الفصل السادس
المعجزة الموضوعية
توطئة عامة
المعجزة الحقيقية تكون في المعنى قبل الحرف
ندرس في هـذا الفصل أربعـة أنواع من المعجزة: في العقيدة وفي الشـريعة وفي ﴿العلم﴾ وفي التاريخ.
من المشهور أن إِعجاز القرآن الأسمى هو نظمه وبيانه أي حرفه. وبما أن القرآن كتاب وحي ودين، فمن البديهة أن تكون معجزته الحقيقية في المعنى قبل المبني، في الروح قبل الحرف، في الموضوع قبل الأسلوب. لذلك فالإِعجاز الأول في كتاب وحي ودين هو الإِعجاز في الهدى. فمهما كانت منزلة القرآن من التبيين والبيان، فغاية الله والإنسان هي العقيدة والإيمـان. هـذه هي المعجزة الكبرى. والقرآن يشـهد لنفسه أنه تابع لا متبـوع: ﴿فبهداهم اقتدِهْ﴾ (الأنعام ٩٠)؛ ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً﴾ (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢). فالقرآن يأتم بالكتاب وأهله.
وبما أن التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، فقد نادى بعضهم باختصاص القرآن بالإِعجاز في التشريع. ووجد بعضهم معجزة له فريدة في ﴿العلم﴾. وذهب بعضهم، بسبب ﴿أمية﴾ محمد إلى القول بالإِعجاز في التاريخ، أي في القصص القرآني. وفاتهم جميعاً تصريح القرآن عن مصادره، في التشريع: ﴿يريد الله ليبيّن لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم﴾ (النساء ٤٦)؛ وفي ﴿العلم﴾: ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥)، وهذا القليل ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ من قبله (العنكبوت ٤٩)؛ وفي التاريخ، فإن قصص القرآن ﴿من أنباء الغيب﴾ المنزل في الكتاب قبله (آل عمران ٤٤؛ هود ٤٩؛ يوسف ١٠٢)، فهو ﴿من أنباء الرسل﴾ (هود ١٢٠)، ﴿من أنباء ما قد سبق﴾ (طه ٩٩).
فهذا الواقع القرآني المشهود يشهد هل في القرآن من معجزة موضوعية في تعليمه. والمضمون يأتي قبل المنظوم.
الجزء الأول
الإِعجاز في الهدى والعقيدة
توطئة
سرّ الإِعجاز في النظم أم في الهدى؟
إن النبوّة والتنزيل رسالة دين وإيمان وهدى؛ وسرّ كتاب من الله في موضوعه ومعناه، قبل أن يكون في حرفه ونظمه: فاللفظ جسم والمعنى روحه، والعبرة بالأرواح قبل الأجسام. فإن كان في القرآن معجزة، فيجب أن تكون في هداه قبل نظمه. والقرآن نفسه إنما يتحدّى بهداه: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩) ـ فكانت، بحسب تاريخ النزول، الآية الأولى في التحدي بالقرآن، وعنوان تحديه بإِعجازه. لذلك يردّ فريد وجدي قول الأمة والجماعة بأن معجزة القرآن في نظمه، ويراها هو في ﴿روحانيته العالية﴾. يقول ١ : ﴿أما ما ولع به الناس من أن القرآن معجز لبلاغته، وتجاوزه حدود الإمكان حتى وقف الإِعجاز ببلاغته دون وجوه إِعجازه الأخرى، فلم نقف له على أثر في ذات القرآن، مع أنه قد ورد ذكر القرآن في آيات عِدّة، فلم نرَ في واحدة فيها ما يذهب إليه الآن الأكثرون... وصف الله كتابه في هذه الآيات الكريمة بأوصاف كثيرة، وليس من بينها واحد يشير الى بلاغته اللفظية... ذلك أن البلاغة من الصفات الثانوية التي لا يصح أن يُمتدح بها الله في كتابه. ولو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره، أما كان يشير إلى تلك البلاغة ولو في آية واحدة؟ وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيقته وحكمته وروحانيته﴾.
نحن في قضية الدين، لا في حلبة الأدب والبيان. لذلك فالإِعجاز المفروض في القرآن، قبل غيره، هو الإِعجاز في حقيقته وحكمته وروحانيته أي في الهدى.
لكنّ القوم لمّا رأوا أن القرآن يتحدى ﴿بكتاب من عند الله هو أهدى منهما﴾ أي من الكتاب والقرآن (القصص ٤٩) وأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة﴾ (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فليس التحدّي بالهدى ميزة ينفرد بها، عدلوا الى فهم تحديه بالنظم والبيان، فحرّفوا بذلك معنى التحدي بإِعجاز القرآن. إن التحدي الأول، في كتاب الله، بعد التنزيل، هو التحدي بالهدى.
فهل في هدى القرآن إِعجـاز في الهـدى؟ هدى العقيدة؟ أم هدى التشريع؟ أم هدى ﴿العلم﴾؟ أم هدى القصص؟ والقول الفصل في ذلك: ﴿فبهداهم اقتدِهْ﴾.
بحث أوّل
القرآن يتحدّى المشركين بهدى الكتاب
أوّلاً: القرآن يحصر التحدّي بالهدى وبالمشركين
إن مطلع التحدّي بإِعجاز القرآن كان التحدّي بالهدى، في قوله: فلمّا جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى! ـ أولم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحْران تظاهرا! وقالوا: إنّا بكلٍّ كافرون! قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه، إن كنتم صادقين! فإن لم يستجيبوا لك، فاعلمْ أنّما يتّبعون أهواءَهم... الذين آتيناهم الكتاب من قبله، هم به يؤمنون وإذا يُتلى عليهم قالوا: آمنّا به، إنه الحقّ من ربنا، إنّا كنّا من قبله مسلمين؛ أولئك يؤتون أجرهم مرتين...﴾ (القصص ٤٨ ـ ٥٤).
في هذا الفصل يفصّل القول في موقف الأميّين العرب وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) من الدعوة القرآنية، فالمشركون يكفرون بالكتاب والقرآن، فيتحداهم ﴿بكتاب هو من عند الله أهدى منهما﴾، ويعلن عن عجزهم. هذا هو التحدّي القرآني الحق، لا التحدي بالنظم والبيان. وهو تحدٍّ للكافرين، لا لأهل الكتاب. وفي قوله: ﴿أهدى منهما﴾ يحصر التحدي في الهدى، ويجمع الكتاب والقرآن في إِعجاز واحد بالهدى. وبما أنه يعتبر الكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فلا يمكن أن يوجه تحدّيه للكتاب وأهله.
وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) يتضامنون مع القرآن في الدعوة للإسلام، لأن اسلام القرآن من اسلامهم: ﴿إنا كنّا من قبله مسلمين﴾. والقرآن يعتز بإيمانهم به ويعطيه حجة للمشركين، ويعلن فضل هؤلاء الكتابيين على جماعة محمد أنفسهم: ﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين﴾، لإيمانهم الأول بإسلامهم، ولإيمانهم أيضاً بالدعوة القرآنية. ومن كانوا مسلمين قبل القرآن، ولهم مع القرآن الأجر مرتين، فلا يصح توجيه التحدي بالهدى، أو بإِعجاز القرآن لهم. إن هدى القرآن من هداهم، واسلامه من اسلامهم، وإِعجاز القرآن من إِعجاز الكتاب. فالتصريح واضح: ﴿أهدى منهما... إنا كنا من قبله مسلمين... أولئك؟ يؤتون أجرهم مرتين﴾.
فهل يصح، بعد هذا النص القاطع، تحدّي الكتاب وأهله بهدى القرآن؟
ثانياً: ظهور الإسلام ﴿على الدين كلّه﴾ هو ظهور ﴿للإسلام﴾ من قبله
يقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون﴾ (التوبة ٣٣؛ الفتح ٢٨؛ الصف ٩). لكن هذا التحدّي ﴿بالهدى ودين الحق﴾ على ﴿الدين كله﴾ ليس مطلقاً؛ إنما هو مقصورٌ نصّاً على المشركين: ﴿ولو كره المشركون﴾! ويرد التحدي لأول مرة في سورة (الفتح ٢٨) ما بين الفتح القريب لشمال الحجاز والفتح الأكبر لمكّة (الفتح ٢٧)؛ ممّا يدل على أنه مقصور على المشركين العرب؛ فهو تخصيص في معرض التعميم. ولو جاءَت الآية نفسها في معرض قتال أهل الكتاب (التوبة ٣٤) فلا تعنيهم لأن صفة ﴿المشركين﴾ لا يطلقها القرآن أبداً على أهل الكتاب.
ثالثاً: جدال القرآن كان بالكتاب المنير
يؤيد ذلك تحديه للمشركين: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾ (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). وهذا التحدي يرد في مكّة وفي المدينة. فالناس كناية عن العرب المشركين: إنهم يجادلون بغير هدى الكتـاب، ولا عِلم الإنجيل، أي بلا سند من ﴿الكتاب المنير﴾. أما محمد فهو يجادلهم بعلم وهدى ﴿الكتاب المنير﴾. وهذا الجدال دليل على معنى التحدي ﴿بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون﴾.
رابعاً: الكتاب من قبله ﴿هدى للمتّقين﴾ من العرب
والكتاب المنير هو أيضاً هدى للمتقين من العرب: ﴿ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين... الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون﴾ (البقرة ١ ـ ٤). فالإشارة ﴿ذلك الكتاب﴾ تشير إلى البعيد المجهول، فلا تعني القرآن العربي، بل الكتـاب ﴿الإمام﴾: فكأنه تلا منه آيات، ويعلـّق عليهـا بآيات القرآن العربي. و﴿المتقون﴾ في اصطلاحه كناية عن ﴿الذين آمنوا﴾ من العرب، كما كان عند أهل الكتاب من يهود ونصارى كناية عن غير أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتاب وليسوا في الأصل من أهله. فالمتقون من العرب مع محمد يؤمنون بالتنزيل القرآني كما يؤمنون بالتنزيل الكتابي. فهدى الكتاب هو ﴿هدى للمتقين﴾؛ فلا يكون تحدي القرآن بالهدى لأهل الكتاب، بل لغيرهم.
خامساً: هدى القرآن من هدى الكتاب
يقول: ﴿قلْ: إن هدى الله هو الهدى﴾ (البقرة ١٢٠؛ الأنعام ٧١)، ﴿قلْ: إن الهدى هدى الله﴾ (آل عمران ٧٣). لكن هذا الهدى من قبله: ﴿ولقد آتينا موسى الهدى﴾ (غافر ٥٣)؛ وهو في الكتاب: ﴿وآتينا موسى الكتاب، وجعلناه هدى لبني إسرائيل﴾ (الإسراء ٢)، وللناس أجمعين: ﴿وما قدروا الله حقَّ قدره، إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء! ـ قلْ: مَن أنزل الكتاب الذي جاءَ به موسى نوراً وهدى للناس؟﴾ (الأنعام ٩١). فالهدى في الكتاب قبل أن يكون في القرآن.
سادساً: هدى القرآن من هدى ﴿المسلمين﴾ من قبله
والقرآن تثبيت للجماعة، وهدى وبشرى، أي توراة وإنجيل بحسب اصطلاحه، للمؤمنين المسلمين من قبله: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! ـ بل أكثرهم لا يعلمون. قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين﴾ (النحل ١٠١ ـ ١٠٢). لاحظ التمييز الصريح بين ﴿الذين آمنوا﴾ وهم جماعة محمد، و﴿المسلمين﴾. فإسم ﴿المسلمين﴾ في القرآن لا يعني جماعة محمد الذين يصفهم بتواتر ﴿بالمتقين﴾ و﴿الذين آمنوا﴾؛ بل الطائفة المسلمة من قبله التي أُمر بأن ينضم إليهـا ويتلو معهـا قرآن الكتـاب (النمل ٩١). والقرائن القرآنية تدل على أنهـم ﴿النصارى من بني إسرائيل﴾ (قابل الصف ١٤). فالقرآن تثبيت لجمـاعة محمد؛ بينمـا هو ﴿هدى وبشرى للمسلمين﴾؛ إنه هدى الكتاب وبشرى الإنجيل معاً.
سابعاً: القرآن يشهد للاسلام بشهادة أهله ﴿الراسخين في العلم﴾
فالقرآن لا يتحدّى بالهدى هؤلاء ﴿المسلمين﴾ من قبله (القصص ٤٩)، بل يُؤمر بالانضمام اليهم وتلاوة قرآن الكتاب معهم: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢). والقرآن العربي كله يشهد بهذا الإسلام الذي يشهد به هؤلاء المسلمون من قبله، الذين يسميهم ﴿الراسخين في العلم﴾ (آل عمران ٧)، ﴿وأولي العلم قائماً بالقسط﴾، يقول: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فالقرآن يشهد بشهادة النصارى، أولي العلم المقسطين ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾ ـ فلا يمكن أن يفكّر بتحديهم بإِعجاز القرآن في الهدى. وهكذا فإن القرآن يتحدّى بالهدى غير أهل الكتاب. فتحديه محصور مقصور، مقطوع ممنوع. فليس الإِعجاز القرآني في الهدى تحدياً للكتاب وأهله. بل هو يتحدى المشركين بالكتاب والقرآن معاً: ﴿أهدى منهما﴾ (القصص ٤٩) فهما متضامنان متكافلان في الهـدى وإِعجـازه. والنبي العربي هو في الهـدى تابع لا متبـوع: ﴿فبهداهم اقتدهْ﴾ (الأنعام ٩٠).
بحث ثان
الكتاب ﴿إمام﴾ القرآن في الهدى
لا يتحدى القرآن الكتاب وأهله بالهدى، ولا يدّعي القرآن نسخ الكتاب في الشرع والهدى؛ بل يعتبر القرآنُ الكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى، و﴿سنن الذين من قبلكم﴾ (النساء ٢٦).
أولاً: ليس في هدى القرآن على الكتاب سوى اللسان العربي
يقول: ﴿وإذ لم يهتدوا به، فسيقولون: هذا إفك قديم ـ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً، لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين﴾ (الأحقاف ١١ ـ ١٢). يردّ على تهمة افترائه (٨) وعلى قولهم ﴿هذا إفك قديم﴾ بانتسابه الى الكتاب الذي يعتبره إمامه، فاذا كان الكتاب إمامه، فالإِعجاز في الهدى هو في ﴿الإمام﴾ قبل أن يكـون في النسخة العربية عنه. وعند الشك في صحة الهـدى في النسخة العربية، يردّ الى ﴿الإمام﴾ فعنده الخبر اليقين. لأنه ليس في النسخة العربية ما يزيد على ﴿الإمام﴾ سوى اللسان العربي: ﴿وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً﴾. وأنت تلاحظ أنه لا يجعل إِعجازه في هذا اللسان العربي، بل في كونه تصديق الكتاب الإمام في الهدى. وهذا الهدى القرآني إنذار للظالمين من يهـود ومشركين، و﴿بشرى للمحسنين﴾ أي ﴿النصـارى﴾: فإذا كان القـرآن ﴿بشرى للمحسنين﴾ فلا يكون تحدّياً لهم بإِعجازه. يؤكد ذلك في ردّه الأول على تهمة الإفتراء والكفر به: ﴿قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ـ وشهد شاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله فآمن واستكبرتم ـ إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ (الأحقاف ١٠). فهو يستشهد على أن القرآن من عند الله بشهادة شاهد من بني إسرائيل النصارى ﴿على مثله﴾. فإذا كان ﴿مثل﴾ القرآن عند هؤلاء النصارى، وهذا نص القرآن القاطع، فقد سقط كلّ تحدٍّ بالقرآن وهداه وإِعجازه.
ثانياً: صحّة الهدى في القرآن مبنية على إمامة الكتاب له
يعود للتصريح نفسه في قوله: ﴿أفمن كان على بيّنةٍ من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به. ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده. فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ (هود ١٧). هذا التصريح يكشف عن سر القرآن وهداه وإِعجازه: شاهد من قِبَل الله ـ وهو نفس الشاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله ـ يتلو القرآن على محمد في ﴿مثله﴾، فيفصّله محمد ﴿لساناً عربياً﴾ (يونس ٣٧ والأحقاف ١٢)؛ ويشهد على صحة ﴿المِثـْل﴾ النصراني، وعلى صحة ﴿المِثـْل﴾ القرآني المفصِّل له لساناً عربياً أن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً﴾. فإمامة الكتاب، ووجود ﴿مثل﴾ القرآن عند النصارى من بني إسرائيل، هما البرهانان على صحة القرآن العربي في ﴿تفصيل الكتـاب﴾ الإمام. وهؤلاء النصارى من بني إسرائيل هـم ﴿على بيّنة﴾ من ربهم، لذلك فهم يؤمنون بالدعوة القرآنية وإن كفرت بها الأحزاب من مشركين ويهود. وهذا الإيمان دليل وحدة الكتاب، ووحدة الإيمان، ووحدة الدعوة، ووحدة الأمة (المؤمنون ٥٢؛ الأنبياء ٩٢). أيصح اذن أن يكون في القرآن العربي وهداه وإِعجازه تحدٍّ لهم؟ فحسب النسخة أن تكون كإمامها وكمثْلها. وفي هذا التصريح ردّ على الكافرين بالقرآن العربي، وردع لمحمد نفسه عن الشك في قرآنه: ﴿فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك﴾. والقرآن العربي ﴿هو الحق من ربك﴾ لأنه نسخة عربية عن ﴿المِثـْل﴾ الذي يتلوه شاهد من بني إسرائيل النصارى على محمد، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً﴾. فهدى القرآن وإِعجازه من هدى ﴿المِثْل﴾ وإمامه. وبذلك، بنص القرآن القاطع، تسقط عنه دعوى التحدي بإِعجازه في الهدى والبيان.
ثالثاً: محمد يؤمر أن يقتدي في القرآن بهدى الكتاب وأهله
والأمر في القرآن العربي أن يقتدي محمد فيه بهدى الكتاب وأهله. فهو يذكر الأنبياء من نوح الى إبراهيم الى موسى الى عيسى، ويذكر ﴿من آبائهم وذريتهم وأخوانهم؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم: ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده﴾ (الأنعام ٨٤ ـ ٨٨). ثم يقول: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوّة ـ فإن يكفر بها هؤلاء، فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (٨٩ ـ ٩٠). فقوله ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحُكم ٢ والنبوّة﴾ هو اصطلاح قرآني متواتر كناية عن ﴿الذين يُقيمون التوراة والإنجيل﴾ معاً، من أهل الكتاب، وهم النصارى من بني إسرائيل فهو يصرّح بأنهم على الصراط المستقيم، وأن هدى الله معهم: ﴿ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده﴾. ويأيه الأمر صريحاً محكماً: ﴿أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده﴾. وهكذا فإن محمداً يُؤمر منذ رؤياه في غار حرّاء، في الرسالة والدعوة، أن يقتدي بهدى النصارى من بني إسرائيل. فالإِعجاز في الهدى هو اذن عندهم ومنه يستمد محمد هداه.
رابعاً: ما القرآن سوى تعليم العرب ﴿الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل
إن دعوة محمد، بنص القرآن القاطع، هي تعليم العرب ﴿الكتاب والحكمة﴾ ـ والحكمة في مثل هذا التعبير اصطلاح خاص، كناية عن الإنجيل: ﴿ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة﴾ (الزخرف ٦٣)؛ كما أن ﴿الكتاب﴾ كناية عن توراة موسى، كما في قوله لعيسى: ﴿واذ علمتك الكتاب والحكمة ـ والتـوراة والإنجيل﴾ (المـائدة ١١٠)، حيث ﴿الواو﴾ بين التعبيرين عطف بيان. هذا ما يؤكده القرآن مراراً: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ (البقرة ١٥١)، كما طلب إبراهيم واسماعيل: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنّك أنت العزيز الحكم﴾ (البقرة ١٢٩). وهكذا ﴿لقد مَنّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران ١٦٤).
إن هذا التصريح المتواتر بالحرف الواحد يدل على توقيف الدعوة القرآنية على حرف موروث ومحوره الدعوة أن ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة﴾ كما تعلَّمهما ودرسهما: ﴿وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبينه لقوم يعلمون﴾ (الأنعام ١٠٥). فإن سكوته عن الرّد على تهمة الدرس، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته: فقد ﴿درس﴾ محمد ﴿الكتاب والحكمة﴾ لأنهم ﴿كانوا عن دراستهم غافلين﴾، وهو يعلمهما للعرب في القرآن العربي، ﴿تفصيل الكتاب﴾. فالإِعجاز في الهدى والبيان، إنما هو في ﴿الكتاب والحكمة﴾، قبل القرآن، بشهادته الصريحة القاطعة.
خامساً: القرآن يشرّع للعرب دين ﴿موسى وعيسى﴾ ديناً واحداً
إن النصارى من بني إسرائيل ـ من دون اليهود والمسيحيين ـ كانوا يقيمون التوراة والإنجيل. والقرآن يدعو بدعوتهم ويشرع للعرب ﴿نصرانيتهم﴾ بتصريحه: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه﴾ (الشورى ١٢). إن ما وصى به الله نوحاً وإبراهيم نعرفه من توراة موسى التي جدّدت دينهما؛ فالأمر يقتصر على موسى وعيسى. فنص القرآن القاطع أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى ديناً واحداً، على طريقة النصارى من بني إسرائيل. هذا هو الأمر القرآني لمحمد نفسه: ﴿قلْ: آمنا بالله... وما أوتي موسى وعيسى، والنبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون﴾ (آل عمران ٨٤)؛ كما هو الأمر لأمته: ﴿وقولوا: آمنا بالله... وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ ـ كما يُفرّق اليهود والمسيحيون (البقرة ١٣٦) لذلك يتحداهم بقوله: ﴿قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ـ وما أنزل إليكم من ربكم﴾ (المائدة ٦٨). هذه هي ﴿النصرانية﴾ عينها؛ وهذا هو الدين الذي يشرعه للعرب.
