: ﴿فأرسل الى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك. فأرسلت بها حفصة. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: اذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف الى حفصة. وبعث الى كل أُفق بمصحف ممّا نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق﴾ ٦٩ .
الرواية الثانية أن اللجنة العثمانية كانت من اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، وأن صحف زيد كانت في ربعة عمر، لا عند حفصة. ﴿أخرج أبو داود حديثاً جاء فيه: ﴿لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها﴾ ٧٠ .
وهنا تنهال علينا الشبهات تترى في الجمع العثماني.
أولاً: بما أن عمل اللجان العثمانية يقتصر على نسخ مصحف زيد، فلِم وصية عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: ﴿إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم﴾ ـ فالخلاف في القرآن واقع، والاختلاف في تدوين حرفه منتظر. فهذه شهادة على شبهة مزدوجة: إن في مصحف زيد قرآنا ليس بلسان قريش؛ وأنّ بمصادر القرآن التي يجمعونه منها ما ليس بلسان قريش الذي نزل به.
ثانياً: إذا كان الجمع العثماني مجرد نسخ للصحف التي كتبها زيد على زمن أبي بكر، أو الصحيفة التي كتبها على زمن عمر، فكيف يمكن الاختلاف فيما بين الجامعين؟ فلم يكن الأمر إذن مجرد نسخ، بل هو جمع جديد للقرآن، كما قال: ﴿يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً﴾ (الطبري ٦٠:١). والجمع الجديد دليل الشبهة على الجمع الأول، كما أن الجمع الأول دليل الشبهة على الجمع الثاني: فلو كان الجمعان واحداً، لما وقع الخلاف.
ثالثاً: في الروايتين على الجمع العثماني تعارض في تكوين اللجنة من أربعة أم من اثني عشر رجلاً، وفي وجود صحف زيد في بيت حفصة أم في ربعة عمر.
رابعاً: إذا كان الخلاف محذوراً في اللجنة الرباعية، فهل يكون مأموناً في اللجنة الاثنعشرية؟
خامساً: والشبهة الكبرى في إمامة زيد للجان العثمانية، ولم يكن زيد قد بلغ الحلم في زمن النبي؛ ولم يكن من الأربعة الذين أوصى بأخذ القرآن عنهم.
يقول طه حسين ٧١ : ﴿وقد يمكن أن يُعترض عليه في أنه كلّف كتابة المصحف نفراً قليلاً من أصحاب النبي، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وعلّموا الناس في الأمصار. وكان خليقاً أن يجمع هؤلاء القراء جميعاً ويجعل إليهم كتابة المصحف. ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود. فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن وهو فيما كان يقول قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد! فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه، وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه، قد أثار عليه بعض الاعتراض. وهذا شيء يفهم من غير مشقة ولا عناء﴾.
سادساً: إن أمر عثمان في طريقة جمع القرآن وتدوينه كانت أمره للرهط القرشيين الثلاثة: ﴿إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنمـا نزل بلسانهم﴾. وإِعجاز القرآن يقوم على التحدي ﴿بمثله﴾. وعند اختلاف الجامعين كانوا يكتبون القرآن بلسان قريش، فهم اذن في تدوين القرآن قد أتوا ﴿بمثله﴾.
سابعاً: والشبهة الضخمة على المصحف العثماني هي تحريق ما عداه من المصاحف، حتى مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين. وهذه الشبهة الضخمة ذات حدين: فهي تلحقه لأنه قضى عليها؛ وهي تلحقها لأنه يعارضها. ولو كانت المصاحف واحدة لما احتاج عثمان إلى تحريقها!
