الفصل الخامس
إِعجاز القرآن في بلاغة خطابه
﴿إنّما على رسولنا البلاغ المبين﴾ (المائدة ٩٢)
﴿منه آيات محكمات... وآخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧)
﴿أفلا يتدبّرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ (النساء ٨٢)
توطئة
البلاغة القرآنية
ما بين الفصاحة والبلاغة والبيان صلة، لغةً واصطلاحاً. فقد ترد تعابير الفصاحة والبيان والبلاغة مترادفات. لكن يصح أن تأخذ الفصاحة في الالفاظ، والبلاغة في المعاني، والبيان في الاثنين معاً، في التعبير والتفكير. فنقصد بالبلاغة القرآنية إِعجاز القرآن في معانيه. وهو إِعجاز في البلاغ، وإِعجاز في التبليغ. والإِعجاز في التبليغ على أنواع: إِعجاز بالمعجزة، وإِعجاز بالكلمة. والتبليغ في القرآن يقتصر على الإِعجاز بالكلمة. فهل الكلمة في القرآن معجزة الهية؟ رأينا إِعجاز الكلمة في حرفها. ونرى إِعجاز الكلمة في معناها. والكلمة فيه كانت ﴿قولاً بليغاً﴾ (النساء ٦٣)، ﴿حكمة بالغة﴾ (القمر ٥) فيها ﴿الحجة البالغة﴾ (الأنعام ١٤٩). فالقرآن ﴿بلاغ للناس﴾ (إبراهيم ٥٢)، ﴿ان في هذا لبلاغاً﴾ (الأنبياء ١٠٦). لذلك ﴿ما على الرسول إلاّ البلاغ﴾ (المائدة ١٠٢)، ﴿انّمـا على رسولنا البلاغ المبين﴾ (المائدة ٩٢؛ التغابن ١٢). والإِعجاز البلاغي قائم في القرآن. لكن هل هذا الإِعجاز البلاغي معجزة الهية؟
بحث أوّل
حديث الأحرف السبعة شبهة أولى على البلاغة القرآنية
إن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني﴾ كما فسره الطبري، حديث صحيح متواتر مشهور، مهما حاولوا تجريده من معناه بتأويلات مختلفة. وحديث الأحرف السبعة له ظاهرتان. الأولى نزول القرآن على سبعة أحرف، والثانية تلاوة القرآن على سبعة أحرف أي نصوص. هذا الواقع المزدوج فيه شبهة على البلاغة القرآنية. فما معنى تنزيل الوحي الواحد على سبعة أحرف أي نصوص؟
معنى واحد يبلغه النبي عن الله بسبعة نصوص أو أحرف، لا تزيد في المعنى، أهذا وجه من بلاغته؟ وتغيير الالفاظ، مع اتفاق المعنى الواحد، هل يزيد المعنى شيئاً؟ إن كثرة التعابير للمعنى الواحد قد تحجب بلاغته عن المخاطبين. وهي خبرة دائمة، كل بلاغ تتعدّد تعابيره قد يضيع على السامعين.
قد يقول قائل: إن تنوّع البلاغ بحسب طبقة وطاقة المبلَّغين فيه إِعجاز لتفاوتهم في الفهم والاستيعاب. ولكن المخاطبين في مكّة كانوا طبقة واحدة في الثقافة؛ نخصّ منهم بالـذكر ﴿ملأ قريش﴾ الذي عارض النبي. فلا داعي لتكرار البلاغ الواحد بصيغ مختلفة. إلاّ اذا قبلنا المفاهيم وجعلنا اللفظ هدف التنزيل الأول، والمعنى هدفه الثاني.
قد يقول قائل أيضاً: إن المعنى هدف البلاغ الأول؛ لكن تنوع التعبير عنه كانت المعجزة اللغوية البيانية التي تشهد له أنه من الله. انها حجة ظاهرة واهية؛ لأن الأصل هو البلاغ نفسه؛ والإِعجاز البياني ليس في التعدّد بل في الحرف الواحد نفسه. فنزول القرآن على سبعة أحرف ـ وإن كان خارقة لا يستسيغها عقل ـ هو شبهة على الإِعجاز في بلاغته. واسقاط ستة أحرف منها برهان على انها معجزة ليست بضرورية، ومحال على الله العبث في بلاغاته ورسالاته.
وتلاوة القرآن على سبعة أحرف تزيد في الشبهة. لأن المعنى الواحد الذي يُتلى على سبعة أنواع من الألفاظ قد يذوب فيها، لاتحاد الدليل والمدلول عليه في وحدة لفظية معنوية قائمة بنفسها. والمعنى يتجسد في اللفظ، فإن تجسّد في لفظ آخر أعطاه هذا اللفظ الجديد مدىً حيوياً آخر، كالنفس البشرية الواحدة لا تختلف إلاّ بأختلاف المكوّنات الجسمية التي هي أدوات وجودها وحياتها، وان كان الوجود والحياة للنفس لا للجسد. والسر في المعنى لا في ثوبه اللغوي.
فتلاوة القرآن الواحد على سبعة أحرف شبهة لغوية على سلامته في بلاغه وبلاغته، فينقضون بهذا الحديث، من حيث يدرون أو لا يدرون، إِعجاز القرآن في البلاغ والتبليغ والبلاغة. إن تعدّد البلاغ الواحد، تنزيلاً أو تلاوةً، شبهة على بلاغته من هذا التعدّد نفسه. كما أن تعدّد وتنوع الأجساد البشرية يعمل في تعدّد وتنوع النفوس البشرية الواحدة في جوهرها. فإن المعاني أرواح، والألفاظ أجساد لها.
بحث ثان
البلاغ القرآني: ﴿إن الدين عند اللَّه الإسلام﴾
أولاً: مقالة العقّاد في إِعجاز البلاغ القرآني
الإِعجاز في البلاغ نفسه أن يأتي أفضل من سواه، بذاته، أو زمانه، أو مكانه. يقول العقاد في كتاب المؤتمر الإسلامي ١ : ﴿جاء الإسلام من جوف الصحراء العربية، بأسمى عقيدة في الإله الواحد الأحد، صححت فكرة الفلسفة النظرية، كما صححت فكرة العقائد الدينيّة؛ فكان تصحيحه لكل من هاتين الفكرتين ـ في جانب النقص منها ـ أعظم المعجزات التي أثبتت له في حكم العقل المنصف والبديهة الصادقة أنه وحي من عند الله... ﴾
﴿والديانة الإسلامية، كما هو معلوم، ثالثة الديانات المشهورة باسم الديانات الكتابية، مكانها في علم المقارنة بين الأديان مرتبط بمكان الديانتين الأخريين، وهما الموسوية والمسيحيّة. وتجري المقارنة بين الإسلام وبينهما فعلاً في كتابات الغربيين، فلا يتورع أكثرهم من حسبان الإسلام نسخة مشوّهة أو محرفة من المسيحية أو الموسوية. والمسألة ـ بعد ـ مسألة نصوص محفوظة وشعائر ملحوظة لا تحتمل الجدل الطويل في ميزان النقد والمقارنة وان احتملته في مجال الدعوة والخصومة العصبية. ولا حاجة في المقارنة بين هذه الديانات الى أكثر من ذكر العقيدة الإلهية في كل منها للعلم الصحيح بمكانها في التنزيه في حكم الدين وحكم المعرفة النظرية... ﴾
﴿ومهما يكن من تطور العقائد المسيحية في سائر البيئات ومختلف العصور، فالعقيدة المسيحية التي يجوز لصاحب المقارنة بين الأديان ان يجعلها قدوة للاسلام إنما هي عقيدة المسيحيّين في الجزيرة العربية وما حولها... ﴾
﴿ومن الواضح البيّن ان موقف الإسلام كان موقف المصحح المتمّم، ولم يكن موقف الناقل المستعير بغير فهم ولا دراية﴾.
﴿ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية... ودين يصحح العقائد الإلهية ويتمّمها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها ـ تراه من أين أتى، ومن أي رسول كان مبعثه ومدعاه؟ ـ من صحراء العرب! ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات. إن لم يكن هذا وحياً من الله، فكيف يكون الوحي من الله؟﴾
﴿ليكن كيف كان في اخلاد المؤمنين بالـوحي الإلهي حيث كان، فمـا يهتدي رجـل ﴿أمّي﴾ في أكناف الصحراء الى إيمان الله أكمل من كل إيمان تقدَّم، إلاّ أن يكون ذلك وحياً من الله. وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا لأنه لا يصدق عليها في صورة الحدس أو الخيال﴾.
ثانياً: البلاغ القرآني هو تبليغ العرب الإسلام ﴿النصراني﴾
نحن عرب، وما لنا ولكتابات الغربيين؛ تكفينا شهادة القرآن والحديث والسيرة، وتكفينا النصوص المحفوظة والشعائر الملحوظة. والواقع القرآني نفسه يكذّب تلك المقدَّمات التي يبني عليها الأستاذ الإمام قياسه: ١) رجل أمي ٢) في أكناف الصحراء ٣) يأتي بإيمان أكمل من كل إيمان تقدم.
لقد رأينا أن أميّة ﴿النبي الأمّي﴾ أي العربي يدحضهـا الواقع القرآني. وقد رأينـا أن ﴿أكنـاف الصحراء﴾ لـم تكن صحراء في الثقـافة والتوحيد والـدعوة الكتـابية، والدعوة ﴿النصرانية﴾ في مكّة نفسها.
١- والآن نرى أن البلاغ القرآني إيمان من إيمان أهل الكتاب بمكّة، بنص القرآن نفسه.
يصرح: ﴿هذا ذكـر من معي وذكر من قبلي﴾ (الأنبيـاء ٢٤)؛ فالذكـران واحد: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر﴾ (النحل ٤٣ ـ ٤٤) ويصرّح: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩) فالكتاب والقرآن واحد في الهدى، والتحدي بالهدى. ويصرّح: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم وأهلنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون. (العنكبوت ٤٦). يقسم أهل الكتاب الى ظالمين وهم اليهود، والى مقسطين وهم النصارى. فالظالمون من أهل الكتاب يصح جدالهم بغير الحسنى أي بالسيف؛ أمّا المقسطون منهم فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى، وهذه الحسنى أمر الى أمة محمد ان يقولوا بأن الإله واحد والتنزيل واحد والإسلام واحد.
فالبلاغ القرآني إيمان من إيمان أهل الكتاب ﴿النصارى﴾، لا يصححه ولا يتممه ولا يكمله. فهو ذكر واحد في الهدى والإيمان. يصرّح: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه... وقلْ: آمنتُ بما أنزل الله من كتاب وأمرتُ لأعدل بينكم: الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، واليه المصير﴾ (الشورى ١٣ ـ ١٥). الدين الذي يشرعه القرآن للعرب هو دين موسى وعيسى، بنص القرآن القاطع. لذلك فهو يؤمن بالكتاب من قبله، الذي فيه هذا الدين الذي يشرعه للعرب، وهذا بنص القرآن القاطع. ولذلك أيضاً ﴿فالله ربنا وربكم﴾ واحد، ﴿لا حجة بيننا وبينكم﴾ أي لا خصومة ولا جدال ولا فرق في الإيمان الواحد بالله الواحد، بنص القرآن القاطع.
فأين التصحيح والتتميم والتكميل في الإيمان وفي العقيدة الإلهية؟
٢ ـ وهذا الإيمان، في العقيدة الإلهية، بالإله الواحد الأحد هو التوحيد التوراتي الإنجيلي القرآني بحرفه الواحد. فحرف التوحيد في القرآن هو: ﴿قلْ هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوءاً أحد﴾ (سورة الإخلاص). والولادة المذكورة ينص عليها بقوله: ﴿ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً﴾ (الجن ٣)، ﴿بديع السماوات والأرض، أنّى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة﴾؟ (الأنعام ١٠١). فليس للّه ولد من صاحبة. وهل يقول أهل الكتاب، سواءٌ الظالمون أو المقسطون، بصاحبة وولد؟ إن الإعلان والتحدي موجهان للمشركين لا لأهل الكتاب، ولا للنصارى المقسطين منهم. وقوله: ﴿أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾؟ (المائدة ١١٦)، لايمس العقيدة المسيحية بشيء منذ المسيح الى اليوم، فهم لا يقولون بعيسى وأمه إلهين من دون الله، وإذا ما آمنوا بإلهية المسيح، فهم يؤمنون بذلك، لا من حيث المسيح هو عيسى ابن مريم، بل من حيث هو ﴿كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه﴾ (النساء ١٧١). فكلمة الله هو روح صادر من ذات الله ألقي الى مريم فكان ﴿المسيح، عيسى ابن مريم﴾.
فيظل حرف التوحيد في الإنجيل كمـا هو في التوراة والقرآن. ففي التوراة يصرح: ﴿اسمع يا إسرائيل: إن الله الهنا هو الله أحد. فأحبب الله الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك﴾ (التثنية ٦: ٤ ـ ٥) ـ بحسب النص العبراني. فذهبت فاتحة صلاتهم، والشهادة عندهم. لذلك لما سأل المسيح أحدُ علماء اليهود: ﴿أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً﴾ أجابه بهذه الشهادة وبهذه الفاتحة: ﴿فأجاب يسوع: الأولى هي (أسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد. فأحبب الله الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. والثانية هي هذه: أحبب قريبك كنفسك. وليس من وصية أخرى أعظم من هاتين﴾ (الإنجيل بحسب مرقس ١٢: ٢٨ ـ ٣١). فحرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن: فأين التصحيح وأين التتميم وأين التكميل في البلاغ القرآني والإيمان الإسلامي؟
٣ـ الإسلام نفسه، عقيدةً واسماً، يصرّح بأنه يبلغه للعرب عن أهله. في الاسم يصرّح: ﴿هـو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هـذا﴾ القرآن (الحج ٧٨) وفي العقيدة يصرح: ﴿شهد الله أنه لا إله إلإ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمرآن ١٨ ـ ١٩). في لغة القرآن ـ كما أبنا ذلك في غير موضع ـ ﴿أولو العلم﴾ اصطلاح قرآني مرادف ﴿لأهل الذكر﴾ وأهل الكتاب. وصفة ﴿قائماً بالقسط﴾ كناية عن المقسطين منهم أي النصارى، لا ﴿الظالمينَ منهم﴾ أي اليهود. فالنصارى هم الذين يشهدون ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾، وشهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يشهد بشهادة النصارى ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾.
هذا هو البلاغ القرآني: انه تبليغ العرب الإسلام ﴿النصراني﴾. فلا تصحيح، ولا تتميم، ولا تكميل. ﴿ومن ثمَّ (ما) كانت هذه العقيدة الالهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية﴾. لا تعنينا ﴿مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية﴾. انما يعنينا الدين الذي يشرع القرآن للعرب، والإسلام الذي ينادي به. إنه يشرع دين موسى وعيسى معاً (الشورى ١٣)، وينادي بالإسلام كما يشهد به أولو العلم المقسطين أي ﴿النصارى﴾.
فهل من إِعجاز في البلاغ القرآني ـ ﴿هذا بلاغ للناس﴾ سواءٌ في مكانه أو زمانه أو موضوعه واسمه؟
تلك شبهة ثانية على البلاغة القرآنية.
