November 2013

الخطاب ٣٩

"سيروا ما دام لكم النور"

"فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ. فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ" (يوحنا ١٢: ٢٩- ٣٦).

في ختامنا للخطاب السابق كنت نتأمل في تلك الكلمات المدونة في الآيات ٢٤- ٢٨: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لقد كان يتحدث عن نفسه، إذ أنه جاء إلى هذا العالم، وهو ابن الله المتجسد، إنسانٌ ذو حالةٍ مختلفة عن أي أحدٍ آخر، خالياً تماماً وبشكلٍ مطلق من الخطيئة، وقدوسٌ وبلا عيبٍ. لو لم يكن قد مضى بالنعمة إلى الصليب ومات من أجلنا، فكان ولا بد سيبقى مجرد إنسانٍ إلى الأبد. ولكن بنتيجة موته هناك الآن حصادٌ مجيدٌ عظيمٌ من المفتدين رجالاً ونساءً. حبة الحنطة وقعت في الأرض وماتت، وملايين خلصوا بموته.

بالنسبة لهؤلاء الذين يخلصون لديهم هذا التحدي: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي"، وبعد ذلك، وإذ يدرك ربنا أن الصليب ماثل أمامه، وأنه على ذلك الصليب سوف يشرب كأس الدينونة التي استحقتها خطايانا، نجده يقول: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ". إلا أنه بالحري لم يطلب ذلك، بل قال: "وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»". لقد تمجّد الله في الحياة المثالية الكاملة للرب يسوع المسيح. وسيتمجد في موته الكفاري وفي قيامته العجيبة المجيدة.

لقد سمع الناس الضجة والصوت ولكنهم لم يفهموا الكلمات، ولذلك فقد قالوا أنه صوتُ رعدٍ. هناك بضعةٌ قليلةٌ فقط لديهم أُذنٌ يسمعون صوت الله. والحال نفسه اليوم كما كان عندئذٍ. عندما يتكلم الله بقوة، وعلى الأرجح من خلال أحد خُدّامه في تجمعٍ كبيرٍ ما حيث تستحوذ الرسالة على أفرادٍ جديين في سعيهم وراء الحقائق الروحية، فإن الغالبية العظمى تقول: "«قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ»". إنهم لا يسمعون صوت الله. بينما آخرون ارتفعوا أكثر في الفكر. فكان هناك من قال: "«قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ»". ولكن لم يكن ذاك صوت رعد ولا صوت ملاك، بل كان صوت الآب نفسه.

قبل ذلك بوقت طويل، وبعد معمودية المسيح في نهر الأردن، سُمِعَ صوتُ الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، فله اسمعوا". ومرة أخرى على جبل التجلي جاء نفس الصوت مصدقاً على أعمال ورسالة وكمال الابن؛ وأيضاً في مناسبة أخرى عند قبر لعازر تكلّم الآب من السماء. وها هو يتكلم عن يسوع من ناحية مجده ويقول: "«مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»"، ويعني به العمل الذي يزمع أن يقوم به يسوع على الصليب. ويتجاوب يسوع مع هذا الصوت قائلاً: "لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ". ويعلن هنا ذلك الإعلان الرهيب: "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

هناك أربعة أجزاء في هذه العبارة العظيمة التي نطق بها يسوع. إنه يتكلم عن عالمٍ مُدان، وأميرٍ أو رئيسٍ مقهورٍ مهزوم، ومخّلصٍ مُقام، وقاضٍ ديّان آتٍ. الأمر الأول، "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". إلامَ كان يشير؟ لقد تمت تسوية دينونة هذا العالم على الصليب الذي سُمّر عليه المسيح. قال العالم عن الرب يسوع: "لا نريده". لقد جاء وأظهر نفسه بأنه ملكٌ يريد أن يسويّ كل شيءٍ إذا ما اقتبله الناس، ولكنهم صرخوا قائلين: "ليس لنا ملكٌ سوى قيصر"، وهكذا رفضوه، وبرفضهم إياه، استجلبوا دينونةً على أنفسهم، والعالم كله قد صار تحت دينونةٍ منذ ذلك الحين.

هل تتساءلون أحياناً لماذا يسمح الله بحدوث بعض الأشياء المريعة في هذا العالم؟ ذلك لأن الناس رفضوا أمير السلام. فكروا كم كان الأمر سيكون مختلفاً لو أن يسوع قد اقتُبِلَ، أو أن الناس في أيامه قبلوهُ، أو أنه أرسا مملكته في قوةٍ ومجد. عندئذٍ ما كانت الحروب لتصير بل كانت ستختفي عن وجه الأرض والحزن والتنهد والمرض كان سيتلاشى، وبركاتٍ مؤلفةٍ كانت ستكون من نصيب الناس خلال كل القرون الثلاثة الماضية. برفضهم المسيح استمطر الناس على أنفسهم دينونةً، ولذلك ما من حاجةٍ للاستغراب من هذه الأمور الرهيبة التي تأتي إلى العالم. بل إن المذهل هو أن يكبح الله غضبه ولا يتعامل بدينونةٍ عاجلةٍ مع الناس بسبب خطاياهم. إن العالم هو كمثل شخصٍ حُكِم عليه بالموت، ولكن لم يُنفّذ هذا الحكم بل سُمح له أن يعيش إلى أن يأتي أوان تنفيذ الإعدام. وعاجلاً سيأتي يومُ سماء الله الحمراء؛ سرعان ما سيصب الله جامات غضبه على هذا العالم، وعندها سيعرف الناس فعلاً دينونته بأكملها.

أما الآن فالنعمةُ والرحمةُ ممتزجةٌ مع الدينونة. إن الله يرسل رسالة رحمةٍ. إنه يدعو الناس لأن تتوب وأن تقتبل المخلص الذي كانوا قد رفضوه يوماً. هل فعلتَ ذلك؟ هل قبلت الرب يسوع؟ هل تتذكر تلك الكلمات الصاعقة التي قالها بطرس الرسول لليهود: "«اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي»" (أع ٢: ٤٠). ما الذي كان يعنيه؟ لعلكم تتساءلون: "ألا يمكننا أن نخلص بأنفسنا؟" لا. لا نستطيع أن نُخلِّصَ أنفسَنا، طالما أن الخلاص متعلق بالخلاص من الجحيم. يمكننا أن نخلُص من ذلك بواسطة عمل المسيح المنجز على الصليب. "لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ". فما الذي قصد به بطرس بقوله: "اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي"؟ إنها طريقةٌ أخرى وحسب للقول أن: "اقطعوا علاقتكم مع العالم الذي هو تحت الدينونة؛ اخرجوا من هذا العالم وقفوا إلى جانب ذاك الذي رُفِض. إن فعلتم ذلك، فعندئذٍ تكونون في مأمنٍ من الدينونة الآتية على هذا العالم". قد يحزن المرء في أغلب الأحيان لرؤية المسيحيين الذين يبدو بأنهم يفهمون هذا بشكلٍ ضعيف. لماذا لا يهتم بعض المسيحيين بالانفصال عن هذا العالم؟ ذلك لأنهم لم يدركوا أبداً أن العالم عالم مدان، وأن كل الناس المنغمسين فيه سرعان ما سيحترقون في يوم غضب الرب، وأن الله يدعو شعبه ليسلك بشكلٍ منفصلٍ عن العالم. يعتقد بعض شباننا أحياناً أن رعاتهم الأتقياء ومعلميهم وآباءهم قساةٌ متشددون لأنهم يحاولون تحذيرهم ضد الأشياء ذات الطبيعة الدنيوية. تذكروا، من هذا السِفر المبارك من كلام الله تعلّموا نهاية كل هذه الأشياء، وإنهم إنما يحذرون الشُبان لكي يتجنبوا الآلام التي سيعانون منها خلال الدينونة الآتية، ولذلك فإنهم يدعونهم لأن ينفصلوا ويعتزلوا عن هذا العالم. "اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي". أعرف شيئاً مؤكداً- في ذلك اليوم عندما ستسكب جاماتُ غضب الله السبع على هذا العالم، ما من أحد سيكون آسفاً لأنه عاش حياةً منفصلةً عن العالم وسلك خِلافاً للعالم الذي سيدينه الله. "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". إن العالم مُدان لتوه، ولكن الدينونة لن تنفذ الآن.

الأمر الثاني الذي يقوله المخلص هو: "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". من هو رئيس هذا العالم؟ إنه الشيطان. كيف صار رئيس هذا العالم؟ إنه مغتصبٌ. لقد وضع الله هذا العالم في عهدة جديّنا الأوليين. قال لآدم: "سُد على العالم؛ لقد أعطيتُه كله لك، واعتنِ به من أجلي". ولكن آدم تخلى عن لقبه كرئيس لهذا العالم للشيطان، ومن ذلك الحين صار الشيطان رئيس هذا العالم، وليس فقط رئيساً للعالم بل إله هذا العالم.

ولكنكم تذكرون الوعد الذي قطعه الرب عندما أصدر حكم الدينونة على الحيّة، إذ قال: "نسلُ المرأةِ يَسْحَقُ رَأسَكِ وَأنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ". على صليب المسيح، عَقِب يسوع، نسلُ المرأة، جُرِح. ولكن على نفس ذاك الصليب سُحِقت رأس الحيّة. ومن هنا فإن الشيطان رئيسٌ مهزوم، ومع ذلك لا يزال هناك آلافٌ وملايين من الناس الذين يخضعون لسلطانه. وفي ذلك اليوم الآتي، عندما سيطرد من السماء إلى الهوة الصحيحة التي لا قرار لها، وفي النهاية إلى بحيرة النار، سيخضع لدينونة الله الكاملة له.

لاحظوا الآن الأمر الثالث: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ". إلامَ كان يشير الرب بقوله هذا؟ يمكن قراءة الجملة بشكل كامل على نحو آخر كما يلي: "وأنا إن رُفِعتُ، سأجتذبُ كل الناس إليّ". أعتقد أن هذه الآية غالباً ما يُساء تطبيقها. لطالما سمعت أنها تستخدم بهذا المعنى: " إلامَ رفع الكارز يسوع، فإن كل الناس سيُّجذبونُ إليه". نعتقد جميعاً أن الطريقة الوحيدة لجذب الناس إلى المسيح هي أن نكرز بالإنجيل، وأن هذه هي رسالتنا- أن نكرز بالإنجيل. ولكن هل أمكن لأي أحدٍ أن يجتذب كل الناس إلى يسوع من خلال الكرازة بالإنجيل؟ لطالما شعرت بالأسى في قلبي لخمسين سنةٍ لأن الناس لا يُجذبون عندما أرفع يسوع بالكرازة والوعظ. أتذكر منذ خمسين عاماً عندما قبلتُ المسيح وأنا راكعٌ على ركبتيَّ في غرفتي في لوس أنجلوس، وكيف أني بعد ثلاث ليالٍ وقفتُ أمام مجموعة من الناس في الهواء الطلق لأقدم شهادتي الأولى للمسيح. بشكلٍ أو بآخر، عندما بدأتُ أتكلم، نسيتُ كل الظروف. لم أكن قد درست عظةً، ولكنه وجدتُ أني قد وعظت لنصف ساعة عندما استوقفني قائد الاجتماع وقال أنه كان علينا أن نكون في الصالة منذ عشرين دقيقة.

كان عليَّ أن أتوقف، ولكن قلبي كان ممتلئاً. وفكرت: "هؤلاء الناس في حاجة إلى أن يعرفوا عن يسوع، وسيخلصون جميعاً". وأتذكّر النص الذي فكرتُ به وخطر على ذهني وكأن الحادثة كانت البارحة. "هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا". لقد وعظت بكل حماس واتقاد قلبي الفتي، وكنت أفكر أن: "إنهم في حاجة إلى أن يعرفوا، وسوف يأتون إلى المسيح". ولكنهم لم يأتوا. كان هناك حشدٌ كبيرٌ مجتمعٌ حولي وبعضهم كان ينظر إليّ بفضول ويقول: ما الذي يتحدث عنه هذا الشاب الفتي؟ ما الذي يعرفه فتىً في الرابعة عشر من عمره عن هذا؟" واستداروا ومضوا، وواحدٌ فقط جاء إليَّ وقال: "يا بني، يبدو أنك وجدتَ شيئاً لطالما كنتُ أبحث عنه طوال حياتي، ولم أستطع أن أجده". لقد كان رجلاً ملوناً طاعناً في السن، ذا شعرٍ أبيض كالثلج يتوّج وجهه الأسود، وقدتُه إلى المسيح- وكان هذا أول مهتدٍ علي يديّ. ولكن البقية عبرت وبدوا غير مبالين، ولخمسين سنةٍ أحاول أن أرفع يسوع وآمل أن أقول أمام الله أنه لم يكن لدي أي رسالةٍ أخرى. أدرك أن هناك معانٍ كثيرة وهامة وراء هذه الكلمات المباركة، ورسالتي ليست في أن أكرز الإنجيل بل أن أكرز بالكلمة، لأن كل هذه الأسطر المختلفة للحق تتمحور حول يسوع. وأتمنى لو أستطيع أن أقول مع بولس: "الذي به نكرز".

إن لي ثقة أنه لن يأتِ يومٌ أجد نفسي أكرز بالقول "ما" بدلاً من "به". ولكن أشهد لهذا، أني بعد خمسين سنةً من محاولة رفع المسيح بالوعظ، لم أرَ كل الناس منجذبين إليه. وأحياناً، وإذ أنظر إلى الحضور هنا ليلة الأحد حيث يحتشد حوالي ٣٥٠٠ إلى ٤٠٠٠ شخصاً، أشعر أن قلبي يرتجف، وأقول لنفسي: "يا لها من فرصةٍ"! ومن جديد أفكر بأن ذلك الحشد الكبير الحاضر هناك فيه حوالي ٢٠٠ أو ٣٠٠ شخصاً فقط لم يؤمنوا بيسوع- أما الغالبية العظمى فهي من الناس الذين هم مسيحيون لتوهم. ولكن أين الآخرون؟- الناس الذين نود أن نصل إليهم. إنهم في الشوارع، وفي المسارح، وفي بقية أماكن التسالي الدنيوية. إنهم لا يبالون ولا يكترثون. هل نرفع يسوع؟ نعم؛ ولكن هذا لا يجتذب كل الناس إليه. لعلك تقول "حسناً، إذاً الكتاب المقدس خطأ؟" لا. ولكن أحياناً تفسيرنا له يكون خطأ. إن الكتاب المقدس لا يقول هنا، أنه إذا ما رفع الواعظ يسوع، فإن كل الناس سينجذبون إليه. لاحظوا بانتباه ما يقوله هنا: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". ثم انظر إلى تفسير الروح القدس لذلك في الآية ٣٣- "قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ".

ها هي الفكرة. إن الرفع هنا لا يشير إلى الكرازة أو الوعظ. ذلك الرفع هو إشارة إلى الجُلجثة. إنه الأمر نفسه الذي أدرَكه نيقوديموس عندما قال يسوع: "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ. لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣: ١٤- ١٥). وعندما لسعت الحيات الخطرة شعب إسرائيل في البرية، قال الله لموسى: "«اصْنَعْ لكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلى رَايَةٍ فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِليْهَا يَحْيَا»". فكأن يسوع يقول عملياً لنيقوديموس: "حيّة النحاس تلك هي صورةٌ عني". أتكون حيّة ملتوية ملتفة صورة ليسوع؟ نعم، إنها صورةٌ عن يسوع وقد جُعِل خطيئةً من أجلنا، لكيما نصبح برّ الله فيه. أترون، الحيّة هي التي سببت المشكلة. لقد لسعَتْهم الحيّة المُحرقة، والحيّة هي رمزٌ واضحٌ في الكتاب المقدس إلى الشيطان والخطيئة، وهكذا بدأت كل المشاكل في العالم. جميعنا أصابتنا سموم الخطيئة، وسم الصّلّ تحت شفاهنا. كلٌ منا ناله سم الأفعى، ولكن يسوع جاء، وعندما رُفِعَ على الصليب جُعِلَ خطيئة لأجلنا:

"مكان الخاطيء الأثيم قد أخذَ،
وتألم بدلاً عنا،
لأجل الإنسان- يا لمعجزة النعمة-
المخلص نزف الدم عن الإنسان".

صُنِعتْ الحية في البرية من النحاس، والنحاس رمز الدينونة. لقد كانت ترمز إلى المسيح الذي حمل دينونتنا. لقد كانت حية لا سمّ فيها. ما كانت لتؤذي أحداً، ويسوع، القدوس الذي كان بلا عيب أو لوم، ولم يُمس، قد رُفِعَ، وهو الذي قال: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ (أي على الصليب) أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

يسوع هو المخلص المرفوع. بالطبع، على الواعظ أن يقول لكل الناس أن يسوع مات عنهم. وعليه أن يشير أيضاً إليه كمصلوب:

لكم حياة بنظرة إلى المصلوب،
لكم حياة في ذي اللحظة،
فانظروا، يا خطاة، إليه واخلصوا،
انظروا على ذاك الذي سُمِّرَ على العود.
هل كان حامل الخطايا ليُصلبَ هناك،
لو أن يسوع لم يحمل خطاياكم هناك؟
وهل كان ليهراق من جنبه الدم الذي يطهّر من الخطيئة،
لو لم يدفع الدين المستحق عليكم؟"

"وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". ولكن لن ينجذب الجميع إليه الآن. الغالبية العظمى يتابعون سيرهم غير مبالين. يبدو الله وكأنه يصرخُ للجنس البشري: "ألا يعنيكم الأمر أنتم الذين تجتازون دونما اكتراث؟" انظروا واعرفوا هل من حزنٍ يماثل ما في قلبي من حزن عندما ابتلاني الرب في يوم غضبه الشديد؟ ما هو جوابك؟ هل تمضي في طريقك قائلاً: "الأمر لا يعنيني"؟

سأحيا لذاتي لنفسي وحسب،
فقط لأجل ذاتي.
كما ولو لم يكن يسوع موجوداً،
وكما لو لم يمت من أجلي"

يمكنك أن تشيح عنه إن رغبت. يمكنك أن ترفض نعمته وتنبذ محبته وتزدري بإنجيليه، إن كان هذا ما تريد أن تفعله. ما من أحد سيُجبرك على قبول المسيح. يمكنك أن تمضي في خطاياك وأن تبقى ضالاً إلى الأبد. ولكن أمراً واحداً لا يمكنك أن تفعله- أن تتهرب منه في خاتمة المطاف. "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". يوماً ما ذاك الذي رُفِعَ على الصليب سيجلس على عرش الدينونة. يوما ما ذاك الذي أخذ مكاننا بالنعمة على عود الصليب سيكون متربعاً على العرش الأبيض العظيم، وعندها كل الناس سيُجذبون إليه. إن الكلمة المترجمة "أجذِب" هنا توحي بقوةٍ ساحقةٍ. إنها نفس الكلمة تماماً التي تُستخدم في الأصحاح الأخير من هذا الإنجيل، حيث تتكلم عن الشبكة التي أمسكت مئةً وثلاثة وخمسين سمكةً كبيرةً، ويقول الإنجيل أنهم جاؤوا "يسحبون" الشبكة إلى اليابسة. أترون، الأسماك كانت عاجزةً لا حول ولا قوة لها؛ لقد كانت تُسحب في الشبكة إلى اليابسة. "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ (أسحب) إِلَيَّ الْجَمِيعَ". قد يقول الناس: "ولكنني لا أريد أن أجيء إليه؛ لا أريد أن أواجهه؛ لا أريد أن أقدم حساباً أمامه". ولكنك لن تُسأل إذا ما كنت تريد أو لا تريد؛ سيتوجب عليك أن تواجهه وأن تقف في حضرته وهو الذي يقول: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

آهٍ، كم هو أفضل أن نُسحب بالمحبة الإلهية وأن نأتي إليه في يوم نعمته، بدل أن ننتظر إلى أن نُسحب إليه في دينونةٍ عندما يكون الأوان قد فات على الخلاص!

