الفصل الرابع
المعجزة الذاتية
توطئة عامة
نواحي الإِعجاز في التنزيل والتأليف والتدوين
قبل القول بالإِعجاز في النظم والبيان، وقبل المناداة بالإِعجاز في الهدى والإيمان، وفي التشريع وفي ﴿العلم﴾ وفي القصص؛ يجب النظر في الإِعجاز في التنزيل أولاً، لأن كيفية التنزيل، ووسائطه، من الدلائل على معجزته.
ويجب النظر أيضاً بالإِعجاز في التأليف، تأليف الآيات في السورة، والسور في المصحف. والظواهر البادية من اسقاط ونسيان، من محو وتبديل، من ناسخ ومنسوخ، دلائل تبين هل الإِعجاز في التأليف معجزة.
ويجب النظر أخيراً بالإِعجاز في الجمع والتدوين، فأدوات حفظ القرآن، وأساليب جمعه، وتعدد وتعاقب اصداراته، كلها دلائل تظهر هل من إِعجاز في الجمع والتدوين يجعله معجزة.
تلك النواحي الثلاث تكون ما نسميه ﴿المعجزة الذاتية﴾ الثلاثية. فهل في القرآن من معجزة ذاتية؟ في تنزيله؟ أم في تأليف آياته وسوره؟ أم في جمعه وتدوينه؟
الجزء الأول
الإِعجاز في التنزيل
توطئة
الإِعجاز الأوّل يكون في التنزيل
﴿وإنّه لتنزيل رب العالمين... وإنه لَفِي زُبر الأوّلين﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٦)
﴿قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل ١٠٢)
﴿ولو نزَّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ سحر مبين﴾ (الأنعام ٧)
قبل الإِعجاز في اللفظ والنظم، في الأسلوب والبيان، إن الإِعجاز الأول المطلوب يكون في التنزيل نفسه. فإذا لم يكن من إِعجاز في كيفية التنزيل وطرقه، فالإِعجاز في النظم والبيان، مهما بلغ، لا يرفع التنزيل نفسه الى الإِعجاز المطلق الذي نسميه معجزة.
والموقف الحق في قصة إِعجاز القرآن ومعجزته، ما حكاه ابن حزم في (الفِصَل): ﴿لم يقلْ أحد إن كلام غير الله معجز. لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً، ومنع من مماثلته﴾. هذه شبهة أولى: إن الإِعجاز ليس في الكلام ذاته ـ وهو المطلوب ـ بل في كونه صادراً عن الله نفسه.
فالإِعجاز الحق هو في كلام الله المباشَر، لا في كلام الله بالواسطة. والقرآن كلام الله بواسطة جبريل: ﴿قلْ: نزَّله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل ١٠٢). وهذه شبهة ثانية على الإِعجاز في التنزيل.
والإِعجاز الحق ما كان تنزيلاً مبتدئاً، لا تفصيل التنزيل القائم. والقرآن يشهد على نفسه أنه تفصيل التنزيل، ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧): ﴿وإنه كتنزيل رب العالمين... وإنه لَفي زبر الأولين﴾ (الشعراء ١٩٢و١٩٦). نلاحظ وحـدة الضمير، ممّـا يجعل ﴿تنزيل رب العالمين﴾ في القرآن، من ﴿زبر الأولين﴾. فهو تفصيل التنزيل الموجود قبله. وهذا أكثر من شبهة على إِعجاز تنزيله.
والإِعجاز الحق في التنزيل، ما كان محكماً بلا متشابه فيه، ما لا يعتريه ناسخ ومنسوخ، ما لا يُعرض على جبريل كل سنة لتنقيحه، ما لا ﴿تبديل﴾ فيه ولا ﴿محو﴾... وهذا أكثر من شبهة على إِعجاز تنزيله.
الإِعجاز في التنزيل يحمل معه الإيمان المطلق به، فلا يعتري نبيَّه ﴿شك﴾ منه. والتنزيل الذي يعقبه ﴿شك﴾ في نفس نبيّه، لا يكون معجزاً في ذاته، ولا معجزاً لغيره. فلا يحمل مثل هذا الافتراض: ﴿ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين﴾ (الأنعام ٧) فالنتيجة الحاسمة أن الله لم يُنزل ﴿كتاباً في قرطاس﴾.
إن الإِعجاز الأول يكون في التنزيل نفسه، في كيفيته، وفي طرقه.
بحث أوّل
التنزيل في لفة القرآن
إن تعبير ﴿التنزيل﴾ في القرآن متشابه، لا يُبنى عليه عقيدة.
فلفظ ﴿أنزل﴾ ومشتقاته يطلقه القرآن على الخالق وعلى المخلوق، على سائر المخلوقات كما على الوحي نفسه. فالله ﴿ينزّل الملائكة، بالروح من أمره، على مَن يشاء من عباده﴾ (النحل ٢). والله ﴿أنزل من السماء ماء﴾ (٢: ٢٢؛ ١٣: ١٧؛ ١٤: ٣٢؛ ١٦: ٦٥؛ ٢٠: ٥٣؛ ٢٢: ٦٣؛ ٣٥: ٢٧؛ ٣٩: ٢١). والله ﴿أنزل جنوداً لم تروها﴾ (التوبة ٢٦) من الملائكة أو من عناصر الطبيعة ويخاطب الناس بقوله: ﴿وأنزلنا عليكم المن﴾ (البقرة ٥٧). ويقول: ﴿قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم﴾ (الأعراف ٢٦) ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ (الزمر ٦).
ويأتي لفظ التنزيل على المجاز، في شتى المجازات: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله على المؤمنين﴾ (التوبة ٢٦، كذلك ٤٠) ﴿بغياً أن يُنزِّل الله من فضله على مَن يشاء من عباده﴾ (البقرة ٩٠) ﴿ما لم ينزّل به سلطاناً﴾ (٣: ١٥١؛ ٧: ٣٣؛ ٢٢: ٧١) ﴿ما أنزل الله بها من سلطان﴾ (١٢: ٤٠، ٥٣: ٢٣).
وهكذا فتعبير التنزيل يطلق على الله، وعلى المخلوق، على الأشخاص وعلى الأشياء؛ يُستعمل حقيقة ومجازاً.
وفي لغة القرآن تنزيل الكتاب مثل تنزيل الحديد والميزان: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾ (الحديد ٢٥).
وهكذا فإن تعبير ﴿التنزيل﴾ في لغة القرآن متشابه لا يُبنى عليه عقيدة. لذلك فإن تنزيل القرآن، في لغته، لا يوجب حكماً الوحي المباشر من الله؛ ووحيه بالوسائط المخلوقة يُنسب، بحسب لغته، الى الله نفسه، فقد أنزل الله الكتاب والميزان والحديد معاً (الحديد ٢٥).
ففي لغة القرآن نفسه، على تنزيله، شبهة في إِعجازه طريقته.
بحث ثان
التنزيل ومسألة خلق القرآن ١
إن لغة القرآن في تعبير التنزيل المتشابه أباحت لهم القول في خلق القرآن. والقول بخلق القرآن شبهة على إِعجازه وعلى طريقة تنزيله.
تجاه مقالة المسيحيين بأزلية المسيح لأنه ﴿كلمة الله﴾ كما يقول الإنجيل والقرآن، قال المسلمون الأوائل بأزلية كلام الله في القرآن. ثم ثارت الشبهات بينهم والخصومات في أزلية القرآن أم في خلقه. وتفرّق القوم الى ثلاث مدارس.
مدرسة السلف الصالح قالت بأزلية حرف القرآن.
فجاءَ المعتزلة وأنكروا أزلية القرآن، وقالوا بخلق القرآن من النقل ومن العقل. استشهدوا بقوله: ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، إلاّ استمعوه وهم يلعبون﴾ (الأنبياء ٢)؛ ﴿ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين﴾ (الشعراء ٥). وفسروا قوله: ﴿كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود ١)، بأن ما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثا. ثم اعملوا عقلهم فقالوا: إن القرآن مركب من حروف وكلمات، والمركب محدث! وفي نظرهم إن المقولة بأزلية القرآن تحمل تناقضاً في ذاتها، فهي القول بقديمين: الله والقرآن! لأنه إما أن يكون القرآن ذات الله أو غير ذاته: فإن كان القرآن، كلامُ الله، ذاتَ الله، فهل يصح أن يكون من ذات الله ما ورد فيه من أعمال مخلوقة، وأحداث بشرية؟ وإن كان القرآن، كلامُ الله، غَيْر ذاته، فالقول بأزليته هو القول بقديمين، وهذا هو الكفر بعينه. ولا يُردُّ عليهم بتمييز الأشاعرة في كلام الله أنه في منزلة بين المنزلتين: فلا هو عين الذات، ولا هو غيرها. لأنه على كل حال من ذات الله، ومحال أن تكون الأعمال المخلوقة، والأحداث البشرية المذكورة في القرآن من ذات الله على أيّ حال.
وجاء الأشاعرة بحل وسط. فقالوا: إن كلام الله على نوعين، الكلام النفسي في ذات الله، والكلام اللفظي في غير ذاته. واطلاق اسم كلام الله على اللفظي يكون إمّا مجازاً وإما باشتراك اللفظ. وميّزوا بين معنى القرآن وحرفه، فقالوا: معنى القرآن هو كلام الله غير المخلوق، وحرف القرآن مخلوق. فالمعنى هو القديم في القرآن؛ أما الحروف والكلمات والورق والحبر وغير ذلك، فكله محدث. وظنوا بذلك أنهم يردّون على مقالات المعتزلة في خلق القرآن.
وذهبت مقالة الأشعرية عقيدة في الإسلام، وأصبحت نظريتهم مقالة أهل السنة والجماعة من بعدهم.
والتمييز بين معنى القرآن القديم، وحرفه المخلوق لا يقطع الشبهات في التنزيل ولا في الإِعجاز.
إن الإِعجاز الذي يتحدّى ويتحدّون به هو في حرف القرآن من لفظ ونظم: فإذا كان حرف القرآن مخلوقاً، زال إِعجاز القرآن على الإطلاق، لأنه ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز﴾ كما أعلن ابن حزم. وإذا كان الكلام اللفظي عبارة عن الكلام النفسي في ذات الله، فهناك تناقض: لأن المعاني أرواح، والألفاظ أجساد لها، والروح في جسد، كالمعنى في كلام لا يكون مخلوقاً وغير مخلوق معاً؛ ولا يكون غير مخلوق من حيث هو معنى، وبالوقت ذاته مخلوقاً من حيث هو حرف. فإن كلام الله في ذاته هو من ذاته فهو غير مخلوق؛ وكلام الله المنزل في كلام بشري مخلوق. فالتنزيل، من حيث هو تنزيل، مخلوق وغير معجز في ذاته؛ مثل خلق الكون، فعمل إلهي معجز، لكن المخلوق غير معجز، لأنه محدث. والتنزيل مثل الخلق محدث فهو مخلوق وغير معجز.
وإذا كان القرآن كلام الله في ذاته، فهل يصح أن يتحدّى الله به بشراً؟ ولا صلة، ولا مجانسة بين كلام الخالق وكلام المخلوق، والتحدّي بالكلام إنما يكون من جنس واحد.
لقد حاول الباقلاني الردّ على هذه الشبهات فقال: إنه تحدّي، ليس بإِعجاز كلام الله الأزلي، بل بصورته العربية التي هي عبارة عن الأزلية وحكاية عنها، ودلالات عليها، وأمارات لها.
يُردّ عليه بيسر يفضح المغالطة: هل من فرق بين القرآن الأزلي، كلام الله في ذاته، والقرآن العربي، المنزل عربيّاً؟ فإذا كان هناك من فارق، فالوحي نفسه مشبوه؛ واذا لم يكن ثمة من فارق، فالتحدّي به ممنوع، لأنه لا مجانسة بين كلام الخالق وكلام المخلوق.
يقولون: إن القرآن تنزيل من اللوح المحفوظ، فهو معجز.
ويرد بعضهم: اذا كان قرآن اللوح المحفوظ عين كلام الله الأزلي، فالتحدّي به ممنوع، واذا كان مثل الكلام المنزل بشرياً فالتحدّي مشبوه، إذ ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز﴾.
والمغالطة الكبرى هي بين كلام الله الذاتي، الذي هو بلا صوت ولا حروف ولا كلمات، وكلام الله المنزل الذي هو بأصوات وحروف وكلمات ونظم وأسلوب.
والقول الفصل ان إِعجاز القرآن الذي به يتحدّى، هو في حرفه أي في لفظه ونظمه. وحرف القرآن مخلوق، فليس في إِعجازه من معجزة. وليس القرآن ﴿معجزة لغوية﴾ في تنزيله.
بحث ثالث
تنزيل القرآن بالمعنى أم بالحرف
هذه المسألة قريبة من سابقتها، ومتفرعة عنها.
اختلف علماء الكلام في المنزل إلى النبي على ثلاثة أقوال:
(أحدها) إنه اللفظ والمعنى؛ وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبي.
(الثاني) إن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبَّر عنها بلغة العرب. وتمسك قائل هذا بظاهر قوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾، لا على لسانك ـ فلفظ القرآن ونظمه، في هذه المقالة، من محمد نفسه.
(الثالث) إن جبريل ألقى اليه المعنى وأنه هو نفسه عبر عنه بهذه الألفاظ بلغة العرب ـ فلفظ القرآن ونظمه، في هذه المقالة، من جبريل نفسه ٢ .
وهكذا فإن قولاً واحداً من ثلاثة يقول بالتنزيل باللفظ والمعنى؛ وإن قولين من ثلاثة يقولان بالتنزيل بالمعنى وحده.
وبما أن الاجماع على إِعجاز القرآن في لفظه ونظمه، فالاختلاف في التنزيل بالمعنى أم باللفظ يجعل الإِعجاز معجزة مشبوهة.
والواقع القرآني الذي يشهد بوجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، وبوجود المحكم والمتشابه فيه؛ وبوجود الاختلاف في التعبير عن الشيء الواحد؛ وبوجود الاختلاف في النظم والأسلوب بين القرآن المكي والمدني؛ وبين سور القرآن المكي والمدني؛ فإن القول بالتنزيل بالمعنى أقرب الى حقيقة الواقع القرآني. وعليه يكون التعبير واللفظ والنظم والتأليف من جبريل أو من النبي. وفي هذه الحالة لا يكون القرآن معجزاً للخلق، لأنه ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز﴾.
فالإِعجاز كمعجزة يقتضي التنزيل؛ والتنزيل يقتضي أن يكون كلام الله في القرآن قائماً في ذات الله. فهل لفظ القرآن في ذات الله أم معناه؟ إنه لا يصح أن تكون ألفاظ القرآن في ذات الله لأنها مخلوقة. واذا كان معنى القرآن وحده في ذات الله، سقطت معجزة الإِعجاز لأنها في اللفظ والنظم والبيان والأسلوب.
فسواءٌ كان تنزيل القرآن بالمعنى أم بالحرف، فليس من معجزة خاصة به في تنزيله.
بحث رابع
نزول القرآن على سبعة أحرف
تنزيل القرآن بالمعنى، من دون حرفه، يزيده إشكالاً وإحراجاً، وشبهة نزول القرآن على ﴿سبعة أحرف﴾ كلها شافٍ كافٍ، ما لم يختم آية عذاب برحمة، وآية رحمة بعذاب. وحديث الأحرف السبعة المشهور المتواتر شبهة ضخمة على سلامة التنزيل، وعلى صحة حفظ القرآن كما أُنزل، وعلى إِعجازه. واختلفوا على نوع الاختلاف بين هذه الأحرف السبعة: أهو اختلاف في الألفاظ أم اختلاف وتعدّد في المعاني. وأَكثر العلماء على أنه ﴿اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني﴾، بحسب تحديد الطبري، إمام المفسرين بالحديث.
أوّلاً: حديث الأحرف السبعة والتنزيل
عقد السيوطي في (الإتقان ١: ٤٧) فصلاً قيماً أكّد فيه صحة الحديث بشهادة واحد وعشرين صحابيّاً، وينقل لنا خبر استفتاء جماعي أجراه الخليفة عثمان بن عفان في المسجد، فشهد جميع الحاضرين بصحته، وشهد هو معهم علناً على الاجماع عليه.
ثم يفسّر الحديث الغريب بأغرب منه. قال: ليس المراد بالأحرف السبعة اقتصار العدد على سبعة، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. فقد يكون أكثر من سبعة.
وقال: ﴿اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً... وأنه من المشكل الذي لا يُدرى معناه، لأن الحرف يصدق، لغةً، على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى الجهة﴾. ويجزم أن أكثر العلماء على رأي ابن جرير الطبري: ﴿إن المراد به سبعة أحرف من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو: أقبل وتعالَ وهلمَّ وعجّلْ وأسرعْ...﴾.
وهذه هي مقالة الطبري ٣ التي أجمعوا عليها: ﴿إن اختلاف الأحرف السبعة هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني﴾ (١: ٤٨). ثم يردّ على المقالات المخالفة.
يردّ أولاً على مَن ردَّ حديث الأحرف السبعة المختلفة بحسب الآية: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ (النساء ٨٢)، بقوله: ﴿إنها تقصد اختلاف الأحكام والمعاني، لا اختلاف الألفاظ والتعابير، بدليل اختلاف الصحابة، كلٌّ في قراءَته، وتصويب النبي لهم جميعاً﴾ (١: ٤٨).
ثم يردّ على التفاسير الخاطئة للحديث المشهور.
يردّ على من قال: ﴿إنه اختلاف في التأويل أي في المعاني المتعدّدة ـ إن الذي تمارى فيه الصحابة كان اختلافاً في اللفظ، دون ما تدل عليه التلاوة من التحليل والتحريم وما أشبه﴾ (١: ٤٩).
ويرد على مَن قال: إنها لغات أي لهجات سبع، في حرف واحد، وكلمة واحدة ـ ﴿بأنها باختلاف الألفاظ، واتفاق المعاني﴾ (١: ٥٧).
ويرد على فهم الأحرف السبعة بأنها القراءات السبع الشائعة على المصحف العثماني ـ ﴿إن اختلاف القراءَة في الرفع والجر والنصب، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، كما هي القراءَة اليوم اليس من الأحرف السبعة في شيء. وإن المراء فيها لا يوجب كفراً﴾ (١: ٦٥).
ويرد تأويل الأحرف السبعة بمعاني القرآن المتعدّدة من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والجدل والقصص والمثل (١: ٦٢ ـ ٦٦) بأن تمارى الصحابة كان بالإلفاظ المختلفة، وتصويب النبي لها جميعاً.
أخيراً يقص كيف أتلف عثمان بن عفان ستةً من الأحرف، وجمع الأمة على حرف واحد، من السبعة، هو الحرف العثماني الوحيد الباقي الى اليوم، وعليه اختلاف القراءات السبع بعد الجمع.
وتابع الطبري في تفسيره أكثر الأثمة. منهم أبو عبد الله الزنجاني. قال: ﴿المراد بالأحرف السبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة﴾. وهذا ممّا يجعلها سبعة نصوص مختلفة لقرآن واحد. فهل أنزل الله سبعة قرائين؟!
ومن الغرابة أن يستصوب النبي ذاته التلاوة لقرآن واحد، بأحرف سبعة مختلفة يقول أبو جعفر النحاس ٤ : ﴿يُفهم من سلف الأمة، وخيار الأئمة أن معنى (نزل القرآن على سبعة أحرف) من أنه نزل بسبع لغات، وأمر بقراءَته على سبعة ألسن، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. ومن الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب، وسائر من قدّمنا الرواية عنهم، أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضاً في نفس التلاوة، ﴿دون ما في ذلك من المعاني! وأنهم احتكموا الى النبي ﷺ فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوّب جميعهم في قراءَتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم. فقال رسول الله ﷺ للذي ارتاب منهم، عند تصويبهم جميعهم: إن الله أمرني أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف﴾.
فهذه الشهادة عن ﴿سلف الأمة وخيار الأئمة﴾ تؤكد أن أحرف القرآن السبعة قبل جمعه على حرف واحد، لم تكن في التنزيل نفسه، بل في اختلافهم على قراءة القرآن الواحد.
وهذه القراءات المختلفة، بنصوص مختلفة لقرآن واحد، بتصويب النبي لها جميعاً شهادة قائمة على أن القرآن الواحد أمسى، على عهد النبي نفسه، سبعة قرائين. ولتستير هذه الشبهة الضخمة على صحة التنزيل وسلامته، كان حديث نزول القرآن على سبعة أحرف.
وتعدّد النص الواحد الى سبعة نصوص شبهة ضخمة على صحة التنزيل.
ثانياً: حديث الأحرف السبعة والتاريخ
لذلك يرى اليوم علماء الإسلام الأعلام أن حديث الأحرف السبعة ليس قضية تنزيل، بل قصة تاريخ وواقع بعد التنزيل.
نقل محمد صبيح ٥ عن الدكتور طه حسين: ﴿وقد أحاط في موضوعه بآراء المحدثين والقدماء من المسلمين، كما أحاط بآراء المستشرقين ـ إن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً... وليست القراءات السبع المتواترة الى يومنا، بالأحرف السبعة التي أُنزل عليها القرآن، وانما هي شيء وهذه الأحرف السبعة شيء آخر... وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف، والنبي بين أظهرهم، فنهاهم عن ذلك وألح في نهيهم فلمّا توفي استمرّ أصحابه يقرأون القرآن على هذه الأحرف السبعة، كلٌ يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي. فاشتد الخلاف والمراء في ذلك، حتى كادت تقع الفتن بين الناس ولا سيّما في جيوش المسلمين. فرُفع الأمر الى عثمان فجزع له وأشفق. فجمع لهم المصحف الإمام، وأذاعه بالأمصار، وأمر بما عداه من المصاحف فمُحي محواً. وعلى هذا مُحيت من الأحرف السبعة ستة أحرف، ولم يبق إلا حرف واحد، هو الذي نقرأه في مصحف عثمان، وهو حرف قريش. وهو الحرف الذي عادت فاختلفت لهجات القراء فيه، فمدَّ بعضهم وقصّر بعضهم، وفخّم فريق ورقّق فريق، ونقلت طائفة وأثبتت طائفة...
﴿ثم أورد الأستاذ طه حسين ما ورد في الجزء الأول من تفسير ابن جرير الطبري لتأييد رأيه. وقال: والحق أن ليست هذه القراءات السبع (الأحرف السبعة) من الوحي في قليل ولا كثير. وليس منكرها كافراً ولا فاسقاً ولا مُغتَمزاً في دينه. وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها. للناس أن يجادلوا فيها، وأن يُنكروا بعضها ويقبلوا بعضها. وقد جادلوا فيها بالفعل وتماروا وخطّأ بعضهم بعضاً. ولم نعرف أن أحداً من المسلمين كفَّر أحداً لشيء من هذا﴾.
تلك هي قصة الأحرف السبعة قبل التوحيد العثماني: إنها قصة تاريخ وأمر واقع لا قصة تنزيل على أحرف سبعة. فوجود أحرف أي نصوص سبعة لقرآن واحد، على زمن النبي وصحابته من بعده، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، ليس من التنزيل في شيء: فهل يعقل أن يُنزل الله على نبي واحد كتاباً واحداً بسبعة نصوص؟
إن حديث الأحرف السبعة المشهور المتواتر يصوّر لنا الحالة التعسة التي وصل اليها نص القرآن قبل جمعه. أجل ﴿إن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة، لم يكد يتناوله القراء حتى كثرت قراءاته، وتعدّدت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً﴾. فاقتتل عليه الغلمان في المدارس، والجنود في الحروب.
إن هذا الحديث يصور أمراً واقعاً مفجعاً: ففي زمن النبي، وبحضرته، يختلفون في نص القرآن الواحد، ويضطّر محمد الى تصويبهم جميعاً. وزاد الخلاف، في زمن الخلفاء الراشدين، حتى كاد نص القرآن يضيع. إن هذا التعدّد في نص القرآن الواحد، على حياة النبي نفسه، ثم من بعده، برهان قاطع للاشتباه اللازم على صحة النص المُنزل. ولو كانت الأحرف السبعة من التنزيل في شيء، لَما تجرّأ عثمان على إبادة ستة منها! ولَما وافقته الأمة على فعلته. ولكنه فعل برضى الأمة وقبول الأئمة، لرفع خطر الاختلاف على سلامة النص القرآني. لكن الواقع التاريخي كان قد تخطاه في الاختلاف الى سبعة نصوص، فما فوق. وكانت براعة فائقة من النبي ان ينسب هذه الفوضى في نص القرآن إلى تدبير إلهي، وتنزيل رباني. هذا إن صح الحديث، كحديث نبوي. ولكن من السذاجة الجاهلة أن يتستّر السلف الصالح بحديث شريف لستر أمر خطير. أجل لقد اختلف نص القرآن الواحد اختلافاً كثيراً، على حياة النبي وعلى حياة صحابته وعلى حياة الخلفاء الراشدين، قبل اختيار عثمان ولجانه المختلفة للحرف العثماني الناجي، الذي نجا بقوة الحديد والنار.