بحث ثالث
التوحيد القرآني ما بين التشبيه والتنزيه
أولاً: الإجماع على أن آيات الصفات الإلهية من المتشابه في القرآن
من يقول إن حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، لا يشك بالتوحيد الخالص في الإسلام: ﴿ألا لله الدين الخالص﴾ (الزمر ٣). لكن هذا التوحيد الخالص قد جاء أيضاً في القرآن غارقاً في التشبيه. فادعاء الإِعجاز في التوحيد، والبلاغ القرآني به، لأنه جاءَ بأسلوب التجريد والتنزيه اللذين لا نجدهما في التوراة والإنجيل، ولا في الموسوية والمسيحية، لا يستند الى الواقع القرآني. فالوحي يتكلم بلغة الناس، وللبشريه كلها، لا لعلماء الكلام وحدهم، فلا بد له أن يأتي بأسلوب التشبيه في تنزيله.
للسيوطي في (الإتقان) فصل: ﴿من المتشابه آيات الصفات﴾ (٢: ٦ ـ ٨). يستفتحه بقوله: ﴿وجمهور أهل السنة، فهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها الى الله تعالى، ولا نفسّرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها﴾. فهم يقرون بالاجماع بالمتشابه في آيات الصفات الالهيّة. وهي متشابهة لأنها كلها تشبيه، لا تجريد فيها ولا تنزيه.
ثانياً: صورة الله في القرآن
١ ـ ﴿الرحمٰن على العرش استوى﴾ (طه ٥)؛ ﴿ثم استوى على العرش﴾ (٧: ٥٤؛ ١٠: ٣؛ ١٣: ٢؛ ٢٥: ٥٩؛ ٣٢: ٤؛ ٥٧: ٤). فهو ﴿رب العرش العظيم﴾ (٩: ١٢٩؛ ٢٣: ٨٦؛ ٢٧: ٢٦)، ﴿فسبحان الله رب العرش﴾ (٢١: ٢٢)، ﴿وهو رب العرش الكريم﴾ (٢٣: ١١٦)،﴿رفيع الدرجات ذو العرش﴾ (٤٠: ١٥)، ﴿ذو العرش المجيد﴾ (٨٥: ١٥)، ﴿ذي العرش﴾ (١٧: ٤٢)، ﴿عند ذي العرش﴾ (٨١: ٢٠). ومن المـلائكة حملة العرش: ﴿الذين يحملون العرش﴾ (٤٠: ٧)، ﴿ويحمل عرش ربك﴾ (٦٩: ١٧)؛ ﴿حافّين من حول العرش﴾ (٣٩: ٧٥).
وعند الخلق ﴿كان عرشه على الماء﴾ (١١: ٧) يسبح كالفُلْك. و﴿عرش﴾ الله، هو لفظاً، كعرش يوسف ﴿ورفع أبويه على العرش﴾ (١٢: ١٠٠)؛ أو كعرش ملكة سبأ: ﴿قيل: أهكذا عرشك﴾ (٢٧: ٤٢)، ﴿أيكم يأتيني بعرشها﴾ (٢٧: ٣٨)،﴿نكّروا لها عرشها﴾ (٢٧: ٤١).
فالقرآن يصوّر الجبار كملك الكون ﴿على العرش استوى﴾، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية﴾ (٦٩: ١٧)، ﴿والملك على أرجائها﴾ (٦٩: ١٧)، ﴿حافين من حول العرش﴾ (٣٩: ٧٥). إنها صورة رائعة، لكنها غارقة في التشبيه، بلا تنزيه ولا تجريد. وقد صدمت هذه الصورة علماء الكلام، وملأوا كتبهم من البحث في ﴿الرحمٰن على العرش استوى﴾. وينقل السيوطي سبعة تفاسير لا يستوي منها واحد، فيردّها جميعاً، ويتوقف هو في تفسيرها. بل ينقل عن أم سلمة قالت: ﴿الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والاقرار به من الإيمان،، والجحود به كفر﴾. وعن مالك أنه سئل عن الآية فقال: ﴿الكيف غير معقول، واستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة﴾.
٢ ـ نفس الله: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ (٣: ٢٨ و ٣٠)،﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ (٦: ١٢)، ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾ (٦: ٥٤). ويرفع في ما لفظ ﴿النفس﴾ من مجاز قوله: ﴿تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك﴾ (المائدة ١١٦)، فالله له نفس كما عيسى له نفس.
نقل السيوطي: ﴿قال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات، منها ان النفس عبّر بها عن الذات. قال: وهذا وان كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدّي الفعل اليها (بفي) المفيدة للظرفية، محال عليه تعالى. وقد أولها بعضهم بالغيب أي (ولا اعلم ما في غيبك وسرك). قال: وهذا حسن لقوله في آخر الآية: انك انت علاّم الغيوب﴾ ـ لا شيء يدل على المشاكلة، والله في ﴿نفسه﴾ علاّم الغيوب: فنفسه والغيب عارف ومعروف، لا شيء واحد. فالتشبيه بالبشر في ذات الله قائم.
٣ ـ وجه الله: ﴿فـَثمَّ وجه الله﴾ (٢: ١١٥)؛ ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام﴾ (الرحمٰن ٢٧)،﴿إلاّ ابتغاء وجه الله﴾ (٢: ٢٧٢)، ﴿ابتغاء وجه ربهم﴾ (١٣: ٢٢)، ﴿إنا نطعمكم لوجه الله﴾ (٧٦: ٩)، ﴿إلاّ ابتغاء وجه ربه﴾ (٩٢: ٢٠)، ﴿خير للذين يريدون وجه الله﴾ (٣٠: ٣٨)، ﴿تريدون وجه الله﴾ (٣٠: ٣٩).
نقل السيوطي:﴿وهو مؤول بالذات... أو بالجهة... أو المراد اخلاص النية﴾. أجل انه تأويل. لكن يمنع ظاهر النص من ذلك. فإن جاز المجاز في بعض التعابير، فلا يصح كما في قوله: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام﴾. فمن يستوي على العرش كبشر، له وجه كبشر.
٤ ـ عين الله، أعين الله: ﴿وألقيت عليك محبة مني، ولتُصْنَع على عيني﴾ (طه ٣٩ )؛﴿واصنع الفلك بأعيننا﴾ (١١: ٣٧؛ ٢٣: ٢٧)، ﴿تجري بأعيننا﴾ (٥٤: ١٤)، ﴿فأنك بأعيننا﴾ (٥٢: ٤٨).
نقل السيوطي: ﴿هي مؤولة بالبصر أو الادراك. بل قال بعضهم: انها حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس انها مجاز، وانما المجاز في تسمية العضو بها﴾.
٥ ـ يد الله: ﴿يد الله فوق أيديهم﴾ (٤٨: ١٠)،﴿ان الفضل بيد الله﴾ (٣: ٧٣؛ ٥٧: ٢٩)، ﴿لا تقدّموا بين يدَي الله﴾ (٤٩: ١)، ﴿يد الله مغلولة﴾ (٥: ٦٤)، ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ (٥: ٦٧)، ﴿من بيده ملكوت كل شيء﴾ (٢٣: ٨٨)، ﴿فسبحان الذي بيده﴾ (٣٦: ٨٣)، ﴿تبارك الذي بيده﴾ (٦٧: ١)؛ ﴿والسموات مطويات بيمينه﴾ (٣٩: ٦٧)، ويوم الدين، يكون الخالصون ﴿أصحاب اليمين﴾ (٥٦: ٢٧ و ٣٨ و٩٠ و٩١)؛ ﴿لما خلقت بيدَيَّ﴾ (٣٨: ٧٥). فالله تعالى له يدان، مثل الانسان، وان كان ﴿ليس كمثله شيء﴾ (٤٢: ١١).
نقل السيوطي:﴿وهي مؤولة بالقدرة. قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع؛ والذي يلوح من معنى هذه الصفة انها قريبة من معنى القدرة، إلاّ أنها أخص، والقدرة أعم. وقال البغوي: في قوله ﴿بيدَيَّ﴾ ـ في تحقيق الله التثنية في اليد ـ دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة؛ وانما هما صفتان من صفات ذاته. قال ابن اللبان: فإن قلتَ فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت: الله اعلم بما أراد﴾. أجل هناك تعابير مجازية، لكن هناك أيضاً تعابير تؤخذ على ظاهرها وحقيقتها، كقوله ﴿خلقتُ بيدَيَّ﴾، حيث ترد توكيداً وتحقيقا للخلق، وتوكيداً وتحقيقاً للبعث: ﴿مطويات بيمينه﴾.
٦ ـ جنب الله: ﴿على ما فرّطت في جنب الله﴾ (٣٩: ٥٦) ان صفة المجاز بادية على التعبير. لكن الله جنباً، كما له وجه ويد، وإن كان ﴿ليس كمثله شيء﴾.
٧ ـ صفة الحركة: ﴿وجاء ربك والملك﴾ (٨٩: ٢٢)، ﴿أو يأتي ربك﴾ (٦: ١٥٨)، ﴿اذهب انت وربك فقاتلا﴾ (٥: ٢٤). فالله يتحرك كالانسان. ومَن يُحمل على العرش يجول فيه: ﴿ويحمل عرش ربك﴾ (٦٩: ١٧)، ويأتي الى حساب عباده كما يجيء ملائكته معه. ففي التعابير مجاز، لكن فيها أيضاً حقيقة على مثال المخلوق، وان كان ﴿ليس كمثله شيء﴾.
وهناك صفات التجسيم كالقرب، والفوقية، والعندية، والمعية. وهناك التشبيه بتعابير الأعراض النفسانية كالحب، والغضب، والرحمة، والرضى، والعجب والمكر والاستهزاء والحياء. ومن له ﴿نفس﴾ كنفس الانسان، له عوارضها، وله اعمالها، وان كان ﴿ليس كمثله شيء﴾.
ثالثاً: اختلافهم ما بين الظاهر والتأويل
لذلك قال العلماء: ﴿كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسّر بلازمها﴾ كما نقل السيوطي. لكن هذا تفسير وتأويل لصريح القرآن وظاهره. ومذهب أهل السنة والجماعة على الأخذ بالظاهر، أكثر منه بالتأويل. نقل السيوطي: ﴿اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الإيمان بالصفات، من غير تفسير، ولا تشبيه. وقال الترمذي: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة انهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءَت، ونؤمن بها، ولا يقال كيف، ولا نفسّر، ولا نتوهّم. وذهبت طائفة من أهل السنة الى أننا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى﴾. فهو مذهب تأويل، لا تفسير باللغة والبيان.
فالتشبيه في وصف الله وصفاته هو أسلوب القرآن وعقيدته. ولا تجد تجاهه في القرآن كله ما يحمل على التنزيه والتجريد سوى قوله: ﴿ليس كمثله شيء﴾ (الشورى ١١)؛ ﴿ولله المثل الاعلى﴾ (النحل ٦٠)، ﴿وله المثل الأعلى﴾ (الروم ٢٧)؛ ﴿لا تدركه الابصار، وهو يدرك الأبصـار﴾ (الأنعام ١٠٣). فقـوله ﴿ليس كمثله شيء﴾ ينفي المثلية، ولا ينفي التشبيه ﴿بالمثل الاعلى﴾. وقوله ﴿يدرك الابصار ولا تدركه الابصار﴾ يدل على التفاوت في الادراك بالبصر، لا على نفي البصر في الله. وتعابير القرآن تأتي ما بين المجاز والحقيقة في ذلك، ولكن مجازها لا يمنع الحقيقة في غيرها.
فالتشبيه أسلوب القرآن في التوحيد، مثل التوراة: ﴿ومن قبله كتاب موسى اماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً﴾ (الأحقاف ١٢)، فليس فيه، من العقيدة الإلهية، ما يمتاز به إلاّ أنه ﴿كتاب مصدق لساناً عربياً﴾.
وفي الإنجيل والمسيحية عقيدة التجسّد، تجسد كلمة الله من مريم، ليست من التجسيد في شيء، ولا من التشبيه في التوحيد في شيء. وليس في الإنجيل من تعابير التشبيه في التوحيد، كالقرآن والتوراة، شيء يذكر.
وهذا الواقع القرآني القائم على التشبيه في التوحيد، مع إشارة بعيدة الى التنزيه والتجريد هل هو من الإِعجاز في البلاغ؟
تلك شبهة ثالثة على البلاغة القرآنية.
بحث رابع
متشابه القرآن ٢
نحتكم في هذا البحث الى خاتمة المحققين في (الإتقان ٢: ٢ ـ ١٣). إن دعوى الإِعجاز في البلاغة القرآنية قائمة على أنه ﴿قرآن عربي﴾ (١٢: ٢؛ ٢٠: ١١٣؛ ٤١: ٣؛ ٤٢: ٧؛ ٤٣: ٣)، ﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج﴾ (٣٩: ٢٨)، ﴿بلسان عربي مبين﴾ (الشعراء ١٩٥؛ ٤٦: ١٢). فهو ﴿قرآن مبين﴾ (٣٦: ٦٩؛ ١٥: ١)، و﴿كتاب مبين﴾ (٥: ١٥؛ ١٢: ١؛ ٦: ٥٩؛ ١٠: ٦١؛ ٢٧: ٧٥؛ ٣٤: ٣؛ ١١: ٦)، وهو ﴿البلاغ المبين﴾ (٥: ٩٢؛ ٦٤: ١٢؛ قـابل ١٦: ٣٥؛ ٢٤: ٥٤؛ ٢٩: ١٨؛ ٣٦: ١٧) ﴿فإنمـا عليك البـلاغ المبين﴾ (١٦: ٨٢)، ﴿لتبيّن للناس ما نزّل اليهم﴾ (النحل ٤٤).
أولاً: شهادة القرآن المتعارضة في إِعجاز بيانه
تجاه هذه الدعوى نجد القرآن يصرّح عن نفسه ثلاثة تصاريح متعارضة في بيانه وبلاغته، كما نقلها (الإتقان ٢: ٢) في نوع ﴿المحكم والمتشابه﴾ عن النيسابوري قال: ﴿في المسألة ثلاثة أقوال﴾:
﴿أحدها: أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: ﴿كتاب أحكمت آياته﴾ (هود ١)
﴿الثاني: كله متشابه، لقوله تعالى: ﴿كتاباً متشابهاً مثاني﴾ (الزمر ٢٣)
﴿الثالث: ـ وهو الصحيح ـ انقسامه الى محكم ومتشابه لقوله: ﴿منه آيات محكمات ـ هنّ أم الكتاب ـ وأخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧).
فالنتيجة الأولى الحاسمة ان الإِعجاز البياني البلاغي كمعجزة لا يقول به القرآن. يؤيد ذلك أصح التفاسير لتلك الاقوال: كونه ﴿كتاباً متشابهاً﴾ قد يعني أنه ﴿يشبه بعضه بعضاً في الحق والصدق والإِعجاز﴾ كما نقل السيوطي. ولكن بقوله: ﴿كتاب أحكمت آياته ـ ثم فصّلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود ١) فالأحكام يتعلّق بالكتاب المفّصل أي الكتاب المقدس، والتفصيل بالقرآن لأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧).
فيبقى ﴿القول الصحيح﴾ الذي به نسخ دعوى الإِعجاز: ﴿منه آيات محكمات ـ هن أم الكتاب ـ وأخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧). واقتصاره ـ بنصه القاطع ـ المحكم على الآيات القلائل، بالنسبة الى المجموع، اللواتي ﴿هن أمّ الكتاب﴾ هو قضاء قرآني مبرم على الإِعجاز القرآني، الذي ينسخه بتقرير المتشابه فيه وهو أكثر القرآن. وهذه هي النتيجة الحاسمة الثانية ان القرآن نفسه نسخ دعوى إِعجازه.
