November 2013

الخطاب ٣

امتلاء النعمة

"يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قَائِلاً: «هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي». وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٥- ١٨).

هذه الآيات الأربع ستكون كافية وافية، على ما أعتقد، في تأملنا هنا؛ إنها آيات غنية وحافلة للغاية. نلاحظ أولاً شهادة يوحنا المعمدان، في اللحظة التي كنا ننظر فيها إلى صباح "يوم الرب" الأخير. فنسمع السابق العظيم للمسيا يصرّح قائلاً: "«هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي»". لقد جاء يوحنا كي يعمّد بماء، ولكنه قال: "فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (الآيات ٢٦، ٢٧). وفي موضع آخر نقرأ أنه سيعمّد بالروح القدس والنار.

تذكروا أن يوحنا كان يتحدث إلى مجموعة مختلفة متنوعة من الناس في ذلك الوقت، وكان من بين ذلك الحشد الكبير أناسٌ كان عليهم أن يعتمدوا بالروح القدس، وأما أولئك الذين رفضوا الرسالة فسوف يستحقون معمودية النار. الأولى هي بالنعمة بكل امتلائها- والثانية هي الدينونة. "الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ" (متى ٣: ١٢). إن حسمية الدينونة في بحيرة النار تُعلنُ عند العرش الأبيض العظيم، ولكن من سيجلس على العرش الأبيض العظيم هو نفسه ذاك الشخص الرائع العجيب الذي عُلّقَ على صليب الجلجثة ومات عن خطايانا. ولا ننسَ أنه أوصى: "لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ" (يوحنا ٥: ٢٣).

لعله يمكنني أن أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات أنه إن كنتم خارج المسيح الآن، إن كنتم تحيون وتموتون خارج المسيح، فإن المسيح سيقيمكم إلى قيامة الأشرار، كنفوس ليس فيها إيمان بالمسيح أمام العرش الأبيض العظيم، وهناك ستواجهون ذاك الذي مات يوماً ليخلصكم، والذي كان ليخلصكم لو كنتم قد آمنتم به، والذي يتوق لكي يخلصكم، والذي أرسلَ الروحَ القدسَ ليناشدَكم ويحثّكم على أن تسلّموا له حياتكم وأن تعرفوا نعمته؛ ولكن في ذلك اليوم سيكون قد فات الأوان لتعرفوه كمخلص. ومعموديتكم ستكون معمودية النار الرهيبة. الحمد لله، فليس هناك من داعٍ إلى ذلك. لقد جاء بالنعمة لكي يخلّصكم، وهو يريد أن يخلّصكم.

يشير يوحنا بوضوح إلى يسوع ويقول: "«هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي»". يُسرُّ يوحنا بتقديم الإكرام، كمثل أي خادم حقيقي للمسيح، للرب يسوع نفسه. إنه يتراجع من الصورة إلى الخلف لكي يظهر يسوع بوضوح وعظمة أمام الناس، لكي يصير (يسوع) هو من يشد التفات كل نفس. "إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي"، يقول يوحنا.

هذا قولٌ ذو مغزى مهم للغاية. إنه يتضمن بحد ذاته الوجود المسبق لربنا يسوع المسيح. إن أخذتم هذه الكلمات حرفياً وأشرتم بها فقط إلى حياة المسيح هنا على الأرض، فعندها لن تكون حقيقية أو صحيحة، فهو لم يكن سابقاً ليوحنا المعمدان بهذا المعنى. لقد كان يوحنا قد قبل بضعة أشهر من ولادة الرب يسوع المسيح من العذراء مريم المباركة.

ولكن يوحنا يقول: "ولكنه كان قبلي". فما قصده بذلك؟ إنه يعني ما يلي: لقد بدأ يوحنا بالكينونة عندما وُلِدَ على الأرض، ولكن المسيح يسوع لك يبدأ بالكون عندما وُلِدَ على الأرض. إنه الشخص الذي تم التنبّؤ عنه في ميخا ٥: ٢، ٤: ".... فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ .... وَيَقِفُ وَيَرْعَى بِقُدْرَةِ الرَّبِّ بِعَظَمَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيَثْبُتُونَ. لأَنَّهُ الآنَ يَتَعَظَّمُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ". ومن هنا كان يوحنا مصيباً عندما قال: "كَانَ قَبْلِي".

وهنا ستتذكرون ما قاله الرب نفسه في إحدى المناسبات عندما تحدث بحميمية عن إبراهيم. فقد قال: "إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي" (يوحنا ٨: ٥٦). وعندها نظر اليهود إليه باندهاش وسخط وقالوا له: "«لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟" (يوحنا ٨: ٥٧). لقد ظنوا أنه يقول أنه رأى إبراهيم، ولكن ليس هذا ما قاله. لقد قال أن إبراهيم قد رآه، وكان فرِحاً.

لقد قالوا: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ". وهناك مغزى هام في العمر الذي ذكروه. لقد كانوا يخاطبون شخصاً كان يبلغ الثلاثينيات، بحسب المنظار الدنيوي للعمر. فلماذا يقولون: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ"؟ أفما كنا نتوقع أن يقولوا خمسة وثلاثين سنة أو أربعين سنة، كحد أقصى؟ فلماذا يقولون له، إذاً: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ"؟ ألا يدل ذلك بحد ذاته إلى علائم الحزن والكرب العميقة التي تغضّن بها وجهه؟ لقد "كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَداً أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ" (أش ٥٢: ١٤). لعل منظره كان هكذا وهو يجتاز عبر هذا العالم عندما كان على الأرض، فبسبب الكرب المرير والألم والمعاناة التي سبّبتها له خطايا البشر تغضّن وجهه فبدا لهم أكبر من سنه الحقيقي فقالوا: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟" فأجاب يسوع وقال: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا ٨: ٥٨). قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ؟ هذا يعود إلى ألفي سنة وأكثر إلى الوراء. "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". بمعنى آخر، إنه يريد القول: أنا قبل إبراهيم". فهو لم يعِشْ فقط قبل يوحنا المعمدان بل قبل إبراهيم أيضاً.

في الأصحاح الأول من رسالة بولس إلى أهل كولوسي يقول الروح القدس عن يسوع: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أمْ سِيَادَاتٍ أمْ رِيَاسَاتٍ أمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ" (كولوسي ١: ١٦، ١٧).

والآن دعونا ننظر إلى القول": "كَانَ قَبْلِي". يقول يسوع: "أنا قبل إبراهيم". ويقول الروح القدس: "هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ"، إنه الأزلي.

ويستأنف القديس يوحنا (الإنجيلي) الحديث فيخبرنا أنْ "مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (يوحنا ١: ١٦). وفي موضع آخر من الكتاب المقدس نقرأ: "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً" (كولوسي ٢: ٩). كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ يَحِلُّ فِيهِ، وبدافع تلك الطبيعة الإلهية حياته نفسه انسكبت فينا.

لقد كتب يوحنا (إنجيله) بعد صعود المسيح إلى السماء بسنوات عديدة كثيرة، ومنذ ذلك الحين وعبر العصور، كل خاطئ يأتي إليه نادماً تائباً كان (يسوع) يسكب كل ملء اللاهوت في نفسه. "مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ". الكلمة المترجمة هنا "فوق" تعني "في مكان"، والمعنى "نعمة محل نعمة ونعمة تلو نعمة". لسنا مدعوين لنعيش خبرات ماضية. كثيرون منا نتذكر، عندما خلصنا بدايةً، النعمةَ التي حلّت في نفوسنا عندما حدث ذلك، ونسترجع في ذاكرتنا تلك الأيام ونرنّم:

"ما أبهجَ ذلك اليوم الذي ثَبَّتْتُ فيه
اختياري لك، يا مخلصي، يا إلهي".

ولكن هذه ليست خبرتنا. لقد كانت نعمةً بالفعل ويا لها من نعمة رائعة! ما لدينا اليوم يجب أن يكون نعمة فوق نعمة، نعمة تلو الأخرى، وهذه كلها على مدى كل السنين. يسألُني الناس أحياناً إن كنتُ قد قبلْتُ "البركة الثانية". لماذا هذا القول، يا أصدقائي الأعزاء، فقد كانت نعمة فوق نعمة، حتى الآن وعلى مدى خمسين سنة، لا أزال فيها أتعلّم أكثر فأكثر عن كمال المسيح الرائع. ولذلك، فإن كنتم لم تؤمنوا به بعد، فإنكم لا تعرفون ما يفوتكم. إنكم تذكرون تلك المرأة الاسكتلندية العجوز التي طُلِبَ إليها أن تخبر عما كان يسوع يعنيه لها، فقالت: "ماذا أقول لكم؛ إنه من الأفضل أن نشعر بذلك أكثر من أن نخبر عنه". إن كنتم تسلكون في شركة معه فإنكم تقتبلون نعمته بامتلائها لأنكم تقتبلون نعمةً ممتلئة فوق نعمة، وبركة فوق بركة، طوال الأيام والسنين.

"لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا". لدينا هنا دهران تدبيريان. الناموس أُعطيَ بموسى، والناموس ساد حتى مجيء المسيح. والآن النعمة والحق قد اتيا بيسوع المسيح. الناموس كان حقاً، ولكنه كان حقاً بدون نعمة. في الأناجيل لدينا الناموس وقد حُفِظَ، ومع ذلك يُكرزُ بالنعمة لكل الناس في كل مكان، لأولئك الذين سيضعون إيمانهم بهذا المخلص.

والآن لدينا في الآية ١٨ تصريح لافت للانتباه جداً: "لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا". لعله يمكننا قراءة هذه الآية كما وردت في ترجمة أخرى بشكل آخر على النحو التالي: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٨). بمعنى آخر، بقد أعطانا لقد أعطانا الرب يسوع أن نعرف الله بكل ملء لاهوته.

هل قلتم لأنفسكم يوماً: "ليتني عرفتُ الله بشكل أفضل؛ ليتني فهمتُ فكرَ الله على نحو أمثل وأكمل؛ كيف ينظر الله إلى الأشياء؛ وكيف يفكّر في بعض المسائل التي تُحيّرني وتقلقني وتزعجني؟" دعوني أقول لكم يا أصدقائي الأعزاء أنه لو كنتم عرفتم الله أفضل لكنتم على علاقة أفضل مع يسوع المسيح، لأن الرب يسوع المسيح قد أخبرنا بشكل كامل عن الله وأظهره تماماً لنا. فالله- ودعوني أقول بكل ثقة وبكل معنى الكلمة- الله هو تماماً مثل يسوع. ليس من إله آخر سوى الله الذي كشف نفسه في المسيح. إن قداسة الله هي القداسة المنظورة في يسوع. وبر الله هو البر الذي حفظه يسوع. ونقاء الله هو النقاء المتجلي في يسوع. وحنو الله هو الحنو الذي تبدى من خلال يسوع. ومحبة الله هي محبة يسوع، وكراهية الله هي الكراهية المترائية في يسوع. لعلكم تقولون: هل يكره الله شيئاً؟ هل أبغض يسوع شيئاً على الإطلاق؟ نعم؛ إن الله يبغض الخطيئة بغضاً كاملاً. إنه يقول: "لاَ تَفْعَلُوا أَمْرَ هَذَا الرِّجْسِ الَّذِي أَبْغَضْتُهُ" (إرميا ٤٤: ٤). إنه يكره كل الرياء، وكل النجاسة، وكل الدنس، ولقد كره يسوع كل هذه الأشياء بشكل كبير. وأنت وأنا نكرهها أيضاً.

وإذاً، غضب الله يظهر سخط يسوع. هل كان الله يوماً غاضباً؟ "اللهُ يَسْخَطُ على الشّرير فِي كُلِّ يَوْمٍ" (مز ٧: ١١). قد تقولون: "كنتُ أطن أن الله يحب كلَّ الناس". إنه يحب كل الناس حقاً، ولكن هذا لا يتعارض مع حقيقة أنه يسخط. أنتم تحبون أولادكم، ومع ذلك تغضبون من الأشياء الخطأ التي يرتكبونها، وهكذا الله، فبينما أظهر محبته بإرسال ابنه الوحيد إلى العالم ليموت عن الخطاة، فإنه يغضب ويسخط على الشرير كل يوم. عندما يتعامل الله مع الخطاة غير التائبين، سيعرف الناس أنه لأمرٌ رهيب مخيف أن تقع في يدي الله الحي.

هل غضب يسوع أبداً؟ نعم، لقد غضب. لقد كان يغضب من المنافقين، وكان يغضب عندما يرى مُدَّعي التديّن الذين كانت قلوبهم قاسية ومتصلبة في تعاملهم مع الفقراء والمحتاجين. فكِّروا في الكلمات التي استخدمها لوصف الكتَبة والفريسيّين الذين كانوا يلتهمون بيوت الأرامل، وفكروا في سخطه عندما رأى الناس مهتمين جداً بالشعائر والطقوس لدرجة لم يستطيعوا معها الاهتمام بأمور الله. فكروا في ذلك الوقت عندما كان في المجمع حيث كانت هناك امرأة بائسة فقيرة منحنية الظهر وتحت وطأة تلك العبودية المريعة لثمانية عشر سنة. لقد رآها يسوع هناك، وتحرك قلبه الحاني نحوها، فالتفت نحو أولئك الناس وقال: "هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟" (لوقا ١٤: ٣)، ولم يجيبوا عليه بكلمة. لقد كانوا غيورين على السبت وغير مكترثين بحاجات البشر، ولذلك التفت يسوع إلى المرأة وسألهم: "هَذِهِ ابْنَةُ إِبْرَهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟" (لوقا ١٣: ١٦). لقد نطق بكلمة فشُفِيَتْ، ونظر إليهم بغضب. إن غضب يسوع هو غضب الله.

"اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٨). لقد أظهر كلياً شخصية الله.

ولكن لننظر الآن إلى القسم الأول من الآية: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما معنى ذلك؟ ألا نقرأ مراراً وتكراراً في العهد القديم عن أناس رأوا الله؟ أوليس أمراً مسلّماً به أيضاً أن آدم وحواء عندما كانا يعيشان في الجنة بكل نقائهما وسمعا صوت الله وهما يسيران في الفردوس مع نسيم الصباح، عندما نادى الله آدم، أنهما رأيا الله بمعنى من المعاني، فاختبأا بين الأشجار في الفردوس، وقد أنّبهما ضميرهما؟

وإبراهيم رأى ذلك الشخص الغامض الأسراري، أحد الثلاثة الذين جاؤوا إليه وهو جالس في باب خيمته، وتحدث إليه كالسيد الرب. قال موسى: "أرِنِي مَجْدَكَ". فقال الرب: "لا تَقْدِرُ انْ تَرَى وَجْهِي لأنَّ الْإنْسَانَ لا يَرَانِي وَيَعِيشُ. هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي أنِّي أضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أجْتَازَ" (خروج ٣٠: ٢٠- ٢٢). ونقرأ أن موسى رأى الله.

وحزقيال كانت له رؤى عن الله. ومن جديد نرى في العهد القديم هذه النصوص الكتابية عن رجال يعاينون الله، ومع ذلك نجد الكتاب يقول هنا: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما معنى ذلك؟ المعنى هو ما يلي: إن كل هذه الأمثلة التي أشرتُ إليهم ما هي إلا تجليات لله. لم يَرَ الناس الله فعلياً في جوهره، ولكنه أظهر نفسَه لهم- على هيئة إنسان لإبراهيم، وكملاك لدانيال، وكظهور عجيب لحزقيال. اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. "اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" (يوحنا ٤: ٢٤)، والروح لا يمكن أن تراها عيون الفانين.

ولكن ما معنى هذه الكلمات إذاً: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ"؟ لو كان هذا هو المقطع الوحيد الذي ترد فيه هذه الكلمات لكنا سلَّمْنا أن المعنى هو أنه حتى مجيء يسوع المسيح إلى هذا العالم لم يَرَ أحدٌ الله، وأن هؤلاء عندما رأوه كانوا قد رأوا الله، لأنه كان "اَلاِبْن الْوَحِيد الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ". ولكن عندما نفتح الكتاب على رسالة يوحنا الأولى (١ يو ٤: ١٢)، نجد نفس الكلمات من جديد، وهذه الكلمات كُتِبَتْ بعد سنوات كثيرة من عودة الرب يسوع المسيح إلى السماء. فهنا نقرأ: "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". لاحظوا هذه الكلمات التي كتبها يوحنا وهو طاعن في السن، ومن جديد يقول: "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما الذي نستنتجه من ذلك إذاً؟ فقط أن الله غير منظور.

عندما كان يسوع هنا، لم يرَ الناس الألوهية (الله) في رؤيتهم له. ما رأوه هو إنسان مثلهم، على ما يرون؛ ولكنه لم يكن خاطئاً مثلهم؛ لقد كان قدوس الله. ولكن الألوهية حُفِظَتْ في ذلك الإنسان، إذ "إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩). أما الناس فأمكنهم فقط أن يروا ناسوته. والآن عاد إلى السماء وتأتينا الكلمة من جديد أن "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". لا زال الله يُعرّفُ الإنسان على نفسه، ولكنه يفعل ذلك من خلال أولئك الذين يحيون في شركة معه. إن كنتَ تحيا في المحبة فإنك تُظهرُ الله.     

إنه لأمرٌ جليلٌ أن ندرك أننا هنا مؤمنين في هذا العالم لنجعل الله معروفاً، من خلال حياتنا وشهادتنا. لقد فعل يسوع ذلك بشكل كامل وتام. وكلما سرتُ معه كلما تراءى الله فيَّ.

الخطاب ٥

الإتيان بالآخرين إلى يسوع

"وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ». فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ فَتَبِعَا يَسُوعَ. فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ: «رَبِّي (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟» فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ. كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. هَذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ فَقَالَ لَهُ: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ). فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ). فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ». فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «تَعَالَ وَانْظُرْ». وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ عَنْهُ: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ». قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ». أَجَابَ نَثَنَائِيلُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا!» وَقَالَ لَهُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ»" (يوحنا ١: ٣٥- ٥١).

لقد تم لفت انتباهنا للتو إلى شهادة يوحنا المتعلقة بمخلّصنا كحمل الله. ولقد تأملنا لتونا في الآية ٢٩ حيث نقرأ: "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". هذا الإعلان كان يشير إلى الرب يسوع بوصفه ذبيحة خطية عظيمة. طوال دهر العهد القديم كانت الرموز والظلال تشكل رسائل نبوية مباشرة تشير إلى زمن إرسال الله للحمل القرباني الحقيقي، وها هو يوحنا يعلن أنه "قد جاء".

في اليوم التالي يعلن قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ". لم يقل: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ"- فهذا ما قاله البارحة- أما الآن فيقول: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ"، إذ يرى يسوع ماشياً عبر السهول فينتبه يوحنا إليه بطريقة جديدة. كان في مشية ابن الله المبارك شيءٌ جعل سابِقَه يهتف قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ". كم كان سيره مختلفاً عن ذلك اليوم السابق، وبكلمة "سير" نعني بالطبع "سلوك". وإذ نفكر بالسلوك المقدس لابن الله نرى كم هو متميز ومغاير لطرق سلوكنا نحن. الفرق الكبير هو أن سلوكنا تسيطر عليه أنانيتنا. إننا نسلك على هذا النحو لأننا متمحورون على أنفسنا. إننا منشغلون بذواتنا. إننا مهتمون بإرضاء أنفسنا وكل ما يخدم ذواتنا. ولكن الرب يسوع أمكنه أن يقول: "لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا ٥: ٣٠). الإنسان الوحيد الذي سار في هذا العالم ولم يكن فيه أي فكر أناني بل كان يجد مسرته في تحقيق مشيئة الآب أبيه، كان ربنا المبارك المعبود. وبهذا المعنى فحقٌ أن نقول: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ". إن تجرَّبْنا أحياناً لتبرير أشياء في أنفسنا تتناقض مع فكر الله، فما علينا سوى أن ننظر، بالإيمان، إلى حمل الله كما كان هنا، ونرى سلوكه غير الأناني، لكي ندرك في الحال كم يعوزنا لنصل إلى ذلك الكمال الذي تبدّى فيه. وستكون النتيجة هي أن نسعى بشكل مطرد لنصير مثله. "وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ" (٢ كور ٣: ١٢).

إذ نقرأ هذه الآية، ونرى المخلص القدوس يسير بدون دنس وسط مشاهد من عالم فاسد يصورها لنا الروح القدس، ونلاحظ كم كان يسوع لطيفاً ومنتبهاً ومراعياً لمشاعر الآخرين، فمما لا شك فيه أن هذا سيبكّتنا على شرورنا وأنانيتنا ويقودنا إلى الاعتراف بإخفاقاتنا في حضرة الله وسيجعلنا نرغب أكثر أن نكون مثله. "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ". تأملوا في تعاملاته المُحبة وانظروا روح الخضوع عنده. نرى من الإنجيل أن كلمات يوحنا التي نطق بها أن "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ" قد راقت لاثنين من تلاميذه اللذين كانا واقفَين معه: "سَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ فَتَبِعَا يَسُوعَ". ففي النهاية، كان هذا هو الهدف من خدمة المعمدان. فهو لم يأتِ ليجتذب الناس إلى ذاته أو إلى خدمته، بل جاء كـ "صوت صارخ في البرية". وقال: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يوحنا ٣: ٣٠) "هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي". ولذا يمكنك أن تفهم جيداً كيف كان قلبُ يوحنا ممتلئاً بالسعادة والغبطة عندما انطلقوا وراء يسوع. لقد كان هذا هو نفس الهدف الذي من أجله جاء يوحنا المعمدان يعمّد بالماء. يجب أن يكون هذا هدف كل خادم للمسيح. يجب أن يدلَّ الآخرين دائماً وأبداً إلى حمل الله هذا- حمل الله، حامل الخطايا؛ حمل الله، المثال الكامل. سمع التلميذان الآخران يوحنا يتحدّث فذهبا وراء يسوع. عن هؤلاء نقرأ أن أحدهما كان أندراوس، شقيق سمعان بطرس. والآخر يُبْقي اسمَه محتجباً طوال كل هذا الإنجيل، ولكنه كان التلميذ الذي اتكأ على صدر يسوع، التلميذ الذي كان يسوعُ يحبُّه؛ وبالطبع فإننا نقصد به يوحنا الرسول. وإذاً هذا التلميذان، أندراوس ويوحنا، تبعا يسوع.

"فالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟»". أعتقد أن الرب يسوع قد يوجّه هذا السؤال إلى كثيرين اليوم ممن يُفترض أنهم يطلبون وجهه. أناسٌ كثيرون يأتون إلى يسوع، على ما أعتقد، لسبب أنهم يأملون الاستفادة منه. البعض يأتي مرتجياً راحةً جسدية. ما الذي في فكرِكَ عندما تأتي إليه؟ "ماذا تطلب؟" ما الذي تريد من يسوع أن يفعله لك؟ غالباً ما أحزنُ عندما أدعو أناساً يريدون أن يعرفوا المسيح مخلّصاً لهم لكي يأتوا إلى إحدى حجرات الصلاة معنا، لكي يصلي أصدقاؤنا هناك معهم، ويوضحون لهم طريق الحياة، والبعض يأتي زاعماً أنه راغبٌ وتواقٌ إلى معرفة الرب، ولكن سرعان ما يبدو واضحاً أنهم مهتمون بالحاجة المؤقتة الزائلة أكثر مما بحالتهم الروحية. إني لأود لو يأتي الإنسان إليَّ ويقول لي بصدق وصراحة: "أنا لستُ مهتماً بحالة نفسي، ولكني مهتمٌ للغاية بجسدي؛ إني في حاجة إلى مكان أنام فيه، أو أحتاج طعاماً". يسرّني في هذه الحالة أن أفعل كل ما أستطيع من أجل رجلٍ يأتي إلي على هذا النحو؛ ولكن يؤلمني ويزعجني أن يأتي الناس مقرّين باهتمام بالأمور الروحية بينما يكونون مهتمين بالارتياح المؤقت الزائل وحسب.

إذاً الْتَفَتَ يَسُوعُ إليهما وَقَالَ لَهُمَا: "لمَاذَا تَطْلُبَانني؟" بديا مرتبكين قليلاً. "فَقَالاَ: «رَبِّي (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟»". لكأنهما كانا يقولان: "نودّ أن نذهب معك إلى حيث تقيم". ولكن أين كان يسكن؟ لم يكن لديه منزلٌ على الأرض هنا. وأمكنه أن يقول: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (متى ٨: ٢٠). لقد كان متجولاً وبلا منزل إذ بدأ خدمته بعد أن ترك محل النجارة في الناصرة. ولكن كان له مسكن في حضن الآب، إذ نقرأ : "اللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ". هناك كان يسكن يسوع. لقد كان يقيم في محبة الله الآب ولم يغادرْ ذلك المكان على الإطلاق. لقد كان على الدوام موضوع مسرة الآب، وكان يستمتع على الدوام بالشركة مع الآب ما عدا تلك اللحظات التي كان فيها معلَّقاً على الصليب عندما احتجب وجه الله عنه عندما صار بديلاً عنا بسبب خطايانا. فعندها صرخ في ألم وكرب وقال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" ومع ذلك، فلم يكن أعزّ على قلب الله من تلك الساعات الحالكة عندما "جُعل خطيةً" لأجلنا.

وأما هنا، على الأرض، فما كان مسكنه إلا مؤقتاً. لا نعرف أين كان يمكث آنذاك؛ ولكنه قال لهما: "«تَعَالَيَا وَانْظُرَا»". وهكذا ذهبا معه "وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ". وتلك تعادل الساعة الرابعة بعد الظهر. ويا لها من فترة جميلة قضياها معه! لا بد أنهما أمطراه بالأسئلة، وعلى الأرجح أنه أجابهما على كل أسئلتهما وكشف لهما عن محبته ونعمته. وما بقي هذان التلميذان على حالهما منذ ذلك الوقت فصاعداً. وما عاد في مقدورهما أن يهتما بشؤون الأرض أو يعملا أي عمل دنيوي. لقد ربحَ قلبَهما له، وكانا يتوقان ليشاركا هذه البركة مع الآخرين. هل فاز يسوع بقلبك؟ هل تعرفه وتعتبره المُرسَل من الآب؟ هل انكشفَتْ لنفسِكَ محبتُه ونعمته وقداسته لدرجة أن يتملّك عواطف محبتك له؟ عندها بالتأكيد ستريد الآخرين أن يعرفوه أيضاً. أعتقد أن هذا أحد الأدلّة الأكثر يقينية على حقيقية الاهتداء. من أول الأدلة على أن الناس يعرفون المسيح حقاً هو أنهم يلتفتون إلى الآخرين ويقولون لهم: "تعالوا؛ أريدكم أن تعرفوه كما عرفتُه". بقية هذا الأصحاح مخصصة للخدمة في السعي لربح الآخرين للمسيح.

أحد هذين التلميذين كان أندراوس. وهذا "وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ". لعلّ أول الأشياء التي فعلها أندراوس، كما هو واضح، هو أنه سعى ليجدَ أخاه. ولكن الدارسين يقولون لنا أن المضمون هنا يشير إلى أن يوحنا مضى ليجد أخاه يعقوب، ولكن أندراوس كان السّبّاق في إيجاد أخيه. إنها صفةٌ مميزة في الرسول يوحنا أن يُبقي نفسَه محتجَباً. اثنان من كَتَبَة العهد الجديد، يوحنا ولوقا، ناكران لذواتهما؛ لا يذكران أبداً أنفسهما، ومع ذلك فقد كانت لهما علاقة وثيقة مع يسوع. إنهما يحجبان أنفسهما دائماً. والرب، على كل حال، كان يودنا أن نعرف هذا؛ فما إن صارا على اتصال حيوي مع المسيح من أجل أنفسهما، حتى سارع يوحنا للحال ففكر بأخيه، وأندراوس أيضاً فكر بأخيه. ألديك أخٌ لا يزال بعيداً عن المسيح؟ هل خلصْتَ أنت نفسُكَ؟ هل هناك أخٌ أو أختٌ أو صديقٌ لك لم يعرف المخلّصَ بعد؟ هل حاولْتَ أن تجدهم؟ لعلّك كتبتَ رسالةً. ولعلّك اكتفيْتَ بإرسال بعض النّبَذِ الإنجيلية. ولعله أمكنك فقط أن تتحدث إليهم قليلاً، ولكنك كنتَ مهتماً بهم؛ أليس كذلك؟ لا أستطيع أن أفهم كيف أمكنك أن تعرف حقاً المسيح وتحبه بنفسك وأن تكون، في نفس الوقت، غير مبالٍ بأحوال أولئك الذين لا يزالون غرباء بالنسبة له. دعونا نسعى لنحاكي هذين الرجلين.

كان أندراوس أول من وجد أخيه سمعان. لقد كانا كلاهما يستمعان إلى يوحنا المعمدان. في الأصحاح الأول من سفر أعمال الرسل، يتحدث بطرس عن الذين كانوا معهم "مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا" (الآية ٢٢). ولذلك فقد كانا مستعدين لاستقبال المسيا عندما تجلّى. ومن هنا نجد أندراوس قد هرع ليجد بطرس قائلاً له: "«قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ)". ثم في الآية التالية نقرأ: "َجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ". هل فعلتَ ذلك مع أيٍّ كان؟ لاحظوا أنه لم يخرج ليناقش أخاه أو يتجادل معه، بل ذهب ببساطة وأخبره عن ذاك الذي يُرضي ويُسرُّ القلبَ. على الأرجح أنه أخبر سمعان عن خبرته ثم قال له: "والآن يا سمعان، أريدك أن تعرفَه أيضاً. أفلا تأتي إليه؟" كم هي كثيرة تلك القلوب التواقة التي يمكنك أن تقودها إلى المسيح. كثيرون منا قانعون وراضون بأن يتركوا هذا الأمر للكارز أو الواعظ أو المبشر، أو ربما لأولئك الذين يعلّمون في مدارس الأحد، أو في مكان عام آخر. ولكن كل مؤمن مدعو لأن يكون ممثلاً عن المسيح، ليذهب إلى الناس، رجالاً ونساءً، بهذه الرسالة: "«قَدْ وَجَدْنَا يسوع، مخلص الخطأة، الذي يسد كل حاجة للضالين والمهملين".

عندما رأى يسوعُ بطرسَ آتياً التفتَ إليه وقال: "«أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)". لقد أحب يسوع أن يعطي هذين الرجلين أسماء جديدة. ولا يزال كذلك. كلما وضعْتَ ثقتَك به كلما أعطاك اسماً جديداً. "والآن يا بطرس، ستكون إنساناً مثل صخرة، وستثبت من أجل الحق في الأيام التي تأتي لاحقاً. اسمُك هو صفا. اسمُك هو الصخرة". أعتقد أنكم تذكرون كيف قرأنا ما يلي في متى ١٦: "وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا" (متى ١٦: ١٨). وفي رسالته الأولى، يتحدث بطرس عن كل المؤمنين كحجارة حية، مبنية على أساس صخري، ألا وهو المسيح. هل تخشى أن تعترفَ بالمسيح، هل تخشى أن تضع ثقتَك به، فلا تقدر على أن تقف؟ تعالَ إليه! تعرّفْ عليه، وسيجعلك رجلاً أو امرأة مثل صخرة. ولكن اعلمْ أن بطرس نفسه أخفق. نعم ففي إحدى المرات كان صخرةً متزعزعة جداً؛ ألم يكن كذلك؟ ولكنه بعد أن نال الروح القدس كان الأمر مختلفاً. يا له من موقف ثابتٍ راسخٍ وقفه بطرس من أجل المسيح في تلك الأيام الأولى من الكنيسة، وبعد سنوات من الشهادة والمعاناة ختم بطرسُ شهادتَه بدمه. لقد صار حقاً رجلاً مثل الصخرة، وبإعطائه هذا الاسم، أشار يسوع ضمناً إلى ما كان سيصير إليه بطرس.

ليس أندراوس ويوحنا فقط من سعى وراء إخوته، بل إننا نجد يسوع يدعو شخصاً آخر. "فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ". لا نسمع باعتراف عظيم قام به، إلا أنه سمع هذه الكلمات: "اتبعني"، وفي الحال نجده يسعى وراء صديق. "فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَاه»". لم يَعظْه عظةً مطولة. بل قال: "لقد وجدْناه يا نَثَنَائِيلَ"، "«وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُف»". لعلّك تتساءل: لماذا يسمّيه ابنَ يوسف؟ لقد كان حقاً ابن الله. ولكن يوسف، كما ترون، بزواجه من مريم، صار الأب الشرعي ليسوع، وهذا ما يدركه فيلبّس. فيبدو وكأنه يقول له: "لماذا كان بيننا طوال هذه السنوات، ونحن لم نعرف أن ذلك النجار في محل النجارة في الناصرة لم يكن سوى المسيا؟" ويقول فيلبّس: "أريدُك أن تعرفه أيضاً يا نثنائيل". فيقول له نثنائيل: "أمن الناصرة يمكن أن يكون شيءٌ صالحٌ؟" "هل يمكن أن يخرج أي شيء صالح من تلك المدينة؟" يبدو أن الناصرة كانت تلك الأيام في حالة رديئة مزرية ولذلك فلا عجب في سؤال نثنائيل هذا. لقد كان وقتاً مناسباً لفيلبس ليشرع في حوار، ولكنه كان أكثر حكمة من ذلك. فقد اكتفى بأن يقول له ببساطة: "تعالَ وانظر". إن عرفتَه كما عرفتُه أنا، فإنك ستقتنع". وهذه هي رسالتي لكم أيها الأخوة، إن كنتم غير مخلّصين. أفكّر ببعضٍ منكم ممّن يتنازعهم الشك والقلق والحيرة. إنكم تقولون: "هل من الممكن أن يكون يسوع هو ابن الله المبارك، مخلص الخطاة؟"، فأقول لكم بجدية: تعالوا وانظروا. تعالوا عند قدميه. دعوه يتكلّم كلمات السلام والغفران لكم. أفلا تأتون؟ إنه يقول: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متى ١١: ٢٨)، "تعالوا وانظروا".

لقد قرّر نثنائيل أن يذهب. رآه يسوع آتياً- ما من أحد آخر أتى نحوه سوى ذاك الذي رآه آتياً؛ إنه يراك اليوم إن كنت تتحرك نحوه- قال يسوع: "«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ»". لكأنه كان يقول: "أعلم أنه حقيقي صادق تماماً كما يبدو عليه". "«هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ»". وفهم نثنائيل معنى الكلمات فسأله: "«مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟»" فقال يسوع: "«قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ»". ما الذي عناه بذلك؟ أعتقد أن نثنائيل كانت لديه شجرة تين في حديقة منزله خلف الجدار والأرجح أنه كان تحت شجرة التين تلك يدرس كلمة الله، أو يصلي طالباً الاستنارة، فرآه يسوع هناك قبل دعوة فيلبس له بزمن طويل. أينما كنتَ اليوم، يا صديقي، فإن يسوع يراك، وإن كان قلبُك يتوق إلى النور والسلام، فإنه ينتظر أن يعطيهما لك. "«قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ»". لقد حرّكتْ هذه الكلماتُ قلبَ نثنائيل فقال: "لا بد أن هذا هو". وهتف قائلاً: أنا أومن أنك "أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!" أترون؟ "الإيمان يأتي بالسماع والسماع بكلمة الله"، وهكذا ينضم نثنائيل بالإيمان إلى تلك المجموعة الصغيرة التي رافقت الرب يسوع.

"أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟" لقد رأيتُك قبل أن تفكر حتى، أفلا ترى إذاً أني أكثر من مجرد إنسان؟ "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ»". لقد كان يتحدث عن مجيئه الثاني في قوة ومجد. وعاد نثنائيل بفكره إلى سفر التكوين عندما اضطجع يعقوب لكي ينام في بيت إيل، فرأى في حلمه سلّماً يصل إلى السماء والملائكةَ تصعد وتنزل. يقول يسوع عملياً لنثنائيل: "أنا هو ذاك الذي به يصعد الإنسان من الأرض إلى السماء، ويوماً ما عندما أجيء ثانية بقوة ومجد سأجيء مصحوباً بملائكة الله". إن يسوع نفسه هو صلة الوصل بين الأرض والسماء، وسرعان ما سيتجلى في قوة ومجد.    

الخطاب ٤

شهادة يوحنا

"وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. فَسَأَلُوهُ: «إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لاَ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ». وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟» أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ». هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ». وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ»" (يوحنا ١: ١٩- ٣٤).

في الرسالتين السابقتين كنا نتناول موضوع شهادة يوحنا المعمدان. أخشى أن يخفق الكثير من المسيحيين في إدراك مدى الدور الذي عهد به الله، بالروح القدس، إلى خادمه يوحنا. كثيرون منا يفكرون فيه وكأن دوره ضئيل جداً في نشر نور الإنجيل أو فهم شخص ربنا يسوع المسيح. ولكننا رأينا لتونا أنه عرف في الرب يسوع ذاك الكائنُ قبل الوجود. يقول في الآية ١٥: "كَانَ قَبْلِي"، وهذه الكلمات تتكرر في الآية ٣٠. وهكذا رأى يوحنا في الرب يسوع أنه ذاك الذي لم يبدأ حياته عندما وُلِدَ هنا على الأرض، بل ذاك الذي كانت له حياة مع الآب قبل أن تنازل بالنعمة لينحدر إلى هذا العالم ويربط لاهوته ببشريتنا، بمعزل عن الخطيئة فيها، ويُولَدَ كطفل من مريم.

إن كنتم تعتبرون أن الآيات ١٦- ١٨ قد تلفّظ بها يوحنا، فإنكم ستجدون فيها كشفاً رائعاً للحق بالفعل؛ ولكن يبدو على الأرجح أكثر أن هذه الكلمات هي تعليق الروح القدس وقد عبّرَ عنه من خلال الرسول يوحنا. هذه الآيات تشكل مقطعاً اعتراضياً، وبعدها تأتي شهادة يوحنا المعمدان من جديد في الآية ١٩، "حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟»" لنفكّرْ بشكل أعمق بهذا المقطع المعترض. بدافع ملء النعمة المتجلية في يسوع، فإننا نحن الذين نؤمن، قد نلنا معونة فائقةً وافرةً تسدّ كل احتياج- نعمة فوق نعمة أو، كما يمكن أن نقرأها، نعمة محل نعمةٍ. ما هذا إلا دليلٌ تلو الآخر على نعمة الله الغنية، إذ نتابع لنعرف ونتمتع بالشركة مع ربنا المبارك، الذي كانت خدمته مختلفة جداً عن تلك التي لموسى، الوسيط والرسول للعهد القديم. فمن خلال موسى أُعطِيَ الناموس، وذلك الناموس كان كشفاً عن فكر الله، بالشكل الذي كان فيه البشر (في إسرائيل) مسؤولين عن أن يسلكوا وفقه إلى أن جاء المسيح. يقول بولس: "قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ" (غلاطية ٣: ٢٤). ولكن الآن النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ بِيَسُوعَ صَارَا، ولذلك "لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّب" (غلاطية ٣: ٢٥). إننا نرى في المسيح الإعلان الكامل عن الآب: النعمة والحق تجليا في إنسان هنا على الأرض، وذلك الإنسان كان مسرة قلب الآب. الناموس، كما أشرنا، كان حقاً ولكن كان حقاً بدون نعمة. الله نورٌ والله محبة؛ وهكذا أيضاً القداسة التي هي متوافقة مع الحق ومع النعمة، والتي تغطي كل خطيئة وتسد كل حاجة، وهذه كلها شُوهِدَتْ في يسوع. إنه الابن الوحيد، الساكن أبداً في حضن الآب، هو الذي أخبرنا عن الله بكل مجده الجوهري. الناس يتحدثون عن يسوع وكأنه ترك الأحضان الأبوية. ولكن ليست هذه لغة الكتاب المقدس. إن الحضن هو مكان العواطف. ويسوع لم يغادر ذلك المكان (حضن الآب). إنه يستمر في الوجود في حضن الآب. عندما كان هنا على الأرض، كان موضع محبة الآب حقاً، كما عندما كان في المجد الذي منه جاء ليفتدينا بموته الكفاري.

إن كان يوحنا المعمدان قد رأى كل هذا وتكلم ونطق بهذه الكلمات، فإن هذا يدل على أن معرفته بالمسيح كانت أكبر بكثير مما يُنسب إليه عموماً. ولكن، كما يبدو واضحاً، لدينا التعليق اللاحق للروح القدس، ولن ننسى أن كل شيء كان حقيقياً في يسوع حتى في أيام يوحنا.

لنتابع الآن المزيد من شهادة المعمدان.

لقد لفت (المعمدان) انتباهَنا بشدة بكرازته وتعميده للناس. في كل أرجاء أرض فلسطين كان الناس يتحدثون عن هذا النبي الغريب الذي ظهر في البرية وكان يجتذب جموعاً كبيرة خلفه. لقد كان يوبّخ الخطيئة والتعديات بشدة، ويدعو الناس إلى معمودية التوبة، ويعلن اقتراب ملكوت الله على الأرض. كثيرون آمنوا برسالته وأظهروا إيمانهم بأن اشتركوا في المعمودية كمثل أولئك الذي استحقوا الموت. وكان الناس يتأثرون في كل مكان.

أرسل اليهود بعض القادة المهمين إلى أورشليم لِيَسْأَلُوهُ: "«مَنْ أَنْتَ؟» فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ". لقد كان يعرف أن كثيرين كانوا يعتقدون أنه المسيا الموعود الذي طالما انتظروه والذي كان من المزمع أن يأتي بالسلام. ولكنه قال: " لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. لستُ الموعودَ". فقالوا: "«إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟»". فلماذا سألوه هكذا؟ قبل مجيء يوحنا إلى العالم بأربعمئة سنة جاء أحدهم وتنبّأ قائلاً: "هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوف، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ" (ملاخي ٤: ٥، ٦). ولذلك سألوه: "إِيلِيَّا أَنْتَ؟ أأنت من سيأتي برسالة التحذير من الدينونة؟" فيقول يوحنا المعمدان: "لَسْتُ أَنَا". ومع ذلك فإنكم تتذكرون أن الرب يسوع المسيح نفسه عندما سأله التلاميذ حول إذا ما كان يجب أن يأتي إيليا أولاً ١ ، حيث أجاب قائلاً: "إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ" (مرقس ٩: ١٣). وفهموا من كلامه أنه كان يتكلم عن يوحنا (المعمدان). لقد جاء بقوة وروح إيليا.

ولكن يوحنا أكّد أنه ليس إيليا شخصياً. وما كان ليوجّه الأنظار إليه. فقد كان قد أتى ليوجّه الناس إلى شخص آخر. وبعد ذلك سألوه: "«أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟»" فما معنى ذلك؟ لمن كانوا يشيرون؟ كُتِبَ في تثنية الاشتراع أن موسى قال: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً .... مِثْلِي" (تثنية ١٨: ١٥). وقال الله: "أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ" (تثنية ١٨: ١٨، ١٩). هذه الكلمات تشير إلى المسيح، وليس إلى يوحنا المعمدان. وهنا أيضاً يوضح المعمدان أنه ليس المعني بهذا الحديث. فسألوه: "«مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟»" ما كان يوحنا يتكلم عن نفسه أبداً. نحن نحب أن نتكلم عن أنفسنا أما يوحنا فلم يكن هكذا. فما كان يتكلم عن نفسه. ولم يحاول أن يلفت انتباه الناس إليه. لقد جاء ليوصلهم إلى ذاك الآتي. ولذلك فعندما سألوه: "مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟" أجاب قائلاً: "«أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ»". لا يمكنك أن ترى الصوت. يمكنك أن تسمعه، ولكنك لا تستطيع أن تراه. "أنا مجرد صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ".

الأصحاح ٤٠ في أشعياء يبدأ بهذه الكلمات: "عَزُّوا عَزُّوا شَعْبِي يَقُولُ إِلَهُكُمْ. طَيِّبُوا قَلْبَ أُورُشَلِيمَ وَنَادُوهَا بِأَنَّ جِهَادَهَا قَدْ كَمِلَ أَنَّ إِثْمَهَا قَدْ عُفِيَ عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا" (أشعياء ٤٠: ١، ٢). أي أن خطاياها قد دُفِعَ ثمنها، في إشارة إلى العمل الكفاري لربنا يسوع المسيح. وهكذا يعلن النبي آنذاك إنجيل العزاء لشعب الله. في الآية ٣ نقرأ: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا". طريق من كان يجب إعدادها؟ طريق الرب. ومن هو الرب؟ "سَبِيلاً لإِلَهِنَا".

وإذاً تحدث يوحنا وبكل إدراك عن حقيقة أن الآتي هو الله متجلياً في الجسد. إذ عندما يقول: "أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ"، نجده يستخدم كلمة "يهوه" للإشارة إلى الرب. هذا الإنسان المتواضع، يسوع الناصري، الذي ظهر وسط الناس، لم يكن سوى الرب يهوه نفسه الذي جاء لفداء الخطاة البائسين. ولكن دعونا نتابع الإعلان الذي يذيعه أشعياء: "صَوْتُ قَائِلٍ: «نَادِ»" (أش ٤٠: ٦). فسأل: "بِمَاذَا أُنَادِي؟"، وأجاب الرب: "كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ الْحَقْلِ. يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزَّهْرُ لأَنَّ نَفْخَةَ الرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً الشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزَّهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (أش ٤٠: ٦- ٨).