وكان الصحابة يتمسكون بمصاحفهم بسبب الحديث الشريف: ﴿نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف﴾! ﴿فعثمان حين حظر ما حظر، وحرَّق ما حرّق من الصحف، إنما حظر نصوصاً أنزلها الله، وحرَّق صحفاً كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله. وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفاً أو يحرق من نصوصه نصاً﴾ ٧٢ . وهذا، في رأينا، سبب الفتنة البعيد الذي أودى بحياة عثمان في الثورة عليه وقتله. فقد ﴿أنكر ابن مسعود، وأنكر معه كثير من الناس ما كان تحريق المصاحف. واشتد نقد ابن مسعود لعثمان. وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع. وكان يقول في ما يقول. ﴿إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى وكل ضلالة في النار﴾! ٧٣ فكأنه أفتى باغتياله.
فكان ما كان مما لستُ أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر!
ثامناً: وهذه هي ميزات توحيد النص العثماني:
١) شهد علي بن أبي طالب: ﴿رأيت كتاب الله يزاد فيه﴾ فنقّحه، فلم يأخذ عثمان بذلك.
٢) وكتب علي في مصحفه الناسخ والمنسوخ كله، فأسقط عثمان من المنسوخ كثيراً.
٣) شهد ابن عمر أنه بعد الجمع العثماني ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾!
٤) وشهدت عائشة أنه كان من القرآن ﴿قبل أن يغيّر عثمان المصاحف﴾.
٥) وعدل عثمان عن الترتيب التاريخي الذي أخذ به علي وآل البيت، الى الترتيب التنسيقي بحسب الطول فالقصر، كما اعتمد جماعة بني أمية. والترتيب ناحية من الإِعجاز فتلك الميزات في التوحيد العثماني للنص القرآني شبهات عليه.
تاسعاً: يقول السيوطي بأن في الحرف العثماني الناجي ما هو ﴿بغير لغة الحجاز﴾، وما هو ﴿بغير لغة العرب﴾، مع أن القرآن نزل بلغة قريش، وقد أمر عثمان بكتابته بلسانهم. وهذه الرواسب دلائل على أن حرف التنزيل لم يبق سالماً في المصحف العثماني مع ما بذلوه من حرص حين جمعه وتدوينه.
عاشراً: ما معنى تعدّد جمع القرآن؟ يقول محمد صبيح ٧٤ : ﴿لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر بنسخ صور ممّا كتب زيد بن ثابت؟...ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على أن يكون لكل واحد منهم، أو لدى بعضهم على الأقل، نسخ من هذه الصحف؟ ـ الجواب على هذا السؤال عسير﴾. وأعسر منه الجواب على هذا السؤال: لماذا فُضّل مصحف زيد بن ثابت، وكان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد في حياة النبي، على مصحف عليّ بن أبي طالب، وهو الشاهد الأسبق للقرآن والدعوة والسيرة؟ وعلى مصحف ابن مسعود، وهو الذي ﴿لزم النبي لزوماً متصلاً في سفره وإقامته، حتى كاد يُعدّ من أهل بيته. فكان أثناء إقامة النبي صاحب اذنه؛ وكان اذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه. وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه. وكان النبي يحبه حباً شديداً ويوصي بحبه﴾ ٧٥ . فكأن محمداً يسلك سلوك أسقف النصارى في جماعته، وابن مسعود ﴿قوّاصه﴾!
وأعسر أكثر الجواب على هذا السؤال أيضاً: لقد رضى أبو بكر ثم عمر بمصحف زيد: فَلِمَ يرفضونه في زمن عثمان، كما يظهر من وصيته لجامعي الحرف العثماني: ﴿اذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن﴾، ويفرضون بالحديد والنار المصحف العثماني؟ يحق لنا أن نقول: ألا يترك هذا التصرف شبهة لا تزول على مصحف زيد ثم على المصحف العثماني الناجي معاً؟
أخيراً، بعد نزول القرآن على سبعة أحرف، وبعد الرخص النبوّية الأربع بقراءة القرآن على سبعة أحرف، ﴿وقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن﴾ ٧٦ ، وإجازة القراءات المختلفة، على الحروف المختلفة بلغات العرب جميعها، وإباحة القراءَة بالمعنى من دون الحرف، وذلك مدة أربعين سنة، منذ بدء التنزيل حتى الجمع العثماني سنة خمس وعشرين للهجرة كما روي عن ابن حجر ٧٧ ، بعد هذا كله واختلافهم في حرف القرآن حتى التكفير والاقتتال قبل التوحيد العثماني ـ هل كان بإمكان اللجان العثمانية، وقد مات أكثر حفظة القرآن وقرائه، وجميع الجامعين غير معصومين، أن تصل الى النص المنزل الذي لا تشوبه شائبة؟ إن البرهان القاطع على أنه لا يمكن أن تصل اليه أن عثمان قد أتلف سائر المصاحف ليحمل الأمة على مصحفه. وقد استأذن السيدة حفصة في خرق الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر، وكانت أمانة عندها من أبيها عمر بن الخطاب. كلها شبهات يحار فيها العقل والإيمان، ولا جواب لها. والنتيجة الحتمية لهذا كله شبهة على صحة الحرف العثماني، وعلى صحة التحدّي بإِعجازه.