هذا الواقع التاريخي يفرض النتائج التالية:
أولاً: إن نص التنزيل قد فسد على حياة محمد وصحابته قبل جمعه. وفي هذا الواقع شبهة ضخمة قائمة، لا مرد لها، على سلامة النص المنزل من التحريف.
ثانياً: إن معجزة ﴿حفظ﴾ القرآن من التحريف أسطورة. فهل كان عثمان، وهل كانت لجانه المختلفة المتتابعة، معصومين حتى يختاروا النص الصحيح من الأحرف السبعة المتداولة؟ وهل كان بوسعهم أن يفعلوا بعد أن صار القرآن الواحد قرائين؟ أمن الممكن، بعد نصف قرن تقريباً، من تلك الفوضى، الرجوع الى النص المنزل، بدون تحريف. هذه معجزة إلهية، وقد مُنعت المعجزات مبدئياً منعاً مطلقاً على النبي (الإسراء ٥٩)، ولا شاهد أن جماعته من بعده كانوا من أهل المعجزة ومن أهل العصمة.
ثالثاً: إن هذا الواقع التاريخي شبهة ضخمة قائمة على صحة التنزيل وعلى صحة الإِعجاز معاً: إن نصّاً منزلاً على صحته شبهة لا يقوم التحدّي به وبإِعجازه.
وهكذا فإن حديث الأحرف السبعة التاريخي ينقض إِعجاز القرآن من أساسه، لأنه مبني على حرفه المنزل، وهذا الحرف قد صار ﴿سبعة أحرف﴾ أي سبعة قرائين فما فوق، قبل توحيده العثماني بالحديد والنار، وتدوينه على ثلاثة اصدارات، لأبي بكرٍ ثم لعثمان ثم للحجاج بن يوسف. فحق لهم أن يقولوا: ﴿إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة﴾.
بحث خامس
ميزات التنزيل القرآني
في القرآن والحديث، للتنزيل القرآني ميزات تقوم عليها شبهات نورد منها ما تيسر، لنرى مدى الإِعجاز في التنزيل.
أولاً: بحسب القرآن
١ ـ الميزة الأولى: النسيان من القرآن.
أول ميزة تواجهنـا في تنزيل القرآن هي النسيان منه بعمـل النبي، أو بعمـل الله: ﴿سنقرئك فلا تنسى، إلاّ ما شاء الله﴾ (الأعلى ٦ ـ ٧). إن قضية النسيان أمر واقع للنبي، فقد كان ينسى بعض الوحي؛ وقضية مبدأ إلهي، فقد يشاء الله أن ينسى النبي، كما يدل الاستثناء: ﴿إلاّ ما شاء الله﴾.
نقل البيضاوي: ﴿روى أنه ﷺ أسقط آية في الصلاة، فحسب أُبي أنها نُسخت، فسأله، فقال: نسيتها﴾. فإذا أوحى الله لعبده شيئاً فهل يصح أن ينساه أو يتناساه؟
وفي آية النسخ، تصريح بأن الله قد ينسى نبيه عمداً بعض الوحي: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦). فهل يصح أن يوحي الله شيئاً ثم يأمر بنسيانه؟
وبعد آية النسيان (الأعلى ٦) يأتي هذا التحذير: ﴿إنه يعلم الجهر وما يخفى﴾ (الأعلى ٧). فهل كان النبي يقصد النسيان؟ إن آية التبديل (النحل ١٠١) وآية المحو (الرعد ٣٩) توحيان بأن النسيان من التنزيل قد يكون مقصوداً من الله، ومن النبي أيضاً.
فهل ميزة النسيان المقصود من التنزيل هو من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٢ ـ الميزة الثانية: استباق الوحي والتنزيل
هذه هي الظاهرة الثانية التي تطالعنا: كان محمد يستعجل الوحي ويستبقه، فجاءَه هذا التوبيخ: ﴿لا تحرّكْ، لسانك لتعجل به! إنّ علينا جمعه وقرآته، فإذا قرأناه فاتّبعْ قرآنه، ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة ١٦ ـ ١٩). فهذا العتاب يدل على أن النبي كان يستبق الوحي أحياناً. وكان يتدخل في جمع القرآن وقراءَته. وكان ينفرد أحياناً ببيان القرآن قبل كمال تنزيله.
فسّره البيضاوي: ﴿لا تحرك، يا محمد، بالقرآن لسانك قبل أن يتم وحيه لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك... وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة﴾.
وفي (أسباب نزول) الآية (القيامة ٣٤) نقل السيوطي مثالاً على هذه العجلة المذمومة: ﴿أخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قـوله ﴿أولى لك فأولى﴾ أشيء قاله رسول الله من قِبَل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله﴾.
وفسّر البيضاوي قوله: ﴿ثم إن علينا بيانه ـ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب﴾. وخطاب منزل أو قرآن لا يفهمه النبي نفسه للحال، بل هو بحاجة الى بيان متأخر عنه، كيف يكون معجزاً للناس؟ والإِعجاز هو السهل الممتنع الذي تنزيله هو بيانه.
ويظهر أن استباق الوحي كان من عادة النبي، فيعود الى تحذيره: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه! وقلْ: ربِّ زدني علماً﴾ (طه ١١٤). قال البيضاوي أيضاً في تفسيره: ﴿فيه نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل، ومساوقته في القراءَة حتى يتم وحيه. وقيل: نهي عن تبليغ ما كان مجملاً قبل أن يأتي بيانه﴾.
فهل في استباق الوحي والتنزيل إِعجاز هذا الوحي والتنزيل؟
٣ ـ الميزة الثالثة: إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي
ظاهرة خطيرة ومؤلمة، وهي إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي، وإمكان ركون النبي الى فتنتهم: ﴿وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره: وإذاً لاتخذوك خليلاً! ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات! ثم لا تجد علينا نصيراً﴾ (الإسراء ٧٣ ـ ٧٥).
يشهد القرآن أن هذه الإمكانية كادت تكون عند محمد أمراً واقعاً في شيء قليل. قال البيضاوي: ﴿والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة اليهم﴾.
والتحذيرات والتهديدات المتواترة في أزمة الشك التي انتابت محمداً من التوحيد، ومن النبوّة، ومن الوحي والتنزيل ـ كلها تدل على جواز فتنة محمد ﴿عن الذي أوحينا إليك﴾، كقوله في السورة التالية نزولاً: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فسأل الذي يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءَك الحق من ربك: فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله، فتكون من الخاسرين﴾ (يونس ٩٤ ـ ٩٥).
ولا عتاب إلاّ بعد ذنب. وهذا الشك من نتائج تلك الفتنة. فهل إمكان فتنة النبي عن الوحي من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٤ ـ الميزة الرابعة: ترك بعض الوحي
إن الظاهرة الرابعة في التسلسل التاريخي للنزول هي إمكان ترك النبي بعض ما يُوحى اليه: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك! وضائق به صدرك! أنْ يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه مَلَكٌ؟ ـ إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل﴾ (هود ١٢). إنّ تحدّي المشركين المتواتر للنبي بمعجزة كالأنبياء الأولين، وعجزه المتواصل عنها مع الوعد بها، حمله على ترك بعض الوحي؛ وأُفهم أنه نذير لا معجزة معه. فسره البيضاوي: ﴿ليس عليك إلاَّ الانذار بما أوحى إليك، وما عليك ردّوا أو اقترحوا: فما بالك يضيق صدرك﴾.
أجل لا يلزم من توقع الشيء حدوثه؛ ولكن مجرّد التهمة شبهة. وضيق صدر النبي من عدم وقوع المعجزة دليل على ما همَّ به من ترك بعض الوحي. ولولا عزم النبي على ترك بعض الوحي، ما كان القرآن ليوبخه هذا التوبيخ اللاذع: فلا يليق بالله توبيخ بلا ذنب، ولا معاتبة بلا زلة. فهل محنة ترك بعض الوحي من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٥ ـ الميزة الخامسة: التبديل في آي القرآن
ظاهرة مذهلة تمس التنزيل في صميمه، والآية صريحة لا تحتاج الى تأويل: ﴿واذا بدلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! بل أكثرهم لا يعلمون﴾ (النحل ١٠١). فالتبديل في آي القرآن أمر واقع، بنص القرآن القاطع. ويشهد على حقيقة التبديل أيضاً فتنة الارتداد عن الإسلام التي انتابت الجماعة الصغيرة بعد الحادثة، فاستنزلت غضب الله: ﴿من كفر بالله بعد إيمانه... فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم﴾ (النحل ١٠٦ ـ ١٠٩). وهذا التبديل في آي القرآن يؤكد الظواهر الأخرى، وينقلها من الإمكان الى الواقع: مثل ترك النبي لبعض الوحي، وفتنة الناس له عن بعض آخر، واستعجال الوحي واستباقه، ونسيان أو تناسي بعضه. والمشكل الأكبر في التبديل أن التنزيل هو من اللوح المحفوظ: فأيهما المثبت في اللوح المحفوظ المبدَل أو المبدَل به؟ وإذا كان ما في اللوح المحفوظ مكتوب منذ الأزل فكيف جرى تنزيل غيره؟ إن المؤمن ليحار من واقع التبديل في التنزيل حيرة لا شفاء منها. فهل التبديل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٦ ـ الميزة السادسة: الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن
بمناسبة التبديل في التنزيل يأتي النبي هذا الأمر: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ (النحل ٩٨). فذهبت سُنّةً في الأمة، فهم يستعذون من الشيطان، قبل الاستفتاح باسم الرحمان!
وكلام الله هو نفسه استعاذة تطرد الشيطان. أتكون الاستعاذة من المخلوق أقوى من الاستفتاح بذكر الخالق؟ وهل للشيطان على الوحي والتنزيل ذلك التأثير حتى أنه ليفسده بتدخله، اذا لم يستعذ النبي منه؟ إن صح ذلك، فهو في التنزيل بلاء عظيم!
وسورة (المؤمنون) التي تلي سورة (النحل) يظهر هلع النبي من حضور الشيطان عنده ومن همزاته له: ﴿وقلْ: ربّ أعوذ بك من همزات الشيطان، وأعوذ بك، ربّي أن يحضرون﴾ (٩٧ ـ ٩٨). فالاستعاذة هي إذن من حالة واقعية. وهنا ذروة الحيرة في تنزيل يخشى من حضور الشيطان!
فهل حضور الشيطان للتنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٧ ـ الميزة السابعة: المحو من التنزيل
وهذه ظاهرة أخرى تبلبل الراسخين في الإيمان: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أُمّ الكتاب﴾ (الرعد ٣٩).
يقول الجلالان: ﴿أمُّ الكتاب أي أصله الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل﴾، وهذا كناية عن اللوح المحفوظ. قال السيوطي: ﴿ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أمُّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ﴾ ٦ .
وهذا المحو في التنزيل قد يلحق المكتوب في أمُّ الكتاب، أو المنزل عن أمُّ الكتاب. وكيف يلحق المحو والاثبات ما كتبه منه الأزل في اللوح المحفوظ؟ أم كيف يلحق المحو والاثبات المنزل حرفياً أو معنوياً عن اللوح المحفوظ؟ وأيهما المكتوب في أمُّ الكتاب: هل الممحو أم المثبت؟
أجل قد ﴿تتبدّل الأحكام بتغير الأزمان﴾! لكن هل يتبدّل الزمن مع نبي واحد وكتاب واحد، وفي عهد واحد، وربما في سورة واحدة؟ أجل ﴿لكل أجل كتاب﴾، سواء في التنزيل أم في القضاء والقدر. وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت من كتاب منزل الى كتاب آخر منزل؛ أمّا في الكتاب الواحد فلا يصح ذلك على الحكيم العليم. والتنزيل هنا من ﴿أمُّ الكتاب﴾: فما هو المكتوب فيها منذ الأزل، هل الممحو أم المثبت؟ وكيف يصح محوه من اللوح المحفوظ؟ أم كيف يصح محوه من التنزيل عن اللوح المحفوظ؟ وهل الإِعجاز في التنزبل هو في المحو أم في المثبت؟ لا شك في المثبت. فقد كان التنزيل الممحو اذن غير معجز! فهل يصح تنزيل من الله لا إِعجاز فيه؟ وبما أن الممحو والمثبت هما من معدن واحد، فالممحو من التنزيل شبهة على المثبت منه. فهل المحو في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٨ ـ الميزة الثامنة: النسخ في التنزيل
إن النسخ في أحكام القرآن ميزة انفرد بها على كتب الله. وهو قضية مبدأ وقضية أمر واقع: ﴿ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦). نذكر هذه الميزة هنا، وسنفرد لها بحثاً آخر. نقول فقط: أين الإِعجاز في التنزيل، هل هو في المنسوخ أم في الناسخ؟ وما هو المثبت في اللوح المحفوظ، هل المنسوخ أم الناسخ؟ تتبدل الأحكام بتغير الأزمان، من عهد الى عهد، ومن نبي الى نبي، ومن كتاب الى كتاب. لكن هل يصح النسخ في الكتاب الواحد وعند النبي الواحد وفي العهد الواحد، وفي السورة الواحدة؟ فهل هذا النسخ في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
٩ ـ الميزة التاسعة: المتشابه في التنزيل
يقسم القرآن تنزيله الى محكم ومتشابه، ويقتصر المحكم في التنزيل القرآني على الأحكام فيه؛ وما سواها فهو من المتشابه، أي أكثر القرآن. وفي هذا المتشابه يصرح جازماً: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا. وما يذّكر إلا أولو الألباب﴾ (آل عمران ٧).
نعلّق هنا بكلمتين. الأولى: إن الآيات المحكمات ﴿هنّ أمُّ الكتاب﴾. ونعلم أنّ ﴿أمُّ الكتاب هي أصله الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل﴾ (الجلالان)، وأمُّ الكتاب كناية عن اللوح المحفوظ. فإذا كانت الآيات المحكمات هنّ أمُّ الكتاب، واللوح المحفوظ، فالآيات المتشابهات، وهي أكثر القرآن، من أين نزلت؟ هل هي من عند النبي نفسه؟ والثانية، يقول: إن المحكم والمتشابه، ﴿كلٌ من عند ربنا﴾، والمتشابه غير معجز على الإطلاق، لأنه ﴿ما يعلم تأويله إلا الله﴾: فهل ﴿عند ربنا﴾ تنزيل معجز، وتنزيل غير معجز؟
إن تنزيل المتشابه غير المعجز هو شبهة على تنزيل المحكم المعجز! فهل المتشابه في التنزيل، وهو أكثره، من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
١٠ ـ الميزة العاشرة: إلقاء الشيطان في التنزيل
أغرب ميزات القرآن ظاهرة إلقاء الشيطان في تنزيله: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلاّ إذا تمنىّ (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته (قراءَته). فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يُحكم الله آياته، والله عليم حكيم، يجعل ما يُلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد؛ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به فتخبتَ له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم﴾ (الحج ٥٢ ـ ٥٤).
آيات ملأى بالغرائب. العجيبة المذهلة أن الشيطان قد يُلقي في قراءَة القرآن. فهل من ضامن بعد ذلك لسلامة التنزيل الرباني، وإن أحكم الله آياته بعد الإلقاء الشيطاني؟ الغرابة الثانية أن تدخل الشيطان في الوحي قد جرى لكل رسول ونبي. وليس في الكتاب ولا في الإنجيل من شاهد على ذلك. إنما هي ميزة انفرد بها التنزيل القرآني، بنص القرآن القاطع. الغرابة الثالثة أن إلقاء الشيطان في التنزيل فتنة منه تعالى للمنافقين ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾، وللكفار ﴿القاسية قلوبهم﴾، ولليهود ﴿الظالمين، في شقاق بعيد﴾. إنه يعلّل الغرابة بأغرب منها: فهل التنزيل من الرحمان الرحيم للفتنة أم للرحمة؟ أما النصارى ﴿الذين أوتوا العلم﴾ فإنهم يؤمنون به وتخبت له قلوبهم. وإن جماعة محمد ﴿الذين آمنوا﴾ فيهديهم الله، في هذه المحنة، الى صراط مستقيم، على آثار الذين أوتوا العلم.
إن إلقاء الشيطان في التنزيل القرآني فتنة مقصودة تبلبل الأمة. فهل إلقاء الشيطان في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟
أخيراً الميزة الجامعة المانعة للتنزيل القرآني أنه قليل من العلم المنزل: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ (الإسراء ٨٥).
في اصطلاح القرآن ﴿العلم﴾ هو العلم المنزل؛ و﴿أولو العلم﴾ هم أهل الذكر وأهل الكتاب، الذين يسميهم في السورة نفسها ﴿الذين أوتوا العلم من قبله﴾ (١٠٧). فهؤلاء عندهم الكتاب ﴿الإمام﴾ (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فعندهم فيه ﴿العلم﴾ كله. وبما أنه يصف اليهود ﴿بالظالمين، في شقاق بعيد﴾ (الحج ٥٣ قابل العنكبوت ٤٦)، النصارى بأولي العلم قائماً بالقسط (آل عمران ١٨)، الراسخين في العلم﴾ (آل عمران ٧)، فالعلم المنزل الكامل هو عند هؤلاء ﴿الراسخين في العلم﴾. وبرهان ذلك أن القرآن نفسه ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون﴾ (العنكبوت ٤٩).
فالتنزيل الكامل هو عند ﴿الراسخين في العلم﴾ أي النصارى. أما في القرآن، ﴿ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾.
تلك هي ميزات التنزيل القرآني، وكلها دلائل قاطعة على أنه ليس من الإِعجاز في التنزيل.
إن ﴿دلائل الإِعجاز﴾، قبل أن تظهر في النظم والبيان، يجب أن تكون في التنزيل نفسه.
ثانياً: بحسب الحديث
لقد وردت أحاديث عن النبي تزيد الشبهات على ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في التنزيل، وعلى موقف النبي من التنزيل القرآني.
١ ـ جاء في الصحيح عن أنس: ﴿إن نصرانيّاً كان يكتب الوحي لمحمد، وكان هذا النصراني يقول: لا يريد محمد إلاّ ما كتبتُ أنا﴾!
٢ ـ وجاءَ فيه عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان من كتبة الوحي أيضاً، أنه كان يقول: ﴿كنت أصرف محمداً حيث أريد! كان يُملي علي (عزيز حكيم)، فأقـول (عليم حكيم)، فيقول: نعم، كلٌ صواب! حتى قال لي آخر الأمر: اكتبْ كيف شئت﴾!
وفي (أسباب النّزول)، على الآية ٩٣ من الأنعام: ﴿سأُنزِل مثل ما أنزل الله﴾، نقل السيوطي ﴿أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح. كان يكتب للنبي، فيُملي عليه (عزيز حكيم)، فيكتب (غفور رحيم)، ثم يقرأ عليه، فيقول: نعم سواء. فرجع عن الإسلام ولحق بقريش﴾.
٣ ـ وعلى آية الأنعام نفسها (٩٣) نقل الطبري ٧ ، عن السدي، نحوه. ثم زاد: ﴿قال: إن كان محمد يُوحى إليه، فقد أُوحي إليَّ، وإن كان الله يُنزله، فقد أنزلتُ مثل ما أنزل الله! قال محمد (سميعاً عليماً) فقلت أنا: (عليماً حكيماً﴾).
٤ ـ وكان عبد الله بن مسعود من كتبة الوحي أيضاً. وقد روي عنه أن محمداً أملى عليه آية فكتبها. ثم التمسها ثاني يوم في مصحفه فلم يجدها، وكانت الصحيفة خالية. فأخبر النبي فقال له: ﴿إنها نسخت من ليلتها﴾.
٥ ـ وعلى الآية: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم أنشأناه خلقاً آخر...﴾ وطلب النبي فاصلة....
روى الطبري عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيضاً أنه قال: ﴿فقلتُ: (تبارك الله أحسن الخالقين)؛ فقال محمد: اكتبها، كذلك نزلت. فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إلي كما أوحي اليه! ولئن كان كاذباً، لقد قلتُ كما قال﴾! وأورد السيوطي في (أسباب نزولها): ﴿أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: وافقتُ ربي في أربع منها، نزلت (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين...) فلمّا نزلت، قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين﴾. وكثرة الطرق دليل على أن للقصة أصلاً.
٦ ـ وقصة عمر بن الخطاب في تنزيل القرآن قصة ذات مغزى كبير. جاءَ في الحديث، عن ابن عمر، قال: ﴿ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، إلا نزل القرآن على ما قال عمر﴾! وأخرج ابن مردويه، عن مجاهد، قال: ﴿كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن﴾! وهكذا، إن صحت الأحاديث، فإنهم يجعلون لعمر بن الخطاب يداً في معاني القرآن، وفي تعابيره والفاظه.
وقد حاول بعضهم حصر دور عمر في التنزيل في ثلاث أو أربع موافقات، كما نقل النجاري وغيره عن عمر: ﴿وافقت ربي في ثلاث. قلتُ: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى). وقلت: إن نساءَك يدخل عليهن البَرّ والفاجر، فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن! فنزلت آية الحجاب: (واذا سألتموهن متاعاً، فاسألوهنّ من وراء حجاب، ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن). واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه، إن طلقكنّ، أن يبدّله أزواجاً خيراً منكنَّ! فنزلت كذلك: ﴿عسى ربه، إنْ طلقكنَّ، أن يبدّله أزواجاً خيراً منكنّ﴾!
إن دور عمر في تنزيل القرآن لم يقتصر على تلك الموافقات الثلاث كما يظهر من الحديثين السابقين. وهذا الدور الثابت من الحديث يترك في النفس ريبة تكاد لا تنتهي.
٧ ـ وفي قصة أسرى بدر، وشورى الصحابة في أمر قتلهم أو فدائهم، قال عمر بالقتل، وأشار أبو بكر الصديق بالفداء. فنزل القرآن بالمقالتين معاً، مع تفضيل رأي أبي بكرٍ بقبول الفداء. قابل (أسباب النّزول) للسيوطي، في القصة. وقد تكون المرة الوحيدة التي نزل بها القرآن على خلاف ما قال عمر، اذا استثنينا قصة صلح الحديبية.
٨ ـ وعلى الآيتين ١٣ و ١٤ من سورة الواقعة: ﴿ثلة من الأولين وقليل من الآخرين﴾، نقل السيوطي في (أسباب النّزول): ﴿أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: ﴿لما نزلت (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين)، شق ذلك على المسلمين فنزلت: ﴿ثلة من الأولين وثلة من الآخرين﴾ (الواقعة ٣٩ ـ ٤٠).
وأخرج ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن جابر بن عبد الله، قال: ﴿لما نزل (ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين)، قال عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين، وقليل منا؟ فامسك آخر السورة سنة، ثم نزلت (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين). فقال رسول الله ﷺ: يا عمر تعالَ فاسمع ما قد أنزل الله! وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بن رويم مرسلاً﴾.
وهنا يظهر عمر لسان حال الجماعة في التنزيل.
٩ ـ جاء في (أسباب النّزول) للسيوطي عن آية المحاسبة على الوسوسة (البقرة ٢٨٤): روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه، يحاسبكم به الله)، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله ﷺ ثم جثوا على الركب فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها!... فنسخها، وأنزل: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
﴿وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه﴾.
وكثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً. فإن صحت، فهذا بلاء عظيم في التنزيل: أينزل الوحي بما يفرض الله على عباده، أم بما يشتهون؟! أتنزل الشريعة بما يريد الله أم بما يريدون؟!