لعلك تقول: "لماذا لا نجد الكثير من العزاء في هذا؟" ظاهرياً معك حق فيما تقول. ولكن كانت هذه هي الحال دائماً في الطريقة التي يبدأ بها الله بتعزية الناس. الناس متكبرون جداً وكثيرو النسيان لإثميتهم. ضمائرهم خاملة جداً لدرجة أن الله إذا ما أراد أن يفعل شيئاً لأجل البشر، فإنه يضطر لجعلهم يدركون ضآلتهم وخطيئتهم. ومن هنا فإن الرسول بطرس ربط هذا المقطع بالإنجيل وبالولادة الجديدة. "لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ،وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا" ( ١ بطرس ١: ٢٤، ٢٥). ما حاجتنا إلى الولادة الجديدة؟ ذلك لأن "اَلْمَوْلُود مِنَ الْجَسَدِ جَسَد هُوَ" و "كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ". لماذا نحتاج إلى حياة جديدة؟ لأننا تحت الدينونة وهذه الحياة سرعان ما تنقضي وسنقابل الله لا محالة. "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب ٩: ٢٧). لتدخل هذه الكلمة إلى أعماق نفوسنا. ولتوبخْنا على كبريائنا وثقتنا بكفاءتنا الذاتية. كل مجد الإنسان- كل الأشياء التي يُسَرُّ بها البشر أكثر ما يمكن- ما هي إلا زهرة سرعان ما تذوي. كم نحتاج إلى حياة من الله! "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥: ١٢).

وهكذا يرى يوحنا المعمدان في الأصحاح ٤٠ من أشعياء نبوءة تشير إليه. فيقول: "هذا هو أنا: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ". أولئك الذين أتوا كانوا من الفريسيين واستمروا في استجوابه. ما كانوا راضين. وتابعوا طرح السؤال تلو الآخر عليه ولم يتريثوا للتفكير في الإجابات. ما كان يهمهم أن يعرفوا حق الله. واستأنفوا طرح سلسلة جديدة من الأسئلة. "«فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟»". لم يحاول يوحنا الدفاع عن نفسه أو أن يفسّر لهم، إذ كان يعلم موقفهم الجاحد الرافض للإيمان. لقد اكتفى بالقول: "«أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ»". من الواضح أنه بهذا الجواب مضى هؤلاء الفريسيون في طريقهم. فما كان لديهم اهتمام حقيقي بهذه المسألة التي كانت تقلق فكر وضمائر الآخرين.

أما الآن، ففي القول التالي في المقطع نجد يوحنا يعلن إحدى أهم حقائق الإنجيل. "فِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ". ما من شك في أنه كان بين الفينة والأخرى يلقي نظرة إلى تلك الحشود ويتساءل: "ألم يأتِ بعد؟ أما حان وقت استعلانه بعد؟" ولكن يوماً فيوماً لم يكن هناك صوت يجيب سؤال قلبه. وها هو الآن يرى يسوع قادماً نحوه وروح الله يقول له: "ها هو ذا يا يوحنا". فهتف يوحنا في الحال: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ".

هل فكرتم يوماً في معنى هذا الكلام؟ طوال السنين والأجيال كان بنو إسرائيل يعرفون عن الحمل الكفاري. عرفوا ذلك منذ سنوات كثيرة عندما كان إبراهيم وإسحق صاعدين إلى الجبل، التفت إسحق إلى وجه والده وقال: "هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ وَلَكِنْ أيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟" (تكوين ٢٢: ٧). فقال إبراهيم: "اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي". وبعد ذلك عرفوا أن الله، عندما كان إسرائيل على وشك الخروج من مصر، قال: "اسْحَبُوا وَخُذُوا لَكُمْ غَنَما بِحَسَبِ عَشَائِرِكُمْ وَاذْبَحُوا الْفِصْحَ. وَخُذُوا بَاقَةَ زُوفَا وَاغْمِسُوهَا فِي الدَّمِ الَّذِي فِي الطَّسْتِ وَمُسُّوا الْعَتَبَةَ الْعُلْيَا وَالْقَائِمَتَيْنِ بِالدَّمِ الَّذِي فِي الطَّسْتِ. وَانْتُمْ لا يَخْرُجْ احَدٌ مِنْكُمْ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ حَتَّى الصَّبَاحِ. انَّ الرَّبَّ يَجْتَازُ لِيَضْرِبَ الْمِصْرِيِّينَ. فَحِينَ يَرَى الدَّمَ عَلَى الْعَتَبَةِ الْعُلْيَا وَالْقَائِمَتَيْنِ يَعْبُرُ الرَّبُّ عَنِ الْبَابِ وَلا يَدَعُ الْمُهْلِكَ يَدْخُلُ بُيُوتَكُمْ لِيَضْرِبَ" (خروج ١٢: ٢١- ٢٣). وعرفوا ذلك أيضاً من خلال خدمة الهيكل، ففي كل صباح وكل مساء كان يُوضَع حملٌ على المذبح كمحرقة. وكان أشعياء قد تنبّأ عن ذاك الذي سيُقاد كشاة إلى الذبح، ليصير ذبيحة عن الخطايا. وأخيراً جاء ذاك الذي تحدثت عنه النبوءات، وأعلن يوحنا قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد عرف في يسوع أنه هو من تكلمت عنه كل شهادات الأنبياء وأن فيه تحقيق كل رموز الناموس. لاحظوا كيف يتكلم عن الكفارة البدلية: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد كان يعرف أن أشعياء ٥٣ كان مكتوباً عن حمل الله: "هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أش ٥٣": ٥). وجاء أخيراً بحسب كلمة الله.    ولنلاحظ ما يلي: لا يقول يوحنا "خطايا" بل "خطية" (العالم). يستعمل كلمة "خطية" بالمفرد. أعتقد أنكم ستجدون أن الناس عندما يحاولون الاستشهاد بهذه الآية فإنهم يستخدمون عموماً كلمة "خطايا" العالم. إن الخطايا هي مجرد تأثيرات ناجمة عن سبب، وحمل الله قد جاء، ليس فقط ليرفع خطايا الأفراد بل أيضاً ليرفع أو يعالج مسألة الخطية ككل. قال الرسول بولس أن الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَاِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). ليس هو حامل تعدياتنا وآثامنا وحسب، وهو لم يكفّر عن جميع أعمال خطيئتنا وحسب، بل مات من أجل ما نحن عليه كخطاة بالطبيعة. وسأقول لكم شيئاً قد يجعلكم تفقدون الثقة بي: "لقد كنتُ مذنباً بخطايا كثيرة وجبَ علي بسببها أن أُقْبِل إلى الله لأعترف بها، وأعرف أن كل تلك الخطايا قد غُفِرَتْ لي. ولكني لا أزال أسوأ مما كنتُ قبلاً". هل ستثقون بي الآن؟ إني أعني ما أقول. ففي داخل هذا القلب ميول نحو الخطيئة أسوأ من أي فعل خطيئة قد ارتكبتُ على الإطلاق. وهذا ينطبق علينا جميعاً. نحن خطاة بالطبيعة. والخطية تسكن فينا. لقد مات المسيح ليرفع الخطية، وليس الخطايا وحسب، بتقديم نفسه ذبيحة. لدينا في داخلنا ذلك الشيء الذي يدعوه الله "خطيئة في الجسد". لقد أخذ الله كل ذلك بعين الاعتبار عندما عُلِّقَ المسيح على الصليب. لقد مات المسيح بسبب ما كنا عليه. لقد أخذ مكاننا. وجُعِلَ خطيةً لأجلنا، وأُزيلَتْ الخطيئة، كعائق، وصار في مقدور أسوأ وأشر الخطاة أن يأتي إلى حضرة الله ويجد غفراناً. هل تعرف حمل الله هذا الذي يرفع خطية العالم؟

بعد ذلك يقول يوحنا: "هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ". من الواضح أنه كان في الخارج في الجماعة حيث كان يسوع، ولكنه لم يفهم أن هذا هو المسيا حتى الآن. إنه "لم يعرفه"، "لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ. وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ"- لاحظوا أن هذا الحادثة تقع بعد المعمودية، التي لا يُشار إليها هنا، ولكنها تُذكر في أناجيل أخرى- "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". العمل العظيم الذي كان يوحنا قد أُرسِلَ ليعمله كان يقترب من نهايته، وها هي الذروة: "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ". أتعلم هذا يا صديقي العزيز؟ هل وضعتَ ثقة إيمانك به؟ إن كنتَ لم تفعل ذلك بعد، أفلا تأتي إلى الله وتقر بخطيتك؟ "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ".


١. (مرقس ٩: ١١، ١٢).

الخطاب ٦

المعجزة الأولى ليسوع

"وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ». وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐمْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ﭐسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ - لَكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا - دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ». هَذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تلاَمِيذُهُ" (يوحنا ٢: ١- ١١).

في إنجيل يوحنا، كلمة "معجزات" تُترجم بـ "آيات". وهناك ثماني آيات فقط تُذكر في هذا الإنجيل. كل آية منها هي لسبب معين، كما حدث، مثلاً، عندما شفى يسوع الرجل المشلول في بركة بيت حسدا. إننا نرى فيه ذاك الذي يمتلك قدرةً عظيمة، القادر على إعطاء القوة لأولئك الذين لا حول ولا قوة لهم من ذاتهم. وهنا في هذه الآية (الأعجوبة) الأولى المدونة في الإنجيل، يبدو الرب يسوع كشخص واضح الملامح جداً. إنه يأتي قبلنا كخالق لكل الأشياء. لقد أخبرنا يوحنا بذلك عقائدياً، عندما قال: "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". ولكن الآن في هذه الآية لدينا تجلٍ ظاهرٍ منظور لهذا في إعمال الرب يسوع لقدرته الخلْقية، فيصنع في لحظة واحدة ما يلزم الآخرين أسابيع وأشهر ليعملوه. لاحظوا المناسبة لهذه المعجزة. "فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ (أي اليوم الثالث بعد دعوة نثنائيل) كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ". في الأصحاح ٢١: ٢ نقرأ أن نثنائيل كان في قانا الجليل؛ من الواضح جداً، في خط سيرهم إلى اليهودية، أنهم توقفوا في موطن نثنائيل، حيث أُقيم هذا العرس. لقد افترض البعض أن هذا كان حفل زفاف نثنائيل نفسه، ولكن ليس من دليل على ذلك. إن اسم العريس والعروس ليسا مذكورين في الإنجيل. الأمر المهم هو أن لدينا موافقة الرب المبارك على هذه العلاقة الحميمة (الزواج) التي ما عادت تلاقي احتراماً كبيراً الآن. إن هذه الحادثة تعيدنا إلى ذلك الزمن، في فجر التاريخ، عندما أعطى الله جدَّيْنا الأولين أحدهما للآخر: "لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أبَاهُ وَأمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً" (تكوين ٢: ٢٤). الله هو من أسّس علاقة الزواج، وها هو المسيح يباركه هنا ويقدّسُه. من المؤسف له أن الزواج في أيامنا هذه يُحَطُّ من قدْره عن طريق العناد والشر عند الرجال والنساء! كم يجب أن نكون حريصين، كمسيحيين، على أن ندرك قداسية الزواج! لننظر إلى النسبة المرعبة من حالات الطلاق البغيض الذميم الذي ما برح يزداد في أيامنا هذه. بالتأكيد، إنه أمرٌ يجب على المسيحي أن يكون مدركاً وواعياً له. بالطبع، هناك حالات، عندما لا تحترم المرأة نفسها، يمكن أن تستمر في العيش مع نمط معين من الرجال، ولكن الكتاب المقدس يخبرنا أنه إن كان للناس أن ينفصلوا، فعليهم ألا يتزوجوا من جديد من شخص آخر ما لم يكن ذلك الطلاق لسبب الخيانة الزوجية من جهة الطرف الآخر. في هكذا حالة قال ربنا يسوع المسيح: "مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي" (متى ١٩: ٩). إننا ندرك الاستثناء الذي وضعه الرب يسوع، ولكن خارج تلك الحالة لا نجد أي أساس لإعادة الزواج للناس المطلّقين. إن الأمور في حالة تشويش اليوم، ويا للعواقب الوخيمة التي يتعرض لها الأطفال من جراء الطلاق!

أرى هنا أن الرب يسوع كان يضع بصمة موافقته على الزواج عندما قبِلَ الدعوة لحضور هذا العرس. كانت أمُّ يسوع حاضرةً أيضاً، وهذا سيفترض أنها كانت على علاقة جيدة بتلك العائلة. وفي الواقع، تبدو مريم وهي تتمتع بقدر كبير من حس المسؤولية. ولعله يمكنني أن أقول أيضاً أنه أمرٌ سار في أي زواج أن يكون يسوع وتلاميذه مدعوين إليه. إنه لمما يدعو إلى الشفقة ألا يستطيع الناس دعوة يسوع. كم هو أمرٌ ثمين وعظيم أن تكون للمرء هذه الشركة مع أولئك الذين يحبون المسيح عندما يدخل في هذه العلاقة!

ولكن دعونا الآن نفكر في مناسبة هذه المعجزة، وأولاً سوف نلاحظ الحوار بين يسوع وأمه. نقرأ: "َلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»".

إن الخمر في الكتاب المقدس، عندما يُستخدم على نحو صحيح وبحكمة، هو رمزٌ للسعادة. ونقرأ عن "الخمر التي تبهج الله والإنسان". إن حقيقة تقديم الخمر في حفلات الزفاف يوحي بأن بني إسرائيل كانوا قد ابتعدوا كثيراً جداً عن الله حتى أن الفرح اختفى بشكل كبير. لم يبقَ لديهم الكثير. ما بقي هو مجرد شكليات فارغة وطقوس، يمكن أن نلاحظ تصويراً لها من خلال الأجران الفارغة. ولكن مسيح الله كان هناك، وشعرت أمُّه، بالغريزة، أن في مقدوره أن يفعل شيئاً ما ليعالج الوضع. من الطبيعي عادة أن أمَّ العريس هي التي تتشوش من شحّ الشراب والطعام المنعشين، وكان الضيوف سيتساءلون عن نقص الاستعدادات المناسبة للعرس. لقد كانت مريم، وبما لا شك فيه، على علاقة حميمة مع هؤلاء الناس، اللهم ما لم تكن قريبةً لهم. لقد كانت امرأة حكيمة مدبّرة، ولأنها هكذا فقد شعرت بأن كلمةً من ابنها تفي بالغرض. تصرفها هذا كان فيه الكثير من علاقتها به كأم. ولكنها كان واضحاً أنها تتوق لأن يُظهر ابنها بعض قدرته وهكذا يعطي الآخرين الفهم ليدركوا شيئاً من شخصيته الإلهية البشرية الأسرارية.

ولذلك يُقال لنا أنها التفتت إلى ابنها وقالت له: "ليس لديهم خمر". في الواقع لم تطلب العذراء منه أن يفعل شيئاً حيال ذلك. بل حملت في صدرها سراً ما كان الناس الآخرون ليفهمونه. لقد كانت تنتظر الوقت المناسب حتى يقوم ذلك الكائن الرائع، الذي حملتْه في أحشائها ثم في أحضانها كطفل رضيع، ليُظهر ذاتَه في أنه ابن الله، وعلى الأرجح أنها رأت في هذا الوضع مناسبة له لفعل ذلك. ولكن يسوع التفت إليها وقال لها: "«مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»".

بعض الناس ظنوا أن الرب تكلّم بشكل قاسٍ نوعاً ما هنا، ولكن من المؤكد أنه لم يفعل ذلك. إننا على ثقة كاملة بأنه ما كان أبداً ليقول شيئاً يتعارض مع حقيقة كونه ابناً مطيعاً لها كوالدة له. إن ما قاله يُساء فهمُه قليلاً بسبب ترجمتنا للجملة. إننا نميز بين "سيدة – ليدي"، و"امرأة". فكلمة "سيدة – ليدي" كانت تُستخدم في فترة من الزمن للإشارة إلى زوجة اللورد أو الفارس. أما كلمة"امرأة" في يومنا هذا، فيبدو أنها صارت تدل على احترام أقل من كلمة "ليدي". وهكذا فإننا عندما نسمع الرب يقول "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ!" نظن أنه يوبّخ والدتَه. إن الكلمة التي استخدمها كانت أي امرأة تجدُ فيها مديحاً لا نظير له، فقد قال لها: "يا سيدتي، ماذا تريدين مني أن أفعل أجلك؟" أو "ما الذي تريدينه مني؟" أو "ماذا يدور في خلدك؟". ثم يضيف قائلاً: "لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»". طوال هذا الإنجيل نجد أمام الرب يسوع هذه "الساعة". لقد كان لديه أخوة بحسب الجسد، وفي إحدى المرات أراد إخوته منه أن يصعد إلى العيد ولكن يسوع قال لهم: "إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ" (يوحنا ٧: ٦). ونقرأ في الأصحاح ٨ من هذا الإنجيل (يوحنا) أن "هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (يوحنا ٨: ٢٠). ومن جديد: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي" (يوحنا ٨: ٢٨). لقد كانوا سيرفعونه، ولكن لم تكن الساعة قد أتت بعد. وبعد ذلك (في يوحنا ١٢: ٢٣) عندما جاء اليونانيون قائلين (لفيلبس): "نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ"، أجاب يسوع قائلاً: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ". لقد أدرك من مجيئهم إليه بدء الساعة التي سيعتلن فيها مجدُه بعد صلبه. وفي الأصحاح ١٣، وعندما كان على وشك غسل أرجل تلاميذه، نقرأ: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ...." (يوحنا ١٣: ١). وفي الأصحاح ١٧ حيث تكلم إلى الآب نقرأ: "تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً" (يوحنا ١٧": ١). ساعتُه هي الساعة التي سيذهب فيها إلى الصليب؛ الساعة التي سيتوجب عليه فيها أن يحمل خطيئة العالم؛ الساعة التي سيُعلَّقُ فيها على الصليب، والتي ستليها إقامة الله له من بين الأموات وتمجيده له علانيةً. فلم تكن هذه ساعتُه إذاً. وعندما حاولت أمُّه العزيزة أن تضغط عليه ليتصرف مستبقاً الزمن، قال لها: "ماذا تريدين مني؟ لم تأتِ ساعتي بعد". من الواضح جداً أن أمه، وهي التي تعرف قلبَه، لم تكن منزعجة من جوابه لها ولا بالحد الأدنى. فنجدها تلتفتُ إلى الخدّام وتقول لهم: "مهما قال لكم فافعلوه". لعله يمكنني أن أشير هنا إلى أولئك الذين يصلّون للعذراء مريم المباركة ويطلبون منها أن تتشفع من أجلهم، فأُنوّه إلى أن ابنها لم يُجِبْها مباشرةً على الالتماس الذي تقدمت به إليه. قالت مريم للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه". بمعنى آخر، إن أمَّ يسوع تحولنا عن ذاتها وتوجّهنا نحو ابنها المبارك. ونقرأ: "وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً". بمعنى آخر، كانت كل واحدة منها تحوي حوالي برميل من الماء. لقد كانت ستستخدم في طقوس التطهير عند اليهود. كانت هذه تتعلق بالتطهير الخارجي. كانت كل الأجاجين فارغة، مثلها في ذلك مثل التقاليد والطقوس والشعائر الناموسية. ولكن الرب يسوع يلتفت إلى الخدام ويقول: "املأوا الأجران ماءً". وتلبية لطلبه، فإنهم يملأونها إلى فوق. هنا يمكننا أن نرى صورةً لماء الحياة في حق الإنجيل الذي يُسكب إلى الشعائر الرمزية التي في العهد القديم. كل شيء يتغير عندما تمتلئ الأجرانُ بالماء. قال يسوع لهم: "ﭐسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ". فسكبوا الماءَ، وفي هذه الأثناء تحول الماءُ إلى خمرٍ. لقد كانت معجزةً رائعةً، ومع ذلك، فبعد كل شيء ما كانت سوى تكراراً لما كان يسوع ما برح يعمله خلال ألفيات من الزمان على جوانب التلال محولاً الماء إلى خمر. عندما جيءَ بهذه الخمر إلى رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ، تذوقها وهتف: "كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ". الله دائماً يُبقي الأفضل حتى نهاية الوليمة.

التعليق الوحيد الذي يقوم به الروح القدس على هذه المعجزة هو في الآية ١١: "هَذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تلاَمِيذُهُ". لعله ينبغي ربط هذه مع ما ورد في ١: ١٤. فهناك نقرأ أن ربنا يسوع نفسه "صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا". وكلمة "حَلَّ" تعني "أقام" بيننا، "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". تلك الآية تقدم لنا مفتاحاً لكل الرمزية الرائعة التي في خيمة الاجتماع في البرية. لقد كانت مسكناً مكوناً من ستائر، وفي داخله، في قدس الأقداس، بين كروبي المجد، كان يشرق نور مجيد، كان هو التجلي المنظور لحضور الله. لم يكن في مقدور الناس رؤية المجد. ولكن إن تخيلتم للحظة أن تنفتح الستائر وأن يسطع النور اللامع من بين تلك الألواح الذهبية، فهذا هو المجد يشرق. وهذا هو ما لدينا هنا في معجزات يسوع. لقد كانت بمثابة إزاحة ستائر خيمة الاجتماع الأرضية الدنيوية لعرض الشكيناه، لأن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩).

وهكذا تظهر لنا هذه الأعجوبة الأولى المسيحَ كخالق، ذاك الضابط لكل الأشياء بقدرته، الذي يؤمّن لنا كل ما نحتاج إليه، والأمر العجيب الرائع هو أن هذا الخالق العظيم قد صار مخلّصاً لنا. لقد كان دائماً إلهاً منذ الأزل. وذاك، الذي به أتت به كلُّ الأشياء إلى الوجود، نزل إلى العالم ليتألم عن خطايانا، لكيما نخلص به وننال حياة أبدية.

كلمةٌ واحدةٌ كانت كافيةً لملء تلك الأجران، طالما كانت هذه مشيئته. واحتاج الأمر منه أكثر من كلمة ليخلّصَ نفوسَنا. فقد لزمَ عملَ الصليب. ولكن بفضل ذلك العمل، كلمةٌ واحدةٌ، "أومن"، تأتي بالحياة والسلام. "اليوم إذا سمعتَ صوته فلا تقسّي قلبَكَ". "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ" (رومية ١٠: ٩).

الخطاب ٧

تطهير الهيكل

"وَبَعْدَ هَذَا انْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتلاَمِيذُهُ وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». فَأجاب الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ الْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ" (يوحنا ٢: ١٢- ٢٢).