سادساً: ﴿عباد الرحمان﴾ هم ﴿إمام المتّقين﴾ من العرب
يصرّح: ﴿وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا... والذين يبيتون لربهم سجّداً وقياماً... والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرّة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً﴾ (الفرقان ٦٣ ـ ٧٤). اصطلاح ﴿المتقين﴾ يعني المهتدين من ﴿الأميّين﴾ العرب. واصطلاح ﴿عباد الرحمان﴾، بما أنه مقابل ﴿للمتقين﴾ فلا يعني أبداً جماعة محمد، ولا اليهود، بل رهبان عيسى ﴿النصارى﴾، كما تدل عليه أيضاً صفتهم التي ينفردون بهـا: ﴿يبيتون لربهم سجداً وقياماً. فعباد الرحمان هؤلاء هم ﴿إمام المتقين﴾ من العرب في الدين والهدى، فهم أهل الإِعجاز في الهدى لأنهم ﴿الإمام﴾، والقرآن وأهله تبعٌ لهم في الهدى.
سابعاً: ﴿ما لم ينزل من القرآن على أحد قبل النبي ﷺ﴾
عقد السيوطي في (الإتقان ٣٩:١) فصلاً: ﴿ما أُنزِل منه على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي ﷺ... من الثاني: الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة (البقرة﴾). مع خلاف في هذه الخاتمة أهي آيتان أم ثلاث. فيكون ما اختص به محمد في التنزيل والهدى سبع آيات (الفاتحة)، وآية الكرسي (البقرة ٢٥٥) وثلاث آيات من خاتمة (البقرة). أي نحو عشر آيات. فهب الأمر كذلك، هل يقتصر الإِعجاز في التنزيل والهدى عليه؟ وهذا دليل جهل كبير بالكتاب: (فالفاتحة) وردت بموضوعها، الهداية الى ﴿الصراط المستقيم﴾، وبأسماء الله الحسنى فيها، في زبور داود وفي سفر أشعيا (ف ٤٠ ـ ٥٠). وآية الكرسي فهي هذه: ﴿الله، لا إله إلاّ هو، الحيّ القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات والأرض... وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وهو العلي العظيم﴾ (البقرة ٢٥٥). فأي إِعجـاز فيها على زبور داود؟ والتعبير العبراني الأرامي، ﴿الحي القيوم﴾ دليل مصدره. واذا كان ﴿كرسيه﴾ قد ﴿وسع السماوات والأرض﴾ فأي محل بقي لغيره ممّا ذكره القرآن فيها؟ أجل هو تعبير مجازي لا يؤخذ على حرفه، لذلك فهو من المتشابه الذي لا إِعجاز فيه.
وهذه آيات (البقرة): ﴿لله ما في السموات والأرض: وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير (٢٨٤). آمن الرسول بما أُنزِل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ـ لا نفرّق بين أحد من رسله ـ وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير (٢٨٥). لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصْراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرْنا على القوم الكافرين﴾ (٢٨٦) ـ فمن قال إن هذا الإيمان وهذا الدعاء ليس ﴿مثلهما﴾ في الكتاب فهو جاهل به. وآية المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) تذمّر منها الصحابة، فنسختها الآية (٢٨٦) فلا إِعجاز في تنزيل منسوخ وناسخ!
والقول الفصل في هـذا كله تصاريح القرآن: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾، فالقرآن ﴿تفصيل الكتاب﴾ لذلك أُمِر محمد: ﴿فبهداهم اقتدِهْ﴾ فالكتاب التابع لا يكون معجزاً في الهدى أكثر من الكتاب المتبوع.
بحث ثالث
من ظواهر تحدّي القرآن بالهدى
ظاهرة غريبة، من ظواهر تحدي القرآن بالهدى، هي تلك الأزمات الإيمانية التي فصلناها في فصل سابق، ونعود اليها هنا بإيجاز، لنرى أين يكون الإِعجاز في الهدى والعقيدة.
أوّلاً: التحدّي بالقرآن يلازمه ردْع النبي عن الشرك
إن تحدّي المشركين ﴿بكتاب من عند الله هو أهدى منهما﴾ أي من الكتاب والقرآن (القصص ٤٩) يليه للحال ردْع النبي عن الانزلاق الى الشرك: ﴿قلْ: ربي أعلم مَن جاءَ بالهدى، ومن هو على ضلال مبين، وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب، إلاّ رحمة من ربك: فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين! ولا يصدّنُّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك! وادعُ الى ربك، ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدعُ مع الله الهاً آخر، لا إله إلاّ هو! كل شيء هالك، إلا وجهه، له الحكم وإليه تُرجعون﴾ (القصص ٨٥ ـ ٨٨).
تلك صورة قاتمة من صور الأزمات النفسية الإيمانية المتواصلة التي كانت تنتاب محمداً. وحاشا لله أن يحذّر عبده من الشرك على أنواعه، لو لم يكن فيه شيء من تجربة الشرك! فإِعجاز الدعوة في الهدى تظهر آثاره أولاً على نبيّه، لأن هدى النبي من هدى نبوته ودعوته، وهذا لا ينسجم مع الإِعجاز في الهدى.
ثانياً: التحدّي بالقرآن والركون شيئاً قليلاً الى المشركين
في سورة (الإسراء) يتحدى ﴿الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن... ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾ (٨٨)! ثم يعتزّ بإيمان ﴿الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً﴾ (١٠٧). وإذا به في الوقت نفسه يُعاَتَب على فتنته عن الوحي القرآني التي كادوا يوقعونه فيها: ﴿وإنْ كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، واذاً لاتّخذوك خليلاً! ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً﴾! (٧٣ ـ ٧٤).
لقد كاد محمد يركن ﴿شيئاً قليلاً﴾ الى فتنتهم، لو لم تتداركه رحمة الله بمثل ﴿الذين أوتوا العلم من قبله﴾. فالفضل في إِعجـاز الهدى لهم. ولا مراء في ركون محمد ﴿شيئاً قليلاً﴾ الى المشركين، لأنه حاشا للوحي أن يخبر بغير الحقيقة والواقع. فأين إِعجاز النبي الذي يعصمه من الفتنة: إن التحدي بالقرآن (الإسراء ٨٨) لا يستقيم مع إمكانية فتنة نبيه عنه، لأن هدى الرسول من هدى نبوته.
ثالثاً: التحدّي بالقرآن وهداه، والشك من تنزيله
يصرّح القرآن بأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧) ثم يتحدى ﴿بسورة مثله﴾ (يونس ٣٨). فالتحدّي لا يطال أهل الكتاب، لأن القرآن ﴿تفصيل الكتاب﴾ إنما هو للمشركين وحدَهم. مع ذلك، فإنه بعد ذلك التصريح وذلك التحدي يعلن: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأُون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذّبوا بآيات الله، فتكون من الخاسرين﴾ (٩٤ ـ ٩٥). إن الافتراض من الوحي لا يكون عبثاً، إنما هو برهان الواقع: فمحمد انتابته موجة شك من تنزيل القرآن عليه، وهذا الشك لا يستقيم مع التحدي ﴿بسورة مثله﴾، بل يحدّه. ويظل الإِعجاز في الهدى عند الذين يحيله الوحي اليهم، لا عند الذي يحذّره من الشك في صحة التنزيل اليه.
رابعاً: التحدّي بالقرآن ومحنة المِرْية منه
في سورة (هود ١٢ ـ ١٧) ظاهرة غريبة، يأتي التحدّي ﴿بعشر سور مثله﴾ بين الفتنة بترك ﴿بعض ما يوحى إليك﴾ وبين ﴿مرية منه﴾. فهو يصرّح: ﴿فلعلّك تارك بعض ما يُوحى إليك، وضائق به صدرك، أن يقولوا: لولا أُنزل عليه كنز، أو جاءَ معه ملك! ـ إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل﴾ (١٢). ثم يقول للحال: أم يقولون: افتراه! ـ قلْ: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين...﴾ (١٣). ويختم بهذا التصريح المذهل: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلو شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً ـ أولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده! فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ (١٧). يُدعى محمد الى عدم الشك من حقيقة ما يُوحى اليه، لأنه وإن كفر به ﴿الأحزاب﴾ أي ﴿أكثر الناس﴾ في مكّة، فهناك مَن يؤمنون به، وهم على ﴿بيّنة من ربهم لأن لديهم ﴿كتاب موسى إماماً ورحمة﴾؛ وهو كقوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠) حيث الشاهد ﴿النصراني﴾ يصير جماعة النصارى من بني إسرائيل؛ فهم الذين يشهدون للنبي ويرفعون ﴿المرية﴾ من نفسه: فالهدى هداهم، والإِعجاز إِعجازهم.
لكن ما هذا التردّد المتواصل بين الإيمان والشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه! هل تردّد الرسول في هداه من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في هدى رسالته؟
خامساً: التحدّي بالقرآن وتحذير النبي من مخالطة المشركين
سورة (الأنعام) ـ وهي متبعّضة من أزمنة مختلفة ـ تثبيت لمحمد في رسالته ودعوته، وجدال عنها مع المشركين. لكن الظاهرة الغريبة المتواترة تظهر فيها، حيث في آية واحدة يجتمع الإعلان بزعامة محمد للاسلام والتحذير له من الشرك: ﴿قلْ: إني أُمرُتُ أن أكون أول مَن أسلم، ولا تكونَنَّ من المشركين!﴾ (١٤). ويلي التحذير له من الشرك تحذير آخر من المشركين. يعلن: ﴿قلْ: إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله! قلْ: لا أتّبع أهواءَكم! قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين! قلْ: إني على بيّنةٍ من ربي وكذّبتم به﴾ (٥٦ ـ ٥٧). هنا يصرّح أيضاً عن نفسه بأنه ﴿من المهتدين﴾، لا من الهادين! فهذه الأوامر المتلاحقة ﴿قلْ﴾ تأتيه إذاً من الذين يهدونه ويشهدون معه وله﴾ (هود ١٧). لكن للحال يأتيه التحذير من القعود مع المشركين لئلا يسقط في التجربة: ﴿واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وإمّا ينسينّك الشيطان، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين﴾ (٦٨). لقد نُصب لدعوتهم بالقرآن، وها هو يُؤمر بعدم القعود مع الباحثين فيه: فما هذا؟ وقعوده مع ﴿الظالمين﴾ منسوب الى عمل من الشيطان: فما هذا السلطان الشيطاني على النبي المعصوم؟ وهل يُخشى عليه من القعود مع المشركين؟ وهل يُخشى على الوحي القرآني من خوض ﴿الظالمين﴾ فيه؟ أأمر بدعوتهم، وأمر بعدم مخالطتهم؟
سادساً: التحدّي بهدى القرآن، وتحذير النبي من الضلال
في سورة (الأنعام) نفسها مواقف أخرى متعارضة. فمن جهة يقابل بين المؤمنين بدعوته وبين الكافرين بها من أهل الكتاب: فالنصارى من بني إسرائيل ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة﴾ أي التوراة والإنجيل والنبوّة كلها، ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ﴾ لأنهم الوكلاء على هدى الله، ﴿وإن يكفر بها هؤلاء﴾ أي أهل مكّة، واذ قال اليهود: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ (٨٩ ـ ٩٠). ومن جهة أخرى يحذّره من الضلال بحق القرآن، وهو ﴿الكتاب مفصّلاً﴾: ﴿أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً ـ والذين آتيناهم الكتاب (النصارى) يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكوننَّ من الممترين ـ وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته، وهو السميع العليم. وإنْ تُطعْ أكثر من في الأرض (المشركين واليهود في الحجاز) يضلّوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلاّ الظن، وإنْ هم إلاّ يخرصون﴾ (١١٤ ـ ١١٦). فكأن محمداً يتردّد بين الفريقين، فيؤكد له الذين أُمر بالاقتداء بهداهم (٩٠) وهم أهل الكتاب المؤمنون به وبدعوة محمد أن القرآن هـو ﴿الكتاب مفصلاً﴾ وقد ﴿تمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته﴾؛ وهم يعلمون أن الكتاب الأول هو المنزّل، وأن القرآن هو ﴿الكتاب مفصلا﴾. فهذا الكتاب المفصَّل يستمد تنزيله وهداه من الكتاب الأول. بهذا يشهد ثقاته. فإن أطاع محمد اليهود والمشركين أضلّوه عن سبيل الله. فهل يستقيم هذا الامكان بإضلال محمد، وهذا التحذير المتواتر من الشك في القرآن نفسه، مع الإِعجاز في الهدى عند الرسول؟
سابعاً: التحدّي بهدى القرآن، والأمر المتواصل للإخلاص في الدين
سورة (الزمر) حملة متواصلة لحمل محمد على الإخلاص في الدين: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبدِ الله مخلصاً له الدين (٢)... قلْ: إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين. قل: إني أخاف، إنْ عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قلْ: الله أعبد مخلصا له ديني (١١ ـ ١٤)... ولقد أُوحي إليك والى الذين من قبلك: لئن أشركت ليحبطنّ عملك، ولتكوننَّ من الخاسرين﴾ (٦٥). فهذا التهديد المتواصل لمحمد حتى التخويف من عذاب يوم عظيم؛ وهذا الأمر المتواصل له بالإخلاص في الدين؛ وهذا الاغراء بجعله ﴿أول المسلمين﴾؛ هل هي من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في الهدى عنده؟
ثامناً: التحدّي بالقرآن وهداه، والأمر المتواتر بالاستقامة على الهدى
يتحدى بالقرآن، بحديث مثله، بعشر سور مثله، بسورة مثله؛ ويتحدى بهداه. ثم يأتيه الأمر بالاستقامة على الهدى الذي اهتدى اليه. فهو يعلن: ﴿شرع لكم من الدين... وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه﴾ (الشورى ١٣). فالهدى القرآني هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب ديناً واحداً ـ لأن ما وصى به نوحاً وإبراهيم تجدّد بموسى. هذا هو الكتاب كله الذي آمن به محمد: ﴿وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ (١٥). وهذا هو العدل بين المؤمنين: ﴿وأمرتُ لأعدل بينكم﴾ (١٥). بعد هذا الإيمان، وهذا الجزم بالدين الذي يشرعه، يأتيه الأمر المكرَّر: ﴿فلذلك فادع واستقم كما أُمرت، ولا تتبع أهواءَهم﴾ (١٥).
فهل يُخشى على محمد من الميل عن الاستقامة في دعوته، حتى يأتيه الأمر المكرّر بالاستقامة على الهدى؟ والتحذير المكرّر من أتباع أهواء المشركين؟ وهل هذا كله من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في هديه وهداه؟
تاسعاً: التحدّي بالقرآن والنهي عن اتباع أهواء المشركين
في مكّة يتواتر التحدي بالقرآن، ويتواتر أيضاً التحذير نفسه لمحمد من الشرك والمشركين، مع بيان الصراط المستقيم في الهدى والدين، على طريقة الذين يؤمنون بالكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل ديناً واحداً ـ وهم النصارى من بني إسرائيل. يقول: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة... وآتيناهم بيّنات من الأمر... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ أي المشركين (الجاثية ١٦ ـ ١٨). لقد جُعل محمد على طريقة ﴿من الأمر﴾ في الدين الذي يقيمه النصارى ﴿من بني إسرائيل﴾ الـذين ﴿يعلمون﴾، ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾، فمـا عليه إلاّ أن يستقيم على هذه ﴿الشريعة من الأمر﴾ ولا يتبع أهواء المشركين. فليس التحذير المتواتر له طوال العهد بمكّة من المشركين، من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في الهدى والدين.
عاشراً: التحدّي بالقرآن والاستعاذة قبل قراءَته من الشيطان
آخر تحدٍّ بالقرآن وهداه إعلانه: ﴿أم يقولون: تقوّله! ـ بل لا يؤمنون! فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين﴾ (الطور ٣٣). هنا صار التنزيل ﴿حديثاً﴾. فهو يتحدى بالقرآن جملةً. لكنه في الوقت نفسه يُؤمر بالاستعاذة من الشيطان، عند قراءَة القرآن، لئلا يُلقي فيه، عند تبديل آية بآية: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم... واذا بدّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزِّل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ! بل أكثرهم لا يعلمون﴾ (النحل ٩٨ ـ ١٠١).
ظاهرة سببت رِدّة بعض المسلمين لمّا عرفوها، وهي تبديل آية بآية في القرآن. ومحمد نفسه لا يعلم سرّ ذلك، ﴿والله أعلم بما ينزّل﴾. لكن هل هذه الظاهرة الغريبة المريبة التي جعلت بعضهم يقول للنبي: ﴿إنما أنت مفتر﴾، هي من الإِعجاز في التنزيل والبيان والهدى؟ والشبهة الأخرى أغرب وأنكي، وهي الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن: إن كلام الله هو استعاذة بحدّ ذاته، فما معنى هذه الاستعاذة؟ وهل من خطر على الوحي ان يُلقي الشيطان فيه عند تنزيله؟ وهل في ﴿تبديل آية بآية﴾ من صلة بهذه الاستعاذة. إن التبديل في التنزيل ليس من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في الهدى والبيان والتنزيل.
حادي عشر: التحدي بالقرآن وهداه، والإثبات والمحو في مبناه
ينهي العهد بمكّة على صورة المحو والاثبات في تنزيل القرآن: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب﴾ (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). ﴿أم الكتاب﴾ أصلُه عند الله. وهذا الأصل لا شك واحد. فكيف يُنزل الله منه ثم يمحو ما أنزل؟ لذلك احتج الناس على هذه الظاهرة الغريبة المريبة، ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً، ومَن عنده عِلْم الكتاب﴾ (٤٣). إن شهادة الله على الرسالة هي المعجزة، فأين هي؟ يكتفي النبي من المعجزة والإِعجاز بشهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ أي ﴿الراسخين في العلم﴾، ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾، وهم النصارى من بني إسرائيل. الى هنا ينتهي التحدي بالإِعجاز والهدى. فمن يشهد على نفسه بالمحو في التنزيل والهدى، ومَن حجته شهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾، هل يكون على الإِعجاز في الهدى؟
تلكم اثنتا عشرة شهادة من التحدي بالقرآن وهداه، مقرونة بالأزمات النفسية والإيمانية. إنه يتحدى، ويشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ومن القرآن نفسه! وهو على ذلك طوراً يعاتبه، وطوراً يؤدبه؛ تارة يدعوه الى الإخلاص في الدين، وتارة يحذره من اتباع أهواء المشركين. وعلى الدوام يدعوه الى الاستقامة في الهدى، حتى كان محمد يقول: ﴿شيبتني هود. أفتقر الى الله بصحة العزم﴾!
فهل هذا كله من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في الهدى والعقيدة؟
بحث رابع
هل من إِعجاز في الدعوة الى التوحيد بمكّة؟
يقولون: إن رجلاً ﴿أمّياً﴾، لا يقرأ ولا يكتب، وذلك في الحجاز المحجوز عن المعمورة برماله وصحاريه، في بيئة جاهلية وثنية، يقوم ويدعو للتوحيد الخالص، تلك هي المعجزة الكبرى في الرسول والرسالة. فهل في ظروف ﴿النبي الأمّي﴾، وظروف الزمان والمكان في البيئة، وظروف الدعوة نفسها، ما يفرض القول بالإِعجاز في الدعوة للتوحيد بمكّة؟
أوّلاً: هل من إِعجاز في حال ﴿النبي الأمّي﴾
لقد رأينا أن أمية محمد ينقضها القرآن كله. وقد رأينا أن محمداً ﴿درس﴾ الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل، على يد نسيبه ورقة بن نوفل، قسّ مكّة وعلاّمتها الذي يدعو الى نصرانيته بترجمة الإنجيل الى العربية وقد رأينا أن محمداً في القرآن ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة﴾ أي التوراة والإنجيل.
فليس من إِعجاز في حال محمد.
ثانياً: هل من إِعجاز في ظروف البيئة؟
إن التاريخ المتصل بالمشاهدة العيان يشهد، كما نقلنا عن الأستاذ دروزة، أن الحجاز لم يكن محجوزاً عن الحضارة والثقافة. بل كان أهل مكّة، ومحمد على رأسهم، منذ زواجه حتى مبعثه، صلة الوصل بين حضارة الشرق في الهند وحضارة الغرب في الشام وعند الروم، لسيطرهم على طريق القوافل. وقد أشاد القرآن نفسه بنعم الله على بني قومه، ﴿لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف﴾ ما بين اليمن وما وراءه، وبين الشام وما وراءه. واتصالهم بحضارتين عظيمتين، بفارس والروم، جعلهم ميدان الصراع لهما حتى في الدين. فنادى القرآن ﴿ولا تعبدوا الهين اثنين﴾، ﴿ولا تقولوا: ثلاثة﴾.
والقرآن نفسه خير شاهد على أن البيئة الحجازية، وعلى رأسها مكّة، لم تكن على الوثنية في شيء. بل، بفضل الدعوة الكتابية فيها، قد تحولت وثنية العرب الى شرك، أي الى عبادة الله مع شريك له من خلقه. وشيئاً فشيئاً أُفرغ هذا الشرك من معناه، فأمسى شركاً شكلياً؛ كما يعلن القرآن نفسه على لسانهم: ﴿ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى﴾ (الزمر ٣).