١٠ ـ وفي (أسباب النّزول) نقل السيوطي أيضاً في الآية: ﴿وامرأة مؤمنة، إنْ وهبت نفسها للنبي، إنْ أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين﴾ (الأحزاب ٥٠)، ﴿إنَّ أم شريك الدوسية عرضت نفسها على النبي ﷺ، وكانت جميلة، فقبلها. فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، فنزلت. فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يُسرع لك في هواك﴾!
١١ ـ ونقل أيضاً في (أسباب النّزول): ﴿أخرج الشيخان عن عائشة أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها؟ فأنزل الله (تُرجىء من تشاء منهنَّ، وتؤوي إليك من تشاء). فقالت عائشة: أرى ربك يُسارع لك في هواك﴾!
فالله تعالى، في التنزيل القرآني، يُسارع في هوى النبي، وفي هوى جماعته.
١٢ ـ وفي ما أسقط النبي أو الصحابة من القرآن، قد ورد حتماً أكثر من ذلك.
روى المسوّر بن محزمة أن عبد الرحمان بن عوف قال: ﴿ألم نجد في ما أنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)، فإنا لا نجدها. قال: أُسقطت في ما أُسقط من القرآن﴾.
١٣ ـ وروى عن ابن عمر: ﴿لا يقولنَّ أحدكم: (أخذت القرآن كله)، وما يدريه ما كله! قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقلْ: قد أخذت منه ما ظهر﴾! ٨
والنتيجة الحاسمة: أن تلك الميزات وتلك الأحاديث شبهات على الإِعجاز في التنزيل.
وفي الصحيحين، وفي كتب (أسباب النّزول) كثير من هذه الأحاديث. ومهما كانت درجتها من الصحة، فإنَّ فيها شيئاً من الواقع التاريخي، وإلاّ كان القوم على النبوّة وعلى التنزيل يكذبون.
والنتيجة الحاسمة منها أن للمخلوق ضلعاً في التنزيل القرآني، ويداً في ما بقي من القرآن، وفي ما أُسقط منه.
فمهما رقّت شهادة الحديث و(أسباب النّزول)، فهل تدلّ على إِعجاز في التنزيل؟ وبما أن القرآن قد نزل أحياناً ﴿على ما قال عمر﴾، فقد ضاهى عمر إِعجاز القرآن.
إن تلك الشبهات من الحديث، وتلك الميزات في القرآن، ليست دلائل على الإِعجاز في التنزيل. إنما هي شبهات تترك المؤمن وغير المؤمن في حيرة لا تنتهي من أمر التنزيل في القرآن.
بحث سادس
عَرضات القرآن السنوية على جبريل لتنقيح القرآن
في تنزيل القرآن ميزة ما بين الواقع والخرافة، أشار اليها العلماء: وهي عرْضات القرآن السنوية على جبريل: ﴿والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان، بما ينزل به طول السنة﴾ ٩ .
أوّلاً ـ وإليك هذه القصة الغريبة كما أثبتها السيوطي في (الإتقان ١: ٥١):
﴿أخرج ابن اشته (في المصاحف) وابن أبي شيبة في (فضائله) من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال، القراءة التي عُرضت على النبي ﷺ في العام الذي قُبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم.
﴿وأخرج ابن اشته عن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي ﷺ كل سنة في شهر رمضان مرة. فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين. فيرون ان تكون قراءَتنا هذه على العرضة الأخيرة﴾.
هذا هو الواقع الذي يعلّمون: كان جبريل، كل سنة، في شهر رمضان، يستعرض القرآن مع النبي. إن صح ما يعلّمون فما معنى هذا الواقع؟ معناه المحتوم إنه في بحر السنة دخل القرآن ما ليس منه فاضطر جبريل الى تنقيحه، أو كان التنزيل الأول ناقصاً فجرى تكميله.
وتنزيل بحاجة كل سنة إلى استعراض وتنقيح هل هو من الإِعجاز في التنزيل!
ولإكمال الرواية أشركوا زيداً بن ثابت في العرضة الأخيرة: ﴿وقال البغوي في (شرح السنة) يقال: إن زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها للرسول ﷺ وقرأها عليه. وكان يُقريء الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاّه عثمان كتابة المصاحف﴾.
فميزات العرضة الأخيرة أنها كانت مرتين، وبيّن فيها ما نسخ وما بقي من القرآن، وأن زيداً حضرها وكان شاهداً لها؛ وإن زيداً كتب القرآن الباقي فيها وقرأه على النبي.
ونرى هنا تهافت الرواية، فهي كلها قيل عن قيل، بلا سند ولا شاهد. وما فضل زيد على أبي بكرٍ الصديق، وخصوصاً على عمر بن الخطاب الذي طالما نزل القرآن على ما قال؟ إنها رواية موضوعة لبيان حسن اختيار زيد لوضع المصحف العثماني، وهو الذي استنكر واستكبر إمكانية جمع القرآن بعد الرخص النبوية الأربع بتلاوته على سبعة أحرف، بقراءات مختلفة لكل حرف، وبجميع لغات العرب المختلفة، مع الرخصة الكبرى بقراءته بالمعنى من دون الحرف المنزل.
لكن الواقع التاريخي الذي يتراءَى من خلال هذه الرواية أن النبي كان ينقّح ما نزل من القرآن في بحر السنة، كما كان فحول الشعراء ينقحون حولياتهم. وهذا التنقيح السنوي المتواصل ليس من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في القرآن.
والدلائل القرآنية على تنقيح القرآن السنوي المتواصل هي:
١) التبديل في آي القرآن: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفتر﴾! (النحل ١٠١).
٢ و٣) النسخ في آي القرآن أو النسيان المفروض: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو نُنسِها ـ نأتِ بخير منها، أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦). وإمكان الإتيان ﴿بخير منها﴾ يرفع صفة الإِعجاز عنها وعن غيرها.
٤) المحو من آي القرآن: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أُم الكتاب﴾ (الرعد ٣٩)؟
فالمحو من التنزيل، والنسيان الذي يفعله الله فيه، والنسخ منه، والتبديل فيه، كلها دلائل قرآنية قائمة على تنقيح القرآن المتواصل.
فليس الإِعجاز في النظم والبيان من التنزيل نفسه، بل من عمل النبي، أو عمل جبريل، ﴿ولم يقل أحد إن كلام غير الله معجز في ذاته﴾، على حدّ قول ابن حزم.
ويأتي الحديث فيؤيد القرآن في هذه الظاهرة الغريبة.
يقول دروزة ١٠ : ﴿هذه الآيات (البقرة ١٠٦ والنحل ١٠١) تفيد أنه وقع بعض التبديل والنسخ في بعض آيات القرآن، في عهدي النبي المكي والمدني، بوحي الله. مما هو مؤيد بأحاديث عديدة، مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه: (نزلت سورة نحو براءَة ثم رفعت)؛ ومثل حديث أخرجه الطبراني عن ابن عمر جاءَ فيه: (إن النبي أقرأ رجلين سورة فكانا يقرأان بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك، فقال: إنها مِمّا نُسِخَ فالهوا عنها)؛ ومثل حديث رواه البخاري عن أنس: (إنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رُفع﴾).
فالتنقيح للقرآن كان صارماً حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير﴾ على قول ابن عمر. فهل هذا التنقيح السنوي للقرآن من الإِعجاز في التنزيل؟
ثانياً ـ وما وقع للنبي في تنزيل القرآن، وقع للصحابة عند جمعه. فلقد كان القرآن برخصة من النبي يُقرأ على سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني﴾. وكان يُقرأ فيه أيضاً المنسوخ كله، كما جمعه مصحف علي ابن أبي طالبٍ. فحدثت البلبلة والفوضى في نص القرآن.
نقل السيوطي أيضاً تاريخ ما فعله الصحابة عند جمع القرآن، عن الطبري، مع الموافقة عليه: ﴿إن القراءَة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، إنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيه. فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً. وهم معصومون من الضلالة ١١ . ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام. ولا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة. فاتّفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحقّقوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك﴾.
هذا موجز لتاريخ جمع القرآن. لقد وُجد الصحابة عند جمع القرآن أمام سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ، واتفاق المعاني﴾ (الطبري)، أي أمام سبعة قرائين مختلفة لفظاً ونظاماً وترتيباً (كما يشهد مصحف علي): فاتفق رأي الصحابة على حرف منها. وهذا أخطر ما في حفظ القرآن وجمعه: فنص القرآن العثماني توفيقي عن الصحابة، لا توقيفي عن النبي.
ولتغطية ما في الأمر من أخطار ومشاكل، يلجأون الى روايتين: الرواية الأولى قصة العرضة الأخيرة وما نُسخ من القرآن فيها باستعراض جبريل والنبي وزيد؛ وهذا النسخ والاسقاط من القرآن إنما كان بفعل الصحابة بزعامة بني أمية، لأن التيار المعارض من آل البيت، بزعامة عليّ وفاطمة الزهراء، قد حفظ في مصحف علي الناسخ والمنسوخ الذي أسقطوه من الحرف العثماني، وحفظ الترتيب على تاريخ النزول.
والرواية الثانية لتبرير عملهم هي قوله: ﴿وهم معصومون من الضلالة﴾ ـ فأيُّ شاهد من قرآن أو من حديث يشهد بعصمة الصحابة ولجان عثمان؟ ولا عصمة إلا للنبي، وفي حال التنزيل فقط، وبعد التنزيل فالأمر متروك الى استقامة النبي، واستقامة جماعته بعده، حيث لا يتمتعون بعصمة ولا بمعجزة.
فاختيار الحرف العثماني، من بين سبعة أحرف فما فوق، ومن بين قراءات مختلفة عليها؛ ومن بين لغات العرب المختلفة، إنما هو باتفاق رأي الصحابة وحزب عثمان وبني أمية.
النتيجة الحاسمة: إن قصة عرضات القرآن متعارضة في ذاتها، وهي إنما تدل على تنقيح متواصل للقرآن.
وهكذا فالتبديل في مكّة (النحل ١٠١) والنسخ في المدينة (البقرة ١٠٦) شاهدان على تنقيح القرآن على عهد النبي، وقصة العرْضات السنوية للقرآن إنما تدل على تنقيح متواصل لنص القرآن. فإذا كان النص الأصيل المنزل منقولاً عن اللوح المحفوظ بواسطة جبريل نفسه، فكيف كان جبريل يغيّر فيه ويبدّل وينسخ ويُسقط وينقّح كل سنة؟ فهل قرأ غلطاً أم نقح غلطاً؟ أم هو كان الله نفسه يغيّر ما في اللوح المحفوظ المكتوب منذ الأزل حتى يضطر جبريل الى التنقيح السنوي المتواصل؟ أم هل كان النص الأصيل المنزل قد دخله التحريف في بحر كل سنة، ممّا يضطر معه جبريل الى تقويمه وتنقيحه سنوياً؟ وهنا الطامة الكبرى التي تنطوي عليها قصة العرضات السنوية للقرآن.
فإذا كان ذلك على حياة النبي المعصوم، فماذا يكون مع الفوضى التي قامت حتى الجمع العثماني غير المعصوم؟ فهل في قصة عرضات القرآن السنوية، وفي قصة اختيار الحرف العثماني من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في التنزيل؟
بحث سابع
قصّة الناسخ والمنسوخ، والإِعجاز في التنزيل
إن قصة الناسخ والمنسوخ في القرآن قضية واقع تاريخي، وقضية مبدأ في التنزيل القرآني. وهي مشكل يحار فيه المؤمن وغير المؤمن. والنسخ في التنزيل الواحد والكتاب الواحد بلاء من الله عظيم، خصوصاً في مطابقة النسخ مع التنزيل من اللوح المحفوظ، حيث الناسخ والمنسوخ معاً حقيقة الهية واحدة. و﴿إن النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة لحِكَم، منها التيسير﴾ ١٢ . وعلى وجود الناسخ والمنسوخ في التنزيل، ثم في المصحف العثماني الباقي، إجماع في الأمة. لكن، تجاه شبهات النسخ على صحة التنزيل، قام فريق، منذ الزركشي في (البرهان) حتى اليوم، يقول بأن لا نسخَ في القرآن.
أوّلاً: قصّة النسخ وغرائبها وشبهاتها
١ ـ لكنّ النسخ في التنزيل القرآني أمر واقع، بإجماع الأئمة. قال السيوطي: والتأليف في الناسخ والمنسوخ ﴿أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون... قال الأئمة، لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد قال عليّ لقاضٍ: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا! قال: هلكتَ وأهلكت﴾! وقد عدّ العلماء، مثل النحاس وابن حزم في كتابيهما (الناسخ والمنسوخ) نيّفاً ومئتي آية في المصحف العثماني. واقتصرها السيوطي في (الإتقان ١: ٢٣) على عشرين موضعاً. وذلك من دون الذي أسقطه عثمان عند جمع القرآن، ومن دون ما أسقطه جبريل ومحمد عند معارضة القرآن كل سنة.
٢ ـ والنسخ على أنواع
بمعنى الإزالة. ومنه قوله: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته﴾.
وبمعنى التبديل. ومنه قوله: ﴿واذا بدّلنا آية مكان آية﴾.
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد.
وبمعنى النقل من موضع الى موضع. ومنه (نسخت الكتاب) اذا نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه ـ وفي وقوع النسخ بالنقل خلاف.
أما النسخ بالإزالة أو الرفع من التنزيل، والتبديل في التنزيل، والتحويل في أحكام القرآن، بإبطال حكم وإقامة حكم مكانه، فهو أمر واقع في الأنواع الثلاثة.
٣ ـ وتقسم سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ الى أربعة أقسام
قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاث وأربعون سورة.
وقسم فيه الناسخ والمنسوخ معاً وهو خمس وعشرون سورة.
وقسم فيه الناسخ فقط وهو ستة.
وقسم فيه المنسوخ فقط وهو أربعون.
وهكذا يعدون الآيات الناسخة والمنسوخة، على قول الزركشي ١٣ في احدى وسبعين سورة.
٤ ـ والناسخ على أنواع
نقل السيوطي عن مكّي: ﴿فرض نسخ فرضاً، ولا يجوز العمل بالأوّل، كنسخ الحبس للزواني بالحد. وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصاهرة. وفرض نسخ ندباً كالقتال، كان ندباً فصار فرضاً. وندب نسخ فرضاً كقيام الليل نُسخ بالقراءَة في قوله: ﴿فاقرأوا ما تيسّر من القرآن﴾.
٥ ـ والمنسوخ على أضرب
أحدها: ما نُسخ تلاوته وحكمه ـ وهو نوع من القرآن نزل ثم رُفع.
الثاني: ما نُسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة.
الثالث: ما نُسخ تلاوته دون حكمه... وأمثلة هذا الضرب كثيرة، وهي التي نقلوا عنها قول ابن عمر: ﴿قد ذهب منه قرآن كثير﴾! وقول عائشة: ﴿قبل ان يغيّر عثمان المصاحف﴾! وقول أبي موسى الأشعري: ﴿نزلت سورة نحو براءَة ورفعت﴾! وقول عمر وعبد الرحمان عوف: ﴿اسقطت في ما اُسقط من القرآن﴾! وقول ابن عمر: ﴿إنها ممّا نُسخ فالهوا عنها﴾!... ﴿والسبب في رفع التلاوة هو الاختلاف﴾ ١٤ .
٦ ـ ومن غرائب النسخ في التنزيل القرآني ما أورده السيوطي أيضاً: ١٥
﴿قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب إلاّ في آيتين: آية العدة في (البقرة)، وقوله: ﴿لا يحل لك النساء من بعد﴾. وزاد بعضهم ثالثة ورابعة.
﴿وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار والتولّي والاعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف (براءَة ٥) نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية! ثم نسخ آخرها أولها﴾!
﴿وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: ﴿خذ العفو...﴾ فإن أولها وآخرها وهو (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ، ووسطها محكم، وهو (أمر بالعرف).
﴿وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ، وآخرها ناسخ، ولا نظير لها وهي: ﴿عليكم أنفسكم، لا يضركم مَن ضلّ إذا اهتديتم﴾، يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله؛ ﴿عليكم أنفسكم﴾.
﴿وقال السعيدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله ﴿قلْ: ما كنت بدْعاً من الرسل﴾، مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية.
﴿وقال شيدلة: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً... يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ناسخ لأولها، منسوخ بفرض الصلوات. وقوله ﴿انفروا خفافاً وثقالاً فهو ناسخ لآيات الكهف، منسوخ بآيات العذر.
٧ - والغرابة الكبرى أن يقع النسخ أثناء التنزيل القرآني، فيضطر جبريل الى معارضة القرآن كل سنة ليرفع المنسوخ أحياناً، ويضع الناسخ أحياناً. وفي العرضة الأخيرة ﴿بيّن فيها ما نُسخ وما بقي﴾. ومع ذلك فقد بقي ناسخ ومنسوخ كثير كتبه علي في مصحفه، وأسقطه عثمان. ومع ذلك أيضاً فقد بقي ناسخ ومنسوخ في المصحف العثماني: ممّا يدل على أن النسخ كان كثيراً في القرآن.
وهكذا فالظاهرة الكبرى ما قاله ابن حزم: ﴿إِعلم أن نزول المنسوخ بمكّة كثير، ونزول الناسخ بالمدينة كثير﴾! وهذا يعني أن القرآن المدني نقض في أحكامه القرآن المكي.
فإن أول ما نُسخ من القرآن استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان (في البقرة) كما نقلوا عن ابن عباس. ﴿قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في القرآن المكي ناسخ﴾.
والسر كل السر، في القول بالناسخ والمنسوخ، هو أكثر من تصريح القرآن بوجود النسخ (البقرة ١٠٦)؛ إنه بسبب وجود معارضة بيّنة في أحكامه. ﴿قال ابن الحصار: إنما يُرجع في النسخ الى نقل صريح عن رسول الله ﷺ، أو عن الصحابى. قال: وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ ليُعرف المتقدم والمتأخر. قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صريح ولا معارضة بيّنة﴾. ١٦
فيجب القول بالنسخ ﴿عند وجود التعارض المقطوع به﴾.
فهل القول المحتوم بالناسخ والمنسوخ، لرفع التعارض المقطوع به فيه، والمعارضة البيّنة، هو من الإِعجاز في التنزيل؟
وتزيد الشبهة الضخمة القائمة، لوجود الناسخ والمنسوخ في المصحف العثماني، على صحة التنزيل وإِعجازه، من إسقاط عثمان من القرآن، كل ما جمعه علي في مصحفه من الناسخ والمنسوخ بعد إسقاط جبريل منه عند معارضته وهكذا بعد محاولة النبي ثم محاولة الصحابة لم يسلم النص العثماني من النسخ فيه.
وهذا الاسقاط من القرآن أولاً على يد النبي، ثم على يد جماعة عثمان، للتخلّص من كثرة المنسوخ، انما هو البرهان القاطع على أنه ليس في التنزيل القرآني إِعجاز مانع.
وغرائب النسخ وعجائبه التي يلحظها الأئمة، كما رأيت، ليست من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في التنزيل القرآني.
أجل ﴿ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى﴾؛ فإنما ﴿تتبدّل الأحكام بتغيّر الأزمان﴾ ما بين زمان وزمان، وكتاب وكتاب، ونبي ونبي. لكنّ مبدأ النسخ نفسه، في التنزيل الواحد، على يد النبي الواحد، في الكتاب الواحد، لا يصح من الحكيم العليم. هذا ما يسميه أهل الكتاب: بَدَاءٌ كالذي يرى الرأي ثم يبدو له. واذا اعتبرنا أنّ النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ، كان التنزيل مدعاةً للتهكّم، لأن الناسخ والمنسوخ قد يحصلان ما بين ليلة وضحاها، وفي آية واحدة قد ينسخ آخرها أولها! وحاشا للحكيم العليم أن يلهو في التنزيل، وأن يسخّره لأحوال عابرة.
فمهما قيل في تبرير النسخ القرآني، فإنه شبهة ثابتة على الإِعجاز في التنزيل. وهي شبهة مثلّثة: شبهة على رفع المنسوخ في عرْضات القرآن المتواترة على جبريل، شبهة على إسقاط الصحابة للمنسوخ الذي كان يحفظه مصحف علي بن أبي طالب؛ شبهة على المنسوخ الموجود في المصحف العثماني، والذي أفلت من رقابة عثمان وجماعته.
فكان المنسوخ سبباً في ذهاب قرآن كثير على يد النبي ثم على يد صحابته.
والمشكل الأكبر إن الناسخ والمنسوخ كلاهما تنزيل من اللوح المحفوظ، بواسطة جبريل، على النبي: فكيف يكون ﴿التعارض المقطوع به﴾ بين الناسخ والمنسوخ مكتوباً منذ الأزل في اللوح المحفوظ؟ وكيف يليق بالحكيم العليم تنزيل المنسوخ والناسخ معاً في كتاب واحد، وفي سورة واحدة، وفي آية واحدة؟
إن النسخ القرآني، كما وصفوه، تحدّ للعقل وللنبوّة وللتنزيل.
ثانياً: النسخ ميزة القرآن وحده
وممّا يزيد في غرابته ﴿أن النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة﴾ في كتابها.
١ـ فالنسخ القرآني يتعلق بآي القرآن نفسها، لا يتعداها الى سواها من كتب الله، كما تصرّح آية النسخ: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو ننسها ـ نأتِ بخير منها، أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦) فالقرآن ينسخ بعضه بعضاً؛ ويرون في ذلك من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في التنزيل!
﴿والقول بأن من القرآن ما نزل وتُلي، ثم نسخ، قول فيه تعسف شديد، وفيه مدخل إلى الفتنة والتخرص. فإذا ساغ أن ينزل قرآن ويُتلى على المسلمين ثم يرفع، ساغ لكل مبطل أنْ يقول أيَّ قول! ثم يدَّعي له أنه كان قرآناً ثم نُسخ. وهكذا تتداعى على القرآن المُفتريات والتلبيسات؛ ويكون لذلك ما يكون من فتنة وابتلاء!
﴿ثم من جهـة أخرى، ما حكمة هـذا القرآن الـذي ينزل لأيام أو شهور، ثم يُرفع﴾؟ ١٧
٢ـ ومن الإفتراء على القرآن الادّعاء ﴿بأن الله نسخ التوراة والإنجيل بالقرآن﴾ ١٨
يدل على ذلك قولهم: شرع مَن قبلنا شرع لنا.
ويدل عليه تصريح القرآن المتواتر: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم﴾ (النساء ٢٦)؛ ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه﴾ (الشورى ١٣)؛ وفي آخر الأمر يقرّ التوراة والإنجيل والقرآن كلاًّ على شريعته في سورة المائدة: ﴿وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (٤٣) ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ (٤٥) ـ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الفاسقون (٤٧) ـ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتّبع أهواءَهم عمّا جاءَك من الحق: لكل جعلنا منكم شِرْعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ (٤٨). وهذا هو القول الفصل: ﴿أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة: آخر سورة نزلت المائدة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه﴾. ١٩
هذا الحكم الأخير، الذي لا ناسخ له: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً﴾، يقضي على الإفتراء بأن القرآن نسخ التوراة والإنجيل. ﴿قالوا: وانما حقّ الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آيةً ٢٠ . والقول الفصل في دعوى القرآن للتوراة والإنجيل أنه يوم الدين، حتى بعد القرآن: ﴿كل أمة تُدعى الى كتابها﴾ (الجاثية ٢٨).
٣ـ ويبرّرون النسخ في القرآن بالنسخ في الكتاب ـ وليس لهم سند من كتاب. يقول عبد الكريم الخطيب ٢١ : ﴿وقد نسخ الله سبحانه كثيراً من الشرائع التي تقدّمت شريعة الإسلام. يقول ابن كثير في تفسيره (الجزء الأول): ﴿والذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ هو الكفر والعناد. فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يشاء. كما أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية: كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرَّم ذلك. وكما أباح لنوح عليه السلام بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حلَّ بعضها. وكان نكاح الاختين مباحاً لإسرائيل وبنيه، وقد حرَّم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل. وأمر جمهور بني إسرائيل قتل مَن عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل كي لا يستأصلهم القتل﴾.
وفات ابن كثير وتلميذه الخطيب أن النسخ المذكور وقع في عهود متباعدة آلاف السنين. وما جرى لآدم ثم لنوح ثم لإبراهيم ثم لإسرائيل (يعقوب) لم يكن نسخاً لحكم سابق، بل تنزيل حكم مبتدئاً. ففي التوراة شريعة موسى، لا شريعة آدم ولا نوح ولا إبراهيم ولا إسرائيل (يعقوب)؛ وليس فيها نسخ. وأمر الله في التوراة بقتل من عبد منهم العجل هو قضاء في الحال، لا تشريع للاستقبال، وقد نُفّذ.