ولكن علينا الآن أن نلاحظ مسؤوليتنا إزاء كل هذا. نقرأ في الآية ٣٤: "فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»". لكأنهم يقولون عملياً: "إننا لا نعرف عما تتكلم. إننا نبحث عن مسيا سيأتي إلى الأرض ليُهلك أعداءنا، والشخص الذي تتكلم عنه هو ابن الإنسان. إننا لا نفهم ذلك. أنت تتكلم عن ابن الإنسان. من هو ابن الإنسان؟" إنه يسوع، الذي هو "إله الجميع المبارك أبداً" الذي صار إنساناً بالنعمة لافتدائنا. قال لهم يسوع: "ﭐلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ". وكان قد سبق أن قال لهم: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. سأمكُث مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ ثم سأخرجُ كي أموتَ. فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ".

هذه الكلمات يجب أن تدخل إلى قلوبنا اليوم. لدينا دليلٌ واضحٌ جداً على أننا نقترب من خاتمة الدهر التدبيري الحالي لنعمة الله، الذي ستتبعه ظلمةٌ لم يعرفها العالم على الإطلاق. لعل كلمات ربنا تحمل رسالة خاصة لنا جميعاً. "سِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ". اقبلوا حق الرب طالما لديكم هذه الفرصة؛ آمنوا بالرسالة طالما أنها ما تزال تُعلن، لأن الظلمة آتية، "وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ". يقول لنا الكتاب: "كلمتُك سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي"، و"دخول كلماتك يعطي النور". ومن هنا فإن النور يسطع اليوم، وكل من يرغب فإنه يستطيع أن يسلك في النور . "وَلَكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١: ٧).

"تعالوا إلى النور، فهو يشرق لأجلكم.
لقد حل النور علي بكل لطف،
عندما كنت أعمى، ولكني أستطيع أن أرى الآن،
ونور العالم ما هو إلا يسوع".

ولكن هذه الرسالة، أن "سِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ"، ليست للآخرين، دونكم، أيها المسيحيون. فهذه الكلمة أُعطيت لتنير طريقكم، ومع ذلك فكم من مؤمنين هناك يعاندون النور، ويسلكون في طرقهم الخاصة المعوجة، رافضين الخضوع لحقيقة كلمة الله. لم يعد أمامنا إلا وقت يسير نكون فيه مخلصين وصادقين مع الرب الذي خلصنا. فلنسلّم حياتنا كليةً له لنسلك في النور ما دام لنا النور. "يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ" (يوحنا ٩: ٤).

الخطاب ٤٠

الاعتراف بالمسيح أو رفضه

"وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِيَتِمَّ قَوْلُ أشعياء النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ أشعياء قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ أشعياء هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ" (يوحنا ١٢: ٣٧- ٤٣).

الجزء الأول من هذا المقطع يوحي بحقيقة مهيبة للغاية، شيء نحن عرضة لأن ننساه. إن هذا المقطع يذكّرنا بأن كلمة الله لها تأثير مليّنٌ وأيضاً مقسٍّ على نفوس أولئك الذين يسمعونها. لقد قِيل، وحسنٌ ما قيل، أنه كما أن الشمس نفسها تلين الشمع وتقسي الصلصال، كذلك الأمر فإن نفس رسالة الإنجيل قد تلين قلب امرئٍ وتأتي به إلى التوبة وإلى إيمان أكيد واضح بالرب يسوع المسيح، وقد تقسّي قلب شخص آخر وتضعه في تلك الحالة التي لا يكون فيها الإنسان مستعداً أبداً لأن يسلم ذاته أو يذعن لله ويقتبل المسيح، بل يموت في خطاياه ويُطرد من حضرة الله إلى الأبد. إنها ليست مسألة هدف الله، ولا حتى الطريقة التي يتم فيها تقديم الحقيقة. ليس الله هو الذي عين أن بعض الناس يقبلونها بينما آخرون ينبذونها، حتى أن بعض الناس يتلقونها بينما آخرون يرفضونها، أو أن بعضاً يُليَّنون وآخرون يُقسَّون، بل أنها مسألة موقف المرء الشخصي نحو الحقيقة.

عندما تكلم الله إلى شعب إسرائيل العهد القديم بهذه الكلمات التي يقتبسها يوحنا هنا: "«يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟»" فإنه لفت انتباههم إلى حقيقة أنه كان قد أعطاهم تعليمات واضحة تتعلق بشر وإثمية الصنمية وعبادة الأوثان. لقد ناشدهم أن يتركوا له المكانة الأولى في قلوبهم لأنه الإله الوحيد الحقيقي والحي. ولكنهم أشاحوا عنه. فأرسل أنبياءه ليعيدهم إليه، ولكنهم رفضوا شهادة أولئك الأنبياء وازدروا بها، وجاء الوقت عندما ما عاد للرسالة أي تأثير على ضمائرهم على الإطلاق. ولذلك فإن الله أسلمهم إلى قسوة القلب لأنهم آثروا ذلك بأنفسهم. لقد اختاروا أن يعصوا الله. لدينا مثل هذه الحالة في ٢ تسالونيكي ٢، حيث لدينا تلك الصورة المريعة عن إنسان الخطيئة الذي سيستعلن في هذا العالم في الأيام الداكنة من الضيقة التي سنواجهها، والتي ستكون أقرب مما يتصور أي واحد منا، والذي لا يمكن أن تقوم له قائمة إلى أن تُختطف كنيسة الله. نقرأ عن أناس في ذلك الوقت سيُتركون في هذا العالم؛ بعضٌ يكونون قد سمعوا الإنجيل مراراً وتكراراً، ولكنهم لطالما رفضوه. ويخبرنا (بولس): "وَلأَجْلِ هَذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ اللهُ عَمَلَ الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ (أي أكذوبة ضِدَّ الْمَسِيحِ)، لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا الْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِالإِثْمِ" (٢ تسالونيكي ٢: ١١- ١٢).

إن قلب الله يتجه نحو كل الناس في كل مكان. إنه لا يرغب في موت الخاطئ، بل أن يرجع إليه الجميع ويحيوا. إنه يصرخ قائلاً: "اِطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ مَعَاصِيكُمُ الَّتِي عَصِيْتُمْ بِهَا، وَاعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْباً جَدِيداً وَرُوحاً جَدِيدَةً. فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟" ولكن إن رفض الناس أن يبالوا أو أن ينتبهوا إلى كلمته فإنهم سيُسلمون إلى قسوة القلب. إن الضمير، وقد حركته الكلمة، قد يتجاوب في البداية ويشعر المرء في نفسه ذاتها بأنه يرغب بأن يسلم ذاته للمسيح، ولكنها يمكن أن تخنق صوت الضمير، وأن ترفض الانتباه إلى كلمة الله، إلى أن يحدث في نهاية الأمر أن الضمير لا يعود له وجود بل يصبح متقسياً متحجراً كالحديد المحمى ويتقسّى الناس في خطاياهم ويموتون دونما رجاءٍ.

لقد نشر ربنا يسوع المسيح بنعمته الرسالة لمدة ثلاث سنوات ونصف رائعة، وكان قد أعطى دليلاً من خلال الآيات والعجائب التي عملها والرسالة الرائعة التي قدّمها للناس، بأنه كان المسيّا وفادي بيت إسرائيل، ولكننا نقرأ أيضاً أنه عمل معجزات كثيرة، ومع ذلك فلم يؤمنوا به. إن المعجزات لوحدها لن تكون كافية لإقناع الناس إذا ما رفضوا الكلمة. ما من آيات، أو عجائب، أو معجزات، ستصل إلى ضمائرهم، إذا ما صمموا على أن يمضوا في خطاياهم ويرفضوا التوبة .

لقد ذكّر ابراهيم ذلك الـ "الغني الذي "مَاتَ أَيْضاً وَدُفِنَ" بذلك، عندما قال له ذاك أنه لا يزال لديه أخوة أحياء، قائلاً: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (لوقا ١٦: ٣١).

يا لها من مسؤولية رهيبة تقع على عاتق كل واحد منا ممن يسمعون كلمة الله كما هي مدونة هنا في هذا السفر المقدس. إن رفض الناس هذه الشهادة، فإن الآيات والعجائب والمعجزات سوف لن تقنعهم. إنهم يتقسون في خطاياهم. هؤلاء الناس الذين رفضوا أن يسمعوا الكلمة التي أتى بها يسوع، وهكذا فإن قول أشعياء تحقق فيهم، عندما صرخ قائلاً (الأصحاح ٥٣): "«يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟»". كان يقول ضمناً أن الغالبية العظمى سترفض شهادة يسوع عندما يأتي، وقد فعلوا ذلك حقاً. فقط مجموعة صغيرة اقتبلته. والآن ذلك السؤال لا يزال مطروحاً علينا: "مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟" هل صدقتَ وآمنتَ، يا صديقي العزيز؟ هل فتحتَ قلبك لكلمة الله؟ هل تكشفت قوته القديرة على الخلاص لك؟ هل تعرف أنه هو ذاك الذي خلصك من النزول إلى هاوية الجحيم، وأعطاك مكاناً في المسيح، متحرراً من كل دينونة؟ إن كنت تزدري بالكلمة وترفضها، فإن الله لن تكون لديه رسالة أخرى لك.

وهكذا نقرأ أنهم لم يستطيعوا أن يؤمنوا لأنه "«قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ»". هل كان الله غير راغبٍ في أن يهتدوا؟ أبداً على الإطلاق. لطالما كان يتوق إلى اهتدائهم. لقد توسّل إليهم أن يعودا إليه، ولكنهم رفضوا الرسالة وقسوا قلوبهم ضده، فقال الله: "حسنٌ، يمكنكم أن تبقوا متقسّين في خطاياكم"، وجاء اليوم عندما لم يعد للكلمة تأثيرٌ عليهم.

قبل سنوات، كنت أتحدث إلى مجموعة صغيرة من الصبيان والبنات في مدرسة يوم الأحد في سان فرانسيسكو. كنت أحاول أن أوضح لهم الأمر بإعطاء مثل فقلت: "كم هو أمر محزن أن تعرفوا، يا أولادي الأعزاء، أنكم في كل مرة تقولون "لا" للرب يسوع، قلبكم يصبح أكثر قساوة، وإن استمريتم في القول "لا"، فإن القلب يصبح أقسى فأقسى فأقسى إلى أن يصير في خاتمة المطاف كما يقول الله، قلباً من حجر، ولا تعودون تهتمون بأمور الله، بل تصرّون على رفض نعمته، ولذلك فإنكم تموتون في خطاياكم". وهكذا كنت أناشد أولئك الصبيان والبنات أن يسلموا قلوبهم ليسوع في أيامهم الأولى (طالما أنهم لا يزالون صغاراً في السن). وكانت هناك طفلة صغيرة تسمع كلماتي، وما كانت تتجاوز الخامسة من العمر (وإننا أحياناً نفكر أن هؤلاء الصغار لا يستوعبون)، فتلك الفتاة، كانت قد ثبتت عينيها علي وأنا أتكلم. لقد أتت بها والدتها إلى مدرسة الأحد ثم أخذتها إلى المنزل، وفي الطريق إلى البيت لم تنطق بأي كلمة. كانت تفكر في والدها العزيز الذي لم يذهب إلى الكنيسة أو إلى مدارس الأحد أبداً، والذي لم يسمع كلمة الله على الإطلاق، وعندما وصلت إلى المنزل، كان الأب جالساً هناك يدخن سيجاراً، وقد نشر حوله جريدة الأحد. فاندفعت الصغيرة كالسهم أمام والدتها داخلة إلى المنزل وصعدت ومضت إلى والدها فوثبت تعانقه قائلةً له: "بابا، بابا، هل تشعر بقلبك؟ هل يبدو لك كأنه حجر؟" فقال: "ما الذي تقولينه؟" فقالت: "حسناً، ذلك الرجل في مدرسة الأحد قال أنك إذا استمريت في قول "لا" ليسوع، فإنك ستنال صخراً في معدتك! هل هناك حجر في معدتك؟ آه، يا بابا، آمل ألا يكون الحال هكذا، لأنك إن كانت الحال هكذا، فلا يمكنك أن تخلص". فالتفت الأب إلى أمها وقال لها غاضباً: "ما الذي يقولونه لهذه الطفلة؟" فأوضحت الأم المسألة قليلاً مع بعض الشرح، وعندما رأى الدموع في عيني زوجته وشعر بذراعي طفلته الصغيرة تحيط بعنقه، وسمعها تقول: "آه يا بابا، لا تستمر في قول "لا" ليسوع "، رفع بصره وقال: "حسناً أعتقد أنه آن الأوان لتسوية هذه المسألة"، وركع على ركبتيه وأسلم حياته للمسيح. يا لها من رحمة أتته في الوقت المناسب! يا له من أمر ٍ رهيب أن نقول "لا" لصوت الرب يسوع المسيح.

هذا يُوضح الضلال الشديد في الأيام الأخيرة، والسبب في أن الرجال والنساء يُسلّمون إلى قسوة القلب. إنهم يشيحون عن الله، وفي النهاية يأتي الزمن عندما يقول الله: "حسناً، لقد انضم أفراييم إلى أصنامه وتبعها: فسأتركهُ لوحده". آمل ألا يصحّ هذا القول أو ينطبق هذا القول أو ما يليه من مقاطع على أي واحد منكم. إن كنتَ لا تزال في خطاياك، وتسمع صوت يسوع منادياً اليوم، أفلن تركع منحنياً أمامه في توبةٍ وإيمان، وتخبره بأنك قد أسلمتَ قلبَك له في نهاية الأمر وأتيتَ إليه بكل خطاياك وحاجاتك، ليكما تؤمن به فادياً ومخلصاً لك؟

نعلم من الكتاب أن أشعياء قد وجه لهم هذا التحذير الخاص لأنه "رأى مجده" (مجد الله): "قَالَ أشعياء هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ". متى كان ذلك؟ حسن. أتذكرون الحادثة التي يرد ذكرها في الأصحاح السادس من أشعياء، عندما قال: "فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»" (أشعياء ٦: ١- ٣). أتعلمون من هو ذاك الذي تقف أمامه السرافيم متعبدةً؟ يقول الروح القدس: "أشعياء هَذَا رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ". كان ربنا يسوع المسيح هناك مع الله الآب في أبهى مجد. ذاك الذي لم يكن نزل بعد إلى هذه الأرض ليخلّص الخطأة، كان موضع عبادة الملائكة، ونظر أشعياء عبر الأجيال ورآه نازلاً ليموت على صليب الجلجثة، فصرخ هاتفاً: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣: ٥).

لقد رآه أشعياء بالإيمان، وذاك المبارك وقف وسط إسرائيل، وشعبه ذاته لم يعرفه. لقد جاء إلى خاصته، وخاصتهُ لم تقبله. وماذا عنك؟ هل اقتبلتَه؟ هل دخلت الرسالة من أذن وخرجت من الأخرى؟ أم أنك أحنيت ركبة قلبك في توبةٍ أمامه؟ المشكلة، كما تعلم، أن الكثيرين يؤمنون، ولكنهم لا يمتلكون الشجاعة ليأتوا مباشرةً ويُعلنوا إيمانهم.

نقرأ في الآيات ٤٢، ٤٣: "وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ". يا لها من حماقةٍ! مجد الناس ومدحهم سيزول. ما الفرق الذي يحدث إن كان الناس يمتدحونك أم لا إن كنت لا تنال تأييد واستحسان الله؟ لا يمكن للناس أن يفعلوا أي شيءٍ لك فيما يتعلق بأمورك الروحية. يا لها من حماقةٍ عند الناس أن يهتموا بما يفكر به الآخرون تجاههم، ومع ذلك كم من ُأناس أحجموا عن اتخاذ الخطوة اللازمة نحو المسيح لأن الفكرة تأتي من صديقٍ أو رفيقٍ، صديقٍ نواياه الحسنة هي قيد الاحترام والتقدير. إنهم يقولون: "آهٍ، لست مستعداً لتسليم ذاتي بشكلٍ مطلق. ما الذي سيفكر به هذا أو ذاك تجاهي إن فعلتُ ذلك؟"

أذكر عندما كنت غلاماً صغيراً، كيف أن أمي كانت تجذبني إلى ركبتها وتتكلم إليّ بجلالةٍ ومهابة عن أهمية أن أؤمن بالرب يسوع المسيح مخلصاً لي، وكنت دائماً لأقول: "حسناً يا أمي، أود أن أفعل ذلك، ولكن الأولاد سيضحكون عليّ". واعتادت أمي أن تقول: "يا هاري تذكر، قد يضحكون عليك فتدخل إلى الجحيم، ولكنهم لا يستطيعون أن يضحكوا عليك لكي تخرج منه". وكم كانت تلك الكلمات تدخل إلى نفسي سريعاً، وتمكث فيها طوال السنين! نعم، قد يسخر الناس ويهزؤون ولا يفهموننا عندما نأتي إلى المسيح، ولكن في نهاية الأمر، إن استحسانه هو (المسيح) الذي يستحق أن نحصل عليه.