والدكتور جواد علي، من المجمع العلمي العراقي، ينهي كتابة (تاريخ العرب قبل الإسلام ٤٢٤:٥ و ٤٢٨) بهذه النتيجة الحاسمة: ﴿إن عقيدة الجاهليين في الله، وحجّهم الى البيت وقسمهم به، نتيجة تطور طويل مرّ على الحياة الدينية لعرب الجاهلية، اختُتم بظهور الإسلام، ودخول أكثرهم فيه. فقد كان أهل مكّة على مقالة من التوحيد والدين، وعلى تيقّظ وشك في أمر الشفعاء والشركاء والأصنام، حمل الكثيرين على الشك في ديانة قومهم، وعلى الدعوة الى الاصلاح... فعبادة أهل مكّة هي عبادة محمد؛ وتوحيدهم توحيد اسلامي، أو توحيد قريب من التوحيد الإسلامي﴾.
وقد تغلغل الصراع بين المسيحية واليهودية، من أطراف الجزيرة كلها الى قلب الحجاز، وقام بين اليهودية والمسيحية فرقة ﴿النصارى﴾ من بني إسرائيل، التي هاجرت الى مكّة، وكانت على أساس نهضتها التجارية والثقافية والدينية. وكانوا يدعون العرب الى دين موسى وعيسى معاً، الى إقامة التوراة والإنجيل معاً، حتى أمست مكّة والحجاز كله مستعدين للدعوة القرآنية. فجاءَ أمر الله الى محمد بالانضمام اليهم والدعوة بدعوتهم: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النحل ٩١ ـ ٩٢)، ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧).
فبحسب التاريخ والقرآن نفسه ليس في ظروف البيئة، والزمان والمكان؛ وليس في ظروف محمد الشخصية والعائلية والقومية من معجزة في الدعوة للتوحيد بمكّة والحجاز.
ثالثاً: هل من إِعجاز في الدعوة للتوحيد نفسه؟
تقتصر الوعود القرآنية على التوحيد: ﴿قل: إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى. ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة، إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾ (سبأ ٤٦). فليس فيه من وحي سوى هذا التوحيد: ﴿قلْ: إنما أنا بشر مثلكم يُوحى اليّ إنما الهكم اله واحد. فاستقيموا له واستغفروه! وويل للمشركين﴾! (فصلت ٦). هذا توحيد ظاهري، لا يكشف شيئاً عن سرّ الله. والإسلام كله تنزيه عن الشرك: ﴿فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأنْ لا اله إلاّ هو، فهل أنتم مسلمون﴾؟ (هود ١٤). فليس في القرآن من كشف عن سر الله سوى توحيده: ﴿والهكم اله واحد، لا إله إلاّ هو، الرحمان الرحيم﴾ (البقرة ١٦٣). وسنرى أن التوحيد غارق في التشبيه، ليس فيه تجريد. إنما إعلانه الصارخ المتواصل هو دائماً: ﴿الهكم اله واحد﴾ (٢٢:١٦؛ ١١٠:١٨؛ ١٠٨:٢١؛٦:٤١؛ ٣٤:٢٢؛ ١٦٣:٢). لذلك كانت الشهادة الإسلامية على وجه الزمان: ﴿لا إله إلاّ الله﴾. فهي تقتصر على توحيد خارجي ظاهري، لا يكتشف شيئاً عن ذات الله. بل اعتبروا البحث في ذات الله اشراكاً.
فهل من إِعجاز في الدعوة لهذا التوحيد، وقد سمعه العرب، حتى في مكّة، من أهل الكتاب، قبل محمد والقرآن، بعشرات ومئات السنين؟ وقد دان به محمد قبل مبعثه ومنذ زواجه بالسيدة خديجة. بأمر من ابن عمها ورقة بن نوفل، قسّ مكّة وعلامتها، الذي ﴿درّسه﴾ الكتاب والتوحيد مدة خمسة عشر عاماً، قبل الدعوة لهما؟
رابعاً: القرآن نفسه يشهد بأنّ توحيده من توحيد الكتاب
فالكتاب إمامه في التوحيد والهدى:﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً﴾ (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧) فليس فيه من جديد سوى اللسان العربي. وهو يجادل العرب بهدى وعلم الكتاب المنير، إذ ﴿من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾ (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). ويجادل اليهود بوحدة التوحيد معهم: ﴿قلْ: أتحاجوننا في الله، وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون﴾ (البقرة ١٣٩). ويمنع الجدال مع النصارى لوحدة الاله ووحدة التنزيل ووحدة الإسلام: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم (اليهود) ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون﴾ (العنكبوت ٤٦). والأمر صريح بالشهادة بهذه الوحدة بين القرآن والنصارى. والأمر صريح الى محمد بالإسلام على طريقة موسى وعيسى معاً: ﴿قلْ: آمنا بالله وما أنزل علينا... وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (آل عمران ٨٤). والأمر صريح الى جماعة محمد بهذا الإسلام عينه: ﴿قولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا... وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (البقرة ١٣٦). فالإله واحد، والتوحيد واحد، والإسلام واحد فهل من إِعجاز بهذه الدعوة للتوحيد بمكّة؟
بحث خامس
هل من إِعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن؟
يقول العقاد، في كتاب المؤتمر الإسلامي (الإسلام وأباطيل خصومه ص ٥٤ ـ ٥٥). ﴿فالله؛ رب العالمين، ملك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية. بل كان هو الأصل الذي يثوب اليه مَن ينحرف عن العقيدة في الإله، كأكمل ما كانت عليه، وكأكمل ما ينبغي أن يكون. ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية Theology ﴾.
أوّلاً: التوحيد القرآني تنزيه عن الشرك، لكنه غارق في التشبيه والمتشابه
إن التوحيد القرآني سلبي قائم على التنزيه من الشرك، كما تعلن الشهادة: لا إله إلاّ الله. وهذا التوحيد السلبي قد جاء أيضاً بأسلوب غارق في التشبيه. أجل يعلن: ﴿ليس كمثله شيء﴾. لكنه في تعابير التوحيد يشبّه الله بالإنسان: ﴿إن ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجيء، وفوق وتحت وأمام، وطي وقبض ونفخ ـ إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَت من قبيل التقريب لأذهان السامعين﴾ ٣ . وهذا التقريب أغرقها في التشبيه حتى جاءَت صورة الله في القرآن كصورة إنسان أكبر من الإنسان.
وما عدا عقيدة التوحيد الخالص سلبياً، فكل تعليم القرآن في صدد الذات الإلهية من المتشابه فيه الذي ﴿ما يعلم تأويله إلاّ الله﴾: ﴿وكل ما ورد في صدد الذات الإلهية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر، إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه﴾ ٤ . وتوحيد غارق في التشبيه، يأتي ببيان متشابه للعقيدة الإلهية، أيكون هو الأصل الذي تثوب اليه كل عقيدة في الإله؟ أتكون هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لعقيدة الله في الكتاب ﴿الإمام﴾، وفي ﴿الكتاب المنير﴾ كما يسميهما القرآن؟
إن توحيد القرآن سلبي يقوم على تنزيه الله عن الشرك، لا كشف فيه عن غيب الله، وعن سر الله في ذاته وحياته. فيظل الإله في القرآن، مع الشهادة له بالتوحيد الخالص، مجهولاً في ذاته، محجوباً في غيبه. والبحث في ذات الله إشراك. ففي ذاته، وفي سر حياته، الله أكبر، بحسب القرآن، هو المجهول الأكبر.
ثانياً: حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن
هذا هو الإخلاص في التوحيد، كما يعلنه القرآن: ﴿قلْ: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلدْ ولم يُولدْ، ولم يكن له كفواً أحد﴾. كلها صفات تنزيه عن الشرك: فالله واحد أحد، وهو الصمد المتعالي المتجلّي فوق عباده، لا كفوء له من خلقه، ﴿وليس كمثله شيء﴾.
وقوله ﴿لم يلدْ ولم يُولد﴾ لا يدل على امتناع صفة من ذاته، لذاته، إنما يدل على استحالة الولادة والاستيلاد من غيره تعالى، كقوله ﴿ما اتّخذ صاحبة ولا ولداً﴾ (الجن ٣). فهذه هي فلسفته في استحالة الولد والولادة: ﴿بديع السماوات والأرض، أنّي يكون له ولد ولم تكن له صاحبة﴾ (الأنعام ١٠١). فكل ولادة في عرْفه لا تقوم إلاّ على ﴿صاحبة﴾! حاشا لله الواحد الأحد، الله الصمد! وبما أن البحث في ذات الله إشراك، فلا ينظر القرآن الى ولادة روحية عقلية نطقية، يصدر بها نطق الله الذاتي، من ذاته، في ذاته، لذاته. فهذا غيب الله المحجوب.
وفات القوم إن قوله: ﴿هو الله أحد﴾ نقل حرفي للتوحيد الكتابي في التوراة والإنجيل. ففي التوراة: ﴿اسمع، يا إسرائيل، إن يهوه (الله) الهنا هو يهوه أحد﴾ (التثنية ٤:٦). وكانت شهادتهم مدى الدهر: ﴿يهوه أحد﴾ أي الله أحد، وترجمها حرفيّا ﴿هو الله أحد﴾. وسأل السيد المسيح أحد العلماء: ﴿أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟ فأجاب يسوع: الأولى هي ﴿اسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد﴾ (مرقس ٢٨:١٢ ـ ٢٩). لقد ردّ عليه بالشهادة التوراتية التي بها يشهدون كل مرة الله، سبحانه وتعالى.
فحرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن. فكيف تكون العقيدة الإلهية في القرآن مصحّحة متمّمة لعقيدة الإنجيل والتوراة في الله تعالى؟ والإِعجاز للمتبوع للتابع.
ثالثاً: إنّ التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى
إن التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه! كبر على المشركين ما تدعوهم اليه﴾ (الشورى ١٣). نقتصر على هذه الشهادة، وهي متواترة في القرآن. فكيف تكون صورة الله في القرآن هي الأصل؟ والقرآن يصرح بعكس ذلك.
رابعاً: إسلام القرآن هو إسلام من قبله اسماً ومعنى
في بعثته لدعوته جاءه الأمر: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢). فانضم الى المسلمين من قبله ودعا بدعوتهم للاسلام. فإسلامه من اسلامهم لفظاً واسماً: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل (في الكتاب) وفي هذا﴾ القرآن (الحج ٧٨).
وهذا الإسلام يقوم على عدم التفريق بين موسى وعيسى (البقرة ١٣٦؛ آل عمران ٨٤) وعلى إقامة التوراة والإنجيل معاً (المائدة ٦٨)، على طريقة النصارى من بني إسرائيل الذين يسميهم أولي العلم المقسطين أو القائمين بالقسط أو ﴿الراسخين في العلم﴾.
وإسلامه من إسلامهم معنى وموضوعاً: ﴿شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ٨٨ ـ ٨٩). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادتهم، ويعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته. فكيف تكون عقيدته مصححة متممة لعقيدة ﴿الراسخين في العلم﴾ من أهل الكتاب. فالإِعجاز للاسلام المتبوع قبل الإسلام التابع.
فهل من إِعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن على الكتاب وأهله؟
بحث سادس
الإِعجاز في الشريعة
سنفرد فصلاً للإِعجاز في الشريعة. نقدم له هنا بكلمة في الشريعة كهدى سماوي.
يقول عبد الكريم الخطيب ٥ ، معلقاً على قول ابن خلدون: ﴿واعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم...لاتحاد الدليل والمدلول عليه﴾؛ ﴿ومعنى هذا الذي يقوله ابن خلدون إن النبي ﷺ حمل الى الناس أمراً واحداً فقط هو الشريعة، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله﴾. وفاته وأمثاله تصريح القرآن: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم﴾ (النساء ٢٦). فالهدى في التشريع القرآني هو هداية الى شريعة الكتاب وسنن أهله. ويعطينا مثلاً صريحاً في تشريع الصيام: ﴿يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم، لعلّكم تتّقون﴾ (البقرة ١٨٣)، فمن تقواهم في توبتهم من الشرك أن يصوموا مثل أهل الكتاب: فالشريعة واحدة.
وقد يقول قائل: هل شريعة الزواج في القرآن مثل الكتاب، التوراة أو الإنجيل؟ نجيب: إنه يهديهم الى ﴿سنن الذين من قبلكم﴾. كان الطلاق وتعدد الزوجات مباحاً في التوراة على اطلاقه. لكن بتأثير المسيحية جعل التلمود عدد الزوجات مقصوراً على أربع معاً. فوقف النصارى من بني إسرائيل على هذا الشرع التلمودي، كأمّة وسط بين التوراة والإنجيل، في إقامتهم للتوراة والإنجيل معًا. فنزل القرآن على ما يقول ﴿أولو العلم قائماً بالقسط﴾: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألاّ تعولوا﴾ (النساء ٣).
إن القرآن في الهدى والشريعة ﴿يقتدي﴾ بأمر الله بهدى ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠)، أي النصارى من بني إسرائيل، الذين بإقامة ﴿الكتاب والحكمة ـ التوراة والإنجيل﴾ معاً كانوا أمة وسطاً بين اليهودية والمسيحية، في العقيدة والشريعة والصوفية والدين والإسلام كله. وشرع يهتدي بسُنن أولي العلم المقسطين من أهل الكتاب، ليس هداه من الإِعجاز في الشريعة. إنما الإِعجاز التشريعي في ﴿إمامه﴾.
بحث سابع
الإِعجاز في الدين
في كتاب ديني سماوي، إنما يكون الإِعجاز المطلوب في الدين. ويأتي القرآن صريحاً في الدين الذي يشرعه للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه... فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتّبع أهواءَهم! وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب؛ وأمرتُ لأعدل بينكم﴾ (الشورى ١٣ ـ ١٥).
فالدين الذي يشرعه الله للعرب في القرآن هو دين موسى وعيسى معاً، بنص القرآن القاطع. قد يقولون: وما بال نوح وإبراهيم؟ نقول: دينهما هو دين موسى وعيسى في الكتاب؛ وقد أُمر محمد أن يؤمن ﴿بما أنزل الله من كتاب﴾ مباشرة. ومُنع محمد من أتباع أهواء اليهود والمشركين في الدين؛ وأُمر مراراً أن يستقيم على دين موسى وعيسى معاً ﴿على شريعة من الأمر﴾. وطريقته في اتباع دين موسى وعيسى معاً إنما هي طريقة النصارى من بني إسرائيل، الأمة الوسط: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتب والحكم والنبوّة... وآتيناهم بيّنات من الأمر... ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتّبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ أي المشركين (الجاثية ١٦ ـ ١٨). فقد جُعل محمد على طريقة من أمر الدين هي طريقة الذين يقيمون ﴿الكتاب والحكمة ـ التوراة والإنجيل﴾ معاً، وهم النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين. ويؤمر بتواتر أن يستقيم عليها وهذا هو العدل الذي جاءَهم به في أمر الدين: ﴿وأُمرت لأعدل بينكم﴾، بين اليهود الذين اختلفوا من بعد ما جاءَهم العلم مع السيد المسيح، وبين المشركين، ﴿الذين لا يعلمون﴾.
هذا هو الإخلاص في الدين أُمر به محمد، ﴿مخلصاً له الدين﴾ (الزمر ٢ و١١ و١٤)؛ والذي يأمر به، ﴿مخلصين له الدين﴾ (٢٩:٧؛ ٢٢:١٠؛ ٦٥:٢٩؛ ٣٢:٣١؛ ١٤:٤٠ و٦٥؛ ٥:٩٨). وبما أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً، بإقامة التوراة والإنجيل معاً، في أمة وسط، على طريقة أولي العلم المقسطين من بني إسرائيل، فهل يكون فيه الإِعجاز في الدين؟
بحث ثامن
الإِعجاز في الإسلام
﴿دين الحق﴾، ﴿دين القيّمة﴾ ملّة إبراهيم حنيفاً، الدين الذي يشرعه القرآن للعرب، يسميه الإسلام. ويظنون أن الإسلام في لفظه، كما في معناه، من الإِعجاز في التنزيل القرآني. وفاتهم أن الإسلام في لفظه ومعناه، بنص القرآن القاطع، هو من قبل محمد القرآن: ﴿هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا﴾ القرآن (الحج ٧٨).
نستنتج من القرائن القرآنية والتاريخية أن النصارى من بني إسرائيل، بعد هجرتهم المرغمة الى الحجاز، أخذوا يدعون العرب الى دينهم. ولإيلاف العرب الى دعوتهم سموها أولاً الحنيفية، ملّة إبراهيم، جدَ العرب المستعربة في الحجاز بواسطة اسماعيل. فلمّا أينعت الدعوة أطلقوا عليها اسم ﴿الإسلام﴾ قبيل الدعوة القرآنية. فجاء القرآن ـ ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ ـ يشهد بشهادتهم أن الدين عند الله الإسلام: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولوا العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩).
نعرف من اصطلاح القرآن المتواتر أن ﴿أولي العلم﴾ مرادف لأهل الكتاب من يهود ونصارى. وهو يقسم أهل الكتاب، أولي العلم، الى طائفتين: أولي العلم الظالمين وهم اليهود، وأولي العلم المقسطين، وهم النصارى من بني إسرائيل. فهؤلاء النصارى هم الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾ وذلك بنص القرآن القاطع، الذي يعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يدعو الى شهادتهم في الإسلام. لذلك يختلف معه أهل الكتاب من اليهود في الاسم ومعناه: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب، إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم ـ ومَن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب. فإن حاجّوك فقل: أسلمتُ وجهي ومَن اتّبعني﴾ (آل عمران ١٩ ـ ٢٠).
والدعوة لاسلام النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين، هي التي يوجهها لليهود والمشركين الأميّين: ﴿قل للذين أوتوا الكتاب (اليهود) والأميّين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا؛ وإن تولّوا، فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعبادِ﴾ (آل عمران ٢٠). وبما أن القرآن يدعو للاسلام بدعوة النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين، فهل في دعوته من الإِعجاز في الإسلام؟
خاتمة
القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع
والقول الفصل، في هذا الفصل، إن الإِعجاز الحق يكون أولاً في التنزيل ثم في هداه. وفي الهدى يدعو القرآن الى إسلام ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾ الى دين موسى وعيسى معاً الذي يشرعه للعرب، لكي يهديهم ﴿إلى سنن الذين من قبلكم﴾؛ فليس فيه من كشف جديد في العقيدة الإلهية التي تقتصر على الإخلاص في التوحيد، بالخلاص من الشرك. وليس من إِعجاز في الدعوة للتوحيد، بمكّة. وليس من إِعجاز في قيام محمد نفسه بهذه الدعوة، فقد ظل طول العهد بمكّة يتردّد بين الإيمان والشك من نفسه ومن أمره ومن صحة قرآنه. وقد كان الكتاب ﴿إمامه﴾ في الهدى والبيان، على ﴿المثل﴾ الذين شهد به شاهد من بني إسرائيل النصارى. فالقرآن يتحدى بالإِعجاز في الهدى، قبل التحدي بالإِعجاز في حرفه: قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩). فنص التحدّي بالهدى، ﴿أهدى منهما﴾ يسقط عنه دعوى الإِعجاز في الهدى. إن الإِعجاز في الهدى هو في ﴿الإمام﴾ الذي أُمر أن ﴿يقتدي﴾ ﴿بالمثل﴾ عنه. إن القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع. والإِعجاز هو للمتبوع قبل التابع.
الجزء الثاني
الإِعجاز في الشريعة
توطئة
وجه جديد من إِعجاز القرآن: الإِعجاز في الشريعة
بعد العقيدة، يكون الإِعجاز في الشريعة. والسيوطي، خاتمة المحققين الأقدمين، لم يذكر في (الإتقان في علوم القرآن)، من وجوه الإِعجاز، وجه التشريع. وفي عصرنا، طلع علينا الأستاذ محمد أبي زهرة، أستاذ الشريعة بكلّية الحقوق بجامعة القاهرة، بهذا الوجه الجديد من الإِعجاز، في التشريع القرآني. يقول ٦ ، بعد بيان وجوه الإِعجاز البياني والعيني والعلمي؛ ﴿ولكن وجهاً آخر لم يبيّنه العلماء بإطناب، ونعتقد أنه أقوى دلالة في خطاب الناس أجمعين من كل ما ذكر، وهو شريعة القرآن. وقد أشار الى هذا الوجه، إشارة عابرة، القرطبي، فقال في كتابه (أحكام القرآن) في وجوه إِعجاز القرآن: (ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام، وسائر الأحكام). هذا كلام القرطبي، وهو يشير الى أن شريعة القرآن وما اشتملت عليه من أحكام منظمة للأسرة، والتعامل الإنساني، هي وجه من وجوه الإِعجاز... ولذلك نقول: إن شريعة القرآن هي أقوى وجوه إِعجاز القرآن؛ وهي القائمة الدالة على الإِعجاز إلى يوم القيامة، وهي قائمة الى اليوم حجة على العربي والأعجمي، لا يفترق في قبولها من يعرف لسان القرآن، عمّن لا يعرفه. فهي شفاء لأدواء المجتمع في كل العصور والأزمان﴾. وظن وظنوا أنه فتح جديد في إِعجاز القرآن، يفوق ما تعارف عليه القوم في الإِعجاز البياني والغيبي والعلمي؛ وأنه ﴿أقوى وجوه إِعجاز القرآن﴾ يفحم العربي والأعجمي معاً.