بعد معموديته، خرج ربنا إلى البرية، حيث نعلم من أناجيل أخرى أنه تجرّب من الشيطان. ثم عاد إلى اليهودية وبدأ مسيرة بطيئة نحو الجليل. لقد تتبّعْناه لتونا وهو يدعو أول التلاميذ وتأملْنا في حضوره وما فعله في عرس قانا الجليل. والآن نجد ربَّنا يتابع سيرَه من قانا إلى كفرناحوم. كفرناحوم تُدعى في مكان آخر "مدينتَه". لم تكن هي مسقط رأسه، كما نعلم، ولم تكن تلك المدينة التي عاش فيها طفلاً وشاباً، بل كانت المدينة التي اختارها مكاناً لإقامته عندما بدأ خدمته. بالطبع لم يمكث هناك مطولاً، ولذلك أمكنه أن يقول: "«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»" (متى ٨: ٢٠). قلّما كان يسوع يتواجد في موطنه أو منزله، بل قلّما كان يمكث في منزل. ولكن إن أمكن القول أنه كان لديه منزل على الإطلاق، فيمكن أن نعتبر أن ذلك كان في كفرناحوم. ومن هنا فإن كفرناحوم كانت إحدى مدن الجليل المُنعَم عليها. فهناك كان غالباً ما يحضر إلى المجمع. لا يمكننا وصف مشاعرنا عندما نتخيل ذلك المجمع في كفرناحوم حيث كان يقف على تلك الأرضية المحجّرة، وعندما نتخيله يشفي الذراع المشلولة ويعتق المرأة المسكينة التي كانت محنية الظهر لسنوات كثيرة. ونتذكر أنه هناك ألقى تلك الخطبة الرائعة التي قال فيها: "أنا خبز الحياة". كان ليمكننا والحالة هذه أن ننظر من هناك إلى الشاطئ وأن نعرف أين كان متّى يجلس ليمارس مهنته كجابي ضرائب ونلاحظ الطريق الذي سلكه الرب يسوع في طريقه ليقيم ابنة ياييرس بعد شفائه المرأة التي شقّت طريقها إليه وسط الجموع وهي تبكي وتقول في نفسها بإيمان: "إن لمسْتُ هدبَ ثوبه فقط أُشفى".

كفرناحوم، المباركة دون سواها من مدن الأرض، التي اختارها يسوع لتكون مسكنه، والتي فيها علّم الناس وصنع أعمالاً مقتدرة، كانت هي نفسها، وللأسف، التي قال عنها فيما بعد: "وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ" (متى ١١: ٢٣). لقد حظيتْ تلك المدينة بامتياز عظيم. أتعرفون أن تلك المدينة نفسها قد زالت من الوجود؟ فلقرون عديدة لم يعرف أحدٌ موضعَها إلى أن تمّ الكشف عنها في السنوات الأخيرة تحت كومة من الرمال. إن مصير كفرناحوم، يجب أن يكون بالتأكيد تحذيراً مهيباً لنا اليوم. فكلما زادت امتيازاتنا، زادت مسؤوليتنا. إن كان الله، بمحبته الفائقة، قد سمح لنا أن نعيش في مكان يتوافر فيه الكتاب المقدس للجميع ومع ذلك أشحنا بوجهنا عنه وصممنا آذاننا عن سماع إعلانه واحتقرنا كلمته، فكم سيكون مخيفاً ومرعباً مصيرُنا في ذلك اليوم الذي سنواجه فيه بالدينونة ذاك الذي رفضناه عندما كنا على الأرض. لقد افترض الله أننا قد نستوعب درس كفرناحوم ذاك في قلوبنا.

انحدر الرب يسوع إلى كفرناحوم، واستمر هناك مع أمه وإخوته وتلاميذه لفترة قصيرة. ثم اتجه جنوباً ليعلن نفسَه في أورشليم. كان فصح اليهود قريباً. كان عيد الفصح يُدعى "فصح الرب"، في العهد القديم. ولكن كلما أتى الحديث عنه في العهد الجديد نسمع أنه يُدعى "فصح اليهود"، كما نقرأ أيضاً عن عيد المظال عند اليهود. فما سر هذا التغيير؟ لماذا ما عادت عبارة "أعياد الرب" تُستعمل؟ لماذا صار يُقال عنها "أعياد اليهود"؟ ذلك لأن اليهود قد أشاحوا عن الرب، وحفظ تلك الأعياد صار مجرد أمر شكلي. ولذلك فما عاد الرب يعتبرها خاصته. لنحذر بهذا من الخطر الذي يحدق بنا جميعاً، ألا وهو المحافظة الخارجية الشكلية بدل التمسك بالحقائق الروحية.

كان عيد الفصح عند اليهود قريباً. وصعد يسوع إلى أورشليم. وعندما وصل إلى الهيكل، صُدِمَ لرؤية أعمال التجارة تجري في ساحاته، وكأنه كان سوقاً دنيوياً أو بيتاً للصيرفة. ما كان قد بدأ بشكل بريء على الأرجح كوسيلة راحة لتسهيل تأمين الحملان لزوار عيد الفصح، وتصريف النقود لأولئك القادمين من بلاد بعيدة، انحدر إلى سعي محموم للاتجار بما كان يُحتاج إليه لحفظ خدمة الذبائح المتعلقة بعيد الفصح. كان الطمع والجشع قد سادا لدرجةٍ صار الله معها مَخْزِياً وصار الهيكل شائناً. فهناك غدا ثغاء الخراف وهديل الحمام يقلق عبادة الرب، وأولئك الذين كانوا يقدمونها للبيع ما كانوا يفكرون سوى في تحقيق الربح أنفسهم. لقد كانوا يتاجرون بأمور الله، وهذا دائماً أمرٌ بغيضٌ في عينيه. ولذلك فإن يسوع أكّد نفسه رباً للهيكل. ونقرأ في ملاخي أنه "يَأْتِي (الرب) بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ" (ملاخي ٣: ١)، ويطهّره.

لقد ظهر يسوع فجأة أمام الناس وبسوطٍ من حبال وراح يطرد الغنم والبقر. وقال: "لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ". منذ ذلك الحين، كم من متاجرات ظهرت بأمور كنيسة الله؟ إن كل ما يعطيه الرب، مجاناً يعطيه. وكل ما ينبغي على خدامه أن يقدموه في سبيل الخدمة للنفوس المحتاجة، يجب أن يقدموه مجاناً أيضاً. إننا نقدّم تقدمات وعطايا بدافع تقديرنا وامتنان قلوبنا. وما نفعله لمجد ربنا يسوع المسيح، يجب أن نقوم به لأننا نريد أن نفعل ذلك.

لا بد أنه كان أمراً مستغرباً رؤية يسوع بسوط من الحبال في يده وهو يصرخ عالياً قائلاً: "ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ". "بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!" (متى ٢١: ١٣). لاحظوا نبرة السلطة في كلامه. إنه يقول "بَيْتَ أَبِي" و""بَيْتِي". لقد كان رب الهيكل، لأنه كان رباً وسيداً على كل شيء. تذكّر التلاميذ ما كُتِبَ (في العهد القديم): "«غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي»". وكم كان هذا القول ينطبق عليه!

وراح اليهود يعترضون، وسألوه: "«أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟»" لقد تحدوه ليقوم بأعجوبة ما يثبت لهم بها سلطانه؛ أن يصنع أمراً عجيباً لكي يصادق بها على نفسه. ولكنه قال: "«ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ»". لكأنه بذلك كان يقول: "تريدون آية على أني ابن الله، أني الموعود به من قِبَل الآب- وستكون لكم علامة. في الوقت الذي يجده الله مناسباً، دمّروا هذا الهيكل ، وفي أيامٍ ثلاثة أقيمُه". لم يفهموا قصده، والتفتوا نحوه في غضب قائلين: "«فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟»". لقد كان يقصد هيكل جسده. ولكنه لم يوضح لهم ذلك. فما كان ذلك ليفيد. فالناس يصيرون في حالة لا ينفع معها توضيح الروحانيات لهم.

ولذلك لم يقُلْ لهم شيئاً. لقد اختاروا طريقهم الخاص ولم يحاول أن يفسر لهم السر الكامن وراء كلماته. ولكن عندما قام من بين الأموات آمن به تلاميذُه. لعلنا نتأمل اليوم في هذه الكلمات فنستطيع معرفة المعنى. "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ". ما كان الهيكل؟ لقد كان مبنى مشيداً يُفترض في الرب (يهوه) أن يظهرَ فيه حضورَه. فهناك، في قدس الأقداس، كان النور غير المخلوق، مجد الشكيناه. كان هذا هو حضور الله المنظور المتجلي على الأرض. وكان الهيكل ببساطة يحجب ذلك المجد عن أعين الجمع في الخارج. وكان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس مرةً واحدةً في السنة. وهكذا كان جسد ربنا يسوع المسيح، عندما جاء إلى هذا العالم، هو الهيكل الحقيقي لله. جسده يظهر للناس في الباحة الخارجية، ونفسه في المقدس، وروحه في قدس الأقداس. لقد تجلى المسيح في المسيح. لقد كان الله نفسه يقيم في المسيح، مصالِحاً العالم لنفسه، لأنه كان إلهاً وإنساناً في شخص واحد. لقد كان يتكلم عن هيكل جسده، إذ كان هناك الله والإنسان هناك في شخص واحد. ولذلك قال: "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ". لاحظوا القول: "أُقِيمُه". بمعنى آخر، كان سيموت، ولكن مات وكله ثقة بأنه سوف يقوم. هل لاحظتم كيف أن قيامة ربنا يسوع المسيح تُنسَب لكل أقنوم من الثالوث القدوس؟ وفي موضع آخر نسمعه يقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ (نفسي) مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً" (يوحنا ١٠: ١٨). لقد وضع حياته وأخذها أيضاً إلى الحياة. لقد أقام الهيكل. وفي موضع آخر نقرأ أنه أُقيمَ من الأموات بمجد الآب، وأيضاً أن الروح القدس أقامَ يسوع، ربنا، من بين الأموات. كل أقنوم في الألوهية كان له دور في قيامة يسوع. والآن أُعلن أنه ابن الله بقوة قيامته من بين الأموات. ولولا هذه لما كان هناك إنجيل نكرز به إلى عالم ضال.

ولكن المسيح قام، ويخبرنا الكتاب أنه "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية ١٠: ٩، ١٠).

الخطاب ٨

لقاء ربنا بنيقوديموس

"وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ. كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ». قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ». أجَابَ نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا! اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٢: ٢٣- ٣: ١٥).

يبدأ المقطع الحالي على الأرجح بالآيات الثلاث الأخيرة من الأصحاح ٢. فنقرأ: "وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ". الإيمان الذي يستند على المعجزات ليس هو الإيمان الذي يخلِّصُ. الإيمان الذي يستند على آيات وأعاجيب لا يُؤْتي بالخلاص لأي أحد. ومن هنا فإنه لا يفيدنا أن نجادل غير المؤمنين حول اعتراضاتهم على الوحي في الكتاب المقدس. قال يسوع: "اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مرقس ١٦: ١٥). ويقول بولس: "كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ" (١ كورنثوس ١: ١٨). و"لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رومية ١: ١٦). الله يصنع معجزات ليصادق على الكلمة، ولكن الإيمان يجب أن يعتمد على شيء أفضل بكثير من المعجزات. فهل هنا أناسٌ كانوا ينتظرون مجيء المسيا نجدهم يقولون: "حسناً. لو جاء المسيا، فهل كان سيستطيع أن يقوم بمعجزات أكثر مما فعل يسوع؟ لا بد أن هذا الإنسان (يسوع) هو المُرسَل الذي تحدّث عنه الأنبياء". بهذا المعنى آمنوا بأنه كلن المسيا، ولكنهم لم يعترفوا بأنهم نفوس آثمة خاطئة في حاجة إلى خلاص ولم يروا في يسوع المخلّصَ الذي كانوا يحتاجون إليه. لقد آمنوا باسمه عندما رأوا معجزاته؛ لكن تكملة الآية تقول أن يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وكلمتا "يَأْتَمِن" و"يصدّق" مترادفتان في الأصل. ولعله يمكننا أن نقرأ النص كما يلي: "آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ ولكن يسوع لم يصدّقهم". لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأنه كان يعلم أنهم ليسوا صادقين أو مؤمنين حقيقيين. لقد كان يعرف ما في داخل الإنسان وما كان بحاجة لأية شهادة من إنسان. لقد كان يعرف الشر واللاموثوقية التي في قلب البشر. أنا وأنت نحاول أن نعظّم من أنفسنا. ويرينا الكتاب المقدس مدى ضآلتنا عندما نتبجّح ونتفاخر، إن كنا صادقين مع الله. عندما نفكر بأن عيني ابنه تنظران إلى داخل قلوبنا فأي فساد وشهوات وضلال وعارٍ يجد هناك! اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ. أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ" (إرميا ١٧: ٩، ١٠). بما أن يسوع كان الله متجلياً في الجسد، فقد كان يعرف ما في الإنسان. إنه كلي المعرفة حقاً كما الآب. إنه يعرف ما في داخلك وفي داخلي ومع ذلك، ورغم معرفته بكل ذلك، أحبَّنا وبذلَ نفسَه عنّا. ولكنه لا يثق بنا، أو يعول على قلوبنا الشريرة تلك. إنه يعرف أنه لا يمكن الاعتماد علينا. إننا ضالون ومنهارون ومدمّرون وفاسدون. فما نحتاج إليه، إذاً، هو حياة جديدة. إننا في حاجة لأن نُولَدَ ثانيةً، وتلك هي الحياة الجديدة التي يعطيها لنا.

هناك كلمة يونانية صغيرة أُسقِطت من ترجمتنا للكتاب المقدس (في بداية الآية يوحنا ٣: ١). هذه الكلمة تعني "و" وتعني "لكن" (كما نجدها في بداية الآية يوحنا ٢: ٢٤). ومن هنا، فإننا، إن وضعنا الكلمة في مكانها الصحيح تصبح لدينا الترجمة التالية للآية: "لكنْ كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ". فقد وضع روحُ قدس الله هذا الرجل في تضاد ومغايرة مع الناس الوارد ذكرهم في يوحنا ٢: ٢٣- ٢٥. ها هنا إنسانٌ عرف يسوعُ فيه شخصاً صادقاً وأصيلاً وجدياً في سعيه وراء الحق، وكلما وجد ربنا إنساناً جاداً حقاً، سوف يرى أن ذلك الإنسان سيصل إلى الحق. لعلّكم تتساءلون: وماذا عن الوثنيين الذين لم يسمعوا أبداً (بالبشارة)؟ هل سيدينهم الله إلى قصاص أبدي لأنهم لم يؤمنوا بالمخلّص الذي لم يسمعوا عنه أبداً؟ بالطبع لا. ولكن ما سيفعله هو ما يلي: سيدين الوثنيين على كل الخطايا التي لم يتوبوا عنها، ولكنه سيحاول أن تحصل كل نفسٍ تائبة على نورٍ كاف لتخلص. سوف لن يترك الإنسان ساقطاً ضائعاً ضالاً إن كان يسعى وراء الحقيقة.

ولذلك فها هو نيقوديموس هنا ساعٍ صادق وراء الحقيقة، ويعامله يسوع على هذا الأساس. كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ (المجموعة الأكثر تديناً وتعصباً بين اليهود) اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ". ولكن هذا الإنسان، الذي يواجه مسيحَ الله وجهاً لوجه الآن، يكتشف أن عنده نقص هائل. وهناك أناسٌ كثيرون مثل نيقوديموس. إنهم أناسٌ طيّبون صالحون، ويجلّون الأمور الروحية، ومع ذلك فهناك كثيرون لم يعترفوا بحظاياهم أمام الله ولا يعرفون الولادة الثانية. ألم تقولوا، كما قال تينيسون: "هلا من إنسان ينهض فيَّ لكي لا أبقى كما أنا عليه كإنسان؟" إنك لستَ راضياً عن نفسك، ومع ذلك فإنك لم تلتفتْ إلى المسيح لكي تُولَدَ ثانية. لنتابع حوار ربنا يسوع مع نيقوديموس. دعونا نصغي وكأننا لم نسمع بها من قبل.

ها هنا نيقوديموس "نفسه الذي جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً".  سوف لن ألومه على ذلك. بعض الكارزين يتخذون هذا الموقف. ولكني لا أجد أي دلالة على الجبن هنا. فسلوكه لا يدل على أنه جبان. أعتقد أن يسوع كان مشغولاً طوال النهار، وأن نيقوديموس قال في نفسه: "أود أن أتحدث إلى هذا الرجل عن كثب وبحميمية، ولن يتسنَّ لي ذلك مع وجود كل ذلك الجمع في النهار. فلعلي أسأل بطرس أو يعقوب أو يوحنا عن مكان إقامته وهكذا أستطيع أن أحظى بحديث منفرد معه". وهكذا يرتب لأن يرى يسوع ويلتقي معه ليلاً بعد أن يكون الرب قد انسحب من وسط الجموع. إنه لموقفٌ مشرّفٌ من نيقوديموس أنه كان مهتماً بأن يذهب إلى يسوع. ولا أجد أنه من المعيب أنه ذهب تحت جنح الليل.

استهل نيقوديموس حديثه بالقول: "«يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ»". لم تكن هذه خاتمة حديثه. لقد قاطعه المخلّص وأعلن: "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»". هل قال "يُولَدُ ثانيةً" أم "يُولَدُ مِنْ فَوْقُ"؟ أعتقد أن التركيز هو على الجدّة. هذا ما أعطى الانطباع بأن نيقوديموس لم يفهم الكلمة بمعنى أن "يُولَد من فوق" بل أن "يُولَد من جديد"، أي أن "يُولَد ثانيةً". لكأن يسوع كان يقول: "لن يفيدك، يا نيقوديموس، أن تقول أشياء ظريفة. أنت في حاجة إلى شخص هو أكثر من معلّم، أنت في حاجة إلى مخلّص- شخص يمكن أن يعطيك حياة جديدة. إنك في حاجة إلى ولادة ثانية!" "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ".

هناك فكرة واسعة الانتشار اليوم أن الناس يمكن أن يتعلّموا فيدخلوا إلى المسيحية. إن الثقافة الدينية هي أحد الأمور الأكثر بغضاء في العصر الحالي. الفكرة هي أنه يمكنك أن تأخذ طفلاً وتعلّمه من خلال خطوط الفلسفة المسيحية، وهكذا تعلّمه وتثقّفه حول موضوع الخلاص. لستُ أعترض على اصطلاح "التعليم المسيحي". أعتقد أنه أمرٌ صحيح وسليم وملائم. إنه صحيحٌ وملائم أن تعلّمَ المسيحي الأساسيات المسيحية. ولكن التعليم الديني الذي يحاول أن يجعل الناس مسيحيين فحسب عن طريق التعليم، على ما أعتقد، سيكون وسيلة لخلق آلاف من المرائين بدلاً من جعلهم مسيحيين حقيقيين. "يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". يجب أن يكون هناك تواصل في الحديث عن حياة جديدة.

قال نيقوديموس: "ولكني لا أفهم الأمر. أنى لإنسان أن يُولد وهو طاعن في السن؟ هل يمكنه أن يمرّ خلال كل تلك العملية الطبيعية من جديد؟ إن هذا يبدوا أمراً غامضاً لا أستطيع تخيله: هل أستطيع أن أعود فأُولَد من والدتي ثانيةً؟" ويقول له يسوع: "يا نيقوديموس، أصغِ إلي؛ لن يشكل الأمر فارقاً إن استطعت ذلك؛ سوف لن تكون في هذا الحالة أفضل مما كنتَ قبلاً. إن الولادة الطبيعية لا نُؤخذ بالاعتبار. يجب أن تكون الولادة روحية". "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". يا لها من كلمات ذات وزن هذه التي يقولها الرب يسوع! في البداية قال: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ". فما الذي قصده بذلك؟ أعلمُ أن هناك من يقولون لنا بأن الولادة من الماء تعني الولادة بالمعمودية. ولكن ما من أحد نال حياة جديدة عن طريق معمودية الماء. عبثاً تبحثون في كتابكم المقدس لتجدوا ما يشير إلى هذا الأمر. ليس فيه أي شيء من هذا القبيل. هذه الفكرة ليست من كلمة الله. وليس من مكان في الكتاب المقدس تُشبّه فيه المعمودية بالولادة. بل إنها ترمز بالأحرى إلى الموت. فنحن نُدفَن معه بالمعمودية لموته. إن معمودية الماء هي صورة عن دفن الإنسان العتيق لا عن الولادة الجديدة. وإذاً، ما هو الماء الذي به نُولَد ثانية؟ لنمعن النظر في كلمة الله. ما من مكان فيه يقول أن الناس يُولَدون بالماء الحرفي. تتبّعوا كلمة "الماء" في كتابات يوحنا. ستجدون أن الماء هو رمز لكلمة الله. طرح داود هذا السؤال في المزمور ١١٩: ٩: "بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ". وفي الأصحاح الرابع من يوحنا يقول يسوع، خلال حديثه إلى المرأة السامرية: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يوحنا ٤: ١٣، ١٤). ما هو الماء الذي يعطيه يسوع؟ إنه ماء الكلمة. إنه شهادة الإنجيل. "مِيَاهٌ بَارِدَةٌ لِنَفْسٍ عَطْشَانَةٍ الْخَبَرُ الطَّيِّبُ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ" (أمثال ٢٥: ٢٥). "وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً" (رؤيا ٢٢: ١٧). ما هو ماء الحياة؟ إنه رسالة الإنجيل. نقرأ في أفسس ٥: ٢٥- ٢٧: "أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ". ويقول يسوع لتلاميذه: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ" (يوحنا ١٥: ٣). ولذا فإن علينا أن نُولَدَ من فوق بكلمة الله إذ يكون الروح القدس قد عمل في قلوبنا وضمائرنا.