ثانياً: التعريف بالمتشابه
وتعريف ﴿المتشابه﴾ في القرآن يبرهن على مدى الإِعجاز البياني والبلاغي فيه. يقول ابن خلدون في الآيات المتشابهات ٣ انها ﴿هي التي تفتقر الى نظر وتفسير يصحّح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل﴾. لذلك قالوا: تعيين المتشابه لا يقوم إلاّ على نقل عن الشارع، أو على تعارض ظاهر ما بين آية وأخرى يقول به العقل. فهل هذا المتشابه، وهو أكثر القرآن كما سنرى، الذي يفتقر الى نظر وتفسير يصحّح معناه، لتعارضه بعضه مع بعض أو مع العقل، يكون من الإِعجاز في البيان والبلاغة؟
ويقول السيوطي: ﴿المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يرجى بيانه﴾ ـ وكلام لا يُرجى بيانه هل يكون معجزاً للانس والجن؟
وينقل أيضاً: ﴿المحكم ما عُرف المراد منه، إمّا بالظهور وإمّا بالتأويل. والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ﴿على حد قوله (وما يعلم تأويله إلاّ الله) ـ وكلام يستأثر الله بعلمه، ولا يعرف تأويله إلاّ هو سبحانه وتعالى، كيف يخاطب به عباده؟ وكيف يكون معجزاً لهم يحملهم على الإيمان بصحة التنزيل، وعلى التصديق بصدق النبوّة؟ وكلام لا يعرف المراد منه كيف يكون معجزة البيان والبلاغة؟
﴿وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه﴾ ـ فكيف يخاطب الله عباده بكلام لا يتضح لهم معناه؟ وكيف يكون هذا الكلام معجزاً يقوم مقام المعجزة؟
﴿وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التـأويل إلاّ وجهاً واحداً. والمتشابه ما احتمل أوجهاً﴾ ـ والكلام الذي يحتمل أوجهاً من المعاني لا يُعرف المراد منه، فكيف يكون معجزاً؟
﴿وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه﴾ أي غير معقول المعنى كصفات الذات الجسمية في الله تعالى ـ وكلام غير معقول المعنى، هل يليق بالله؟ وهل يصح أن يخاطب الله به عباده، وهو يريد بهم الخير؟
﴿وقيل: المحكم ما استقل بنفسه؛ والمتشابه ما لا يستقل بنفسه، إلاّ بردّه الى غيره﴾ ـ وكلام بحاجة الى رده لغيره ليكون مفهوماً، أيكون معجزاً بذاته؟
﴿وقيل: ﴿المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلاّ بالتأويل﴾ ـ هذا هو تعريف البيان الحق: ﴿ما تأويله تنزيله﴾ أي يسبق معناه لفظه الى الفهم والادراك. أما الكلام الـذي لا يدرك، الاّ بالتأويل ليس ﴿قرآنا عربيـاً غير ذي عوج﴾، وليس ﴿بلسان عربي مبين﴾.
﴿وقيل: المحكم ما لم تتكرّر ألفاظه، ومقابله المتشابه﴾ ـ وهذا تعريف يرتد على صاحبه، فكل شيء في القرآن تتكرر ألفاظه. وهل تكرار اسم ﴿الله﴾ بالرفع ٩٨٠ مرة، وبالخفض ١١٢٥، والنصب ٥٩٢ مرة يجعله من متشابه القرآن؟
تلك هي التعريفات الواردة في ﴿متشابه القرآن﴾: فهل هي من ﴿دلائل الإِعجاز﴾؟ انما هي برهان بدعة الإِعجاز في القرآن. تلك هي النتيجة الحاسمة الثالثة، القائمة على تعريف ﴿متشابه القرآن﴾.
ثالثاً: هل يمكن الاطّلاع على ﴿متشابه القرآن﴾؟
يقول السيوطي: ﴿اختُلف هل المتشابه ممّا يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ الله ـ على قولين منشؤهما الاختلاف في قوله (والراسخون في العلم) هل هو معطوف، و(يقولون) حال؛ أو مبتدأ خبره (يقولون) والواو للاستئناف.
﴿وعلى الأول طائفة يسيرة ـ يقولون بالعطف...﴾
﴿وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم من بعدهم ـ خصوصاً أهل السنة ـ فذهبوا الى الثاني (أي الاستئناف) وهو اصح الروايات عن ابن عباس﴾.
١) ﴿وقال السمعاني: لم يذهب الى القول الأول إلا شرذمة قليلة﴾.
٢) ﴿ويدل لصحة مذهب الأكثرين﴾: قراءة ابن عباس: (وما يعلم تأويله إلاّ الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به)، فهذا يدل على ان (الواو) للاستئناف، لأن هذه الرواية، إن لم تثبت بها القراءَة، فأقل درجتها ان تكون خبراً بإسناد صحيح الى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذالك على من دونه. ﴿وفي قراءة ابن مسعود: (وإن تأويله إلاّ عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به﴾). ﴿وحكى الفراء ان قراءَة أبي بن كعب أيضاً (ويقولون الراسخون﴾).
وهكذا أيضاً فالقراءات المختلفة تؤيد الاستئناف، واستئثار الله بعلم المتشابه.
٣) الأحاديث المروية عن النبي والصحابة بتقسيم القرآن الى محكم ومتشابه، واستئثار الله بعلم المتشابه، وامتداح الراسخين في العلم على قولهم بالإيمان به ٤ .
٤) يؤيد القراءة على الاستئناف النص والمقارنة.
فالنص يذم الذين يتبعون ما تشابه ﴿ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله﴾. لنهمل أهل الفتنة. يبقى الذين يبتغون تأويله، ويأتي الجواب رداً عليهم: ﴿وما يعلم تأويله إلاّ الله﴾ فإذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله سقط الجواب، وما كان لمدح إيمانهم بالمتشابه من معنى.
نقل السيوطي ٥ عن الطيبي: ﴿ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع التفريق. لأنه تعالى فرَّق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: (منه آيات محكمات وأخر متشابهات ). وأراد ان يضيف الى كل منهما ما شاء فقال أولاً: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) الى ان قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به )؛ وكان يمكن ان يقـال: واما الذين في قلوبهم استقامة ﴿فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك (والراسخون في العلم) لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلاّ بعد التثبيت العام والاجتهاد البليغ. فإذا استقام القلب على طرق الارشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق في القول الحق. وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا) ٦ شاهداً على ان (الراسخون في العلم) مقابل لقوله (والذين في قلوبهم زيغ). وفيه اشارة الى ان الوقف على قوله (إلاّ الله) تام، وإلى ان علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار اليه في الحديث بقوله: فاحذرهم﴾.
والقرينة الحاسمة هي التي تذكر انتظار تأويل القرآن: ﴿هل ينظرون إلاّ تأويله؟ ـ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءَت رسل ربنا بالحق﴾ (الأعراف ٥٣)، ومفاده ان تأويل متشابه القرآن لا يأتي الاّ في اليوم الآخر.
وما ذهبت ﴿شرذمة قليلة﴾ إلى القراءَة على العطف، والقول بأن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، إلاّ افتداءً من النتـائج الخطيرة المتوقفة على استئثار الله وحـده بعلم تأويله: ﴿أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (الراسخون في العلم يعلمون تأويله؛ لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه). واختار هذا القول النووي فقال في شرح (مسلم): إنه الأصح لأنه يبعد ان يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته﴾.
فهذه النتائج الخطيرة هي التي تحمل بعضهم على مخالفة الجمهور بالقراءة والمعنى. فموقف هؤلاء هـو موقف العقل المصدوم، لا موقف النقل الصحيح. وفاتهـم جميعـاً معنى ﴿الراسخين في العلم﴾: يفهمونه لغويّاً، وهو اصطلاح قرآني كناية عن طائفة من أهل الكتاب. كما رأينا ذلك مراراً. يقول: اذا كان الظالمون من أهل الكتاب، أي اليهود، يشكون بالقرآن لوجود المتشابه فيه، فإن ﴿الراسخين في العلم﴾ أي ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾ (آل عمران ٧ و ١٨) يؤمنون بأن المتشابه ﴿من عند ربنا﴾، فيؤمنون بتنزيل القرآن على ما فيه من محكـم ومن متشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله. وعليه، في موقف ﴿الشرذمة القليلة﴾، اذا كان ﴿الراسخون في العلم﴾ من أهل الكتاب يعرفون ﴿ما تشابه منه﴾، ويعلمون تأويله؛ فإن أهل القرآن لا يعرفون ذلك. ونرجع في النهاية الى استئثار الله بعلم متشابه القرآن.
وتكون النتيجة الحاسمة الرابعة تلك النتائج الخطيرة القائمة على هذا الموقع القرآني الراهن: ١) ان الله، في القرآن، يخاطب عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته. ٢) ان أهل القرآن، بإلجائهم الى جهل تأويله، ﴿لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه﴾. ولذلك عند جمعه عمد عثمان ولجانه الى اسقاط الكثير من منسوخه الذي كان علي يجمعه، والى اسقاط تلاوة ما تشابه عليهم من القرآن. ٣) والقراءات الثابتة المخالفة لفظاً لقراءَة المصحف العثماني مثل قراءَة ابن مسعود، وقراءَة أبي بن كعب اللذين أوصى النبي بأخذ القرآن عنهما، وقراءَة ابن عباس عن أُبي بن كعب، برهان قائم على ان الجمع العثماني كان من اهدافه تنقيح النص القرآني، فلم يسلم كما نزل وكما تلي قبل التدوين العثماني، كما يشهد اتلاف الأحرف الستة، والمنع بقراءَة غير قراءَة المصحف الاميري، فسقطت قراءَة ابن مسعود، وقراءَة أبي بن كعب وقراءَة ابن عباس ترجمان القرآن.
وهكذا يثبت ان متشابه القرآن لا يمكن الاطلاع عليه، وأنه ﴿ما يعلم تأويله الاّ الله﴾.
رابعاً: تعيين المحكم والمتشابه
اختلفوا فيه إلى أقوال:
١) ﴿قيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد. والمتشابه القصص والأمثال﴾.
٢) ﴿عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدَّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به﴾.
٣) ﴿عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذالك من متشابه يصدّق بعضه بعضاً﴾.
٤) ﴿عن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة﴾.
وهكذا فلا إجماع إلاّ على أوامره الزاجرة في الحلال والحرام أي على احكام الشريعة في أوامرها الناهية الزاجرة، فهذه هي ﴿أم الكتاب﴾. والحال أن احكام القرآن من أمر ونهي تتراوح ما بين المائة والخمسين، وبين الخمسمائة آية. ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسمائة آية، وقال بعضهم مائة وخمسون. قيل: ولعل مرادهم المصرح به﴾. ٧ وفي التشريع لا يقضي إلاّ بالمصرح به. وهذا المصرح به مائة وخمسون آية، بالاجماع. فما هي الأحكام الناهية الزاجرة فيها؟
وهكذا يقتصر المحكم في القرآن على الأحكام فقط، وهي أقل من الخمسمائة آية. فيبقى القرآن كله تقريباً من المتشابه، والذي ﴿ما لا يعلم تأويله إلاّ الله﴾. إنّها النتيجة الخامسة: ولا يتعلّق الإِعجاز القرآني في البيان والبلاغة إلاّ بأحكام الشريعة المحكمة. فليس إذن من إِعجاز في آيات التوحيد وبراهينه؛ وليس من إِعجاز في أوصاف اليوم الآخر، والحساب، والجنة والنار، وليس من إِعجاز في بيان الوعد والوعيد؛ وليس من إعجاز في قصص القرآن وأمثاله؛ وليس من إِعجاز في أقسام القرآن وأنواع خطاباته؛ وليس من إِعجاز في آيات الترهيب والترغيب، وآيات التنديد والجدل والحجاج؛ وليس من إِعجاز في كونيات القرآن، ولا في غيبياته ٨ ؛ إن القرآن بإعلان ﴿المتشابه﴾ فيه، قضى قضاءً مبرماً على دعوى الإِعجاز فيه.
وكتاب أكثره المطلق من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ الله ـ وهب الراسخون في العلم أيضاً ـ كيف يكون معجزة البيان والبلاغة؟
خامساً: واقع المتشابه في القرآن
نقل السيوطي عن الراغب في (مفردات القرآن) قال: ﴿الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه ومتشابه من وجه﴾.
﴿فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط؛ ومتشابه من جهة المعنى فقط؛ ومتشابه من جهتهما﴾.
﴿فالأول (من جهة اللفظ) ضربان: أحدهما يرجع الى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة نحو (الأب ـ ويزفون)أو الأشتراك، كاليد واليمين (بحق الله). وثانيهما يرجع الى جملة الكلام المركب. وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو (وان خفتم ان لا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم)؛ وضرب لبسطه نحو (ليس كمثله شيء) لأن لو قيل (ليس مثله شيء) كان أظهر للسامع؛ وضرب لنظم الكلام نحو (أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيّماً) وتقديره (أنزل إلى عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً﴾).
﴿المتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة، فإن تلك الأوصاف لا تتصوّر لنا، اذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم تحسبه، أو ليس من جنسه﴾.
﴿والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب: الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو (اقتلوا المشركين). والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو (اتقوا الله حقّ تقاته). والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها)، (انما النسيء زيادة في الكفر)، فإنه من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تقسير هذه الآية. الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح. وقال: وهذه الجملة اذا تُصوّرت عُلم ان كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم﴾.
هذا هو واقع المتشابه في القرآن. وهو يتعلق بالألفاظ المفردة، وبالجمل المركبة، وبالنظم نفسه ـ والنظم هو أم الإِعجاز. فقد دخل المتشابه نظم القرآن من كل جهاته. وهو يتعلق أيضاً بمعاني القرآن كأوصاف الله وأوصاف اليوم الآخر. وهو يتعلق اخيراً باللفظ والمعنى معاً في عامه وخاصه، وفي ناسخه ومنسوخه، وفي معلوماته، وفي شروط احكامه. فقد دخل المتشابه في العقيدة والشريعة، وفي نظم القرآن نفسه.
وكتاب يكتنفه المتشابه في لفظه ونظمه، وفي عقيدته وشريعته، كيف يصح ان يكون معجزاً في الفصاحة والبلاغة والبيان؟ تلك هي النتيجة السادسة، من واقع المتشابه في القرآن.
سادساً: ما الحكمة في تنزيل كتاب أكثره متشابه؟
١) يقول ابن قتيبة ٩ : ﴿واما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن مَن أرادَ لعباده الهدى؟ والجواب: لو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم الجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة﴾.
انها حكمة، ينقضها القرآن بقوله: ﴿فانما عليك البلاغ المبين﴾ (النحل ٨٢) لا المتشابه؛ ﴿لتبين للناس ما نزّل اليهم﴾ (النحل ٤٤)، لا للعلماء والفقهاء وحدهم. فالجاهل هو الأولى بهداية الرحمن الرحيم.
٢) يقول صاحب كتاب المباني ١٠ : ﴿فإن قيل: ولأية علة أنزل المتشابه، وهو يحتمل التأويلات؟ فهلاّ جعله كله محكماً دالاً على ما أراده، ليكون أكشف للحق وأقمع للشبهة مع قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة! واذا لم يكن في المتشابه المأخوذ منه المراد لبْس ولا خفاء، فهو الى التشكك أقرب، وكان متناقضاً، ولم يكن من عند حكيم. والكلام المبين لا تتداخل فيه الشكوك أشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده.