ومن الغريب المذهل، لو كان ذلك حقاً، أن يسهو عنه علماء الإِعجاز حتى اليوم! وأن يقوم مَن يردّد زعم الأستاذ أبي زهرة، مثل الأستاذ عبد الكريم الخطيب ٧ : ﴿إن النبي حمل الى الناس أمراً واحداً فقط هو الشريعة، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله﴾. ﴿فكيف ينسى هو أيضاً نفسه ويرى إِعجاز القرآن في ﴿الصدق المطلق﴾ الذي نزل به ـ علو الجهة المنزل منها ـ حسن الأداء: النظم والفاصلة ـ روحانية القرآن ٨ ؟ أم هي شهوة الابتداع، ولو كان بدعة، لتسفيه آراء الأقدمين، كما فعل الرافعي في (إِعجازه).
فهل إِعجاز القرآن في شريعته المعجزة؟
بحث أوّل
الشريعة القرآنية ﴿مدنية﴾: لا تحدّي فيها بإِعجازها
إن الإجماع منعقد على أن الشريعة القرآنية نزلت بالمدينة. وهذا أمر مشهود في القرآن المكي. فلا تشريع في مكّة. ﴿أخرج البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سور من (المفصّل) فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس الى الإسلام نزل الحلال والحرام﴾ ٩ . ولم يثب الناس الى الإسلام إلاّ في المدينة، ولم يدخلوا في دين الله أفواجاً إلاّ في آخر العهد بالمدينة. فالتشريع القرآني من زمن متأخر في الدعوة، وقد نزل من القرآن أكثره. وظاهرة كبرى أخرى في التشريع القرآني، ما قاله ابن حزم: ﴿إعلم أن نزول المنسوخ بمكّة كثير، ونزول الناسخ بالمدينة كثير﴾.
نستنتج من هاتين الظاهرتين:
أولاً: أنه لا تشريع بمكّة. وبما أن ﴿أقوى وجوه إِعجاز القرآن في شريعته﴾، فليس من إِعجاز في القرآن المكي.
ثانياً: إن القرآن يتحدّى ﴿بسورة مثله﴾ (يونس ٣٨) ﴿بسورة من مثله﴾ (البقرة ٢٣)؛ وبما أن أكثر القرآن لا تشريع فيه، فليس إِعجاز القرآن في تشريعه وشريعته.
ثالثاً: إن أكثر المنسوخ بمكّة، وإن الناسخ من المدينة: فالقرآن المدني ينسخ من القرآن المكي. والنسخ ليس دليلاً على الإِعجاز في التشريع. فالناسخ والمنسوخ في القرآن كله شبهة قائمة على الإِعجاز في التشريع القرآني.
رابعاً: وهكذا، فإن تأخر نزول الشريعة القرآنية حتى المدنية، وهي وجه الإِعجاز الأقوى، وربما الأوحد، في القرآن؛ فإن الإِعجاز في القرآن ليس من أصل التنزيل فيه ومن غايته.
خامساً: بما أن التحدي بإِعجاز القرآن، كما هو مشهود فيه، كان من أواخر العهد بمكّة، بعد أن عجز عن معجزة كالأنبياء الأولين، وفي مطلع العهد بالمدينة (البقرة ٢٣)، ثم سكت عنه في العهد المدني كله في مجابهة أهل الكتاب، أي في زمن نزول الشريعة القرآنية؛ فليس في القرآن من تحدّ بإِعجاز الشريعة على الإطلاق.
بحث ثان
أحكام الشريعة المحكمة قليلة، فليست دليلاً على إِعجاز القرآن كلّه
أوّلاً ـ الإِعجاز التشريعي يكون في آيات القرآن المحكمات، لا في آياته المتشابهات، لأن المحكمات هن أم الكتاب: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧). وبما أن المتشابه من القرآن، وهو أكثره، ﴿ما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا، كلٌّ من عند ربنا﴾ (آل عمران ٧)، فليس فيه من الإِعجاز في التشريع شيء. وبما أن الآيات المحكمات هي ﴿أوامره الزاجرة﴾، على حدّ قولهم في شبه إجماع ١٠ ، ﴿عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضاً؛ وعن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة﴾ ـ فإن أحكام الشريعة هي في أوامره الزاجرة في الحلال والحرام، المبيّنة في الآيات المحكمات.
ثانياً ـ وآيات الأحكام المحكمات قليلة: ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسماية آية. وقال بعضهم: مائة وخمسون. قيل: ولعلّ مرادهم المصرّح به، فإن آيات القصص والأمثال يُستنبط منها كثير من الأحكام﴾ ١١ . والأحكام القرآنية على نوعين: ﴿من الآيات ما صُرّح فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضمّ إلى آية أخرى... وإمّا به. ﴿ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة، وهو ظاهر؛ وتارة بالاخبار﴾.
بناءً عليه، هذه هي النتيجة المذهلة في إِعجاز القرآن:
١ ـ بما أن القرآن يعلن أن آياته المحكمات هنّ أم الكتاب، فهن إذن موضوع إِعجازه. وهذه الآيات المحكمات هي آيات الأحكام الخمسماية في الحلال والحرام من أصل ستة آلاف وستماية وستين آية. نقل النحاس ١٢ عن الحافظ الفارسي: ﴿وبعد فهذا كتاب جمعت فيه جميع ما في القرآن من الآيات الناسخة والمنسوخة، موجزة على حسب آيات القرآن: ألف آية أمر؛ وألف آية نهي، وألف آية وعد، وألف آية وعيد، وألف آية عبر وأمثال، وألف آية قصص وأخبار، وخمسماية حلال وحرام، وماية آية دعاء وتسبيح، وست وستون منسوخ. الجملة ٦٦٦٠ آية﴾. وهكذا لا يصح التحدي بإِعجاز القرآن، لأن آيات المحكمات، في أحكام الحلال والحرام، هي ٥٠٠ من أصل ٦٦٦٠.
٢ ـ لا يصح التحدّي بالإِعجاز التشريعي إلاّ بالأحكام المحكمة المصرح بها. ولا يصح التحدّي على الإطلاق بالأحكام المستنبطة استنباطاً.
والمشهود في أحكام القرآن المحكمة المصرّح به أنها مائة وخمسون. قال السيوطي: ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسماية آية. وقال بعضهم: مائة وخمسون؛ قيل: ولعل مرادهم المصرح به﴾.
فإذا كانت أحكام القرآن المحكمة المصرّح بها هي فقط مائة وخمسين، من أصل ٦٦٦٠ آية هي القرآن كله، فلا يصح التحدي بإِعجاز القرآن كله، بسبب ماية وخمسين آية. كما لا يصح التحدي بتشريع القرآن بسبب ماية وخمسين آية محكمة مصرح بها. فلا يصح الحكم بالبعض على الكل، وبالجزء على سائر الأجزاء. والإصرار بالحكم على هذه الطريقة، لا منطق فيه، ولا حكمة، ولا إِعجاز.
٣ ـ أحكام القرآن عن طريق التصريح والاستنباط هي خمسماية آية أو حكم. أما أحكام التوراة فهي ست مائة وثلاثون آية أو حكماً. والكتاب إمام القرآن في العقيدة وفي الشريعة. فليس الإِعجاز التشريعي في القرآن ميزة انفرد بها، حتى يصح التحدي به عن طريق القياس والمقابلة.
٤ ـ ناحية من الشـريعة هي الدستور الأخلاقي. والشرعة الأخلاقية في القرآن هي ﴿الكلمات العشر﴾ لموسى على سيناء: ﴿قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخُذْ ما آتيتُك وكن من الشاكرين. وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلاً لكل شيء﴾ (الأعراف ١٤٤ ـ ١٤٥). وتلك الكلمات العشر يردّدها القرآن بصور مختلفة، مع هذه الفاتحة: ﴿قلْ: تعالوا أتلُ ما حرَّم ربّكم عليكم﴾ (الأنعام ١٥١). فحتى في التشريع الأخلاقي يقتدي القرآن ويهتدي بهدى الكتاب الإمام، والكتاب المنير، التوراة والإنجيل.
وعليه، فليس التشريع القرآني وجهاً من وجوه الإِعجاز في القرآن. ولا يقوم تحدٍّ بإِعجاز القرآن بسبب ماية وخمسين آية من أحكامه المحكمة المصرح بها في ﴿آياته المحكمات (اللواتي) هنّ أم الكتاب﴾!
بحث ثالث
تشريع بحسب الحاجة، ولا ينزل مبتدئاً
ميزة التنزيل والتشريع في القرآن أنه نُزّل تنزيلاً وفُرّق تفريقاً، من بعض الآية، حتى خمس آيات أو عشر: ﴿وقال الذين كفروا: لولا أُنزل عليه القرآن جملة واحدة! ـ كذلك، لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلاً؛ ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً﴾ (الفرقان ٣٢ ـ ٣٣)؛ ﴿وقرآنا فرّقناه لنقرأه على الناس على مكث، ونزّلناه تنزيلاً﴾ (الإسراء ١٠٦). فبحسب نص القرآن القاطع، إن القرآن نزل مفرّقاً ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾ كما قال ابن عباس ١٣ ، واستشهد بقوله: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً﴾. والسر والحكمة في تنزيل القرآن نجوماً، مفرّقاً، ما نقله أيضاً السيوطي: ﴿إنما لم ينزل جملة واحدة، لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقا. ومنه ما هو جواب لسؤال. ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فِعل فُعل. وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾. فكان التنزيل القرآني والتشريع فيه بحسب الحاجة وظروف الحال.
وهذه هي الظاهرة الكبرى في الشريعة القرآنية. قال محمد صبيح: ﴿أورد كتاب (تاريخ التشريع): كانت الآيات التشريعية، وهي آيات الأحكام، تنزل على رسول الله ﷺ في الغالب جواباً لحوادث في المجتمع الإسلامي. وتعرف هذه الحوادث (بأسباب النّزول). وقد اعتنى بها جماعة من المفسرين وألفوا فيها كتباً وجعلوها أساساً لفهم القرآن. وأحياناً كانت تنزل الآيات جواباً على أسئلة يسألها بعض المؤمنين. وقليلاً ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة... فقلّما ترى حكماً لم يذكر له المفسرون حادثاً أُنزل الحكم مرتّبا عليه﴾ ١٤ . فميزة التشريع القرآني الذاتية مزدوجة: إنه تشريع المناسبة الطارئة؛ وقليلاً ما كان ينزل مبتدئاً. والنتيجة الحاسمة لتلك الميزة هي أيضاً مزدوجة: تشريع يأتي بحسب الحاجة الطارئة وظروف الحال العابرة، لا يكون من الإِعجاز في التشريع الذي يتحدّى كل تشريع، حتى يصح أن يكون معجزة. والأصل في التشريع المنزل أو الوضعي أن يأتي مبتدئاً، يوضع وتسير الدعوة والسيرة على هداه. فالشريعة نور وهدى في النبوّة والرسالة تسيران على ضوئهما، لا تتسكعان وراءَهما. وما يرفع الإِعجاز عن التشريع القرآني قوله: ﴿ولا يأتونك بمثل، إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً﴾ (الفرقان ٣٣)؛ كأن جبريل والكفّار في سباق على أفضل مثل وأحسن تفسير. فالتشريع المعجز الذي يصح التحدّي به هو الذي ينزل مبتدئاً، وتجري السيرة والنبوّة على هداه، لا الذي يأتي طارئاً بحسب الحاجة وضرورة الحال. فالتشريع التوراتي نزل مبتدئاً على موسى في سيناء، في الكلمات العشر، وسارت الرسالة على هداه. والتشريع الإنجيلي وضع السيد المسيح دستوره في خطبته التأسيسيّة على الجبل (متى ٥ ـ ٧)، وسارت الدعوة على هداه، وعلى نوره يقضي السيد المسيح في المسائل والمشاكل الطارئة. وتشريع لا ينزل مبتدئاً، بل بحسب الحاجة وظروف الحال، هل هو من الإِعجاز في التشريع!
بحث رابع
التشريع القرآني دستور أم قانون؟
التشريع القانوني ابن بيئته، وابن ساعته، يرعى ضرورة الحال، لا مصلحة الاستقبال. والتشريع الدستوري مبادئ عامة تتخطّى ظروف الزمان والمكان، لكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان. وواقع الحال في القرآن، وكتب (أسباب النّزول) تشهد أن التشريع القرآني كان ابن بيئته، وابن ساعته. فهو لا يتخطى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل زمان ومكان. ظل التشريع القرآني ينزل ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾، ويتطور بين تبديل ومحو، واسقاط ونسخ، حتى فاجأه موت الرسول ولم يكتمل. يقول الأستاذ دروزة ١٥ : ﴿إن جُلَّ الآيات والفصول التشريعيّة، إن لم نقل كلها، قد نزلت إجابة على أسئلة واستفتاءات، أو بمناسبة حوادث ووقائع وظروف متصلة بالسيرة النبوية، ومواقف وتصّرفات المسلمين وغير المسلمين في أثنائها: فكانت من جهة حلاًّ لمشاكل ومسائل واقعية، ومن جهة تشريعاً مستمر الحكم والتلقين والمدى. وفي التشريع القرآني بعض التطورات: نعني أن هناك أحكاماً أو أوامر ونواهي أبكر من أحكام وأوامر ونواه: وأن من المتأخر ما جاءَ ناسخاً أو معدّلاً للمتقدم على حسب ما اقتضته الحكمة من مراعاة الظروف أو التطابق معها سلباً وإيجاباً، وتخفيفاً وتشديداً وضيقاً وسعة﴾.
وتشريع كهذا هو تشريع قانوني، لا دستوري. لأن التشريع الدستوري، في مدة عشر سنوات وما دون، لا ينزل متأخراً عن النبوّة والرسالة، ولا يعتريه نسخ أو تعديل.
وهاك مثلاً على قيـام التشريع الديني في القرآن، من شِرْعة الصيام. قال دروزة ١٦ ﴿هناك روايات أن النبي ﷺ قد صام عاشوراء، وحضّ على صيامه، قبل نزول آيات فرض صيام رمضان (البقرة ١٨٣ ـ ١٨٧). ولقد قال بعض العلماء والمفسرين بوجود ناسخومنسوخ في آيات الصوم، إذاستدلّوا، من الآية الثانية على أن الصيام فُرض في أوَّل الأمر بصورة عامة، وبدون تحديد شهر كامل، مع تخيير المسلمين القادرين عليه بين الصيام والفداء عنه بإطعام مسكين عن كل يوم. ثم أُكّدت الفريضة بالآية (١٨٥)، إذ جعلت كامل شهر رمضان وحتِّم صيامه على غير المريض والمسافر، ونسخ التخيير بين الصوم والفداء بالنسبة الى القادرين. وفي هذا مظهر من مظاهر التطور. والآية الأخيرة (١٨٧) تدل على أن المسلمين وقعوا في شيء من الحرج أو الإثم في صدد قرب نسائهم في ليالي الصوم؛ وبعض العلماء يقولون إنها ناسخة لأمر كان يعتبره المسلمون واجباً (عدم الجماع ليلة الصوم) فخفّف الله عنهم حينما ظهر الحرج﴾.
أما الحجّ فيقول عنه أيضاً دروزة: ﴿إن تشريع الحج (الحج ٢٥ ـ ٣٥) تشريع مدني (البقرة ١٥٨ و١٨٩ و١٩٦ ـ ٢٠٣ ثم آل عمران ٩٦ ـ ٩٧ ثم المائدة ١ ـ ٢ مع ٩٤ ـ ٩٧). وجلّ المناسك والطقوس التي أشارت إليها الآيات وشرعتها ـ إن لم نقل كلها ـ قد أُقر على ما كان عليه قبل البعثة، بعد تهذيبه من المناظر القبيحة وتجريده من شوائب الشرك والوثنية. وفي الآيات صور واقعية وخطوات تطورية. ويُفهم من آية البقرة (١٩٨) أن المسلمين تحرّجوا من الاشتغال بالتجارة في أثناء أشهر الحج ـ وقد كان العرب يقيمون الأسواق التجارية في هذه الأثناء ـ فأباحت الآية لهم ذلك. ويُفهم من آيات المائدة (٩٤ ـ ٩٥) أن العرب كانوا يحرّمون صيد البَر والبحر في أشهر الحج المحرَّمة فأباحت صيد البحر للتخفيف عن الناس. كما أنها جعلت حالة التحريم مقصورة على وقت الإحرام الذي حدّدته السُنة بلبس الثياب غير المخيّطة حين دخول المسلم منطقة الحرم. ويفهم من آيات الحج (٢٥ ـ ٣٥) أن العرب كانوا يتحرّجون من أكل لحوم قرابينهم فأباحت لأصحابها الأكل منها وإطعام غيرهم وخاصة الفقراء﴾. تشريع كهذا هو ابن بيئته وابن ساعته، يخضع لظروف الزمان والمكان، ولا يتخطاها الى التاريخ والبشرية كلها. وتشريع قانوني ابن ساعته، وابن بيئته، ويكون على مقتضى ظروف الزمان والمكان، قد لا يصلح لكل زمان ومكان في تطور البشرية المستديم. فقوله مثلا: ﴿للذكر مثل حظ الانثيين﴾ في الميراث؛ وقوله مثلاً في مواقيت الصيام ﴿حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود﴾ (البقرة ١٨٧)، سيأتي زمن لا تطيق البشرية ذلك، في عهد المساواة بين الرجل والمرأة، وفي عهد الساعة التي تحدّد وقت الصوم بدقة أكثر من شريعة الخيط الأبيض أو الأسود. وهل سترضى المدنية بالتيمّم بتراب طهور، بدل الوضوء بالماء؟ وتشريع قانوني، ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾، كما يصفه ابن عباس، ترجمان القرآن، هل هو من الإِعجاز في التشريع الدستوري لكل زمان ومكان؟
بحث خامس
مصادر التشريع الإسلامي
١ ـ المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو القرآن.
وكان يجب أن يكون المصدر الوحيد، لو كان التشريع القرآني كاملاً شاملاً، يصلح لكل زمان ومكان، حتى يصح التحدّي بإِعجازه. لكن بما أن التشريع القرآني ناقص، لا يفي بحاجة الأمة والجماعة في تطورها عبر الزمان والمكان، أُلجئوا الى التفتيش له عن مصادر أخرى.
٢ ـ فالمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، بعد القرآن، هو السُنّة الرسولية. وغالى بعض أهل السُنّة بصواب هذا المصدر الثاني فقالوا أحيانا بنسخ القرآن بالسنة. وتشريع في كتاب الله تنسخه سُنّة رسوله، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟
ثم ان السُّنّة مبيّنة في الحديث: فهل الحديث مصدر صحيح موثوق لا شبهة عليه؟ قال النووي في شرح صحيح مسلم: ﴿قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلاّ بشرطهما فيها، ونزلت عن درجة ما التزماه. وقال ابن خلدون: إنني أعتقد صحة سند حديث، ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثّقوا رجاله. فرُبّ راوٍ يُوَثّق للاغترار بظاهر حاله، وهو سيء الباطن. ولو انتقدت الروايات، من جهة فحوى متنها، كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض﴾.
وأهـل المدرسة الحديثة يكـادون يشكون في الحديث كله. يقول عبد الله السمّان ١٧ : ﴿واذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقّدة تجعل الباحث في حيرة لا تنتهي ولا تقف عند حد. ففي عهد النبي لم يُدوّن الحديث (وقد منع من تدوينه)، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، وذلك خشية أن يختلط الحديث بالقرآن. ولم يكد يتولّى الخليفة الثالث عثمان حتى بدأت تتولّد الخلافات السياسية، وظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها الى النبي، لتكون مؤيدا لحزب سياسي، أو ناقضاً لحزب آخر، وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التي تدثّرت بالدماء في معظم الأحايين، وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الإسلام ويُشغلوا العامة عن أصوله، لتنصرف الى شكلياته. كما تطوّع كثير من السذّج والبسطاء فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، ظنّاً منهم أن في هذا خدمة للدين؛ ولو عقلوا لأدركوا أنهم أساؤوا إلى الدين أكبر اساءَة... ولم يبدإِ التدوين إلاّ في عهد المأمون؛ وذلك بعد أن اختلط الحديث الصحيح في الحديث الكذب، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، كما يقول الدار قطني، أحد جامعي الحديث المعروفين﴾.
لذلك قام الخلاف الأكبر بين السنة والشيعة على صحة الحديث، وعلى صحة اعتباره مصدراً للتشريع الإسلامي. فقال أهل السنة بأن مصدر التشريع الكتاب والسنة؛ وقالت الشيعة بأن الكتاب وحده مصدر الشريعة، وأنكروا السُنّة كمصدر للتشريع.
ومصدر مشبوه كالحديث في متنه، وسنده، ومصدره، هل يصح مصدراً للتشريع؟ وتشريع مبني على مصدر مشبوه، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟
٣ ـ وتطورت الحياة الإسلامية، وتطورت معها الحاجة الى مزيد من التشريع لقيام مصالحها. وتلفتوا الى الكتاب والسنة، فلم يجدوا فيهما كل ما تحتاجه الأمة من تشريع. فلجأوا إلى مصدر ثالث للتشريع الإسلامي: الرأي، أي اتفاق أهل النظر في المصالح العامة، دون سواد الأمة، لأنه اجماع أهل العلم، في العلم.
وعن الأستاذ الأكبر، محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر، في كتابه (العقيدة والشريعة)، ينقل ناقده ١٨ : ﴿ذكر فضيلة الأستاذ الأكبر عند الكلام عن الرأي ـ كمصدر للتشريع ـ أن عهد الرسول قد تركّز فيه مصدران للتشريع هما القرآن والسنة، وكان أصحابه من بعده يرجعون الى القرآن والسنة؛ فإن لم يجدوا حاجتهم بحثوا مستلهمين روحالشريعة. وكان أخذ الرأي بطريق الاستشارة مصدراً جديداً ظهر العمل به بعد وفاة الرسول، في ما لا نص فيه من كتاب أو سُنة، أو في ما فيه نص محتمل. وترجيح حجّية الرأي في التشريع الى تقرير القرآن مبدأ الشورى، وأمره بردّ المتنازع فيه إلى أولي الأمر؛ ثم بعد ذلك ثبوت إقرار النبي لأصحابه الذين كان يبعثهم الى الأقاليم على الاجتهاد والأخذ بالرأي﴾.