قبل سنين طوال قرأتُ عن صراعٍ حدث بين اثنين من الراجا الهنديين. غلب أحدهم الآخر فأخذ ابن خصمه أسيراً، وفي اليوم الذي كان يفترض أن يعود فيه إلى قصره منتصراً أعدَّ ليدخل المدينة في موكبٍ مهيبٍ. وكان هناك موكبٌ عظيمٌ مؤلف من الفيلة، والفرسان والمشاة ورتلٌ طويلٌ من الأسرى.(١٠:٠٤) ومن بينهم كان الأمير الشاب. لقد قيل له أنه سيتوجب عليه أن يسير حافي القدمين وعاري الرأس. كان ساخطاً وقال: "ماذا؟ أدخُل المدينة هكذا؟ ما الذي سيفكر به الناس حولي؟ كم سيهزؤون بي؟" فقال الراجا: "لم تسمع كل شيءٍ بعد. ستحمل وعاءً من الحليب في يدك وإن أهرقت ولو قطرةً منه، فإنك ستفقد رأسك في نهاية الموكب". وخلال دقائق جلبوا إليه ذلك الوعاء من الحليب، وسار حارسان إلى جانبيه، كل واحدٍ منهما من جهةٍ، وبدأ الموكب بالتحرك. وتابعوا سيرهم دون هَوادةٍ، ربما لميلٍ أو أكثر، دخولاً إلى حضرة الراجا. وسار ذلك الأمير الشاب مع الموكب، حاملاً وعاء الحليب. بدا وكأنه  لن ينهي المسير دون أن يريق بعضاً من الحليب، إلا أنه أكمل المحنة بأمان. وأخيراً وقف أمام  الراجا: "حسناً، يا سيدي الأمير، أيّ نوعٍ من الوجوه أظهرها الناس لك؟" فرفع الأمير الشاب بصره وقال: "يا سيدي الجليل، لم أرَ وجوه الناس. رأيتُ فقط حياتي، التي أحملها في يديّ، وأعرف أن أي خطوةٍ خاطئة ستفقدني حياتي".

أُناس العهد  القديم كانوا يحبون مديح وإطراء الناس لهم أكثر من استحسان الله، وبسبب ذلك لم تكن لديهم الشجاعة الكافية ليعترفوا بالرب يسوع المسيح أمام رُفقائهم. لقد كانوا يعرفون أنه كان المرسَل من قِبَل الآب. لقد كانوا يعرفون أنه راعي إسرائيل، فادي الخُطاة، ولكنَّ استحسان رِفقاهم لهم كان يعنيهم أكثر بكثير من استحسان الله. كيف هو الأمر معك أنت اليوم؟ أنتم تذكرون الآية التي تقول: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ" (رو ١٠: ٩). ومن جديد يقول الرب يسوع: "كُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى ١٠: ٣٢).

إن آمنتَ في قلبك أن الله أعطى يسوع لك، إن آمنت به، فعندها لا تتردد  في الاعتراف به علانيةً أمام الناس. أعتقد أن مؤمنين كثيرين جداً سراً لا يشعرون بالسلام الذي يجب أن يشعروا به لأنهم لا يعترفون ١٥ : ٠٥بالمسيح صراحةً وعلانيةً. لعلك تقول: "هل هناك حقاً مؤمنين بالسر؟" نعم إن العالم يُخبرنا أن يوسف الذي كان من الرامة كان واحداً منهم، ولكن كم كان خاسراً! جاء في النهاية، وقدم قبره الجديد لكي يُدفن فيه جسدُ ابن الله هناك. وكان نيقوديموس مؤمناً في السر، وحاول مرةً أن يتكلم علانيةً، ولكنه لم يقل بشكلٍ محدد: "إنه ربي ومخلصي". بل أرسل مئة رطلٍ من العطور لدفن جسد الرب يسوع، وتوحد مع المسيح الذي كان قد مات، ولكن كم كان لينال بركاتٍ أكثر لو أنه جاء قبل ذلك بزمنٍ عندما كان يسوع لا يزال على قيد الحياة! أعتقد أن الكثير من الناس اليوم، في أعماق قلوبهم، يؤمنون بالمسيح، وفي منازلهم يقولون أنهم يحبون المسيح ويؤمنون به، ولكنهم لا يكرمونه بأن يقدموا اعترافاً علنياً ظاهراً واضحاً أمام الناس. ليس لديهم الفرح أو الانتصار في حياتهم الذي كانوا سيتمتعون به لو جاؤوا وأعلنوا إيمانهم علانية وجعلوا الآخرين يعرفون بذلك.

"أيا يسوع، هل كُتِبَ لي أن أبقى خجِلاً،
إنساناً فانياً خجلاً منك؟
خجلاً منك، أنت يا من تسبّحه الملائكة،
يا من تشرق أمجاده إلى أيام لا انقضاء لها؟
إني خجلٌ من يسوع، وبعيد عنه،
فكيف يخجل المساء إن كان فيه نجم قد سطع،
فلقد أشرق بأنواره الإلهية
على نفسي المعتمة.
أخجل من يسوع، نعم،
عندما يكون لدي إثم لا أمحوه،
ودمعة لا أمسحها، وصلاح لا أتوق إليه،
وخوف أهدّئه، وروح أخلّصها.
إلى أن يأتي ذلك الزمان، لن ينفعني خيلائي،
وتبجحي بمخلص مذبوح.
آه، لعل في هذا مجدي،
أن المسيح ليس خجلاً مني".

الخطاب ٤١

ليس ديّاناً بل مخلّصاً

"فَنَادَى يَسُوعُ وَقَالَ: «ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. وَﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ. وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ. مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ»" (يوحنا ١٢: ٤٤- ٥٠).

هناك بعض الحقائق التي هي في غاية الأهمية نأتي عليها في بضعة الآيات هذه. إنها تشكل خاتمة تقديم ربنا يسوع المسيح لنفسه للعالم. لقد أشرنا لتونا إلى أن هذا السفر (إنجيل يوحنا) مؤلفٌ فعلياً فعلينً من قسمين أو جزأين، الجزء الأول هو الأصحاحات الاثني عشر الأولى وفيها يقدم ربنا يسوع المسيح نفسه للعالم، وفي هذا الجزء يُوضح الرب يسوع بكل طريقةٍ ممكنة بأن الناس غير المخَلَّصين كان في مقدورهم أن يفهموه. ثم بدءاً من الآية الأولى في الأصحاح الثالث عشر وما تلا حتى نهاية الإنجيل، لدينا تقديم نفسه إلى قلوب شعبه الخاص به الذي يحبه. في هذه الأصحاحات الإثني عشر الأولى لدينا القول: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ" ولكننا نقرأ أيضاً: "وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يوحنا ١: ١١). إذ نفتح الأصحاح ١٣ نقرأ: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". التعبير الأول، في الآية السابقة، "خاصته" ينطبق على كل أولئك الذين أتى بهم إلى العالم بقدرته. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". أما في الأصحاح ١٣ فإن تعبير "خاصته" يشير إلى جماعة مميزة معينة أُخِذَت من العالم، وهم أولئك الذين قبلوه مخلِّصاً واعترفوا به رباً.

لقد رأيناهُ على أنه الكلمة الأزلي، النور الآتي إلى العالم، حامل الله ٢٠ : ٢٠الذي يرفع خطيئة العالم، ذبيحة الخطية العظيم، مانح الحياة الأبدية، الماء الحيّ، الذي يتمتع بقدرةٍ على أن يقيم الموتى، الحق والحياة، خبز الحياة النازلُ من السماء، دياّن الأحياء والأموات، وفي ظواهر وجوانب أخرى كثيرة. وفي ختمه لهذا التقديم في هذه الجوانب وفي ختمه لتقديمه لنفسه بهذه الجوانب المتنوعة، يقول: "ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. وَﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي". في هذه الكلمات يسعى ربنا يسوع المسيح إلى أن يُبِعد انتباه الناس عن ناسوته المجرد. لا يريد من الناس رجالاً ونساءً أن يفكروا به فقط على هذا النحو. لو كان يسوع إنساناً فقط، لكان من غير الممكن أن يكون مخلص الخُطاة. لقد صار إنساناً حقاً؛ واللقب الذي كان يُسرّ بأن يستخدمه كان "ابن الإنسان"، وإذ صار ابن الانسان جاء يطلب ويسعى ليُخلص ما قد هلك (من قد ضلَّ)، ولكن ما كان ليمكنه أن يُخلص الضالين والخُطاة لو كان مجرد ابن إنسانٍ فقط. لقد كان إنساناً حقاً وإلهاً حقاً. في المزمور ١٤٦: ٣ مكتوب: "لا تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ". ورغم أنه يسوع كان أفضل الناس، إلا أنه ما كان ليقدر على تخليص الخطأة لو كان مجرد إنسان وحسب.

ولذلك فإنه يُبعد انتباه الناس عن ناسوته ويركز انتباهنا وتركيزنا على حقيقة أنه كان ابن الله متجلياً في الجسد. إنه يقول: "لا تؤمنوا بي فقط، بل بذاك الذي أرسلني". "ﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي". كان العهد القديم يؤكد على هذا في سفر أشعياء. بعد ذلك الوعد الرائع في الأصحاح السابع بأن عذراء ستحبلُ وتلدُ ابناً، وسيدعى اسمه عمانوئيل، والذي يعني الله معنا، نقرأ في الأصحاح ٩: ٦ (من أشعياء): "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ (أي ناسوته) وَنُعْطَى ابْناً (أي لاهوته)". لقد كان ابن مريم، مولوداً من نسلٍ مقدس؛ ولكنه كان أيضاً ابن الله الأزلي الذي جاء إلى هذا العالم كإنسان، من خلال الولادة. "وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ". يبدو لي أن كل قارئٍ يهودي مستنير يتأمل في هذه الكلمات، ما كان ليُمكن أن يخفق في أن يرى فيه المسيا الموعود والذي يجب أن يكون كائناً فائق الطبيعة. ما كان لهذه الكلمات أن تنطبق تماماً على أي إنسانٍ ولو كان عظيماً، أو على أي نبي يكون قد جاء لينفذ أوامر الرب الإله. إنها تخبرنا بوضوح على أن الابن المعطى هو "إلهٌ قدير".

وبعد ذلك، ومن جديد، في إعلان مولده، نجد في ميخا ٥: ٢، التأكيد على سرمديته لكونه ابن الله: "«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ»". كيف كان ليمكن لهذه الكلمات أن تجد تحقيقاً لها في شخصٍ كان مجرد إنسانٍ فقط وليس إلهاً أيضاً؟ لقد ولِد في بيت لحم كإنسان، هذا أمرٌ حقيقي، ولكن وجوده كان منذ القديم، منذ الأزل. وأكد الرب يسوع المسيح على هذا. في الآية ١٠: ٣٠ من هذا الإنجيل نسمعه (المسيح) يقول: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ". وعندما قال له فيلبس: "«يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا»" (يوحنا ١٤: ٨)، يقول له يسوع: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا". وهذا يعني، أن أعماله قد برهنت أنه كان ابن الله الأزلي الإلهي. مَن غيره كان ليملك قدرة على أن يهدّئ الأمواج، ومن غيره كان ليستطيع أن يسلُب القبر ضحيته؟ وحده أمكنه أن يقول: ""أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ". ومنذ البدء كان هذا اعتراف كنيسة الله؛ الرب يسوع المسيح كان يُعترف به دائماً وأبداً على أنه الله متجلياً في الجسد.

في ٢ كور ٥: ١٨ نقرأ: "وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ". فما هي هذه الخدمة؟ "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ". لقد كان الله هو المسيح، وليس بمعنى أنه كان يقوي المسيح أو يتملك المسيح، بل كان هو نفسه ذاته بنفس الطبيعة، لقد كان إلهاً وإنساناً في شخصٍ واحدٍ. (١٠:٠٧)

ومن جديد نعلم من ١ تيموثاوس ٣: ١٦: "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ". وفي الآيات الافتتاحية من الرسالة إلى العبرانيين نقرأ أن: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ" (عب ١: ١- ٢). أكان يمكن قول هذا عن إنسان فقط؟ "الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي". دعوني أقرأ هذه الكلمات بترجمة مختلفة قليلاً: "هو شعاع مجده وصورة جوهره، يحفظ كل شيء بقوة كلمته. وبعدما قام بالتطهير من الخطايا، جلس عن يمين ذي الجلال في العلى". ذاك هو ربنا يسوع المسيح، ولذلك فإن من يؤمن به لا يؤمن فقط بيسوع المسيح الإنسان فقط، بل أيضاً بالذي أرسله، أي الله الآب، إذ أن يسوع قال: "ﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي".

"ثم يتابع يسوع كلامه ليقول لنا: "أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ". هذه هي إحدى الأشياء البارزة في إنجيل يوحنا؛ إنه إنجيل نور وحياة الإنسان. نقرأ في الأصحاح الأول: "الْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ. وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ". النور هو الذي يوضح الأمور، ويقول الإنجيل أن الله نور وليس فيه ظلمة على الإطلاق. يقول يسوع: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»". ولذلك فأن نتنحى عنه يعني أن نتنحى عن النور. وأن نتبعه وأن نصغي إلى كلمته يعني أن نسلك في النور. نقرأ: "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

ربنا يسوع المسيح ليس هو نور العالم فحسب، بل هو أيضاً نور السموات. في الأصحاح ٢١ من سفر الرؤيا، حيث نجد ذلك الوصف ذلك الوصف الرائع للمدينة الجديدة، المدينة القائمة على أساس، والتي الله هو بانيها وصانعها، نقرأ في الآيات ٢٢، ٢٣: "لَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ وَالْحَمَلُ هَيْكَلُهَا. وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْحَمَلُ سِرَاجُهَا". يسوع هو نور كل السموات وأيضاً نور العالم. والشكر لله، فكثيرون منا يمكنهم القول أن "اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (٢ كور ٤: ٦).

إني أتساءل إذا ما كان من بينكم يا قُرائي من هو مُرتبكٌ بسبب أحوال الدنيا الحالية؛ مضطرباً ومرتبكاً ومحزوناً وهو يفكر ببؤس وأسى في ما يحيط به. في شكٍ وارتباكٍ وحيرةٍ قد تتساءلون على الدوام: "لماذا، وماذا، ومن أجل ماذا؟" آهٍ، يا صديقي العزيز، الجواب على كل أسئلتك هذه قد تجدها في معرفة ربنا يسوع المسيح، لأنك عندما تعرفه، فإنه يكشف ويُوضح كل شيءٍ لك، ويشرح كل شيء. ففيه تكمن كل كنوز الحكمة والمعرفة. أصغوا إلى كلماته من جديد وهو يقول: "كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ". عندما تضع ثقتك وإيمانك به، عندما تقتبله بالإيمان كمخلصٍ شخصيٍ لك، وتسلم حياتك له، وتعترف به رباً لك، عندما تتخذه معلماًًً إلهياً لك، فإنه يفتح ويكشف كل الأسرار الغامضة التي تربكك وتحيرك. نوره يشع ويسطع على الظلمة ويزيلها.(١٢:٢٨) في دانيال ٢: ٢٢ نقرأ: "يَعْلَمُ مَا هُوَ فِي الظُّلْمَةِ وَعِنْدَهُ يَسْكُنُ النُّورُ". وعندما تؤمن به، تأتي إلى النور، ونوره يجعل كل الأشياء واضحة. يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى (١ يو ٢: ٨): "الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ".

وفي يوحنا ١٢: ٤٧ يقول الرب (يسوع): "وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ". لقد جاء الرب يسوع المسيح إلى هذا العالم كتعبير عن نعمة الله المطلقة التي لا نظير لها. لقد احتمل كل العار الذي راكمه الناس عليه. وتساهل معهم إذ أشاحوا عن شهادته. ولكن سيأتي يوم يظهر فيه كدياّن، وعندها إذا ما كان الناس قد رفضوا نعمته فإنهم سيعرفون غضب الحمل. عندما يُفتح الختم السادس، كما تقول الآية ١٢:٦ من سفر الرؤيا، يرى يوحنا انهيار ما نسميه حضارةً في يوم الضيقةِ الذي سيلي هذا الدهر التدبيري الرائع من نعمة الله.(١٣:٥٧) وفي الآيات (رؤيا ٦: ١٥- ١٧)، نقرأ: "وَمُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ، وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟" يا له من تعبير: "غَضَبِ الْحَمَلِ"! لا نربط في العادة بين كلمتي "غضب" و"حمل"؛ إذ نعتقد أن الحمل هو رمز اللطف والوداعة، وصحيح ما نفعل. ونقرأ: "كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (أشعياء ٥٣: ٧). لقد سمح للخُطاة بأن يعصبِوا عينيه ويلطموه بأيديهم، وأن يسببوا له الكرب الشديد، وأخيراً أن يُسمروه على صليب العار. ولكن أيام اتضاعه، كمرفوضٍ مرذولٍ على الأرض قد انتهت، وها هو يجلس ممجداً على عرش الآب. إنه يتكلم بسلامٍ الآن لكل الذين يؤمنون به. ولكن إذا ما أصر الناس وعاندوا مصممين على رفض رسالته، وإن رفضوا أن يسمعوا، فكما يقول الكتاب، سيقع عليهم غضب الحمل الذي سيلي يوم النعمة. يا لحماقةِ أولئك الناس الذين ينحون بوجههم عنه. يقول لنا في الآية ٤٨ (من إنجيل يوحنا) أن: "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". يا لحماقة الذين يرفضون المسيح! ليت الناس يدركون أنهم برفضهم له (للمسيح) إنما يخطئون تجاه مصالحهم و فائدتهم هم أنفسهم!