فليس في ما يذكرون من نسخ في الشريعة الواحدة؛ انما النسخ ميزة القرآن وحده.
وما ورد ممّا يشبه النسخ ما بين الإنجيل والتوراة، فهو ما بين كتابين وشريعتين؛ والسيد المسيح مع ذلك لا يسميه نسخاً، بل تكميلاً: ﴿لا تظنّوا أني جئتُ لأنسخ التوراة أو النبيّين! ما جئت لأنسخ بل لأكمّل﴾ (متى ٥:١٧).
وهكذا فالقرآن ينسخ بعضه بعضاً؛ ولا يقتدي بغيره، مع أنه أُمِر صريحاً: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... اولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠).
ثالثاً: حجّة مَن قال لا نسخ في القرآن واهية متهافتة
هذا الواقع المرير في اختصاص القرآن بالنسخ في آيه، فينسخ بعضه بعضاً، وما ينجم عنه من مدخل في الفتنة ومن حمل على الشبهات على التنزيل والإِعجاز، قام فريق يقول: لا نسخ في القرآن.
تزعم هذا التيّار الزركشي في (البرهان في علوم القرآن). وعنه ينقل الى اليوم مَن يذهب مذهبه، مثل عبد الكريم الخطيب ٢٢ .
قال: ﴿أكثر العلماء على أن في القرآن نسخاً بدليل قوله تعالى ﴿ما ننسخ من آية، أو نُنسها، نأتِ بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة ١٠٦). ثم إن الذي ينظر في كتاب الله يرى آيات تعطي أحكاماً خاصة، ثم تأتي بعد ذلك آيات تعطي أحكاماً تخالف هذه الأحكام... ولا معنى لهذا التخالف بين الآيات في أحكامها إلاَّ أن اللاّحق قد نسخ السابق وأزال الحكم الذي تضمّنه وإن بقيت قرآناً متلواً...
﴿وكثير من العلماء أيضاً يرى أن النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة، على ما فهم القائلون بالنسخ. وانما هو نسْأُ وتأخير، أو مُجمل أُخّر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب آخر، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى في معنى... وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخاً، وليس به. وإنه الكتاب المهيمن على غيره، وهو نفسه متعاضد﴾ ٢٣ .
ويؤيّد رأيه بأن آية النسخ شرطية، ﴿وهل اذا جاء في القرآن الكريم شرط، أيجب أن يقع هذا الشرط، وأن يتحقق تبعاً لذلك جوابه؟... وعلى هذا يجوز في الآية الكريمة ألاّ يقع شرطها ولا جوابها﴾.
ويضيف الخطيب بأن آية النسخ ليست مبدأً عاماً في القرآن، بل آية مخصوصة بنسخ القبلة من بيت المقدس الى المسجد الحرام: ﴿وعلى هذا فإن أقرب مفهوم الى النسخ الذي تشير اليه الآية ﴿ما ننسخ من آية﴾ هو نسخ الأمر بالتوجه بالصلاة الى بيت المقدس وجعله الى المسجد الحرام﴾.
ثم يشرع في ﴿تأويل ما يبدو فيه النسخ﴾ تأويلاً يجعل التشريع القرآني قوانين عابرة، لحالات طارئة، ليس عليه مسحة الشريعة الخالدة.
وخطأهم قائم على سوء فهم آية النسخ: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو نُنْسِها﴾ وعلى تبنّي قراءَة ثانية: ﴿أو نَنْسَأْها﴾ أي نؤخرها. فالاختلاف في صحة القراءة لا يُبنى عليه عقيدة أو مذهب. وليس حرف (أو) عطف بيان للنسخ بالتأخير؛ إنما حرف (أو) يدل على حالين مختلفتين: حالة النسخ وحالة النسيان أو التأخير. وليس في قوله: ﴿ما ننسخ﴾ شرط قد لا يتم وقوعه، إنما هو تقرير واقع يصير مبدأ. وهب فيه شرطاً، فهو أسلوب قرآني في التقرير، كما في قوله الصريح: ﴿واذا بدّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفتر﴾ (النحل ١٠١): فالشرط واقع يشهد عليه علم الله بالتبديل في التنزيل، وتهمة النبي بالإفتراء بسبب ذلك، ومحنة ارتداد بعض المسلمين بسبب التبديل في القرآن (النحل ١٠٦). فآية التبديل في القرآن تفسّر وتشهد لصحة النسخ في القرآن.
والنتيجة الحاسمة أن التبديل والنسخ في القرآن شبهة على الإِعجاز في التنزيل.
فالتنزيل القرآني، كما فيه تبديل آية مكان آية، فيه أيضاً نسخ آية بآية. وعليه شبه إجماع بين الأئمة مهما قال المكابرون. فقصة التبديل في القرآن، مثل قصة النسخ في القرآن، ليستا من ﴿دلائل الإِعجاز﴾ في التنزيل. وتنزيل يعتريه النسخ والتبديل ليس من الإِعجاز في التنزيل.
بحث ثامن
طريقة الوحي القرآني أدنى طرق الوحي
للقرآن نظرية جامعة في طرق الوحي، وتحديد منزلة الوحي القرآني منها: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً ـ أو من وراء حجاب ـ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليٌّ حكيم﴾؛ ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدَي الى صراط مستقيم﴾ (الشورى ٥١ ـ ٥٢).
أوّلاً: القرآن وحي بالواسطة
بحسب القرآن نفسه، طُرق الوحي الإلهي ثلاث: الوحي المباشر من الله للنبي؛ والوحي من وراء حجاب؛ والوحي بواسطة رسول يوحي بإذنه تعالى ما يشاء.
أما الوحيبواسطة رسول فهو طريقة الوحي لمحمد، كما يشهد بذلك القرآن كله مع آية (الشورى ٥٢): ﴿نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين﴾ (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤)؛ ﴿قل: نزَّله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل ١٠٢)؛ ﴿قل: مَنْ كان عدواً لجبريل؟ فإنه نزّله على قلبك، بإذن الله، مصدقاً لما بين يديه، وهدى وبشرى للمؤمنين﴾ (البقرة ٩٧). فالروح الأمين، روح القدس، جبريل هو ﴿روح من أمرنا﴾ الذي بتنزيل القرآن على قلب محمد هداه الى الإيمان بالكتاب الذي جعله الله نوراً يهدي به مَن يشاء من عباده. فتعبير ﴿روح من أمرنا﴾ لا يعني القرآن، بسبب قوله ﴿أوحينا﴾ ـ الذي ورد على المشاكلة مع قوله السابق: ﴿أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ ـ بل ﴿روح﴾ من عالم الأمر والخلق الذي تذكره سائر الآيات: فلو كان ﴿روح من أمرنا﴾ يعني القرآن، لكان القرآن مخلوقاً من عالم الأمر. مع ذلك فالقرآن وحي بالواسطة.
أما الوحي ﴿من وراء حجاب﴾ فهو ميزة الوحي الموسوي الذي كان تكليماً من الله مباشراً، لكن بدون رؤية ولا مشاهدة: ﴿وكلّم الله موسى تكليماً﴾ (النساء ١٦٤)؛ فهو يفضل الأنبياء بهذا التكليم المباشر (البقرة ٢٥٣) ﴿من وراء حجاب﴾ (٥١:٤٢).
أمّا الوحي المباشر، القائم على الرؤية، فيبقى من نصيب السيد المسيح من حيث هو ﴿كلمة الله﴾ القائم في ذات الله قبل أن يُلقى الى مريم. فصار كلام الله فيه عينَ ﴿كلمة الله﴾. فالوحي المسيحي الإنجيلي هو وحي مباشر من الله بدون حجاب. فهو فوق التنزيل القرآني بالواسطة، وفوق التكليم الموسوي ﴿من وراء حجاب﴾: إنه ذروة الوحي والتنزيل، بالاتصال المباشر بالله، والمشاهدة بالعيان.
جاء في الصحيحين حديث مشهور على لسان عائشة: ﴿مَن زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية﴾! واستشهدت بالآية: ﴿لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار﴾ (الأنعام ١٠٣). فلم ير محمد ربه في تنزيل، ولا في اسراء، ولا في غيرهما. وكان الوحي إليه تنزيلاً بواسطة الروح الأمين، روح القدس، جبريل.
وجاءَ في فاتحة الإنجيل بحسب يوحنا: ﴿في البدء كان الكلمة، والكلمة كان في الله، والله كان الكلمة، فهو منذ البدء في الله... والكلمة صار بشراً وسكن فيما بيننا، وقد شاهدنا مجده، مجد الآب على ابنه الوحيد... إن الله لم يره أحد قط، إلاّ الابن الوحيد القائم في ذات الله، وهـو الـذي كشف عنه﴾ (١ و١٤ و١٨). قال السيد المسيح لعلاّمة إسرائيل نيقوديموس: ﴿الحق الحق أقول لك: إننا ننطق بما نعلم، ونشهد بما رأينا... فإنه لم يصعد أحد الى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر (لقب المسيح) الكائن في السماء﴾ (يوحنا ٣: ١١ ـ ١٣).
فالوحي الإنجيلي كشف؛ والوحي التوراتي تكليم؛ والوحي القرآني تنزيل بالواسطة، لذلك فهو، بحسب نظرية القرآن نفسها (الشورى ٥١ ـ ٥٢) أدنى طرق الوحي.
لذلك يسمي القرآن نفسه تنزيلاً (السجدة ٢؛ الزمر ١؛ الجاثية ٢؛ الأحقاف ٢). فهو يصرح: ﴿إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً﴾ (الانسان ٢٣). إنه تنزيل رب العالمين، ولكن بواسطة الروح الأمين جبريل: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٤). وهذا التنزيل هو من الروح الأمين مباشرة، لا من الله نفسه: ﴿أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ (الشورى ٥١)؛ فالوحي القرآني هو من الروح الأمين مباشرة، بإذنه تعالى وإن سماه ﴿كلام الله﴾؛ فليس من اتصال مباشر في التنزيل القرآني بين الله ومحمد. فالله لم يكلّم بنفسه محمداً، بل كلّمه، بإذنه ملاك الوحي.
أجل ينسب القرآن تعابير الوحي والتنزيل الى التوراة والإنجيل والقرآن على السواء (آل عمران ٣ ـ ٤)؛ ولكن على طريق المشاكلة، لا على طريق المقابلة؛ فإن تعابير الوحي والتنزيل هي، كما رأينا، من متشابهات القرآن التي لا يُعرف مدلولها إلاّ بالقرائن القرآنية. وكل التصاريح والقرائن القرآنية تشهد بأن الوحي القرآني تنزيل بالواسطة، ومن ملاك الوحي نفسه، باسم الله واذنه. وهذه أدنى طرق الوحي: فكيف يكون معجزاً بالنسبة الى التكليم التوراتي من وراء حجاب؟ وخصوصاً كيف يكون معجزاً بالنسبة الى الكشف الإنجيلي المباشر بدون حجاب؟
فليس الوحي القرآني، من حيث هو تنزيل بالواسطة، وبتصديق القرآن، من الإِعجاز في التنزيل.
ثانياً: التنزيل القرآني بِوَسَط ووسيط
١ـ يصرّح القرآن عن نفسه أنه تنزيل بوسط، لا كلام الله مباشرةً للنبي: ﴿بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ﴾ (البروج ٢١ ـ ٢٢). فالقرآن يُنزَّل مباشرة من لوح يصفه أيضاً بكتاب مكنون: ﴿إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلاّ المطهّرون﴾ (الواقعة ٧٧ ـ ٧٩). فهو قراءَة لكتاب مكنون، في لوح محفوظ. وهذا الكتاب المكنون، المحفوظ في لوح، يسميه أيضاً أمّ الكتاب: ﴿وانه في أمّ الكتاب لدينا، لعليٌّ حكيم﴾ (الزخرف ٤)، ﴿وعنده أمّ الكتاب﴾ (الرعد ٣٩).
سنرى في بحث لاحق سر هذه التعابير ومدلولها. يكفينا الآن أن نعلم إن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، وأمّ الكتاب هي الوَسَط الذي نزل منه القرآن، فهو تنزيل بوَسَط.
٢ـ وهو تنزيل بوسيط. هذا الوسيط في التنزيل القرآني اسمه في مكّة: ﴿رسول كريم﴾ (الحاقة، التكوير)، ﴿حكيم عليم﴾ (النمل ٦)، ﴿الـروح الأمين﴾ (الشعراء ١٩٣)، ﴿روح القدس﴾ (النحل ١٠٢). وظل محمد حتى المدينة، ومجابهة أهل الكتاب، ليعرف أن اسمه جبريل: ﴿قل: من كان عدواً لجبريل؟ فإنه نزّله على قلبك بإذن الله﴾ (البقرة ٩٧).
فجبريل يقرأ القرآن على محمد من ﴿كتاب مكنون﴾، ﴿في لوح محفوظ﴾. فهو تنزيل بوسيط ووسط. وتنزيل بوسيط ووسط، هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟ إنه لا يرقى الى التكليم المباشر، من وراء حجاب، كما في الوحي التوراتي. ولا يرقى الى التكليم المباشر، بدون حجاب، كما في الوحي الإنجيلي.
ثالثاً: تعدّد الوسائط في الوحي القرآني
عقد السيوطي فصلاً قيّماً في ﴿كيفية إنزاله﴾ ٢٤ نرى فيه تعدّد الوسائط في الوحي القرآني. لقد صرّح: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ (البقرة)؛ وصرح أيضاً: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (سورة القدر). فاختلفوا في كيفية انزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:
﴿أحدها، وهو الأصح الأشهر: إنه نزل الى السماء الدنيا، ليلة القدر، جملة واحدة؛ ثم نزل بعد ذلك منجّماً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته ﷺ بمكّة بعد البعثة... وعن ابن عباس قال: فُصل القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزّة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي ﷺ. أسانيدها كلها صحيحة. ﴿ونزل جبريل على محمد ﷺ بجواب كلام العباد وأحوالهم﴾... ﴿فكان المشركون اذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً﴾... وعن ابن عباس أيضاً: إنه أُنزل في رمضان، في ليلة القدر، جملة واحدة، ثم أُنزل على مواقع النجوم رسْلاً في الشهور والأيام (رسْلاً أي رفقاً. وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها).
﴿القول الثاني أنه نزل الى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين؛ في كل ليلة ما يقدّر الله إنزاله في كل السنة، ثم نزل بعد ذلك منجّماً في جميع السنة...
القول الثالث أنه ابتُديء انزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات...
وقد حكى الماوردي (قولاً رابعاً) أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة؛ وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة؛ وأن جبريل نجمه على النبي ﷺ في عشرين سنة!... (قلتُ) هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عبّاس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ الى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا. فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة. ونجّمه جبريل على النبي ﷺ عشرين سنة﴾.
وهكذا ففي تنزيل القرآن ثلاثة تنزيلات على ثلاث مراحل، الى ثلاثة مواضع: تنزيل أول جملة واحدة الى بيت العزة في السماء الدنيا، على السفرة الكرام الكاتبين. وتنزيل ثان نجّم فيه السفرة القرآن في عشرين ليلة الى جبريل في مواقع النجوم. وتنزيل ثالث نجّمه فيه جبريل من مواقع النجوم على الأرض الى محمد، في مدة عشرين سنة ونيف. وهم يرون في تعدّد الوسائط والتنزيل جملة فنجوماً، تفخيم أمر التنزيل القرآني والنبوّة. وفاتهم أن تعدّد الوسائط في التنزيل بين الله والنبي ابتعاد بقدرها عن الإِعجاز في التنزيل. فكلما كان النبي في تلقي كلام الله أقرب اليه تعالى كلما زادت كرامة النبوّة والتنزيل. فتعدّد الوسائط في الوحي القرآني يزيده بعداً عن الإِعجاز في التنزيل.
رابعاً: تعارض نزول القرآن جملةً ومفرّقاً
وهم انما قالوا بتعدّد الوسائط في التنزيل القرآني، وفي نزوله جملة فمفرّقاً، للجمع بين تعارض القرآن في تصاريحه عن كيفية انزاله، وللردّ على ادعاء اليهود والمشركين بنزول التوراة جملة.
فالتعارض قائم ما بين تصريح القرآن المتواتر من جهة: ﴿حم. والكتاب المبين، إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ـ إنّا كنّا منذرين ـ فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم، أمراً من عندنا، إنّا كنا مرسلين﴾ (الدخان ١ ـ ٥) ﴿إنّا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (سورة القدر)؛ ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ (البقرة ١٨٥) ـ وتصريحه من جهة أخرى: ﴿وقال الذين كفروا: لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة! ـ كذلك، لنثبّت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً﴾ (الفرقان ٣٢)، ﴿وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونزّلناه تنزيلاً﴾ (الإسراء ١٠٦).
فآية الفرقان تؤكد ضمناً بأن القرآن نزل مفرقاً؛ وآية الإسراء تصرّح به، وتشير الى أن أسم ﴿قرآن﴾ وفعل ﴿نزّل﴾ يدلاّن على النزول مفرقاً. ﴿أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا نُزّل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى)؟ فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ (قال المشركون). وأخرج نحوه عن قتادة والسدي﴾. فالقرآن نزل مفرقاً ﴿لنثبت به فؤادك﴾، ﴿وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث﴾.
وآية (الدخان) وآية (القدر) تجزمان بأن القرآن نزل جملةً في ليلة مباركة هي ليلة القدر، من شهر رمضان.
فالتعارض ظاهر بين نزول القرآن جملة، ونزوله مفرّقاً. وللتخلّص من هذا التعارض قيل بنظرية نزول القرآن جملة الى السماء الدنيا، وتنزيله مفرّقاً على محمد. ولا أساس لهذه النظرية في القرآن؛ والأمر الواقع المشاهد أنه نزل مفرقاً مدة ثلاث وعشرين سنة. والنزول جملة لا يعني القرآن نفسه، بل الأمر بالرسالة، كما تصرّح به آية (الدخان): ﴿إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا؛ إنا كنا مرسِلين﴾. وآية (الشورى) تكشف أن هذا الأمر بالرسالة كان هداية الى الإيمان بالكتاب: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الإيمان، ولا الكتاب، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم﴾ (٥٢). فملاك الوحي هداه، ليلةَ القدر، الى الإيمان بالكتاب، وهذا هو الصراط المستقيم. وتؤيد سورةُ القدر سورة الدخان بقولها: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر: تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ (٣ ـ ٤). فقرائن السورتين تدل على ان الضمير في ﴿أنزلناه﴾ ليس القرآن، بل الأمر بالإيمان بالكتاب والدعوة له. وهكذا يزول التعارض، وتذوب النظرية القائمة عليه من تنزيل القرآن جملةً ثم مفرّقاً.
وهل نزلت التوراة جملة؟ إن الآية: ﴿وقال الذين كفروا: (لولا نُزّل عليه (القرآن جملة واحدة)؟ ـ كذلك، لنثبت به فؤادك﴾ (الفرقان ٣٢) تشير الى ذلك. ﴿فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وانما هو على تقدير ثبوت قول الكفّار. قلتُ: سكوته تعالى عن الردّ عليهم في ذلك، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته﴾. وينقل السيوطي رأي المفسرين والمحدثين والمتكلمين في نزول التوراة جملة، ويختم بقوله: ﴿فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة﴾.
وهذا الادعاء بنزول التوراة جملة، الذي أثاره اليهود ومن بعدهم المشركون بوجه القرآن، ممّا حمل القرآن على ذكره وعلى الرد عليهم. وبناءً على آية الفرقان (٣٢) في الرد على المشركين، ومن ورائهم اليهود، بنوا رواية نزول القرآن جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا!
وما هو اجماع عندهم بشأن التوراة نفسها، لا يقول به الراسخون في العلم من أهل الكتاب. نقل السيوطي ٢٥ أيضاً إجماعهم: ﴿إن سائر الكتب أُنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد أن يكون إجماعاً. وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل، بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن﴾. لم ينزل جملة من التوراة الى موسى سوى الوصايا العشر على لوحين؛ وسائر التوراة نزل مفرقاً، وعلى أجيال.
ونقل أيضاً، في الحكمة بنزول القرآن مفرّقاً: ﴿وانما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أُنزل مفرّقاً. ومنه ما هو جواب لسؤال. ومنه ما هو انكار على قول قيل أو فِعل فُعِل. وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ﴿ونزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾؛ وفُسِّر به قوله (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق). أخرجه عنه ابن أبي حاتم﴾.
فهل ينسجم هذا الواقع القرآني المشهود، مع التنزيل من لوح محفوظ؟ إن تنزيل القرآن ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾، مفرّقاً على مقتضى الحال هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟ وانما الإِعجاز في التنزيل أن يأتي مبتدئاً من الله.
خامساً: نزول القرآن بحسب الحاجة
أفرد السيوطي، في بحث كيفية انزال القرآن، ﴿فرعاً﴾ بنزوله بحسب الحاجة. قال: ﴿فرع. الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات، وعشر آيات وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة؛ وصح نزول عشر آيات من أول (المؤمنين) جملةً؛ وصح نزول ﴿غير أولي الضرر﴾ وحدها وهي بعض آية؛ وكذا قوله ﴿وإن خفتم عيلة﴾ إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية، كما حررناه في (أسباب النّزول)، وذلك بعض آية. وأخرج ابن أشته في كتاب (المصاحف) عن عكرمة في قوله ﴿بمواقع النجوم﴾ قال: أنزل الله القرآن نجوماً، ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات. وقال النكزاوي في كتاب (الوقف): كان القرآن ينزل مفرّقاً الآية، والآيتين والثلاث والأربع وأكثر من ذلك. وما أخرجه ابن عساكر، من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات. وما أخرجه البيهقي في (الشعب) من طريق أبي خلدة، عن عمر قال: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي ﷺ خمساً خمساً. ومن طريق ضعيف عن علي قال: أنزل القرآن خمساً خمساً، إلا سورة الأنعام، ومَن حفظه خمساً لم ينسه. فالجواب: إنّ معناه، إنَّ صح، القاؤه الى النبي ﷺ بهذا القدر حتى يحفظه، ثم يُلقي اليه الباقي، لإنزاله بهذا القدر خاصة. ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار قال: قال لنا أبو العالية: تعلّموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن النبي ﷺ كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً﴾.
إن تمييز السيوطي بين الإلقاء الى النبي والانزال سفسطة، لأن الأصل ما يتلقاه النبي من الوحي والتنزيل. وكان يتلقى القرآن الآية والآيتين والثلاث والأربع والخمس؛ وأحياناً عشر آيات معاً؛ وأحياناً بعض آية. وذلك كله ﴿بحسب الحاجة﴾، ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾، ﴿فكان المشركون اذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً﴾. هذا كله على لسان ابن عباس ترجمان القرآن. فهل نزول القرآن آيات متفرقات بحسب الحاجة من الإِعجاز في التنزيل؟ ومن الإِعجاز في النظم والتأليف؟ ومن الإِعجاز في البيان والتبيين؟
سادساً: هل التنزيل القرآني وحيٌ ليلي؟
يُصرّح القرآن عن كيفية إنزاله: ﴿إنّا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ (الدخان ٣)؛ ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر ١)؛ ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن﴾ (البقرة ١٨٥). فقد نزل القرآن، على ظاهر قوله، في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، من شهر رمضان. هذا قول أهل السنة والجماعة، بحسب ظاهر القرآن. وقد قدمنا رأياً مخالفاً. ولكن اذا أخذنا بحسب ظاهر القرآن، وبحسب رأي أهل السنة والجماعة، ألا يكون تنزيل القرآن وحيـاً ليلياً؟ إن ظاهر الآية ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ (الدخان)، وظاهر الآية، ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر)، يقطعان بأن الوحي القرآني ليلي. ويؤيده الحديث الصحيح عن عائشة أن أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، بغار حرّاء. وكانت رؤيا منام. وينقل السيوطي ٢٦ ما نزل ليلاً من أحاديث كثيرة: منها آية تحويل القبلة... ومنها أواخر آل عمران... ومنها سورة الأنعام... ومنها سورة مريم... ومنها أول الحج... ومنها آية الاذن في خروج النسوة لحاجتهن... ومنها أول الفتح... ومنها سورة المنافقين... ومنها سورة المرسلات... ومنها المعوذتان. ويختم ﴿بتبنيه: فإن قلت: فما تصنع بحديث جابر مرفوعاً ﴿أصدق الرؤيا ما كان نهاراً، لأن الله خصّني بالوحي نهاراً﴾ أخرجه الحاكم في (تاريخه). قلتُ: هذا الحديث منكر ولا يحتج به﴾.