وتشريع بحاجة ﴿الى الاجتهاد والأخذ بالرأي﴾ هل هو من الإِعجاز في التشريع؟
٤ ـ وهناك مصادر أخرى الجأتهم الحاجة الى استنباطها لإكمال مصادر التشريع الإسلامي. فهل الحاجة المستمرة، في تطور حياة الجماعة، الى استنباط مصادر أخرى للتشريع، غير المصدر المنزل، دليل على إِعجاز التشريع المنزل وكفايته؟ إن الاعتماد المتواتر على مصادر أخرى، غير الكتاب، في مصادر التشريع الإسلامي، لخير دليل على عدم كفاية التشريع المنزل: فكيف تكون الشريعة القرآنية معجزة للتحدي؟
بحث سادس
﴿أكثر الأحكام الإسلامية من النوع الاجتهادي﴾
لكي يصح التحدي بشريعة كأنها معجزة، يجب أن تكون أحكامها من الشرع المنزل المحكم الذي لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد.
١ ـ والتشريع القرآني بحاجة الى السنّة لبيانه؛ ﴿وقد تكفلت بذلك السُنة النبوية شأن كثير من الحدود والقواعد ١٩ ﴾. ويقول بعضهم: وقد تنسخ السُنة القرآن. وتشريع منزل بحاجة الى سنة الرسول، في حديث مشبوه، لبيانه، ليس من الإِعجاز في التشريع.
٢ ـ والتشريع القرآني، بعد الكتاب والسنة، بحاجة الى الرأي والاجتهاد لبيانه. وتشريع منزل يفتقر بعد الكتاب والسُنة الى الرأي والاجماع بالاجتهاد لبيانه، كمصدر ثالث لأحكامه، ليس بالتشريع الجامع المانع، الشامل الكامل، التشريع المعجز بذاته الذي يصح التحدي به.
٣ ـ فمصادر التشريع الإسلامي المتعدّدة تجعله تشريعاً اجتهاديّاً. إن الشيخ الأكبر؛ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر ﴿يقسم الحكم في الشريعة الى نوعين: حكم نص عليه القرآن والسنة نصّاً صريحاً لا يحتمل التأويل، ولا يحتمل الاجتهاد ـ وهو قليل؛ والنوع الآخر حكم لم يرد به قرآن ولا سُنة، أو ورد به أحدهما، ولم يكن الوارد به قطعيّاً فيه، بل محتملاً له ولغيره، وكان ذلك محلاًّ لاجتهاد الفقهاء والمشرّعين: فاجتهدوا فيه، وكان لكل مجتهد رأيه ووجهة نظره. وأكثر الأحكام الإسلامية من هذا النوع الاجتهادي﴾. ٢٠
وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي، هل يكون معجزة الشريعة الى يوم القيامة؟ وهل يصح أن نجعله، مع الشيخ أبي زهرة وغيره، معجزة الإِعجاز القرآني الكبرى؟ ألا يكفي القرآن إِعجاز نظمه وبيانه؟
٤ ـ ويرى الدكتور السنهوري ٢١ أن الفقه الإسلامي، المبني على الشرع الإسلامي، بحاجة الى تطوير ليصلح للعصر الذي نعيش فيه. قال: ﴿والهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإسلامي، وفقاً لصناعته، حتى نشتق منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه. وليس القانون المصري أو القانون العراقي الجديد، إلاّ قانوناً مناسباً في الوقت الحاضر لمصر أو للعراق. والقانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل ولجميع الدول العربية، إنما هو ﴿القانون المدني﴾ الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية بعد أن يتم تطوّرها﴾.
وشريعة بحاجة الى تطوير لتصلح للعصر الذي نعيش فيه ليست بمعجزة الشريعة. وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي ليس من الإِعجاز في التشريع المنزل.
بحث سابع
تشريع يعتريه التبديل والمحو والإسقاط والنسخ
إن التشريع المنزل الذي يصلح للتحدي هو التشريع المحكم الذي ينزل مبتدئاً، ولا يعتريه تبديل ولا محو ولا اسقاط ولا نسخ.
١ ـ والتشريع القرآني يعتوره التبديل، بنص القرآن القاطع: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ!﴾ (النحل ١٠١). هذه الظاهرة من مكّة، وقد دامت الى وقت التشريع بالمدينة، كما يؤيدها مبدأ النسخ وواقعه (البقرة ١٠٦)، والى العرضة الأخيرة. وتشريع يعتوره تبديل في مدى عشر سنوات لا يكون معجزاً بذاته.
٢ ـ والتشريع القرآني يلحقه المحو، بنص القرآن القاطع: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب﴾ (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). وتنزيل بالتشريع، مثبت في أم الكتاب، أي أصله الذي لا يتغير منه شيء، كيف يلحق به المحو مثبتاً أو منزلاً؟ وتشريع يقتضي المحو بعد تنزيل، في مدى عشر سنوات، لا يكون معجزاً بذاته.
٣ ـ والتشريع القرآني آفته الاسقاط منه ٢٢ ، بعد تنزيله. بحسب الحديث المتواتر كان يجري اسقاط من القرآن في عرضاته السنوية على جبريل؛ وفي العرضة الأخيرة سقط منه منسوخ كثير رفعت تلاوته وأحكامه. وعند جمع القرآن ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾؛ ﴿قبل أن يغيّر عثمان المصاحف﴾، على قول ابن عمر والسيدة عائشة ٢٣ . وتشريع يقتضي الاسقاط منه لتقويمه، في مدى عشر سنوات، لا يكون معجزاً بذاته.
٤ ـ والتشريع القرآني يعتريه النسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦). وقد يقع النسخ فيه بين المدني والمكي؛ وفي المدني بين السورة والسورة، وفي السورة نفسها بين آية وآية، وأحياناً في الآية الواحدة. قال السيوطي ٢٤ : ﴿النسخ ممّا خصَّ الله به هذه الأمة﴾. وقد وقع النسخ أثناء التنزيل. وفي العرضة الأخيرة للقرآن رُفع من المنسوخ كثير. ومع ذلك فقد احتوى مصحف علي كثيراً من المنسوخ، قضى عليه عثمان عند جمعه القرآن. وفي المصحف العثماني بقي ناسخ ومنسوخ تُؤلف فيه الكتب الى اليوم. وتشريع يعتريه النسخ في جميع أطواره لا يكون معجزاً بذاته.
وتشريع يتّصف بذاته بالتبديل والمحو والاسقاط والنسخ هل يكون من الإِعجاز في التشريع؟
بحث ثامن
تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير
للقرآن أسلوب مطّرد في بيانه، وهو التعميم في معرض التخصيص، والتخصيص في معرض التعميم. ومن أساليبه اطلاق الحكم مع قيده باستثناء أو سواه. ومن أساليبه اصدار الحكم عن الخاص الى العام مستمر التلقين، لمن كان بمنزلة الشخص المعين. وقد تصدر الأحكام فيه على ﴿رتبة متوسطة، دون السبب (المخصُوص)، وفوق التجرّد﴾؛ فتلك ثلاثة أنواع. وقد يأتي الحكم العام تالياً للخاص في الرسم متراخياً عنه في النزول. لذلك قال بعضهم: لا يصح تفسير الكتاب إلا بعد معرفة ﴿أسباب النّزول﴾.
ومعرفة (أسباب النّزول) لها فوائد ٢٥ : ﴿منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. ومنها تخصيص الحكم به، عند مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب. ومنها أن اللفظ قد يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عُرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته. ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تميمة: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبِّب... ومنها دفع توهم الحصر. ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية، وتعيين المبهم فيها. واختلف أهل الأصول: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب﴾.
ومن الأحكام المتشابهة التي لا يُعرف حدّها إلاّ بسبب نزولها مثل قوله: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا﴾ فظنها بعضهم مبيحة لشرب الخمر، وهي مقصورة على أناس قُتلوا في سبيل الله قبل تحريمها؛ ومثل قـوله: ﴿فأينما تولوا فثِمَّ وجه الله﴾، فمدلول اللفظ يقتضي أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفراً ولا حضراً، وهو خلاف الاجماع، فلمّا عُرف سبب نزولها عُلِمَ أنها في نافلة السفر أو فيمن صلّى بالاجتهاد وبان له الخطأ، على اختلاف الروايات؛ ومثل قوله: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض، وقد ذهب بعضهم الى عدم فريضته تمسكاً بذلك؛ ولكن سبب نزولها يدل على فرضها، وهو أن الصحابة تأثّموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، فنزلت...
وهكذا يظهر على كثير من أحكام القرآن تشابه لا يُرفع إلاّ بغيره من القرائن القرآنية أو من (أسباب النّزول). وتشريع يشوبه تشابه في لفظه هل هو من الإِعجاز في التشريع؟
بحث تاسع
من ميزات التشريع القرآني
للتشريع القرآني ميزات يختص بها، هي دلائل على مدى إِعجازه.
١ ـ ميزته الأولى: التخفيف في أحكام أهل الكتاب، وفي أحكام الجاهلية نفسها. بتشريع القرآن ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم... يُريد الله أن يخفِّف عنكم، وخُلق الانسان ضعيفاً﴾ (النساء ٢٦ و٢٨). من ذلك تحليل ﴿الرفث الى النساء ليلة الصيام﴾ (البقرة ١٨٧)، وكان محظوراً عند أهل الكتاب. ومن ذلك، في الصيام، العِدّة من أيام أُخر لمن كان مريضاً أو على سفر، إذ ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة ١٨٥)...
وقد يأتي التخفيف في أحكام الجاهلية نفسها، كالتي في مناسك الحج في إباحة التجارة. (البقرة ١٩٨)، أو في ما ﴿استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام﴾ عشرة أيام (البقرة ١٩٦) أو قبول جميع المواقف في مناسك الحج تألّفا لأصحابها كالسعي بين الصفا والمروة (البقرة ١٥٨)، أو العفو عن القصاص في القتلى، ﴿ذلك تخفيف من ربكم﴾ (البقرة ١٧٨).
ومبدأ التخفيف في الأحكام قد يطبقه القرآن على محرّماته، عند الضرورة، كقوله: ﴿إنما حُرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير... فمن اضطُرّ غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه﴾ (البقرة ١٧٣). ويطبّقه في الإيمان والتوحيد، بإظهار الشرك عند الحاجة: ﴿من كفر بالله، بعد إيمانه ـ إلاّ مَن أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان ـ ولكن مَن شرح بالكفر صدراً، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم﴾ (النحل ١٠٦) فهذا المبدأ يلغي الاستشهاد الحق في سبيل الإيمان. وكان المبدأ الفقهي: الضرورات تبيح المحظورات.
وتشريع سمته التخفيف في أحكامه عن أمته، هل هو من الإِعجاز في التشريع لخلق خير أمة أخرجت للناس﴾؟
٢ ـ ميزته الثانية: التسهيل في مداورة الأحكام بفرض التحلة والكفّارة، أو الفدية.
يقول في القسم: ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم﴾ (البقرة ٢٢٤)؛ ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ (المائدة ٨٩)؛ ﴿ولا تتّخذوا إيمانكم دَخَلاً بينكم، فتزل قدم بعد ثبوتها... ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً﴾ (النحل ٩٤ و٩٥). ثم يقول: ﴿قد فرض الله لكم تحلّة إيمانكم﴾ (التحريم ٢)، وكان ذلك مقدَّمة لتحلة محمد من قسمه الى بعض أزواجه. كذلك: ﴿لا يُؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الإيمان؛ فكفارته: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتُهم، أو تحرير رقبته؛ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ـ ذلك كفّارة أيمانكم اذا حلفتم ـ واحفظوا أيمانكم ـ كذلك يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون﴾ (المائدة ٨٩).
وقد شرع الفدية في الصوم: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية: طعام مسكين﴾ (البقرة ١٨٤). قال البيضاوي: ﴿رُخص لهم في ذلك أوّل الأمر، لمّا أُمروا بالصوم، فاشتدَّ عليهم لأنهم لم يتعوّدوه ثم نُسخ... (وهناك قراءات أخرى للآية)، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانياً، وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده، وهم الشيوخ والعجائز، في الافطار والفدية، فيكون ثابتاً، وقد أُوّل به القراءَة المشهورة أي يصومونه جهدهم وطاقتهم﴾. والفدية لمن كان مريضاً أو على سفر في الصيام لم تُنسخ (البقرة ١٨٤ ـ ١٨٥).
كذلك شرع الفدية في الحج بحلق الرأس للمضطرّ (البقرة ١٩٦).
ومتى وُضع مبدأ التحلة والكفّارة والفدية للتخلّص من أحكام الشريعة، جازت مداورتها لمن يريد ويهوى. فإذا جاز مداورة الشريعة بمبدأ الكفّارة أو الفدية فكيف تصير أخلاق المؤمن؟
٣ ـ ميزته الثالثة: رفع الحرج في الدين وشعائره وأحكامه. فكان هذا المبدأ: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج ٧٨). وطبّقه بالتيمّم بتراب طهور، بدل الوضوء بالماء (المائدة ٦). وطبّقه حتى في التظاهر بالكفر والشرك عند الضرورة، ﴿لمن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل ١٠٦). وكان النبي نفسه ﴿أسوة حسنة﴾ (الأحزاب ٢١) برفع القرآن الحرج عنه في حدود شريعة الزواج وقيودها. فقد ألغى شريعة التبنّي الجاهلية ـ وهي عالمية حتى اليوم ـ وأخذ محمد مطلقة متبنّاه زيد ﴿لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم... ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له﴾ (الأحزاب ٣٧ ـ ٣٨). وأحلّ له جميع قريباته، فوق نسائه، ﴿وامرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي، إن أرد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين: قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم. لكيلا يكون عليك حرج، وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الأحزاب ٥٠). ورفع عنه حدود الطلاق والعزل والعدل بين نسائه: ﴿ترجئ مَن تشاء، وتؤوي إليك مَن تشاء. ومن ابتغيت ممن عزلت، فلا جُناح عليك﴾ (الأحزاب ٥١).
وقد وصل رفع الحرج حتى في القرآن نفسه، فنزل: ﴿طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ (طه ١ ـ ٢)؛ ﴿كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه﴾ (الأعراف ٢). ورفع الحرج عن النبي في تنزيل القرآن يفسّر لنا بعض مظاهره من تبديل أو محو أو نسخ.
وقد استخلص الفقهاء من ذلك أن الحرج في الدين وأحكامه والشريعة وأحكامها مرفوع شرعاً، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات. إن التكليف بالشريعة يلازمه الحرج في تطبيقها. ومتى رُفع الحرج، بتقدير المكلَّف وقدرته، زالت حرمتها وقدسيّتها! ومتى كان الحرج في التكليف بالشريعة مرفوعاً شرعاً، ومتى كانت الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، فعلى الشريعة وأحكامها السلام.
٤ ـ ميزته الرابعة: مبدأ الكَسْب في الإثم والخطيئة والسيئة
المبدأ في القرآن: ﴿بلى، مَن كسب سيئة، وأحاطت به خطيئته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة ٨١)؛ واتقوا يوماً تُرجَعون فيه الى الله، ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون﴾ (البقرة ٢٨١). ويقول: ﴿ومن يكسب إثماً فإنما يكسِبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً﴾ (النساء ١١١). مع ذلك فهو يقول: ﴿لا يكلَّف الله نفساً إلاّ وسعها: لها ما كَسَبَت، وعليها ما اكتسبت﴾ (البقرة ٢٨٦). فليس من كسب أو اكتساب في التكليف إلاّ على وُسْع الانسان. وهذا تقدير ذاتي قد يذهب بالتكليف ذاته.
يقول أيضاً: ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه: إن الذين يكسبون الإثم، سيُجزون بما كانوا يقترفون﴾ (الأنعام ١٢٠). وبناءً عليه يقول: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم﴾ (البقرة ٢٢٥)؛ ويقول ﴿إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾ (البقرة ٢٨٤) أي يشرع المحاسبة على الوسوسة. ثم ينسخها بقوله: ﴿لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعهاً﴾ (البقرة ٢٨٦). إن باطن الاثم كالوسوسة بالشر إخفاء له نُحاسب عليه، فكيف لا يكلف الله نفساً إلا وسعها بالكسب العملي الظاهر؟
ثم ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم﴾ (البقرة ٢٢٥). كأن اللغو باسم الله العظيم لا كسب فيه للإثم! لذلك درجت العادة بالقسم باسم الله (بدون كسر الهاء) كأنه لا إثم فيه. ولا تمنع اليمين من الاصلاح بين الناس عن طريق الكذب الظاهر (البقرة ٢٢٥)؛ أو عمل ما هو أفضل من الأمور المقسوم عليها ﴿كقوله عليه السلام لابن سمرة: اذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها فأتِ الذي هو خير، وكفّر عن يمينك﴾ (البيضاوي).
فالكسب للإثم هو طوراً ﴿ظاهر الاثم وباطنه﴾؛ وهو طوراً ﴿بما كسبت قلوبكم﴾؛ وهو طوراً مَن ﴿أحاطت به خطيئته﴾ من ظاهر العمل. فالكسب في الإثم متشابه، وهذا ممّا يجعل درء حدود الأحكام سهلا. وعلى كل حال، يصح درء الحدود بالشبهات. وتشريع لا تتضح فيه معالم الشر والاثم والذنب هل هو من الإِعجاز في التشريع؟
٥ ـ ميزته الخامسة: استباحة ﴿اللمم﴾ في الإثم والفواحش
من صفات المحسنين، في القرآن، استباحة اللمم في الآثام والفواحش: ﴿ولله السماوات وما في الأرض، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم: إن ربك واسع المغفرة﴾ (النجم ٣١ ـ ٣٢). فصغائر الاثم واللمم في الفواحش لا تمنع الحسنى لدى الله.
فالمحسنون، في عرْف القرآن، هم ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش﴾ (الشورى ٣٧).
والمبدأ في الجزاء: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه، نكفّر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلاً كريماً﴾ (النساء ٣١)؛ مع أن كتاب الحساب في يوم الدين لا يترك صغيرة ولا كبيرة: ﴿ووضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه، ويقولون: يا ويلتنا، ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً﴾ (الكهف ٤٩)؛ ومع أن ﴿الحسنات يذهبن السيئات﴾ (هود ١١٤).
ومبدأ آخر في الجزاء: إن عباد الرحمان ﴿الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا يزنون ـ ومَن يفعل ذلك يلق آثاماً، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الفرقان ٦٨ ـ ٧٠). فعباد الرحمان جزاؤهم مضاعف، وتوبتهم تبدِّل سيئاتهم حسنات.
فالخلْق الحسن، والثواب الحسن، في اجتناب ﴿كبائر الاثم والفواحش﴾. أمّا صغائر الآثام، واللمم في الفواحش، فلا عبرة له في الجزاء. وتشريع يستبيح صغائر الآثام، واللمم في الفواحش، هل هو من الإِعجاز في التشريع الديني والخلقي؟ وهل يعطي ﴿خير أمة أُخرجت للناس﴾ أسوة حسنة للعالمين؟
٦ ـ ميزته السادسة: الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له
إن الشرك اثم عظيم: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً﴾ (النساء ٤٨). وإن الشرك ضلال بعيد: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومَن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً﴾ (النساء ١١٦). وهذا التعليم ينسبه القرآن للمسيح: ﴿وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه مَن يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار﴾ (المائدة ٧٢).
لا شك أن الشرك إثم عظيم وضلال بعيد ومأواه النار. ولكن مَن خُلق مشركاً، وهو قانع من وجدانه أنه على حق، فهل يكون مصيره النار؟ ألا يقول: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أُمّها رسولاً فيتلو عليهم آياتنا! وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون﴾ (القصص ٥٩)، ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، وأهلها غافلون﴾ (الأنعام ١٣١) فتلك الأشراط الثلاثة للإهلاك تجعل المشرك غير مسؤول عن شركه، فلا يُحاسب عليه. إن الشرك المسؤول هو الشرك الظالم الذي يعرف نفسه وظلمه. فليس جميع المشركين الغافلين وغير الظالمين، مأواهم النار! وليس الشرك الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له. إن صاحب الكبيرة غير التائب لا مغفرة له أيضاً؛ وإن اختلفوا هل هو في النهاية من أهل الجنة أم مِن أهل النار، أم في منزلة بين المنزلتين. واستنتاجهم من آية الشرك (النساء ٤٨) أنه لا يخلّد في النار مؤمن، ولا ينجو من النار مشرك، ليس بمنطق ولا صواب. والقول: ﴿لا يخلّد في النّار مؤمن﴾ هو باب فساد وإفساد للمؤمن. والقول الحق قوله: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (البقرة ٦٢). فشرط النجاة من النار ليس الإيمان وحده، بل الإيمان المقرون بالعمل الصالح. فإذا كان الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له، وكان المسلم صاحب الكبيرة لا يُخلّد في النار، جاز له أن يستبيح أحكام الشريعة كلها: فهل هذا من الإِعجاز في التنزيل والتشريع؟
تلك هي ميزات التشريع القرآني الذاتية. ونتساءَل أين فيها معجزة الشريعة التي يصح بها تحدي العالمين؟ فهل التخفيف في أحكام أهل الكتاب والجاهلية والقرآن نفسه؛ هل التسهيل بمداورة أحكام القرآن بالتحلة والكفّارة والفدية؛ وهل رفع الحرج في أحكام الدين والشريعة؛ وهل حصر الكسب في الإثم والخطيئة والسيئة بالعمل الظاهر من دون المحاسبة على السوء من فكر أو شهوة أو رغبة لم تقترن بعمل؛ وهل استباحة الصغائر في الآثام واللمم في الفواحش؛ وهل اقتصار الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له على الشرك وحده من دون سائر الكبائر، هي كلها من دلائل الإِعجاز في التشريع؟
بحث عاشر
التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي
إن التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي، وذلك بنص القرآن القاطع: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليكم حكيم﴾ (النساء ٢٦). إن صراحة هذا التصريح تدلنا على سعة مدلول التحدي في قوله: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتّبعه، ان كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩). إنه يتحدى المشركين بهدى الكتاب والقرآن معاً أي بعقيدتهما وشريعتهما. فالتحدي بالشريعة لا ينفرد به القرآن حتى يكون معجزة له، إنما هو ميزة الكتاب والقرآن معاً. وكما أن القرآن تابع في هداه لكتاب الإمام، فهو تابع له في الشريعة أيضاً: فالإِعجاز في الشريعة والسُنن يكون في الإمام المتبوع قبل التابع. بذلك تزول عن القرآن صفة التحدي بشريعته كمعجزة له.