ها هنا رجلين يجلسان جنباً إلى جنب إذ يعلن كارزٌ إنجيلَ الله، مستشهداً، ربما، بآية ما من الكتاب، كمثل هذه أن "الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيطس ١: ١٥). أحد الرجلين لا ينتبه. ولكن الآخر يرفع بصره ويقول: "ماذا؟ جاء لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ؟ أنا خاطيء. فلأضعنَّ عليه ثقة إيماني". ما الذي قاده لفعل ذلك؟ إنه الروح القدس الذي يستخدم الكلمة وسيلةً لتساعد الإنسان على الولادة الجديدة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ". ويميز الرب بشكل واضح جداً بين الجسد والروح. "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ". بمقدورك أن تفعل ما يحلو لك للجسد، ولكن لا يمكنك أن تحوله إلى روح. إن عمَّدْتَه فإنه يصير جسداً مُعمَّداً. وإن جعلتَه متديناً يصبح جسداً متديناً. الجسد يبقى جسداً إلى المنتهى. "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". قال نيقوديموس: "كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟" فشرح له الرب بأن هناك أسراراً في الطبيعة لا نستطيع أن نفهمها. "اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ". لا يمكنك أن ترى الريح، ولكنك تستطيع أن تدرك قوتها. ولا يمكنك أن ترى الروح القدس، ولكن يمكنك أن تلاحظ قدرته. إنه غير منظور، ولكنه يُشعِرُكَ بحضوره بطريقة مقتدرة عندما يدين ويجدّد الخطاة. إنه يغير الناس بشكل كامل. إنكم تدركون القوة والقدرة، رغم أنكم لا ترونها تعمل فعلياً. إنكم ترون امرأة دنيوية مزهوة، وفجأة تصبح امرأة صلاة هادئة. وترون رجلاً شريراً فاجراً يتحول إلى قديس. هذا هو عمل الروح القدس. إنكم لا ترون الروح ولكنكم ترون قدرته متجلية في الحياة.

إذ يبقى نيقوديموس حائراً ويقول: "«كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»"، يقول يسوع له: "أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا!" كان لا بد أن يعرف عن الولادة الجديدة. فقد كان لديه الكتاب المقدس. ففي أشعياء ٤٤: ٣ نجد هذه الكلمات: "لأَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ وَسُيُولاً عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ". ما معنى ذلك؟ لكأن الله يقول: "بماء كلمتي وبقوة روحي القدوس سأصنع معجزة الولادة الجديدة".

وفي حزقيال ٣٦: ٢٥ لدينا نفس الموضوع: "أَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِراً فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ". فهناك نجد نفس الحقيقة: "الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ". فيقول الرب يسوع: "يا نيقوديموس، أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ، وتستغرب أن أتكلّم عن الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ. كان يجب أن تعرف ذلك". "إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟" ما معنى ذلك؟ هذه الأَرْضِيَّاتِ كان العهد القديم قد تحدّث عنها. لقد كان من الضروري دائماً أن يُولَدَ المرء من جديد لكي يدخل ملكوت الله. وهذا الملكوت كان حكم السماء على الأرض. ولكن يسوع كان يعلم أن الملكوت الأرضي لم يكن موضوعاً للحديث آنذاك. فقال: "لدي أسرار كثيرة (كنت لأحدّثكم عنها) ولكنكم لن تفهموها، فحتى الأرضيات لا تفهمونها". أعتقد أن الرب كان يقصد القول أن نيقوديموس لم يكن مستعداً لكشفٍ عن الملكوت السماوي، لأنه لم يكن يدرك الأرضيات.

"لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ". دعوني أقول هنا، وبصراحة، أني لا أعرف إذا ما كان يسوع قد قال ذلك أو كان يوحنا هو من كتب هذا بوحي من الروح القدس. لو كان النص مكتوباً كأي نص أدبي، لوجدنا علامات اقتباس في نهاية الآية ١٢، وعندها تأتي الآية ١٣ كجملة اعتراضية. لا أعرف إذا ما كان الأمر هكذا أم لا. لعلّ يسوع قال ذلك، ولعل يوحنا قد قال ذلك في محاولة منه لشرح السر الغامض. ما هو السر؟ ما من أحد صعد إلى السماء بملء اختياره وإرادته. أخنوخ كان قد اختُطِفَ وإيليا صعد في زوبعة. إن كان الرب يسوع قد نطق بهذه الكلمات، فإنه كان ينظر إلى المستقبل عندما سيصعد. وإن كان يوحنا هو الذي كتبها، فلا بد أن الصعود كان في ذهنه. ولكن العجيب في الأمر هو أن الرب يسوع الذي نزل من السماء وكانت له القدرة على أن يصعد إلى السماء، كان في كل الأوقات ابن الإنسان في السماء، لأنه كان الكلي الوجود.

في الآية ١٤ لدينا جواب ربنا على أسئلة نيقوديموس. إنه يوجه فكره إلى حادثة جرت قبل سنين طويلة سابقة في البرية، ويقول له: "كَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ". هذا هو الجواب على سؤالك يا نيقوديموس. لكأن يسوع يقول له: "أنا ماضٍ إلى الصليب وهناك، على ذلك الصليب، سأصير المرموز إليه بالحية النحاسية. هناك سأُجعل خطيئةً لكي يصبح الخطاةُ بِرَّ الله بالإيمان به". في البرية كان الشعب قد ابتُليَ بالأفاعي. وسمُّ تلك المخلوقات المرعبة كان يجري في عروق بني إسرائيل المحتضرين. وكان العلاج هو حية نحاسية تُرفع، وكل من ينظر إليها يشفى. الخطيئة هي التي سبّبت الإزعاج والقلق للبشرية. والحية كانت رمزاً للشيطان والخطيئة. ولكن ما الذي حدث على الصليب؟ ذاك الذي كان بلا خطيئة جُعل خطيئةً من أجلنا. إنه المرموز إليه بتلك الحية النحاسية. تلك الحية التي رُفِعَت على عود الصليب لم يكن فيها سمٌ على الإطلاق. لم تُؤْذِ أحداً البتة. لقد كانت صورةً عن ذبيحة الخطية العظيمة. عندما كانوا ينظرون إليها كانوا يُشفون. لم تكن في الرب يسوع أيةُ خطيئة، ولكنه بنعمته ورحمته أخذ مكان الخاطئ، وعندما ينظر الناس إليه بإيمان فإنهم يُولَدون ثانيةً؛ وينالون حياةً أبدية. هل نظرْتَ إليه؟ هل نظرْنا جميعاً إليه؟ كل من يؤمن به لن يموت بل تكون له حياة أبدية.

الخطاب ٩

قلب الإنجيل

"لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ»" (يوحنا ٣: ١٦- ٢١).

دعا مارتن لوثر هذه الآيات الستة عشر بـ "الإنجيل المصغر"، لأن قصة الكتاب المقدس كلها نجدها هنا. "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". هذه الآية تنفي فكرة مغلوطة موجودة في ذهن كثيرين؛ في أن الله يُصوّر في الكتاب المقدس كقاضٍ ديّان متجهم غاضب يريد أن يهلك الناس بسبب خطاياهم، ولكن يسوع المسيح، بشكل أو بآخر، جعل ممكناً أن يخرج الله في محبة إلى الخطاة؛ وبمعنى آخر، إن المسيح أحبنا جداً لدرجة أن يموت عنا، وصار من الممكن الآن، وقد كُفِّرَ عن خطايانا، أن يحبَّنا الله ويرحَمَنَا. في الواقع هذا تحريفٌ كلي للإنجيل. فالمسيح لم يمت ليمكّن الله من أن يحبَّ الخطاة، بل إن الله "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ". هذه الحقيقة الثمينة نفسها نجدها تتضح لنا الأصحاح الرابع من رسالة يوحنا الأولى، حيث نقرأ: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤: ٩، ١٠). وهكذا فإن مجيء ربنا إلى هذا العالم وذهابه إلى الصليب هناك، حيث سوّى مسألة الخطية وبذلك سدّد كل مطلب للبر الإلهي، هو الدليل على محبة الله اللا متناهية نحو عالَمٍ من البشر الخطاة. لكم ينبغي علينا أن نشكره ونسبّحه لأنه قدّم ابنَه لأجل فدائنا! "وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رومية ٥: ٨). ما كان ليمكن أن يكون غير ذلك، لأنه محبة. ونتعلّم من ١ يوحنا ٤: ٨- ١٦ أن "الله محبة". وهذه هي طبيعته ذاتها. يمكننا أن نقول أن الله كريمٌ سموحٌ، ولكن لا يمكننا أن نقول أن الله نعمة. يمكننا أن نقول أن الله حنون شفوق، ولكن لا يمكننا أن نقول أن الله هو الحنو أو الإشفاق. الله لطيفٌ ولكن الله ليس هو اللطف. ولكن، بأي حال من الأحوال، يمكننا أن نقول أن الله محبة. تلك هي طبيعته، والمحبة كان لا بد أن تظهر ذاتها. ورغم أن البشر خسروا كل ادّعاء أو مطلب لهم تجاه الله، فإنه ظل يحبّهم وأرسل ابنَه الوحيد ليصيرَ ذبيحةً كفّاريةً عن خطايانا- "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

لقد تم الحديث عن ربنا يسوع المسيح على أنه "الابن الوحيد" خمس مرات في العهد الجديد: اثنتان منها في الأصحاح الأول من هذا الإنجيل. ففي الآية ١٤ نقرأ: "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (يوحنا ١: ١٤). وفي الآية ١٨ نقرأ: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ". ثم في هذه الآية السادسة عشر من الأصحاح الثالث نقرأ: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ .... حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ....". ومن جديد في الآية ١٨: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". المكان الوحيد الذي يُستخدم فيه هذا التعبير، خارج إنجيل يوحنا، هو في رسالة يوحنا الأولى ٤: ٩: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ". إنها حقيقة لا مثيل لها، وتظهر كم هي رائعة بنية الكتاب المقدس، ليس فقط في أن هذا التعبير يُستخدم لخمس مرات في العهد الجديد، بل إنه يُسمّي يسوع "المولود أولاً" أو "البكر" لخمس مرات في نفس السفر.

إن عبارة "الابن الوحيد" تشير إلى بنوته السرمدية. وتعبير "البكر" تشير إلى ما أصبح عليه، بالنعمة، كإنسان، من أجل فدائنا. عندما جاء إلى العالم اعترف الله بأن هذا الإنسان المبارك هو ابنه الوحيد وقال: "أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (أعمال ١٣: ٣٣). التعبير "الابن الوحيد" لا تحمل في ذاتها فكرة التوالد، بل الفردانية- فهو ابن تربطه بالله علاقة خاصة. الكلمة تُستخدم بالترابط مع إسحق. فنقرأ أن إبراهيم "قدَّمَ ابنَه الوحيد". ولكن اسحق لم يكن ابنه الوحيد. فاسماعيل كان ابنه أيضاً وقد وُلِدَ قبل اسحق ببضعة سنوات، ولذلك فمن جهة التوالد لا يمكنك أن تقول أن اسحق هو ابنه الوحيد. إنه يُدعى "الابن الوحيد" لأنه وُلِدَ بطريقة عجائبية عندما بدا مستحيلاً أن ينجب إبراهيم وسارة أولاداً. في الترجمة الأسبانية للكتاب المقدس تأتي الآية على الشكل: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الفريد (الذي لا مثيل له)"؛ والمغزى أن ربنا يسوع المسيح هو ابن الله بمعنى أنه ما من أحد آخر يمكن أن يكون أبداً ابن الله- ابنه السرمدي- ابنه الذي لا مثيل له. فكم هو عزيز على قلب الآب! وعندما وهبه الله، لم يصبح متجسداً فقط ليتحمّل القسوة والقلق والعطش والجوع، بل سلَّمه الله إلى الموت على الصليب ليكون ذبيحة كفارية عن خطايانا. هل من تجلٍ أعظم من هذا للحب الإلهي؟

أعتقد أنكم تذكرون قصة تلك الفتاة الصغيرة في أيام مارتن لوثر، عندما ظهرت أول طبعة من الكتاب المقدس. لقد كان لديها خوف رهيب من الله. لقد صُوِّرَ الله بطريقة كانت تملأ قلبَها بالرعب كلما كانت تفكر فيه. لقد كانت تشعر بالاكتئاب من هول شخصية الله ومن فكرة مواجهة هذا القاضي الغاضب يوماً ما. ولكن في أحد الأيام، هرعت راكضةً إلى والدتها وهي تمسك قصاصة ورق في يدها. وصاحت قائلة: "أمي! يا أمي، ما عدتُ خائفةً من الله". فقالت أمُّها: "ولِمَ لا؟"، "السبب، انظري، يا أمي" قالت لها ثم أردفت: "هذه قطعة من ورق وجدتُها في المطبعة، وهي منزوعة من الكتاب المقدس". لقد كانت قصاصة ورق ممزقة وبالكاد كان يمكن قراءة سطرين فيها. في السطر الأول كان مكتوباً: "هكذا أحبّ الله العالم"، وفي السطر الثاني كُتِبَ: "حتى بذلَ". فقالت الفتاة: "انظري يا أمي، هذا يجعل الأمر معقولاً ومقبولاً". قرأت أمّها القصاصةَ وقالت: "هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل". وأضافت: "ولكنها لا تقول ما بذله". فقالت الفتاة: "يا أمي، إن كان أحبّنا بما فيه الكفاية ليقدّمَ أي شيء، فهذا أمرٌ جيد". وعندها قالت الأم: "ولكن، دعيني أخبرك بما بذله وما أعطاه". وقرأت: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". ثم أخبرتها كيف يمكننا أن نحظى بالسلام والحياة الأبدية من خلال إيماننا به.

هل بين المستمعين إليّ اليوم من يخاف من لقاء الله؟ هل تفكرون في خطاياكم وتقولون مع داود العهد القديم: "أَذْكُرُ اللهَ فَأَئِنُّ" (مز ٧٧: ٣)؟ دعوني ألفت انتباهكم إلى هذه المسألة: إن محبة الله قد تجلّت في المسيح. يكفي أن تأتوا كخطاة محتاجين وهو سيغسل خطاياكم ويزيلها. لعلكم تقولون: "أنى لي أن أكون على يقين أن هذا كان من أجلي؟ أستطيع أن أفهم أن الله يمكن أن يحب بعض الناس. أستطيع أن أفهم كيف بمقدوره أن يدعو أناساً معينين ليؤمنوا به. حياتهم أفضل من حياتي بكثير، ولكني لا أومن أن هذا الخلاص لي أنا أيضاً". حسناً، هل من كلمات أوضح من قوله: "كل من"؟ "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". ما من كلمة أكثر دلالة من هذه. إنها تأسر لبّك. إنها تشدّني كثيراً وتلفت انتباهي. تمر هذه العبارة، "كل من"، كثيراً في الكتاب المقدس. فهناك "كل من" تتعلق بالدينونة: "كُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ" (رؤيا ٢٠: ١٥). إن كلمة "كل من" هنا تشتمل على كل الذين لم يأتوا إلى الله بينما كان ينتظرهم ليخلّصهم بنعمته ورحمته. لو أنهم أدركوا أنهم كانوا مشتَمَلين في هذه الـ "كل من" التي يتكلّم عنها يوحنا ٣: ١٦، لما وَجدوا أنفسَهم في تلك التي في رؤيا ٢٠: ١٥.

كتب لي أحدهم يوماً: "لقد جاء رجلٌ إلى جماعتنا وكرز بكفّارة محدودة. إنه يقول أنها لحقيقةٌ رائعة قد انكشفت له مؤخراً فقط". فما كان مني إلا أن كتبتُ إلى ذلك الأخ قائلاً له: إن فكرة "الكفارة المحدودة" غريبةٌ بالنسبة لي. فلا أجد أي شيء من هذا في الكتاب المقدس بل أقرأ أنه "ذاق الموتَ عن كلّ إنسانٍ". وأقرأ أن: "هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضاً" (١ يوحنا ٢: ٢). وأقرأ أن: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أش ٥٣: ٦). وهنا أقرأ: "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". أقول لكم، كما قلتُ لذاك الذي أرسل لي الرسالة، أن هناك قيمة عظيمة في العمل الكفاري لربنا يسوع المسيح تكفي لخلاص كل أعضاء الجنس البشري، إن تابوا وجاءوا إلى الله وحسب؛ وعندها، إن خلصوا جميعاً، ستكون هناك قيمة باقية كافية لأن تخلّص أناساً من ملايين العوالم كهذه، إن كانوا ضالّين وساقطين في الخطيئة، وفي حاجة إلى المخلص. نعم، إن ذبيحة المسيح هي ذبيحة لا متناهية. لا تدعوا عدوَّ نفوسكم يقول لكم أنه ليس لكم رجاء. لا تسمحوا له بأن يقول لكم بأنكم أخطأتم بما يفوق رحمة الله؛ أو أنكم ابتعدتم كثيراً حتى أن الله ما عاد يرحمكم. هناك حياة وافرة لكم، وما عليكم سوى أن ترفعوا أبصاركم فتنظروا إلى وجه ذاك الذي مات على صليب الجلجثة وتؤمنوا به بأنفسكم. دعوني أقول لكم: "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

"كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ". ما معنى أن تؤمن؟ إنها تعني أن تضع ثقتك فيه؛ أن تتكّل عليه؛ أن تسلّم إليه نفسَكَ وأمورَكَ. إنه يقول لك، أيها الخاطئ البائس المعوز: "لا يمكنك أن تخلّص نفسَكَ. كل جهودك لفداء نفسك ستبوء بالفشل وحسب، إلا أني قدّمتُ ابني ليموت عنك، فأمن به، ثق به!" "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ".

كانت سيدة تقرأ في العهد الجديد اليوناني في أحد الأيام. كانت تدرس اللغة اليونانية وأحبّت أن تقرأ الكتاب المقدس باليونانية. لم يكن لديها يقين بالخلاص. وبينما هي تتأمّل في الكلمات التي تقول: "كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ"، قالت في نفسها وهي تنظر إلى الكلمة اليونانية التي وردت بمعنى "يؤمن": "لقد رأيتُ هذه الكلمة قبل بضعة آيات". فعادت إلى الأصحاح ورجعت إلى الآية الأخيرة من الاصحاح الثاني وقرأَتْ: "آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ" (يوحنا ٢: ٢٣- ٢٤). وقالت: "آه. هي ذي. يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ"، وتوقفت لبرهة وفكّرت، وأشرق نور من السماء في نفسها. لقد رأت أن الإيمان بيسوع يعني أن تأتمنه على نفسها. هل فعلتَ ذلك؟ هل قلت:

"يا يسوع، سأومن بك، سأومن بك بروحي،
وأنا متعب ممزق يائس، فأنت تشفيني.
ما من أحد في السماء أو في الأرض مثلك،
لقد مُتَّ عن الخطاة؛ وبالتالي عني يا رب".

والآن، "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ". بينما تقلبون صفحات الكتاب المقدس ستتضّح الصورة عن أولئك الذين رفضوا رحمته ونعمته. أن تهلك يعني أن تمضي إلى الظلمة؛ أن تبقى إلى الأبد تحت الدينونة؛ أن تدخل إلى عذاب مريع. إنه يريد أن يخلّصَك من ذلك. "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

كلمة "تكون" هنا تفترض أنه سيملك الحياة الأبدية الآن. إنه لا يقول "يأمل في الْحَيَاة الأَبَدِيَّة". ستنال حياة أبدية هنا والآن عندما تؤمن بيسوع، عندما تثق به. كان أحدهم يتأمّل في هذا يوماً ما ثم رفع بصره إلى العلاء وقال: "أحبّ اللهُ- بذل الله- أومن- ولدي- حياة أبدية". تذكّروا أن الحياة الأبدية هي أبعد من الحياة إلى الأبد. إنها أكثر من الوجود الذي لا نهاية له. إنها الحياة التي يعطيها الله للنفس لكي نتمتع بالشركة معه. "هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يوحنا ١٧: ٣).

في الأصحاح ٣، الآية ١٧، نجده يشجع أشد الخطاة إثماً على المجيء إليه، فيقول: "لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ".

أتذكّر قبل سنوات ماضية، عجوزاً عزيزاً كان وراء نضد في متجر تنويعي كبير في لوس أنجلوس، حيث كنت أعمل وأنا غلام. لقد كان العجوز لطيفاً جداً معي. لقد كان يرى أني كنتُ غضاً جداً وما كنت أعرف ما يُتوقّع مني. لقد أخذني تحت جناحه واعتنى بي. وسرعان ما صرتُ مهتماً بمحاولة معرفة إذا ما كان قد خلص أم لا. كانت أمي العزيزة، وبعد فترة قصيرة من تعرفها إلى الناس، تسارع إلى سؤال كل شخص السؤال التالي: "هل أنت مُخلّص؟ هل أنت مولود ثانيةً؟" واعتدْتُ على سماعها تطرح هذا السؤال حتى أني صرتُ أفكّر أنه ينبغي علي أن أطرحه على الناس أيضاً. فذهبتُ إلى ذلك الرجل العجوز في أحد الأيام وقلتُ له: "يا سيد والش، هل أنت مُخَلّص؟" فنظر إليّ وقال: "يا بنيّ العزيز، ما من أحد سيعرف أبداً ذلك حتى يأتي يوم الدينونة". فأجبتُه قائلاً: "لا، لا بد أن هناك خطأ؛ فأمي تعرف أنها مخلّصة". فقال: "حسناً، فقد ارتكبت خطأً إذاً. ذلك لأنه ما من أحد يمكنه أن يعرف ذلك". فقلت له: "ولكن الكتاب المقدس يقول: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". فقال: "حسناً. لا يمكننا أن نكون على يقين من ذلك ونحن هنا على الأرض ما لم نصبح قدّيسين عظماء. ولكن علينا أن نبذل قصارى جهدنا وأن نصلّي إلى الرب والعذراء مريم والقدّيسين ليساعدونا، ونرجو أن نعرف في يوم الدينونة أننا مخلّصون". قلتُ له: "ولكن، لماذا تصلّي للعذراء مريم المباركة؟ لماذا لا تذهب مباشرةً إلى يسوع؟" فقال: "يا بني العزيز، إن الربّ عظيم وقدير وقدّوس جداً فلا يليق بخاطئ بائس مثلي أن يذهب إليه، وليس من أحد آخر له تأثير عليه بمقدار أمه". لم أعرف ما أقول له آنذاك. ولكن بعد أن درسْتُ الكتاب المقدس عبر السنين، أمكنني معرفة الجواب. ألا يمكن الدنو من يسوع؟ هل من الصعب أن نتواصل مع يسوع؟ لماذا نفكر هكذا في حين قيل عنه أنه: "يستقبل خطاة"؟ ورغم أنه سامٍ عالي المقام في المجد السماوي، فإنه لا يزال يقول للخطاة: "تعالوا إليّ أيّها المتعَبُون". نعم، يمكنك أن تذهب مباشرة إليه، وعندما تؤمن به فإنه يعطيك حياة أبدية. لم يأتِ ليدينَ العالم. لقد جاء بقلب مليء بالمحبة كي يربح الخطاة البؤساء إلى نفسه.