وقصة الأحداث العظام في السيرة والدعوة كانت وحياً ليليّاً، منها قصة الإسراء: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾ (الإسراء ١)، ومنها قصة دخول المسجد الحرام بمكّة: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخُلُنّ المسجد الحرام، إن شاء الله﴾ (الفتح ٢٧).
وتنزيل يكون ﴿رؤيا بالحق﴾، ﴿ليلاً﴾ هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟
النتيجة الحاسمة أن الوحي بوسيط ووسط ليس من الإِعجاز في التنزيل.
تلك هي بعض ميزات أخرى للتنزيل القرآني: أكثره رؤيا بالحق ليلاً، ومفرّقاً بحسب الحاجة، يأتي آيات متفرقات على مقتضى الحال، تتعدّد فيها الوسائط، فهو تنزيل بوسيط ووسط. والقول الفصل: إن القرآن وحي بالواسطة، لا تنزيل مباشر من الله. فالله نفسه لم يكلّم محمداً، إنما كلمه بأمره ﴿الروح الأمين﴾. وأدنى طرق الوحي، بنص القرآن القاطع، أن ﴿يرسل رسولاً فيوحيّ بإذنه ما يشاء﴾ (الشورى ٥١).
فهل الوحي بالواسطة هو من الإِعجاز في التنزيل؟
بحث تاسع
القرآن ما بين التنزيل والتفصيل
في القرآن نوعان من التصاريح عن مصدره: نوع أول يصرّح بأنه تنزيل ربّ العالمين؛ ونوع آخر يصرّح بأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧)، وفي لغة القرآن ﴿تفصيل﴾ يعني التعريب. وقد جمع المصدرين في قوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زُبر الأولين: أَولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧)؛ ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ (العنكبوت ٤٩). إن علماء بني إسرائيل من النصارى لا يمكنهم ان يطّلعوا على تنزيل نازل من السماء على قلب النبي؛ إنما يقدرون أن يشهدوا لتنزيل يُفصّل من الكتاب آيات بيّنات في صدورهم، ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم﴾: فالراسخون في العلم هم الشهود العيان في التنزيل القرآني. فهم صلة الوصل بين ﴿تنزيل رب العالمين﴾ و﴿زبر الأولين﴾.
هذا ما يكشف لنا سر القرآن ما بين التنزيل والتفصيل.
يقول ابن الخطيب: ﴿كان القرآن أعجمياً وتُرجم الى العربية. قال تعالى: ﴿وانه لفي زُبر الأولين﴾ (الشعراء ١٩٦) أي إن هذا لفي كتب المتقدمين (التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب). ولا يخفى أن الكتب المنزلة كان بعضها عبريّاً وبعضها سريانيّاً (نضيف: وبعضها يونانيّاً كالعهد الجديد كله)، وهي لغات أعجمية؛ وقد ترجمها الله تعالى لنا إلى العربية﴾.
وبما أن القرآن تنزيل بالواسطة، فقد يكون تفصيلاً بالواسطة: ﴿لقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه. وجعلناه هدى لبني إسرائيل (النصارى). وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). إن الإشارة صريحة: محمد يلتقي بالكتاب المنزل من قبله بواسطة أئمة بني إسرائيل من النصارى؛ لذلك فتنزيل الرحمان الرحيم هو ﴿كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت ٣)؛ فهو ﴿كتاب أُحكمت آياته، ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود ١). فما القرآن العربي إلا الكتاب مفصلاً: ﴿أنزل إليكم الكتاب مفصلاً﴾ (الأنعام ١١٤)، فهو ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧). فالقرآن العربي تنزيل رب العالمين لأنه تفصيل التنزيل الكتابي.
وها نحن نفصّل ما أجملناه.
أولاً: التنزيل القرآني ومصادره
نستبين معنى التنزيل القرآني من لغته وتصاريحه.
١ـ التصريح المتواتر بأنه ﴿تنزيل رب العالمين﴾ (١٩٢:٢٦)، ﴿تنزيل الكتاب﴾ (٢:٣٢؛ ١:٣٩؛ ٢:٤٠؛ ٢:٤٥؛ ٢:٤٦)، ﴿تنزيل العزيز الرحيم﴾ (٥:٣٦)، ﴿تنزيل من الرحمان الرحيم﴾ (٢:٤١)، ﴿تنزيل من حكيم حميد﴾ (٤٢:٤١)، ﴿تنزيل من رب العالمين﴾ (٨٠:٥٦؛ ٤٣:٦٩)، ﴿تنزيلاً ممن خلق الأرض﴾ (٤:٢٠) ـ لا يبَيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره. فقد يكون بالواسطة، ومن مصدر كوسط له. فلا يُبنَ على مثل هذه التصاريح الكثيرة حكم.
٢ـ كذلك التصريح المتواتر: ﴿نزَّل عليك الكتاب﴾ (٣:٣)، ﴿نزّل الفرقان على عبده﴾ (١:٢٥)، ﴿ممّا نزّلنا على عبدنا﴾ (٢٣:٢)، ﴿ونزّلنا عليك الكتاب﴾ (٨٩:١٦)، ﴿نزّلنا عليك القرآن﴾ (٢٣:٧٦)، ﴿وننزّل من القرآن ما هو شفاء﴾ (٨٢:١٧)، ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب﴾ (٧:٣)، ﴿وأنزل الله عليك الكتاب﴾ (١١٣:٤)، ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً﴾ (١١٤:٦)، ﴿أنزل على عبده الكتاب﴾ (١:١٨)، ﴿أنزلنا إليك الكتاب﴾ (١٠٥:٤؛ ٤٨:٥؛ ٤٧:٢٩؛ ٢:٣٩)، ﴿وأنزلنا إليك الذكر﴾ (٤٤:١٦) ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب..﴾ (٦٤:١٦)، ﴿ما أنزلنا عليك القرآن﴾... (٢:٢٠)، ﴿أنزلنا عليك الكتاب﴾ (٥١:٢٩؛ ٤١:٣٩)، ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن﴾ (١٨٥:٢)، ﴿كتاب أُنزل إليك﴾ (٢٠٧)، ﴿نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً﴾ (٢٣:٧٦)... لا يبيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره.
٣ ـ والظاهرة العامة على مثل تلك التصاريح أن القرآن العربي خبر عن نزول ﴿القرآن﴾ على محمد ـ لا هذا ﴿القرآن﴾ المعروف نفسه.
ونلاحظ في تلك التصاريح الترادف بين القرآن والكتاب والذكر والفرقان. وهذا الترادف عنوان انتساب القرآن الى الكتاب المنزل قبله: ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾.
٤ ـ ليس تنزيل القرآن من السماء، بدليل قوله: ﴿... أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرأه ـ قلْ: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾ (الإسراء ٩٣). كان هذا التحدي من المشركين، ومن اليهود أيضاً: ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء (مثل ألواح التوراة) ـ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم﴾ (النساء ١٥٣). فليس القرآن كتاباً منزلاً من السماء؛ إنما سرّ تنزيله في غير اتجاه.
٥ ـ يقول إن مصدره في لوح محفوظ: ﴿بل الذين كفروا في تكذيب! ـ والله من ورائهم محيط؛ بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ﴾ (البروج ١٩ ـ ٢٢). يُخبر بأن ما يدعو اليه ﴿هو قرآن مجيد محفوظ في لوح﴾: فالقرآن العربي خبر عن هذا القرآن المجيد المحفوظ في لوح. ولا شيء في الآيات يشير الى المكان حيث اللوح محفوظ.
ويقول: ﴿فلا! أقسم بمواقع النجوم ـ وإنّه لقسم، لو تعلمون، عظيم ـ إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون: تنزيل من رب العالمين﴾ (الواقعة ٧٥ ـ ٨٠) هنا يصير اللوح المحفوظ كتاباً مكنوناً. والقرآن العربي يخبر عن ﴿قرآن كريم، في كتاب مكنون... تنزيل من رب العالمين﴾: فالتنزيل من رب العالمين هو ﴿قرآن كريم في كتاب مكنون﴾. فهل في الآيات من إشارة الى مكان الكتاب المكنون؟ رآها بعضهم في ﴿مواقع النجوم﴾ فخرقوا رواية تنزيل القرآن الى ﴿مواقع النجوم﴾ في السماء الدنيا. ولكن ليس من تطهير عند الملائكة حتى نرى فيهم ﴿المطهّرين﴾! إن التطهير من ضرورات الدين للبشر؛ فقوله: ﴿لا يمسّه إلاّ المطهّرون﴾ فيه إشارة إلى أهل الأرض الذين عندهم كتاب الله محفوظاً لا يمسه إلاّ المطهّرون منهم، المطهّرون من الشرك ومن النجاسات ومن الذنوب. وأهل الكتاب كانوا يحفظون كتاب الله في مكان مقدّس، ولا يمسه منهم إلاّ المطهّرون. فالقرآن العربي يخبر أن مصدره ﴿قرآن كريم، في كتاب مكنون﴾، محفوظ بعيداً عن غير المطهّرين من أهل الأرض.
ويقول: ﴿كلاّ! إنها تذكرةٌ، فمن شاء ذكرهُ، في صحف مكرّمةٍ، مرفوعة مطهّرةٍ، بأيدي سفرةٍ، كرامٍ بَرَرةٍ﴾ (عبس ١١ ـ ١٦). هنا يصير اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون صحفاً مكرمة. وهذه الصحف ﴿مرفوعة مطهّرة﴾: وليس في السماء نَجَسٌ حتى يكون فيها ﴿صحف مرفوعة مطهّرة﴾ عن مسّ كل مَن به نَجَس. فالنجاسة التي تمنع من مسّ كتاب الله في صحفه هي من صفات أهل الأرض. وليس أهل السماء، وهم في نور الله، بحاجة الى صحف، ولا إلى سَفرَة يكتبون: فكل هذا من ضرورات أهل الأرض. فالقرآن المجيد الذي يدعو اليه القرآن العربي، هو كتاب مكنون على الأرض، ﴿في صحف مطهّرة، بأيدي سفرة كرام بررة﴾، كما يطالبه اليهود ﴿بالبيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة﴾ (البيّنة ٢ ـ ٣) هذه هي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة.
ويقول: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب﴾ (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). لان ﴿عنـد﴾ الله هـو في السماوات والأرض: فليس مخصوصـاً بالسماء؛ بل ﴿عند﴾ الله يكون أيضاً على الأرض، حيث ﴿كتاب الله﴾ (٧٥:٨؛ ٣٦:٩؛ ٥٦:٣٠؛ ٦:٣٣) محفوظ يتلونه (٢٩:٣٥) ويدعون إليه (٢٣:٣)، ﴿بما استُحفظوا من كتاب الله﴾ (٤٤:٥)، وإنْ ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتـاب الله وراء ظهورهم﴾ (١٠١:٢). إن ﴿أمّ الكتاب﴾ أي أصله ومصدره ﴿عند الله﴾ على الأرض، اليه يرجع، وبه يتحدّى: ﴿قلْ: فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين﴾ (القصص ٤٩). فالقرآن العربي ينتسب الى كتاب الله الذي عند أهل الكتاب، حيث ﴿أم الكتاب﴾ في كتاب مكنون، على لوح محفوظ في صحف مطهّرة، بأيدي سفرة بررة. فلا شيء يشير الى صلة مباشرة بالسماء.
٦ ـ لا يذكر القرآن العربي لنبيّه من صلة بملاك الوحي سوى مرّة أو مرّتين. والقرآن العربي كله ينتسب الى هذه الرؤيا الوحيدة التي تصفها سورة (النجم)، وهي أول سورة أعلنها رسول الله، لذلك فيها مصدر رسالته ودعوته:
﴿والنجم إذا هوى .. ما ضلّ صاحبكم وما غوى
وما ينطق عن الهوى .. إن هو إلا وحي يُوحى
علّمه شديد القوى .. ذو مرة فاستوى
وهو بالأفق الأعلى .. ثم دنا فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدنى .. فأوحى إلى عبده ما أوحى
ما كذب الفؤادُ ما رأى .. أفتمرونه على ما يرى
ولقد رآه نزلة أخرى .. عند سدرة المنتهى
عندها جنة المأوى .. إذ يغشى السدرة ما يغشى
ما زاغ البصر وما طغى .. لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ (النجم ١ ـ ١٨).
هذا هو النظم القرآني في أصالته. وهو رباعيات أرامية تصير ثنائيات عربية في ميزان القريض العربي من صدر وعجز. وفي هذا النظم كان خرْق العادة العربية.
إن سورة النجم تصف رؤيا محمد لملاك الوحي بغار حرّاء. وهي الرؤيا الوحيدة التي يذكرها القرآن العربي كله. وفيها ﴿أوحى الى عبده ما أوحى... لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾.
وما أجملته سورة النجم فصّلته سورة الشورى عند ذكر طرق الوحي الرباني وموقف محمد ونصيبه منها:
﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراء حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (الشورى ٥١ ـ ٥٣).
ففي غار حرّاء أرسل الله الى محمد في حال وحي اليه ﴿روحاً من أمرنا﴾ أي ملاكاً مخلوقاً (لا الروح غير المخلوق). وملاك الوحي هدى محمداً الى الإيمان بالكتاب والدعوة له. هذا كل ما في الأمر.
نرى مصداق ذلك في السورة نفسها: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه... وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم﴾ (الشورى ١٣ و ١٥). فالقرآن العربي يدعو الى دين موسى وعيسى ديناً واحداً، وهذا هو العدل الذي معه. أو كما يقول مراراً: ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾، (أي التوراة والإنجيل معاً) (البقرة ١٢٩و ١٥١؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢). ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون﴾ (البقرة ٢٨٥ و ١٣٦؛ آل عمران ٨٤؛ النساء ١٥٢). هذه هي الطريقة والشريعة من أمر الدين التي وضعه عليها ملاك الوحي في غار حرّاء (الجاثية ١٨).
فليس في رؤيا محمد من تنزيل جديد. إنما هي هداية الى التنزيل الوحيد في كتاب الله، والأمر بالدعوة اليه على طريقة مخصوصة بالجمع بين موسى وعيسى معاً والكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل معاً. وهي طريقة النصارى من بني إسرائيل.
فالوحي الوحيد الذي ناله محمد في رؤيا الوحيدة نزلتين هو الأمر بأن يكون من المسلمين النصارى وأن يتلو معهم قرآن الكتاب: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢): فالمسلمون موجودون قبل محمد وهو ينضم اليهم بأمر الله ويتلو معهم كتاب الله على طريقتهم.
٧ ـ هذا هو ﴿القرآن﴾ الذي نزل على محمد في غار حرّاء: إنه أمر بالهداية الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢)، وأمر بالانضمام الى النصارى المسلمين (النمل ٩١)، وأمر بالرسالة والدعوة الى كتاب الله الذي معهم وعلى طريقتهم: ﴿حم، والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسِلين﴾ (الدخان ١ ـ ٥).
فالأمر بالرسالة والدعوة لكتاب الله المنزل من قبله هو الخبر العظيم الذي يردّده القرآن العربي في انتسابه الدائم الى الكتاب وأهله المسلمين المقسطين: ﴿وأمرتُ أن أكون منالمسلمين وأن اتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢)، ﴿وأمرتُ أن أكون من المؤمنين﴾ (يونس ١٠٤)، ﴿قلْ: إني أمرتُ أن اعبد الله مخلصاً له الدين، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين﴾ (الزمر ١١ ـ ١٢) ـ أُمِر في رؤيا غار حرّاء أن ينضم الى المسلمين ﴿النصارى﴾، وأن يتزعّم دعوتهم ـ ﴿قلْ: إني أمرتُ أن أكون أوّل مَن أسلم، ولا تكونَنَّ من المشركين﴾ (الأنعام ١٤)، ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام ١٦١ ـ ١٦٣). إن الصراط المستقيم، والدين القيّم، وملّة إبراهيم حنيفاً هي أن يكون من المسلمين؛ لذلك هداه ربه في رؤيا غار حرّاء؛ وبذلك أُمر، بتزعّم الدعوة الى إسلام ﴿النصارى﴾ المسلمين المقسطين. هذا الأمر المتواتر هو القرآن والتنزيل والذكر والكتاب الذي أُنزل عليه في ليلة مباركة (الدخان) هي ليلة القدر (سورة القدر) من شهر رمضان (البقرة). أُمر بالهداية الى الإيمان بكتاب الله (الشورى ٥٢) وأُمر بالدعوة له مع ﴿النصارى﴾ المسلمين (النمل ٩١ ـ ٩٢) وأُمِر بتزعّم الحركة ﴿النصرانية﴾ الإسلامية في مكّة والحجاز بعد موت زعيمها ورقة بن نوفل استاذه الى هذه الرسالة. تلك هي رسالته ونبوته التي تلقاها من ملاك الوحي في غار حرّاء: ﴿حم. والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسلين﴾ (الدخان ١ ـ ٥).
فليس من تنزيل جديد في القرآن العربي؛ انما هو نقل التنزيل الكتابي ﴿بلسان عربي مبين﴾. وقد جمع رسالته كلها وقرآنه كله في قوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين؛ وانه لفي زبرُ الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧). يصرّح بأن تنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد هو في زبر الأولين أي ﴿كتبهم كالتوراة والإنجيل﴾ (الجلالان)، ويشهد بذلك علماء بني إسرائيل، وشهادتهم آية لهم. فالروح الأمين نزل على قلبه بتنزيل التوراة والإنجيل معاً، وهذا ما يسميه هداية الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢) ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، لأنه ﴿ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين قرأه عليهم، ما كانوا به مؤمنين﴾ (الشعراء ١٩٨ ـ ١٩٩).
فالقرآن العربي من تنزيل الكتاب لأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ (يونس ٣٧).
ثانياً: القرآن العربي هو ﴿تفصيل الكتاب﴾ للعرب
إن تعبير (التنزيل) في لغة القرآن متشابه، لا يُعرف معناه إلاّ بالقرائن القرآنية المحكمة. وما يسميه تنزيلاً يصفه بأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ المنزل قبله، و﴿تصريف آياته﴾، و﴿تيسيره﴾ قرآناً عربياً، و﴿تبيان﴾ ما نُزّل من قبل.
١ ـ فهو يصرّح أولاً بأن القرآن العربي، انما هو تنزيل الرحمان الرحيم، لأنه من كتاب الله الموجود قبله، وفيه؛ فالقرآن ينتسب الى الكتاب نسبة مصدرية:
يقول: ﴿إِن هذا (القرآن) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى﴾ (الأعلى ١٨ ـ ١٩)؛ ﴿أم لم يُنبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الـذي وفّى... وأن الى ربك المنتهى﴾ (النجم ٣٦ ـ ٤٢). ففي سورة النجم، بعد أن ذكر قصة رؤياه في غار حرّاء، يصرح بمصدر دعوته في صحف إبراهيم وموسى وعيسى ـ ﴿وقالوا: لولا يآتينا بآية من ربه؟ ـ أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى﴾ (طه ١٣٣). فالقرآن الذي نزل عليه (طه ١) انما هو ﴿بيّنة ما في الصحف الأولى﴾. فليس من تنزيل جديد، ولا من تنزيل من السماء؛ انما هو بيان ما في تنزيل الصحف الأولى. بذلك يردُ على المشركين المكذبين: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ (المدثر ٤٩ ـ ٥٥). فليس القرآن العربي صحفاً مقدسة منشرة، بل هو تذكرة منها. وبذلك يردّ على أهل الكتاب من اليهود: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب (اليهود) والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتب قيّمة ـ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب (من اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَتهم البيّنة﴾ (البيّنة ١ ـ ٤) لأن القرآن ﴿بيّنة ما في الصحف الأولى﴾ (طه ١٣٣).
ويقول: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، وانْ من أمة إلاّ خلا فيها نذير، وإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءَتهم رسلهم بالبيّنات والزُبرُ والكتاب المنير﴾ (فاطر ٢٤ ـ ٢٥). فالعرب المشركون يكذبون محمداً كما كذّب اليهود رسلهم، وبيّنات موسى، وزبور داود، والكتاب المنير لعيسى المسيح. لكن النصارى من بني إسرائيل لم يكذبوا عيسى، ولا هم يكذبون محمداً؛ لذلك يستشهد بهم: ﴿فاسألوا أهل الذكر؛ إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر﴾ (النحل ٤٣ ـ ٤٤). ويستعلي على المشركين بتلك الزبر: ﴿أم لكم براءَة في الزبر﴾ (القمر ٤٣) لأن ﴿كل شيء فعلوه في الزبر﴾ (القمر ٥٢). ويندّد بأهل الكتاب الذين اختلفوا في المسيح: ﴿فقطّعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون﴾ (المؤمنون ٥٣) ﴿فآمنت طائفة من بني إسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود): فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ (الصف ١٤). فالقرآن ينتسب دائماً الى زبر الأولين، وما هو تنزيل إلاّ لأنه منها وفيها: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين﴾ (الشعراء ١٩٢ و ١٩٦).
وهكذا فما محمد إلا ﴿نذير من النذر الأولى﴾ (النجم ٥٦) ينذر العرب، في القرآن، بالنذر الأولى.
٢ ـ فما القرآن العربي سوى ﴿تفصيل الكتاب﴾ بلسان عربي مبين ما يصفه عامةً بالتنزيل في القرآن العربي، يسميه على التخصيص تفصيلاً: ﴿ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الـذي بين يديه (قبله)، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين﴾ (يونس ٣٧). هذا هو التعريف الحق، والقول الفصل في القرآن العربي: إنه ﴿تفصيل الكتاب﴾، لا الكتاب الذي في السماء، بل الكتاب الذي من قبله، فهو ﴿تصديق الذي بين يديه﴾. والتفصيل في لغته يعني التعريب، بحسب قوله: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فُصّلت آياته﴾ (فصلت ٤٤).
فالتنزيل في القرآن يعني ﴿تفصيل الكتاب﴾ فيه: ﴿أفغير الله أبتغي حَكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكونَنَّ من الممترين! وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته، وهو السميع العليم﴾ (الأنعام ١١٤ ـ ١١٥). هذا هو تحديد كيفية التفصيل والتعريب: إن القرآن العربي منزّل من ربك بالحق لأنه ﴿الكتاب مفصلاً﴾، بكل صدق وعدل، لا مبدّل لكلماته؛ ويشهد أهل الكتـاب على صحة التنزيل في صحة التفصيل والتعريب. فالقرآن تنزيل لأنه ﴿تفصيل الكتاب﴾. لذلك ﴿ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ (يوسف ١١١).
فهذه هي قصة التنزيل الرباني: ﴿حم. تنزيل من الرحمان الرحيم: كتابٌ فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت ١ ـ ٣). هذا هو التعريف الفصل في القرآن العربي: إن تنزيل الرحمان الرحيم هو في الكتاب، وقد ﴿فُصّلت﴾ أي عُرّبت آياته قرآناً عربياً. وقوله: ﴿لقوم يعلمون﴾ فيه سرٌ لطيف؛ إن أولي العلم، القوم الذين يعلمون، هم أهل الكتاب، والمقسطين منهم هم النصارى من بني إسرائيل؛ لذلك كان تعريب الكتاب أولاً لهم كما فعل قس مكّة ورقة بن نوفل، ومحمد من بعده يبلّغه الى العرب، ﴿وقد شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠). فمثل القرآن عند النصارى من بني إسرائيل. وهـو ﴿كتاب أحكمت آياته ـ ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود ١)؛ لذك ما كان لمحمد نفسه أن يشك من مطابقة القرآن العربي ﴿للمثل﴾ الذي عند النصارى من بني إسرائيل: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده؛ فلا تكُ في مرية منه﴾، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ (هود ١٧). إن شاهداً من قِبَل الله يتلو ﴿مثل﴾ القرآن على محمد، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً﴾، ﴿فلا تك في مرية منه﴾، لأن أهل الكتاب المقسطين هم على بيّنة من ربهم، وهم يؤمنون به، فآمن على إيمانهم.