﴿والجواب عليه أن الله سبحانه احتج على العرب بالقرآن، اذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة وحسن البيان، والاختصار والاطناب. وكان كلامهم على ضربين: أحدهما الواضح الموجز الذي لا يخفى على سامعه ولا يحتمل غير ظاهره؛ والآخر على المجاز والكنايات والاشارت والتلويحات وهذا الضرب هو المستحلى عندهم، الغريب من الفاظهم، البديع في كلامهم... فلما قرعهم الله سبحانه فعجَّزهم عن المعارضة بمثل سور أو سورة منه، أنزله على الضربين ليصبح العجز منهم وتتاكد الحجج ولزومها إياهم﴾.
انها أيضاً حكمة ينقضها القرآن نفسه. فالكلام ﴿على المجاز والكنايات والاشارات والتلويحات﴾ هو موضوع الشعر، وما علمناه الشعر، وما ينبغي له؛ إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين﴾ (يسن ٦٩).
٣) وجاءَ في (الإتقان ٢: ١٢): ﴿وقال بعضهم: إن قيل ما الحكمة في انزال المتشابه، فمن أراد لعباده البيان والهدى؟ قلنا: ان كان مما يمكن علمه فله فوائد، منها الحث للعلماء... ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات اذ لو كان القرآن كله محكماً لا يحتاج الى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلفاء، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وان كان مما لا يمكن علمه، فله فوائد: منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به كالمنسوخ، وان لم يجز العمل بما فيه. واقامة الحجة عليهم لأنه لمّا نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه، مع بلاغتهم وأفهامهم دلَّ على انه نزل من عند الله، وانه الذي أعجزهم عن الوقوف﴾.
إن الخلق عند الله سواسية، وليس في تنزيله إقامة طبقات بين الناس، انما الرحمٰن الرحيم يريد الهدى والبيان لجميع الناس. فلا داعي الى المتشابه الذي لا يعرفه إلاّ الراسخون في العلم. فالكلام والبيان للخاصة، والتنزيل والدين لعامة الناس. والمتشابه الذي لا يمكن علمه، لا تقوم به حجة، ولو نزل بلغتهم وبيانهم، فإن الله يريد لعباده البيان والهدى، لا المتشابه والشكوك. ﴿والكلام المبين الذي لا تتداخل فيه الشكوك اشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده﴾.
- وإِعجاز الخلق بكلام لا يمكن علمه هو تعجيز، لا إِعجاز. وحاشا للحكيم الرحيم إِعجاز خلقه بتعجيزهم. تعالى سبحانه عن مثل هذا العبث! وهذا التعجيز في تنزيل المتشابه لا ﴿يدل على انه نزل من عند الله، وأنه الذي اعجزهم عن الوقوف﴾ كما يدعون، لأنه ﴿إلى التشكك أقرب، وكان متناقضاً، ولم يكن من عند حكيم﴾. وبعبارة واحدة ان واقع المتشابه في القرآن يناقض هدف التنزيل والنبوّة: ﴿فإنما عليك البلاغ المبين﴾ (النحل ٨٢)، ﴿لتبيّن للناس ما نزّل اليهم﴾ (النحل ٤٤).
وهذا التناقض بين متشابه القرآن وهدفه في الهدى والبيان ختام النتائج الحاسمة، من الرحمٰن الرحيم الذي يريد بالناس الهداية، لا البلاء. فمتشابه القرآن ﴿ابتلاء العباد﴾. هذا هو القول الفصل في حكمته. وهذه الحكمة لا تليق بالله الحكيم الرحيم.
سابعاً: فصل الخطاب في متشابه القرآن
بإزاء تلك النتائج لمتشابه القرآن، يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ١١ : ﴿واذن فالرأي الذي ينبغي ان نراه في القرآن هو ان كل ما فيه من حروف وكلمات، وآيات، هو محكم بمعنى انه غير محجوب عن انظار الناظرين، ولا محجوز عن فهم المتدبرين والمتذكرين. وهذا الفهم لكلام الله على هذا الوجه هو الذي يحفظ وحدة هذا الكتاب، ويجعل منه آية من آيات الله. أما اذا قيل إن من القرآن متشابهاً لا يدنو منه نظر، ولا يتجه اليه عقل، فإن ذلك من شأنه أن يمزق وحدة القرآن، وان يقيم فيه الحواجز والسدود، وان يجعل بعضه قرآناً، وبعضه أصواتاً تُنطق ولا تُفهم... واذا كان الذين يقولون بوجود المتشابه في القرآن لا يكفرون به، بل يؤمنون به كما يؤمنون بالمحكم ـ فإن إِيمانهم هذا على وجه واحد وعلى درجة واحدة إيمان عجز واستسلام... إيمان قلق مذعور ليس له جذور تمسك به في قلب صاحبه﴾.
ان هذا الحلّ الجذري، بالاستئصال، لواقع المتشابه في القرآن ومشكله وحكمته، ينقضه القرآن نفسه في صريح تصريحه: ﴿منه آيات محكمات... وأخر متشابهات... وما تشابه منه... ما يعلم تأويله إلاّ الله﴾! وينقضه اجماع الأئمة في الأمة منذ نزول المتشابه الى اليوم.
وتبقى الخاتمة: ان القول بوجود المتشابه في القرآن ﴿من شأنه ان يمزّق من وحدة القرآن﴾ ويقود الى ﴿إيمان عجز واستسلام... إيمان قلق مذعور﴾. ويبرز التساؤل: هل متشابه القرآن، كمـا يصف نفسه، وكما يصفه أهله، من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في البيان والبلاغة؟
بحث خامس
الناسخ والمنسوخ ١٢ شبهة خامسة على البلاغة القرآنية
نحتكم أيضاً في هذا البحث الى السيوطي، خاتمة المحققين في (الإتقان ٢: ٢٠ ـ ٢٧).
نشاهد في هذا البحث ظواهر غريبة من الواقع القرآني تدل على مدى إِعجازه في البيان والبلاغة.
ظاهرة أولى: ﴿النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة﴾
يفتتح بحثه بقوله: ﴿في ناسخه ومنسوخه: أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون... قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلاّ بعد ان يعرف الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا! قال: هلكت وأهلكت﴾.
فالقول بوقوع النسخ في القرآن عليه إجماع؛ ولذلك يقـول السيوطي في مطلع بحثه: ﴿النسخ ممّا خص الله به هذه الأمة لحكم، منها التيسير﴾ فميزة القرآن النسخ في آياته. ولا نسخ في الإنجيل ولا في الكتاب. والنسخ في أحكام القرآن، كالمتشابه في أخباره وأوصافه، شبهة على إِعجازه، لأن الحكم المحكم لا يُنسخ في الكتاب الواحد، مع النبي الواحد، في الزمن الواحد، وقد لا يمضي على تنزيل المنسوخ اعوام أم شهور أم أيام. جاء في (أسباب النّزول) للسيوطي على آية الوسوسة: ﴿وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾ (البقرة ٢٨٤) أنها لما نزلت ﴿اشتد ذالك على الصحابة... فقالوا قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها... فأنزل الله في أثرها: آمن الرسول.. لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها﴾ (البقرة ٢٨٥ ـ ٢٨٦) فنسخها ﴿رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن ابي هريرة؛ وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه. والغرابة في هذا النسخ أنه جاءَ بعد تنزيل الله نزولاً على رغبة الجماعة.
يقول السيوطي: ﴿وقد أجمع المسلمون على جواز النسخ. وأنكره اليهود ظنّاً منهم أنه بُدَاء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له. وهو باطل لأنه بيان مدة الحكم﴾. ينكر اليهود ذلك لأنهم لا يتصورون ان الله ينسخ شريعة التوراة الى قيام الساعة ولكن في التشريع قد يتبع الله سُنّة التطور التي قضاها على الانسان فيجعل ﴿لكل أجل كتاباً﴾. ولكن لا يليق بالله النسخ في كتاب واحد، مع نبي واحد، في زمان واحد؛ فهذا النسخ فيه شبهة البُداء. أجل ﴿تتبدل الأحكام بتغيّر الأزمان﴾ ولكن لا بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد القصير بُداء لا يليق بالحكيم العليم. لذلك فميزة النسخ التي ﴿خص الله بها هذه الأمة﴾ هي ميزة مشبوهة بحد ذاتها.
ظاهرة ثانية: من النسخ في معناه العام
جاءَ مبدأ النسخ وواقعه في قوله: ﴿ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦). وجاءَ تطبيقه ومعناه في قوله: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلآّ اذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته﴾ (الحج ٥٢) فالنسخ إحكام لآيات الله.
ينتج عن هذا الوصف أن النسخ يُحكم آيات الله التي كانت قبله غير محكمة. وبتنزيل آيات غير محكمة في تنزيلها، وتكون بحاجة الى إحكام بعد تنزيلها، هل هي من الإِعجاز في البيان والبلاغة؟ فالنسخ، في معناه العام نفسه، شبهة على الإِعجاز في التنزيل وفي بيانه.
ظاهرة ثالثة: نسخ آية بآية يعني التعارض في التنزيل
نقل السيوطي: ﴿قال ابن الحصار: انما يُرجَع في النسخ الى قول صريح عن رسول الله ﷺ أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا. وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، ليُعرف المتقدم والمتأخر. قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم واثبات حكم تقرّر في عهده ﷺ﴾. فالنسخ يقوم على معارضة بيّنة بين آية وآية، أو بين آية وآيات كنسخ الخمر والربا. فمبدأ النسخ وواقعه شاهد على تعارض الآيات في التنزيل والتشريع. وكتاب يقول بالنسخ في تنزيله وأحكامه، أي بالتعارض بينها، أيدل على إِعجاز في البيان والبلاغة؟
ظاهرة رابعة: من معاني النسخ المختلفة
يقول في (الإتقان ٢: ٢٠): ﴿يرد النسخ بمعنى الإزالة ومنه قوله (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته).
﴿وبمعنى التبديل، ومنه: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: انما أنت مفتر)!
﴿وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد﴾. هكذا كان التوارث في مطلع الهجرة الى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار، فنسخه بالتوارث بين الأرحام والقرابات: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض﴾ (الانفال ٧٥؛ الأحزاب ٦).
تلك ميزات ثلاث في التنزيل القرآني وبيانه وبلاغته. فالتبديل في آي القرآن يشهد هو به على نفسه (النحل ١٠١)؛ وكان في آخر العهد بمكّة سبب ارتداد بعضهم عن الإسلام. والتحويل له في القرآن شواهد، من تحويل المواريث، ومن تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام، وهدم عاشوراء بصوم رمضان. والإزالة من التلاوة لا مثال لها من القرآن؛ إنما وجودها قائم بشهادة الأخبار والآثار. نقل السيوطي ١٣ . ﴿وأمثلة هذا الضرب كثيرة: عن ابن عمر قال: ليقولن أحدكم قد أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله؛ قد ذهب منه قرآن كثير؛ ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر... وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي ﷺ مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها الاّ ما هو الآن (أي ٧٣ آية )... وإنْ كانت لتعدل سورة البقرة. وعن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو (براءَة) ثمرفعت وحفظ منها آية واديين من الحال. وعن ابي موسى الاشعري أيضاً قال: كنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أُنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لا تقولـوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتُسألون عنهـا يوم القيامة ). وعن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة وأقرأهما رسول الله ﷺ فكانا يقرأان بها؛ فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف؛ فأصبحا غاديين على رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له، فقال: إنها ممّا نُسخ فالهوا عنا﴾.
نتساءَل: فهـل تلك الميزات في التنزيل القرآني، التبديل والتحـويل والإزالـة، من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في البيان والبلاغة؟
ظاهرة خامسة: الإسقاط أو الرفع من التلاوة
من ميزات القرآن الكبرى الاسقاط منه أو الرفع من تلاوته، في زمن التنزيل ثم في زمن التدوين.
ففي زمن التنزيل، ﴿روى البخاري حديثاً عن فاطمة ان النبي ﷺ أسرّ اليها بأن جبريل يُعارضه بالقرآن كل سنة، وأنه عارضه في العام الذي توفي فيه مرتين. وقال: ولا أراه إلاّ حضر أجلي. وروي البخاري حديثاً آخر جاء فيه: كان القرآن يُعرض على النبي كل عام مرة، فعُرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه﴾ ١٤ . فهل كان محمد يعرض على جبريل، أم جبريل يعرض على محمد؟ وما معنى هذا العرض المتواتر كل سنة؟ ﴿قال البغوي في(شرح السنة): إن زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي﴾ ١٥ فهذه العرضات المتواترة كانت إذن لإحكام القرآن بتنقيحه، أو الأسقاط منه، ورفع تلاوته. وذلك على زمن التنزيل وبفعل النبي نفسه.
وحين التدوين اسقط عثمان من الآيات ومن السور ما وردت به الاخبار والآثار. نقل السيوطي ١٦ : ﴿عن عبد بن عدي قال: قال عمر كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال نعم. وعن المسور بن مخزمة قال: قال عمر لعبد الرحمٰن عوف: ألم تجد فيما أُنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) فإنا لا نجدها؛ قال: أُسقطت فيما أسقط من القرآن!... وعن ابن أبي حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليَّ أبي وهو أبن ثمانين سنة في مصحف عائشة (ان الله وملائكته يصلون على النبي؛ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً ـ وعلى الذين في الصفوف الأولى)، قالت: قبل ان يغيّر عثمان المصاحف﴾!
قد يقبل العقل والإيمان الاسقاط من القرآن والرفع من صاحب التنزيل، أما ان يحصل من أهل التدوين، فهذا لا يقبله إيمان ولا عقل!
وقد يقبل العقل والإيمان رفع قرآن من التلاوة لحكمة يراها منزله؛ أمّا ان يُرفع من التلاوة لاختلافهم فيه، فهذا ممّا لا يرضى به عقل ولا إيمان. ﴿أخرج ابن الضريس في(فضائل القرآن)... أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف. فسألتُ أُبي بن كعب، فقال أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله ﷺ، فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر! قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع التلاوة وهو الاختلاف﴾.
وهذه الظاهرة المزدوجة برهان آخر على ان ما نُسخ بالرفع والاسقاط لم يكن من معجز القرآن في البلاغة والبيان.
ظاهرة سادسة: النسخ على أقسام
﴿قال مكيّ: الناسخ أقسام: فرض نسخ فرضاً لا يجوز العمل بالأول، كنسخ الحبس للزواني بالحد؛ وفرض نسخ فرضاً ويجوز العمل بالأول، كآية المصاهرة؛ وفرض نسخ ندباً، كالقتال كان ندباً ثم صار فرضاً؛ وندب نسخ فرضاً؛ كقيام الليل نُسخ بالقراءَة في قوله (فاقرأوا ما تيسّر من القرآن).
فتكلما غريبتان من غرائبه: ﴿فرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول، كآية المصاهرة﴾ ـ وهذا تعارض مكشوف في لفظه نفسه، إذ كيف يبقى مع النسخ جواز عمل بالمنسوخ؟ ﴿وندب نسخ فرضاً﴾ وهذا من باب التخفيف في التشريع: خففّ من شرائع مَن قبلنا؛ ثم خفّف من شريعته نفسها، فلو كانت محكمة حكيمة، لما احتاجت الى تخفيف في الشريعة الواحدة.