٣ ـ الموقف التاريخي من الجمع العثماني
إننا نوجز الموقف التاريخي من الجمع العثماني بما قاله أبو جعفر النحاس ٧٨ : ﴿إن رسول الله قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف). فرأى عثمان أن يزيل منها ستة، وأن يُجمع الناس على حرف واحد. فلم يخالفه أكثر الصحابة... وأراد عثمان أن يختار من السبعة حرفاً واحداً هو أفصحها ويزيل الستة. وهذا من أصح ما قيل فيه، لأنه مروي عن زيد بن ثابت﴾.
فيحق لنا أن نتساءَل: هل اتلاف ستة أحرف منزلة من الأمانة لحفظ القرآن؟ هل كانت لجان عثمان معصومة لاختيار ﴿أفصح﴾ الأحرف السبعة؟ يصح الجزم بأنها لم تكن معصومة، والنبي وحدَه كان يعلم الأفصح، ولم يبيّنه، بل أطلق القراءَة بها جميعاً لأن كل حرف منها ﴿كافٍ شافٍ﴾. فإن اتلافها شبهة قائمة على صحة الإِعجاز في الحرق العثماني.
قال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن) ٧٩ : فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يُبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي ﷺ عشرين سنة. فكان تزوير ما ليس منه مأموناً، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه﴾. إنّما لو صحّ أنهم ﴿يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي﴾ لما اختلفوا في حرف القرآن حتى الاقتتال والتكفير؛ ولما أتلف عثمان الأحرف الستة وسائر المصاحف غير مصحفه.
أجل لم يخالف عثمان ﴿أكثر الصحابة﴾. لكنه خالفه أئمتهم كعلي بن أبي طالب وابن مسعود. ويذكرون أنه أبى كابن مسعود أن يُسلّم نسخته الى عثمان لينقحها أو يتلفها، بحجة أنها كانت كاملة وكان ابن مسعود يقول ﴿يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّقوها﴾ ٨٠ . وكذلك أبى أُبَي بن كعب أن يسلّم مصحفه. وأنس بن مالك يُهمل المصحف العثماني ويصطنع لنفسه مصحفاً على مثال مصحف ابن مسعود، ومصحف أُبي. وهذه المصاحف الأربعة كانت متقاربة في اختلافها مع المصحف الأميري العثماني المفروض. وفي تقاربها بعضها لبعض أو في اختلافها جملة مع المصحف العثماني شهادة عليه.
وهذا الموقف، بعد الجمع العثماني، يلقي الشبهة على عصمة الحرف العثماني وصحته وإِعجازه، فلا يصح التحدي به.
وتلك المصاحف الأربعة سلمت من الاتلاف العثماني لتقع في غيره.