وهنا نأتي إلى الآية ١٨ التي هي في غاية الوضوح والبساطة. إن كانت نفسك تواقة وتسعى وراء النور، تذكّرْ أنّ هذه هي كلمات الله الحي: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". أترون ذلك الآن؟ هناك فئتان من الناس في هذه الآية. كل الناس في العالم، الذين سمعوا الرسالة منقسمون إلى فئتين، ما هما؟ الأولى: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ". فها هنا أولئك الذين يؤمنون بيسوع. إنهم متمايزون ظاهرون بوضوح. وأما الفئة الأخرى، "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ". كل من سمع يسوع هو في أحد هاتين الفئتين. إما أن تكون بين أولئك الذين يؤمنون بيسوع أو بين أولئك الذين لا يؤمنون به. إنها ليست مسألة اعتقاد حول يسوع، أو عن يسوع؛ إنها مسألة إيمان بيسوع. ليس الأمر هو تكوين آراء فكرية عنه، أو مجرد حقائق تاريخية، بل إنه الثقة به وتسليم الذات له. إذاً هناك أولئك الذين يؤمنون بيسوع وأولئك الذين لا يؤمنون به- فبأي المجموعتين تجد نفسَك؟ "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ": أأنت من بينهم؟ "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ" به: أأنت هناك؟ إن كنت كذلك، فعليك أن تسارع لأن تخرج من تلك المجموعة إلى الأخرى، ويمكنك أن تخرج من إحدى الفئتين وأن تدخل إلى الأخرى بمجرد أن تؤمن بيسوع.

هل أنت في المجموعة الأولى؟ "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ". أتؤمن بذلك؟ لقد قال يسوع: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ".

كنتُ في كيلمارنوك قبل ثلاث سنوات وألقيتُ خطبةً في إحدى الأمسيات في الغرانت هول، وجاء عدد من الناس إلى غرفة الاستعلامات وذهبتُ إليهم فيما بعد لأرى انطباعهم عن الأمور. واتصل بي قس وقال: "هلا تتحدث قليلاً إلى هذا الفتى؟" فجلستُ إلى جواره وقلت: "ما الأمر؟" فرفع بصره وقال: "لا أستطيع أن أفهم الأمر. لا أستطيع أن أفهم. أنا مثقل جداً بالخطايا، ولا يمكن أن أخلص". قلتُ: "هل نشأتَ في بيت مسيحي؟" فقال لي أنه كان كذلك. وسألتُه: "هل تعرف طريق الخلاص؟" فأجاب: "حسناً، أعرف ذلك، نوعاً ما، ولكني لا أستطيع أن أفهم الأمر". فقلت: "دعني أُريكَ شيئاً". صلَّيْتُ معه أولاً وسألتُ الله، بالروح القدس، أن يفتح قلبه. ثم أشرتُ إلى هذه الآية وقلت له: "أترى هاتين الفئتين من الناس؟ من هم الفئة الأولى. ومن هم الفئة الثانية؟" أجاب بوضوح. فقلتُ له: "والآن، في أية فئة أنت؟" وهنا نظر إليّ وقال: "على ما أعتقد، أنا في الفئة الأولى. فإني أومن به حقاً، ولكن الأمر كله غامض ومعتم بالنسبة لي. لا أستطيع أن أرى شيئاً". فقلتُ له: "والآن انظر ثانيةً. ما الذي يقوله عن الفئة الأولى؟" فنظر إليّ من جديد وأمكنني أن أرى السحابة تنقشع ووجدتُه يلتفت إلي ويقول: "آه، لقد فهمتُ ذلك يا رجل! فأنا لستُ مُداناً". وهنا سألتُه: "أنى لك أن تعرف؟" فأجاب قائلاً: "لقد قال الله ذلك". فقال القس: "حسناً، يا بني، هل أنت مستعد أن تذهب الآن إلى البيت وأن تخبر والديك؟ وغداً عندما تذهب على عملك، هل ستكون على استعداد لأن تخبر أقرانك؟" فقال: "أكاد لا أطيق صبراً لأن أصل إلى هناك".

والآن، لنفترض أنكم في المجموعة الأخرى. أصغوا إليّ، "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ". لستم في حاجة لأن تنتظروا يوم الدينونة لتعرفوا ذلك. مدانون؟ لماذا؟ لأنكم لم تكونوا صادقين؟ لأنكم كذبتم؟ لأنكم كنتم دنسين غير أنقياء؟ أهو كذلك؟ ليس هذا ما تقوله الآية هنا. ما الذي تقوله؟ اَلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". تلك هي الدينونة. كل تلك الخطايا التي كنتَ مذنباً بها، دفع المسيح حسابها عندما مات. "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣: ٥). ولذلك، فإن كنتم مدانين، فذلك ببساطة، ليس بسبب الخطايا الكثيرة التي ارتكبتموها طوال حياتكم. بل إن ذلك بسبب رفضكم وبازدراء للإعلان الذي كشفه المخلّص الذي أرسله الله. إن أشحتم عن الله واستمريتم في رفضكم ليسوع، فإنكم ترتكبون أسوأ خطيئة. لقد جاء، نوراً، إلى العالم لينير الظلمة. فإن أشحتم بوجهكم عنه، فإنكم مسؤولون عن الظلمة التي ستعيشون وتموتون فيها.

"وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" (يوحنا ٣: ١٩). لا غرابة في أن الناس يفضلون الاستمرار في الظلمة بدل أن يتحولوا إليه، وهو نور الحياة، ويجدوا انعتاقاً. "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ". هل ستدير ظهرك إلى النور اليوم أم أنك ستأتي إليه؟ هلا تثق بذاك المبارك الذي هو نور العالم، وهكذا تبتهج بالخلاص الذي يقدمه لك مجاناً؟

الخطاب ١٠

نهاية شهادة يوحنا المعمدان

"وَبَعْدَ هَذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ. وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ - لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ. وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ. فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» أَجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ. مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ. يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا. وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ. اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ»" (يوحنا ٣: ٢٢- ٣٦).

"وَبَعْدَ هَذَا"- أي بعد خدمة ربنا في مدينة أورشليم ولقائه بنيقوديموس، التي تأمّلنا فيها لتونا- "جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ". لقد خرج من مدينة أورشليم إلى الريف المحيط بها وهو يكرز ويعلّم. "ومَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ". في الواقع، إننا نعلم من الأصحاح الرابع، أنه ليس الرب هو من كان يقوم بشعائر المعمودية؛ بل بينما كان يكرز والناس تؤمن برسالته، كان تلاميذه يعمّدونهم بناء على أوامره.

والآن، من المذهل جداً أن السابق للرب يسوع المسيح لم يكن بعيداً كثيراً عنه، بل كان لا يزال يستمر في خدمته. نقرأ أن "كَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ". عَيْن نُون هي في وادي الأردن حوالي عشرين شمال المنطقة التي كان فيها الرب يسوع في تلك الآونة، وتجمع أناسٌ كثيرون هناك ليسمعوا يوحنا وهو يعظ برسالة التوبة تجاه مغفرة الخطايا. لقد كان قد أشار لتوه إلى الرب يسوع على أنه "حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد كان المخلّص قد ذهب خارجاً إلى البرية لأربعين يوماً من الصيام وهناك تجرّب (من الشيطان). كان قد عاد إلى أورشليم وبدأ شهادته العلنية هناك، وكان معظم الناس قد رفضوها، أما نيقوديموس فكان نفساً صادقة مهتمة حقاً برسالته. والآن ها هي خدمة الرب الشخصية تتسع، وتمتدّ أكثر. ولكن يوحنا كان يتابع الكرازة في نفس الوقت، "لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ".

بعد ذلك بوقت قصير جرى اعتقالُه. وتذكرون مناسبة ذلك. فهيرودس كان مهتماً كثيراً جداً بيوحنا (المعمدان)، وكان قد أرسل في طلبه في عدة مناسبات، وكان يُسَرُّ بسماعه يكرز، ولكن هيرودس كان آثماً بخطيئة مميتة، تشكل مخالفة لنواميس الله والإنسان: فقد كان يعيش في علاقة زنى مع زوجة أخيه فيلبس، هيروديا. بسبب سلطة مكانته، كان قليلون فقط يجرؤون على انتقاده، ولكن يوحنا المعمدان وقف أمامه وأعلن قائلاً له بدون خوف: "لا يحلُّ لك أن تحظى بها". طالما كان يوحنا يكرز بالتوبة، وطالما كان يكرز بمغفرة الخطايا، بطريقة تنطبق على الجميع، كان هيرودس يصغي إليه؛ ولكن يوحنا تكلّم إليه بشكل شخصي مباشر في هذه المسألة وأشار إلى خطيئته الذاتية، وعبّر عن الاستنكار الإلهي على تعدّيه هذا، فهكذا تحرّكت الضغينة في نفس هيرودس فوضَعَ المعمدانَ في السجن. وتعلمون أنه فيما بعد، ولإرضاء  كراهية هيروديا، وهي امرأة تعرضت للاحتقار والازدراء، قُتِلَ يوحنا المعمدان. ولكن هذا لم يكن قد حدث بعد، وكان يوحنا لا يزال يكرز إلى الجموع ويعمّد أولئك الذين كانوا يظهرون دليلاً على التوبة. لقد كانت الخدمتان تسيران معاً جنباً إلى جنب، ومن الواضح أن اليهود كانوا مستغربين من ذلك، لأنه "حَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ". لقد رأوا في المعمودية رمزاً للتطهير. المعمودية لا تطهّر النفس فعلياً، ولكنها ترمز إلى إزالة الخطيئة بالغسل. "فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ»". لكأنهم كانوا يقولون له: "يا يوحنا، لقد بدأ نجمك بالأفول، ونجمه في صعود الآن. فما هي إلا برهة ويذهب الجميع إليه ولن يتجمهر أحدٌ حولك ليسمعك".

كم كان جميلاً رد يوحنا (المعمدان)! ليس من ذرة تكبّر لدى هذا الإنسان، وليس من ذرة من توكيد الذات. ما كان مهتماً أبداً بجمع تلاميذ حوله. "أَجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ". يمكننا إعادة صياغة هذه الكلمات على الشكل: "لم آتِ لألفتَ انتباهَكم إليَّ. لقد جئتُ فقط كسابق لذاك الممسوح الموعود. عندما سألتموني: "هل أنت ذاك النبي الآتي إلى العالم، الذي تحدث عنه موسى؟" قلتُ لكم أني لستُ هو. وعندما سألتم: "من تكون إذاً ولماذا تعمّد؟" قلتُ لكم بوضوح: "أنا مجرد صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة". إنه لشرفٌ لي أن أعلن عن مجيء المخلص الذي يرسله الله، من سيأتي بالفداء لإسرائيل والعالم".

ثم يستخدم صورة تشبيهية جميلة للغاية في الآية ٢٩. فيقول: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ". بمعنى آخر، يشير يوحنا إلى أمرٍ كان مألوفاً بالنسبة لهم جميعاً. ففي العرس، تكون العروس هي المهتمة بعريسها والعريس يجد فرحته في عروسه، ولكن كان لديهم آنذاك، كما الحال الآن، ما يسمى "إشبين"، ألا وهو صديق العريس. وصديق العريس كان يجد مسرّته في فرحة العريس. ولذلك يقول يوحنا: "أنا مثل ذاك. أنا صديق العريس. الرب يسوع نفسه هو العريس. والعروس تخصه ولا تخصني أنا. إني أبتهج بمسرته. ولستُ أشعر بأني مهملٌ ولا أشعر أني محيّد أو مهمّش لأني لا أستطيع أن أدّعي المحبة والولاء والخلاص للعروس.

بالطبع تكلّم يوحنا هنا من وجهة نظر يهودية. فبحسب العهد القديم، إسرائيل كان العروس، والرب كان العريس. والله تجسّد في شخص ربنا يسوع المسيح. فقال يوحنا المعمدان: "أنا هنا فقط لأعلن مجيئه، والعروس هي له". ولكن الله كانت لديه أفكار أخرى في ذهنه لم تكن قد توضّحت بعد عندئذ. ففيما بعد أظهر أنه بسبب موقف إسرائيل نحو ابنه المبارك فإنهم سينحّون جانباً لفترة طويلة، ستُعرف بـ "زمن الأمميين"؛ وخلال هذه الفترة فإن الله، بالروح القدس، سيتّخذ شعباً باسمه لأجل اسم الرب يسوع، وهذا الشعب يسمّيه "عروس الحمل".

لدينا حديث عن عروس سماوية في الأصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل أفسس، حيث يوضح الرسول مسؤوليات الزوج والزوجة في علاقة الزواج. إنه يلفت انتباهنا إلى ما حدث في البدء، عندما أعطى الله جدينا الأولين كلاً منهما للآخر، فيقول: "الذي خلقهما من البداية قال: "منْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الِاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً"." (أفسس ٥: ٣١). وفي الحال يضيف (الرسول بولس) قائلاً: "هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ" (أفسس ٥: ٣١). إنه يظهر لنا أن علاقة الزواج قد أراد الله بها أن تصوِّرَ الاتحاد الأسراري بين المسيح والكنيسة. ولذلك فإن الكنيسة هي "العروس، عروس الحمل". وإننا نراها في الأصحاح ١٩ من سفر الرؤيا في وليمة عرس الحمل، فهناك نقرأ: "وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا".

تذكرون في ذلك الأصحاح أن لدينا فئتين مختلفتين في وليمة العرس. لدينا أصدقاء العروس، ومن ثم لدينا أصدقاء العريس، الذين اعتبر يوحنا نفسه منهم هنا: "طُوبَى لِلْمَدْعُوِّينَ إِلَى عَشَاءِ عُرْسِ الْحَمَلِ" (رؤيا ١٩: ٩). العروس لا تُدعى إلى وليمة عرس الحمل. غالباً ما يكون لدينا عرس ويحدث بعد العرس حفل استقبال من أجل لمباركة للعروسين. إن الأصدقاء الذين يحضرون حفل الاستقبال مدعوون هناك. إنهم يتلقّون دعوات ليكونوا حاضرين؛ إنهم أصدقاءٌ مقرّبون للعريس والعروس. ولكن العروس لا تتلقى دعوة؛ إنها هناك لأنها العروس. إنه عرسها وإنه حفل استقبالها. فهي ليست في حاجة لأن تُدعى إلى وليمة العرس. وإذ ننظر إلى هذه الصورة الرائعة الموجودة في سفر الرؤيا، فإننا نرى العروس نفسها (أي كنيسة البواكير) مقترنةً في ذلك اليوم بالعريس، ربنا يسوع المسيح. ومن ثم نرى جميع قدّيسي العهد القديم للضيقة العظيمة، الذين قتلهم الوحش وضد المسيح وقد أُقيموا عند ختام زمن الاضطراب ذاك، ويكونون جميعاً هناك، ضيوفاً إلى العرس ليبتهجوا بالعريس والعروس. ومن هنا قال ربنا يسوع عن الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أنه "لَمْ يَقُمْ بَيْنَهم أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" (متى ١١: ١١). لقد كان يوحنا (المعمدان) البوّاب عند باب الملكوت، ولكنه لم يحيا ليدخل بنفسه. لم يصبح عضواً في كنيسة الله الحي، رغم أنه بشّر بمجيء ذاك الذي هو الآن رئيس تلك الكنيسة. لعلكم تقولون: "هل تقصد القول أن يوحنا لم يكن مسيحياً؟" لنكُنْ حذرين في فهمنا لمعنى كلمة "مسيحي". الكلمة ليس مرادفة لـ "ابن الله". قدّيسوا العهد القديم خلصوا جميعاً، وكانوا جميعاً "أولاد الله"، ولكنهم لم يكونوا "مسيحيين". التلاميذ دُعيوا مسيحيين أولاً في الدهر التدبيري الجديد. المسيحي هو من يتّحد الآن بالمسيح في المجد، وهؤلاء هم الذين يشكّلون عروس الحمل.

وهكذا أخذ يوحنا مكانةً ثانوية وكان مبتهجاً بفضل فرحة العريس، ومن جديد أعلن قائلاً، كما في مناسبة سابقة: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ". لقد عبّر الرسول بولس عن الأمر نفسه تقريباً عندما قال، في الأصحاح الأول من رسالة فيلبي، أنه كان سيفرح كثيراً إنْ "يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ. لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (فيلبي ١: ٢٠- ٢١). أتساءل إذا ما كنا، كأولاد الله اليوم، يمكن أن ندخل إلى هذا؟ هل نرضى أن نخدم بدون أن نظهر شخصياً، أم أن لدينا طموح أن نُحسَبَ أشخاصاً عظماء أو شيئاً عظيماً في عالم رفض ربنا يسوع المسيح؟ هل نسعى وراء مناصب السيادة والسلطة أو التميز حتى في كنيسة الله نفسها؟ إن هذا يعني التنكر للروح التي شُوهِدَتْ في يوحنا المعمدان وفي الرسول بولس. لقد كانت رغبتهما الجدية الوحيدة هي أن تتقدّم كنيسة المسيح، وكانا بأنفسهما مستعدّين لأن يتراجعا إلى الخفاء بعيداً عن الأنظار. هذا يتّضح بشكل جميل في الأصحاح الثاني من الرسالة إلى أهل فيلبي، حيث يكتب الرسول بولس إلى أولئك القديسين في تلك الكنيسة قائلاً: "لَكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أُقَدّم أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ" (فيلبي ٢: ١٧).  الكلمة المترجمة "أُقَدّم" هنا هي في الأصل اليوناني بمعنى "أَنْسَكِبُ". "لَكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ". إنه يشير إلى ذبيحة المحرقة. في زمن العهد القديم، كلما كانوا يقدّمون محرقةً أمام الرب، كانت كلّ أجزاء الأضحية تُغسل ثم تُوضع على النار، وكانت كلها تُحرق كذبيحة وتُصعّد أمام الله، وبذلك ترمز إلى تقديم ابنه المبارك. ولكن قبل أن يُكمل الكاهن دوره في الخدمة، كان يأخذ إبريق الخمر (الذي كان يُدعى "السكيب") وكان يسكب الخمر على كل التقدمة. إن السكيب كانت تصوّر الرب يسوع المسيح في سكبه لنفسه إلى الموت من أجلنا. ولكن، كما ترون، إن كان العابدون يجتمعون، كان في مقدورهم أن يروا المحرقة على المذبح، ولكن إن كان الخمر قد سُكِبَ عليها فما كانوا يستطيعون رؤية السكيب. لقد كان الخمر يختفي عن النظر في الحال وما كانت تبقى سوى ذبيحة التقدمة. وقال بولس، وهو يكتب إلى أهل فيلبي هؤلاء: "إني أودّ أن تأخُذَ ذبيحتُكم وخدمتُكم مكانةَ المُحرقة وأن أكون مِثلَ السكيبةِ، فأُسكَبَ على التقدمةِ التي تصنعونها". بمعنى آخر: إني لمستعدٌ لأن لأقوم بعملي لأخدم الرب يسوع المسيح في يومي في جيلي وألا أظهر أو أبرز أمام الناس. إني على استعداد لأن ينال الآخرون المجد، إن كان هناك من مجد، لأجل العمل الذي يُصنع". يا لها من روح رائعة هي تلك التي كان يتمتع بها بولس! وكم نحن في حاجة لأن نصلي لكي نتعلّم أكثر عن حلم المسيح ولطفه، تلك الروح التي تقول: "لا بأس عليّ. إن كان المسيح يتمجّد، فهذا كل ما يهمّني. لا أريدهم أن يفكّروا بي. لا أريدهم أن يقدّروني".

عندما كان وليم كاري يحتضر، التفت إلى صديق له وقال: "عندما أكون قد مضيت، لا تتحدّث عن وليم كاري؛ تكلّم عن مخلّص وليم كاري. إني لأرغب أن يتعظّم المسيح وحده". وهكذا الحال مع يوحنا هنا: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ".

ويا لها من شهادة يقدّمها لنا! أقول أني أخشى أن كثيرين منا يخفقون في إدراك أن يوحنا المعمدان قد دخل بشكل كامل إلى الحق المبارك الذي جاء بيسوع المسيح. إننا نتخيل أحياناً أنه كان لديه نور ضئيل جداً وفهم قليل جداً لشخص الرب وكامل حقيقة الفداء. ولكن، دعونا لا ننسَ، أنه هو الذي كان قد هتف قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. وهو الذي قال "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ". وهنا في الآية ٣١ (يوحنا ٣: ٣١) نجد تقديراً رائعاً يُقدّمه يوحنا (المعمدان) لربنا المبارك. فيقول: "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ". لقد كان يوحنا يعرف أنه جاء من فوق؛ لقد كان يوحنا يعرف أنه لم يبدأ الحياة عندما وُلِدَ من العذراء مريم المباركة؛ ويوحنا كان يعرف بوجوده السابق مع الآب قبل أن يكون العالم. يقول: "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ". عندما يتكلّم الناس بروح تكبّر وخيلاء وتنافس فإنهم يتكلّمون كما أهل الأرض. ذلك النوع من الأشياء يخصّ الأرض وليس السماء.

"اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا". هذا يعني أن الإنسان الطبيعي، الذي لا تعينه النعمة الإلهية، لا يقبل أبداً شهادة الله. ولذلك يُقال لنا في الأصحاح الثالث من الرسالة إلى رومية: "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ" (رومية ٣: ١١- ١٢). إن كنتم تجدون أبداً نفساً تسعى وراء الله فاعلموا أن روح الله في قلب تلك النفس. الإنسان الطبيعي يسلك طرقه الخاصة. إنه لا يهتم بالأمور الإلهية. وهذه، بالمناسبة، قد تساعد بعض المضطربين والقلقين.

لطالما التقيتُ بأناس يأتون إليّ ويقولون: "إني أتوق إلى يقين خلاصي. لقد أقبلْتُ إلى المسيح، وطلبتُ من الله أن يخلّصني. إني أومن أن يسوع مات من أجلي. ولكني بائس جداً بخصوص خطاياي. وليس لدي يقين، ولا أشعر بالسلام، وليس لي ثقة بأن الله قبلني". أقول لمثل هؤلاء الناس: "لا تخافوا، يا أصدقائي الأعزّاء؛ ما من إنسان طبيعي يطلب الله. إن حقيقة مروركم بكل هذه الخبرات هي دليل على تجددكم". خذ جثةً موضوعةً هنا، وضع خمسة هَنْدْرِدْوَيْتات ١ من الرصاص على صدر هذه الجثة. لن تبدي الجثة أية علامة لألم أو انزعاج. لماذا؟ لأن الرجل ميت. ولكن إن وضعت خمسة الهَنْدْرِدْوَيْتات هذه ووضعتها على إنسان حي، فماذا سيحصل عندئذ؟ زعيق ألم وصرخات تطلب التخلص من هذا الثقل. لماذا؟ لأن ثمة حياة هنا. هذا هو السبب في أن الناس مضطربون وقلقون جداً إزاء خطاياهم. ذلك لأن هناك حياة إلهية، فالله قد بدأ العمل لتوه ولذلك، إن كانت تلك هي حالتك، فالحمد لله أن روحه قد بدأت تعمل في نفسك. وكن مقتنعاً "أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (فيلبي ١: ٦). والآن ثقوا بكلمة الله، آمنوا بما قاله عن ابنه المبارك، واقبلوا السلام الذي هو حق لكم. ما من إنسان طبيعي يقبل شهادة الله، ولكن "مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ". ذلك هو الإيمان- إنه مجرد الإيمان بأن الله يعني ما يقول- لا أكثر ولا أقل.