والقرآن في الدين كله، سواء العقيدة والشريعة والصوفية، في سننه وأحكامه، إنما يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً، أمةً واحدةً: شرع لكم من الدين... ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه﴾ (الشورى ١٣). فدين الكتاب، دين موسى وعيسى معاً، هو الدين للعرب: ﴿تلك أمتكم أمة واحدة﴾ (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢) في وحدة الأمة والدين والشريعة. فلا ميزة للقرآن وأهله بها ينفردون، وبها يتحدّون. فإن الأمر، منذ رؤيا غار حرّاء، جاءَ محمداً أن يقتدي بهداهم: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِهْ﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠) في العقيدة والشريعة، في الأحكام والسنن. فالإِعجاز في الهدى، من عقيدة وشريعة، الذي به يقتدي في الدعوة القرآنية. ﴿والذين آتيناهم الكتاب والحكم﴾ هم الذين يقيمون ﴿الكتاب والحكمة﴾ معاً، دين موسى وعيسى معاً، النصارى من بني إسرائيل، الذين يختصّهم باسم ﴿مسلمين﴾، ويُؤمر بأن ينضم اليهم ويتلو قرآن الكتاب على طريقتهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النحل ٩١ ـ ٩٢). فالإِعجاز في العقيدة والشريعة هـو عند هؤلاء ﴿المسلمين﴾: فمـا محمد سوى تلميذ لهم في ﴿الإسلام﴾. وهؤلاء ﴿المسلمون﴾ هم ﴿أولو العلم المقسطون﴾ الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿ان الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فشهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يشهد بشهادة هؤلاء ﴿الراسخين في العلم﴾ بالإسلام في عقيدته وشريعته. فالإِعجاز الحق في الشريعة، كما في العقيدة والهدى، هو عند هؤلاء ﴿المسلمين﴾. لذلك فالتشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي. ومَن كانت هدايته في الحقيقة والشريعة من هدى غيره، فالإِعجاز الحق الذي به يتحدى هو عند غيره: ﴿ليهديكم سُنَنَ الذين من قبلكم﴾.
خاتمة
الشبهات التشريعية ودلائل الإِعجاز
وهكذا فتشريع يهتدي بشريعة الكتاب وأهله، من أولي العلم المقسطين؛ تشريع ميزاته الذاتية التخفيف والتسهيل ورفع الحرج في الدين؛ تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير؛ تشريع يعتريه التبديل والمحو الاسقاط والنسخ في أحكامه؛ تشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي؛ تشريع منزل لا يفي بالحاجة في تطور الجماعة، إلاّ بمصادر أخرى تفصّله؛ تشريع قانوني، ابن بيئته وابن ساعته، أكثر منه دستوريّاً يتخطّى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل عصر وأمة؛ تشريع أحكامه المحكمة جزء ضئيل من القرآن فلا تصح دليلاً على إِعجاز القرآن كله؛ تشريع نزل بعد سكوت القرآن عن التحدي بإِعجازه، فلا تحدّي به في القرآن؛ هذا التشريع هل هو من الإِعجاز في الشريعة؟
الجزء الثالث
الإِعجاز في العلم
﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ (العنكبوت ٤٩)
﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنّه الحقّ من ربّك﴾ (الحج ٥٤)
﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥)
توطئة
تعبير ﴿العلم﴾ في لغة القرآن واصطلاحه
يرد تعبير ﴿العلم﴾ اسـماً وفعلاً مع مشتقاتهمـا كثيراً في القرآن. ويظهر بين هـذا ﴿العلم﴾، و﴿أولي العلم﴾ و﴿الراسخين في العلم﴾ ـ وبين القرآن صلة متواصلة متأصلة كأنه يستشهد بهم، ويستعلي بهم، ويتحدّى بهم، كما في قوله: ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون﴾ (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم﴾ (الحج ٥٤)؛ ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا، كلٌ من عند ربنا﴾ (آل عمران ٧).
وكأن أولي العلم يشهدون مع القرآن ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٩) فظن فريق أول أن القرآن، كما هو كتاب دين، هو أيضاً كتاب علم. وأفرط بعضهم في الظن فرأوا فيه جميع علوم الأولين والآخرين. وانتهي الأمر ببعضهم فقالوا بإِعجاز القرآن في العلم، فقد سبق القرن العشرين الى الكشف عن علم الذرة، لأن كلمة الذرة اللغوية وردت فيه. وقام فريق آخر منذ الشاطبي يردعون الناس عن ذلك الاسراف، وينادون بأن القرآن كتاب دين لا كتاب علم. وقام فريق ثالث، مثل عبد الكريم الخطيب في (إِعجاز القرآن) يقف في منزلة بين المنزلتين، فيرى ﴿ان العلم هو الذي يخدم قضية القرآن، إذ هو الذي يكثر له من القوى المبصرة التي ترى ما فيه من حِكم وأسرار... وفي هذا يتجلّى وجه جديد من وجوه الإِعجاز في القرآن، وهو خلوده على الزمن، مع احتفاظه بمكانه من السمو والهيمنة على كل ما تبلغه العقول من مدركات، وما تلده الحياة من أسرار﴾ (٢٧:١).
وهذا الخبط كله فيما بينهم قائم على سوء فهم التعبير القرآني: ﴿العلم﴾ و﴿أولي العلم﴾. انهم يفهمونه على حرف اللغة، وهو اصطلاح قرآني ذو مدلول خاص. واصطلاح القرآن لتعابير ﴿العلم﴾ و﴿أولي العلم﴾، وموضوع صلتهم بالقرآن، يجعل صلة القرآن بالعلم، بحسب حرفه اللغوي والعلمي، لا وجود لها؛ ويجعل ما قالوه من إِعجاز القرآن في العلم من دون أساس: ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥). فالقرآن كتاب دين، لا كتاب علم.
بحث أوّل
القرآن كتاب دين، لا كتاب علم ﴿الكونيات﴾
إن تعابير ﴿العلم﴾، وتصاريح القرآن: ﴿ما فرّطنا في الكتاب من شيء﴾، ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾، كلها جعلت بعض القوم يرون في ﴿الكونيات﴾ القرآنية معجزة علميّة.
أوّلاً: التطرّف قديماً وحديثاً
١ ـ عقد السيوطي، آخر المحققين القدماء، فصلا من (الإتقان ١٢٥:٢) ﴿في العلوم المستنبطة من القرآن﴾، حيث يجعلونه موسوعة العلوم الحاضرة والماضية والمستقبلة، من لغوية وعلمية وفلسفية. ونقل عن الطبري قوله: ﴿وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء. أما أنواع العلوم، فليس منها باب، ولا مسألة هي أصل، إلاّ وفي القرآن ما يدل عليها. وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى، وتحت الثرى، وبدء الخلق... وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبْر والمقابلة والنجامة وغير ذلك... وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء... حتى لقد قال قائل: إن علوم القرآن خمسون وأربعماية وسبعة آلاف علم. أو سبعون ألف علم على عدد كَلِم القرآن مضروبة بأربعة إذ لكل كلمة فيه ظهر وبطن وحد ومطلع. وقال قائل: لكل آية ستون ألف فهم. حتى قال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله﴾.
٢ ـ وقد زاد بعض أهل العصر على تلك الخوارق والمخاريق: ﴿أما بعد فيقول عبد ربه تعالى خادم الكتاب والسنة، محمد العرب العزّوزي ٢٦ : إن أوسع دائرة للمعارف تناولتها البشر القرآن الكريم﴾. والسيد عفيف عبد الفتاح طبّارة، في كتابه (روح الدين الإسلامي) يعدّد ﴿معجزات القرآن العلمية﴾، ويجد في بعض آياته النظريات العلمية الحديثة. والسيد عبد الرزاق نوفل، في كتابه (القرآن والعلم الحديث) يرى فيه: أسرار علم النفس، وأسرار علم الفيزياء الطبيعية، وأسرار نظرية اينشتاين في النسبية، وأسرار علم الوراثة، وأسرار علم الحياة، وأسرار العالم غير المنظور في قوله في ٧٣ آية ﴿رب العالمين﴾، كقوله: ﴿وقد سبق القرآن علم الذرة وتفجيرها كما قال فيها: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس، هذا عذاب أليم... وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا: سحاب مركوم). فقد وضعت سورة الدخان تفجير الذرة ومفعولها قبل ١٤٠٠ سنة ونيف﴾. وقوله أيضاً: ﴿وأهم حدث في القرن العشرين، إن لم يكن في حياة الأرض، هو الأقمار الصناعيّة التي تنبأ بها القرآن الكريم في سورة النمل (٨٢): ﴿واذا وقع القول عليهم، أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾.
ثانياً: الاعتدال قديماً وحديثاً
القرآن مثل الكتاب والإنجيل، كتاب دين، لا كتاب علم. فهو صريح كل الصراحة في اقتصار وحيه على الدين: ﴿قلْ: إنما يوحى إليَّ إنما إلهكم اله واحد، فهل أنتم مسلمون﴾؟ (الأنبياء ١٠٨). فليس من وحي في القرآن سوى التوحيد وأحكام الدين والشريعة: ﴿إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله﴾! (سبأ ٤٦). ويركّز دعوته كلها على حصر الوحي القرآني في التوحيد وعقيدته وشريعته: ﴿قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنما الهكم اله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه﴾ (فصلت ٦).
١ ـ وقديماً رأى ذلك بعض العلماء، مثل الإمام الشاطبي ٢٧ الغرناطي، قال: ﴿إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم ـ أي العلوم الرياضية ـ والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأسبابها. ﴿وهذا اذا عرضناه على ما تقدم (من أن القرآن إنما خاطب العرب بما كان واقعاً في حياتهم)، لم يصح. والى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه. ولم يبلغنا أنه تكلّم أحد منهم في شيء من هذا المدّعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة... ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدل على أصل المسألة... إلاّ أن ذلك لم يكن، فدلّ على أنه غير موجود عندهم... وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير شيءٍ ممّا زعموا. نعم، تضمّن علوماً هي من جنس علوم العرب، أو ما يُبنى على معهودها﴾.
٢ ـ وحديثاً أبدى بعض العلماء رأيهم كذلك:
يقول عبد المتعال الصعيدي ٢٨ في مقاصد القرآن: ﴿مقاصد القرآن لا تخرج عن الوظيفة الدينية للقرآن، لأنه نزل لتشريع العقائد والأحكام. فيجب أن يقف عند حدودها. فلا يُقصد منه غير هذا من بيان مسائل التاريخ أو الطب أو غيرها من العلوم، لأنه لم ينزل لغرض من هذه الأغراض. وإنما نزل للأغراض السابقة التي لا سبيل الى معرفتها إلا بالوحي. أما هذه الأغراض العلمية فإنها تُعرف بالعقل، ولا تتوقف معرفتها على الوحي. فلا يصح أن يخلط بينها وبين الأغراض السابقة في كتاب ديني كالقرآن أو غيره﴾.
والأستاذ دروزة ٢٩ يرى أن ﴿الكونيات﴾ في القرآن هي من المتشابه فيه، لا من إِعجازه، واستخراج النظريات العلمية منها إنما هو تمحّل لا يليق بقدسية القرآن. قال: ﴿لعلَّ في تعبير الأوتاد عن الجبال، والسقف المبني عن السماء، والمصابيح المضيئة التي زينت بها السماء عن النجوم، وجريان الشمس ومنازل القمر، والسراج الوهّاج للأولى، والمصباح المنير للثاني، وفي ذكر انزال الماء من السماء، وتسيير السحاب وتصريف الرياح، وارسال البرق والرعد والصواعق، وإثبات مختلف الزرع والأشجار، وتسخير الدواب والأنعام، وتسيير البحار والأنهار والفلك، وجعل الأرض بساطاً، وتصويرها مركزاً للكون، والانسان قطباً للأرض، حيث سخّر له كل ما في السماوات والأرض، وسوّاه الله بيده، ونفخ فيه من روحه... ما جاءَ متّسقاً مع مشاهد ومدركات مختلف فئات الناس الذين يوجه اليهم الكلام. وان ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون، وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنيّة... وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرّره من أن القرآن خاطب الناس بما يتّسق في أذهانهم إجمالاً من صور ومعارف، لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب. وملاحظة ذلك جوهرية جداً، لأنها تحول دون التكلّف والتجوّز والتخمين، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنّية، في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منهـا، والتمحّل والتوفيق والتطبيق، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته﴾.
فالقرآن كتاب دين ـ وكفاه ذلك فخراً ـ لا كتاب علم. ومن انتهاك حرمته، جعله كتاب علم، والكلام فيه عن الإِعجاز في العلم.
بحث ثان
﴿العلم﴾ و﴿أولو العلم﴾ في اصطلاح القرآن
إن القرآن يأخذ اسم ﴿العلم﴾ وفعل ﴿علم﴾ ومشتقاتهما، أحيانا بحسب حرف اللغة؛ ولكن أحياناً بحسب اصطلاح خاص يتّضح من القرائن. وهذا الاصطلاح الخاص هو الذي غفل عنه القوم في صلة ﴿العلم﴾ والذي يعلمون بالقرآن؛ وبنوا عليه نظريات لا أساس لها في القرآن.
إن الاصطلاح ﴿أولي العلم﴾ مرادف لأهل الكتاب الذين كانوا يسمّون المشركين الذين لا كتاب لهم، وليس عندهم ﴿العلم﴾ المنزل: ﴿الذين لا يعلمون﴾، فهم أهل الجهل والجاهلية، لا بالعلم المعروف والمعارف البشرية، بل بالعلم المنزل في الكتاب.
في خطاب بولس الرسول في جامعة أثينا يقول: ﴿ولقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان، أن يتوبوا؛ لأنه قد حدّد يوماً سيدين فيه المسكونه بالعدل، بذلك الإنسان الـذي عيّنه، مقدّماً للجميع ضمانة بإقامته من بين الأموات﴾ (سفر الاعمال ٣٠:١٧ ـ ٣١).
وانتقل تعبير ﴿الجاهلية﴾ الى القرآن ومنه إلى الأدب العربي: ﴿يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية﴾ (آل عمران ١٥٤)؛ ﴿أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون﴾ (المائدة ٥٠)؛ ﴿وقرْنَ في بيونكن، ولا تبرّجْن تبرّج الجاهلية الأولى﴾ (الأحزاب ٣٣)؛ ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية﴾ (الفتح ٢٦). فهو يقرن الكفر بالجاهلية. ويقابل بين أهل الكتاب ﴿الذين يعلمون﴾، والمشركين ﴿الذين لا يعلمون﴾: ﴿وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء! وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء! وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم... وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تآتينا آية؟ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم: تشابهت قلوبهم﴾! (البقرة ١١٣ و١١٨). فالنص صريح بأن ﴿الذين لا يعلمون﴾ كناية عن المشركين؛ وبالعكس ﴿فالذين يعلمون﴾ أو ﴿أولو العلم﴾ كناية عن أهل الكتاب، كما جاء في الآية: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر ٩). وهو اصطلاح قرآني للمقابلة بين أهل الكتاب ﴿الذين يعلمون﴾ والمشركين ﴿الذين لا يعلمون﴾.
والقرآن يستشهد ﴿بالذين يعلمون﴾، ويستعلي على المشركين بهؤلاء ﴿العلماء﴾ بكتاب الله، كما في قوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ (فاطر ٢٨) أي ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣).
هل كان في الحجاز قبل الإسلام علماء بالطبيعيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية، حتى يخاطبهم القرآن ويستشهد بهم، ويستعلي بهم، ويكون معهم ﴿أمة واحدة﴾ في الدعوة القرآنية؟
إن ﴿الذين أوتوا العلم﴾ في اصطلاحه المتواتر كناية عن أهل الكتاب، كما في قوله: ﴿قلْ: آمنوا به أو لا تؤمنوا؛ إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّدًا﴾ (الإسراء ١٠٧). فالعلم على الإطلاق، العلم المنزل، هو عند أهل الكتاب؛ ومعهم في القرآن، الـذي ﴿هو آيات بيّنات في صدور الـذين أوتوا العلـم﴾ (العنكبوت ٤٩). لذلك ﴿يرى الذين أوتوا العلم الـذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد﴾ (سبأ ٦). فالقرآن يستشهد بطائفة قائمة على صحة تنزيل القرآن ودعوته.
والقرآن يقسم أولي العلم الى طائفتين: اليهود أولي العلم الظالمين، والنصارى من بني إسرائيل أولي العلم المقسطين أو المحسنين. وقد تأتي صفتهم صراحةً أو ضمناً في القرائن اللفظية أو المعنوية. والتقسيم والصفة ظاهران في قوله: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم﴾ (العنكبوت ٤٦).
قبل الإنجيل، ﴿الذين أوتوا العلم﴾ هم أهل الكتاب على العموم: ﴿إن قارون كان من قوم موسى... وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير﴾ (القصص ٧٦ و٨٠). وظلوا بعد الإنجيل حتى القرآن كذلك على العموم، كما في قوله بحق اليهود: ﴿ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك، قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال آنفاً﴾ (محمد ١٦). ولكن تعبير ﴿أولي العلم﴾ يخصّه بالنصارى من بني إسرائيل الذين هم ﴿أمة واحدة﴾ مع محمد. إنه يميّزهم، في خطاب إلقاء الشيطان في الوحي، من ﴿الذين في قلوبهم مرض (المنافقين) والقاسية قلوبهم (المشركين)، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (اليهود). وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا (جماعة محمد من العرب) الى صراط مستقيم﴾ (الحج ٥٣ ـ ٥٤). فهؤلاء ﴿الذين أوتوا العلم﴾، النصارى من بني إسرائيل، هم الذين يشهدون للقرآن، ويستشهد بهم النبي على الدوام: ﴿وقال الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). وشهادتهم تدوم الى يوم الدين: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول: أين شركائي الذين كنتم تشاقّون فيهم؟ قال الذين أوتوا العلم: إنّ الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ (النحل ٢٧). فتعبير ﴿الذين أوتوا العلم﴾ أو ﴿أولي العلم﴾ عند الثناء والاستشهاد، هو مخصوص بالنصارى من بني إسرائيل.
وقد يقترن التعبير بصفة تميّزهم عن اليهود، أولي العلم الذين ﴿اختلفوا من بعد ما جاءَهم العلم، بغياً بينهم﴾ ـ بالمسيح ثم بمحمد. فهم أهل العلم والإيمان: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان (للمجرمين): لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنّكم كنتم لا تعلمون﴾ (الروم ٥٦). وهم الراسخون في العلم: ﴿لكن الراسخون في العلم منهم (من أهل الكتاب) والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ (النساء ١٦٢). وهـؤلاء ﴿الراسخون في العلم﴾ يؤمنون بالقرآن، ويؤمنون بالمتشابه فيه كمـا بالمحـكم: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا﴾ (آل عمران ٧). فهو يضع في منزلة واحدة، كأمة واحدة، ﴿الذين آمنوا﴾ من العرب، ﴿والذين أوتوا العلم﴾ كقوله: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم، درجات﴾ (المجادلة ١١)؛ لاحظ التمييز والعطف والجمع، فهم أمة واحدة (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢).
وهم خصوصاً أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله والملائكة ـ والقرآن يدعو بشهادتهم ـ أن الدين عند الله الإسلام: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). لذلك فاليهود الذين كانوا ﴿يقتلون النبيّين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط: فبشرهم بعذاب أليم﴾ (٢١).
وهذا هو القول الفصل، في هذا الفصل: إن ﴿أولي العلم قائماً بالقسط﴾ هم النصارى من بني إسرائيل. وهم يدعون الى الإسلام قبل محمد (الحج ٧٨)، والقرآن يدعوبدعوتهم الى الإسلام، ويشهد بشهادتهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾. هذا هو ﴿علم﴾ القرآن كله.
والنتيجة الثـانية أن ﴿العلم﴾ في القرآن هـو العلـم المنزل على الإطلاق، والعـلم ﴿النصراني﴾ على التخصيص الذي جاءَ به المسيح في الإنجيل، فاختلف فيه اليهود من أهل الكتاب: ﴿وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءَهم العلم﴾ (١٩:٣؛ ١٤:٤٢؛ ١٧:٤٥). وهـذا ﴿العلم﴾ الإنجيلي ﴿النصراني﴾ هو الذي وصل الى محمد في القرآن: ﴿بعد الذي جاءَك من العلم﴾ (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم﴾ (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١)، ﴿بعد ما جاءَك من العلم﴾ (الرعد ٣٧).