إن كتاب الله قد فصلت آياته قرآناً عربياً. لذلك فما القرآن العربي سوى ﴿تفصيل الكتاب﴾ بلسان عربي مبين. وهو يقسم بالكتاب نفسه أنه جعله قرآناً عربياً: ﴿حم. والكتاب المبين: إنا جعلناه (الكتاب) قرآناً عربياً ألعلّكم تعقلون﴾ (الزخرف ١:١ ـ ٣). هذا هو تحديد التفصيل والتعريب.
٣ ـ القرآن العربي ﴿تصريف﴾ آيات الكتاب، بعد الدرس
يقول: ﴿انظر كيف نصرّف الآيات، ثم هم يصدِفون﴾ (الأنعام ٤٦)، ﴿انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون﴾ (الأنعام ٦٥)؛ ﴿وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون﴾ (الأنعام ١٠٥). يقول ﴿بتصريف﴾ الكتاب قرآناً عربياً، فيردون عليه، ويقولون: ﴿درست﴾ كتب الماضين وجئت بهذا منها (الجلالان). فردّ على تهمة الدرس بقوله: ﴿ولنبيّنه لقوم يعلمون﴾؛ فسكوته عن الردّ عليم في ذلك، وعدوله الى بيان حكمة الدرس دليل على صحته. فقد درس محمد الكتاب، وهو يصرّف آياته في القرآن العربي.
ويقول: ﴿تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً﴾ (الفرقان ١). وكان هذا التنزيل بالتصريف: ﴿ولقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا، فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً﴾ (الفرقان ٥٠) فالتنزيل يعني التصريف في لغته: ﴿وكذلك، أنزلناه قرآناً عربياً وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتّقون، أو يُحدث لهم ذكراً﴾ (طه ١١٣)، ﴿ولقد صرّفنا في هـذا القرآن ليذّكّروا، وما يزيدهم إلا نفوراً﴾ (الإسراء ٤١)؛ ﴿ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الانسان أكثر شيء جدلاً﴾ (الكهف ٥٤). لقد درس محمد الكتاب وصرّفه وفصله قرآناً عربياً، أو فصّله له ﴿حكيمٌ خبير﴾. فالتصريف، في لغته، مرادف للتفصيل أي للتعريب.
٤ ـالقرآن العربي هو ﴿تيسير﴾ الكتاب بلسان محمد
في سورة مريم يقول: ﴿واذكر في الكتاب مريم﴾ (١٦)، ﴿واذكر في الكتاب إبراهيم﴾ (٤١)، ﴿واذكر في الكتاب اسماعيل﴾ (٥٤)، ﴿واذكر في الكتاب ادريس﴾ (٥٦): ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيّين من ذرية آدم، وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممّن هدينا واجتبينا، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمان خرّوا سُجّدا وبُكيّا﴾ (٥٨). ويختم بقوله: ﴿فإنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين، وتنذر به قوما لُدّا﴾ (٩٧). فالقرآن العربي تيسير الكتاب المقدس بلسان محمد، بحسب ﴿المِثـْل﴾ الذي مع النصارى من بني إسرائيل (الأحقاف ١٠). والكتاب هو الذكر وهو القرآن على الإطلاق؛ وما القرآن العربي سوى تيسير القرآن العظيم: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر، فهل من مذّكر﴾ (القمر ١٧و٢٢و٣٢ و٤٠). ومنذ رؤيا غار حرّاء، في تلك الليلة المباركة، أمر ملاك الوحي محمداً بتيسير الكتاب المُبين بلسانه العربي المُبين: ﴿حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسلين﴾ (الدخان ١ـ ٥)، ﴿فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون﴾ (الدخان ٥٨).
فرسالة محمد هي تيسير الكتاب المبين باللسان العربي.
٥ ـ القرآن العربي هو ﴿بيان﴾ الكتاب بلسان عربي
يتحدّى المشركون الذين لا يعلمون، واليهود الذين من قبلهم، محمداً بآية، فيُجيب أن آيته بيان آيات الكتاب لأنه بشير ونذير، لا نبي بمعجزة: ﴿وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تآتينا آية؟ ـ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم! قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون! إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، ولا تُسْأل عن أصحاب الجحيم﴾ (البقرة ١١٨ ـ ١١٩).
ومن صفات النبي أن يُرْسَل بلسان قومه: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم﴾ (إبراهيم ٤). ورسالة محمد أن يبيّن للعرب ما نُزِّل من قبله بلسانهم: ﴿وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي اليهم: فاسألوا أهل الـذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزُبر! وأنزلنا إليك الذكر، لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم، ولعلّهم يتفكّرون﴾ (النحل ٤٣ ـ ٤٤). إن الذكر الإلهي لواحدٌ، وهو أولاً عند أهل الذكر، فهم أهله من دون الناس أجمعين؛ ثم نزل هذا الذكر ـ لاحظ التعبير المطلق في قوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر ـ الى محمد ـ لتبيّن للناس (العرب) ما نُزِّل اليهم﴾ من قبل. فالقرآن العربي هو ﴿بيان﴾ الذكر الذي عند أهل الذكر للعرب بلسان عربي.
ومن رسالته أيضاً أن يُبيّن لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه، على هدى القوم المؤمنين، أولي العلم المقسطين، النصارى من بني إسرائيل المسلمين: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب (فهو واحد عنده ومع مَن قبله) إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ (النحل ٦٤). فالقرآن العربي هو أيضاً ﴿بيان﴾ الكتاب لأهل الكتاب الذين اختلفوا فيه الى يهود ومسيحيين، على هدى النصارى من بني إسرائيل، القوم المؤمنين ﴿الذين يتلونه (الكتاب) حقَّ تلاوته﴾ (البقرة ١٢١).
٦ ـ في القرآن على محمد أن ﴿يقتدي﴾ بهدى الكتاب وأهله المقسطين
يذكر الأنبياء جميعهم من نوح الى عيسى، ﴿ومن آبائهم وذريتهم واخوانهم؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ـ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده﴾ (الأنعام ٨٤ ـ ٨٨). ثم يقول: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوّة ـ فإن يكفر بها هؤلاء، فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِه﴾ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). إِن هدى الله هو عند أهل الكتاب ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة﴾؛ لاحظ تعبير ﴿الحُكم﴾ أي الحكمة، وقد استخدم بحرفه العبري والأرامي زيادة في الانتساب اليهم والى لغتهم. والحكمة في التعبير المتواتر ﴿الكتاب والحكمة﴾ هي الإنجيل. فهدى الله هو عند الذين يقيمون التوراة والإنجيل معاً بدون تفريق بينهما، وهم النصارى من بني إسرائيل. فعلى محمد أن ﴿يقتدي﴾ في القرآن العربي بهداهم. فليس هدى القرآن العربي نازلاً من السماء مباشرة، بل هو من هدى النصارى من بني إسرائيل ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة﴾ معاً. والأمر لمحمد أن ﴿يقتدي بهداهم﴾ برهان على أن هداه من هداهم، والتنزيل اليه من تنزيلهم؛ فلو كان من السماء مباشرة لَمَا صحّ لهذا الأمر من معنى.
٧ ـ القرآن يشهد للاسلام بشهادة أولي العلم المقسطين
منذ رؤيا غار حرّاء جاءَه الأمر أن ينضمّ الى المسلمين من قبله، وأن يتلو قرآن الكتاب على طريقهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢). فإسلام المسلمين من قبله هو القرآن كله. وهذا الإسلام هو الدين عند الله. بذلك يشهد الله وملائكته ﴿وأولو العلم قائماً بالقسط﴾ ـ وأولو العلم مرادف لأهل الذكر، وأهل الكتاب. لكنه يقسمهم الى طائفتين: المقسطين منهم وهم النصارى من بني إسرائيل، والظالمين وهم اليهود (العنكبوت ٤٦). فالقرآن يشهد بشهادة هـؤلاء النصارى ﴿أن الـدين عند الله الإسلام﴾: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن ٢٧ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران ١٨ ـ ١٩).
قالوا إن آخر آية عهداً بالعرش آيةُ الدين هذه، فهي آخر ما نزل على محمد. لكن القرآن يشهد أن آية الدين هي شهادة النصارى الإسرائيليين، وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته.
ولذلك اختلف أهل الكتاب من اليهود بعد ﴿العلم﴾ الذي جاءَهم به المسيح في الإنجيل؛ وأخذوا يقتلون النصارى المقسطين بسبب شهادتهم بالإسلام النصراني، كما كانوا يقتلون النبيّين بغير حق: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم، بغيّاَ بينهم! ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب... إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيّين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشّرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران ١٩ و ٢١).
إن النصارى من بني إسرائيل يشهدون مع الله وملائكته أن الدين عند الله الإسلام؛ ويأمرون الناس بالقسط؛ فهم أولو العلم قائماً بالقسط؛ لذلك يقتلهم بنو قومهم اليهود، فيموتون شهداء الإسلام الذي له يشهدون. والقرآن كله يشهد بشهادتهم: فهو تنزيل من تنزيلهم.
والقرآن تأييد لهؤلاء النصارى من بني إسرائيل حتى ظهورهم على عدوّهم اليهود: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى، ابن مريم، للحواريين: مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ بالحجاز والجزيرة (الصف ١٤). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين؛ ويؤيّد دعوتهم، وينتصر لهم على عدوهم. فالدعوة القرآنية دعوة ﴿نصرانية﴾. النتيجة الحاسمة: إن التنزيل يعني في اصطلاحه ﴿التفصيل﴾.
هذا هو التنزيل القرآني، بتعابيره المتشابهة. ويصرّح بتواتر إن هذا التنزيل القرآني إنما هو ﴿تفصيل الكتاب﴾ وتصريفه وتيسيره وبيانه للعرب، على طريقة النصارى من بني إسرائيل، ﴿الذي يتلونه حقَّ تلاوته﴾، ويشهدون مع الله وملائكته بالإسلام، فيشهد به معهم محمد بالقرآن العربي، فقد ﴿أُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن﴾ (النمل ٩١ ـ ٩٢) على ﴿المثل﴾ الذي معهم: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله﴾ (الأحقاف ١٠). فتنزيل القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب﴾. ويسمى القرآن العربي نفسه تنزيلاً لأنه تفصيل التنزيل عن ﴿مثله﴾ الذي عند النصارى من بني إسرائيل. وتنزيل هو ﴿تفصيل﴾ التنزيل الكتابي، هل يكون من الإِعجاز بذاته في التنزيل؟
بحث عاشر
التنزيل ما بين القرآن والإنجيل
نختم هذا الفصل ببحث التنزيل ما بين القرآن والإنجيل، على هدى القرآن والإنجيل. نرى فيه مدى التفاوت الواسع ما بين التنزيل القرآني والتنزيل الإنجيلي.
أولاً ـ يجزم القرآن عن نفسه أنه تنزيل بالواسطة: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين﴾ (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤)؛ ﴿قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل ١٠٢). وبمـا أنه تنزيل بالواسطة فهـو كلام الملاك باسم الله لا كلام الله مباشرة: ﴿يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ (الشورى ٥١).
أمّا الإنجيل فهو وحي مباشر من الله، بدون وسيط، ولا حجاب؛ فهو كلام الله نفسه. وبحسب الإنجيل إنه كشف من الله بالمشاهدة العيان. فالسيد المسيح، في الإنجيل والقرآن هو ﴿كلمة الله﴾، من ذاته؛ فكأن كلام الله صار فيه ﴿كلمة الله﴾ ذاته: فالوحي والذات فيه واحد.
ثانياً ـ إن التنزيل القرآني من وَسَطٍ قائم بين الله وبين نبيّه: فهـو على ﴿لوح محفوظ﴾، في ﴿كتاب مكنون﴾، ضمن ﴿صحف مطهّرة، بأيدي سفرة، كرام برَرة﴾.
أمّا بين الله ومسيحه فليس من وسيط ولا وَسَط، ولا كتاب ولا حجاب: ﴿إننا نشهد بما شاهدنا﴾ يقول كلمة الله النازل من ذات الله (يوحنا ١١:٣).
ثالثاً ـ بحسب الحديث المتواتر المشهور كان جبريل يعارض القرآن كل سنة في رمضان مع محمد. وهذه العرْضات السنوية للقرآن تدل حتماً على تنقيحه.
أما الإنجيل، فليس في القرآن والإنجيل، ولا في الأخبار والآثار، من عرْض له على مخلوق؛ فهو ليس بحاجة الى تنقيح.
رابعاً ـ كان القرآن، على ما يقولون وكما هو المشاهَد فيه، ينزل بحسب الحاجة الطارئة، ﴿نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾ (عن ابن عباس)، على مقتضى الحال، كما يصرّح: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً﴾ (الفرقان ٣٣) فكأن جبريل يتبارى مع العرب في الإِعجاز والبيان.
أما الإنجيل، وإن جاء فيه بجواب كلام العباد وأعمالهم أحيانا، فهو ينزل مبتدِئاً بكشف من الله، وتشريع يفرضه فرضاً على العباد بحسب مقتضى الحال والمآل.
لمّا نزلت في القرآن آية المحاسبة على الوسوسة (البقرة ٢٨٤) قالوا لمحمد: نزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فنسخها للحال. ولمّا نسخ السيد المسيح الطلاق وتعدد الزوجات بحسب شريعة موسى، استنكر ذلك صحابته قبل غيرهم، فقال لهم: ﴿مَن استطاع أن يحتمل فليحتمل﴾ (متى ١:١٩ ـ ١٢).
خامساً ـ في التنزيل القرآني ناسخ ومنسوخ في آيه. وقد رفع جبريل في العرضة الأخيرة، على ما يقولون، كثيراً من المنسوخ. وعند جمع القرآن أسقط عثمان المنسوخ الباقي الذي أثبته علي في مصحفه. وبقي في المصحف العثماني ناسخ ومنسوخ يؤلفون فيه الكتب الى اليوم.
أما الوحي الإنجيلي فليس فيه ناسخ ومنسوخ. وليس من شاهد في الإنجيل، ولا في الأخبار والآثار، على شيء من ذلك. فقد نزل الإنجيل بالوحي مبتدئاً محكماً.
سادساً ـ يقسم القرآن التنزيل فيه الى محكم ومتشابه: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات، هنّ أمّ الكتاب؛ وأُخر متشابهات﴾ (آل عمران ٧). والمتشابهات أكثر القرآن؛ فكأنهنّ من المهملات، أو من الوسائل التدعيمية.
ولا ينص الإنجيل على أن فيه ﴿آيات محكمات وأخر متشابهات﴾. فكله محكم. قد يفصّل الإنجيل بعضه بعضاً ويفسّر بعضه بعضاً؟ ولكن ليس فيه آيات متشابهات يجب الرجوع فيها الى المحكمات لبيان مدلولها ومعانيها. فآيات الإنجيل كلها محكمات.
سابعاً ـ حديث صحيح نقله واحد وعشرون صحابيّاً ٢٨ : ﴿إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ﴾. واختلفوا في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً، لما فيه من شبهات على صحة التنزيل وصحة الحفظ وصحة الإِعجاز. لكن أكثر العلماء على تفسير الطبري أنه ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني﴾ أي سبعة نصوص أو سبعة قرائين. يقول الطبري ٢٩ : ﴿فإن قال قائل: ما بال الأحرف الستة غير موجودة؟ إن كان الأمر على ما وصفت أو قد أقرّهن رسول الله ﷺ، وأمر بالقراءَة بهنّ الأمة، وهي مأمورة بحفظها، فلذلك تضييع ما قد أُمروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟ ـ قيل له: لم تُنسخ فترفع؛ ولا ضيّعتها الأمة؛ ولكن الأمة أُمرت بحفظ القرآن، وخُيّرت في قراءته وحفظه بأيّ تلك الأحرف شاءت. فرأت، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءَته بحرف واحد، ورفض القراءَة بالأحرف الستة الباقية﴾ (٥٩:١). والعلة الموجبة كانت اختلاف الأمة المبكر على نص القرآن، واقتتال الغلمان في المدارس، والجيوش في ساحات القتال (٦٢:١). ثم ﴿إن الأحرف الستة الأخر أسقطها عثمان ومنع من تلاوتها﴾ (٦٦:١) وأتلفها بالحديد والنار. فحفظ القرآن على حرف أي نص واحد ليس بمعجزة في الحفظ ولا في الأمانة لتنزيل الله.
ودوّن صحابة المسيح الإنجيل على أربعة أحرف: الإنجيل بحسب متى، وبحسب مرقس، وبحسب لوقا، وبحسب يوحنا. وحفظها المسيحيون جميعاً، لأنهم لم يختلفوا فيها ولم يقتتلوا عليها، مع تفرّقهم طوائف وشيعاً. ثم رأى بعض المسيحيين من التابعين كتابة أحاديث وردت عن صحابة المسيح وآل بيته، فوضعوها وسمّوها أناجيل، ونحلوها الى رسل المسيح، فسمّيت ﴿الاناجيل المنحولة﴾. وهذه أيضاً لم يتلفها المسيحيون لأنهم لم يخشوا منها على ﴿الاناجيل الأربعة الصحيحة﴾.
وهكذا نزل القرآن على سبعة أحرف أتلف صحابة محمد منها ستة!
ونزل الإنجيل على أربعة أحرف فحفظها صحابة المسيح جميعاً!
ففي تلك المقارنات السبع في التنزيل، ما بين القرآن والإنجيل، أين هو الإِعجاز الإلهي الحق في التنزيل؟
خاتمة
شبهات عشر على الإِعجاز في التنزيل
تلك أبحاث عشرة في التنزيل القرآني.
أجل إن في القرآن إِعجازاً. لكن الإِعجاز الأول للتحدي ليس الإِعجاز في اللفظ والنظم والبيان. إنما الإِعجاز الحق والأوّل للتحدي هو الإِعجاز في التنزيل.
وتنزيل متشابه في لغته: تنزيل مخلوق في حرفه (والحرف موضوع التحدي بإِعجازه)؛ تنزيل قد يكون بالحرف أم بالمعنى؛ تنزيل على سبعة أحرف لم يسلم منها إلا واحد؛ تنزيل من ميزاته النسيان، وإمكان فتنة النبي فيه عن الوحي، وإمكان ترك النبي لبعض الوحي منه بسبب عجزه عن معجزة كالأنبياء الأولين، تنزيل ميزته التبديل في آية، والمحو من التنزيل، والنسخ في أحكامه، والتشابه في أوصافه وأخباره، تنزيل يمكن للشيطان أن يُلقي فيه، وتفرض فيه الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَته؛ تنزيل تلك صفاته ويخضع لعرضات سنوية لتنقيحه من التحريف؛ تنزيل فيه ناسخ ومنسوخ لم يسلم كله بتصفية النبي له، وتصفية الصحابة عند جمعه؛ تنزيل بوسيط ووسط يضعه نبيه في أدنى طرق الوحي؛ تنزيل يصف نفسه أنه ﴿تفصيل الكتاب﴾ من قبله؛ ﴿وإنه لفي زبر الأولين﴾. تنزيل كهذا هل هو الإِعجاز في التنزيل؟ والإِعجاز في التنزيل هو المعجزة الأولى للتحدّي في كل تنزيل.
الجزء الثاني
الإِعجاز في التأليف
توطئة عامة
حسن التأليف ناحية من الإِعجاز البياني
لحسن التأليف شروط أجمعت عليها آداب اللغات كلها، مع تفاوتها في تحقيق ذلك. فمن حسن التأليف وحدة الموضوع في الفصل والكتاب؛ وترتيب الأجزاء، لتنسيق الأقسام وحدات منسجمة، في وحدة كبرى شاملة؛ ومراعاة الوحدة الزمانية وتطوّرها في التنزيل والتبليغ، والبيان والتبيين. فيسلم حسن التأليف من التداخل بين مواضيعه واغراضه؛ ومن التكرار في تعليمه وأخباره؛ ومن التفكك بين أجزائه وفصوله؛ ومن الاختلاف في أوصافه من فصل الى فصل. فلا يأتي التعليم متقطعاً، ولا التشريع متفتّتاً، بحسب المناسبة من ظروف الزمان والمكان في السيرة والدعوة.
فمن الإِعجاز في التأليف وحدة الموضوع واستيفاؤه حقه، قبل العبور الى غيره. ومن الإِعجاز في التأليف عدم تداخل المواضيع في فصل واحد. ومن الإِعجاز في التأليف حسن الترتيب. وهذا قد يكون تنسيقيّاً، أو تاريخيّاً. لكن في الدين، ومعرفة حقيقة الوحي وتطور التنزيل، يفضّل الترتيب التاريخي، على الترتيب التنسيقي لئلا يفوت علينا تاريخ السيرة والدعوة، وحقيقة الشريعة المنزلة، اذا اعتراها تبديل ونسخ. فالإِعجاز في التأليف ناحية من الإِعجاز في النظم والبيان.
بحث أوّل
تأليف القرآن في تنزيله
أولاً: تنزيله آيات
ينقل السيوطي (الإتقان ٤٤:١) ﴿الذي استقرِئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أنّ القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملةً، وصح نزول عشر آيات من أول (المؤمنين) جملةً، وصح نزول ﴿غير أولي الضرر﴾ وحدها، وهي بعض آية، وكذا قوله ﴿وإن خفتم عيلةً﴾ الى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية وذلك بعض آية.
﴿عن عكرمة: أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات.
﴿وقال النكزاوي: كان القرآن ينزل مفرّقا: الآية والآيتين والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك﴾.
ثانياً: تعليمه آيات
وقد عمل الصحابة في تلقين القرآن وتعليمه بحسب مبدأ نزوله:
﴿وما أخرجه ابن عساكر قال: كان أبو سعيد الخدري يعلّمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي. ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.
﴿وما أخرجه البيهقي عن عمر قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي ﷺ خمساً خمساً. ومن طريق ضعيف عن علي قال: أُنزِل القرآن خمساً خمساً ـ إلاّ سورة الأنعام ٣٠ ـ ومَن حفظ خمساً خمساً لم ينسه.
﴿فالجواب ان معناه ـ إن صح القاؤه الى النبي ﷺ هذا القدر ـ حتى يحفظه ثم يلقى اليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصة﴾.
فالشهادة المتواترة عن الصحابة ان القرآن كان ينزل مفرّقاً، نجوماً، من آية الى اثنتين فما فوق؛ ولم يتجاوز العشر آيات مرة واحدة. ولم يذكروا نزول عشر آيات جملة إلا مرتين في حديث الإفك من سورة (النور)، وفي مطلع سورة (المؤمنين). وهكذا فإن أسلوب التنزيل نفسه، بحسب مناسبات السيرة وظروف الدعوة، دليل على التفكّك في تأليفه الخاضع لظروف المناسبات المختلفة. والتأليف في التنزيل بحسب المناسبات المختلفة شبهة على الإِعجاز في التأليف.
بحث ثان
ترتيب الآيات في السورة
أوّلاً: الواقع التاريخي
قال السيوطي في (الإتقان ٦٢:١)، ﴿الاجماع، والنصوص المترادفة، على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك. أمّا الاجماع فنقله غير واحد. منهم الزركشي في (البرهان) وأبو جعفر بن الزبير في مناسبة؛ وعبارته: ﴿ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ﷺ وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين﴾.
ثم يقول: ﴿فبلغ ذلك مبلغ التواتر. نعم يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود في (المصاحف) عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة (براءَة) فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ﷺ ووعيتُهما. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما؛ ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتُها سورة على حدة؛ فانظروا آخر سورة من القرآن فالحقوها في آخرها. قال ابن حجر: ظاهر هذا أنهم يؤلفون آيات السورة باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بتوقيف﴾.
هذه الحادثة وهذا الاستنتاج الصحيح يدلان: أولاً على أن القرآن لم يكن كله مكتوباً على زمن الرسول؛ ثانياً ويشهد لذلك أنه عند جمع القرآن، كما أخرج ابن أبي داود، ﴿أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءَكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ـ رجاله ثقاة مع انقطاعه﴾.