ظاهرة سابعة: النسخ على أضرب
قال السيوطي: ﴿النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب﴾.
﴿أحدها ما نُسخ تلاوته وحكمه. قالت عائشة: (كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات فنُسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن ممّا يُقرأ من القرآن ـ رواه الشيخان)... وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت!﴾
﴿الثاني ما نُسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة... ﴾
﴿الثالث ما نُسخ تلاوته دون حكمه﴾ ـ وينقل السيوطي من الاخبار والآثار ما يشهد لهذا الواقع القرآني، كقوله عن ابن عمر: ﴿قد ذهب منه قرآن كثير﴾! وقوله بشهادة عمر وعبد الرحمٰن عوف: ﴿أُسقطت (آية) فيما أُسقط من القرآن﴾﴾!
وهنا ترد التساؤلات التي تصدم العقل والإيمان في هذا الواقع القرآني:
١) ما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن يُنسخ تلاوته وحكمه جميعاً؟ أو بتعبير آخر، ما الحكمة الإلهية في قرآن نزل ثم رُفع؟ أيصح هذا من الحكيم العليم؟ يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ١٧ : ﴿والقول بأن من القرآن ما نزل وتُلي ثم نُسخ... قول فيه مدخل الى الفتنة والتخرّص. فإذا ساغ ان ينزل قرآن ويُتلى على المسلمين ثم يُرفع، ساغ لكل مبطل أن يقول ايّ قول، ثم يدَّعي له انه كان قرآناً ثم نُسخ! وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات والتلبيسات ويكون لذلك ما يكون من فتنة وبلاء. ثم من جهة أخرى: ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع﴾؟
ثم يقول: ﴿وكيف يكون رفعه؟ أبقرآن يقول للناس: إن آية كذا قد رُفعت أو نُسخت فلا تجعلوها قرآناً، ولا تقرأوها؟ أم ان هذا النسخ يقع بمعجزة ترفع من صدور الناس ما قد حفظوا من القرآن المنسوخ؟ واذا رُفع من الصدور بتلك المعجزة فهل تكون معجزة أخرى يُرفع بها ما كُتب بأيدي الكرام الكاتبين من كتاب الوحي بين يدي النبي؟ واذا رُفع من الصدور او من الصحف المكتوبة بمعجزة من المعجزات فما الذي يدل على أن قرآناً كان ثمّ رفع؟... أما ان يكون رفع هذه الآيات المنسوخة من صدور الناس بمعجزة حتى يُمح محواً فلا يذكر أحد من أمرها شيئاً، فإن ذلك معناه ألاّ يكون هناك خبر عن هذه الآيات، وألاّ يقوم في الحياة شاهد يشهد لها بأنها كانت ثم ذهبت... ومَن الذي يخبر عنها ويشهد لها، وليس عند أحد علم بها أو ذكر لها﴾.
ان الشيخ الخطيب ينكر هذا النوع من القرآن المنزل والمرفوع، مع ان شواهده الصحابة أنفسهم كما نقل السيوطي بالتواتر عنهم (الإتقان ٢: ٢٥)؛ ان عندهم الخبر اليقين وان تنكّر له، لأنه يجد بحق ان لا حكمة له، وهو مدخل الى الفتنة والبلاء. أجل ﴿ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع﴾؟ ليس من جواب شافٍ كافٍ.
٢) وما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن تُرفع تلاوته ويبقى حكمه؟ إذا رفع الله تنزيله فقد رفع حكمه! ولا يدين الانسان إلاّ بحكم الله! اذا الله لم يشرع لنا حكماً صريحاً، فلسنا مأمورين به. وهل من الحكمة أن يأمرنا بشيء لا نهتدي به اليه. هذا مجموع المتناقضات.
٣) بقي النوع المأثور في الناسخ والمنسوخ؛ فقالوا: ﴿انما حق الناسخ والمنسوخ ان تكون آية نسخت آية﴾. ولقد لحظ أهل القرآن تعارض العقل والإيمان في هذا النسخ بمعناه الحصري، والذي ﴿أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون﴾. يقول السيوطي: ﴿ما الحكمة في رفع الحكم (بالناسخ) وبقاء التلاوة (في المنسوخ)؟ فالجواب من وجهين: أحدهما ان القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فتُركت التلاوة لهذه الحكمة. والثاني أن النسخ يكون غالباً للتخفيف فأُبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة﴾.
ليس من حكمة في هذا الجواب المزدوج: ان التعبّد بتلاوة المنسوخ، والتذكير بنعمة التخفيف في المنسوخ، كلاهما تلبيس لمراد الله من تنزيله، وتجهيل به؛ فإذا كان العلماء يختلفون على وجود الناسخ والمنسوخ، وعلى تحديده، وعلى شموله، فكم بالأحرى العامة؟ فالعامة عندما يقرأون كلام الله المنسوخ يظنونه قائماً يجب ان يمتثلوا به. فحاشى لحكمة الله أن تورّط في الجهل من أمرها من شاءَت لهم البيان والهدى. إنه ﴿قرآن مبين﴾، لا قرآن على بيانه شبهة.
فلا حكمة في تنزيل المنسوخ. واذا كان هذا المنسوخ في نظر الله أمراً طارئاً، فيليق بالله ان يجعله أمراً أو نهيـاً صريحاً الى أجل، كقـوله: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾.
ولا حكمة في تنزيله على الإطلاق للتعارض القائم بين التنزيل واللوح المحفوظ: فما في اللوح المحفوظ، هل المنسوخ ام الناسخ؟ بما أنهما متناقضان في حكم الله، فلا شك ان الناسخ هو المكتوب في اللوح المحفوظ: فمن أين اذن جاءَ المنسوخ؟ ولا يصح بحال ان يكون النقيضان معاً، المنسوخ والناسخ، كلاهما جميعاً في اللوح المحفوظ: فمن أين نزل المنسوخ؟
والنتيجة الحاسمة أن المنسوخ بحد ذاته شبهة على التنزيل، وشبهة على الإِعجاز في البيان والتبيين.
ظاهرة ثامنة: النسخ على كيفيات غريبة
جاءَ في (الإتقان ٢: ٢٤): ﴿فوائد منثورة:﴾
١) ﴿قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب، إلاّ في آيتين: آية العدة (في البقرة) حيث الناسخ (الآية ٢٣٤) جاءَ قبل المنسوخ (الآية ٢٤٠) ـ وقوله ﴿لا يحل لك من النساء من بعد﴾ (الأحزاب ٥٢)، وهي منسوخة بما قبلها ﴿إنا أحللنا لك﴾ (الأحزاب ٥٠).
٢) ﴿وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار والتوّلي والاعراض والكفّ عنهم منسوخ بآية السيف وهي (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) ١٨ ، نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.
٣) ﴿وقال (ابن العربي) أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) ١٩ ، فإن أولها (أخذ العفو) وآخرها (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ، ووسطها محكم وهو (وأمر بالعرف).
٤) ﴿وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، لا نظير لها، وهي قوله: (عليكم أنفسكم، لا يضركم مَن ضَلَّ اذا اهتديتم) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله (عليكم انفسكم).
٥) ﴿وقال السعيدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى (قل: ما كنت بدْعاً من الرسل) مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول (الفتح) عام الحديبيّة.
٦) ﴿وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال: في قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حُبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) ٢٠ ان المنسوخ من هذا الجملة (وأسيراً)، والمراد بذلك أسير المشركين. فقُرئ عليه الكتاب وابنته تسمع؛ فلما انتهي الى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبتِ؛ قال: وكيف؟ قالت: اجمع المسلمون إلى ان (الأسير) يُطعم ولا يُقتل جوعاً. فقال: صدقت ٢١ .
٧) ﴿قال شيدلة في (البرهان ): يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً، كقوله (لكم دينكم ولي دينِ) نسخها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين) ثم نسخ هذه بقوله (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ). قال: وفيه نظر من وجهين: أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه؛ والأخر أن قوله (حتى يُعطوا الجزية) مخصص للآية ٢٢ ، لا ناسخ. نعم يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ناسخ لأولها، منسوخ بفرض الصلوات الخمس، وقوله (انظروا خفافاً وثقالاً) ناسخ لآيات الكهف، منسوخ بآيات العذر﴾.
فتلك سبع حالات أو كيفيات في أسلوب النسخ، وهي من ﴿غرائبه التي لا تنتهي﴾: كيف يأتي ناسخ قبل منسوخ؟ وكيف تنسخ آية واحدة، آية السيف (التوبة ٥) سائر القرآن كله أي ١٢٤ آية في سور عديدة؟ وكيف تنزل آية (العقد) يكون أولها وآخرها منسوخين بوسطهما المحكم؟ أو كيف تنزل آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ؟ وكيف ينزل تعليم في نبوّة محمد ثم ينسخ بعد ست عشرة سنة؟ وما هذا العبث في التنزيل ـ نسخ الناسخ فيصير بدوره منسوخاً؟!
إن هذه الكيفيات الغريبة في التنزيل تجعله عبثاً في حكمة الله البالغة، وحاشا للّه من العبث! فهي كلها شبهات على الإِعجاز في البيان والبلاغة.
ظاهرة تاسعة: النسخ على مراحل.
يرون ذلك في تحريم الخمر وتحريم الربا.
١ـ جاءَ قوله في الخمر أولاً: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سَكَراً ورزقاً حسناً﴾ (النحل ٦٧ ). ان السَكَر هو ﴿المسكر﴾ (الجلالان)، وهو رزق حسن، كما يظهـر من عطف البيان. وظل الأمر كذلك طول العهد بمكـّة. وفي اول العهد بالمدينة قال: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر؟ قلْ: فيهما إثم كبير ومنافع للناس؛ واثمهما أكبر من نفعهما﴾ (البقرة ٢١٩). وهذا حكم وحكمة مستقلان: فكل طعام أو شراب حسن، ما لم ينحرف الى افراط إثمه أكبر من نفعه. وفي منتصف العهد بالمدينة يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون﴾ (النساء ٤٣). وفي آخر العهد بالمدينة يأتي قوله:﴿انما الخمر والميسر، والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان قأجتنبوه﴾ (المائدة ٩٠). فيجيء الحكم القاطع بتحريم الخمر، لكن بتعبير غير تعبير التحريم، ﴿فاجتنبوه﴾ مما يدع شبهة ٢٣ .
أما الاجماع فإن الآية الأخيرة تحريم بحكم قاطع. وهذه القصة في الخمر شاهد على ان مراحل النسخ متتابعة، ينسخ بعضها بعضاً، اللاحق منها ينسخ السابق، فيصير الناسخ منسوخاً مرتين. فما حكمة هذا النسخ المتتابع؟ وهل يداور الله عباده في تصدير أمره؟ وكيف يمكن التوفيق بين هذه الأحكام المختلفة في أمر واحد هو الخمر: فهي رزق حسن؛ وفيها نفع واثم؛ ويحرم على السكران دخول المسجد أو الاشتراك بالصلاة؛ أخيراً هي رجس من عمل الشيطان. وكيف تبدأ رزقاً حسناً وتنتهي رجساً من عمل الشيطان؟
هذا النسخ المتتابع المتناسخ قد يجدون فيه حكمه بالتدرج الى التحريم الكامل، تلطفاً من الله بعباده الغارقين في إثم الخمر؛ لكن ليس هذا من حكمة القدير، فإنه ﴿اذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون﴾ (٢: ١١٧؛ ٣: ٤٧؛ ١٩: ٣٥؛ ٤٠: ٦٨). وهل تشريع الله في أمر واحد ليعطي المؤمن في كل حالة لبوسها؟ هل هذا من الإِعجاز في التشريع، ومن الإِعجاز في البلاغة والبيان؟
٢ ـ وفي الربا جاء قوله أولاً: ﴿وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله﴾ (الروم ٣٩). هذا ذم وتقبيح له. ثم جاءَ بحق اليهود: ﴿وأخذهم الربا، وقد نُهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل﴾ (النساء ١٦١)؛ هذا هداية الى ﴿سنن الذين من قبلكم﴾ (النساء ٢٦) ثم جاء قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ (آل عمران ١٣٠)؛ هنا تحريم في حال ﴿الاضعاف المضاعفة﴾ في الربا. ثم جاء قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين؛ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله؛ وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون﴾ (البقرة ٢٧٨ ـ ٢٧٩).
هذا هو التسلسل والترابط المأثور في تحريم الرّبا. ونلاحظ ان التحريم يأتي في سورة البقرة (٢٧٩)، وهي أول القرآن نزولاً بالمدينة، لأن الآية من آخر ما نزل من القرآن بحسب (أسباب النّزول).
أما اذا أخذنا الواقع القرآني على حاله كما جمع ـ وهذا هو الظاهر الذي لا يصح العدول عنه إلاّ بقرينة ظـاهرة ـ فيظهر أنه بـدأ بشدة (البقرة ٢٧٩)، ثم تراخى الى حـال ﴿الاضعاف المضاعفة﴾ (آل عمران ١٣٠)؛ أخيراً اذا ذكر النهي عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، ذمّاً لليهود (النساء ١٦١) فلا يمنع ان ينتهي الى ﴿تخفيف من ربكم﴾ بحسب مبدأ التيسير في التشريع الذي يأخذ به القرآن.
فما بين ظاهر القرآن في هذا التراخي والتخفيف، والاجماع على التحريم، شبهة على الجمع والتدوين، وشبهة على التعارض في التشريع ألجأهم الى القول بالنسخ.
وهذا النسخ على مراحل يجعل شبهة في التشريع وإِعجازه في بلاغته وبيانه. فهو ليس تربية للأمة، كما يكون الحال بدستور ينزل مبتدئاً صريحاً محكماً، وتسير السيرة والدعوة على هديه.
ظاهرة عاشرة: كثرة المنسوخ في تشريع القرآن
بلغ عدد الآيات المنسوخة في المصحف الحالي، عند النحاس وعند ابن حزم نيفاً ومئتي آية. وجزم السيوطي في (الإتقان ٢: ٢٣): ﴿فهذه احدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها، لا يصح دعوى النسخ في غيرها. والأصح في آية الاستئذان والقسمة الأحكام، فصارت تسعة عشرة. ويضم إليها قوله تعالى ﴿فأينما تولوا فثّم وجه الله﴾ على رأي ابن عباس انها منسوخة بقوله ﴿فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام﴾، فتمت عشرون﴾.
فهذا التفاوت في العدد ناجم على اختلافهم في ﴿حق الناسخ والمنسوخ﴾ فإن بعضهم يعد منسوخاً أحكاماً مفروضة وهي مندوبة، وفي المفروضة بيان الندوبة، لا نسخها. وهناك قسم مخصوص قد يعتبره بعضهم من الناسخ للعام المنسوخ، كقول بعضهم إن دفع الجزية في قتال أهل الكتاب (التوبة ٢٩) ينسخ قتال المشركين، وهما حكمان مستقلان في فئتين مختلفتين، أحدُهما عام للمشركين، والثاني خاص بأهل الكتاب. وقسم في الآيات التي فيها استثناء وغاية محدودة كقوله: ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنَّ﴾ فقد ظن بعضهم انهـا منسوخة بقوله: ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب﴾، وهو مخصوص بأهل الكتاب. ﴿وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية ـ أو في شرائع مَن قبلنـا ـ أو في أول الإسلام، ولم ينزل في القرآن﴾، ولذلك ليس فيه نسخ آية بأية كما هو حق الناسخ والمنسوخ. فتلك الاقسام الأربعة قد يعدها بعضهم من باب النسخ على العموم، وينكر ذلك بعضهم في باب النسخ على الخصوص.