وبعلم الإنجيل، وهدى الكتاب يجادل القرآن المشركين: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾ (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). أما محمد فهو يجادل في الله بعلم وهدى الكتاب المنير، ويتحداهم بالكتاب والعلم المنزل: ﴿قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو إثارة من علم، إن كنتم صادقين﴾ (الأحقاف ٤). فالعلم الحق هو العلم المنزل في الإنجيل، وينادي به النصارى من بني إسرائيل.
وهكذا، ففي اصطلاح القرآن، إن ﴿العلم﴾ الذي ينادي به هو علم الكتاب، ﴿ومَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). فليس القرآن اذن معجزة في علم المعارف البشرية. وليست هي من مقاصد القرآن. إنهم يقولون بمعجزة لا أساس لها في القرآن.
والإِعجاز في ﴿العلم﴾ الذي يتحدّى به القرآن هو الإِعجاز في ﴿علم الكتاب﴾ الذي هو مع ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣)، مع ﴿الراسخين في العلم﴾ (آل عمران ٧؛ النساء ١٦٢) مع ﴿الذين أوتوا العلم من قبله﴾ (الإسراء ١٠٧)، مع ﴿الذين أوتوا العلم والإيمان﴾ (الروم ٥٦)؛ يقول: ﴿فبهداهم اقتدِ﴾ (الأنعام ٩٠)، ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ معهم. (النمل ٩١ ـ ٩٢).
إن الإِعجاز في العلم هو إِعجاز ﴿علم الكتاب﴾.
بحث ثالث
﴿الكونيّات﴾ القرآنية من متشابه القرآن
لقد ثبت لنا، في البحث السابق، أن الإِعجاز القرآني في ﴿العلم﴾ مردود شكلاً ولفظاً، لأن ﴿العلم﴾ الذي يذكر، ويتحدّى به، هو علم ﴿أولي العلم﴾، وهم في اصطلاحه المتواتر النصارى من بني إسرائيل.
ونقول أيضـاً: إن الإِعجـاز القرآني في ﴿العلـم﴾ مردود أيضاً موضوعاً لأن ﴿الكونيات﴾ القرآنية هي من متشابه القرآن، فلا تصح معجزة للتحدّي. وكون هذه ﴿الكونيات﴾ أو العلوم الكونية في القرآن، هي من متشابه القرآن، أنّ أحداً لم يذكرها في المحكم منه. قال السيوطي في (الإتقان ٢:٢): ﴿وقد اختلف في المحكم والمتشابه: ﴿عن ابن عباس، قال: المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه؛ ما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه: ما يؤمَن به ولا يُعمل به. وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد. والمتشابه القصص والأمثال. وعن مجاهد: المحكمات ما فيه الحلال والحرام. وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً. وعن الربيع: المحكمات هي أوامره الزاجرة﴾. وهكذا فالمحكمات من آيات القرآن هي الأحكام المحكمة في شريعته. وبما أن ﴿الكونيات﴾ القرآنية أي العلوم الكونية فيه، ليست من شريعته ولا من أحكامها المحكمة، ولا من محكم التنزيل فيه، بل من متشابه القرآن، فلا يصح التحدي بها كعلم منزل في القرآن.
والتحدّي بها قد يرتد على القرآن نفسه: فإن تصوير الأرض مركزاً للكون وجعل الأرض بساطاً، بحسب نظرية الأقدمين التي جاءَ عليها القرآن، يُخرجه من دائرة العلم المعروف. ﴿وأن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم، دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية... وملاحظة ذلك جوهرية جداً، لأنها تحول دون التكلّف والتجوز والتخمين، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها، والتمحّل والتوفيق والتطبيق، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته﴾ ٣٠ .
فليس في ﴿الكونيات﴾ القرآنية من نظريات علمية وفنية يصح القول بها. فلا يجوز بحالٍ التحدي بإِعجاز العلم في القرآن، لأنه ليس من أغراضه، ولا من أعراضه.
بحث رابع
﴿العلم﴾ الوحيد في القرآن هو ﴿علم الكتاب﴾
ظل القرآن يستشهد طول العهد بمكّة بمن عنده علم الكتاب: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). فهو يكتفي بالشهادة على صحة رسالته وصحة دعوته بشهادة مَن عنده علم الكتاب؛ لذلك يسميهم ﴿أولي العلم﴾ فهم أهل ﴿العلم﴾ من دون العالمين. وهم ﴿الذين أوتوا العلم من قبله﴾ (الإسراء ١٠٧): ﴿فالعلم﴾ على الإطلاق هو علمهم ـ لاحظ التعريف والإطلاق في تعبيره: ﴿العلم﴾. فهذا هو ﴿العلم﴾ الوحيد الذي يذكره القرآن، وبه يستشهد، وبه يتحدى: ﴿قلْ: آمنوا به أو لا تؤمنوا: إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم، يخرّون للأذقان سجداً﴾ (الإسراء ١٠٧). فيكفيه إيمانهم وتكفيه شهادتهم.
وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته، والقرآن كله يشهد بشهادتهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام﴾؛ بهذه الشهادة هم ﴿أولو العلم قائماً بالقسط﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وفي هذه الشهادة علم القرآن كله، وسرّ القرآن كله. فالإسلام الـذي ينادي به القرآن هـو اسلام ﴿أولي العلم من قبله﴾ (الحج ٧٨)؛ وهو العلم الوحيد الذي يتحدى القرآن بإِعجازه؛ إنه علـم ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ في الإسلام، علم ﴿الراسخين في العلم﴾ (آل عمران ٧؛ النساء ١٦٢). إن علم القرآن علمهم؛ واسلام القرآن اسلامهم؛ وإِعجاز القرآن في العلم والإسلام هو إِعجازهم: ﴿قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣).
هذا هو العلم الوحيد الذي جاءَ محمداً في القرآن: ﴿بعد الذي جاءَك من العلم﴾ (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم﴾ (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١). وهذا هو ﴿العلم﴾ الإنجيلي، ﴿النصراني﴾، الذي اختلف فيه اليهود من أهل الكتاب، مع المسيح ثم مع محمد: ﴿وما اختلفوا إلاّ من بعدما جاءَهم العلم﴾ (١٩:٣؛ ١٤:٤٢؛ ١٧:٤٥). وبهذا ﴿العلم﴾ المنزل الإنجيلي ﴿النصراني﴾ يجادل القرآن اليهود ثم المشركين الذين يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). فالإسلام هو علْم القرآن كله، وهذا الإسلام من علْم الكتاب، ﴿ومَن عنده علم الكتاب﴾ (الرعد ٤٣). لذلك يخص القرآن اسم ﴿المسلمين﴾ بأولي العلم المقسطين وحدهم. والقرآن نفسه ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم﴾ معرفة مصدرية (البقرة ١٤٦؛ الأنعام ٢٠).
فالعلم الوحيد في القرآن هو علم الكتاب، وأهله ﴿من عنده علم الكتاب﴾.
خاتمة
﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥)
وهكذا فالعـلم، في لغـة القرآن، اصطلاح مقصـور على أهله، ﴿أولي العـلم﴾، ﴿الراسخين في العلم﴾. ومصدر هذا ﴿العلم﴾ هو هدى الكتاب الإمام، و﴿علم الكتـاب المنير﴾ فلا يرى القرآن خارج التنزيل في الكتاب ﴿علمـاً﴾. و﴿علم﴾ القرآن من ﴿علم الكتاب﴾، بشهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب﴾ لكنه في نقل هذا ﴿العلم﴾ الى العرب، ﴿ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً﴾. وهذا ﴿العلم القليل﴾ القرآني الكتابي هو كل إِعجازه في العلم. ولا إِعجاز عنده في ﴿العلم﴾ سواه.
الجزء الرابع
الإِعجاز في التاريخ
القصص القرآني
﴿نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن﴾ (يوسف ٣)
﴿فاقصص القصص، لعلـّهم يتفكّرون﴾ (الأعراف ١٧٦)
﴿لقد كان في قصصهم (الرسل) عبرة لأُولي الألباب﴾
﴿ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء﴾ (يوسف ١١١)
توطئة
خطورة موضوع التاريخ في الإِعجاز القرآني
إن القصص هواية عربية فطرية.
﴿كان للعرب قصص. وهو باب كبير من أبواب أدبهم. وفيه دلالة كبيرة على عقليتهم. وهذا القصص في الجاهلية أنواع... وهناك نوع من قصص العرب أخذوه من أمم أخرى وصاغوه في قالب يتّفق وذوقهم﴾ ٣١ .
فلم يخلق القرآن فنّ القصص، لكنه جعله ناحية من نواحي الدعوة فيه. ومتى عرفنا أن القصص القرآني يشمل نحو ثلثي القرآن، أدركنا خطورة موضوعه في الإِعجاز القرآني. وإذا أضفنا الى القصص الأمثال، وهي نوع آخر منه، وأخبار اليوم الأول في الخلق، وأخبار اليوم الآخر في السعة ويوم الدين ووصف الجنة والنار، كان موضوع التاريخ القرآن كله تقريباً.
والقرآن نفسه يقرّ بذلك: ﴿نحن نقصّ عليك أحسن القصص، بما أوحينا إليك هذا القرآن﴾ (يوسف ٣). والشعب لا يرى في القرآن سوى قصص: ﴿واذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ ـ قالوا: أساطير الأولين﴾ (النحل ٢٤). وظلوا على هذا الموقف العنيد منذ السورة الأولى (القلم ١٥)، حتى حكم السيف فيهم في بدر، أول نصر (الأنفال ٣١). ويرى القرآن في نفسه ﴿أحسن القصص﴾ (يوسف ٣)؛ وكانوا هم يرون فيه ﴿أساطير الأولين﴾: ﴿ما هذا إلاَ أساطير الأولين﴾ (الأحقاف ١٧) في موضوعه وأسلوبه، ﴿حتى إذا جاؤوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين﴾ (الأنعام ٢٥).
لذلك، إذا كان في إِعجاز القرآن معجزة له، يجب أن تكون أولاً في قصصه. فهل في القصص القرآني إِعجاز ومعجزة؟
بحث أول
موضوع القصص القرآني وهدفه
يأتي القصص القرآني كبرهان للتوحيد والنبوّة، من تاريخ البشرية، بعد الاستشهاد بمشاهد الخليقة التي تشهد لخالقها: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق﴾ (فصلت ٥٣).
أولاً: هدفه تثبيت النبي وذكرى للعرب
ففي نظرية القرآن يُوجَز تاريخ البشرية بسيرة النبوّة مع أقوامها، كأنه صراع متواتر بين الإيمان والكفر. ويرمي القرآن، من وصف هـذا الصراع الديني، الى غايتين: الأولى ﴿لنثبّت به فؤادك﴾ (٣٢:٢٥؛ ١٢٠:١١)؛ الثانية اتعاظ أهل مكّة بمثل الماضين: ﴿فاقصصالقصص لعلّهم يتفكرون﴾ (الأعراف ١٧٦)؛ ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ (غافر ٢١ و٨١)؛ ﴿انظرْ كيف كان عاقبة المنذَرين﴾ (الصافات ٧٣)؛ ﴿انظر كيف كان عاقبة المكذبين﴾ (الزخرف ٢٥).
فهدف القصص القرآني المزدوج يدل على أنه ليس في إِعجازه معجزة له: فغايته الأولى تثبيت فؤاد النبي في أزماته النفسية والإيمانية التي تملأ القرآن المكي؛ فلو كان في إِعجاز القصص معجزة لكان ثبت فؤاد محمد منذ القصة الأولى. والواقع القرآني يشهد بأن أزمات الإيمان ظلت تساور محمداً، وهو يتلو القصص القرآني بتواتر. فحتى أواخر العهد المكي يُقال له: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين﴾! (يونس ٩٤ ـ ٩٥). والواقع القرآني يشهد أيضاً بأن إِعجاز القرآن في قصصه لم يكن معجزة لهم، فقد ظلوا طول العهد بمكّة، قبل إحكام آية السيف فيهم بالمدينة، ﴿اذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ ـ قالوا: أساطير الأولين﴾! (النحل ٢٤). ويتهمونه في مصدر تنزيله وقصصه: ﴿قال الذين كفروا: انْ هذا إلاّ إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون! ـ فقد جاؤوا ظلماً وزوراً! وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا! ـ قلْ: أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً﴾ (الفرقان ٤ ـ ٦). وكانت هذه مقالتهم طول العهد بمكّة جملة (٢٥:٦؛ ٨٣:٢٣؛ ٦٨:٢٧) وأفراداً (٥:٢٥؛ ٢٤:١٦)، حتى بعد نصر بدر بآية السيف (الأنفال ٣١). فكان هذا موقفهم من إِعجاز القصص القرآني: ﴿واذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين﴾ (الأنفال ٣١). فلم يرَ المخاطَبون بإِعجاز القصص القرآني معجزة له، موضوعاً: ﴿إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين؛ وأسلوباً: ﴿لو نشاء لقلنا مثل هذا﴾! ونلاحظ أن القرآن لا يردّ تحدّيهم الأخير هذا.
ثانياً: موضوع القصص القرآني محدود ومكرّر
والظاهرة الكبرى في القصص القرآني هي التكرار. قال سيد قطب ٣٢ : ﴿نشأ عن خضوع القصة في القرآن لأغراضه أن يعرض شريط الأنبياء والرسل الداعين الى الإيمان الواحد، والانسانية المكذّبة بهذا الدين الواحد، مرّات متعدّدة بتعدّد هذه الأغراض؛ وأن يُنشئ هذا ظاهرة التكرار في بعض المواضع، ولكنّ هذا أنشأ جمالاً فنّياً من ناحية أخرى. فهذه قصة إبراهيم ترد في حوالي عشرين موضعاً. وقصة موسى ترد أكثر من ذلك؛ وهذه قصة عيسى، ابن مريم، ترد وروداً أساسياً في ثمانية مواضع؛ وقصة سليمان في ثلاثة مواضع. ويأتي هذا التكرار بخصائص فنّية، منها تنوّع طريقة العرض، وتنوّع طريقة المفاجأة، وتنوّع التصوير في التعبير﴾.
ولكن هذا التنوّع في التعبير، لا يمنع التكرار في التفكير، وهو موضوع الوحي والتنزيل، كما لاحظوا ذلك قديماً وحديثاً.
في البيان والبديع يسمّى التفنّن أو التنوّع في التعبير عن المعنى الواحد والموضوع الواحد بالاقتدار: ﴿الاقتدار هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدّة صور اقتداراً منه على نظم الكلام، وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض. فتارة يأتي في لفظ الاستعارة، وتارة في صور الأرداف، وحيناً في مخرج الايجاز، ومرة في قالب الحقيقة. قال ابن أبي الاصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن؛ فإنك ترى القصة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة، وقوالب من ألفاظ متعدّدة حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولا بدَّ أن تجد الفرق ظاهراً﴾ ٣٣ . فموضوع القصة الواحدة في القرآن ﴿لا تختلف معانيها﴾. والذي يهمنا في كلام الله ما يريده منه أي موضوع كلامه، والموضوع واحد يتكرّر، مع تنوّع في التعبير بعض الشيء، مثل قصة آدم وابليس: ﴿وقد أورد القرآن قصة آدم وابليس سبع مرات، ستاً منها في سور مكية، وهي الأعراف (١٩ ـ ٢٧) والحجر (٢٨ ـ ٤٠) والإسراء (٦١ ـ ٦٥) والكهف (٥٠) وطه (١١٦ ـ ١٢٣) وصاد (٧١ ـ ٨٥)؛ وواحدة في البقرة (٣٤ ـ ٣٨). والقصة كما يُفهم من سياقها في كل مرة قد استهدفت العظة والتمثيل والتنبيه، كما أنها تنوّعت في أسلوبها ومحتوياتها بعض الشيء، وهو شأن القصص القرآنية المتكررة بصورة عامة كما لا يخفى﴾ ٣٤ .
ثالثاً: القرآن بين الدين والفنّ
قيل: إن معجزة القرآن أن يجمع الدين والفن في حرفه، بلفظه ونظمه. وهل يهمّنا الإِعجاز بالفن في أمور الدين؟ ننسى أن القرآن هو كتاب دين، قبل أن يكون كتاب فن؛ وأن ما يهم البشرية في كلام الله هو الدين لا الفن. قيل: ان القرآن ﴿يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنّية﴾ ٣٥ . فهل الله في كلامه مع البشر خطيب مثلهم يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيهم؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. إنما يتنازل الله ويكلّم الناس ليعلّمهم حقيقة سره وغاية أمره؛ ويهمه كما يهمنا أولاً حقيقة الدين، لا إِعجاز الفنّ. وجعل الإِعجاز البياني والفني من مقاصد الله في كلامه هو قلب للمفاهيم وهو جعل العَرَض مكان الجوهر. وهب أن ميزة القرآن على كل تنزيل هو في إِعجاز الحرف مع إِعجاز المعنى، ومعجزة العرض مع معجزة الجوهر، لتكون معجزته منه وفيه؛ فإن معجزة لغوية بيانية فنيّة، هي للخاصة من العرب، لا للعامة منهم، فكيف بعامة البشر! فيفوت على الله الغاية الأولى من تنزيله وكلامه، لو كان الإِعجاز في نظم القرآن مقصده ومعجزته. وحاشا لله أن يخاطب عامة العرب والبشر بمعجزة لا يفقهونها! ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّرالتحدي به﴾ ٣٦ .
إن التحدي بحرف التنزيل هو معجزة عند البعض، لا عند سائر الناس. وما نراه في القرآن وقصصه إِعجازاً واقتداراً، يراه سائر الناس في كل آدابهم عجزاً وافتقاراً، كلّما زاد تكراراً.
فالقصص القرآني، وهو أكثر القرآن، مع ما فيه من إِعجاز بياني، هل هو معجزة في هدفه وموضوعه؟
بحث ثان
هل القصص القرآني للتاريخ أم للتمثيل؟
والمشكل الأكبر في القصص القرآني، هل هو للتاريخ أم تمثيلي؟
أوّلاً: واقع مزدوج
إن القصص القرآني هو برهان النبوّة والتوحيد من تاريخ البشرية مع الأنبياء والرسل: فالعظة منه في الواقع التاريخي، لا في التمثيل البياني، كالإنجيل في أمثاله. واذا سلبنا القصص القرآني واقعيته التاريخية، سلبناه استشهاده بتاريخ النبوّة والبشرية على صحة نبوته وتنزيله.
هذا هو موقف أهل السنة والجماعة. لذلك لمّا حاول السيد محمد أحمد خلف الله سنة ١٩٤٧ في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) أن يخرج على هذا الاجماع، ﴿للوصول الى قاعدة أو نظرية يمكن تطبيقها من حل المشكلات، وردّ الاعتراضات، والخروج بالقصص القرآني من دائرة المتشابه﴾ (ص ٢٦٠) أفتى علماء الأزهر الشريف بتكفير الكتاب وصاحبه ٣٧ .
والواقع القرآني يشهد بالتمثيل في تاريخيته: ﴿وكلاّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك، وجاءَك في هذه الحق وموعظة وذكرى﴾ (هود ١٢٠). فهو يقص ﴿الحق﴾ في ﴿أنباء الرسل﴾، وان كان الهدف الموعظة والذكرى. فالعبرة عنده بالتاريخ للتمثيل: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾ (يوسف ١١١). والقول الفصل: ﴿إن الحكمُ إلاّ لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين﴾ (الأنعام ٥٧). فلا يضرب القرآن أمثالاً في قصصه، إنما ﴿يقصّ الحق﴾ التاريخي.
ثانياً: الشبهات الناجمة عن هذا الواقع المزدوج
لكن، على تاريخية القصص القرآني، شبهات حملت المدرسة العصرية على القول بالتمثيل في القصص القرآني، أكثر منه بالتاريخ.
الشبهة الأولى أن قصص القرآن أكثره توراتي، لكنه يختلف أحياناً عمّا في التوراة. ومن السخف ضرب الكتاب بعضه ببعض. فما سبب الفوارق القصصية ما بين القرآن والكتاب؟ يقول دروزة ٣٨ : ﴿القصص القرآني، منه ما كان عربياً غير توراتي كقصص هود وعاد، وصالح وثمود ومدين؛ ومنه ما كان توراتياً كقصص نوح ولوط وموسى وفرعون مع بني إسرائيل، وداود وسليمان ويوسف، الخ... وما ورد خصوصاً في القرآن ولم يرد في التوراة من قصص إبراهيم ﷺ مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه، وهي في سور (الأنعام وابرهيم والأنبياء والشعراء والصافات والزخرف والعنكبوت). وعدم ورودها في التوراة، ممّا يسوّغ القول أنها كانت متداولاً معروفاً في أوساط العرب كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء﴾.
أجل، كانت متداولة معروفة في أوساط العرب، لكن ليس ﴿كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء﴾ ـ بل عن أهل الكتاب من يهود ونصارى إسرائيليين، الذين كانوا يروونها عن حرف التلمود أكثر منه عن حرف الكتاب. وهذا ما فات الأستاذ دروزة وأمثاله. فما انفرد به قصص إبراهيم ﴿مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه﴾ عن التوراة، قد ورد مثله في التلمود. لذلك جاء القصص القرآني ابن بيئته الكتابية العربية، أقرب الى التلمود منه الى الكتاب.