والخلاف على هذين الشاهدين: هل هما الحفظ والكتاب، أم الحفظ وحده، والكتاب وحده؟ ﴿قال ابن حجر: وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب... وقد أخرج ابن اشته في (المصاحف) عن الليث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد. وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل؛ وأن آخر سورة (براءَة) لم توجد إلاَّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإن رسول الله ﷺ جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده﴾. فالمعوّل اذن على الحفظ.
وهذا واقع متعارض: اذا كان القرآن مكتوباً على زمن النبي، فما الحاجة الى شهود القراءَة؟ ثم ما الحاجة الى الجمع نفسه من حملة القرآن الحافظين؟ ثم ما الحاجة الى تعدّد مصاحف الصحابة والخلفاء وأمهات المؤمنين؛ ومن بعد الجمع العثماني الى اتلافها جميعاً؟ ثم ما معنى الضرورة القصوى التي حملتهم على الجمع الثاني، مع عثمان، والسبب المتواتر اقتتال أهل العراق وأهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان على قراءَة القرآن، واقتتال الغلمان والمعلمين في الحجاز، ﴿فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به، وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشد تكذيباً وأكثر لحنا! يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً؛ فاجتمعوا فكتبوا﴾.
فواقع جمع القرآن على مراحل شاهد عدل بأنه لم يكن مكتوباً على زمن الرسول: ولو كان مكتوباً لما احتاجوا الى جمع! وجمعه من الرقاع المبعثرة في بيت الرسول عند موته، لا يحتاج الى قراء يحفظونه، ولا إلى شهود عدل يشهدون بسماعه. ولو كان القرآن مكتوباً على زمن الرسول في رقاع مبعثرة، لَمَا جمعوا منه مصاحف مختلفة بين الخلفاء والصحابة وأمهات المؤمنين؛ ثم عمدوا الى اتلافها جميعاً بعد الجمع العثماني!
وأدوات التدوين، كما رأينا، تحتاج الى قافلة جمال تحمل القرآن المكي الى المدينة عند هجرة الرسول. ولا تذكر الاخبار والآثار شيئاً من هذه القافلة، أو حمل شيء مدون في مكّة الى المدينة: فالقرآن المكي كان كله في صدور القراء. وعند وفاة النبي، لا خبر ولا أثر يشهد بأن في بيت النبي أو بيوت الصحابة أحمال أجمال من تلك الأدوات التي دوّن عليها القرآن! وهل كان في المدينة متسع من الوقت لمثل ذلك التدوين على تلك الأدوات؟ لا ننكر أنه في المدينة تم بعض التدوين على مثل تلك الأدوات البدائية، كما يرشح من الأخبار والآثار. لكن ذلك لا يعني تدوين القرآن كله، ولا جلّه.
فالنتيجة الحاسمة مزدوجة:
إن القرآن جُمع من صدور الناس، بعد تفرّقه سبعة أحرف، وعلى ألسنة العرب المختلفة. وبما أن القرآن نزل مفرّقاً، بين آية، وخمس، وعشر، قد لا يتجاوزها، فقد حمله القراء أيضاً مفرّقاً، ﴿حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم الى تخطئة بعض﴾. فلم يكن جمع الآيات في السور توقيفاً عن النبي؛ بل باجتهاد الجامعين. هذا هو الواقع التاريخي؛ والمراء فيه من المكابرة على الحقيقة والواقع.
ثانياً: الواقع القرآني
وواقع القرآن في المصحف العثماني الباقي الى اليوم ـ بعد النشرة الثانية للحجاج ـ يشهد بأن ترتيب الآيات في السور كان بتوفيق الصحابة واجتهادهم.
١) إن جمع سورة (براءَة)، وهي من آخر القرآن نزولاً، الى سورة (الأنفال) وهي الثانية نزولاً في المدينة، بدون فاصل البسملة يدل على أنهم اعتبروها سورة واحدة من السبع الطوال. ﴿أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان والحاكم ـ أي جامعو الحديث جميعهم ـ عن ابن عباس قال: قلتُ لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم الى (الأنفال) وهي من المثاني، والى (براءَة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿باسم الله الرحمان الرحيم﴾ ووصفتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله ﷺ تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان اذا أُنزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: صفوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت (براءَة) من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننتُ أنها منها، فقُبض رسول الله ﷺ ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ﴿باسم الله الرحمان الرحيم﴾. ووضعها في السبع الطوال﴾.
فاعتبار السورتين واحدة لأن ﴿قصتها شبيهة بقصتها﴾ دليل على أن ترتيب السورة كان باجتهاد الصحابة.
٢) المناقلة الظاهرة بين سورة (آل عمران) وسورة (المائدة)؛ بين حديث آل عمران في جدال الوفد المسيحي النجراني، وحديث جدال اليهود في (المائدة) دليل آخر. إن سورة (المائدة) نزلت بعد تصفية اليهود من المدينة ـ فلا جدال معهم بعد ـ وبعد خضوعهم المطلق في شمال الحجاز، وبعد فتح مكّة الأكبر والسيطرة عل الحجاز كله: فلا مجال لجدال اليهود في زمن نزول سورة المائدة. ثم إن جدال وفد نجران كان من عام الوفود سنة ٦٣١م، فلا مكان له في زمن نزول ما أسموه (آل عمران) من عام ٦٢٤م. لذلك فإن الآيات (٣٣ ـ ٦٤) من سورة آل عمران، وهي مقحمة اقحاماً ٣١ على جدال اليهود في السورة كلها، ليست من السورة، بل كان اقحامها على السورة باجتهاد الجامعين، لجمعهم في جدال النبي، كجمعهم في الفتح الإسلامي القائم على قدم وساق. ولذلك فإن الآيات (١٢ ـ ٨٩) من سورة المائدة في جدال اليهود والمنافقين وموالاتهم بعضهم لبعض، وهي مقحمة اقحاماً على جدال المسيحيّين في السورة، ليست من السورة ولا من زمانها. والحديث إن ذلك كان بأمر النبي وتوقيفه هو حديث غير مثبت. فتلك المناقلة المفضوحة برهان على أن جمع الآيات في السور كان باجتهاد الجامعين.
٣) ويشهد أن جمع الآيات في السورة كان باجتهادهم، ما نقلوه في ﴿معرفة أول ما نزل﴾ (الإتقان ٢٤:١). فهناك شبه اجماع على أنه مطلع سورة (العلق): ﴿إقرأ﴾ (١ ـ ٥). يقول الجلالان: ﴿وهي أول ما نزل من القرآن، وذلك بغار حرّاء ـ رواه البخاري). والقسم الثاني (العلق ٦ ـ ١٩) تنديد بردع عمه أبي جهل للنبي عن الصلاة، فقد نزل بعد سورة (المدثر): ﴿فبيّن أن سورة (المدثر) نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة ﴿إقرأ﴾ ﴿فإن أول ما نزل منها صدرها﴾.
فجمع قصة أبي جهل الى مطلع نزول القرآن في سورة واحدة كان باجتهاد الجامعين، كما يدل عليه أيضاً اختلاف الفاصلة.
٤) وكان القرآن يعتمد الفواصل المتقاربة في السورة الواحدة، كما يدل على ذلك أطول سورة فيها (البقرة). لذلك نستطيع أن نقرّر بأن اختلاف الفاصلة المتقاربة في السورة الواحدة دليل جمع المتفرّقات، الذي لم يكن بأمر النبي وتوقيفه لأنه يخل بنظم القرآن، والنظم أم الإِعجاز البياني فيه. ومثال صارخ على ذلك سورة (مريم) فإنها كلها على روي واحد. لكن يقطع قصة مريم وابنها على روي واحد متواتر، حديث مقحم من زمن آخر (مريم ٣٤ ـ ٣٩) بفاصلة مختلفة، وبموضوع مختلف. فجمع سورة مريم أو سواها كان باجتهاد الجامعين، كما يدل عليه اختلاف الفاصلة، وهي ركن في إِعجاز النظم. فالآيات التي تأتي بفاصلة مختلفة عن فاصلة السورة هي مقحمة على السورة، وسلكُها في السورة من الجامعين لا من الرسول.
٥) وبما أن النظم أم الإِعجاز في السورة والقرآن كله، فاختلاف النظم أيضاً في السورة الواحدة هو عنوان جمع المتفرقات في وحدة مختلفة. وهذا واقع ﴿المفصل﴾ كله تقريباً.
فالسورة التي تأتي بأقسام على فاصلة مختلفة، هي وحدة مصطنعة من اصطناع الجامعين، لا من أمر النبي وتوقيفه. خذ مثالاً على ذلك سورة (الغاشية)، وسورة (الانشقاق)، وسورة (الطارق)، وسورة (الفجر)، وسورة (البلد) .. الخ. ومثال واضح على الجمع المتفاوت في النظم، سورة (المزمّل)، فإنها تأتي بنظم واحد، وفاصلة متقاربة واحدة، وتشعر بختام السورة في قوله: ﴿إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً﴾ (١٩). ثم يأتونك بآية واحدة (٢٠) تكاد تكون على قدر السورة لطولها: فهذه الآية الطويلة تختلف نظماً وفاصلة وموضوعاً عن السورة كلها فهي ليست منها، بل من زمن آخر ألحقت فيها باجتهاد الجامعين. وهذا الاختلاف في الجمع ليس من الإِعجاز في تأليف السورة.
٦) ويشهد أيضاً أن جمع الآيات في السورة كان باجتهاد الجامعين، قولهم ﴿في أوائل مخصوصة﴾ (الإتقان ٢٧:١).
أول ما نزل في القتال. روى الحاكم في (المستدرك) عن ابن عباس قال: أول آية نزلت في القتال ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا﴾ ـ وهي في سورة (الحج)، فجعلتهم يختلفون هل السورة مكية أم مدنية لذكر القتال والحج فيها؛ وهي متبعّضة، بعضها مكي وبعضها مدني كما هو ظاهر. وجمعها اصطناعي من عمل الجامعين.
ثم اختلفوا في أول ما نزل في القتال بالمدينة. أخرج ابن جرير ـ الطبري ـ عن أبي العالية قال: أول آية نزلت في القتال بالمدينة ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم﴾. وفي (الاكليل) للحاكم: إن أول ما نزل في القتال ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم﴾. فتأمل: إن الأولى هي الآية (١٩٠) من البقرة، وفي (أسباب النّزول) للسيوطي، كما أخرج الواحدي عن ابن عباس، والطبري عن قتادة إنها نزلت في صلح الحديبية: فكيف تكون أول آية في القتال بالمدينة؟ وكيف يضعونها في سورة (البقرة)؟ والآية الثانية ﴿إن الله اشترى...﴾ هي الآية (١١١) من سورة التوبة، فكيف تكون أول آية في القتال، وكيف يضعونها في آخر سورة؟
ففي (أسباب النّزول) دلائل يؤيدها واقع القرآن على أن الآيات في السور جُمعت باجتهاد الجامعين.
وفي اختلافهم على أول آية نزلت من سورة (براءَة) برهان كاشف على أن سورة براءَة، مثل غيرها، كان جمعها باجتهاد الجامعين: عن مجاهد أول ما أنزل الله من سورة براءَة قوله ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾ (٢٥)؛ وعن أبي الضحى قال: أول ما نزل من براءَة ﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ ثم نزل أولها (في فتح مكّة) ثم نزل آخرها (في غزوة تبوك). وأخرج ابن أشته في كتاب (المصاحف) عن أبي مالك قال: كان أول براءَة ﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ سنوات، ثم أُنزلت براءَة أول السورة فألفت فيها أربعون آية. وأخرج أيضاً من طريق داود عن عامر في قوله ﴿انفروا خفافاً وثقالاً قال: وهي أول آية نزلت في (براءَة) في غزوة تبوك؛ فلما رجع من تبوك نزلت (براءَة) إلاّ ثمانياً وثلاثين آية من أولها﴾. فيستثني آية البراءَة (١) وآية الأذان يوم الحج الأكبر (٣). وهذا شاهد ماثل للعيان على أن ترتيب الآيات في سورة براءَة ليس على ترتيب النزول، وبين أقسامها ﴿سنوات﴾: فالنتيجة الحاسمة على أن ترتيب الآيات فيها، وتصديرها بآية براءَة أو قطع الآية بآية الأذان (٣)، ليس من ترتيب الرسول بل باجتهاد الجامعين.
وإذا كان هذا الأمر الواضح في آخر السور نزولاً، فكم بالحري في ما سبقها؟
٧) ويشهد أيضاً على اجتهادهم في جمع الآيات في السورة، وفي ترتيب الآيات في السورة، ما رووه ﴿في معرفة آخر ما نزل﴾ (الإتقان ٢٧:١)، مثل آية الربا ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا﴾ (البقرة ٢٧٨). فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله. وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا. وعند ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: ﴿إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا﴾ ـ فكيف جعلوها في سورة البقرة؟ لقد نزل أولاً تحريم الربا الذي جعل المرابين من ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة ٢٧٥). ثم استثنى من أصحاب النار المرابين الذين آمنوا وعملوا الصالحات (البقرة ٢٧٧). فالحقوا بهما آخر آية نزلت! وهذا دليل اجتهادهم في جمعه.
وهناك اجماع أشمل على أن آخر آية نزلت هي ﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله﴾ (البقرة ٢٨١)، ﴿وكان بين نزولها وبين موت النبي ﷺ أحد وثمانون يوماً﴾ أو ﴿وعاش النبي ﷺ بعد نزول هـذه الآية تسع ليال، ثم مـات ليلة الاثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول﴾. ويقولون: كأنه نعيت اليه نفسه. ونقول: إذا كانت آخر آية نزلت فما داعي الإِعجاز لوضعها في أول سورة نزلت بالمدينة؟ وما داعي الإِعجاز لوضعها بين آية الربا (٢٧٨) وبين آية الكاتب بالعدل (٢٨٢)؟ هذا الواقع القرآني المشهود شاهد عدل على أن تأليف الآيات في السورة كان باجتهاد الجامعين.
وهناك أيضاً روايات أخرى عن آيات أخرى كانت آخر ما نزل، وهي منثورة في السور، ممّا يشهد شهادة قاطعة بأن تأليفها في سورها من جمع الجامعين.
وهكذا فالواقع التاريخي، والواقع القرآني، يشهدان جميعاً بأن ترتيب الآيات في السور لم يكن كله من توقيف النبي عليه، بل كان أيضاً باجتهاد الجامعين. وبما أن ترتيب الآيات في السورة ناحية من إِعجازها البياني في التأليف، فهذا التأليف والجمع الذي تمّ باجتهاد الجامعين، فيه شبهة قائمة على الإِعجاز في التأليف.
بحث ثالث
ترتيب السور في المصحف العثماني
أوّلاً: الإجماع بأنه من الصحابة
جاء في (الإتقان ٦٣:١): ﴿وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي؛ أو هو باجتهاد من الصحابة؟ ـ فيه خلاف! فجمهور العلماء على الثاني.
﴿ولذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور: فمنهم من رتبها على النزول؛ وهو مصحف علي... وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد؛ وكذا مصحف أُبي وغيره﴾.
ومَن قال منهم بأن ترتيب السور توقيفي عن النبي قال: ﴿فمن قدَّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن﴾.
والبرهان المزدوج الذي أعطاه السيوطي هو القول الحق في أن ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة: فجمهور العلماء عليه، واختلاف مصاحف السلف قبل الجمع العثماني شاهد عليه.
وكان اختيار الصحابة لترتيب السور على مبدأ التنسيق في الطول: الطوال، فالمئين (لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها)، فالمثاني (ما ولى المئين لأنها ثَنَتْها)، فالمفصَّل (سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة). ﴿للمفصل طوال وأوساط وقصار. قال ابن معن: فطواله الى (عم)؛ وأوساطه منها الى (الضحى)؛ ومنها الى آخر القرآن قصاره﴾.
وربما اختاروا في ترتيب السور مبدأ التنسيق في الطول لأن السبع الطوال فيها التشريع والجهاد وجدال أهل الكتاب أي جوهر القرآن ومحوره؛ وربما لتحدّي العرب في المعلّقات السبع بالسور السبع.
ثانياً: شهادة التاريخ والواقع القرآني
وهكذا فاعتبار تنسيق القرآن الحالي، حيث ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، توقيفاً على النبي وبأمره، ينقضه التاريخ والواقع القرآني.
فالتاريخ يشهد بأن القرآن لم يكن مجموعاً ولا مكتوباً كله على عهد النبي، كما في حديث زيد: ﴿قُبض النبي ﷺ ولم يكن القرآن جُمع في شيء﴾. ولو جرت محاولة من النبي في آخر أمره، كما يشهد زيد أيضاً، على شرط الشيخين: ﴿كنّا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع﴾. فلو كان مجموعاً، لما احتاجوا الى جمع من بعده؛ ولا تفرّق الى سبعة أحرف؛ ولا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبه؛ ولا قال زيد قوله المشهور: ﴿فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان عليَّ أثقل ممّا أمراني به من جمع القرآن﴾.
والسبب الذي يعطيه الخطابي مذهل: ﴿إنما لم يجمع ﷺ القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته. فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك﴾. ٣٢ فلم يدوّن القرآن على حياة النبي لأنه كان يترقب رفع تلاوة بعضه، ونسخ أحكام بعضه.
والواقع القرآني يشهد بأن أكثر سوره جمع متفرّقات موضوعاً وزمناً. فالسور المتبعّضة، التي بعضها مكي وبعضها مدني، لا يعقل أن يكون جمعها على هذه الحال بتوقيف عن النبي. وسور العهد المكي الثالث، التي يختلف العلماء على ترتيبها بحسب النزول في العهد المكي الأول أم العهد المكي الثالث، إنما هي تجمع قسمين من العهدين، يدل عليهما اختلاف الأسلوب ما بين العهد الأول والعهد الثالث، وأحيانا اختلاف الموضوع. والسور التي يختلفون فيها، أهي مكية أم مدنية (الإتقان ١٢:١ ـ ١٤) شاهد آخر على أن جمع السور في القرآن كان باجتهاد الصحابة. والسور المكية التي فيها آيات مدنية (الإتقان ١٥:١ ـ ١٧) شاهد خاص على أن جمع الآيات في السور، وجمع السور في القرآن كانا كلاهما بتوفيق الصحابة.
ثالثاً: النتائج الحاسمة لهذا الواقع القرآني في المصحف العثماني
١ ـ إن ترتيب القرآن على مبدأ التنسيق في الطول أضاع علينا الترتيب التاريخي بحسب النزول. وهم ربما عمدوا الى التنسيق بدل التاريخ لاستحالة جمعه بحسب نزوله. قال محمد بن سرين لعكرمة: ﴿ألّفوه كما أنزل الأول فالأول. قال: لو اجتمعت الانس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا﴾ ٣٣ ومما لا ريب فيه أن الإِعجاز الحق في تأليف القرآن أن يكون بحسب تاريخ نزوله. فلمّا ضاع علينا هذا الترتيب الزمني، ضاعت ناحية من الإِعجاز في تأليف القرآن.
٢ ـ إن ترتيب القرآن الحالي، على التنسيق بحسب الطول، مزج سور القرآن مزجاً، فخلط بين أزمانها ومواضيعها. والمبدأ المتواتر عندهم أنه ﴿مَن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن﴾. فكما يصح أن يقوله أهل التنسيق، يصح أيضاً أن يقوله أهل الترتيب التاريخي. وبما أن الترتيب التنسيقي موضوع نظر؛ وبما أن الترتيب التاريخي مستحيل؛ فعلى كلا الحالين ضاع الإِعجاز الحق في تأليف القرآن ﴿كما أنزل، الأول فالأول﴾.
٣ ـ وأخيراً بما أن ترتيب السور في القرآن توفيقي من الصحابة ـ والترتيب المنزل في سوره ناحية من إِعجازه ـ فهل من إِعجاز في التأليف، في ترتيب المصحف الأميري الشريف؟
بحث رابع
في مناسبة الآيات والسور (الإتقان ٢: ١٠٨)
أوّلاً: ﴿علم المناسبة﴾
من الإِعجاز في التأليف المناسبة ما بين الآيات في السورة، والمناسبة ما بين السور بعضها مع بعض. وقد قام في التفسير ﴿علم المناسبة﴾ الذي عمل به فخر الدين في تفسيره الكبير حيث يقول: ﴿أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط﴾. وأول من أظهر علم المناسبة الشيخ أبو بكر النيسابوري الذي كان يسأل في تدريسه: ﴿لِمَ جُعلت هذه الآية الى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة؟﴾.
ويفسر السيوطي أركان علم المناسبة فيقول: ﴿المناسبة، في اللغة، المشاكلة والمقاربة. ومرجعها في الآيات ونحوها الى معنى رابط بينها عام أو خاص، عقلي أو حسّي، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبَّب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه ـ وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير حاله حال البناء المتلائم الأجزاء.
﴿فنقولُ ذكرُ الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلّق الكلم بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى، فواضح؛ كذلك اذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل ـ وهذا القسم لا كلام فيه.
﴿وإمّا أن لا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به. فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشتركة في الحكم ـ أوْ لا. فإن كانت معطوفة فلا بدّ أن يكون بينها جهة جامعة... وإن لم تكون معطوفة فلا بدّ من دعامة تؤذن باتصال الكلام: وهي قرائن معنوية تؤذن بالرَبْط﴾.
من هذه القرائن المعنوية أولاً التنظير فإن الحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء. الثاني المضادّة، كما قيل: وبضدّها تتبيّن الأشياء. الثالث الاستطراد؛ ويقرب منه حسن التخلص حتى لا يكادان يفترقان... وقال بعضهم الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلّص تركت ما كنت فيه الكلّية وأقبلت على ما تخلصت اليه؛ وفي الاستطراد تقصده وانما عرض عروضاً ثم ترجع الى ما كنت فيه. ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث الى آخر تنشيطاً للسامع مفصولاً بهذا؛ قال ابن الأثير فيه: ﴿هذا (الانتقال) في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل﴾. ويقرب منه أيضاً حسن المطلب، وهو الخروج الى الغرض بعد تقدم الوسيلة من المقدّمات ومراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين أجزاء القرآن.
ثانياً: علم المناسبة ينقضه تاريخ التنزيل وتاريخ الجمع
ذلك هو علم المناسبة وأحكامه في عرفهم. لكن فاتهم في نظم القرآن أمران يجعلان المناسبات بين الآيات صنعةً وتصنّعاً.
الأمر الأول طريقة النظم عند العرب، وهي تختلف عن العجم ـ وأهل علم المناسبة من الأعاجم الذين يريدون تطبيق أسلوبهم على أسلوب القرآن ـ قال أحدهم: ﴿إن القرآن، إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال الى غير ملائم﴾. فهو يجمع الموضوعات الشتى جمعاً فنّياً لا موضوعياً، كما في الشعر الجاهلي.
الأمر الثاني طريقة نظم القرآن. نقل السيوطي (الإتقان ١٠٨:٢) مقالة الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ﴿المناسبة علم حسن. لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره. فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط. ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلاّ بربط ركيك يُصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه. فإن القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شُرعت لأسباب مختلفة. وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض﴾.
وبما أن ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، فإن استنباط مناسبات لربط سورة بسورة، كما هي في المصحف العثماني، من التصنّع الذي يأباه منطق التاريخ والبيان.
وبما أن السورة، كالقرآن كله، نزلت نجوماً أي مفرّقة ﴿في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة﴾، فمن التصنّع والتكلّف ربط أجزائها بعضها ببعض. فالاجماع المتواتر أن الآيات نزلت آية بآية، أو اثنتين اثنتين، أو أكثر حتى الخمس أو العشر، وقد لا يتجاوزها. وعن ابن عباس القول المشهور: ﴿نزل بجواب كلام العباد وأعمالهم﴾؛ وفسره بقوله: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً؛ وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث، ونزّلناه تنزيلاً﴾. قال السيوطي (الإتقان ٤٤:١) ﴿الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات، وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملةً، وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة﴾. وأن (أسباب النّزول) المختلفة تشهد باختلاف مناسبات الآيات في السورة.
والسورة المجموعة من آيات نزلت متفرقة بحسب الحاجة، بجواب كلام العباد وأعمالهم، لا تشكّل وحدة موضوعية، وإن جمعت بينها وحدة فنّية بالنظم والفاصلة.
فالوحدة الموضوعية مفقودة في السورة القرآنية، كما في معلقات الشعر الجاهلي. والوحدة الموضوعية المفقودة هي أم الإِعجاز في التأليف.