في أمثال ١ نسمع الحكمة تناشد الإنسان ليترك طريق الحماقة ويصغي إلى صوتها. فما هي الحكمة؟ إنها تشير حقاً إلى ربنا يسوع المسيح، لأنه حكمة الله. هل تشيح بوجهك عن ذاك الذي هو أحكم الحكماء وأفضل الجميع؟ تقول الحكمة: "إن تنحيتم عني، فسيأتي يومٌ عندما ستطلبون الرحمة ولكن عبثا". في أمثال ١: ٢٢- ٢٣ نقرأ: "أَنَا أَيْضاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ. إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةٍ وَأَتَتْ بَلِيَّتُكُمْ كَالزَّوْبَعَةِ إِذَا جَاءَتْ عَلَيْكُمْ شِدَّةٌ وَضِيقٌ". متى سيكون هذا؟ ذلك سيكون في نهاية المطاف عندما يأتي يومُ غضب الله العظيم. والآن في هذا اليوم من نعمته، تناشد الحكمة الناس ليسلكوا طريق التوبة، ويقبلوا رسالة النعمة، ويؤمنوا بالرب يسوع المسيح. ولكن إن رفضه الناس ورفضوا كلمته، فعندها الرسالةُ نفسها سوف تشهد ضدهم في يوم الدينونة الآتي ذاك.

هناك آية أخرى صادمة جداً في أمثال ٨: ١٦- ١٧ (حيث الحكمة تتكلم) تقول: "بِي تَتَرَأَّسُ الرُّؤَسَاءُ وَالشُّرَفَاءُ كُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ. أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي". الحكمة التي هي المسيح، يقول: "أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي". ولعلك تقول: "ألا يحب (يسوع) الذين لا يحبونه؟" بلى، إنه يحب جميع الناس وبذل حياته عن الجميع، ولكنه بطريقة خاصة جداً يحب الذين يحبونه. ولكن بالبر يجب أن يدين أولئك الذي يرفضون نعمته بازدراء. "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". عندما نرفض المسيح فإننا لا نخطئ تجاه المسيح والله وحسب بل تجاه أرواحنا ذاتها أيضاً.

في إنجيل لوقا ٧: ٣٠ نقرأ: "وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ". واليوم عندما نجد الناس يرفضون رسالة الإنجيل الكاملةَ الواضحةَ، المرسلةَ بقوة الروح القدس، المتعلقة بربنا يسوع المسيح، فإنهم إنما يُخطئون تجاه أرواحهم أنفسهم. إن كنتَ يا قارئي العزيز، تسلك هكذا نحو المسيح، فإني أناشدك أن تنعطف إليه وأن تجد نصيباً مُرضياً لروحك، لئلا يأتي يومٌ تجد نفسَك وسط من يكونون عبثاً طالبين الرحمة. "مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ افْتَحْ لَنَا يُجِيبُكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!" (لوقا ١٣: ٢٥).

والآن في الآيات ٤٩ و ٥٠ من الأصحاح ١٢ (في إنجيل يوحنا) نجد يسوع يقول: "لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي". إن ربنا يسوع المسيح، عندما غادر مجد الآب ونزل إلى هذا العالم، لم يتوقف عن أن يكون إلهاً؛ لم يتوقف عن أن يكون كليّ القدرة ولكن اختار ألا يستخدم قدرته الإلهية الكلية، بل أن يتعلم من الآب. لقد اختار أن يكون محدوداً بمكانٍ محددٍ معينٍ، كإنسانٍ، هنا على الأرض. واختار ألا يستخدم قدرته الكاملة. بل أن يأخذ مكان الإنسان، الخاضع لله. لذلك فإن الإنجيل يقول لنا أن الأعمال التي عملها، إنما فعلها بقوة الروح القدس، والكلمات التي نطق بها، إنما تكلم بها لأن الله أعطاهُ إياها ليقولها. لقد تم التنبؤ عنه (عن المسيح) قبل سنين كثيرةٍ من مجيئه إلى هذا العالم، إذ أن أشعياء ٢:٥٠ تشير إلى لاهوته وناسوته كليهما معاً. نقرأ: "لِمَاذَا جِئْتُ وَلَيْسَ إِنْسَانٌ نَادَيْتُ وَلَيْسَ مُجِيبٌ؟ هَلْ قَصَرَتْ يَدِي عَنِ الْفِدَاءِ وَهَلْ لَيْسَ فِيَّ قُدْرَةٌ لِلإِنْقَاذِ؟ هُوَذَا بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ. أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً. يُنْتِنُ سَمَكُهَا مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ وَيَمُوتُ بِالْعَطَشِ" (أشعياء ٥٠: ٢). من هو المتحدث هنا؟ كل من يقرأ هذه الآية سيدرك حقيقة أن المتكلم هو الله نفسه. إنه خالق كل الأشياء، فالله وحده هو القادر أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أشعياء ٥٠: ٣). الله هو الذي أحدث ظلمة على مصر. الله وحده هو الذي يقدر أن يقول: "بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ" (البحر الأحمر). الله وحده يستطيع أن يقول: "أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً". ما من أحد سوى الله بمقدوره أن يفعل كل هذه الأشياء.

ولكن لاحظوا الآيات التالية. إن المتكلم هو نفسه، ولكن لاحظوا اختلاف اللغة. "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أشعياء ٥٠: ٤). وفي ترجمة أخرى: "أعطاني السيد الرب لسان تلميذ". لا حظوا أن المتحدث بقي نفسه، الذي أمكنه أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً" يقول الآن: "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ". هنا تجدون ناسوته. الخالق جاء إلى خليقته خاصته. كم من ملايين من النفوس المتعبة القلقة سمعت صوته! ما أكثر الذين سمعوه يقول: "تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلو الأحمال". وقد جاؤوا إليه وتأكدوا بأنفسهم بأنه يمكنه أن يفي بوعوده التي يقطعها على نحو رائع.

بمتابعة قراءة أشعياء ٥٠: ٥، نجد القول: "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُناً وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ. بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ". إنه يسوع هو الذي يتكلم بلسان النبي (أشعياء) قبل مجيئه إلى هذا العالم بسبعمائة سنة.

وهكذا يقول: "لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ". يوماً فيوماً كان ربنا المبارك يعلم من الآب ما يقول لأولئك الذين كانوا يسمعونه يكرز. "هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ". وهكذا، فإن الحياة الأبدية نجدها في اقتبال الكلمة. "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤).

"وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ". وفي هذا القول ختام لتقديم الرب نفسه للعالم. إن رفضَ الشهادة المقدمة في هذه الأصحاحات الإثني عشر الأولى من إنجيل يوحنا، فليس لدى الله المزيد ليقوله لهم. لقد أعطى فيها كامل إعلانه. هل اقتبلتَ الرب يا عزيزي القارئ، أم أنك لا تزال ترفضه؟

الخطاب ٤٢

التطهير بالماء

"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ. يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ" (يوحنا ١٣: ١- ١٧).

نبدأ، مع هذا الأصحاح الثالث عشر، دراسة الجزء الثاني من إنجيل يوحنا. لقد رأينا في الأصحاحات الاثني عشر الأولى الرب يسوع يقدم نفسه إلى العالم بكل جانب أمكن للروح القدس أن يصوره فيه للرجال والنساء، لكي يبكتهم على خطيتهم ويأتي بهم إلى معرفته على أنه مخلصهم. والآن ندخل إلى القسم الثاني العظيم من هذا الإنجيل، فنرى ربنا يظهر نفسه لتلاميذه ولأولئك الذين اقتبلوا شهادته وقبلوه رباً ومخلصاً. إنهم هم الذين يُشار إليهم في هذه الآية بالقول "خاصته".

ونقرأ: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ". طوال الأيام كان يتطلع إلى هذه الساعة؛ ساعة يمضي إلى الصليب ليُصار خطيئةً لأجلنا، ولينتقل من الصليب إلى القبر، صعوداً إلى المجد هناك. يسوع، وإذ كان يعلم أن الوقت المعين قد أتى ليذهب إلى الآب، "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". لقد رأينا كيف جاءت عبارة "إلى خاصته" في الأصحاح الأول. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". أي إلى بلده، وإلى مدينته. كل ما في هيكله كان يرمز إلى مجده. ولكن شعب العهد، غالبية شعب إسرائيل، لم يقبلوه. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ". وهؤلاء هم الذين يشير إليهم التعبير "خاصته". "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ". لقد كانوا خاصته بخمس جوانب لهذا المعنى: (١) إنهم خاصته بالخلق؛ فهو من أتى بهم إلى الوجود. الحياة نفسها التي لدينا آتية منه. (٢) وأكثر من ذلك، فإنهم خاصته بالفداء؛ لقد مضى إلى الصليب ليبتاعهم. بالطبع، لم يكن قد مات بعد عندما شارك هذه المجموعة الصغيرة أسراره في العلية، ولكنه ينظر إلى الصليب وكأنه صار في الماضي. لقد جاء لأجل هذا الهدف. وبالدرجة الثالثة (٣) إنهم خاصته بعطية من الله الآب. في الأصحاح ١٧ من هذا الإنجيل، يتحدث يسوع إلى الله الآب، أب "اِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ". نحن الذين خلصنا أُعطينا للابن بالآب. بهذا المعنى نحن خاصته. وأكثر من ذلك، (٤) نحن خاصته بالحق. كان عليه أن يعمل في قلوبنا وضمائرنا مبكتاً إيانا على الخطيئة، وهذه أدت إلى توبتنا تجاه الله، وإيماننا بالرب يسوع المسيح. وهكذا وُلِدنا بالروح القدس وجُعِلنا أبناء الله. (٥) ثم أننا خاصته بإذعاننا: نعمته هي التي أنهت تمردنا وكبلتنا بسلاسل المحبة إلى قدميه. لذلك فإننا ننتمي إليه بهذا المعنى الخماسي الجوانب.

جميع المؤمنين مشمولون بهذا العدد الذي يقول عنه الروح القدس: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". ترجم أحدهم ذلك التعبير الأخير كما يلي: "أحبهم بكل شيء". بكل ماذا؟ بكل شيء. لقد أحب بطرس بكل شيء رغم تبجحه وإخفاقه، وأحبه إلى أن انتصر إيمانه وإخلاصه. والحمد لله، عندما يهتم لشأن خاطئٍ بائس بالنعمة، فإنه يحبه بكل شيء. ويمكن أن نقول عن كل مسيحي: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". "الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ".

والآن نتعلم من هذا الأصحاح شيئاً عن كيفية اعتنائه بخاصته. بعد أن خلصتنا نعمته من الدينونة، نرى كيف يُحيط قديسيه بعنايته ويُطهر أقدامهم إذ أنهم يسيرون وسط عالمٍ ملوث. بمعنى آخر، لدينا هنا مثل مطبق عملياً . إنه يصور تلك الخدمة التي كان منشغلاً بها لأكثر من عشرين قرن منذ عودته إلى المجد.

"فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ". يا للشفقة! يهوذا، الذي سار مع الرب لثلاث سنوات ونصف، وسمِع كلمات نعمته، ورأى أعمال قدرته، وعاين حياته الرائعة، بقي قلبه بعيداً ولم يربحه المسيح. لقد كان يسوع يعرف كل شيء عنه؛ فهو لم ينخدع به. الرب يسوع قال عنه "ألم أختركم أنتم الاثني عشر، وأحدكم شيطان؟" يهوذا لم يتجدد. قلبه المتقسي لم يتقد بالمحبة للمسيح. لقد كان أحد الاثني عشر، ولكنه لم يكن أحد أولئك الذين ولدوا ثانية بالفعل. هذا يُظهر كيف أن المرء قد يكون متديناً بشكل مؤقت ويكون تحت أفضل تعليم ويرى أدلة قاطعة تبرهن تدخل القدرة الإلهية، ومع ذلك فإنه لا يأتي حقاً إلى الله على الإطلاق كتائب خاطئ ويعترف بالمسيح رباً. إن سلوك يهوذا قد ينطبق على أي واحد منا، ويُحذرنا ويدفعنا إلى أن نتفحص أنفسنا لنرى إن كنا في الإيمان أم لا.

يهوذا على وشك أن يُسلمه. وعلى ضوء ذلك نقرأ: "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي". لنترك هذه الكلمات تغوص إلى قلوبنا. كان يسوع يعرف أن الآب قد وضع بين يديه كل الأشياء. وفيما بعد نسمعه يقول: "لقد أعطي لي كل سلطانٍ في السماء وعلى الأرض". وأيضاً: "اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ".

تذكرون في العهد القديم، في سفر التكوين، العبد الذي نزل ليأتي بعروس إلى اسحق، فقال لوالدي رفقة: "لقد أعطى سيدي كل ما يملك لاسحق" ، وهكذا وضع الله كل شيء في يد الرب يسوع المسيح. "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي". وفي صلاته كرئيس كهنة عظيم قال: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". لقد جاء من الآب. وكما قال ميخا: "مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل". لقد جاء من مجد الله الأكمل إلى صليب الجلجلة، ثم عاد إلى الله، وهناك يجلس على يمين الآب ليصنع شفاعة لأجلنا.

ومن منظار كل ذلك، يأخذ مكانة الخادم. "قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا". إن ربنا المبارك، ذاك الذي له السيادة والسلطان على الكون، يأخذ مكان عبد. لقد انتقل من واحد إلى آخر من تلاميذه ليغسل أقدامهم الملوثة الدنسة. لقد كان مألوفاً في البيوت في تلك الأيام ان يفعلوا ذلك عندما يُراد إكرام وفادة الضيف. كان يأتي خادم ويغسل قدميه. ولكن لم يكن هناك أحد يقوم بذلك للتلاميذ أو ليسوع، ولذلك فإن يسوع يأخذ دور الخادم. ذاك الذي تنازل ليأخذ صورة إنسان فقير بائس، يئتزر بمنديل، ويتنقل من تلميذ إلى آخر ليغسل أقدامهم. وإذ يفعل ذلك، يراقبه سمعان بطرس. إنه يراه منتقلاً من تلميذ إلى آخر من أصحابه، فيغسل ويمسح أقدامهم. امتلأ قلب بطرس بالسخط. "لماذا يسمح له يوحنا بأن يقوم بهكذا فعلٍ متّضع، كما توما ومتى؟ سأنتظر حتى يأتي إلي. وسوف لن أسمح للرب بأن يذل نفسه على هذا الشكل عند قدميه". وأخيراً جاء إلى سمعان بطرس، وقال بطرس: "يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!" وفي النص الأصلي يستخدم الضميرين التوكيديين هنا: "يَا سَيِّدُ أَأنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ أنا؟" وفي هذا يضع بطرس نفسه في تقابلٍ وتضاد مع يسوع المسيح. ولكن لنصغِ إلى جواب يسوع. إنه يستخدم الضميرين التوكيديين هو نفسه أيضاً: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". "يا بطرس، إني أفعل شيئاً لست تفهمه الآن". لو كانت فقط مسألة غسل أرجل التلاميذ بماءٍ حرفياً بمعنى الكلمة، لكان المعنى واضحاً لبطرس. لقد كان يقوم بعمل الخادم، مُطهراً أقدامهم. إلا أن يسوع يقول: "لا، يا بطرس؛ ثمة صورةٍ هنا. وأنت لم تفهم بعد". "مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". متى سيكون هذا الـ "فيما بعد"؟ متى سيفهم بطرس معنى هذه حقاً ويعرف قصد المسيح من غسل رجليه؟ ذلك سيكون بعد سقوطه في قذارة وحمأة الخطيئة، بعد تجبنه وإنكاره للرب وأنه لا يعرف الرجل. فعند ذلك يسوع هو الذي سعى إليه ووضع ماء الكلمة على أقدام بطرس النجسة، وجعله أهلاً من جديد ليسير في الشركة مع الرب. ولكن الآن لم يفهم بطرس، ويشير يسوع إلى أن الفهم سيأتي في المستقبل. قال بطرس، بدون إدراك، ومن جديد وبتأكيدٍ أكبر: "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!" وكما تعلمون فإن هذه الجملة لا تدل على معنى إيجابي كثيراً. "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!". ولكن يسوع أجابه، وأعتقد أن كان هناك حنانٌ رائعٌ في صوته إزاء توكيد بطرس بصوت مرتفع، فقال له في حنوٍ كبير: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". أفلا نأخذ هذه الكلمات ونطبقها على أنفسنا؟ لأنها في الواقع ليست موجهة لبطرس فقط، بل إنها لكل المؤمنين إلى منتهى الدهر. إن يسوع يقول لك، يا صديقي، ولي، ولكل واحدٍ منا: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ".

والآن لاحظوا ما لم يقله يسوع، ولاحظوا ما قاله فعلاً. هو لم يقل: "إن لم أغسلك ليس لك فيَّ نصيب". بل قال: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". ما الفرق بين "فيَّ نصيب" و "مَعِي نَصِيبٌ"؟ حسنٌ. إن "فيه نصيب" هي الحياة، وبطرس لديه لتوه حياة مقدسة. لقد كان لتوه "فيه". وأن تكون في المسيح هي بعكس أن تكون في آدم. نحن في المسيح بالولادة الجديدة. وبطرس ولد لتوه لله. تلقى الرب لتوه مخلِّصاً له، وهكذا فإنه كان فيه. ولكن يسوع يقول الآن: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ"، و"معه" يعني الشِركة. "معه" يعني الرفقة. كل مؤمن مرتبط بالرب يسوع المسيح برابطين. هناك رباط الوحدة، ورباط الوحدة قوي لدرجة أن ثقل العالم لا يمكن أن يحطمه. يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". لعله يمكننا أن نترجمها على النحو التالي: "سوف لن تهلك، ولا بأي شكل من الأشكال، وسوف لن ينتزعها أحد من يدي". ذلك هو رابط الاتحاد.

ولكن هناك أيضاً رابط التواصل ورابط التواصل ضعيف لدرجة أن أقل خطيئة غير معترف بها ستكسره في لحظة، والطريقة الوحيدة التي يمكن إصلاحه بها هي بالاعتراف وبترك الخطيئة التي أدت إلى قصمه.