٤ ـ الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج
كان الحجاج بن يوسف، من بني ثقيف، عميل الأمويين المروانيين على العراق. وأحد دهاة السياسة العالميين عبر التـاريخ، ومن أكبر جزّاري البشرية. يقـول دروزة ٨١ : ﴿هناك رواية أن المصحف المتداول، إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه... وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة، ومصاحف عثمان وأبادها﴾. ويقول ابن الخطيب (الفرقان ٤٩ ـ ٥٠): ﴿قيل: إن أول من أمر بنقطه وشكله هو عبد الملك ابن مروان. فتصدّى لذلك عامله الحجاج بن يوسف الثقفي. فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك. وقيل إن أول من نقطه أبو الأسود الدؤلي. وقيل: نصر بن عاصم الليثي. وقيل غير ذلك. والقول الأول هو الأرجح﴾.
واختلافهم في صاحب تنقيط القرآن وتشكيله، يهدم هدم الأستاذ دروزة ٨٢ لرواية مصحف الحجاج: ﴿ولعل الرواية محرفة من حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه، ممّا صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به﴾. ينقضه أيضاً ما ثبت أنه ﴿قد غيّر الحجاج بن يوسف الثقفي في المصحف اثني عشر موضعاً﴾ ٨٣ . فلم يقتصر دور الحجاج على التنقيط والتشكيل.
وقد سمعتُ من بعض الراسخين في العلم أن جمع الحجاج الجديد للقرآن إنما كان لإسقاط ما بقي بعد إسقاط عثمان ممّا لا يليق بحق بني أمية، وخصوصاً لإقحام آية الإسراء في مطلع سورة ﴿بني إسرائيل﴾، وذلك لتحويل حج أهل الشام من مكّة إلى بيت المقدس، اتقاءً للفتنة المستعرة بمكّة على بني أمية. فصارت سورة ﴿بني إسرائيل﴾ سورة ﴿أسرى﴾ ثم ﴿الإسراء﴾. وفي آية الإسراء شاهد على هذا الاقحام فهي لا تمت بصلة الى السورة، ولا إلى ما قبلها في النسق أو في ترتيب النزول.
والبرهان الأكبر على أن إصدار الحجاج للقرآن لم يقتصر على إعجام القرآن وتنقيطه هو إتلاف المصاحف العثمانية وسائر المصاحف المتداولة. فلو لم يكن في جمع الحجاج من تصحيف أو تحريف، لما كان من داع لاتلاف المصاحف العثمانية وهي في حرفها واحدة مع نسخ الحجاج! وليس من المعقول أن تضيّع الأمة نسخ المصحف الإمام!
ولا أن تسهر عليها كأثمن ما في الوجود! إن ضياعها من الوجود جميعاً كان بقدرة قادر، هو الحجاج! يقول الأستاذ دروزة ٨٤ : ﴿من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم؟ ـ مع ما يُقال عن وجود بعضها قولاً غير مؤيَّد بشاهد، ووصف عياني، موثوقين﴾. ويقول الدكتور صبحي الصالح ٨٥ : ﴿وإن الباحث ليتساءَل: أين أصبحت المصاحف العثمانية اليوم؟ ـ ولن يظفر بجواب شاف عن هذا السؤال، فوجود الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور، أو المبيّنة لأعشار القرآن، ينفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجرّدة من كل هذا﴾.
والنتيجة الحاسمة لفقدان النسخ العثمانية ـ وهي المصحف الأميري الذي أجمع الأمة على تلاوته الخلفاء الراشدون ـ أن الحجاج قد أتلفها، وما أتلفها إلاّ ليحرّف فيه!
ومن لا يتورع عن هدم الكعبة، بيت الله، هل يتورّع عن مسّ القرآن، كتاب الله؟ مَن يُعدّون من ضحاياه نحواً من ماية وثلاثين ألفاً أسلمهم للجلاّد، ومَن مات وسجونه تعج بنحو خمسين ألفاً من الرجال، وثلاثين ألفاً من النساء، هل يتورّع في تصفية القرآن من الإشارات الجارحة لبني أمية؟ ومن إقحام ما اقتضت مصلحتهم بإقحامه كآية الإسراء؟
لا شك إن الخصومة التي قامت في الجاهلية بين بني أمية وبني هاشم، ثم امتدت الى الإسلام، وكان من نتائجها انقسام الأمة والحروب الأهلية المتواصلة، التي نخرت عظام الدولة الإسلامية منذ قيامها حتى القضاء عليها. وخروجها من يد العرب؛ وكان من نتائجها أيضاً دون شك إصدار القرآن الأول على يد زيد بن ثابت من دون أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود، واصدار القرآن الثاني على يد عثمان والثورة عليه وقتله، وإصدار القرآن الثالث والأخير، الحي الباقي، على يد الحجاج ـ قد لعبت دورها في تصفية القرآن كما وصل الينا. فليس في العالم اليوم، بعد الحجاج، إلاّ ﴿القرآن المصفّى﴾.