بحث خامس
من الإقحامات النافرة في الآيات والكلمات
نجد في بعض الآيات أجزاء منها ليست منها في شيء، وهي تتنافر معها موضوعاً ومناسبةً، ولا تدري ما الحكمة في اقحامها في غير موضعها.
١ ـ من ذلك قوله: ﴿واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى﴾، في قصة إبراهيم واسماعيل والبيت العتيق: ﴿واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ـ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ـ وعهدنا الى إبراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكَّع والسجود﴾ (البقرة ١٢٥) ومن المعروف في (أسباب النّزول) أنها نزلت كما قال بها عمر بن الخطاب: فما دخلُها في قصة أمر الله لإبراهيم ببناء الكعبة؟
٢ ـ ومن ذلك قوله: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ في صفات المؤمنين: ﴿وما عند الله خير وأبقى، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أو الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ـ وأمرهم شورى بينهم ـ وممّا رزقناهم ينفقون﴾ (الشورى ٣٦ ـ ٣٨). فما معنى اقحام نظام الشورى في الحكم الإسلامي بصفات المؤمنين التي يقوم عليها المصير ما بين الجنة والنار؟ فهل نظام الشورى من ضرورة صفات المؤمنين؟ والمسلمون الذي عاشوا بدون نظام الشورى في الحكم، فهل يكفَّرون باسم الشورى، وهل سقطت عنهم صفة من صفات المسلمين الضرورية لصحة الإيمان والإسلام؟ إن مقالة الشورى دخيلة من وحي آخر على الآية وتتنافر معها موضوعاً ومعنى.
٣ ـ ومن ذلك قوله: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ وهو من حجة الوداع عام ٦٣١ م، في آية تشريع الحرام في الأنعام وهو من حجة القضاء عام ٦٢٩ م: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به... وما ذُبح على النُصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلك فسق ـ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون! اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ـ فمن اضطر في مَخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم﴾ (المائدة ٣). فالإقحام النافر ظاهر لا يحتاج الى بيان. وهذا الاقحام أفسد المعنى مرتين: أولاً لأنه يُشتبه بأن كمال الدين والإسلام في هذه التحريمات. ثانياً لأنه يُشتبه بأن من اضطر الى المروق من الإسلام، فإن الله غفور رحيم.
٤ ـ ومن ذلك اقحامهم ﴿الأذان﴾ في البراءَة من المشركين، ﴿إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين﴾ (براءَة ٣ ـ ٤)، في ﴿براءَة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أَنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (١ ـ ٢) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ (٥). إن الأذان بمنى يوم الحج الأكبر يستثني من البراءَة المعاهدين من المشركين؛ أمّا البراءَة الكبرى من المشركين فهي مطلقة، وتنص على البراءَة ﴿إلى الذين عاهدتم من المشركين﴾. فاقحام الأذان في البراءَة يفسد التأليف موضوعاً وتشريعاً.
٥ ـ وهناك اقحام كلمة ﴿النصارى﴾ على اليهود في آيات إقحاماً تنقضه القرائن القريبة والبعيدة. منها آية تحريم الموالاة: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء! بعضهم أولياء بعض﴾ (المائدة ٥١). وفي السورة عينها يجمع اليهود والمشركين في أشد العداوة للمسلمين، ويجمع النصارى والمسلمين على أقرب مودة (المائدة ٨٢). فالتناقض بين الآيتين مكشوف، لأنهم استبدلوا في الآية (٥١) كلمة المشركين بكلمة ﴿النصارى﴾. والقرآن والسيرة وتاريخ الجزيرة تشهد بأن اليهود والنصارى لم يكونوا على الإطلاق ﴿بعضهم أولياء بعض﴾، فالاقحام والاستبدال ظاهر مفضوح.
وفي رده على محاولة اليهود من أهل الكتاب ردّ المسلمين عن إيمانهم (البقرة ١٠٩ ـ ١١٣) بادعائهم، ﴿وقالوا: لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا هوداً ـ أو نصارى ـ تلك أمانيهم! قل: هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين﴾ (البقرة ١١١)، فقد أقحموا ﴿أو نصارى﴾، والاقحام ظاهر: فإن الخطاب لليهود وحدهم (١٠٩ ـ ١١٣)؛ واليهود وحدهم يتآمرون في المدينة على الإسلام؛ ويستحيل أن يقول اليهود: لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا نصارى! ويرد القرآن عليهم: ﴿بلى مَن أسلم وجهه لله، وهو محسن، أفله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (البقرة ١١٢). فهو يقسم أهل الكتاب الى محسنين وظالمين؛ فالظالمون هم اليهود الذين يصح جدالهم بالسيف، أما النصارى المحسنون فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى (العنكبوت ٤٦). فالنصارى هم المقصودون باصطلاحه: ﴿مَن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾. فهذه الآية (البقرة ١١٢) تنقض أيضاً اقحام ﴿أو نصارى﴾ في الآية السابقة (١١١).
٧ ـ وفي جدال اليهود على الهدى، أهو في اليهودية أم في ملـّة إبراهيم، أقحمـوا ﴿أو نصارى﴾ في قولهم: ﴿وقالوا: كونوا هوداً ـ أو نصارى ـ تهتدوا! قلْ: بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾ (البقرة ١٣٥). فالجدال قائم مع اليهود وحدهم، ولا خطاب فيه للنصارى، فلِمَ اقحامهم؟ ويستحيل أن يقول اليهود: كونوا نصارى تهتدوا! إنما يشتقون الهدى من اسمهم ﴿وقالوا: كونوا هوداً تهتدوا﴾ فالجناس والمعنى برهانان على اقحام ﴿أو نصارى﴾. وتأتي الآية التالية (١٣٦) بإعلان الإيمان ﴿بما أوتي موسى وعيسى﴾، وبالإسلام القائم عليه ﴿لا نفرق بين أحد منهم ونحن لهم مسلمون﴾. فاليهود كانوا يفرّقون، والنصارى يجمعون فهم من أهل الإيمان على ملّة إبراهيم. فالقرائن كلها شواهد على الاقحام المفضوح.
٨ ـ وفي الجدال ذاته مع اليهود، يستشهدون، ﴿أم تقولون: إن إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا ـ أو نصارى ـ قلْ: أأنتم أعلم أم الله؟ ومَن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؟﴾ (البقرة ١٤٠). إن اليهود يدعون أن الآباء والأسباط كانوا هودا فالهدى في اتباعهم على يهوديتهم. ولا اليهود يقولون بأنهم كانوا نصارى؛ ولا النصارى يقولون بأنهم كانوا نصارى؛ ولا القرآن يقول بأنهم كانوا نصارى. إنما هي دعوى اليهود وحدهم للشهادة على أن هداهم هو هدى اليهود، لا هدى سواه. فيستشهد القرآن بالتوراة التي تذكرهم قبل الموسوية التي هي دين اليهود. فإقحام ﴿أو نصارى﴾ ظاهر مفضوح.
ففي سورة البقرة ليس من جدال بين القرآن والنصارى، إنما الجدال المتواصل هو بين القرآن واليهود، فإقحام النصارى في هذا الجدال دخيل عليه تنقضه كل قرائن السورة، ونص الآيات التي ورد فيها.
وهكذا نجد في تأليف الآيات اقحام بعضٍ من أجزاء الآية، أو كلمة ﴿النصارى﴾ في بعض الآيات، ممّا يجعل نص الآية يتنافر معنى وموضوعاً ونظماً، كما فسد الجناس في قولهم ﴿كونوا هودا تهتدوا﴾ باقحام ﴿أو نصارى﴾.
فهل هذه الاقحامات من الإِعجاز في التأليف؟
بحث سادس
ما بين الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية في السورة
ليس لدينا من آثار يمكن المقارنة معها سوى الشعر الجاهلي، في أروع مظاهره، المعلّقات: ﴿إن الأدب الجاهلي ـ وخاصة الشعر ـ هو المنظور إليه في معرض التحدّي؛ وهو الذي يقع الإِعجاز عليه، اذ كان هذا الأدب، وهذا الشعر، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فن القول، في مجال العمل الانساني، في استصحاب الكلمة والتعامل بها﴾ ٣٤ .
ويشهد الواقع أن القصيدة المعلّقة من الشعر الجاهلي وحدة فنية بنظمها وقافيتها ـ لا وحدة موضوعية: فهي مجموعة متفرّقات. وعلى طريقة نظمهم جاءَ نظم السورة في القرآن: فقد تجمعها وحدة فنية في النظم والفاصلة، مثل سورة البقرة؛ ولكن لا تجمعها الوحدة الموضوعية، أو ﴿الوحدة العضوية﴾ كما يقول العقاد. فالسورة القرآنية ـ مع ما فيها من إِعجاز في النظم والتأليف ـ هي مجموعة متفرقات، يشوبها التفكك في وحدة الموضوع، وهذه أم الإِعجاز في التأليف. وقد يأتي الاختلاف في الفاصلة، محط النظم وقاعدته، فيظهر التفكك حينئذ نظماً وموضوعاً: فنفقد الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية جميعاً.
أولاً: مثال من السور الأولى
خذ مثلاً السورة الأولى، (العلق)؛ فهي تذكر أولاً أمر الوحي للنبي بالقراءة والتعلّم بالقلم، على فاصلة أو فاصلتين (١ ـ ٥). ثم تذكر (٦ ـ ١٩) حادثة أخرى، وقعت بعد زمن، وفي غير موضع، وفي غير موضوع، وبغير فاصلة في النظم: نهي عمه أبي جهل له عن الصلاة. فمن السهل خلق القرائن المعنوية واللفظية لتعليل المناسبة في الجمع بين القسمين. ولكن هذه الوحدة لا تستقيم في سورة (العلق)؛ لا زماناً، ولا مكاناً، ولا موضوعاً، ولا نظماً.
والسورة الثالثة (المزمّل) في قسمها الأول وحدة فنية ينقضها القسم الأخير (٢٠). وفي الوحدة الفنية تختلف المواضيع: فهو يذكر دعوة محمد الى قيام الليل وترتيل القرآن (١ ـ ٩) ثم دعوته الى الصبر على ما يقولون؛ ونعرف أن الدعوة كانت سرية بين أفراد قلائل لم تظهر بعد حتى يتصدّى لها المكذبون أولو النعمة (١٠ ـ ١٣). فإن شفع النظم والروي للوحدة الفنية، فلن يشفع للوحدة الموضوعية التي تختلف موضوعاً وزماناً ومكاناً.
والسورة الرابعة (المدثر)، مجموعة متفرقات يدل عليها تنوّع الموضوعات، وتنوّع الفاصلة، وخرق وحدة النظم في الآية الحادية والثلاثين التفسيرية الدخيلة على السورة من وحي آخر.
هذا مطلع التأليف في النظم القرآني، والكتاب يُعرف من عنوانه.
ثانياً: مثال التأليف في سورة (البقرة)
ننتقل الى سورة (البقرة)، وهي ﴿فسطاط القرآن﴾، و﴿سنام القرآن﴾. و﴿قال الإمام الرازي في سورة البقرة: مَن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك﴾ ٣٥ .
ولبيان ذلك جعلوا من حسن المناسبة: الاستطراد ثم التخلص ثم الانتقال. وهذه الفنون التي استنبطوها للمناسبة البيانية إنما هي تقطع الموضوع، وتجعل السورة مجموعة متفرّقات، تدل عليها أسباب النّزول. فهي تجمع آخر ما نزل بالمدينة الى أول ما نزل فيها؛ وتجمع أحكاماً مختلفة من أزمنة مختلفة بالمدينة؛ ولو جمعت بينها الوحدة الفنية من نظم وفاصلة. فهو مثلاً يقطع براهين التوحيد (٢٢ ـ ٢٩) ببيان على مواقفهم المختلفة من الدعوة (٢٣ ـ ٢٧). وهو يقطع خطابات اليهود الثمانية (٤٠ ـ ١٦٨) بخطاب أول مقحم للمسلمين في تحذيرهم من مناورات اليهود (٧٥ ـ ٨١) وبخطاب ثان مقحم في تحذيرهم من دس اليهود والمنافقين على النسخ في القرآن (١٠٥ ـ ١١٠)؛ ثم بمجموعة متفرقات (١١١ ـ ١٢١) من مناظرة النصارى في عام الوفود (١١١ ـ ١١٣). وظلم الذين يصدون عن الحج، نزلت لمّا صدوا النبي عام الحديبية عن مكّة (١١٤ ـ ١١٥) مع ردّ على نسبة الولد الى الله (١١٧ ـ ١١٨)، ويختم القسم الأول منها، الدعوة للتوحيد، بمجموعة متفرقات أخرى: في قتلى بدر (١٥٣ ـ ١٥٧) وفي السماح بالطواف بالصفا والمروة (١٥٨).
والقسم الثاني من (البقرة) تشريع مجموع من أزمنة مختلفة (١٨٨ ـ ٢٤٢): يقطعه بعد مطلعه بجملتين على اليهود (١٧٤ ـ ١٧٧)؛ ويقحم فيه تشريع القتال ليوم الحديبية (١٩٠ ـ ١٩٥)؛ ويجمعون فيه شرعة الحج الأولى من عام الحديبية (١٩٦) الى شرعة الحج النهائية من بعد فتح مكّة (١٩٧ ـ ٢٠٣). ويقطع التشريع بقصة المنافق الأخنس بن شريف (٢٠٤ ـ ٢٠٦) وقصة صهيب المؤمن المضطهد المهاجر (٢٠٧) وقصة النفر السبعة من اليهود الذين تردّدوا في اسلامهم مع ابن سلام اليهودي (٢٠٨ ـ ٢١٣). وتتبع مجموعة فتاوى مختلفة (٢١٥ ـ ٢٢٥) قبل تفصيل احكام الطلاق (٢٢٦ ـ ٢٤٢).
ويأتي القسم الثالث في التحريض على الجهاد (٢٤٣ ـ ٢٧٤)، يقطعه بسورة مستقلة في توحيد الحي القيوم (٢٥٥ ـ ٢٦٠). والحقوا بالسورة ﴿آخر ما نزل من القرآن﴾: آية الربا (٢٧٥) مع ملاحقها، ثم آية الدّيْن عند كاتب بالعدل (٢٨٢)، وفصلوا بينهما بالآية التي فيها نُعيت نفس محمد اليه ومات بعدها (٢٨١). فما وجه الإِعجاز في الجمع بين هذه الخواتيم الثلاث؟
ويختمون السورة بآية المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) ثم بالآية الناسخة لها (٢٨٦). فقد نفهم الجمع بين المنسوخ والناسخ؛ لكن ما وجه الإِعجاز بختم التحريض على الجهاد بهذه الآيات؟
ثالثاً: مثال التأليف في سورة (المائدة)
وسورة (المائدة) ـ وهي من أواخر القرآن نزولاً ـ مثال قائم على التفكّك في التأليف، مهما استنبطوا له من استطراد وتخلص وانتقال، في فنون المناسبة، للحفاظ على الوحدة الموضوعية في التأليف.
إن وحدة السورة القرآنية، كوحدة القصيدة الجاهلية، تقوم قبل الموضوع على وحدة النظم والروي. وهذا واقع قرآني متواتر. لذلك فاختلاف النظم والروي دليل على الجمع المتنافر نظماً، علاوة على اختلاف الموضوع.
تستفتح السورة بآية العقود (١) وهي فاتحة فصل في الوفاء لعهد الحديبية (٧ ـ ١١). لكنهم أقحموا بين الفاتحة (١) والفصل (٧ ـ ١١) بمجموعة تشريعات من زمن عمرة القضاء سنة ٦٢٩م (٢ ـ ١٠). وفي آية تحليل الأنعام (١) ـ والمقصود الإبل خاصة، وكان أهل الكتاب اليهود يحرمونها ـ إشارة الى ما حُرّم منها: ﴿إلاّ ما يتلى عليكم﴾؛ والاشارة الى الماضي، بينما آية التحريم تأتي بعد (٣). وفي آية التحريم هذه، من زمن عمرة القضاء، أقحموا ﴿ما نزل يوم عرفة، عام حجة الوداع﴾ (الجلالان)، وهي قوله: ﴿اليوم يئس... اليوم أكملت لكم دينكم﴾، وهي عامة، فجعلها الاقحام مخصوصة بآية التحريم (٣) كأن كمال الدين والإسلام فيها! فأضر إقحامها بالنظم والشرع.
وأقحموا على السورة فصلاً في جدال اليهود، من زمن آل عمران (المائدة ١٢ ـ ٨٦). وفي هذا الاقحام العام أقحموا شذرات من جدال وفد نجران: نسي هؤلاء النصارى حظا ممّا ذكروا به (١٤)؛ تكفيرهم لقولهم بتأليه المسيح (١٧)؛ تكفيرهم لتأليه المسيح والقول بالثلاثة (٧٢ ـ ٧٧). وهذا الخلط بين جدال اليهود وجدال النصارى كان من تأثير السياسة، في الفتوحات الإسلامية على جمع القرآن، لجمع اليهود والمسيحيين في حملة اسلامية واحدة. فأوقعهم ذلك في تعارض مكشوف بين الآية (٨٢) التي تجعل ﴿أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾، وتجعل ﴿أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾ ـ وبين الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أوليـاء بعض﴾ (٥١). والتاريخ والسيرة والقرآن شهود بأن اليهـود والنصارى لم يكونـوا ﴿بعضهم أولياء بعض﴾. فما بين الآيتين تناقض مفضوح، لأنهـم أنزلوا ﴿والنصارى﴾ بدل ﴿والمشركين﴾ في الآية (٥١) كما تنص الآية (٨٢).
وفي فصل التشريعات الأخيرة من بعد فتح مكّة (٨٧ ـ ١٠٨) أقحموا أيضاً شذرات من جدال وفد نجران المسيحي عام ٦٣١ م؛ في تكفير الغلو بتأليه المسيح والقول بالثلاثة (٧٢ ـ ٧٧). وكان أولى لهم جمع جدال وفد نجران في فصل واحد (١٣ و١٧ و٧٢ و٧٧ و١٠٩ و١٢٠) بدل اقحامه في جدال اليهود ـ وهو في غير موضعه ـ وفي قسم التشريع من بعد فتح مكّة. وكان أولى لهم لصحة التاريخ ولصحة التأليف وضع جدال اليهود في موضعه من آل عمران، ووضع جدال وفد نجران (آل عمران ٣٣ ـ ٦٤) في موضعه من سورة المائدة، بدل توزيعه على آل عمران والنساء والمائدة ضد الحقيقة وضد التاريخ، مما يجعل تنافراً ظاهراً في وحدة السور.
فسور البقرة وآل عمران والمائدة هي أمهات القرآن؛ وظاهرة التنافر في الجمع والتأليف بادية عليها موضوعاً وتاريخاً وأسلوباً. وذلك لأنهم جمعوا هذه السور على غير نزولها.
وهكذا نرى أن ما أسموه بالإِعجاز في التأليف استطراداً وتخلّصاً وانتقالاً، إنما هو تفكّك وتداخل وجمع متفرقات لا يجمع بينها الموضوع ولا الزمان ولا المكان؛ وإن جمعت بينها وحدة فنية في النظم والفاصلة. وقد لحظ الأقدمون تلك الظاهرة في القرآن. فنقلها الخطابيّ في (بيان إِعجاز القرآن) محاولاً الرد عليهم: ﴿وأما قولهم: لو كان نزول القرآن على سبيل التفصيل والتقسيم، فيكون لكل نوع من أنواع علومه حيّز وقبيل، لكان أحسن نظماً وأكثر فائدة ونفعاً. فالجواب: إنما نزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة، وفي الآي المجموعة القليلة العدد، لتكون أكثر لفائدته وأعم لنفعه، ولو كان لكل باب منه قبيل، ولكل معنى سورة مفردة، لم تكثر فائدته... ولكان الواحد من الكفّار والمعاندين المنكرين، اذا سمع السورة منه، لا تقوم عليه الحجة به إلاّ في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط. فكان اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظاً وأجدى نفعاً من التمييز والتفريد﴾ ٣٦ .
والرد على الخطابي بعد طول الزمن نأخذهُ منه: إن اقامة الحجة بإِعجاز القرآن في نوع واحد يُغني بمعجزته عن سائر الأنواع، من حيث البيان والتبيين. وكان غيره أصدق نظراً في وصف ذلك النظم المتفرّق بأنه طريقة العرب في تأليفها، كما يظهر من الشعر الجاهلي في نظم القصيدة منه.
خاتمة
الاختلاف الواقع في الجمع والنظم والموضوع
وهكذا قلّما تجتمع الوحدة الفنية بالنظم والفاصلة مع الوحدة الموضوعية وهذا قانون الإِعجاز في التأليف. وكثيراً ما يكون الاختلاف في النظم والفاصلة دليلاً على الاختلاف في الموضوع. وإن قامت في السورة وحدة فنّية، فلا تقوم فيها وحدة موضوعية، بل تستر وحدة الظاهر مجموعة متفرقات في الباطن. وما حاولوا استنباطه من مناسبات بين الآيات في السورة، وبين السور في القرآن، تنقضها (أسباب النّزول) وواقع التنزيل، ﴿فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شُرعت لأسباب مختلفة. وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض ٣٧ في وحدة التأليف. والاختلاف قائم في جمع الآيات والسور، والنظم والموضوع.
ففي هذا الواقع القرآني ـ تنزيلاً وجمعاً ـ هل من إِعجاز في التأليف؟
١. راجع بحثاً سابقاً في الموضوع، من ناحية أخرى
٢. السيوطي: الإتقان ١: ٤٤.
٣. تفسير الطبري: اخراج الأخوين شاكر، ج ١.
٤. في كتابه: الناسخ والمنسوخ.
٥. في كتابه: عن القرآن ص ١٠١ الذي ينقل عن: الأدب الجاهلي ص ٢٩.
٦. الإتقان ١: ٢١.
٧. قابل السيوطي أيضاً: أسباب النّزول على (الأنعام ٩٣).
٨. عن دروزة: القرآن الكريم، ص ٥٩.
٩. الإتقان: ١: ٤١ ـ في آخر الصفحة.
١٠. القرآن المجيد، ص ٩٠
١١. هل كان الصحابة أنبياء مثل محمد حتى يكونوا معصومين؟!
١٢. السيوطي: الإتقان ٢: ٢٥
١٣. البرهان في علوم القرآن، ج ٢، ص ٤٤.
١٤. الإتقان ١: ٢٥ ـ ٢٧.
١٥. الإتقان ١: ٢٤
١٦. الإتقان ١: ٢٤
١٧. السيوطي: الإتقان ٢٥:٢. 17>
١٨. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٤٣٧:١.
١٩. السيوطي: الإتقان ٢٧:١.
٢٠. السيوطي: الإتقان ٢٢:١.
٢١. إِعجاز القرآن ١: ٤٥٤ ـ ٤٥٥.
٢٢. إعجاز القرآن ١: ٤٣٥ ـ ٤٧٢.
٢٣. الزركشي: البرهان ٤٤:٢.
٢٤. الإتقان ٤٠:١.
٢٥. الإتقان ٤٣:١.
٢٦. الإتقان ٢١:١ ـ ٢٢.
٢٧. أنّ؛ هناك قراءَة أخرى على الاستئناف: ﴿إنّ﴾، لكنها لا تغيّر المعنى لأن الإسلام هو الشهادة ﴿أنْ لا إله إلاّ هو﴾.
٢٨. السيوطي: الاتقان ٤٦:١ ـ ٤٨.
٢٩. الطبري: تفسير القرآن ـ نشر الأخوين شاكر ٥٩:١؛ ٦٢:١؛ ٦٦:١.
٣٠. يظنون أن سورة الأنعام نزلت جملة. وواقعها يشهد أنها متبعّضة، بعضها من مكّة وفي أدوارها، وبعضها من المدينة، فلم تنزل جملة.
٣١. إن تعبير ﴿اقحام﴾ المتواتر في لغتنا لا يعني عدم الصحة، بل يقصد اقحام تنزيل في تنزيل من زمن آخر.
٣٢. الإتقان ٥٨:١.
٣٣. الإتقان ٥٩:١.
٣٤. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن: ١١٨:١.
٣٥. الإتقان ١٠٨:٢.
٣٦. ثلاث رسائل في إِعجاز القرآن ص ٤٩.
٣٧. الإتقان ١٠٨:٢.