وهكذا يقول يسوع: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". ويقصد بذلك: "إن لم أغسل قدميك يومياً من النجاسة التي تلصق على الدوام بأقدام المرء فلا يمكن أن تكون لك شركة معي". هل من أمر أعظم وأثمن من معرفة أن باستطاعتك أن تعترف له بكل شيء؟ يمكنك أن تخبره عن كل تجاربك وصعوباتك وأفراحك، الخ. يمكنك أن ترفع إليه الشكر والتسبيح. إنه لأمر في غاية السهولة أن نذهب إليه مع مشاكلنا واضطراباتنا ومحنتنا وأن نُعبر أمامه عن أحزاننا وقلقنا- وعلينا أن نفعل ذلك. إنه يدخل إلى كل تلك معنا. مكتوبٌ: "في كل ضيقهم تضايق". ولكنه سيجعلنا نتشارك أفراحنا معه أيضاً عندما تكون الأمور سارة ومُبهجة، وأن نخبره عن كل تلك الأشياء التي تملأ قلبنا بالبهجة. ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك وأن نحظى بالشركة معه إن كنا نجسين بالخطايا التي لا نعترف بها. يجب أن نكون أنقياء لنتمتع بالشركة مع المسيح. "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ".

والآن يذهب بطرس إلى الحد الأقصى. فيقول: "يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي". لكأنه يقول: "يا رب، لم أفهم، ولكن إن كان النصيب معك يعني أن أغتسل على يدك، فلن أُعارضك من بعد. يمكنك أن تعطيني إغتسالاً كاملاً إن أردتَ". ولكن يسوع يقول: "لا، يا بطرس؛ ها إنك تخطئ من جديد. ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ؛ وأنتم أنقياء أطهار، ولكن ليس كلكم. لأنه كان يعرف من سيُسلمه؛ لذلك قال: "وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". لم يعرف يهوذا أبداً تطهير التجدد ذاك. ما الذي يخبرنا به المخلص هنا؟ ولماذا؟ عندما يخفق المسيحي ويتدنس في الفكر أو الفعل أو القول، فبذلك لا يتوقف عن أن يكون مسيحياً؛ لا يفقد صفته كابنٍ لله ولا يتوجب عليه أن يبدأ كل شيء من جديد، بل يحتاج بكل بساطة إلى أن يغسل قدميه- إنه في حاجة إلى أن يغسل سلوكه ومسيره.

يشعر الكثير من المسيحيين الأعزاء من ذوي الضمائر النقية بأنهم إذا ما أخطأوا فإن كل شيء ينتهي ويصيرون ضالين ساقطين هالكين من جديد. عدو نفوسنا يأتي إلينا ويقول: "لقد انتهى بك الأمر الآن. عليك أن تبدأ كل شيء من جديد". بعض الناس الأعزاء يخلصون مراراً وتكراراً. أذكر حادثةً طريفة لو لم تكن محزنة جداً. خرج فتى عزيز علي إلى أمام الكنيسة حيث كنت أعظ. واعترف وشعرنا أنه صار لدينا مهتدٍ جديد وابتهجنا به كثيراً. بعد أن صلينا معه وقلنا له عبارات كتابية مشجعة ومطمئنة جاء إليه أحد أصدقائه وقال: "يسرني أن أراك هنا من جديد. ولكن كم من مرة قد اهتديت حتى الآن؟" فقال: "آهٍ، مع هذه المرة يصبح العدد ٩٩ مرة". يا صديقي العزيز البائس! كان لديه ضمير نقي لدرجة أنه فكر أنه في كل مرة يخطئ عليه لأن يتجدد ثانية. بمعنى آخر، كان يحاول أن يحصل على اغتسال كامل كلما تدنس. "ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ".

أترى؟ في تلك الأيام كان رب البيت الغني لديه حمام في مركز الباحة وعندما كان يستيقظ في الصباح كان يثب إلى المسبح ويحصل على تطهير كامل. ثم كان يخرج مُنتعلاً حذاءً مفتوحاً، وإذ كانت شوارع تلك المدن الشرقية قذرة، فعندما كان يعود إلى البيت، كان يأتي أحد خدامه ويغسل قدميه. ما كان في حاجة إلى حمام كامل كلما عاد إلى البيت، بل كان يكفي أن يغسل قدميه.

عندما نتطهر بدم المسيح الثمين فإننا نغتسل كلية ونهائياً. وهذا لا ينبغي أن يتكرر. "دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية". أي أنه يُطهرنا بشكل مستمر. فنحن دائماً أنقياء طاهرين بهذا المعنى.

ولكن الآن، "ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ"، والرجلين تشيران إلى مسيرنا. ونقرأ: "أرجل أتقيائه يحرس"، ولذلك فكل مرة نخفق فيها، كمؤمنين، فعلينا أن نتجه إلى ربنا المبارك ونقول: "طهرني بغسل الماء بالكلمة". ونقرأ في أفسس ٥: ٢٥، ٢٦ "أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة". تلاحظون أن كلمة الله مرتبطة دائماً بالماء. في المزمور ١١٩: ٩ نقرأ: "بم يزكي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك". لنفترض أن يدي قد صارت نجسة دنسة. فما الذي أفعله؟ أذهب وأغتسل بالماء وبعد الاغتسال بالماء يزول الدنس. عندما يصبح قلبي وضميري مدنساً، ما الذي أفعله؟ أدع الرب المبارك يغسلني بماء الكلمة. "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم". إن كلمة الله هي الماء الذي نسكبه على قلوبنا وضمائرنا فيطهرنا من كل نجاسة.

كان يسوع يدرك حقيقة أنه ليس كلهم قد تلقوا الاغتسال الأولي. ويهوذا لم يعرف ذلك الاغتسال. "لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ". لم يغتسل يهوذا بالمسيح على الإطلاق. ثم بعد ان غسل أقدامهم وأخذ ثيابه وجلس قال: "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" حسناً، بالطبع رأوا ما صنع لهم، ولكنهم لم يفهموا الدرس وراء ذلك بعد. لذلك قال: "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ".

هلّا تلاحظون هنا شيئاً أخشى أن كثيرين من المسيحيين يغفلون عنه؟ إنه يقول: "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ". ماذا تدعونه؟ لقد استحسن أن يدعوه تلاميذه "معلم" و "رب". هل لاحظت ابداً هذا لدى قراءة العهد الجديد أنه ما من أحد من الناس حتى المقربين يدعو يسوع باسمه الشخصي؟ لم نقرأ أبداً أن بطرس ناداه بـ "يسوع" عندما كان يخاطبه. ولم نقرأ أن يوحنا ناداه هكذا. وأنتم بالتأكيد لم تقرأوا أن أحداً ناداه بـ "يسوع الحبوب"، "يسوع الحلو"، الخ. وهذا الأمر له مغزى. أليس كذلك؟ كيف كانوا يخاطبونه؟ كانوا يقولون: "يا معلم"، "يا رب"، "يا سيدي"، "يا إلهي"، الخ. فقد امتدحهم لأجل ذلك. "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ". كلما أرشدنا الروح القدس في صلواتنا فإننا نُمجده ونُعظمه عندما نخاطبه سيقودنا إلى التعرف عليه كرب. بعض الناس يخاطبون مخلصنا بطريقة تقلُّ احتراماً عن مخاطبتهم لرئيس الولايات المتحدة. إذا ما تم تقديمك إلى الرئيس فإنك لن تدعوه باسمه. سوف لن تجرؤ على ذلك. سوف تستخدم بعض عبارات التقدير والوقار والاحترام اللائقة بمنصبه. ولن تفعل خلاف ذلك. حسنٌ، عندما تخاطب مخلصك في المرات القادمة، تذكر أنه وغن كان اسمه يسوع إلا أنه معلمنا وربنا، والروح القدس يحب أن نُعظمه ونُمجده (ليسوع).

"أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ". ما الذي يقوله لنا هنا؟ بعض الأعزاء، بعض الأتقياء الذين لم أجد لهم مثيلاً، يعتقدون أن الرب كان يؤسس لطقس مسيحي ثالث، ولذلك يحفظون من وقت إلى آخر تقليداً يدعونه "غسل الأرجل". ولكن أخشى أن ينسى المرء أحياناً أن يسوع قال: "لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". لو كانت مسألة غسل أقدام حرفياً بالماء لكانوا عرفوا جميعاً بما يجري. ولكن يسهل أن يُساء فهم المعنى الحقيقي من وراء هذا التصرف.

كيف نغسل أقدام بعضنا البعض؟ وما هو ذلك الماء؟ ذلك الماء هو الكلمة. إلام ترمز أقدامنا؟ إلى طرق سلوكنا. إننا نغسل أقدام بعضنا البعض عندما نطبق كلمة الله على طرقنا. عندما يزل أحد المسيحيين قليلاً ربما تقول: "لقد كان مسيحياً مثالياً على نحو رائع، إلا أنه غدا الآن دنيوياً أكثر". ولكن ما الذي ستفعله حيال ذلك؟ يمكنك بكل بساطة أن تتجاهل الأمر وأن تتجاوزه، أو يمكنك أن تنتقده وتقول أشياء غير لطيفة؛ ولكن ما من طريقة من هذه ستكون مفيدة. يمكنك أن تذهب على الأخ أو الأخت المعني وأن توضح له بحنوٍ من كلمة الله الخطأ الذي يرتكبه، الخطيئة التي يسقط فيها. يمكنك أن تريه كيف أن حياته صائرة إلى النجاسة. وهكذا تغسل أقدامه. هل حاولت ولو مرة أن تغسل أقدام أخيك؟ هناك نص كتابي يقول: "لا تبغض أخاك في قلبك. إنذاراً تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطية" (لاويين ١٩: ١٧). إن الأمر يتطلب نعمة أن تكون مخلصاً صادقاً لطيفاً. يقول البعض لي: "حسنٌ. لقد حاولت، ولكن لم أستفد شيئاً". نحن في حاجة لنعمة كبيرة لنغسل أقدام بعضنا البعض. إن كنت ستغسل أقدام أقاربك، فعليك أن تكون منتبهاً إلى درجة حرارة الماء. سوف لن تذهب إلى أي شخص وتقول له: "ضع قدميك في هذا الدلو الذي يحوي ماءً يغلي، وسأغسلهما لك". والماء المجلد هو بنفس السوء. بعض الناس يأتون غليك بطريقة تجعلك تنفر مبتعداً عنهم. البعض يكونون حارين، والبعض بارد أو مجلد أو رسمي. لا يروق لك أي منهم؛ أليس كذلك؟ الأمر الملائم هو ما يلي: عندما ترى أخيك يخطئ، أدخل إلى حضرة الله وصلِّ لأجله. ثم تذكر الكلمة التي تخبرنا في غلاطية ٦: ١ أن "أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأخذ في زلة ما، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً". عندما تذهب إلى أخيك على هذا النحو محاولاً أن تطبق كلمة الله بإخلاص، فإنه سيكون في حالة سيئة جداً إن لم يُصغِ إليك. إن لم يكن مستعداً، يمكنك أن تستمر في الصلاة لأجله وأن تنتظر إلى أن يسمح الله لك بأن تساعده.

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ".

الخطاب ٤٣

الخائن ينكشف

>"لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ  الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». لمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ وَشَهِدَ وَقَالَ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي». فَكَانَ التّلاَمِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ. وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ. فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ». فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ. فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ». وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ. فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً" (يوحنا ١٣: ١٨-٣٠).

الموضوع الأساسي في هذا الجزء المحدد من الأصحاح هو خيانة يهوذا. عندما يفكر المرء في الامتيازات التي تمتع بها يهوذا، ويدرك كم كان تأثرها ضعيفاً على قلبه وفكره وكيف كانت النتيجة النهائية، فإن هذه الأشياء تجعل كل واحد منا يختبر ذاته شخصياً ويسبر أغوار قلبه في حضرة الله. فها هنا رجل ظل يسير مع ابن الله المبارك لمدة ثلاث سنوات ونصف رائعة. كانت لديه الفرص ليرى أعمال نعمته العجيبة ويسمع الأمور العظيمة المذهلة التي نطقت بها شفتاه، ويرى حياته- (أمكنه أن يرى ما لم يستطع الآخرون أن يروه)- وبالتأكيد لا بد أنه عرف أن ذاك الشخص كان شخصاً فائق البشر يتحرك وسطهم. قال يوحنا، كما تذكرون: "ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً". لقد حظي يهوذا بالفرصة بأن يراه. ولا بد أنه اشترك معه في أحاديث كثيرة هادئة، ولا بد أنه كان في موضع تقدير عند بقية التلاميذ، ومع ذلك فطوال الوقت لم يُسلم قلبه أبداً للرب يسوع المسيح. تذكرون أن المخلص قال: "أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!" هو لم يقل: "واحد منكم سيصير شيطاناً"، بل "وَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!". وعندما يتكلم إلى الآب، كما في الاصحاح السابع عشر، يقول: "الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ". ولعله يمكننا أن نفكر إذا ما قرأنا الآية بدون اهتمام أنها تعني: "أولئك الذين أعطيتني إياهم قد حفظتُهم ولم يهلك إلا واحد فقط، ابن الهلاك". ولكن ليس هذا هو ما قاله. ابن الهلاك لم يكن أحد أولئك الذين أعطاهم الآب للمسيح. لقد كان بين رفاق يسوع ولكن لم يكن من أولئك الرفاق. من الممكن تماماً أن يكون لديك اهتمام بالكتاب المقدس، وأن تتمرن وتعرف إلى حد ما عن العالم المحتاج، وأن تسلك وتتكلم كمسيحي، ولكن دون أن تُولد من الله. هذا ينبغي أن يُشجعنا على مواجهة أسئلة عديدة مثل: "هل أتيتُ إلى الله بصدق وإخلاص كخاطئ تائب؟ وهل وضعتُ فيه إيماني، وأسلمت قلبي وحياتي له؟"

قلتُ قبل دقيقة أن من الواضح أن يهوذا كان موضع احترام كبير من قِبل التلاميذ. ولعلكم تتساءلون: "على أي أساس تفترض ذلك؟" لقد اختير ليكون أمين صندوق الجماعة الصغيرة. عندما تختار أمين صندوق فإنك دائماً تبحث عن رجل ذي أمانة واستقامة، وسمعة جيدة، شخص يمكنك أن تثق به وألا تشوبه شائبةٌ من الخيانة أو الخداع. وهكذا فإن الانطباع الذي تركه يهوذا عند التلاميذ في تلك الأيام الأولى، على الأقل، كان بأنه رجل ذو موثوقية مطلقة. لعلكم تقولون أيضاً أن يهوذا كان الجنتلمان الحقيقي بين التلاميذ الاثني عشر. فمعظمهم كانوا عمالاً كادحين. لقد أتوا من منطقة حول البحر الجليل حيث كان يسكن أفقر طبقة من الناس، بينما يهوذا أتى من اليهودية، من بلدة تدعى سخريوط، ولعله كان الشخص الأبرز بين كل جماعة الرسل. ومع ذلك فقد كان هو الرجل الوحيد الذي لم يكن يسوع قد ربح قلبه ولم يصل يسوع حقاً إلى وجدانه. في حديثنا الأخير لاحظنا أن يسوع قال: "ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". والروح القدس يوضح سبب قوله لذلك. "لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: "لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ". وهذا أمر مذهل. ابن الله رأى النفاق والرياء في ذلك الرجل، لمدة ثلاث سنين ونصف، كما يرى الآن في الكثير من الناس. إنه يرى قلوب الناس غير الصادقين والمخلصين. قد يُظهرون خارجياً أنهم صادقون، ولكن المسيح ينظر إلى القلب ويعرف إن كانوا أنقياء أم لا.

يخبرنا في الآية ١٨: "أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ". إنه يعرف كل أولئك الذين وضعوا ثقة قلبهم فيه. كان الرب يعرف مسبقاً بخيانة يهوذا، ولكن هذا لا يعني أنه كان قضاءً وقدراً له أن يفعل ذلك الأمر الشنيع الرهيب. ليس شيئاً من هذا القبيل. هناك فرق كبير بين معرفة الله المسبقة وقدرية الله. لقد نظر (الله) عبر الأجيال وعلِم أن يهوذا سيفعل ذلك، ولكنه لم يقضي بذلك. إن خطر في بالك أن إنساناً حُراً يمكن أن يأسره الشيطان، فيمكنك أن تتخيل يهوذا حُراً. لقد كان حُراً في أن يُسلم نفسه للمسيح أو للشيطان، وهذا الخيار متاح لي ولك أيضاً. علينا أن لا نلوم إخفاقاتنا وخطايانا لسبب أي قدر محتوم مسبقاً. الله لم يقضي أبداً بأن يعيش أي رجل أو امرأة في الخطية، أو أن يهلك أي إنسان. قال الرب يسوع بنفسه: "لا تريدون أن تأتوا إلي لتكون لكم حياة"، ويقول لكل الناس: "من يشاء، فليأخذ ماء الحياة مجاناً". ولذلك فقد كان بإمكان يهوذا أن يخلص، ولكنه لم يؤمن بيسوع؛ وكان الله يعرف مسبقاً بهذا، ولذلك فقد تم الحديث عن خطيئته مسبقاً في سفر المزامير. لقد عرف الرب يسوع بذلك. طوال الوقت كان يسوع يعرف بما كان يجول في قلب يهوذا، وكان يعرف أنه سيكون الشخص الذي سيستخدمه الشيطان ليسلمه للأشرار.