وبما أن القرآن الحالي المتداول هو أخيراً من جمع الحجّاج وإخراجه ـ كما يتضح من إتلاف أو ضياع المصاحف العثمانية ـ فكفى بالحجاج شبهة دائمة على صحة الحرف القرآني وعلى صحة إِعجازه.
وإننا لنصرّح: إن هذا التحفّظ لا يمنع صحة القرآن الجوهرية التي ندين بها، ونشهد لها.
لكن بما أن إِعجاز القرآن قائم على صحة حرفه المنزل، فبعد نزوله على سبعة أحرف وإتلاف ستة منها، وبعد قراءَته بحسب الرخص النبوية الأربع، وبعد تصفيته بالعرضات النبوية السنوية، والاصدارات الثلاثة التاريخية التي كان مسك الختام فيها إصدار الحجّاج، وبعد الاتلاف الشامل لسائر النسخ الأخرى على يد عثمان، والاتلاف الكامل على يد الحجاج، فلا يصح القول بإِعجازه منزل في حرف القرآن، ولا بمعجزة في ﴿حفظه﴾. وادعاء ذلك إنما هو التجنّي على التاريخ الثابت من المصادر الإسلامية نفسها.
بحث سادس
﴿القرآن المصفّى﴾
إن القرآن الحالي ليس القرآن كله نزل على محمد؛ بل هو ﴿القرآن المصفّى﴾، بعد التصفيات الثلاث التاريخية التي تنطق بها الأخبار والآثار.
التصفية الأولى للقرآن كانت التصفية النبوية عينها التي كان يقوم بها النبي العربي كل سنة، في عرْضات القرآن السنوية مع جبريل، كما نقلوا. وظواهرها متعدّدة، من نسيان الى تبديل الى محو؛ ومن رفع قرآن من التلاوة الى اسقاط منسوخ منه، حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾ كما سبق تفصيل ذلك.
التصفية الثانية للقرآن كانت التصفية العثمانية التي أتلف فيها الخليفة الثالث ستة أحرف من ﴿الأحرف السبعة﴾ التي أقرأ بها النبي القرآن للناس؛ والتي أبدل فيها ترتيب القرآن التاريخ بالترتيب التنسيقي، فظهر تيّار بني أمية في ﴿حفظ﴾ القرآن على تيار أهل البيت؛ والتي أسقط فيها عثمان كثيراً من المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف الإمام علي بن أبي طالب، حتى اتهموه بأنه ﴿غيّر المصاحف﴾، وأتلف مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين، ومصاحف التابعين لهم بإحسان.
التصفية الثالثة هي تصفية الحجاج بن يوسف، عامل الأمويين وعميلهم، الذي أسقط من القرآن كل ما كان فيه بحق بني أمية، وغيّر بعض المواطن كما ذكروا بعضها الى اليوم؛ والذي أتلف المصاحف العثمانية نفسها، وقد أجمع الصحابة على جعلها ﴿إمامًا للناس﴾. وتصفية تأتي على يد الحجاج إنما هي موضوع شبهة قتّالة لا تزول.
فبعد هذه التصفيات الثلاث لم يبق بين أيدي المسلمين إلاّ ﴿القرآن المصفّى﴾. وإِعجاز التنزيل ومعجزته يقومان على ﴿حفظه﴾ كما نزل. وبما أن القرآن الحالي هو ﴿القرآن المصفّى﴾ فلا يصح التحدّي به. وكم كان صادقا قول المعتزلة: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.