إننا كثيراً ما نضع الكتاب المقدس أمام النفوس القلقة المضطربة ونقول لهم: "والآن، ألا تؤمنون بهذا؟" فينظرون ويقولون: "حسناً، إني أحاول أن أومن". لنأخذ مقطعاً مثل هذا: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). "ألا تريدون أن تعرفوا يسوع؟ هل تطلبون المسيح؟ هل أنتم مستعدون لقبوله؟ حسناً، ماذا يقول الكتاب؟ "كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ". هل تقبلونه؟" ويأتي الجواب: "نعم، أنا أومن. نعم حقاً". "حسناً، إذاً أنت ابن الله؟" "لا أدري، لا أعتقد أني كذلك. لا أشعر بذلك. أخشى أن أقول هذا". ألا ترون أين المشكلة؟ إنهم لا يصدّقون كلمة الله. نقول لهم أحياناً: "حسناً. ألا ترى يا صديقي العزيز؟ يجب أن يكون لديك إيمان، يجب أن تؤمن بما يقوله الله". فينظرون إليك بانذهال قد يثير غضبك ويقولون: "حسناً، أنا أحاول أن أومن". يا لها من إهانة لله! بمَ تحاول أن تؤمن؟ إن الله هو الذي تكلّم، وأنت تقول: أنا أحاول أن أومن؟ إني سهل الانقياد نحو الإثم، لأني إنسانٌ فانٍ، ولكن إن أخبرتك شيئاً يتعلق بما لم تراه أبداً، وإن نظرت إليه وقلت: "هذا مثير للاهتمام، وإني أحاول أن أصدّق وأن أومن"، فإني سأقول: "يا سيدي، إنك تهينني. أتظن أني أكذب عليك؟ ما الذي تقصده بقولك أنك تحاول أن تؤمن أو تصدّق؟ إني أخبرك الحقيقة وأتوقّع منك أن تؤمن وتصدّق شهادتي". لقد تكلّم الله في كلمته ويتوقّع أن يقبل الإنسانُ شهادتَه. هذا هو معنى الإيمان. إنه الإيمان بما قاله الله. "إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ النَّاسِ (ونحن نقبلها حقاً) فَشَهَادَةُ اللهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ اللهِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ابْنِهِ" (١ يوحنا ٥: ٩). نحن نصدّقها، وبتصديقنا لها، فإننا نخَتم أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ. "لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤). الروح بكل ملئه يقيم في المسيح، والكلمات التي نطق بها كانت كلمات اللـه. "اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ". قضى الله أن يملك الرب يسوع كرئيس على هذا الكون لأنه هو خالقُه. فالكلمة نفسه هو الذي جاء بكل الأشياء إلى الوجود إذ أنها خُلِقت به ولأجله.

والآن نأتي إلى الشهادة الأعظم في هذا القسم. ويا لها من شهادة رائعة! لستُ متأكداً تماماً إن كان يوحنا المعمدان قد قال هذه الكلمات أم أن بعضاً منها، وربما ابتداءً من الآية ٣٤، قد دوّنها يوحنا الإنجيلي بيده بوحي إلهي. لا يمكننا أن نعرف أين تنتهي شهادة يوحنا المعمدان وأين تبدأ شهادة يوحنا الإنجيلي كاتب الإنجيل. ولكن إذا اعتبرنا أن المعمدان قد قال ما جاء في الآية ٣٦، فإنها شهادة رائعة عجيبة، وإن اعتبرنا أن يوحنا الرسول هو الذي سطرها بوحي إلهي، فإنها تبقى كلمة واردة إلينا من الله الحي نفسه.

لقد لاحظنا أن الآية ١٨ تقسم البشرَ جميعاً، الذين سمعوا الإنجيل، إلى فئتين. وهذا لا يأخذ بالاعتبار الوثنيين الذين لم يسمعوا الإنجيل. سوف يتم التعامل معهم بحسب النور الذي لديهم، وسيُدانون بسبب خطاياهم الذاتية. هنا من جديد لدينا فئتين. الجزء الأول من الآية يقول: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". هذه هي أول مجموعة. "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". وهذه هي المجموعة الأخرى.

لننظر إلى العبارة الأولى لبضعة دقائق. هل يمكن أن نجد وضوحاً أكثر من ذلك؟ أتريدون أن تتأكدوا من أن لكم حياة أبدية؟ في هذه الحالة، أسألكم هكذا: "أتؤمنون بابن الله؟ هل تضعون ثقتكم في الرب يسوع المسيح؟ هل تسلّمون نفوسكم له وتستندون إلى عمله الذي أكمله، ذلك العمل الذي صنعه على صليب الجلجثة من أجل فدائنا؟ إذاً اسمعوا ما يقول الله نفسه: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". والآن لا تقولوا: "حسناً، ولكني لا أشعر بأي فرق". إنها لا تقول: "ذلك الذي يشعر"، بل تقول: "الذي يؤمن بالابن له الحياة الأبدية".

قبل سنين طويلة، وعظ صديقٌ لي حول هذا النص، وفي نهاية اللقاء، كما يفعل بعض الكارزين في بعض الأماكن الصغيرة، مضى نحو الباب ليحيي الأصدقاء. وجاءت إليه امرأة مضطربة في نفسها، وسلّمتْ عليه، فقال لها: "حسناً، كيف الحال معك اليوم؟ هل خلصْتِ؟" فقالت: "لا أدري يا سيدي؛ آمل ذلك". فقال: "حسناً، دعيني أريك هذه الآية، "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". أتؤمنين بالابن؟" "نعم يا سيدي، أنا أومن به من كل قلبي". "حسناً، إذاً، ألديك حياة أبدية؟" "آمل ذلك؛ آمل أن تكون لي الحياة الأبدية". "اقرأي الآية مرة أخرى". فتقرأها: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". "أتؤمنين بالابن؟" "نعم أومن". "إذاً، ألديك حياة أبدية؟" "إني أرجو ذلك بالتأكيد. إني فعلاً آمل ذلك". "اقرأيها ثانيةً، لو سمحت". وتقرأ من جديد: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". "أتؤمنين بالابن؟" "نعم أؤمن". "ألديك حياة أبدية؟" "آمل ذلك". فقال لها: "حسناً. لقد عرفْتُ المشكلة". فقالت له: "ما المشكلة؟" "عندما كنتِ صغيرةً، كنتِ تهجّئين الكلمات بشكل مختلف عني عندما كنتُ صغيراً". فقالت: "ماذا تقصد؟ لستُ أكبر منك بكثير". "عندما كنتِ صغيرة كنت تهجّئين كلمة "لهم" بـ "يرجون"؛ وعندما كنتُ صغيراً كنا نهجّيء كلمة "لهم" بـ "لهم"." فقالت: "من يؤمن بالابن له حياة أبدية- هكذا أقرأها- نعم، أنا أؤمن بابن الله، وأومن بأن الله يقول أن لي حياة أبدية". وهكذا دخلتْ في سلام.

ومن جديد أعود إلى النص: "مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ". قال غلام صغير للمعلّم الذي في مدرسته: "الإيمان هو أن تؤمن بالله وعدم طرح أسئلة". إنه يعني الثقة بكلمة الله.

انظروا إلى الجانب الآخر من هذه الآية. إنه جانبٌ للحق جليلٌ مهيب جداً بالفعل. "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ". الكلمة اليونانية المترجمة "يؤمن" هنا توحي بمعنى الطاعة في الأصل. وبالتالي فالمعنى هو "الَّذِي لاَ يُطيعُ الاِبْنَ". إن الابن يأمر بأن يؤمنوا. فجاؤوا إلى يسوع وقالوا: "مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟" (يوحنا ٦: ٢٨). ويجيبهم يسوع: "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ" (يوحنا ٦: ٢٩). "وَالَّذِي لاَ يُطيع ِالاِبْنَ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ" (يوحنا ٣: ٣٦). آهٍ، يا للعجز واليأس في تلك الحالة! يا للرعب! ويا للشفقة! ذلك أن الناس سيسمعون الإنجيل مراراً وتكراراً وسيشيحون بوجههم عنه ويعيشون معاندين ويموتون رافضين الإيمان بالمسيح ويذهبون إلى اليأس الأبدي! يا لفظاعة الموت بدون المسيح! انظروا كيف أن هذه الآية الواحدة تتضاد مع جذور الخطأين الشائعين القائلين بإبادة الأشرار والخلاص العالمي الكوني لكل البشر في وقت ما في مكان ما. دعونا ننظر أولاً إلى مسألة الخلاصية ٢. انظروا ما تقول الآية: "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". ليس هناك من فكرة عن أي أمل أو رجاء آخر إن مات الإنسان رافضاً المسيح. إن لم يقبل الإنسانُ المسيحَ في هذا العالم، فهو لن يَرَ حياةً أبداً. قال يسوع: "إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ" (يوحنا ٨: ٢٤). ويضيف قائلاً: "حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا". "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً".

ولكن، من جهة أخرى، هناك أولئك الذين يفكرون قائلين: "حتى لو عشتُ أو متُّ رافضاً المسيح، فإن الموت سيكون نهاية كل شيء. وسأُبادُ كلياً. ولن يكون لي أي شيء في المستقبل فوق ذلك، ولذلك فإني سأمضي من الوجود وكأني لم أكن أبداً". ولكن الكتاب المقدس يقول: "الَّذِي لاَ يُطيعُ الاِبْنَ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". لاحظ الفعل "يمكث". لا يمكنك أن تُقرن منطقياً فكرةَ الغضب الماكث مع انقراض الوجود. وهكذا فإن هذه الآية تحذرنا بمهابة بأنه إن لم نضع ثقتنا بالمسيح في هذه الحياة، فإن غضب الله لا بد وأن يمكث علينا وإلى الأبد.

ولكن لئلا يحصل هذا، مات يسوع. لقد قام بتسوية مسألة الخطية من أجل كلِّ الذين يؤمنون. ودوّن اللهُ قصةَ الفداء في كلمته. والروحُ القدس نزل من السماء ليشهدَ على ذلك. وإن كُنا أنت وأنا نؤمن، فإننا نعرف أن لنا حياة أبدية.


١. الهَنْدْرِدْوَيْت: ( hundredweight ) : وحدة وزن تساوي مئة باوند (في الولايات المتحدة الأميركية) أو ١١٢ باونداً (في إنكلترا) [فريق الترجمة].

٢. الخلاصية: ( Universalism ): عقيدة تؤمن بها بعض الكنائس المسيحية تقول بأن جميع الناس سينْعمون آخر الأمر بالخلاص. [فريق الترجمة].

الخطاب ١١

المسيح والمرأة السامرية

"لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا - مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تلاَمِيذُهُ - تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» - لأَنَّ تلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ﭐذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا» أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ»" (يوحنا ٤: ١- ٢٦).

في تتبّعنا لحياة ربنا المبارك يسوع المسيح، نجد أمراً يلفت انتباهنا ويجب الوقوف عنده، يميز طريقة تعامله مع مختلف النفوس التي كان يلتقي بها. كتبٌ كثيرة عظيمة كُتِبَتْ حول عمل المسيح الشخصي، ولكن ما من كتاب في العالم مفيد في هذا الخصوص بقدر إنجيل يوحنا هذا. هناك قصص كثيرة مختلفة عن أولئك الذين تحادث معهم الرب يسوع المسيح، حتى أننا نجد  كشفاً رائعاً لحكمته العجيبة في إعلانه كلمة الله للنفوس المحتاجة. أحد هذه المشاهد المحببة أكثر هي في هذه المقابلة مع المرأة السامرية.

نعلم من هذا النص أن الفريسيين كانوا يضجّون كثيراً من حقيقة أن يسوع كان يعمّد ويتلمذ الناس، وقد تمّ تناقل خبر أن أتباعه صاروا يفوقون تلاميذ يوحنا عدداً. عندما سمع بذلك، وبسبب أنه لم يُرِدْ أن يبدو كمنافس، فقد ترك اليهودية في الحال وذهب إلى الجليل. في الواقع، نقرأ أن يسوع نفسه لم يكن هو الذي يعمّد، بل ترك تلك المسألة لتلاميذه.

كان اليهودي ليعبر الأردن قرب أريحا ويشق طريقه عبر بيرية، ثم يعود راجعاً قاطعاً المنطقة قرب بحر الجليل في الشمال. أما الرب يسوع المسيح فلم يتّخذ ذلك المسار. ما كان الناموسي المتشدد ليجتاز السامرة؛ ولكن الرب يسوع المسيح سلك الطريق في ذلك الاتجاه لسببٍ واضح هو أنه كان توّاقاً للقاء أولئك السامريين البؤساء عسى يكشف لهم الحقيقة. "وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ". قبل زمن طويل كان قد تقرر في المشورات الأزلية أنه سيلتقي بامرأة سامرية خاطئة بائسة في ذلك اليوم. ما كان الرب ليفوّت تلك الفرصة. ولذلك فقد سار إلى أن اقترب من مدينة سوخار. وهناك قرب بئر يعقوب توقّف، ونقرأ: "فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ". الوقت هنا مختلف عما يرد في الأناجيل الإزائية ١. فالساعة السادسة كانت في الظهيرة الحادة. ولم يكن الناس ليذهبوا عند الظهيرة الحارة إلى البئر ليسحبوا ماءً منه. إلا أن الرب يسوع كان جاساً هناك منتظراً النفس الظامئة. ويقول الإنجيل أنه: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً". أستطيع أن أتصور ذلك المشهد. ها أنا وزوجتي وابنتي نجلس على ذلك الحاجز الحجري عند ذلك البئر في سوخار، وكم يسهل أن نتخيل امرأة قادمةً على ذلك الطريق وتحمل قِدْرَ ماء فوق رأسها، بينما يسوع جالس في انتظارها. لقد جلس عند ذلك البئر وقد تعب من السفر. لقد تعب في سعيه نحو الخطاة. يا لها من نعمة رائعة، فالله السرمدي ارتبط مع بشريتنا لدرجة عرف معها معنى الألم والتعب والكدح.

لقد كانت تعلم أنه يهودي وذلك من الشريط الأزرق اللون الذي كان على هدب ردائه. وفي الحال استشاطت غضباً. فما الذي يفعله هذا اليهودي جالساً عند بئرهم. على الأرجح أنها فكرتْ في نفسها أن: "إن تجرّأ على قول ما يهينني، فسأردّ له الصاع صاعين". ولكن، كم استغربت عندما رفع بصره إليها بلطف شديد وقال لها: "أَعْطِينِي لأَشْرَبَ". لقد كانت تعرف أن اليهودي العادي كان سيرمي الكوب أرضاً محطماً إياه لو عرضت عليه أن يشرب أو قدّمت له الماء ليشرب. ولكن هنا يهودي يطلب هو منها أن تعطيه ليشرب. ولكنها قالت: "كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟" وهنا يضع يوحنا (الإنجيلي) كلمة تفسير. لا أعتقد أنها قالت هذه الكلمات بالضبطـ ولكن روح الله وضع هذه الكلمات بقلم يوحنا لكي نفهم. "لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ".

لاحظوا جواب ربنا المبارك: "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً". يا له من إعلان رائع يتعلّق بعطية الله! أتعرفون عطية الله؟ أتعرفون أن الخلاص هو عطية الله؟ أتعرفون أن الحياة الأبدية هي عطية؟ أتعرفون أن الله ليس تاجراً يسعى لعقد صفقات ومقايضات مع الناس، بل هو مانحٌ معطاءٌ، ويقدّم كل شيء مجاناً؟ يصعب على الناس كثيراً أن يفهموا ذلك، ولذلك فقد اخترعوا كل أنواع الطرق والوسائل التي بها يرجون أن ينالوا الخلاص وهكذا يربحون، في نهاية الأمر، مكاناً في سماء الله. يا صديقي العزيز، إن إله الكتاب المقدس هذا أغنى من يبيع خلاصَه لأي أحد، وإن وضعَ سعراً له أياً كان فإن هذا السعر سيكون غالياً جداً لدرجة أنه ما من أحد يستطيع أن يشتريه. ولكن، الحمد لله، إنه عطية. "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ". كيف نقبل الهدية أو العطية؟ لنفترض أنك أردْتَ كتاباً مقدّساً وأتيتَ إلي، وقلتُ لك: "دعني أعطيك هذا". فإن وضعْتَ يدَك في جيبك وقلت: "لدي خمسة وعشرين سنتاً فقط"، فسأقول لك: "يا صديقي العزيز، لا أريد نقودَك. إني أقدّم لك هذا الكتاب هديةً". ما الذي ستفعله والحالة هذه؟ ستأخذه، على ما أعتقد، وتمضي قائلاً: "هذا الكتاب قُدٍّمَ لي عطيةً مجانيةً". وهكذا هو الحال مع خلاص الله؛ فلا يمكنك أن تفعل أي شيء لتكسبه. "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢: ٨، ٩). هل أتيتَ إليه وقبلْتَ عطيتَه؟ "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ". ولكن لاحظ أيضاً التتمة: "وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ". كم قليلٌ هو إدراكنا لذاك الذي ينطق بهذه الكلمات! من هو؟ إنه ابن الله. ونقرأ: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". ها هو ذا هناك، إلهٌ وإنسانٌ في شخص واحد مبارك مجيد، ولكن المرأة لم تفهم ذلك. لم تكن لديها فكرة عمّن يكون هذا الإنسان. ومن جهته لم يحاول أن يذهِلَها أو يصعقَها، بل فتح أمامها بكل بساطة طريقاً إلى خزائن نعمته. نظرت إليه مرتابةً وقالت: "يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟". يبلغ عمق البئر ٧٨ قدماً. وقالت المرأة: "البئر عميقةٌ وليس لديك ما تسحب به الماء". "فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟" لقد كانت تفكّر فقط في ذلك الماء الطبيعي. أما هو فكان يفكّر في الماء الروحي. الماء أعمق بكثير من ذلك البئر في السامرة. إنه عميق بمقدار عمق محبة الله اللا متناهية وعطفه اللا محدود، الذي يفيض به قلبُه. الماء الذي سيعطينا إياه كنا لنسحبه من أعماق محبة الله نفسها. ولكنها سألَتْه متعجبة: "أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟" لعلّ يسوع قال لها: "أعظم من يعقوب! يا أيتها المرأة البائسة، هل قرأتِ عن قصة أبيك يعقوب، كما تدْعينه، كيف أنه في إحدى الليالي أرسل عائلته وقطيعه عبر المخاض، وانحنى في الصلاة لوحده عندما جاء إليه شخص غامضٌ، ذاك الذي صارعه يعقوب طوال الليل. ثم قال ذلك الشخص المجهول: "أطْلِقْنِي لأنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ" (تك ٣٢: ٢٦). وقال يعقوب: "لا أطْلِقُكَ إنْ لَمْ تُبَارِكْنِي". لعلَّ يسوع قال للمرأة: "أتذكرين تلك القصة؟ حسناً. أنا هو ذاك الذي قابل يعقوب هناك في الظلمة وتغلّب على إرادته العنيدة". ولكنني أخشى أنه لو قال لها ذلك لكانت ستجفل منه معتقدةً أنه كان مخبولاً. وبدلاً من إخافتها، سعى ليصل إلى قلبها وضميرها. وبدون أن يجيبها مباشرةً على سؤالها، ردّ يسوع وقال: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً". لقد كانت تعرف ذلك تماماً! ألم تحاول أن تأتي مرة تلو الأخرى لكي تطفئ ظمأها بالشرب من ذلك البئر، فلا تلبث أن تعطش ثانيةً؟ وهذا يمكن أن يُقال عن كل ما يمكن أن يقدّمه هذا العالم كمسكّن لأشواق القلب البشري. ربما تجرّبون كل ما يمكن أن يقدّمه العالم، ولكنكم ستبقون بدون إشباع. ليتني استطعتُ إقناع كل نفس محتاجة لأن تأخذ هذه الكلمات على محمل الجد وتضعها في القلب، "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً". ما من أحدٍ أبداً وجد رضىً في أمور العالم. إنها لا تستطيع أن تُرضي قلباً قد خُلِقَ توّاقاً إلى الأبدية.

"«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ بِئرَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ»"، أو حرفياً: "يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". ما الذي قصده بذلك؟ أولئك الذين يقبلون رسالة نعمته، الذين يؤمنون بالإعلان الذي أعطاه الله عن المسيح في هذه الكلمة، سيولدون من جديد، وهذا النبع من الماء الحي سيتدفّق في داخلهم وسيجدون رضىً في القلب ما كان لأي شيء من أشياء الأرض ليمنحهم إياه.  

وإذ راحت المرأة تصغي، صار قلبها يتّجه صوب المسيح، وكانت تشعر بأن يسوع كان يعني ما يقوله، ولذلك تسأله باستغراب: "يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ". لم تفهم شيئاً بعد إلا الماء الطبيعي. الأمور الروحية كانت لا تزال خفية عليها. ولكن الرب يسوع يسوع المسيح نال ثقتها. وهذا أمرٌ عظيم، فعندما يحظى الرب يسوع بثقة الناس لا تعود هناك حاجة إلى أي شيء آخر ليصل إلى الضمير. وهكذا فإن الرب، وقد ضَمِنَ أنه ربح قلبَها، شرع يعالج وجدانَها. إنه يتجاوز ملاحظتها ويقول: "ﭐذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا". أستطيع أن أتخيل أنها طأطأت رأسها وقد احمرَّ وجهها ارتباكاً وخجلاً وهي تقول: "لَيْسَ لِي زَوْجٌ". "فقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ". إنه يلفت انتباهها إلى ماضيها الآثم وحاضرها الخاطئ. فتقف هناك، وقد تأثّرت للغاية، ولا تعرف لوهلة ما تقول. من هو هذا الذي أمكنه أن يضع إصبعه على الجرح في حياتها؟ إنه يبدو في غاية اللطف ومراعٍ للمشاعر، ومع ذلك فقد حرّك وجدانَها حتى العمق. فتقول بصدق وبدون تفكير: "يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!". النبي هو الذي يتكلّم باسم الله. إنها تدرك أن هذا الإنسان، الذي لم يلتَقِ بها أبداً، ومع ذلك يعرف كل شيء عن خطيئتها ويعرف عن كل شيء في حياتها، لا بد أن يكون نبيّاً مُرسَلاًَ من الله. لكأنها كانت تقول: "أنا أدرك أنني خاطئة". "أبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ". لا أعتقد أنها أنهت هذه الجملة. أعتقد أنها كانت على استعداد لأن تمضي في جدال طويل، ولكن أعتقد أن سؤالاً طرأ في ذهنها. أين ستذهب للقاء الله بذبيحة خطية؟ كان السامريون يقولون: "على جبل جريزيم". ولكن اليهود كانوا يقولون: "لا، بل إن ذلك لن يفيد. فهيكل الله ذاك غير مُعترفٍ به. إن كنتَ تريد أن تلتقي بالله، فاذهب إلى أورشليم وأعدّ تقدمتَك في الهيكل. فهناك ستكون مقبولة. وهناك ستستطيع أن تعبد الرب الإله". لا أفترض أن هذا الخلاف الطويل الأمد كان ليعني لها الكثير، بأي شكل من الأشكال. ولكنها الآن ترى أنها امرأة خاطئة، وتريد أن تتصالح مع الله،  فإلى أين يجب أن تذهب؟ إنها تريد أن تعرف الله لكي تعبده وتقتبل الغفران منه. فقال لها يسوع: "يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ". ما الذي عناه بذلك؟ لقد كان يعلن أن الساعة لم تأتِِ بعد عندما سيضع الله جانباً كل المقادس الأرضية. إنها ليست مسألة أين تذهب. ليس هناك مشكلة الآن في أين تذهب. يمكنك أن تلتقي بالرب في أي مكان وفي كل مكان إن كنتَ على استعداد لتأخذ مكانتك عنده، وتعترف بخطيئتك، وتقرّ بذنبك. عندها تستطيع أن ترفع قلبك إليه في عبادة، معترفاً به أباً، ففي اللحظة التي تعترف فيها بخطاياك يغفر لك. وهكذا يمكنك أن تكون عابداً لأن الآب يطلب هكذا عبادة. ليس الأمر متروكاً لك لتسعى إليه أو تطلبه أولاً، بل إنه هو الذي يسعى إليك ويطلبك، ويمكنك أن تجده في كل مكان إن كان قلبك صادقاً. "الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا".