لقد قال: "أَقُولُ لَكُمُ  الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ". بمعنى آخر، يقول: "لا أريدكم أن تفكروا أني كنت عاجزاً أو لا حول ولا قوة لي عندما وضعوا أيديهم علي ليعتقلوني، أو أني أُخذت على حين غرة. لقد رأيت مسبقاً كل ذلك. كنت أعرف ما سيحدث؛ وأنه يجب أن أصلب". ولكنه أخبرهم أنه في اليوم الثالث سينهض من بين الأموات ثانيةً. فيقول: "أَقُولُ لَكُمُ  الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ". ومن جديد يستخدم الاسم الإلهي: "أنا هو". "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". كان هذا أمراً مريحاً للرسل، إذ بعد قليل سيبدأون عمل البشارة في عالم هالك. سيتوجب عليهم أن يمضوا إلى العالم كممثلين له. قال بولس بعد سنوات: "نحن سفراء للمسيح". والسفير يتكلم بالنيابة عن حكومته، وإذ يُرسل المسيح خدامه إلى العالم يخرجون ليشهدوا له. ومن هنا، فقد قال: "من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت". ليست هذه وظيفة كهنوتية خاصة، بل تعني أن كل خادم للمسيح يمكنه أن يذهب إلى أي خاطئ ويقول له: "لقد أتيتُ أعلن لك غفران الله لخطاياك إن أتيتَ إلى المسيح، ولكن إن رفضت المجيء إليه لأجل مغفرة الخطايا فإنها لا يُمكن أن تُمحى". هذا السلطان يتمتع به كل خدامه. من يقتبلهم يقتبل المسيح. "لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ". إلى جانب كونه إلهاً، كان ربنا أيضاً إنساناً حقيقياً. لم يكن الله وحسب، بل الله متجلياً في الجسد. وإذ صار إنساناً فإنه أخذ روحاً بشرية وجسداً بشرياً. ونقرأ هنا أنه "اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ". إذ نظر قُدماً إلى ما ينتظره، أنَّ من الألم والكرب إذ فكر بالدينونة التي ستصيب يهوذا من جراء خيانته. ما من نفس تهلك إلا وتسبب لروحه حزناً شديداً. "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي (أحدكم أنتم المقربون إلي، واحدٌ منكم أنتم الذين شاركتموني بأشياء كثيرة، واحدٌ منكم وهو الذي أخفق في أن يؤمن بي وأن يثق بي)- إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي". آهٍ، إني أتساءل إذا ما كان ينظر إلى السماء اليوم إلينا هنا وإذا ما ميزت عيناه القدوستان هنا وهناك بين أولئك الذين يقرأون هذه الصفحات شخص غير صادق وغير أمين، وأتساءل إذا ما كان يقول: "أحدكم سيسلمني". لأنه إن كان أحد يعترف بكونه مسيحياً بالاسم وليس له قلب صادق حقيقي يؤمن بالرب، فإن ذلك قلب يغوص في آثام عميقة لا غور لها ولا يمكن الكلام عنها.

اضطرب التلاميذ، وشكوا وتساءلوا عمن يقصد بكلامه. ما كانوا واثقين من أنفسهم. فتساءل كل منهم: "أيمكن أن أكون أنا؟" وسأل كل واحد منهم الآخر: "أهو أنا؟" وعلى صدره كان يتكئ أحد تلاميذه، وهو يوحنا، الكاتب البشري لهذا السفر، الذي لا يشير إلى نفسه أبداً بالاسم. لقد كان أصغر الرسل. أحد كُتَّاب الكنيسة الأولى، ترتليان، يقول أن يوحنا كان مراهقاً عندما دعاه يسوع. كان هذا الفتى عزيزاً جداً على قلب ابن الله. آهٍ، كم يحب يسوع أن يرى الشبيبة يكرسون أنفسهم له، مسلمين حياتهم كلياً له. يا أيها الشبان، ما من شيء على هذه الأرض أعظم من أن تقدموا حياتكم للمسيح. يمكنكم التأكد من ذلك، أنه يحبكم بالفعل كأفراد. أعتقد أنكم تذكرون ذلك الشاب الذي جاء إلى يسوع يسأله عن الحياة الأبدية، فوضعه يسوع على المحك قائلاً له: "بِع كل ما لك.... وتعال اتبعني"، فانصرف الشاب حزيناً لأنه كانت لديه ممتلكات كثيرة. أما يسوع، الذي نظر إليه، فقد أحبه. لقد رأى الإمكانيات في ذلك الشاب لقد رأى ما كان ليُمكن أن يكون لو سلم نفسه للمسيح. فها هنا كان الشاب يوحنا ذو القلب الرقيق أتى إلى المسيح بطريقة ما كان للأكبر منه سناً ليُعبروا بها عن أنفسهم. فاتكأ برأسه على صدر الرب. أومأ سمعان بطرس له وقال: "اسأله ليخبرنا من عسى أن يكون". فقال يسوع، بصوت منخفض جداً: "هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ". لقد كان أمراً مألوفاً في تلك الأيام أن تقدم لقمة لشخص مميز يوماً ما كعلامة على محبة حقيقية. فقال يسوع: "يا يوحنا، انظر ذاك الذي سأعطيه هذه اللقمة؛ إنه الذي سيسلمني". وهكذا غمس يسوع اللقمة وسلمها إلى يهوذا. هل سيقبلها يهوذا؟ كانت ليهوذا الوقاحة بأن يمد نفسه مقترباً من يسوع وأن يأخذها من ذاك الذي كان قد ساوم على اعتقاله لتوه. ونقرأ: "فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ"- بطريقة جديدة الآن. إن يهوذا، بهذا الفعل الأخير، قد وضع نفسه بشكل مطلق ونهائي تحت سيطرة الشيطان. والآن قُضي الأمر مع يهوذا وما عاد هناك إمكانية بعد للتوبة. أدرك يهوذا أنه تجاوز الخط الأحمر. ولذلك التفت إليه الرب وقال له في هدوء: "مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ". بمعنى آخر، "يا يهوذا، لقد بعت نفسك للشيطان. لقد استنفذت كل فرصة للرحمة. لقد وطِئت محبتي ونعمتي. لقد قسَّيت قلبك إزاء صلاح الله. والآن، يا يهوذا، ضع نهاية لذلك. فما تريد أن تفعله، افعله بسرعة". لم يفهم أحد على المائدة ما معنى كلامه. فكر البعض، ولأن يهوذا هو أمين صندوق الجماعة، أن يسوع قد قصد القول: "اذهب واشترِ تلك الأشياء التي نحتاج إليها للعيد". لم يعلموا أن الخائن كان على وشك أن يبيع الرب لقاء ثلاثين من الفضة. ولعل البعض فكر أن يسوع قد طلب منه أن يعطي شيئاً ما للفقراء. يا لها من فكرة شيقة! هل كانوا ليفكروا على هذا النحو لو لم يكن ذلك أمراً شائعاً في حياة ربنا؟ ألا ترون، لقد كان معتاداً على فعل ذلك. لقد كان يفكر دائماً بالفقراء. قال: "لديكم الفقراء في كل حين". فكان من الطبيعي أن يفكروا: "لقد عرف بفقير ما في حاجة ما، وها هو يرسل يهوذا ليقدم المعونة". كان هذا قلب ابن الله. ويا له من قلب يتناقض مع قلب يهوذا! كان قلب يهوذا مليئاً باشتهاء ما للغير. كان ذاهباً ليملأ كيس الدراهم بالفضة التي أتت من بيع ابن الله.

"فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً". الوقت يكون ليلاً دائماً عندما يدير الناس ظهورهم لله. إنه دائماً ليلٌ عندما يدوسون صلاح يسوع تحت أقدامهم. وغن كنتم تفعلون ذلك اليوم، وحتى ولو كانت الشمس ساطعة في الخارج، يبقى الجو ليلاً في قلوبكم إلى أن يدخلها يسوع، الذي هو نور الحياة. بالنسبة ليهوذا، ما عاد لديه نور أبداً على الإطلاق. خرج وكان ليلاً في داخل نفسه البائسة المعتمة، وكانت تلك بداية سواد الظلمة التي تستمر إلى الأبد. آهٍ، كم منا يستطيع أن يشكر الله لأنه في غنى رحمته ونعمته قد كسِب تلك القلوب البائسة كمثل قلوبنا. لماذا وطأ يهوذا على كل محبته؟ لا يمكننا أن نفهم ذلك، ولكننا متأكدين بأنه نال كل فرصة ليخلص. 

الخطاب ٤٤

الوصية الحادية عشر

"فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: «ﭐلآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً. يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ. وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»" (يوحنا ١٣: ٣١-٣٨).

كان ربنا وتلاميذه لا يزالون في العلية حيث أقام الفصح الأخير معاً، كما نعلم من الأناجيل الأخرى، هذا الذي أعقبه تأسيس عشاء الرب، عيد المحبة المقدس الذي حفِظه شعب الله المحبوب على مر الأجيال. غادر يهوذا المجموعة الصغيرة. ومدفوعاً بأسوأ الدوافع، وواقعاً تحت سطوة الاشتهاء، مضى خارجاً ليقابل رؤساء الكهنة وليأخذ المال الذي وعدوه به مقابل تسليم الرب يسوع إلى أيديهم بعد هُنيهة. والآن وإذ بقي المخلص لوحده مع الأحد عشر الذين اضطربت قلوبهم بشكل غريب بسبب الأمور الأكيدة التي أخبرهم عنها لتوه، تكلم بفرح جديد وقال: "ﭐلآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ".

لم يبدو الأمر وكأن الله كان على وشك أن يتمجد، وخلال الأيام الثلاث التالية ستكون لديهم الكثير من الشكوك بالفعل فيما يتعلق بتمجد الله من خلال الأحداث التي ستجري. كان الرب قد قال أنه سيخرج للموت، وأنه سيُسلم إلى أيدي الخطأة. هل كان في ذلك تمجيد لله؟ قال أنه سيُدفن وسيقوم ثانية وفي هذا، أي في موته وقيامته، سيتمجد الله. إذ في موته الكفاري على الصليب، سيقوم بتسوية مسألة الخطيئة بطريقة تحقق كل مطالب قداسة طبيعة الله وبر عرشه. ولعله يمكننا القول أن في موته ذاك على عود الصليب سينال الله مجداً أكثر من مما خسره آدم بسقوطه وبكل الإثم والعداوة والتعدي الذي دخل إلى العالم منذ ذلك الحين.

إذ في نهاية الأمر، الناس إنما هم خطأة محدودون ولأن هكذا فإنهم قد خذلوا الله وازدروا به. ويمكن القول عن أي إنسان: "الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده". ولكن الرب يسوع كان غير محدود الذي جمع اللاهوت بالناسوت ليقدم نفسه كفارة عن نفوسنا. ولأنه كان غير محدود، فإن العمل الذي قام به على صليب الجلجثة كان له قيمة غير محدودة لا متناهية، ومن هنا فإننا نكون محقين بقولنا أن الله أخذ مجداً من ذلك العمل على الصليب أكثر مما فقده بخطيئة الإنسان المحدود. كدليل على أنه تمجد، أقام الله ابنه من بين الأموات، ممجداً يسوع، ذاك الذي أنجز العمل. "إن كان الله قد تمجد فيه فإن الله سيمجده في ذاته ويمجده سريعاً".

إن فكرة مجد الله كانت كبيرة في قلب يسوع في ذاك الوقت. في الحقيقة- قد يبدو غريباً للبعض منا أن يقول ذلك- ولكن من الواضح أن ربنا كان مهتماً بتمجيد ابن الله أكثر بكثير من تخليص الخطأة. كم نود أن نفكر بالعكس! إننا نحب أن نفكر بأن خلاصنا كان الأمر المهم وأن الأمر العظيم الذي جاء يسوع ليفعله هو أن يخلص نفوسنا. وقد جاء لأجل ذلك فعلاً. "ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين". "أحب المسيح الكنيسة وبذل نفسه عنها". ولكن كان هناك شيء أعظم من خلاص الخطاة يشغل قلبه، وكان ذلك هو تمجيد الآب. ولذلك ففي الأصحاح السابع عشر عندما نراه أمام الله كرئيس كهنتنا العظيم، متحدثاً مسبقاً عن عمل الصليب، نسمعه يقول: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ". مجد الله يأتي أولاً، ومن ثم ذلك العمل المكتمل على الصليب الذي به تخلص نفوسُنا.

أتذكر سماع أحد الخلاصيين، رجل كان يؤمن بأن كل الناس سيخلصون في نهاية الأمر، كان يقول مرة إلى أحد المسيحيين الجديين: "لدي مفهوم عن عمل الكفارة أعلى مما لديك، لأنك تؤمن بأنه حتى لو مات المسيح على الصليب فهناك آلاف وربما ملايين من الناس سيهلكون إلى الأبد. لدي فكرة أسمى من فكرتك عن كفارة عمل الصليب ذاك. أعتقد أنه إن هلكت نفس منذ أن مات المسيح، فإن كفارته ستكون أعظم إخفاق حدث في الكون".

فأجاب المسيحي قائلاً: "لا. بل إن لدي مفهوماً أسمى من مفهومك. لي الجرأة أن أقول أنه حتى ولو لم تخلص نفس واحدة، فإن الكفارة كانت أعظم نجاح في الكون، إذ بذلك العمل الكفاري تمجد الله وتعظم بطريقة لم تكن لتصير لولا ذلك".

إن الأمر الرائع هو أن خلاصنا مرتبط بمجد الله. أترون، إن قلب الله اتجه نحو الإنسان الخاطئ، ولكنه لم يستطع أن يخلص الخطأة إلى أن تمت تسوية مسألة الخطيئة، لأنها كانت ستنتهك بر عرشه. ما كان ليخلص الخطأة لو كان الأمر أن يسلك بما يتناقض مع قداسة طبيعته. ولذلك فإن ابنه الحبيب، السرمدي، ذاك الذي كان منذ القديم، منذ الأزل، قد تجسد. وباتضاعه فقد صار إنساناً ومضى إلى الصليب، ودفع ثمن الفداء الكامل عنا، وكل ادعاء كان لدى الله ضد الخاطئ تمت تلبيته، والآن يمكن لله أن يكون عادلاً وأن يبرر من يؤمن بيسوع. ولذلك فإن خلاصنا ومجد الله يثبتان معاً أو يسقطان معاً. لقد بذل المسيح نفسه عنا، تقدمة وقرباناً ذا عبق طيب الرائحة لله، وبسبب رضا الله عن عمل ابنه الذي أنجزه، يمكنه الآن أن يفتح ذراعيه وأن يدعوا كل خاطئ أثيم لأن يأتي غليه وأن يقدم له غفراناً كاملاً مكتملاً وتبريراً من كل خطاياه؛ نعم، هناك تطهير من كل وصمة إثم سيناله كل من أتى باسم يسوع. هلا أتيت؟

جاءت سيدة في إحدى المناسبات إلى خادم لله. وعندما سُئلتْ إذا ما كانت قد خلصت، فأجابت: "لا أفهم ذلك. أرى أن يسوع مات من أجلي، ولكن لا بد من أن هناك شيئاً ما علي أن أقوم به. تبدو هذه طريقة سهلة جداً لمعرفة عن كان المرء قد خلُص".

فقال ذاك: "يا صديقتي العزيزة، إن الله هو من أرسل ابنه ليموت. إن الله هو من وضع عليه كل ما كانت تستحقه خطايانا. المسيح حمل تلك الدينونة عنا، والآن غدا الله راضياً، وإن كان الله راضياً، فبالتأكيد لا بد من أن تكوني كذلك".

رفعت بصرها منذهلة نوعاً ما وقالت: "لم أفكر بالأمر على هذا النحو من قبل. بالتأكيد سأكون راضية بما يُرضي الله. نعم، أستطيع ان أومن به، أستطيع أن أثق بكلمته".

هل فعلت ذلك؟ هل تدرك أنه على الصليب تمت تسوية الخطيئة؟ والآن عندما تقتبل يسوع، إنك تقف مبرراً من كل تهمة.

من مجَّد الله على الصليب قد قام من بين الأموات، رُفِع إلى الآب، وهناك مجَّده الآب بذاته بالمجد الذي كان له مع الآب منذ قبل بدء العالم.

كان يسوع ينظر إلى كل هذا كحقيقة منجزة عندما تكلم على ذلك النحو الذي تدونه لنا الآيات ٣١ و٣٢. ثم أضاف: "يا أولادي"- بضعة ساعات أخرى وسيخرج ليموت- "يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ". لقد كان على وشك أن يمضي وعلى وشك أن يترك تلاميذه في العالم ليكونوا شهوداً له. عندما كان هنا، قال: "أنا نور العالم". ولكنه كان عائداً إلى السماوات من حيث أتى، والتلاميذ بعد أن تركهم هنا، كان عليهم أن يشعوا كأنوار في هذا العالم المظلم. وهنا أعطى وصيته الجديدة: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". لقد كانت هذه آخر مهمة يوكلها إلى قديسيه قبل أن يمضي إلى الصليب. إذ نظر مسبقاً عبر السنين، عرف أن العالم سيكون عدائياً لهم وسيكرههم كل الناس من أجل اسمه، فناشدهم أن: "لا تكرهوا بعضكم بعضاً. لا تكونوا حاقدين قساة أو محبين للخصام أو فظين أحدكم نحو الآخر. أنتم الذين افتُديتم بنفس الدم الثمين، مسكن الروح القدس نفسه، كونوا لطفاء بعضكم مع بعض، شفوقين، مسامحين بعضكم لبعض، كما أن الله كُرمى للمسيح قد غفر لكم. وصية جديدة أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً". لعلنا لا نتجرأ أن نواجه أنفسنا بسؤال نطرحه على قلبنا ألا وهو: "كيف تجاوبتُ مع هذه الوصية لمخلصي؟ هل أتميز بالمحبة نحو أخوتي في المسيح؟ أو هل تجاهلتُ حتى الآن مسؤوليتي كمسيحي فسمحتُ للحقد والحسد والغيرة والكراهية أن تُعشعِش في قلبي؟ هل أبقيت هذه الأشياء الشريرة؟" هناك أولاد لله باردون وقساة وغير مبالين وميالون إلى النقد وفظون. حسن أن نواجه هذه الأشياء في حضرة الله.