وهذا المصدر الشعبي للقصص القرآني يحمل معه شبهة أخرى: بعد قصة نوح الشهيرة يقول: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾ (هود ٤٩). وبعد قصة يوسف الشهيرة يقول: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ (يوسف ١٠٢). وبعد قصة مريم، في آل عمران، وقد طبّقت آفاق الجزيرة، من ألوف النصارى والمسيحيين، يقول: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾ (٤٤). فكيف يقول بأنها ﴿من أنباء الغيب نوحيه إليك﴾؟ وقد كانت متداولة بينهم من التوراة والإنجيل، ومن التلمود والأناجيل المنحولة. وكيف يقول: ﴿ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا﴾ القرآن؟ إنه إشكال ضخم كما يقول دروزة ٣٩ : ﴿إن في الآيات الثلاث اشكالاً يدعو الى الحيرة، ولا يُستطاع النفوذ الى الحكمة الربانية فيه نفوذاً تاماً﴾.
أجل، من يعتبر القرآن، لفهم خاطئ في بعض تعبيره، منزلاً من لوح محفوظ في السماء، لا يستطيع النفوذ الى الحكمة الربانية في تلك الآيات المتشابهات. أمّا مَن يعتبر القرآن ﴿تفصيل الكتاب﴾ على حدّ تعبيره (يونس ٣٧)، كما فصّله أيضاً التلمود وبعض الاناجيل المنحولة، فيعرف أنه ﴿من أنباء الغيب﴾ المنزل في الكتاب، عند أهل الكتاب؛ وما كان محمد، ولا قومه من قبله، يعرفونه، قبل تفصيل أهل الكتاب له فيما بينهم، كما يصرّح بذلك في قوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه! وجعلناه هدى لبني إسرائيل (من يهود ونصارى). وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). فما على محمد أن يشك في لقاء الكتاب بواسطة أئمته الذين يهدون محمداً اليه بأمر الله. فالقرآن يتلو ﴿أنباء الغيب﴾ المنزل في الكتاب من قبله؛ لكنه يفصّلها على حسب هدى أئمة الكتاب الذين يفصلون التوراة والإنجيل بحسب التلمود والاناجيل المنحولة التي لديهم. ولا ننس القول الفصل: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠).
وهناك شبهتان أخريان تشكلان مشكلتين. يقول أيضاً دروزة ٤٠ : ﴿وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين. أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحاً في جزئيات وقائعه، وحقائق حدوثه. وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمّة، من بضع الخلاف، مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة، وبالثعبان في سورة أخرى، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون، من قتل الأنبياء واستحياء النساء، حيث ذُكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى، وفي سورة أنه بعد بعثة موسى. فنحن كمسلمين نقول أن كل ما احتواه القرآن حق وواجب الإيمان، وإنّا آمنا به ﴿كلٌ من عند ربنا﴾. كما إننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه استهدف العظة والتذكير فحسب (لا التاريخ)، وهما لا يتحقّقان إلاّ فيما هو معروف ومسلّم به إجمالا من السامع، وان هذا أيضاً من الحق الذي انطوى فيه حكم التنزيل؛ وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحد الذي استهدفه القرآن، وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة، لأنها ليست ممّا يتصل بالأهداف والأسس﴾.
تجاه تلك الشبهات، أخرجت المدرسة الحديثة في تفسير القرآن، منذ الامام محمد عبده، القصص القرآني من دائرة التاريخ الى دائرة التمثيل. نقل صاحب المنار ٤١ نظرية إمام المدرسة الحديثة، بمناسبة أسطورة هاروت وماروت التي وردت في (البقرة ١٠٢)؛ فيقول محمد عبده كما نقل رشيد رضا: ﴿بيّنا غير مرة أن القصص جاءَت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار، لا لبيان التاريخ، ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الاخبار عن الغابرين. وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضوع العبرة﴾.
فالقصص القرآني لم يرد لـذاته التاريخية، والبحث العلمي، بل للمـوعظة والعبرة. ﴿وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جداً، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تُقصد لذاتها؛ وأن تغنيه عن التكلّف والتجوّز في التخريج والتأويل والتوفيق، أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع؛ وأن تجعله يُبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والارشاد والموعظة والعبرة، ولا يخرج به الى ساحة البحث العلمي، وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك، على غير طائل ولا ضرورة﴾ ٤٢ . فليس في القرآن تاريخ مقصود لذاته، ولا بحث علمي في تاريخ الأنبياء. فالقصص القرآني، ليس للتاريخ، بل للتمثيل والعبرة، كما يقول أيضاً السيد محمد خلف الله ٤٣ : ﴿وفي الجملة، إن أسلوب القرآن في التعبير عن أفكار الأنبياء والمرسلين أو الأقوام، لا يشاكل الواقع، وإنما يمشي على وتيرة واحدة... والحوار فيه إنما يمثّل أكثر من كل شيء الدعوة الإسلامية ونفسية محمد ﷺ. فالقصص القرآني، في موضوعه كما في أسلوبه، لا يشاكل الواقع والتاريخ، بل يمثل الدعوة الإسلامية ونفسية محمد، في أسلوب بياني قصصي.
والعبرة في الواقع التاريخي، لا في التمثيل البياني، حين الاستشهاد على صحة النبوّة والدعوة بتاريخ الأنبياء وسيرتهم بين أقوامهم. فهل القصص القرآني من الإِعجاز في التاريخ؟
بحث ثالث
القصص القرآني من متشابه القرآن
إن النتيجة الحاسمة التي وصلوا اليها، تجاه الشبهات على تاريخية القصص القرآني، أنه من متشابه القرآن. فقد أجمع ﴿أئمة الدين والتفسير، منذ الصحابة، على اعتبار القصص القرآني من المتشابه فيه﴾ ٤٤ .
وهذا ما يبيّنه السيوطي في (الإتقان ٢:٢) عند استجماع أقوالهم في المحكم والمتشابه منه. قال: ﴿المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يُرجى بيانه. وقد اختُلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال... قيل المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه. وقيل المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال... وعن ابن عباس قال المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، ما يؤمن به ويعمل به؛ والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه. ما يؤمَن به ولا يُعمل به. وعن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً. وعن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة﴾.
فالاجماع أن المحكم من القرآن هو فقط أحكامه، وما سوى ذلك فهو من متشابه القرآن ﴿الذي لا يُرجى بيانه﴾، ﴿ما استأثر الله بعلمه﴾.
فقصص القرآن من المتشابه فيه. وأمثال القرآن من المتشابه فيه. وأخبار الملائكة والجن من المتشابه فيه.
ومشاهد الكون ونواميسه من المتشابه فيه. قال دروزة ٤٥ : ﴿وبتعبير آخر: (إن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه) وقد استهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد دون أن ينطوي على قصد تقرير ماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين، ونواميس الوجود، من الناحية العلمية والفنية﴾.
ومشاهد الحياة الأخروية وصورها من المتشابه فيه. وهذه الملاحظة ﴿من شأنها أن تجعل الناظر في القرآن يتجنب الاستغراق في الجدل حول مشاهد الحياة الأخروية وصورها، والتورط والتكلّف والتزيّد في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق لذاتها، ويذكر أن هدف القرآن في ما جاءَ من التعابير والأوصاف هو العظة والتنبيه وإيقاظ الضمائر... ويتذكر أن ماهية هذه الحياة وحقيقتها مغيّبتان لا يُستطاع فهم شيء عنهما إلاّ بالأوصاف الدنيوية، وأن حكمة الله اقتضت وصفهما بهذه الأوصاف على سبيل التقريب والتشبيه﴾ ٤٦ .
وأوصاف ذات الله في القرآن من المتشابه فيه. ﴿إن ما ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجئ، وفوق وتحت وأمام، وطي وقبض ونفخ، إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَ بها من قبيل التقريب لأذهان السامعين... حيث يصح أن يقال: إن ورودها في القرآن كذلك على سبيل التقريب والتشبيه﴾ ٤٧ .
وبكلمة موجزة: إن القرآن يدعو الى الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ﴿أما ما عدا ذلك ممّا احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد، والتذكير والبرهنة والإلزام، ولفت النظر الى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته، ومخلوقاته الخفية والعلنية ـ فهو وسائل تدعيمية وتأييدية الى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها﴾ ٤٨ .
فإذا كان القرآن كله، ما عدا أحكامه التشريعية، من المتشابه فيه، فكيف يكون قصصه، وأمثاله، وأخباره عن الخلق، وأخباره عن اليوم الآخر، من الإِعجاز في التاريخ؟ والإِعجاز في النبوّة؟
خاتمة
قصصه تصديق وتفصيل
الواقع المشهود في القرآن أن قصصه العربي قليل، من أساطير الأولين؛ وقصصه الآخر كتابي، على رواية التلمود. وفي مطلع سورة يوسف صفة القصص القرآني: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن﴾ (٣). ومثاله قصة يوسف. وهي مشهورة في الكتاب. لذلك يعتبر القرآن نفسه أنه ﴿ما كان حديث يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل كل شيء﴾، كما يقول في ختامها (١١١). ونعرف أن ﴿التفصيل﴾ في اصطلاحه يعني التعريب (حم فصّلت ٤٤). فإذا كان أحسن القصص عنده تصديقاً وتفصيلاً للقصص الكتابي، فهل في ذلك إِعجاز في التاريخ؟
القسم الثاني
إِعجاز القرآن
هل يعتبر القرآن إِعجازه معجزة له؟
تمهيد
١ ـ الإِعجاز بديل المعجزة، أي المعجزة اللغوية
في القسم الأول ثبت لنا، بعد الاستقراء والتحليل، فراغ القرآن من كل أنواع المعجزة. وهذا ما اضطر أهل القرآن للتكلّم عن معجزة أخرى، أسموها ﴿إِعجاز القرآن﴾؛ واعتبار هذا الإِعجاز ﴿معجزة القرآن﴾؛ لأن المعجزة دليل النبوّة الأوحد، في اعتقاد أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل القرآن. وهكذا قام الإِعجاز بديل المعجزة.
فنادى القوم قديماً وحديثاً بأن القرآن وحده معجزة محمد. وقد نقلنا حكم شيخ أهل الإِعجاز قديماً، الباقلاني: ﴿ان نبوّة النبي صلعم معجزتها القرآن﴾ وأضاف: ﴿وذلك أنه احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره﴾ (ص ١٦). فتنافسوا في بيان إِعجاز القرآن، حتى ختم ابن خلدون مقالتهم جميعاً بقوله: ﴿إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها القرآن، لاجتماع الدليل المدلول عليه﴾ (المقدمة السادسة). وهذا حكم شيخ أهل السيرة حديثا، حسين هيكل: ﴿لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلاّ القرآن﴾ (حياة محمد). فالاجماع قائم في الأمة أنه ﴿لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة﴾، وأن القرآن وحده معجزة محمد، بإِعجاز لفظه ونظمه، أي أنه ﴿المعجزة اللغوية﴾ التي تشهد بصحة النبوّة وصحة التنزيل.
ونحن نعلن: لا جدال في إِعجاز القرآن. إنما الجدل، كل الجدل، في اعتبار إِعجاز القرآن معجزة له. والسؤال الواجب أولاً، هل يعتبر القرآن نفسه إِعجازه معجزة له؟ ثم هل اتفق القوم على ﴿وجه الإِعجاز﴾ لاعتباره معجزة؟ يقول عبد الكريم الخطيب ٤٩ : ﴿وانما الأمر الذي يحتاج الى بحث ونظر، بل الى كثير من البحث والنظر، هو دلائل الإِعجاز ووجوهه؛ حيث أن الأمر لا يقع موقع المشاهدة والحس؛ وانما هو حقيقة مضمرة في كلمات القرآن وآياته. والكشف عنها ليس ممّا يتيسّر لكل طالب... من أجل هذا ذهب الناس مذاهب شتى في وجوه الإِعجاز﴾. فليس الإِعجاز معجزة ظاهرة لكل ذي بصيرة وبصر. وهذا الاختلاف القائم الدائم في ﴿دلائل الإِعجاز ووجوهه﴾ هو البرهان القاطع على أن إِعجاز القرآن ليس بمعجزة له. جاء في (الإتقان ١١٧:٢) للسيوطي: ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصوّر التحدي له﴾ فلا يقوم الإِعجاز مقام المعجزة دليلاً على النبوّة والتنزيل.
٢ ـ ﴿القرآن المصفىّ﴾
ولصحة الحكم في إِعجاز القرآن، في النظم والبيان، كان لا بدَّ من وجود القرآن كما نزل على النبي. لكن القرآن مرّ بتصفيتين، قبل أن يصلنا بحرفه العثماني والحجّاجي.
١) التصفية الأولى على يد محمد نفسه، في عرْضات القرآن السنوية. جاءَ في (الإتقان ٥١:١): ﴿أخرج ابن اشته، عن ابن سيرين، قال: كان جبريل يعارض النبي ﷺ كل سنة في شهر رمضان مرة. فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه مرتين. فيرون أن تكون قراءَتنا على العرضة الأخيرة. وقال البغوي في (شرح السُنّة): يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي... ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاّه عثمان كتابة المصاحف... ذكر ابن جرير (الطبري): لا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة ـ بالفعل المبني للمجهول ـ فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة، وتركـوا ما سوى ذلك﴾. وفي موضع آخـر: ﴿والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به طول السنة﴾ (الإتقان ٤١:١).
ما هـذه القصة في عرْضات القرآن السنوية؟ والقرآن تنزيل في روع النبي، فكيف ﴿شهد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة﴾؟ حديث وضعوه يصف تنقيح النبي للقرآن كل سنة. ويدور هذا التنقيح النبوي على تصفية المنسوخ منه في بحر السنة. و﴿القرآن المصفّى﴾ نفسه يشهد ﴿بالمحو﴾ و﴿التبديل﴾ واقعين فيه (النحل ١٠١).
مع هذه التصفيات النبوية السنوية، كان القرآن يُقرأ على عهد النبي نفسه ﴿على سبعة أحرف﴾ ـ والعدد للرمز لا للحصر ـ ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني﴾، كما نقل الطبري. لذلك ما كان التنقيح النبوي السنوي ليأتي على ﴿اختلاف الألفاظ﴾ في ﴿الأحرف السبعة﴾. وبعد وفاة محمد، ظل هذا الاختلاف في أحرف القرآن قائماً.
٢) التصفية الثانية على يد عثمان به عفان والصحابة
في صدر الإسلام انشغل القوم بحروب الردة في الداخل، ثم بالفتوحات في الخارج. فتحولت الرخصة النبوية بقراءَة القرآن على سبعة أحرف، والرخصة بقراءته بلغات العرب كلها، والرخصة بقراءَته أحياناً بالمعنى من دون الحرف، الى فوضى أفزعت القوم من ضياع القرآن، فلجأوا الى وضع ﴿إمام مبين﴾. فكانت التصفية الثانية، بأمر عثمان والصحابة، على يد اللجان المتعدّدة . فأتلف الأحرف الستة، ليسلم الحرف العثماني الموحد.
جاء في (الإتقان ١٨٦:١): عن ابن اشته: ﴿فهذا الخبر يدل على أن القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني، وأسلسها على الألسنة، وأقرنها في المأخذ، وأشهرها عند العرب، للكتاب في المصاحف﴾.
وقد شملت التصفية العثمانية أموراً كثيرة.
لقد اسقط عثمان ستة أحرف، كما ينقل الطبري، ليسلم الحرف ﴿العثماني﴾ وحده. فهل كان عثمان والصحابة ولجانهم معصومين ليختاروا النص الصحيح؟ وقد مرت بنا الشهادة في حقيقة تصفيتهم لنص القرآن: ﴿إن القوم كانوا يتخيرون﴾!
وفي الحرف المختار المصفّى أسقطوا كثيراً من المنسوخ، الذي كان يحتفظ به علي بن أبي طالب في مصحفه، كما يقولون.
وأسقطوا كذلك بعض القرآن من التلاوة، حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾ كما نُقل. وقد قيل أيضاً: ﴿غيّر عثمان المصاحف﴾!
ومن التصفية العثمانية، ما ورد على لسان الامام علي: ﴿ما في قريش أحد إلاّ وقد نزلت فيه آية﴾ (الإتقان ١٥١:٢): فأين هذا كله؟
وجعل عثمان ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، واعتمد مبدأ الطول في الترتيب، فتداخلت السور المكية بالمدنية، والآيات المدنية بالمكية، وضاع الترتيب التاريخي في الآيات وفي السور، وهو أساس لصحة الحكم بالإِعجاز في القرآن وتطور البيان.
مع ذلك بقي في الحرف العثماني ما بقي. نقل الرازي: ﴿روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لَحَنا، وستقيمه العرب بألسنتها﴾!
وهكذا، بعد التصفية النبوية، وبعد التصفية العثمانية، لم يبق للحكم في إِعجاز القرآن إلاّ ﴿القرآن المصفّى﴾ الذي أقامته العرب بألسنتها، قبل جمعه وتدوينه، على نص واحد، ولغة واحدة. مع ذلك لم يسلم من ﴿اختلاف القراءات﴾ حتى اليوم.
فهذا ﴿القرآن المصفّى﴾ هو ﴿القرآن المصطفى﴾ بواسطة اللجان العثمانية: فهل يصح منه حكم شامل كامل في إِعجاز القرآن؟ وهل الإِعجاز الباقي هو للحرف المنزل، ام للحرف المصفى؟
مع كل تلك الشبهات القائمة على صحة حرف القرآن، ما زلنا نقول بصحته الجوهرية، التي نحتكم اليها في قيام الإِعجاز بديل المعجزة، وفي صحة اعتبار إِعجاز القرآن معجزة له.
١. قابل: دائرة معارف القرن العشرين. مادة: قرأ ـ المصنف الأول من المجلد ٧ ص ٦٧٧. ثم مقدمة ﴿تفسير القرآن لوجدي﴾
٢. الحكم أي الحكمة (الجلالان) فقد أخذ التعبير العبراني الأرامي بحرفه شهادة في الانتساب اليهم تعبيراً وتفكيراً.
٣. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.
٤. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٧ ـ ١٩٨.
٥. إِعجاز القرآن ٨٠:١ ـ ٨١.
٦. مصادر الفقه الإسلامي ١٩٥٦ ص ٢٤ و ٣٢.
٧. إِعجاز القرآن ٨٠:١ ـ ٨١.
٨. إِعجاز القرآن ١٩٣:٢ ـ ٢٥٠.
٩. السيوطي: الإتقان ٤٤:١.
١٠. السيوطي: الإتقان ٢:٢ ـ ٣.
١١. السيوطي: الإتقان ١٣٠:٢.
١٢. أبو جعفر النحاس: الناسخ والمنسوخ ص ٢٦٠.
١٣. السيوطي: الإتقان ٤١:١ و٤٣.
١٤. عن القرآن.
١٥. سيرة الرسول ٣٠٦:٢ .. الخ.
١٦. سيرة الرسول ٣٠٦:٢ .. الخ.
١٧. محمد الرسول البشر ١٢ ـ ١٣.
١٨. في ﴿نقد وتعريف﴾ به للسيد عبد الله السمان: مجلة الأزهر، ديسمبر ١٩٥٩ ص ٦٣٣.
١٩. دروزة: سيرة الرسول ٣٤٣:٢ ـ ٣٤٤.
٢٠. مجلة الأزهر، فبراير ١٩٦٠ ص ٨١٨ في مقال للاستاذ الشرقاوي: الشريعة والناس.
٢١. مجلة الأزهر، نوفمبر ١٩٥٩ ص ٤٢١ في مقال للدكتور محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي.
٢٢. ﴿قال: اسقطت فيما أُسقِط من القرآن﴾ الإتقان ٢٥:٢.
٢٣. قابل دروزة: القرآن المجيد ٥٨؛ قابل الإتقان ٢٥:٢.
٢٤. الإتقان ٢١:٢.
٢٥. السيوطي: الإتقان ٢٩:١ ـ ٣٠.
٢٦. وهو أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، في ﴿دليل مباحث علوم القرآن المجيد﴾ ـ المقدمة ص ١٢.
٢٧. الموافقات ٨١:١.
٢٨. النظم الفني في القرآن ص ٣٦ ـ ٣٧.
٢٩. القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.
٣٠. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.
٣١. أحمد أمين: فجر الإسلام ـ طبعة سادسة ص ٦٦ ـ ٦٨.
٣٢. التصوير الفني في القرآن ص ١٤١ ـ ١٥٦.
٣٣. السيوطي: الإتقان ٨٨:٢
٣٤. دروزة: عصر النبي وبيئته ص ٢٩٠.
٣٥. سيد قطب: التصوير الفني في القرآن ص ١٤١.
٣٦. الإتقان ١١٧:٢.
٣٧. تجد قصة التكفير في مجلة الرسالة عدد ٧٤٢ ص ١٠٣٤؛ و ٧٤٦ ص ١١٦٤؛ و ٧٤٩ ص ١٢٣٤.
٣٨. سيرة الرسول ٢٠٤:١.
٣٩. القرآن المجيد ص ١٧٠.
٤٠. القرآن المجيد ص ١٨٤.
٤١. تفسير المنار ٣٩٩:١.
٤٢. دروزة: القرآن المجيد ص ١٦٨.
٤٣. الفن القصصي في القرآن الكريم ص ٢٣٩ ـ ٢٤١.
٤٤. محمد خلف الله: الفن القصصي في القرآن الكريم ص ٨ و ٢٦٢.
٤٥. القرآن المجيد ص ١٩٠.
٤٦. القرآن المجيد ص ١٩٦ ـ ١٩٧.
٤٧. القرآن المجيد ص ١٩٧ ـ ١٩٨.
٤٨. القرآن المجيد ص ١٦٠.
٤٩. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٥٥٥:٢ ـ ٥٥٦.