بينما كان يسوع يتحدث راحت المرأة تفكر، وتتساءل: أيمكن أن يكون هذا الإنسان الغريب، الذي لم أره من قبل، هو حقاً المسيّا الموعود؟ إنه يتحدث كما لم يتكلّم أي إنسان من قبل. إني أتساءل إذا ما كان من الممكن أن يكون هو المُرسَل الموعود به؟" وتهتف بصوتٍ مسموع قائلةً: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". لقد كانت هناك أسئلة كثيرة، وتقول: أتساءل، أمن الممكن أن يكون هو؟ سيأتي يوماً ما، وعندما يأتي سيوضح كل الأمور ويقوّم كلَّ الطرق المعوجّة. عندما يأتي سيخبرنا بكل شيء. فيقول لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ". ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل شرعت تطرح أسئلة؟ هل عبّرتْ عن كل الأشياء التي تربكها؟ لا، بل لم يعد هناك لديها ما تسأل عنه. لقد نظرت نظرةً واحدة إلى تينك العينين العجيبتين وحصلت على جواب على كل سؤال! فقالت في قلبها: لا بدّ أن هذا هو!" لقد جدت نفسُها اللهَ في المسيح. وآثار ذلك تخبرنا عنها الآيات التي تلي ذلك. هل بين مستمعيّ من لم يجدْه بعد؟ دعوني أقول لكم: لستُم في حاجة لأن تطلبوه في أي مكان آخر. إنه ينتظر أن يكشف نفسَه لكم إن أتيتُم إليه كخُطاة معترفين ووثقتم بنعمته.


١. الأناجيل الإزائية (وأحياناً الأناجيل السينابتية): ( Synoptic Gospels ): هي الأناجيل الثلاثة الأولى في العهد الجديد: متى، ومرقس، ولوقا. وتُسمى هكذا لتشابه الأحداث الواردة فيها حتى أن دارسي الكتاب المقدس يضعون نصوصها إزاء بعضها لأجل دراستها والتعمق فيها والانتباه إلى التفاصيل بينها [فريق الترجمة].

الخطاب ١٢

اهتداء السامريين

"وَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تلاَمِيذُهُ وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا. فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟». فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ. وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ سَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ قَائِلِين: «يَا مُعَلِّمُ كُلْ» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ». فَقَالَ التّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَﭐلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ». فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ. وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ»" (يوحنا ٤: ٢٧- ٤٢).

هناك ثلاثة أقسام متمايزة أمامنا هنا. في الآيات ٢٧- ٣٠ لدينا عودة التلاميذ من المدينة، حيث كانوا قد ذهبوا ليبتاعوا طعاماً، وعودة المرأة السامرية إلى منزلها في سوخار لتقدّم شهادتها هناك. في الآيات ٣١- ٣٨ لدينا كلمات الرب الجدية المتعلقة بالحصاد العظيم للنفوس والحاجة الماسة لمزيد من العمّال والفعلة. وفي الآيات ٣٩- ٤٢ لدينا شهادة السامريين الذين أتوا إلى المسيح بفضل المرأة التي كشف الرب يسوع مسيانيته لها كما يدون الجزء الأول من الأصحاح.

تقرأ في الآية ٢٧: "عند ذلك"؛ أي تماماً في الوقت الذي سمعت فيه المرأة السامرية الرب يسوع يقدّم ذلك الإعلان الرائع: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ"، رداً على قولها المتشكك ونصف المتسائل: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي"، وذلك في اللحظة التي رجع فيها تلاميذ الرب. لقد تعجّبوا من أنه كان يتحدث إلى المرأة. لا شكّ أنهم عرفوا من تكون هذه المرأة، وهذا جعلهم يستغربون أن يكون الرب قد تحادث إليها. ولكن كم كان ضئيلاً فهم الناس للمحبة التي في قلبه! مراراً وتكراراً نجد أناساً معينين ينذهلون بسبب عمق اهتمامه بالبؤساء المبتلين بالخطية، رجالاً ونساءً. لقد كان يحب أن يكون مع الخطاة؛ لقد كان يحب أن يُظهرَ رحمتَه ونعمتَه وحنوَّه لهم. ولكنه لم يحتكّ بالخطاة لكي يسايرهم في طرقهم؛ لقد خرج يطلبهم لكي يربحهم ويبعدهم عن طرقهم وليكشف لهم الله مصدر كل نعمة ورحمة.

ولذلك وقف التلاميذ جانباً هنا، ينظرون في تعجب واندهاش، ولكن لم يُرِدْ أحدٌ منهم في أن يصرّح بما في قلبه. أبوا أن يسألوه: "ماذا تريد منها يا سيد؟" أو: "لماذا تتكلّم معها؟" لا، كان في مقدوره بالتأكيد أن يجيبهم على الفور. كان يستطيع أن يقول لهم: "إني أسعى لخلاص نفسها الثمينة. إني أسعى لأن أعطيها ماء الحياة لئلا تعطش أبداً ثانيةً. أطلب أن أجعلها من خاصتي وأن أطهّرها من كل خطاياها". إن كنتُ أتحدث اليوم إلى أي شخص لا يزال بعيداً عنه، فدعوني أقول أن هذا هو ما يتوق لأن يفعله لأجلكم: "هذا الرجل يقبل الخطاة ويأكل معهم"، قال الفرّيسيون ذلك وظنوا أنهم كانوا يلقون عليه بذلك تهمةً سيئة عندما استخدموا هكذا لغة، ولكن كان هذا لمجد خدمته أن يقبل الخطاة. إني أحبّ تلك الكلمات التي يقولها جون بنيان: "يا لحمل الله هذا! لديه السماء بأكملها لنفسه، آلاف مؤلّفة من الملائكة لتنصاع لأوامره، ولكن هذا ما كان ليرضيه. لقد آثر أن يشاطره الخطاة كل ذلك". وإننا لنودّ أن نرنّم:

"الخطاة سيقبلهم يسوع؛
ويمنح كلمة النعمة للجميع،
لكل من يبتعد عن الطريق القويم،
ويتلكأ ويسقط.
فلنرنّم أيضاً وأيضاً،
المسيح يقبل الناس الخطاة".

لقد قَبِلَ هذه المرأة البائسة الخاطئة. وكشف نفسَه لها. وأعطاها ماء الحياة. وبعدها نقرأ: "تَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ". لاحظوا ما يلي: لقد جاءت عطشى؛ جاءت لتحصل على الماء من بئر يعقوب، ولكنها وجدت في المسيح ذلك الماء الذي يروي ظمأ قلبها فنسيت جرّتَها بفضل محبته، وهرعت إلى المدينة على عجل. "قَالَتْ لِلنَّاسِ: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟»". وهكذا فإن تلك المرأة، التي كانت صغيرة الشأن قبل قليل، والتي كانت مبتلية بالخطية، التي كانت بلا شخصية، قد صارت الآن مبشّرةً مهمة جدية. هذا هو الذي ما برح الرب يسوع يعمله عبر كل القرون، فيكشف نعمته للنفوس المحتاجة، فإن كنتم لم تعرفوا قدرته الخلاصية بعد، فإني أقول لكم أنه ينتظركم ليقدّمها لكم.

ونقرأ بعد ذلك أنهم، أي السامريين، قد "خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ". وفي هذه الأثناء كان التلاميذ يطلبون من معلّمهم (المسيح) أن يتناول الطعام. "فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ»". لقد كانوا مهتمين بسد الحاجات الجسدية المادية. وكان الرب يسوع يفكر بشيء أعلى من ذلك بكثير وأسمى. فأول فكرة كانت لديه هي ليس أن يلبّي رغبات الشهية الجسدية: كان اهتمامه العظيم هو المحبة التواقة الشفوقة نحو الفقراء البؤساء والخطاة رجالاً ونساء، والرغبة في إعتاقهم من بؤسهم وتطهيرهم من إثمهم وجعلهم أنقياء ومقدّسين في نظر الله.

"أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ". بمعنى آخر، لم يكن هناك شيء ليقدّم له هكذا رضى وإشباع، لم يكن هناك شيء يعني له الكثير بقدر رؤية النفوس التواقة المستعدة لاقتبال رسالته. ويا أصدقائي الأعزاء، أريد أن أقول لكل خاطئ بائس مسكين: لا حاجة لأن تتردّد في المجيء إلى الرب يسوع. إنه يتوق لرؤيتك تأتي. يقول لي الناس أحياناً: "أخشى أن أكون خاطئاً كبيراً جداً". لستَ خاطئاً كبيراً جداً بالنسبة له. إنه يحب أن يقتبل حتى أكثر الخطاة إثماً وشراً، وأن يطهرهم من خطاياهم. إنه يترقب أن يفعل ذلك من أجلك أنت أيضاً. "نعم، على حدّ قوله، "أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ".

والتلاميذ، الذين كان تفكيرهم لا يزال على المستوى الطبيعي، التفتوا نحو بعضهم البعض وهزوا رؤوسهم محتارين وقائلين: "ما الذي يقصده؟ أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟" أما يسوع فكان يعرف ما يدور في أذهانهم، فقال: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ". من أجل أن يعمل تلك المشيئة جاء من المجد الذي كان له مع الآب قبل تأسيس العالم. ونسمعه في المزمور ٤٠ يقول: "أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي" (مز ٤٠: ٨). القيام بذلك يعني أن يتّخذ بشريتَنا؛ لقد كان يعني أن يأتي إلى الأرض كطفل صغير مولود من أمّ عذراء؛ لقد كان يعني أن ينمو ويترعرع في الناصرة، تلك المدينة الوضيعة الفاسدة الشريرة- فيكبر في قداسة الحياة ونقاوة القلب، طفلاً لا لطخة خطيئة على وجدانه وغير منجّس بأي فكر شرير وأي شيء دنس نجس، رجلاً يرى أن إرادة الله هي الأمر الأهم والأسمى بالمطلق، رجلاً تقسّت يداه وهو يستخدم أدوات النجارة، ذاك الذي عمل في دكان النجار، فانذهل الناس لاحقاً عندما خرج ليكرز، وقالوا: "أليس هذا هو النجار؟ فكَيْفَ يَعْرِفُ كل هذه الأمور وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟" ولكنه في كل هذه كان يعمل إرادة الله، وكان دائماً وأبداً يتطلّع قدماً إلى الصليب. وفي الوقت المناسب الذي اختاره الله، ترك أدوات نجارته، وترك المحل، وخرج ليكرز بإنجيل ملكوت الله، وليشفي الإنسانية البائسة المحتاجة من أمراضها، وطيف الصليب يلوح أبداً أمام عينيه ووجهه كلما تحرّك. في الأصحاح ١٧ من هذا الإنجيل نراه في حالة صلاة منحنياً أمام الله، وقلبه صاعد إليه، ذاك الذي كان قد أرسله إلى العالم والذي لن يلبث أن يرجع إلى العلاء. فيقول: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ" (يوحنا ١٧: ٤). وفي هذا كان يستبق حدوث عمل الصليب، لأن العمل الذي كان قد أُعطي له بشكل خاص كي يعمله كان أن يصنع كفّارة عن الخطية. إنه يقول: "إنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠: ٢٨). كان ذلك هو العمل الذي أمام ناظريه. ذلك كان العمل الذي وَجَبَ عليه أن يكمله. لن يعود إلى المجد حتى ينجز ذلك العمل الذي كرّس نفسَه من أجله منذ البدء. وهكذا، ففي النهاية، وبعد كل ساعات الألم تلك المروعة المرعبة على خشبة الصليب، عندما جعله الله خطية عنا، ذاك الذي كان بلا خطية، لكي نصبح برّ الله فيه، بعد أن يكون قد شرب، حتى آخر نقطة، كأسَ الدينونة المريرة، الكأس التي ملأتْها خطايانا، بعد أن حمل داخل نفسه كلّ ما كانت تعدّياتنا وآثامنا تستحق، وهو "مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أش ٥٣: ٥)- ثم نسمعه يقول: "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" (لوقا ٢٣: ٤٦)، ويصرخ بصوت عظيم قائلاً: "«قَدْ أُكْمِلَ»" (يوحنا ١٩: ٣٠)، ثم أمالَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. في اليونانية نجد كلمة واحدة فقط وهي: "تَمَّ". وهذه تعني أن عمل الخلاص قد تمَّ؛ فالعمل الذي به يتطهر الرجال والنساء من خطاياهم ويقفون متبررين من أية تهمة أمام الله القدوس، قد تم إنجازه بالتمام، وعلى أساس العمل الذي تم إنجازه يكون الله باراً ويبرّر أولئك الذين يؤمنون بيسوع.

كان مؤمنٌ عزيزٌ يحتضر، ووقف أحدهم إلى جواره وسأله: "هل كل شيء على ما يرام؟" فرفع بصره وأجاب بابتسامة: "نعم، "لقد تم". وعلى ذلك أُعلّق كلّ آمالي بالأبدية". هل تدركون البركة في هذا الكلام؟ "لقد تمّ". لا يمكنكم أن تضيفوا شيئاً إلى عملٍ تمّ واكتمل. إنها ليست مسألة أن يسوع قام بدوره في العمل وأن عليكم أنتم الآن أن تقوموا بدوركم لإزالة الخطية: ولكن الحقيقة المباركة هي أن المسيح قد أزال وإلى الأبد الخطية بتقريب نفسه على الصليب، والله يريدنا أن نقبل تلك الشهادة لنؤمن وتقدم لله مجداً لأجلها. وفي اللحظة التي نؤمن، كل العمل الذي قام به الرب يسوع المسيح يمحي خطيتنا وإثمنا، ونتبرر مجاناً بنعمته.

"طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ". لقد جاء إلى العالم لأجل ذلك الهدف الواضح، ولن يعود إلى السماء إلى أن يكون قد أتمّه وأكمله.

ولكن الآن، إنه يفكر في الملايين، الملايين التي لا عدد لها في العالم الذين سيضطرون إلى الانتظار طويلاً قبل أن يسمعوا الرسالة، ولذلك يقول لتلاميذه: "أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟" من الواضح أن هذا كان في وقت باكر جداً من السنة وكان في مقدورهم أن يروا الحقول الخضراء حولهم، وكان يمكنهم أن يقوموا بحسابات ويقولوا: "حسناً، خلال أربعة أشهر سيحين وقت الحصاد". يقول يسوع: "لا تقولوا ذلك؛ لا تقولوا أن هناك أربعة أشهر بعد ثم يأتي الحصاد. انظروا، أقول لكم، ارفعوا أبصاركم وانظروا إلى الحقول، فها قد ابيضّت للحصاد"- ليست حقول القمح، وليست حقول الحنطة، بل تلك الحقول الكبيرة من أقوام البشر في كل الأرجاء في كل مكان في العالم. لقد ابيضّت لتوها للحصاد، رجال ونساء في كل مكان يحتاجون إلى المسيح، رجال ونساء يعيشون في خطاياهم، يموتون في خطاياهم، يصرخون قائلين: "من يرينا الخير وطريق الصلاح؟" والآن هي مسؤولية خدام المسيح، أولئك الذين عرفوه، أولئك الذين خلصوا بنعمته، أن يقدّموا رسالته، أن يلعبوا دورهم في تقديم رسالة الإنجيل إلى أولئك الذين لا يزالون يعيشون في الخطيئة.

ولعله يمكنني أن أقول هنا أن التحدي هو في الإرساليات الأجنبية. يقول الناس أحياناً: "لا أومن بدور الإرساليات الأجنبية". يمكنكم أن تكونوا شاكرين لأن هناك آخرين يؤمنون بذلك. لو لم يؤمن أحد بالإرساليات الأجنبية قبل زمنٍ طويل، لكنتُ أنا وأنتم من أتعس الوثنيين الذين لا يزالون يعيشون في جهل لله وفي خطيئة وفي فساد. ولكن أحدهم اهتمّ يوماً ما كفاية بالإرساليات الأجنبية لتأتي إلى آبائنا في مختلف الأصقاع في أوروبا التي منها جاء أسلافُنا، وهناك أخبروا القصة التي أحالت الظلمة إلى نور وخلّصتهم من سطوة الشيطان وجعلتهم تحت سلطان الله؛ واليوم نحن نتمتع بمعرفة المسيح بفضل إخلاص هؤلاء خلال القرون الماضية. فلنكن صادقين اليوم ومخلصين، لنكن اليوم صادقين في اهتمامنا بوصية ربنا يسوع المسيح بأن نكرز بالإنجيل إلى العالم أجمع بأقصر وقت ممكن! دعونا لا تؤجل ذلك. لا تقولوا: "سأذهب في يوم آخر". إنه يقول هنا: "أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ؟" أعتقد أن هناك بعضاً من الذين يمكن أن يقول لهم اليوم، لو كان لا يزال يحيا على الأرض: "لا تقولوا أن هناك دهراً تدبيرياً آخر، عندما ستقوم البقية التقية من بني إسرائيل بالحصاد وتجني المحصول في هذا العالم، لا تقولوا ذلك بل ارفعوا أعينكم وانظروا. فالحقول ابيضّت لتوها للحصاد وهي مسؤولية ملقاة على عاتقكم أنتم أن تفعلوا ما تستطيعون لتقدّموا لهم الحقيقة. وكونوا أكيدين من ذلك: إن كنتم أنتم وأنا مخلصين في عملنا، سواء ذهبنا بأنفسنا أو قمنا بتأييد أولئك الذين يذهبون بالصلوات والتقدمات، فإنه والحالة هذه سيرى ويكافئنا بالنتيجة. ويضيف الرب قائلاً: "ﭐلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ".

كان الرسل قد أُرسِلوا إلى أرض إسرائيل، التي كان الله قد أرسل الأنبياء إليها خلال القرون السابقة، وكانوا ذاهبين ليحصدوا حيث زرع آخرون. وهكذا هو الحال اليوم، فهو يرسل خدّامه بعضاً ليزرع وبعضاً ليحصد، لكيما يبتهج الجميع معاً في النهاية.

والآن في الآيات ٣٩- ٤٢، لدينا تأثير شهادة المرأة السامرية. كلما خلّص الله نفساً، فإن تلك النفس المخلّصة تحاول أن تفيد شخصاً آخر بعطية نعمته. هل خلّصَكَ؟ إذاً فهل تحاول أن تصل إلى شخص آخر؟ لطالما سمعتم قصة طاقم الإنقاذ الذي خرج في قارب خلال عاصفة مخيفة وأنقذ رجلاً مثبّتاً إلى صاري المركب على حطام سفينة أعاقتها صخور وأمكنهم أن يروها بمناظيرهم بوضوح من الشاطئ. فرجعوا بذلك الرجل وهو غائب عن الوعي إلى مشفى قريب وأعطوه مواد منعشة لإعادة الوعي والصحة إليه. وكانت أول كلمة نطق بها عندما استعاد وعيه هي التالية: "هناك رجل آخر". "ماذا تقصد؟" "هناك رجلٌ آخر". فقالوا: "هل تقصد أن هناك رجل حي آخر على قيد الحياة قد نجا من ذلك الحطام؟" فأجاب: "نعم. هناك رجل آخر". وهكذا خرجوا ثانية خلال العاصفة، وهذه المرة اضطروا للصعود إلى ظهر السفينة وأن يفتشوها، فوجدوا رجلاً آخر حقاً في السفينة راقداً هناك فاقداً الوعي، وأتوا به إلى الشاطئ في قاربهم، وهكذا نجا. هل عرفْتَ نعمة الله الإرسالية في محبته الفدائية؟ حسناً، هناك رجل آخر، هناك امرأة أخرى، هناك شخص آخر في حاجة إلى المسيح. فحاول أن تفعل ما تستطيع لتصل إليهم.

لقد خلصت المرأة السامرية. ووجدت الماء الحي. فذهبت راجعة إلى قريتها- أعتقد أنه أمرٌ بالغ الأهمية؛ لقد كان الناس يعرفونها جيداً- وقالت للناس: "كلٍُّ شيء مختلفٌ الآن. هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَوليسَ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟" وهكذا نقرأ أنه "آمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ".

لقد كانت هناك يقظة رائعة في تلك المدينة السامرية، وذلك كله بفضل الشهادة الصادقة والمكرسة لهذه المرأة البائسة، التي أتت إلى معرفة الرب يسوع حديثاًً. "فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ. وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ»". إنها هي التي أثارت اهتمامهم؛ هي التي دفعتهم أولاً إلى المضي إليه. وبنتيجة ذلك، فقد دعوه إلى المدينة. ويقولون الآن: "إننا لا نؤمن بسبب شهادتك وحسب، بل لأننا سمعناه وتكلّم إلى قلوبنا، وحرّك ضمائرَنا، ونال محبتنا وعواطفنا، ووضعنا عليه ثقة إيماننا. وإننا نعلم أنه الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ".

هل تعرفونه أنتم؟ يا لها من بركة أن نكون على معرفة به وهو الحياة الأبدية، وأن نحاول، من ثم، أن نقود الآخرين أيضاً إليه!

Pages