ولكن فاتهم أمران. الأول ان الناسخ والمنسوخ الباقيين في المصحف الأميري، انما هما نتيجة تصفية قرآنية مزدوجة. فقد روت الآثار والاخبار ان تصفية أولى للمنسوخ قد تمت على يد النبي نفسه في عرضات القرآن السنوية الموسمية، والعرضة الأخيرة؛ وأن تصفية ثانية للمنسوخ قد جرت في التدوين العثماني الذي اسقط المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف علي. فلا غرو ان يبقى من المنسوخ فقط ما هو موجود.
والأمر الثاني هو وجود النسخ في القرآن، واقعاً ومبدأ؛ والقليل الباقي دليل على الكثير الساقط. والنسخ في الأحكام، كالمتشابه في الأخبار، شبهة على التنزيل، وشبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان. فقرآن مبين، كما يصف نفسه مراراً، لا يكون فيه نسخ.
ظاهرة حادية عشرة: علّة المنسوخ
فسواءٌ قلّ المنسوخ أو كثر في القرآن، فوجوده بلاء في تنزيل القرآن، وشبهة على إِعجازه في البلاغة والبيان. فمن آمن بالمنسوخ وجد نفسه أمام مأزق حرج لا مناص منه: ما الحكمة الإلهية في تنزيل قرآن لأيام أو أشهر معدودات، يزول حكمه بقرآن آخر محكم لا يزول؟ إنها محنة، لا حكمة. ومن أنكر النسخ في القرآن، لجأ الى اعتبار المنسوخ أحكاماً عابرة لأحوال عابرة. والتشريع هو أم القرآن؛ فإذا كان بعض تشريعه لأحوال عابرة، فهذا يجعل القرآن محدوداً في الزمان والمكان. وكتاب فيه أحكام عابرة لأحوال عابرة لا يكون كتاب الله لكل زمان ومكان.
ظاهرة ثانية عشرة: اجتماع الناسخ والمنسوخ في سورة واحدة
يقول السيوطي ٢٤ : ﴿قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاثٌ وأربعون... وقسم فيه الناسخ فقط وهو ستّ... وقسم فيه المنسوخ فقط وهو أربعون... وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، والحج والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ والمؤمن والشورى والذاريات والطور والواقعة والمجادلة والمزمل والمدثر وكورت والعصر﴾. مع أن مكّي يقول: ﴿لم يقع في المكّي ناسخ﴾.
قد نرضى على مضض بتناسخ في أزمنة متفاوتة وسور مختلفة، أما أن يقع الناسخ والمنسوخ معاً في سورة واحدة، فإن العقل لا يجد لذلك حكمة قاهرة. فانظر أمثال التناسخ في سورة البقرة وحدها، كقوله في الصيام ﴿أياماً معدودات﴾ ـ أي دون العشرة (١٨٤)، فيصير ﴿شهر رمضان﴾ (١٨٥)؛ وكقوله: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية﴾ (١٨٤) فيصير: ﴿ومن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ (١٨٥)؛ وكقوله في القبلة: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثّم وجه الله﴾ (١١٥) نسخها بعد سنة: ﴿ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام؛ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ (١٥٠)؛ ولما نزل اتيان النساء من حيث أمرهم الله (٢٢٢) تحّرجوا فنزلت التوسعة للحال: ﴿نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم﴾ (٢٢٣)؛ ونزلت المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) فاحتج الصحابة: ﴿قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها﴾ فنسخها للحال بقوله: ﴿لا يكلّف الله نفساً الاّ وسعها﴾ (٢٨٦).
هذا أمر مذهل حقاً، ولا يجد العقل والإيمان له حكمة: فما معنى تنزيل قرآن، ونسخه للحال؟ وما معنى تدخّل عمر بن الخطاب والصحابة في التنزيل والتعديل والتبديل؟ إنّ تناسخاً كهذا هل هو من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في البلاغة والبيان؟
ظاهرة ثالثة عشرة: نسخ القرآن بالسنّة أو بالاجماع
يقول السيوطي ٢٥ : ﴿واختلف العلماء: لا يُنسخ القرآن إلاّ بقرآن، كقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها). قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيراً منه ألاّ قرآن﴾.
﴿وقيل: بل يُنسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى، أن هو إلاّ وحي يوحى﴾).
نقول إن الحجة واهية لأنها تصرح بامتناع النطق عن الهوى في الوحي والتنزيل أي في كلام الله المنزل، لا في الحديث النبوي، فإنه ليس بكلام الله، ولا وحياً غير مكتوب.
وقال بعضهم بنسخ القرآن بإجماع الأئمة في الأمة. وهكذا فقد يقع نسخ كلام الله بحديث النبي. وقد يقع نسخ كلام الله أو حديث النبي بإجماع الأئمة.
وهذا يدل على سيطرة ذهنية النسخ في الأمة. وقرآن قد ينسخه، ليُحكم تشريعه، حديث نبوي، أو اجماع الأمة، هل يكون من الإِعجاز في التشريع الصالح لكل زمان ومكان؟ وقرآن بحاجة الى نسخ بقرآن أو حديث نبوّة أو إجماع الأئمة، هل هو من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟
تلك الظواهر مشكل ضخم. ان بعضهم أدرك الشبهات الجسيمة التي تقوم على القرآن من الأخذ بالنسخ في القرآن، فآثروا نفي النسخ فيه من أساسه. كان منهم الزركشي صاحب (البرهان في علوم القرآن). لكن الأمة لم تتبعه. وأتى الشيخ عبد الكريم الخطيب ٢٦ يجدد المقالة بالاّ نسخ في القرآن تلافياً للشبهات المحتومة التي رأينا أمثلة لها في ظواهر القرآن الأثني عشر. فهو ينظر في متن آية النسخ (البقرة) فيرى أنها شرطية، ويجوز ألاّ يقع شرطها ولا جوابها وتكون من قبل القضايا الفرضية التي يُراد بها العبرة والعظة. ويمثل لذلك بقوله للنبي: ﴿لئن أشركت ليحبطّن عملك﴾ ـ وهو لم يشرك ولم يحبط عمله. وفاته ان التعبير عن الحقيقة والواقع بلغة الشرط أسلوب بياني في القرآن، كقوله للنبي بعد ما تساهل مع المشركين: ﴿فلا تدْع مع الله الهاً آخر، فتكون من المعذبين﴾ (الشعراء ٢١٣)، ﴿فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين... وادعُ الى ربك، ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدْع مع الله الهاً آخر، لا إله إلاّ هو﴾ (القصص ٨٦ ـ ٨٨) ـ ولا تحذير إلاّ من خطر جاثم، ولا عتاب إلاّ بعد ذنب. كذلك لا تقرير للنسخ إلاّ بعد واقع. ولا ننس ان مبدأ التبديل في آية القرآن جاءَ أيضاً بصيغة الشرط: ﴿واذا بدلنا آية مكان آية ـ والله اعلم بما ينزل ـ قالوا: انما انت مفتر﴾ (النحل ١٠١) وتهمة الإفتراء دليل واقع.
ثم يرى الزركشي أن النسخ المذكور في الآية هو النسْء أي التأخير. قال: ﴿وكثير من العلماء أيضاً يرى ان النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة، على نحو ما فهم القائلون بالنسخ، وإنما هو نسْء وتأخير، أو مجمل أخّر بيانه لوقت الحاجة﴾. وفاته أن الآية تنص صريحاً على النسخ وعلى النَسْء (او النسيان): ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها﴾ فالآية تقيم مقابلة بين النسخ أو النسء، وتفصل بين النسخ والنسْء (النسيان) بكلمة ﴿من آية﴾، وهذا دليل لغوي آخر على أنهما اثنان، لا مجـال فيهما لعطف بيان. وفاته أيضاً أن قراءَة ﴿أو ننسها﴾ مختلف منها، فهي إمّا النسيان ـ وهو المعنى المتوائر في القرآن (٨٧: ٦؛ ٦: ٦٨؛ ٢: ٢٨٦؛ ١٨: ٢٤ و٧٤) ـ وإِمّا النَسْء، ولا ذكر له في القرآن إلاّ في هذه القراءَة المشبوهة. ولا تقوم عقيدة على قراءَة لفظ مشبوه، لا يتواتر معناه في القرآن. فالآية تنص على النسخ ثم على النسيان؛ والنسْء تخريج بعيد مشبوه. فالنسخ في القرآن مبدأ قائم وواقع ماثل، لا يمارى فيهما.
أخيراً يقول الشيخ الخطيب بتخريج بعيد لأسباب نزول آية النسخ (البقرة ١٠٦) فيجعلها مقدمة لسلسلة خطابات وتهيّئ تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام في مكّة. وفاته ان آية النسخ ترد في خطاب للمسلمين مستقل (١٠٥ ـ ١١٠) مقحم على السياق في جدالات متواصلة مع اليهود (٤٠ ـ ١٦٨)، ويأتي حديث تحويل القبلة في الخطاب الثامن مع اليهود (١٤٢ ـ ١٥٢) بعدما انقطعت الصلة انقطاعاً تاماً بين آية النسخ وآية تحويل القبلة. فليس من ترابط محكم لازم بين قصة النسخ وحديث تحويل القبلة، حتى تكون آية النسخ مقدمة مخصوصة بنسخ قبلة واحلال اخرى مكانها. فقد فاته ﴿انما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية﴾ (الإتقان ٢: ٢٢)، وليس في القرآن من آية شرعت القبلة الى المسجد الأقصى ببيت المقدس، حتى يكون تحويل القبلة الى المسجد الحرام بمكّة نسخاً لها. لقد اقتفى قبلة أهل الكتاب، ولمّا اشتد ساعده، وصمم على فتح مكّة بالقوة هيّأ له بتحويل القبلة إلى مكّة لتكون قبلة الجهاد مع الصلاة.
فآية النسخ عامة تقرر مبدأ وواقعاً في القرآن، وليست مخصوصة على الإطلاق. والقول بأن لا نسخ في القرآن خروج على الواقع فيه وعلى الاجماع.
يقول الشيخ الخطيب: ﴿كثير من العلماء أيضاً يرى ان النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة على نحو ما فهم القائلون بالنسخ﴾. هذا القول يتعارض مع صريح القرآن في تقرير واقع ومبدأ التبديل في آي القرآن: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية﴾ (النحل ١٠١)؛ وهذا التبديل هو الإزالة الحرفية بعينها. مع أنه يصرح مراراً: ﴿لا تبديل لكلمات الله﴾ (١٠: ٦٤)، ﴿ولا مبدّل لكلمات الله﴾ (٦: ٣٤)، ﴿ولا مبدّل لكلماته﴾ (٦: ١١٥؛ ١٨: ٢٧). تصريح متعارض. وواقع متعارض. والتبديل بمعنى الإزالة قائم؛ وهو برهان على صحة النسخ، بإزالة الحكم وبقاء التلاوة.
وقولهم بأن لا نسخ في القرآن يتعارض أيضاً مع تقرير واقع ومبدأ المحو والاثبات في القرآن: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ (الرعد ٣٩). فالله يزيل من القرآن ويثبت فيه ما يشاء. وهذه هي الإزالة الحرفية بعينها. وهي برهان آخر على صحة النسخ بإزالة الحكم وبقاء التلاوة، كما هي برهان على إزالة الحكم والتلاوة معاً.
و﴿أم الكتاب﴾ هي ﴿أصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ماكتبه في الأزل﴾ (الجلالان). وهنا المعضلة في النسخ والتبديل والمحو. فإذا كان القرآن مكتوباً منذ الأزل في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ، فمن أين ينزل المنسوخ والمبدل والممحو؟ ثم كيف ينزل المنسوخ والناسخ معاً من ﴿أم الكتاب﴾ واللوح المحفوظ؟ أخيراً هل الناسخ والمنسوخ مكتـوبان معاً في ﴿أم الكتاب﴾ منذ الأزل؟ أيصل التعارض في التنزيل الى ﴿أصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل﴾؟
إن ظاهرة المحو والتبديل والنسخ في القرآن شبهة قائمة على التنزيل، شبهة لا تزول على التشريع فيه، شبهة لا ترد على الإِعجاز في البلاغة والبيان. إن القرآن عقيدة وشريعة. ومبدأ النسخ فيه، شبهة على الشريعة، كما ان مبدأ المتشابه فيه، شبهة على العقيدة. فليس من محكم فيه سوى آيات الأحكام الزجرية القلائل. والقرآن بتقرير مبدأ وواقع النسخ فيه ينسخ إِعجازه في الشريعة؛ كما انه بتقرير مبدأ وواقع المتشابه فيه ينسخ إِعجازه في العقيدة. فالنسخ كالمتشابه فيه، شبهة قائمة على الإِعجاز في البلاغة، وبيان العقيدة والشريعة.
بحث سادس
التكرار شبهة سادسة على البلاغة القرآنية
من التكرار في الكلام ما هو من حسن البيان؛ ولكن من التكرار أيضاً ما هو لا بلاغة ولا إِعجاز.
أولاً: اللازمة المردّدة في بعض السور ﴿حكمة بالغة﴾
يبلغ النظم في بعض السور ذروة الروعة في ترديد لازمة واحدة بعد كل مقطع ومشهد؛ كتكرار ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ احدى وثلاثين مرة في سورة (الرحمان)؛ وتكرار ﴿ويل يومئذٍ للمكذبين﴾ عشر مرّات في سورة (المراسلات)؛ وتكرار ﴿فكيف كان عذابي ونذر﴾ أربع مرات في سورة (القمر)؛ وتكرار ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر﴾ أربع مرات أيضاً (القمر ١٧ و ٢٢ و ٣٢ و ٤٠). وتكرار: ﴿إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين، وان ربك لهو العزيز الرحيم﴾، ثماني مرات في سورة الشعراء.
قد يظن من يجهل أساليب النظم والبيان في العربية أنها من التكرار المتشابه المشبوه في القرآن. وما هي سوى ترديد رائع للازمة ترجع كالقرار في النظم الموسيقي. وفي هذه الامثال يصح القول: إن من التكرار للتقرير، والكلام إذا تكرر تقرّر، نظما ومعنى. وليس كلامنا في مثل هذا التكرار الجميل في النظم والبيان.
ثانياً: ﴿في الآيات المتشابهات﴾ (الإتقان ٢: ١١٤ ـ ١١٦)
يقول: ﴿والقصيد منه ايراد للقصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة؛ بل يأتي في موضع واحد مقدَّماً، وفي آخر مؤخراً، كقوله في (البقرة): ﴿وادخلوا الباب مسجداً، وقولوا: حِطّة﴾، وفي (الأعراف): ﴿قولوا: حطة، وادخلوا الباب سجداً﴾. وكقوله في (البقرة): ﴿ما أهل به لغير الله﴾، وسائر القرآن: ﴿ما أُهلّ لغير الله به﴾.
﴿أو في موضع بزيادة، وفي آخر بدونها نحو: ﴿سواءٌ عليهم أأنذرتهم﴾؛ وفي (يونس) وفي (البقرة): ﴿ويكون الدين لله﴾، وفي (الأنفال): ﴿كله لله﴾.