كم من تعصب مرير نشأ عبر السنين بسبب الجدال الديني! أتذكر أني قرأت عن حادث فاجع في حياة رجل الله الرائع ذاك، صموئيل راذارفورد، الذي تجسدت كلماته الأخيرة في تلك الترنيمة الجميلة، "أرض عمانوئيل". كان راذارفورد، كاتب مجلد ضخم عن رسائل سماوية تحمل نكهة إلهية، خادم كنيسة سكوتلندا، وكان مكان خدمته هو بلدة اسكوتلندية صغيرة تُعرف باسم أنووث. عمل جاهداً هناك وسط جماعة بهجة من المؤمنين المخلصين. ولكن كانت هناك مشاكل في العلاقة مع الحكومة. كانت الحكومة البريطانية قد أعلنت أن الكنيسة الاسكوتلندية يجب ألا تتبع الكنيسة المشيخية بعد الآن، وبالتالي فهذا يجب أن يُطبق على كنيسة راذارفورد. وكان اسكوتلنديون على عادتهم يرفضون فرض الأشياء الغريبة عليهم. وكان راذارفورد أحد الخدام المخلصين الذين، وبوحي ضميرهم الحي، قد رفضوا الإذعان للأمر والاعتراف بسلطة أساقفة الملك.

ولأنه رفض أن يتكيف معهم، فإن راذارفورد طُرِد إلى أبردين ووُضِع في السجن هناك. كان يقول دائماً انه لن يسمح لأسقف أي كان أن يقف في منبره أو أن يُملي عليه ما يكرز به. ولكن قبل أن يغادر، وإذ كان لا يزال راعياً للكنيسة، جاء غريب في إحدى الليالي إلى منزل القس. وإذ قرع الباب، قام راذارفورد بنفسه باستقباله. لم يعرِّفه الغريب على اسمه، ولكنه قال له أنه كان عابر سبيل، وسيكون مسروراً إذا ما حصل على حاجته من مبيتٍ وطعام وشراب لتلك الليلة. أكلا معاً. وبعد ذلك، تكلم راذارفورد بكلمة الله ثم قال: "لدينا في مثل هذا الوقت التعليم المسيحي وقراءة من الكتاب المقدس والصلاة، ونتوقع من كل زوارنا أن يشاركونا فيها". كانت عادة قديمة جيدة. ليت لدينا المزيد منها هذه الأيام. وهكذا فقد تنادى الخدام إلى الدخول وقرأ راذارفورد النص الكتابي. ثم بدأ يعلم كل البيت والتفت في نهاية الأمر نحو الغريب وسأله: " كم وصية هناك؟"

رفع الغريب بصره، وبدون طرفة عين أجاب: "إحدى عشر".

بدا راذارفورد مرتبكاً: "سألتك كم عدد الوصايا".

"نعم، فهمت. إنها إحدى عشر".

"يدهشني أن شخصاً في هذا العالم الاسكوتلندي يجهل أن هناك عشر وصايا فقط".

وهنا رفع الغريب بصره وقال: "إني أعطيكم وصية جديدة، أن يحب بعضكم بعضاً".

فقال راذارفورد: "آهٍ. ما اسمك أيها الغريب؟"

فقال: "اسمي آشر. أنا أسقف ايرلندا".

أسقف في بيت راذارفورد! الرجل الذي قال أنه يأبى وجود أي شركة له وأي نظام كنسي آخر. وهنا، محبطاً، خجلاً من فظاظته، توسل راذارفورد إلى الغريب أن يقودهم في كل الصلاة، وكان متحمساً عندما رفعهم الأسقف جميعاً أمام الله في الصلاة.

كم نحتاج إلى أن نتذكر دائماً هذه الوصية الحادية عشر: "إني أعطيكم وصية جديدة أن يحب بعضكم بعضاً". لا يكفي، يا إخوتي أن تعرفوا أنكم خلصتم. لا يكفي أن تقفوا ثابتين راسخين، كما آمل، مستندين على الحقائق الأساسية. فقبل كل حقيقة أصلية هناك خبرة أصلية عظيمة يجب أن يمتلكها كل واحد منا.

"إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً". يجدر بنا من حين إلى آخر أن نختبر أنفسنا على ضوء الأصحاح الثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى. "المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء". أي أن المحبة لا تفعل الشر ولا تدين دوافع الناس. "ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء".

يمكننا أن نستخدم هذه الكلمات لرسم صورة عن شخصية ربنا يسوع المسيح. يمكننا أن نضع اسم يسوع المسيح بدلاً من كلمة المحبة، فتصبح الآيات كما يلي: "المسيح يتأنى ويرفق. المسيح لا يحسد. المسيح لا يتفاخر ولا ينتفخ. ولا يقبح ولا يطلب ما لنفسه ولا يحتد ولا يظن السوء، ولا يفرح بالإثم بل يفرح بالحق. ويحتمل كل شيء ويصدق كل شيء ويرجو كل شيء ويصبر على كل شيء. المسيح لا يسقط أبداً". وإن كان لك ولي نفس الفكر الذي للمسيح، فإن هذا الحب الإلهي سيتجلى فينا. إن لم يكن الأمر كذلك فإن كل كلامنا عن أننا متأصلين في الحقيقة، وكل كلامنا عن إخلاصنا للحقيقة، يكون لا معنى له في الواقع. قد نستمد في الجدال الدفاعي في حقائق عظيمة بارزة معينة، ولكن إن تجادلنا بروح سيئة فإننا إنما نسيء إلى القضية التي نمثلها وإن لم يكن في خلفية دفاعنا عن الإيمان حب صادق لإخوتنا، حبٌ لكل الناس، فإننا نُخزي ذاك الذي هو نفسه الطريق والحق والحياة. لقد قال: "بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". هذا يعني أننا لا نبرهن أننا تلاميذ بمجادلتنا في دستور الإيمان، مهما كان دفاعنا كبيراً أو مهماً. ولا نبرهن عن أننا تلاميذه بإصرارنا على حقيقة نؤمن بها تتعلق بوحي الكتاب المقدس، مثلاً. ولا نبرهن عن أننا تلاميذ بأن نرفع صوتنا أعلى في التعبير عن إيماننا بالولادة العذرية والإنسانية الكاملة لمخلصنا، وعمله الكفاري، وقيامته بالجسد، وشفاعته الحالية لنا وهو على يمين الله. ولا نبرهن أننا مسيحيون حقاً بإصرارنا على إيمان بالمجيء قبل الألفي لربنا يسوع وكل تلك الحقائق الثمينة والعظيمة المتعلقة به، بل: "بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". دعونا لا ننسى ذلك، ودعونا نختبر أنفسنا بصدق ونزاهة وأن نرى عن كنا نسمح للكراهية والحقد بأن تقيم في قلوبنا عندما ندعي أننا متشبثين بربنا يسوع المسيح.

لا يتحدثون فقط عن ذلك، بل في الأصحاح الخامس عشر، الآية عشرون، يقول: "هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ". أترون، المحبة الحقيقية ليست أنانية. المحبة تُسر بأن تحتمل وأن تفعل. لا تتكلموا عن المحبة لبعضكم البعض إن كنتم لا تهتمون بخدمة بعضكم البعض بالمقدار الذي يريده الله.

أنظروا إلى رسالة يوحنا الأولى. التلميذ الحبيب الذي سمِع ربنا ينطق بهذه الكلمات لا ينساها أبداً. نعلم أنه عندما صار طاعناً في السن، وإذ أصبح عاجزاً عن المشي، اعتاد أن يُحمل إلى مكان اجتماع القديسين في أفسس، ثم كان يساعده اثنان من الشيوخ ليقف على قدميه ويقدم إرشاداً جديداً تقوياً رائعاً لشعب الله. ويُقال أنه كان دائماً يخدم كلامه بالقول: "أيها الإخوة، لست أكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء. أيضاً وصية جديدة أكتب إليكم، ما هو حق فيه وفيكم، أن الظلمة قد مضت، والنور الحقيقي الآن يضيء. من قال إنه في النور وهو يبغض أخاه، فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة".

انظروا إلى الآية ١٧من الأصحاح الثالث: "وأما من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجاً، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق!"

المحبة هي أمر عملي. إلى أي حد نظهرها نحو أولئك الذين هم في ظروف أصعب من ظروفنا؟ إلى أي حد نظهرها نحو أولئك الذين أخفقوا وخطئوا؟ هل نحن راضون ببساطة لتركيزنا على أخطاءهم وانتقادهم ولومهم بقسوة؟ أم أننا نحبهم بما يكفي لأن نذهب إليهم بروح المسيح وأن نطلب أن يُرجعهم إليه؟ "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً".

ولكن الآن نجد سمعان بطرس في هذه اللحظة يسمع ولكن لا يصغي. ما قاله الرب، المدون في هاتين الآيتين، يبدو وكأنه لم يترك انطباعاً في نفسه على الإطلاق. فهو لا يزال يفكر بما كان قد قاله المخلص قبل برهة، "حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي". وإذ أن ذهنه مشغول بهذه الأفكار، يقاطع تدفق الأفكار ويسأل: "قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ (أي إلى الموت) لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً»". كان ربنا يتحدث كنبي. فهو سيصلب. لم يكن بطرس مستعداً لذلك، رغم أنه لم يدركه. ولكن يسوع قال: "يوماً ما ستتبعني في ذلك" وقد فعل ذلك فعلاً. إذ يقال لنا أن بطرس وهو شيخ قد صُلِب أيضاً شهيداً على إنجيل الرب يسوع المسيح.

ولكن بطرس لم يفهم، لم يدرك مدى محدوديته. قال له بطرس: "يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ". لقد قصد بذلك كل كلمة قالها. من الواضح أنه فكر أنه مستعد لذلك. ولكنه لم يعرف خداع قلبه.

"أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»".

في النص الأصلي ليس من انقطاع بين الآية الأخيرة من الأصحاح ١٣ والآية الأولى من الأصحاح ١٤. ما الذي يريد يسوع أن يقوله فعلياً؟ أصغوا إلى ما قال، وتشجعوا إن كنتم قد أخفقتم.

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي".

"بطرس، أعرف أنك ستخذلني. أنت لا تدرك كم أن قلبك غير جدير بالثقة، ولكن يا بطرس، عندما ستكتشف في النهاية الفساد الذي يعيث به قلبك وينفطر فؤادك لإدراكك لما تكون قد فعلته، فإني أريدك عندها أن تتذكر يا بطرس أني لا زلت أحبك، وسأعد مكاناً لك".

هل تعرف هذا المخلص؟ إن كنت لا تعرفه، فإني أناشدك أن تدنو إليه وستكون في سلام. إنه يريدك أن تعرفه، ويطلب منك أن تأتي إليه اليوم. إنه يقول: "من يأتي إلي لا أرده خائباً".

الخطاب ٤٥

منزل الآب وعودة الرب

"«لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ». قَالَ لَهُ تُومَا: «يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي»" (يوحنا ١٤: ١- ٦).

في هذه الآيات، هناك حقيقتان بارزتان يتم التركيز عليهما: الأولى، تتعلق ببيت الآب، والثانية هي عودة ربنا شخصياً لأجل خاصته.

لقد اعتدنا على هذه الحقيقة، على ما أفترض، أن الكتاب المقدس لم يكتب مقسماً إلى أصحاحات وآيات. هذه التقطيعات في النص وضعها المحررون، وبعضها يعود إلى السنوات الأخيرة نسبياً، إلى الفترة قبيل الإصلاح البروتستانتي. وأحياناً تبدو الانقطاعات بين الأصحاحات وكأنها تأتي في أماكن غير مناسبة، وأعتقد أن الحال هو هكذا هنا. على سبيل المثال، من يبدأ بقراءة الآية الأولى من الأصحاح ١٤، ويربطها في ذهنه بكلمات ربنا إلى الرسول بطرس في ختام الأصحاح ١٣؟ ومع ذلك فإن هناك رابط حقيقي قوي، كما رأينا. كان الرب يسوع يقدم رسالته الأخيرة إلى تلاميذه. أعلن أنه سرعان ما سيتركونه ويهربون. كان قد أخبرهم أنه سيمضي وأنهم سوف لن يروه من بعد حيث سيذهب. لقد كان ذاهباً إلى ديار الله عن طريق الصليب والقيامة، وأخبر بطرس الذي كان يسأله بأنه لن يستطيع أن يتبعه مباشرة. ولكن الرب يقول: "ستتبعني فيما بعد". لم يفهم بطرس ذلك، وقال: "يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»". ثم يضيف الرب مباشرةً ويقول: "لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي".

أترون، الرب يسوع يوجه هذه الكلمات بالطبع، إلى كل تلاميذه، ولكن بشكل مباشر إلى التلميذ الذي كان سينكره بعد هنيهة. وبالتأكيد هذا أمر معز جداً لقلوبنا. كان بطرس سيخيب الرب- وكان يسوع يعرف أنه سيخيبه- ولكن في أعماق قلب بطرس كان هناك حب متقد نحو الرب يسوع. وعندما قال: "سأضع نفسي عنك"، فقد عنى كل كلمة يقولها. ولكنه لم يدرك مدى ضعف الثقة في قلبه. إنها حالة الروح المستعدة النشطة ولكن ذات الجسد الضعيف. وقد عرف يسوع بالخيبة المخيفة التي ستغمر نفس بطرس عندما  يستيقظ مدركاً حقيقة أنه كان غير مخلص في الساعة التي احتاجه فيها معلمه. في نفس الوقت الذي كان يسوع بحاجة فيه إلى أحد يقف إلى جانبه ويقول بجرأة: "نعم، أنا أحد أتباعه، وأستطيع أن أشهد بنقاوة حياته وصلاح طرقه"، في ذلك الوقت الذي أنكر فيه بطرس، بدافع خوفه من الجنود المجتمعين حول، كل معرفة بمخلصه. ويا للأيام والليالي التي ستلي ذلك عندما سيشعر بأنه ولابد مقصيٌ، على افتراض أن الرب لن يضع ثقته فيه من جديد أبداً! ولكن لو تذكر كلمات هذا النص، فكم من عزاء كان سينال في قلبه المتفجع البائس! إذ أن يسوع يقول عملياً: "أعرف كل شيء عن ذلك يا بطرس. أعرف كيف ستخفق، ولكنني أريدك أن تعرف أنه في بيت أبي منازل كثيرة، وسوف تشاطرني إحداها يوماً ما. لن أسمح لك يا بطرس بأن تفشل بالكلية. لن أسمح لك بأن تدخل في نكران للإيمان. أنت ستسقط، ولكنك ستُرفع ثانية، وسوف تشاركني مكاناً في ذلك البيت ذي المنازل الكثيرة".

عندما يقول: "لا يضطرب قلبك"، فإنه لا يقصد أن يقول: "لا تقلق بخصوص مستقبلك"، لأن هو نفسه كان قد سعى يدرب قلب بطرس، وبطريقة عجيبة استرجعه في بحر الجليل فيما بعد. ولكنه يقصد القول: "لا تكن مهزوماً. لا تسمح لعدو نفسك بأن يجعلك تشعر بأنه ليس هناك من أمل بعد، أو أنه ليس هناك من فرصة لك".

أتساءل إذا ما كان أحد ممن قرأ هذا قد أخفق، كما أخفق بطرس. تحت وطأة ضغط الظروف أنتم أيضاً أنكرتم ربكم، أنكرتموه بالفعل إن لم يكن بالكلام وعدو أنفسكم يقول لكم الآن: "لقد انتهى الأمر بكم؛ حالتكم ميئوس منها. أنتم عرفتم المسيح مرة، ولكنكم فشلتم بشكل بائس، وهو لن يعترف بكم مرة أخرى أبداً". آهٍ، دعوني أطمئنكم إلى أن اهتمامه بكم هو بذات العمق كما كان دائماً وأبداً. إن آمنتم به حقاً مخلصاً لكم، فإن حقيقة إخفاقكم المحزنة الموجعة، وحقيقة ندبكم عليها، إنما تؤكد على حقيقة أنكم تنتمون إليه. إنه لا يزال يقول: "ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب لأني سدت عليكم"- وليس: "لقد انفصلت عنكم". وبذلك فإنه ينتظركم لأن ترجعوا وتعترفوا بفشلكم وخطيئتكم، وقد وعد بتجديد كامل لكم لأنه "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم". ويوماً ما سيكون هناك مكانٌ لكم أيضاً في بيت الآب.

"لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي". في الأيام التي سبقت مجيء يسوع إليهم، لم يؤمن شعب اسرائيل بذلك الإله الحقيقي الحي. والآن ما عادوا يرونه، ويقول يسوع لتلاميذه: "لقد آمنتم بالله عندما كنتم عاجزين عن أن تروه، والآن سأمضي بعد برهة وسوف لن تتمكنوا من رؤيتي، إلا أنني أريدكم ان تؤمنوا بي بنفس الطريقة كما عندما كنت هنا. وتماماً كما آمنتم بالله غير المنظور عبر السنين، أريدكم أن تضعوا إيمانكم فيا، أنا المسيح غير المنظور، بعد أن أكون قد مضيت إلى الآب". هل لديكم هذه الثقة المطلقة به، مدركين أنه مهتم بعمق بكل تفاصيل حياتكم؟ تقول الكلمة: "ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم". ما من شيء يقلق شعبه إلا وفكر به الله نفسه. ولذلك فإنه يريدنا أن نلقي عنا كل قلق وكل هم. إنه يقول: "لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتعلم طلباتكم لدى الله". "أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي".

ثم يضيف قائلاً: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ". "بَيْتِ أَبِي"، وبذلك فإنه بالطبع يعني السماء، ويتحدث عن مكان سيذهب إليه، مكان سيأخذ إليه في يوم ما كل خاصته. غالباً ما أسمع الناس يقولون: "السماء حالة أكثر منها مكان". السماء حالة ومكان بآن معاً. صحيح أننا لا نقرأ كثيراً عن السماء في الكتاب المقدس. قال أحدهم: "السماء هي أرض ما ليس بعد". الكتاب المقدس يتحدث عما ليس في السماء أكثر منه عما يوجد في السماء. تذكروا في سفر الرؤيا أننا نقرأ بأنه لن تكون هناك خطايا من بعد، ولن يكون هناك المزيد من الدموع، ولن يكون هناك ألم، ولن يكون هناك تفجع، ولن تكون هناك لعنة، ولن تكون هناك ظلمة، ولن يكون هناك أي نوع من الكآبة في بيت الآب. بيت الآب هو المكان الذي يوجد فيه المسيح، وذلك هو المكان الذي يذهب إليه المفتدون.