خاتمة
هل في ذلك الواقع التاريخي من معجزة في ﴿حفظ﴾ القرآن؟
ذلك ما نقلته لنا الأخبار والآثار الإسلامية عن جمع القرآن وتدوينه. فبعد ظواهر التنزيل من نسيان وإسقاط وتبديل ونسخ ومحو؛ وبعد الرخص النبوية الأربع في قراءَة القرآن، تلك التي جعلت النص المنزل سبعة أحرف أي نصوص ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني﴾، وقد تُقرأ بالمعنى لا بالحرف؛ ﴿وقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات المطلقات على الحروف المسبعة﴾؛ وبعد الاصدارات الثلاثة المختلفة التي يُحرِّق بعضها بعضاً، حتى لم يسلم إلاّ ﴿القرآن المصفّى﴾ بتصفيات ثلاث نبوية وعثمانية وحجاجية، هل من معجزة في ﴿حفظ﴾ القرآن سالماً كما نزل؟ وبما أن إِعجاز القرآن في نظمه قائم على سلامة حرفه كما نزل؛ وبما أن القرآن الحالي هو ﴿القرآن المصفّى﴾؛ فلا يصح التحدّي بإِعجازه في حرفه ونظمه.
والقول الفصل، إننا لا نشك في حفظ القرآن وصحته الجوهرية. إنما نقول: ليس من معجزة في ﴿حفظ﴾ القرآن. وتاريخ جمعه وتدوينه في تصفيات ثلاث خير شاهد عليه.
١. إِعجاز القرآن ٨٣:١ ـ ١١٨.
٢. الدكتور جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ٤٢٤:٥ و ٤٢٨.
٣. العقاد: العبقريات الإسلامية. دار الآداب في بيروت. مطلع النور ص ٥٠، وهو ينقله عن المجلة التاريخية المصرية، عدد أكتوبر سنة ١٩٤٩ التي تنقل كلام المؤرخ كرزويل.
٤. قابل الأزرقي: أخبار مكّة
٥. العبقريات الإسلامية: نشر دار الآداب في بيروت. (مطلع النور) ص ١١٣.
٦. السيرة لابن هشام ٢٠٣:١.
٧. السيرة لابن هشام ٢٥٤:١.
٨. القرآن والكتاب ١٠٥٨:٢.
٩. انظر كتابنا: القرآن والكتاب ١٠٦٤:٢ ـ ١٠٦٧.
١٠. قابل مغالطة السيد عبد الكريم الخطيب. إِعجاز القرآن ١٣٥:٢.
١١. عباس محمود العقاد: الإسلام في القرن العشرين ص ٢٣.
١٢. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ٥٥ ثم ٦١.
١٣. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٦.
١٤. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٦ و ٢٨.
١٥. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ١١٠.
١٦. عمر فرّوخ: العرب والإسلام ص ٤٢.
١٧. أحمد محمد جمال: دين ودولة ـ المقدمة الأولى.
١٨. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٧.
١٩. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٣ ـ ٢٤.
٢٠. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ١٠٩.
٢١. هو خطاب لقريش بالأفاضة من حيث يفيض سائر العرب في الحج.
٢٢. تفسير الطبري ـ تحقيق الأخوين شاكر ١٤٣:١.
٢٣. أو لمذهب المثنّى كما رأى الفراء في (معاني القرآن) في قوله: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ ـ وقد يكون من العربية جنة واحدة تثنيها العرب. وقد يستعمل المفرد في مكان الجمع: ﴿سيُهزم الجمع ويولون الدبر﴾ أي الأدبار.
٢٤. محمد الغزالي: فقه السيرة ٣٩٦.
٢٥. Cf. Blachère: le Problème de Mahomet, p 113
٢٦. السيوطي، أسباب النّزول على الآية (٤٩) من سورة التوبة
٢٧. السيرة لابن هشام ١٦٢:٤.
٢٨. عمر فرّوخ: العرب والإسلام ص ٥٤.
٢٩. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٢.
٣٠. الأرجاني: فضائل القرآن.