﴿أو في موضع معرّفاً، وفي آخر منكراً؛ أو مفرداً، وفي آخر جمعاً؛ أو بحرف، وفي آخر بحرف آخر؛ أو مدغماً، وفي آخر مفكوكاً﴾.
تلك ستة أنواع من المفارقات في الآيات المتشابهات التي ترد بمعنى واحد وحرف شبه واحد في مواضع مختلفة من القرآن. ثم يعطي السيوطي على ذلك هذه الأمثلة الأخرى:
١) ﴿هدى للمتقين﴾ (البقرة)؛ ﴿هدى ورحمة للمحسنين﴾ (لقمان) ٢٧ .
٢) ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا﴾ (البقرة )؛ ﴿... فكلا﴾ (الأعراف ).
٣) ﴿واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، وهم لا يُنصرون﴾ (البقرة ٤٨ )؛ ـ وهي في حق بني إسرائيل (٤٧). ﴿واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة، ولا هم يُنصرون﴾ (البقرة ١٢٣) ـ وهي أيضاً في حق بني إسرائيل (١٢٢).
٤) ﴿واذا نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبّحون أبناءَكم، ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم﴾ (البقرة ٤٩) ـ على لسان الله تعالى. ﴿إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، ويذّبحون أبناءَكم، ويستحيون نساءَكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم﴾ (إبراهيم ٦) ـ على لسان موسى. ﴿واذ أنجيناكم من آل فرعون، يسومونكم سوء العذاب، يقتّلون أبناءكم، ويستحيون نساءَكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم﴾ (الأعراف ١٤١) ـ على لسان الله تعالى.
٥) ﴿واذ قلنا: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا: حِطّة؛ نغفر لكم خطاياكم، وسنزيد المحسنين﴾ (البقرة ٥٨) ـ عل لسان الله تعالى بلغة الخطاب. ﴿وإذ قيل لهم: اسكنوا هذه القرية، وكلوا منها حيث شئتم، وقولوا: حِطّة، وادخلوا الباب سجداً، نغفر لكم خطيئاتكم، سنزيد المحسنين﴾ (الأعراف ١٦١) ـ على لسان الله تعالى بلغة الغيبة.
٦) ﴿واذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر! فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم﴾ (البقرة ٦٠). ﴿وأوحينا الى موسى، إذ استسقاه قومه: أنِ اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم﴾ (الأعراف ١٦٠).
٧) ﴿وقالوا: لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة﴾ (البقرة ٨٠). ﴿ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودات﴾ (آل عمران ٢٤).
٨) ﴿قل: إن هدى الله هو الهدى﴾ (البقرة ١٢٠؛ الأنعام ٧١). ﴿قل: ان الهدى هدى الله﴾ (آل عمران ٧٣).
٩) ﴿واذ قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا بلداً آمناً﴾ (البقرة ١٢٦) ـ الدعاء للبلد. ﴿واذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد آمناً﴾ (إبراهيم ٣٥) ـ الدعاء للأمن فيه.
١٠) ﴿قولوا: آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط؛ وما أوتي موسى وعيسى؛ وما أوتي النبيون من ربهم ٢٨ ، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (البقرة ١٣٦). ﴿قلْ: آمنا بالله وما أُنزِل علينا، وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقـوب والاسباط! ومـا أوتي موسى وعيسى والنبيـون من ربهم ٢٩ ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (آل عمران ٨٤).
١١) ﴿تلك حدود الله فلا تقربوها﴾ (البقرة ١٨٧ ). ﴿تلك حدود الله فلا تعتدّوها﴾ (البقرة ٢٢٩) ـ والأصل أيضاً تتعدوها، فعدل عنه.
١٢) ﴿نزَّل عليك الكتاب... وأنزل التوراة والإنجيل من قبل﴾ (آل عمران ٣).
١٣) ﴿ولا تقتلوا أولادكم من املاق، نحن نرزقكم واياهم﴾ (الأنعام ١٥١). ﴿ولا تقتلوا أولاد كم خشية املاق، نحن نرزقهم واياكم﴾ (الإسراء ٣١).
١٤) وامّا ينزغنّك من الشيطان نزغ ٣٠ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم﴾ (الأعراف ٢٠٠). ﴿وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم﴾ (فصلت ٣٦).
١٥) ﴿المنـافقون والمنافقـات بعضهم من بعض﴾ (التوبة ٦٧). وقال في المؤمنين: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾. وقال في الكفّار: ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض﴾ (٥: ٥١، ٨: ٧٢ و ٧٣؛ ٩: ٧١؛ ٤٥: ١٩).
ويختم بقوله: ﴿فهذه، أمثلة يُستضاء بها. وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير، وفي نوع الفواصل، وفي أنواع أخرى﴾.
فهذا هو الواقع القرآني، ترد فيه الآيات متشابهات لفظاً ومعنى. إلاّ ما ندر. وأحياناً قد يخل التغيير الحرفي بالمعنى كما في قوله: ﴿وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم﴾ (البقرة ١٣٦) حيث يميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين؛ وكما في قوله ﴿وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم﴾ حيث لا يميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين. فقد خلق التمييز في التعبير اختلافاً في العقيدة والتفكير.
وقد ينقل السيوطي تبريرات لتلك الفروق اللفظية كقوله: ﴿أياماً معدودة﴾ جمع كثرة لأنه قول فرقة؛ ﴿أياماً معدودات﴾ جمع قلة لأنه قول فرقة اخرى؛ ولا أثر لذلك في نصوص القرآن؛ وكقوله ﴿فاستعذ بالله إنه سميع عليم﴾ (وفي فصلت) ﴿انه هو السميع العليم﴾. قال ابن جماعة: لأن آية (الأعراف) نزلت أولاً، وآية (فصلت) نزلت ثانياً فحسن التعريف الذي تقدم ذكره﴾. أو كقوله: ﴿نزّل عليك الكتاب... وأنزل التوراة والإنجيل ـ لأن الكتاب (القرآن) أنزل منجماً فناسب الإتيان بنَزّل الدال على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة﴾ ـ وفاتهم قوله في القرآن: ﴿وأنزلنـا إليك الكتاب (٤: ١٠٥؛ ٥: ٤٨؛ ٣٩: ٢) ﴿وأنزل الله عليك الكتاب﴾ (٤: ١١٣)، ﴿أنزل على عبده الكتاب﴾ (١٨: ١). والقول الحق في مثل هذا التكرار لفظاً ومعنى في الآيات المتشابهات الكثيرة، ان بعض الفوارق اللفظية، هي كمـا يقول السيوطي: ﴿من تنويع الألفاظ المسّمى بالتفنّن﴾، ﴿وقال ابو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن﴾.
وهنا يمكن أن نتساءَل: هل هذا التفنّن في تغيير بعض الحروف المتشابهة هو من أصل التنزيل، أم من أهل التدوين للاشعار بالتمييز بين الآيات أو الكلمات المتشابهات؟ قد يكون من أصل التنزيل، وقد يكون من أهل التدوين كما جاءَ عن ابن اشته: ﴿فهذا الخبر يدل على ان القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني وأسلسها على الألسنة وأقربها الى المأخذ وأشهرها عند العرب للكتاب في المصحف﴾ (الإتقان ١: ١٨٦).
وهل هذا التفنن بتبديل بعض الحروف يرفع عنها التكرار الحرفي والمعنوي؟ وهل هذا التكرار في آيات متشابهات من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟
ثالثاً: التكرار في التعليم الواحد
إنّ التكرار من العليم الحكيم في التنزيل المعجز بلفظه قبل معناه، هذا ما يجد فيه المؤمن وغير المؤمن حرجاً وضيقاً.
نقبل ان يعيد النبي التعليم الواحد، بلفظ واحد، أو متقارب، للمشركين الأميّين في دعوتهم كل يوم الى الإيمان بالله واليوم الآخر؛ امّا ان يكون هذا التكرار في التعليم الواحد من التنزيل نفسه للإِعجاز في التنزيل والتعليم، فهذا ما يشك فيه المؤمن وغير المؤمن.
يأتي الإعلان عن التوحيد مرة واحدة في الإنجيل (مرقس ١٢: ٢٩) بنص الشهادة التوراتية والفاتحة الإسرائيلية؛ ويأتي التصريح عن التثليث في التوحيد مرة واحدة في خاتمة الإنجيل (متى ٢٨: ١٩). وما بينهما في سائر الإنجيل يجمع ما بين التوحيد والتثليث بتصاريح متنوعة، ومشاهد مختلفة، وأقوال وأعمال وأحوال متنوعة: فلا تكرار، ولا ترديد.
أما القرآن وهو تعليم التوحيد الخالص، للإيمـان بالله واليوم الآخر، فهو تعليم واحد: ﴿قلْ: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا للّه مثنى وفرادى﴾ (سبأ ٤٦)؛ ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي اليه أنه لا إله الاّ أنا فاعبدون﴾ (الأنبياء ٢٥)؛ ﴿قلْ: إنما أنا بشر مثلكم، يُوحى إليَّ أنما الهكم إله واحد﴾ (الكهف ١١٠)؛ ﴿قلْ: انما أنا بشر مثلكم، يوحى إليَّ أنما الهكم إله واحد﴾ (فصلت ٦). وهذا التعليم الواحد في التوحيد تصريح واحد، ببعض فروق لفظية في التعبير. فهل تكرار ذلك مراراً في السورة الواحدة، وعلى الدوام في سوره كلها، من الإِعجاز في التنزيل والتعليم، والإِعجاز في البلاغة والبيان؟
والتكرار المكشوف هو في براهين التوحيد: فقد جمعها في قوله ﴿وإلهكم إله واحد، لا أله إلأّ هو، الرحمن الرحيم. إن في ١) خلق السماوات والأرض ٢) واختلاف الليل والنهار ٣) والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس ٤) وما أنزل الله من السماء من ماء، فاحيا به الأرض بعد موتها ٥) وبثّ فيها من كل دابة ٦) وتصريف الرياح ٧) والسحاب المسخّر بين السماء والأرض ـ لآيات لقوم يعقلون﴾ (البقرة ١٦٣ ـ ١٦٤).
نلاحظ أنها براهين الحس والوجدان الديني، لا براهين العقل والمنطق: فالعقل والعلم يفسّران هذه المشاهد الكونية بدون لجوء الى الله سبحانه وتعالى، وان كان العلة الأولى وراءَها جميعاً. لكنها بحدّ ذاتها لا برهان فيها على وجود الله أو على توحيده. وليس في القرآن من براهين العقل والمنطق سوى قوله: ﴿لو كان فيهما آلهة الأّ الله لفسدتا﴾ (الأنبياء ٢٢) ويسمى برهان التمانع؛ وقوله: ﴿ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله: إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض﴾ (المؤمنون ٩١). ويسمى برهان التسليم والامتناع وقوله أيضاً: ﴿قل لو كان معه آلهة، كما يقولون، إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً﴾ (الإسراء ٤٢). لذلك ﴿زعم الجاحظ ان المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن﴾ ٣١ .
وتلك البراهين الوجدانية القائمة على مشاهد الكون، في آي القرآن، هي البراهين السبعة التي يكررها في كل سورة، وفي سور القرآن كله:
١) خلق السماوات والأرض، هذا برهـان متواتر تقريباً في كل سورة وبلفظ واحـد: ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض﴾ (٦: ٧٣؛ ١١: ٧؛ ٥٧: ٤)؛ ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض﴾ (٧: ٥٤؛ ١٠: ٣؛ ١٤: ٣٢؛ ٣٢: ٤)؛ ﴿خلق السماوات والأرض بالحق﴾ (١٤: ١٩؛ ١٦: ٣؛ ٣٩: ٥؛ ٦٤: ٣)؛ ﴿خلق الله السماوات والأرض بالحق﴾ (٢٩: ٤٤؛ ٤٥: ٢٢)؛ ﴿من خلق السماوات والأرض﴾؟ (٢٩: ٦١؛ ٣١: ٢٥؛ ٣٩: ٣٨؛ ٤٣: ٩) ﴿وما خلقنا السماوات والأرض...﴾ (١٥: ٨٥؛ ٤٤: ٣٨؛ ٤٦: ٣)؛ ﴿خلقنا السماء والأرض﴾ (٢١: ١٦؛ ٣٨: ٢٧). إنه إعلان متواتر بلفظ واحد ومعنى واحد، ولكن لا يستغله جدلاً. فهل هذا التكرار من الإِعجاز؟
٢) اختلاف الليل والنهار (٢: ١٦٤؛ ٣: ١٩٠؛ ٤٥: ٥)؛ ﴿وله اختلاف الليل والنهار (٢٣: ٨٠)؛ ﴿إن في اختلاف الليل والنهار﴾ (١٠: ٦). وهذا برهان أيضاً متواتر بحرفه الواحد، فما النكتة البيانية في تكراره بالحرف الواحد؟
٣) والفلك تجري في البحر ﴿هو أيضاً برهان متواتر: ﴿ولتجري الفلك بأمره﴾ (٣٠: ٤٦)؛ ﴿لتجري الفلك فيه﴾ (٤٥: ١٢)؛ ﴿وعلى الفلك تُحملون﴾ (٢٣: ٢٢؛ ٤٠: ٨٠)؛ ﴿حملنا ذريتهم في الفلك﴾ (٣٦: ٤١) ﴿وجعل لكم من الفلك﴾ (٤٣: ١٢) ﴿وسخر لكم الفلك﴾ (١٤: ٣٢)؛ ﴿وترى الفلك مواخر فيه﴾ (١٦: ١٤)؛ ﴿الذي يُزجي لكم الفلك﴾ (١٧: ٦٦)؛ ﴿والفلك تجري في البحر﴾ (٢٢؛ ٦٥) ﴿إن الفلك تجري في البحر﴾ (٣١: ٣١) ﴿وترى الفلك فيه مواخر﴾ (٣٥: ١٢). هذا برهان بدائي لقوم بدائيين، يدهشون من جري الخشب على الماء. فكيف بهم اذ يرون الطائرات تمشي في الهواء، والصواريخ تغزو الفضاء؟ لكن كيف يصح أن يكون برهانا على التوحيد لقوم يعقلون؟
٤) أنزل من السماء ماء (٢: ٢٢؛ ٤١: ١١؛ ٦: ٩٩؛ ١٣: ١٧؛ ١٤: ٣٢؛ ١٦: ١٠ و ٦٥؛ ٢٠: ٥٣؛ ٢٢: ٦٣؛ ٣٥: ٢٧؛ ٣٩: ٢١؛ ١٠: ٢٤؛ ١٨: ٤٥؛ ١٥: ٢٢؛ ٢٣: ١٨؛ ٢٥: ٤٨؛ ٣١: ١٠؛ ٢٩: ٦٣؛ ٣٠: ٢٤؛ ١٥: ٢٢؛ ٢٣: ١٨) ـ هذا غيض من فيض. وهل تنزيل المطر من السماء معجزة إلهية تدل على وجود الله وعلى توحيده؟
٥) ﴿وبث فيها من كل دابة﴾ (٢: ١٦٤؛ ٣١: ١٠)؛ ﴿وما بث فيهما من دابة﴾ (٤٢: ٢٩ )؛ ﴿و ما يبث من دابة﴾ (٤٥: ٤). برهان متواتر بالحرف الواحد والمعنى الواحد. وهل في خلق الدواب والشجر من برهان على توحيد الله؟
٦) ﴿وتصريف الرياح﴾: ﴿الله الذي يرسل الرياح﴾ (٣٠: ٤٨)؛ ﴿والله الذي أرسل الرياح﴾ (٣٥: ٩)؛ ﴿ومن آياته ان يرسل الرياح﴾ (٣٠: ٤٦)؛ ﴿ومَن يرسل الرياح﴾ (٢٧: ٦٣)؛ ﴿وهـو الـذي أرسل الرياح﴾ (٢٥: ٤٨)؛ ﴿وهـو الذي يرسل الـرياح﴾ (٧: ٥٦)؛ ﴿وتصريف الرياح آيات﴾ (٤٥: ٤٠). هذا أيضاً برهان متواتر بالحرف الواحد على توحيد الله. وهل فيه برهان لقوم يعلمون؟
٧) ﴿والسحاب المسّخر بين السماء والأرض﴾ (٢: ١٦٤)؛ ﴿وينشىء السحاب﴾ (١٣: ١٢)؛ ﴿ارسل الرياح فتثير سحاباً﴾ (٣٥: ٩)؛ ﴿يرسل الرياح فتثير سحاباً﴾ (٣٠: ٤٨)؛ ﴿إن الله يُزجي سحاباً﴾ (٢٤: ٤٣). هذا أيضاً برهان متواتر على توحيد الله. فهل الله هو الذي يخلق السحاب بمعجزة؟ وهل في ذلك برهان لقوم يعقلون؟
تلك هي براهين التوحيد في القرآن. إنها أقرب الى الشعر منه الى البرهنة. وهي تملأ سور القرآن. فهل في تكرارها بالحرف الواحد والمعنى الواحد، تقريباً، إِعجاز في البلاغة والبيان؟
رابعاً: التكرار في القصص القرآني
جاءَ في (الإتقان ٢: ٦٨): ﴿قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعاً من كتابه؛ وقال ابن العربي: ذكر الله قصة نوح في خمس وعشرين آية؛ وقصة موسى في تسعين آية﴾.