٣١. عن القرآن ص ٨٧ ـ ٨٨.
٣٢. السيوطي: الإتقان ٥٩:١، والعُسُب جمع عسيب وهو جريد النخل؛ كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض. واللِّخَاف ـ بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة، آخره فاء ـ جمع مُخفة (بفتح اللام وسكون الخاء) وهي الحجارة الدقاق. وقال الخطابي: صفائح الحجارة.
٣٣. عن السيوطي: ﴿والرقاع جمع، وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغد. والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة ـ كانوا اذا جفّ كتبوا عليه. والاقتاب جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه﴾ (الإتقان ٦٠:١).
٣٤. عن القرآن ص ٨٧ ـ ٨٨.
٣٥. القرآن المجيد ص ٥٣.
٣٦. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٠٩.
٣٧. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٣.
٣٨. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٥.
٣٩. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٢.
٤٠. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ١٣٧.
٤١. Introduction, p.6
٤٢. قابل ابن الخطيب: الفرقان ص ١٢٣.
٤٣. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٠٦.
٤٤. ابن الخطيب: الفرقان ص ٣٨.
٤٥. الدكتور صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ١٤٨.
٤٦. محمد صبيح: عن القرآن ص ١١٣.
٤٧. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٢٠.
٤٨. السيوطي: الإتقان ١١٥:١ و١٣٤ و١٣٧.
٤٩. الإتقان ٤٧:١.
٥٠. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٨ ـ ١١٩؛ وهو ينقل عن السيوطي: الإتقان ٦٢:١.
٥١. تفسير الطبري ـ اخراج الاخوين شاكر ٥٢:١.
٥٢. الإتقان ٤٨:١.
٥٣. دروزة: القرآن المجيد ص ٥٣. قابل السيوطي: الإتقان ٥٩:١.
٥٤. السيوطي: الإتقان ٥٩:١؛ قابل تفسير الطبري ٦٣:١؛ قابل دروزة: القرآن المجيد ٥٥.
٥٥. المصادر نفسها.
٥٦. الإتقان ٥٩:١.
٥٧. الإتقان ٥٩:١.
٥٨. صحيح البخاري. قابل السيوطي: الإتقان ٥٩:١.
٥٩. دروزة: القرآن المجيد ٥٦.
٦٠. دروزة: القرآن المجيد ٥٧.
٦١. دروزة: القرآن المجيد ٥٧.
٦٢. تفسير الطبري ٦٠:١ قابل دروزة: القرآن المجيد ص ٦٣.
٦٣. المصدر نفسه.
٦٤. السيوطي: الإتقان ٥٩:١.
٦٥. طه حسين: الفتنة الكبرى: ١ عثمان ص ١٨٣.
٦٦. السيوطي: الإتقان ٥٩:١.
٦٧. السيوطي: الإتقان ٦٠:١.
٦٨. دروزة: القرآن المجيد ٦٤.
٦٩. دروزة: القرآن المجيد ٦٣.
٧٠. دروزة: القرآن المجيد ٦٤.
٧١. الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٨٣.
٧٢. طه حسين: الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٨١ ـ ١٨٢.
٧٣. طه حسين: الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٦٠.
٧٤. الإتقان ١٣٤:١ و١٣٦
٧٥. عن القرآن ص ١٨٤
٧٦. طه حسين: الفتنة الكبرى: عثمان ص ١٥٩.
٧٧. الإتقان ٦٢:١.
٧٨. الإتقان ٦١:١ قابل ابن الخطيب ص ٤٠ ـ وبعضهم يقول سنة ثلاثين بعد الهجرة.
٧٩. كتاب الناسخ والمنسوخ ص ٣٧ و١٥٩.
٨٠. قابل الإتقان ٦٠:١.
٨١. جامع الترمذي، أبواب التفسير، في آخر سورة التوبة.
٨٢. المصدر نفسه.
٨٣. القرآن المجيد ص ٨٣.
٨٤. القرآن المجيد ص ٨٤.
٨٥. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٠.