وفي كتاب (تفصيل موضوعات القرآن، في الآيات المتوافقة) للسيد محمد عبد الله الجزار، باب قيم يذكر فيه ﴿آيات النظائر﴾ في القصص القرآني:
١) ﴿آدم ـ ذكر في عشر سور. وذكر في ثلاث سور منها بآيات ليست لها نظائر... أما آيات النظائر فهي: البقرة ٣٤ ـ ٣٩؛ الأعراف ١١ ـ ٢٤؛ الحجر ٢٨ ـ ٤٤؛ الإسراء ٦١ ـ ٦٥؛ الكهف ٥٠؛ طه ١١٦ ـ ١٢٤؛ ص ٧١ ـ ٨٥﴾ ـ فتلك آيات النظائر في سبع سور﴾.
٢) ﴿آيات النظائر في نوح: باب دعوته ومجادلته لقومه: الأعراف ٥٩ ـ ٦٤؛ هود ٢٥ ـ ٣٤؛ ثم آيات صنع الفلك والطوفان: المؤمنون ٢٧ الى آخره؛ الشعراء ١٠٥ ـ ١٢٠ ـ ثم ذكرت قصة نوح مع قومه باختصار وإيجاز في سورتي الصافات (٧٥ ـ ٨٢) والقمر (٩ـ ١٦) وغيرهما. وبعد ذلك سورة نوح كلها﴾.
٣) ﴿آيات النظائر في هود مع قومه عاد: الأعراف ٦٥ ـ ٧٢؛ هود ٥٠ ـ ٦٠؛ الشعراء ١٢٣ ـ ١٤٠؛ الأحقاف ٢١ ـ ٢٥﴾ ـ فتلك آيات النظائر في أربع سور﴾.
٤) ﴿آيات النظائر في صالح وقومه ثمود: الأعراف ٧٣ ـ ٧٩؛ هود ٦١ ـ ٦٨؛ الحجر ٨٠ ـ ٨٤؛ الشعراء ١٤١ ـ ١٥٩؛ النمل ٤٥ ـ ٥٣﴾ ـ فتلك آيات النظائر في خمس سور﴾.
٥) ﴿إبراهيم ـ آيات النظائر فيه. باب دعوته ومجادلته لأبيه ولقومه: الأنعام ٧٤ ـ ٨١؛ الأنبياء ٥١ ـ٧٠؛ مريم ٤١ ـ ٤٨؛ العنكبوت ١٦ ـ ٢٥؛ الصافات ٨٣ ـ ٩٨؛ الزخرف ٢٦ ـ ٢٨؛ الممتحنة ٤ ـ ٥؛ البقرة ٢٥٨ ـ باب إبراهيم وضيوفه: هود ٦٩ ـ ٧٦؛ الحجر ٥١ ـ ٦٠؛ الذاريات ٢٤ ـ ٣٧ ـ باب إبراهيم والبيت: البقرة ١٢٥ و ١٢٧؛ إبراهيم ٣٧؛ الحج ٢٦ ـ ٢٩﴾. فتلك آيات النظائر في إبراهيم في ثماني سور، ثم في ثلاث، ثم في ثلاث﴾.
٦) ﴿لوط ـ آيات النظائر فيه: الأعراف ٨٠ ـ ٨٤؛ هود ٧٧ ـ ٨٣؛ الحجر ٦١ ـ ٧٤؛ الشعراء ١٦٠ ـ ١٧٥؛ النمل ٥٤ ـ ٥٨؛ العنكبوت ٢٨ ـ ٣٤؛ القمر ٣٣ ـ ٣٩﴾ ـ تلك آيات النظائر في سبع سور﴾.
٧) ﴿موسى ـ وفيه أبواب: باب القائه في اليم: طه ٣٧ ـ ٤٠؛ القصص ٧ ـ ١٣؛ الشعراء ١٨ ـ ١٩. فتلك ثلاث نظائر ـ باب بعثته: مريم ٥٢؛ طه ٩ ـ ٢٣؛ القصص ٢٩ ـ ٣٢؛ النمل ٧ ـ ١٢؛ الشعراء ٣٢ ـ ٣٣؛ النازعات ١٥ ـ ١٦. فتلك ست نظائر ـ باب دعوته بمصر:الأعراف ١٠٣ ـ ١٢٦؛ يونس ٧٥ ـ ٨٢؛ الإسراء ١٠١ ـ ١٠٢؛ طه ٤٢ ـ ٤٧ و ٥٦ ـ ٧٣؛ الشعراء ١٦ ـ ١٧ و ٢٣ ـ ٥١؛ النمل ١٢ ـ ١٣؛ القصص ٣٦ ـ ٣٧؛ غافر ٢٣ ـ ٢٤؛ الدخان ١٧ ـ ٢١؛ النازعات ١٧ ـ ٢٦. فتلك عشر نظائر ـ باب نجاته بقومه وغرق فرعون: البقرة ٤٩ ـ ٥٠، يونس ٩٠ ـ ٩٢؛ طه ٧٧ ـ ٧٩؛ الشعراء ٥٢ ـ ٦٦؛ القصص ٣٩ ـ ٤٠؛ الزخرف ٥٥ ـ ٥٦؛ الدخان ٢٣ ـ ٢٤ و ٣٠ ـ ٣١؛ النازعات ٢٥ ـ ٢٦؛ الإسراء ١٠٣ ـ ١٠٤. فتلك تسع نظائر ـ باب ارسال موسى بالآيات: الأعراف ١٠٣؛ يونس ٧٥؛ هود ٩٦ ـ ٩٧؛ إبراهيم ٥؛ طه ٤٢؛ المؤمنون ٤٥ ـ ٤٦؛ الفرقان ٣٦؛ الشعراء ١٥؛ القصص ٣٥؛ غافر ٢٣ ـ ٢٤. فتلك عشر نظائر ـ باب اتخاذ قومه العجل: البقرة ٥١؛ و ٥٤ و ٩٢؛ الأعراف ١٤٨ ـ ١٥٠؛ النساء ١٥٣؛ طه ٨٥ ـ ٩٤. فتلك أربع نظائر ـ باب الاستسقاء وانفجار الاعين: البقرة ٦٠؛ الأعراف ١٦٠ ـ فذلكما موضعان من النظائر ـ باب ايذاء موسى: الأحزاب ٦٩؛ الصف ٥﴾ ـ فذلكما موضعان من النظائر﴾.
فإذا جمعت النظائر في قصة موسى، رأيت انها تشغل جزءاً كبيراً من القرآن بالمعنى الواحد، ويكاد يكون بالحرف الواحد مع بعض التفنن في التعبير والأسلوب.
٨) ﴿شعيب ـ آيات النظائر فيه: الأعراف ٨٥ ـ ٩٣؛ هود ٨٤ ـ ٩٥؛ الشعراء ١٧٦ ـ ١٨٩؛ العنكبوت ٣٦ ـ ٣٧﴾ ـ فتلك آيات النظائر في شعيب في اربع سور﴾.
٩) ﴿داود وسليمان ـ باب داود والزبور: البقرة ٢٥١؛ النساء ١٦٣؛ الإسراء ٥٥؛ الأنبياء ١٠٥. فتلك أربع نظائر ـ باب داود وسليمان: الأنعام ٨٤؛ الأنبياء ٧٨ ـ ٨٢؛ النمل ١٥ ـ ١٩ ـ تلك ثلاث ـ باب سليمان والهدهد: النمل ٢٠ ـ ٢٢ و ٢٧ ـ ٤٤﴾.
١٠) ﴿عيسى ويحيى. التبشير بيحيى آل عمران ٣٨ ـ ٤١؛ مريم ٢ ـ ١٥؛ الأنبياء ٨٩ ـ ٩٠، فتلك ثلاث نظائر في مولد يحيى. ﴿باب تأييد عيسى بروح القدس: البقرة ٨٧ و ٢٥٣. باب تكليم عيسى الناس في المهد، والمجيء بالآيات: آل عمران ٤٥ ـ ٥١؛ المائدة ١١٠؛ مريم ٢٩ ـ ٣٣ ـ فتلك ثلاث نظائر في مولد عيسى. باب آخرة عيسى: مريم ٣٢؛ آل عمران ٥٥؛ النساء ١٥٧ ـ ١٥٨؛ المائدة ١١٦ ـ ١١٨. باب قول عيسى: ﴿إن الله ربي وربكم﴾: مريم ٣٦؛ آل عمران ٥١؛ المائدة ٧٢؛ الزخرف ٦٤. فتلك أربع نظائر ترد بالحرف الواحد. باب قول الحواريين: ﴿نحن انصار الله﴾: آل عمران ٥٢؛ الصف ١٤ ـ موضعان من النظائر﴾.
خاتمة
الإِعجاز في البلاغة ليست معجزة إلهية
هذا هو القصص القرآني في تكرار نظائره. انها عشر قصص قد ترد بالمعنى الواحد والحرف الواحد، مع تفنّن في تعبير، أو تفنن في أسلوب؛ تارة بايجاز وطوراً بإسهاب؛ حيناً من أولّها، وحيناً من ظرف من ظروفها. لكنه هو التكرار بعينه، وقد يأتي بلا نكتة جديدة فيه.
نقل السيوطي ٣٢ : ﴿وذكر في تكرير القصص فوائد: منها ان في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو ابدال كلمة بأخرى وهذه عادة البلغاء. ومنها (ايصال الدعوة للجميع). ومنها ان في ابراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. ومنها أن الدواعي لا تتوفّر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام؛ فلهذا كُررت القصص من دون الأحكام... ومنها إن القصة الواحدة لمّا تكررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وأتت على أسلوب غير أسلوب الآخر، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في اخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظم﴾.
فالقصص القرآني في الموضوع الواحد هو ﴿اخراج المعنى الواحد، في صور متباينة من النظم﴾، ﴿في كل موضع زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير﴾. فهل هذا التكرار يغير من الموضوع شيئاً، أو من المعنى شيئاً؟ وهل التفنن البياني في التعبير والأسلوب، في موضوع واحد ومعنى واحد، هو الهدى الذي يريده الله لعباده؟ أتقوم معجزة الله على صحة دينه وحذق رسول على التفنن البياني في التعبير والأسلوب؟ هذا البيان نفسه الذي تشوبه شبهة التكرار لا يصح معجزة الهية في البلاغة والبيان.
١. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص ٣٢ و ٤٤ و ٤٩ و ٥١ و ٥٥.
٢. في كتابنا الأول (إِعجاز القرآن) أوجزنا فصل (الإتقان ٢: ٢ ـ ١٣) في (متشابه القرآن) في حقيقة واقعه. وهنا نعود اليه ـ والعود أحمد ـ لنرى هل يصح هذا الإِعجاز معجزة.
٣. المقدمة، ص ٨٤٨ فصل ﴿كشف الغطاء عن المتشابهات﴾.
٤. الإتقان ٢: ٣.
٥. الإتقان ٢: ٤.
٦. آل عمران ٨.
٧. الإتقان ٢: ١٣٠.
٨. وقد فصلنا في الكتاب الأول أنواع المتشابه في القران، نقلاً عن (الإتقان).أوجزنا هنا النتائج.
٩. عن عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٤٠٣.
١٠. عن عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٤٠٦.
١١. إِعجاز القرآن ١: ٤١٠.
١٢. في كتابنا الأول: إِعجاز القرآن، ص ١٢٧ ـ ١٣٤ عرضنا لواقع النسخ في القرآن. هنا نبحث تقييم الواقع وهل ينسجم مع دعوى الإِعجاز في البيان والبلاغة. وقد سبق بحث آخر في الإِعجاز في الشريعة ومبدأ النسخ.
١٣. الإتقان ٢: ٢٥.
١٤. دروزة: القرآن المجيد، ص ٦٩.
١٥. دروزة: القرآن المجيد، ص ٥٥.
١٦. الإتقان ٢: ٢٥.
١٧. إِعجاز القرآن ١: ٤٣٧.
١٨. سورة التوبة ٥.
١٩. سورة الأعراف ١٩٩
٢٠. سورة الدهر ٨
٢١. وعليه تكون كلمة (أسيراً) منسوخة بالقرآن، محكمة بالاجماع. ومنهم ميّز فيها بين أسير المشركين، والأسير ﴿المحبوس بحق﴾ (الجلالان).
٢٢. هنا وهم الجميع: انهما حكمان مختلفان: الأول للمشركين؛ والثاني لأهل الكتاب.
٢٣. لذلك اختلفوا في تكفير شارب الخمر أو تأثيمه فقط.
٢٤. الإتقان ٢: ٢١.
٢٥. الإتقان ٢: ٢١.
٢٦. إِعجاز القرآن ١: ٤٣٥ ـ ٤٧٢.
٢٧. يظنون أن المتقين والمحسنين مترادف في لغة القرآن؛ وفاتهم ان التعبيرين كناية عن طائفتين في اصطلاح القرآن: فالمتقون كناية عن العرب الذين آمنوا؛ والمحسنون كناية عن أهل الكتاب الذين آمنوا.
٢٨. آية البقرة تميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين، بينما آية آل عمران لا تميّزهم.
٢٩. آية البقرة تميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين، بينما آية آل عمران لا تميّزهم.
٣٠. أي يصرفك صارف (الجلالان).
٣١. الإتقان ٢: ١٣٥. وأحمد الرازي في كتاب (حجج القرآن) لا يحفظ من حجج أهل التوحيد على وحدانية الله سوى تلك الآيات الثلاث (ص ٤).
٣٢. الإتقان ٢: ٦٨.