لعل البعض فكر أن التعبير الوارد هنا "في بيت أبي منازل كثيرة" يشير إلى مكان محدد. بشكل أو بآخر، تشير كلمة "منزل" إلى أمر مألوف بالنسبة لمعظمنا ولكن لم تكن هكذا الحال أصلاً. عندما نرى مبنى كبير فإننا نسميه "بيت". ولكن الكلمة أصلاً كانت تستخدم بمعنى "شقة"، كما نستخدم هذه الكلمة اليوم، ألا وهي شقة مستقلة. ولذا فإن المبنى قد يكون فيه عدة منازل (شقق). ويخبرنا يسوع قائلاً: "في بيت أبي شقق كثيرة، وأماكن استراحة كثيرة". هناك مكان، مكان منفرد، لكل فرد من خاصته، كل ذلك في بيت ذاك الآب.

"وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ". كان اليهود يؤمنون بسماء عبارة عن نعيم بعد الموت، وقال يسوع: "لو كنتم مخطئين في ذلك، لكنت سأصوب فكركم". ولكنه لم يُصحح فكرهم بل ثبته، ونعلم أن هذا حقيقي، أن هناك بيت مجيد وراء السماوات للمفتدين سنتشاركه مع الرب يسوع بعد برهة.

يضيف قائلاً: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً". كما تلاحظون، إن المنازل مختلفة عما كان لديهم في ذلك الوقت. قبل أن يعود إلى بيت الآب، لم تُسوَّى مسألة الخطيئة. قبل أن يعود إلى بيت الآب، لم يُشَّق حجاب الهيكل، ولم يُرش الدم على كرسي الرحبة. بعد أن دفع عنهم التكلفة، أمكن القديسين أن يذهبوا إلى الفردوس. لم يكن لديهم نفس المدخل المبارك إلى حضرة الله مباشرة كما حال القديسين اليوم. ونقرأ في الرسالة إلى العبرانيين أننا نأتي الآن "إلى أرواح أبرار مكملين". لقد كانت تلك أرواح أناس أبرار من كل العصور قبل الصليب؛ كان الله قد خلصهم وأخذهم إلى الفردوس، وما كانوا قد كملوا بعد. ما كان يمكن لذلك أن يحصل إلى أن أُريق دم يسوع على الصليب. والآن، وإذ تمت تسوية مسألة الخطيئة، فإن الرب دخل إلى قدس الأقداس بدمه نفسه بشكله المرموز إليه، ورش دمه ذاته على كرسي الرحمة في الأعالي، وها قد أُعد مكان في قدس الأقداس الآن لأجل جميع خاصته، وأرواح الأبرار في الماضي قد كمُلت، ونحن الذين نؤمن الآن نكمل إلى الأبد. وهكذا فإننا كلنا نُلاءَم لذاك المكان الذي سنذهب إليه: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً".

ومن ثم يقول: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً". يظن كثير من الناس أن هذا المقطع له علاقة بالموت، وبالطبع، عندما يموت المؤمن، فإن ذلك المؤمن يمضي ليكون مع المسيح. ولكن الكتاب المقدس لا يخبرنا في أي مكان أبداً على أن المسيح يأتي في ساعة الموت لأجل شعبه. إن أجرينا تناظراً نسبة إلى ما قاله الرب يسوع وهو هنا على الأرض، فإننا نصل إلى الاستنتاج بأن هذا الفكر غير صحيح. يخبرنا الكتاب المقدس عن أحد أبناء الله الأعزاء على قلبه الذي كان يحتضر- كان متسولاً، هذا صحيح. كان متشرداً، ينام على باب رجل غني، ولكنه كان ابناً حقيقياً لابراهيم. كان لديه إيمان بإله كل نعمة ورحمة. ومات المتسول، كما يُقال لنا، وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم. حملت الملائكة المتسول الفقير- الذي ما عاد فقيراً- إلى الفردوس. ما نستنتجه من ذلك هو أن الخدمة الأخيرة التي يقدمها الملائكة، الذين لا يبرحون يحرسون شعب الله، سيعودون ليقودوهم إلى حضرة الله. إنه هناك في بيت الآب، وملائكته تقود قديسيه إلى حضرته.

إلا أنه يتحدث عن أمر مختلف هنا. الموت هو ذهاب المؤمن ليكون مع المسيح. هذا ما يخبرنا به الكتاب المقدس- "غائبين عن الجسد، حاضرين مع الرب"، "نغادر لنكون مع المسيح الذي هو أفضل بكثير". ولكن ذهاب المؤمن إلى ديار الرب ليكون مع المسيح يُشار إليه بالقول أنه كان عارياً، وقد رقد جسده جانباً. إنه هناك في حضرة الرب كروح ممجدة، ولكنه هناك ينتظر جسده المفتدى. عندما يحقق الرب يسوع ما يتكلم عنه هنا في الأصحاح ١٤ من يوحنا، فعندها سيقتبل المؤمنون اجسادهم الممجدة ويكونون بالكلية مثله. هذا الأمر الآتي، الذي يشار إليه هنا، يتم إيضاحه بشكل مسهب أكثر في الأصحاح الرابع من رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي. هناك نقرأ في الآية ١٣: "لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين"- أي القديسين الذين ترقد أجسامهم في القبور بينما أرواحهم هي مع المسيح-

"لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين، لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضا معه. فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سوف ينزل من السماء بهتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، والأموات في المسيح سيقومون أولا. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب".

هذا هو المجيء الذي يشير إليه مخلصنا عندما يقول: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ". في ذلك المجيء سيتحقق ترقبنا للفداء الكامل. في رومية ٨ يقول الرسول بولس: "لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبطل - ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها - على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا". ما الذي يعنيه بذلك؟

إن أرواحنا قد افتديت لتوها، وقد اقتبلنا لتونا خلاص نفوسنا، ولكننا ننتظر الخلاص الكامل للجسد، وافتداء الجسد لدى مجيء ربنا يسوع المسيح.

"لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء" (رومية ٨: ٢٤).

عن أي رجاء يتحدث إذاً؟ إنه الرجاء بمجيء ربنا. ولهذا يشير من جديد في الأصحاح الثالث من الرسالة إلى أهل فيلبي، حيث نقرأ في الآية ٢٠:

"فإن سيرتنا (مواطنيتنا) نحن هي في السماوات، التي منها أيضا ننتظر مخلصا هو الرب يسوع المسيح، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء".

هذا هو الحدث المجيد الذي سيحدث عندما يعود الرب ثانية، عندما يرجع لأجلنا.

هناك فارق كبير هائل، كما ترون، بين هذا والوقت الذي سيعتلن فيه كابن الإنسان ليُنزل الدينونة بالعالم الأثيم وليؤسس ملكوته في نهاية الأمر. كان هذا سراً يكشفه الرب لهؤلاء الرسل في تلك الليلة في العلية. في الأناجيل الإزائية السينابتية الثلاثة لم يذكر ذلك. الرسول بولس كان الأداة المختارة ليوضح ذلك، ولكن يبدو أن الرب يسوع، قبل ذهابه، كان لديه سر في قلبه يرغب كثيراً بألا يؤجل الإفصاح عنه أكثر، ولا بد إذاً أنه قد أخبرهم ولو قليلاً عنه، ولذلك يقول: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً. وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ"- ولا يقول: "سأرسل ملاك الموت إليكم"، أو أي ملاك آخر، بل "آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً".

أترون، سوف لن يرضى إلى أن يصير كل شعبه المفتدى معه في المجد في بيت الآب. قلبه يتوق إلى ذلك.

والآن لنتكلم قليلاً عن بيت الآب. لاحظوا أنه بيت الآب، وبيت الآب هو من أجل كل أولاد الآب. إننا نخشى أشياء كثيرة غريبة هذه الأيام. بعض الناس يحاولون أن يقولوا لنا أن شعب الله الروحانيين العميقين جداً هم فقط الذين سيختطفون مع الرب يسوع لدى مجيئه. كم يكون الناس قليلي الفهم والمعرفة بما في قلب الله عندما يتكلمون على هذا النحو! فكروا بأب عادي وأم عادية على هذه الأرض. ولنفترض أن لديهم ثمانية أو عشرة أولاد، فهم عائلة؛ أليسوا كذلك؟ بيت الأب مفتوح لكل الأولاد. إني أشفق على البيت، وأشفق على الأولاد، حيث يميز الأب أو الأم بين أولادهم. أعتقد أنه أمر محزن عندما يحتل أحد الأولاد من بين عدة أولاد مكانة خاصة في قلب الأب بينما يبقى الآخرون بعيدين عنه. لعلكم تقولون: "ولكن لعل ولداً أو اثنين سيئي السلوك. وبالتالي فإن الأب لن يطيق أن يحب الأولاد السيئين على نفس القدر كما يحب الأولاد الصالحين". هل هذا صحيح؟ الحقيقة أنه حتى الأولاد السيئين هم أعزاء على قلب والدهم لدرجة أنهم يسببون له قضاء ليال عديدة بلا نوم وهو يفكر في أحوالهم السيئة. إنه يحبهم ويتوق لأن يراهم على خير ما يرام. وهناك دائماً ترحيب بهم في بيت الأب.

علينا أن نتذكر، أيضاً، أنه في بيت الآب في الأعالي، ليس من تفريق. يقول لي الناس غالباً: "ليتني أستطيع أن أصل إلى السماء وأن أجلس على كرسي خلف الباب، لكان هذا يرضيني. ولكني لا أستحق أي شيء أفضل من ذلك".

يا صديقي العزيز، إنك لا تستحق أن تكون هناك على الإطلاق. أنا لا أستحق أن أذهب إلى هناك أبداً. ولكني لست ذاهباً إلى هناك لأني أستحق الذهاب، بل سأمضي إلى السماء لأني وُلدت ثانية ولأن الرب يسوع يعد لي مكاناً هناك، ولأن بيت الآب هو لجميع أولاد الآب.

ثمة أمر آخر: ليس هناك مقاعد خلف الباب هناك في الأعالي. آمل أن يدرك الجميع ذلك. ليس من تمييز بين الأشخاص في الترحيب الذي سيتلقاه المؤمنون في بيت الآب. أكرر، بيت الآب يقدم نفس الترحيب لجميع أولاد الآب.

لعلكم تقولون: "حسناً، ولكن ألا يشير الكتاب المقدس إلى أن البعض ستكون لهم مكافآت أكبر من الأخرين؟" بلى. ولكن ليس هناك علاقة بين المكافآت والترحيب في بيت الآب. المكافآت لها علاقة بشكل خاص بالملكوت المجيد الآتي، وبالطبع المعطى في السماء، المعطى عند كرسي دينونة المسيح، ولكن الفروقات هي في الملكوت. فعلى سبيل المثال، انظروا إلى رسالة بطرس الثانية: "لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلى-" إلى ماذا؟ إلى السماء؟ لا، ليس صحيحاً أن بعض الناس سيدخلون بسعة إلى السماء بينما جماعة أخرى لن يتلقوا مثل هكذا استقبال حميم وودي. ما معنى ذلك؟ إنه يقول أن بعض الناس لديهم مدخل واسع أكثر من غيرهم. نعم، ولكن إلى أين؟ "إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي". لا تتشوشوا، ولا ترتبكوا في تفكيركم، ولا تخلطوا بين بيت الآب والملكوت الأبدي. بيت الآب هو بيت القديسين؛ الملكوت الأبدي هو دنيا الخدمة والمكافآت، إلى الأبد، أولاً خلال الألفية ومن ثم في العصور التي ستليها، حيث سنخدم ربنا المبارك الذي أعد مكاناً لنا في بيت الآب.

هل تسمحون لي باستخدام صورة توضيحية قديمة؟ لنفترض أن لدينا هنا عائلة صالحة من الطراز العتيق، لديهم ١٠ أو ١٢ طفلة. ولنفترض أن الأولاد مبعثرون الآن في كل الأرجاء. وها قد جاء عيد الميلاد، وسيكون هناك اجتماع للعائلة في المنزل. فتوجه الدعوات إلى كل الأولاد ليجيئوا إلى البيت لقضاء عيد الميلاد واجتماع العائلة. حسناً. سيأتون جميعاً. البعض سيأتي بالسيارة، والبعض بالأوتوبيس، والبعض بالطائرة، والبعض بالحافلة، وقد يضطر أحدهم للمجيء سيراً على الأقدام. ولكنهم يأتون من كل حدب وصوب، إلى المنزل، إلى بيت الأب لقضاء عيد الميلاد.

أتخيل المائدة كبيرة مترعة بكل أطباق الطعام اللذيذة التي أعدتها الأيدي اللطيفة. أتخيل الأب والأم يدخلان ليلقيا نظرة أخيرة إلى المائدة وليتأكدا من ان كل شيء على ما يرام. هناك مكان الأم وهناك مكان للأب. هنا سيكون الطبق الكبير الضخم الذي سيحوي زوجاً من الحبش الكبير الذي يزن ١٥ رطلاً، وكل الأشياء الأخرى الطيبة أعدت ووضعت على المائدة. يدخل الأب والأم، وتقول الأم: "والآن، أيها الأب لقد ارتأيت أن أضع بوب إلى جانبك".

بوب مشهور في العالم، وهو سيناتور، وقد حقق مكانة كبيرة لنفسه، ولكنه في البيت بوب وحسب.

"وها هنا مكان ماري".

أعتقد أن ماري هي رئيسة اتحاد نسائي أو شيء من هذا القبيل. هي امرأة محترمة معظمة عندما ترتدي قلنسوتها وعباءتها، ولكنها في البيت هي ماري وحسب؛ لا أكثر ولا أقل.

"وهنا مكان توم".

لنرَ من يكون توم. أعتقد أن توم هو ضابط في الجيش، ولكنه توم وحسب في البيت.

"وهنا مكان آنا".

آنا؟ من هي آنا؟ لعلها طبيبة، وبارعة جداً في مهنتها، وفي الخارج يقولون لها الدكتورة آنا، أما في البيت فهي آنا فقط.

وهكذا تكمل وضع الأشخاص في الصف. وتقول الأم: "وقد خصصت هذا المكان إلى يميني لجيم".

من هو جيم؟ حسن، جيم هو الولد المختلف صاحب المشاكل في العائلة. يا للمسكين جيم! لقد جرب أشياء كثيرة.

أعتقد أن جيم كان مخترعاً. لقد اخترع أشياء كثيرة، ولكن دائماً كان هناك أشياء لا تعمل لصالحه. لو صارت الأمور على ما يرام معه لربما كسِب ملايين، إلا أنه استهلك كل ما كان لديه واقترض كل ما أمكنه ومع ذلك فقد بقي يراوح في مكانه. يا للمسكين جيم!

ما كان ليمكن أن يكون في البيت على الإطلاق لو لم تدس له والدته قطعة من عشرين دولار في جيبه ليحصل على ثياب مناسبة فيكون حسن المظهر بما يكفي لأن يأتي. وأستطيع أن أتخيل أن أحد الأخوة يقول: "تعرفين يا أمي، بخصوص جيم- لا أعرف إذا كان يجب السماح لجيم بالجلوس معنا إلى الطاولة. لقد أفلحت عائلتنا جميعاً، بينما أخفق جيم بشكل كبير. أليس من الأفضل لو يبقى جيم في المطبخ؟ يمكنه أن يأكل مع الخدم هناك في المطبخ".

فتنفجر الأم غضباً وتقول: "ماذا؟ لا بل إن جيم يستحق الأفضل. أريده أن يعرف أنه إن كان هناك مكان على الأرض يرحب به على الإطلاق فهذا المكان هو بيت أبيه وأمه".

أترون، في بيت الأب، الجميع موضع ترحيب والجميع يتلقون نفس المعاملة الحسنة من الأب والأم.

بعد برهة سينقضي ذلك اليوم العظيم وسيتفرقون، فتذهب ماري إلى الاتحاد النسائي، ويعود بوب إلى مجلس الشيوخ في واشنطن. وترجع آنا إلى ممارسة مهنتها في المدينة الكبيرة، ويعود توم إلى الجيش، وهكذا دواليك. وبعد زمن سيرجع جيم المسكين إلى غرفته الصغيرة هناك في المدينة. ولكني أرى الأم تعطيه قبلة وداع أخيرة، وما هو ذاك الذي تدسه في يده؟ إنها قطعة نقدية من فئة الخمسين دولاراً. ويغادر، وقد حمل في قلبه تلك الذكريات السعيدة من بيت الأب.

هذا مثل توضيحي بشري جداً وحسب، ولكن لعله يظهر ما أعنيه عندما أقول أن بيت الآب أمر والملكوت أمر آخر. بيت الآب هو بيت جميع أولاد الآب. ولكننا نحجز أمكنتنا الخاصة في الملكوت بتكرسنا وخدمتنا المخلصة للرب يسوع المسيح. هل فهمتم الفرق؟ وإذاً هناك مكان للجميع في بيت الآب. ولكن ماذا عن الطريق إلى هناك؟ هل سيذهب الجميع إلى بيت الاب؟ أرغب بهذا. ولكن للأسف الشديد، كثيرون يصرون على تمردهم ضد الله ولذلك فإن الصلوات لا تُستجاب على الإطلاق. هناك طريق واحد فقط إلى بيت الآب. وما هو ذاك الطريق؟ أسمع الناس يقولون لي مراراً وتكراراً: "إننا نسير في طرق مختلفة، ولكننا سنصل جميعاً إلى السماء في نهاية المطاف". لا، أبداً. لا أجد هذا الفكر في الكتاب المقدس. يقول الكتاب المقدس: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أمثال ١٤: ١٢)، وهي تحذرني من سلوك الطريق الواسعة التي تؤدي إلى الدمار والهلاك، وتحثني على اتباع الطريق الضيقة التي تؤدي إلى الحياة.

ومن هنا فإن يسوع يقول: "وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ. قَالَ لَهُ تُومَا- ". لقد كان توما صادقاً ولم يَخشَ من أن يفشي كامل الحقيقة. لقد قال: "يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟".

فقال له يسوع، وآهٍ يا أصدقائي لو تفهمون ما قاله، إذ أن كلامه موجهٌ لكم كما لتوما: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي".

فلا تتحدثوا عن طرق كثيرة عديدة. هناك طريق واحد فقط- يسوع هو الطريق الوحيد. ما من اسم تحت السماء أُعطي بين البشر لنخلص به سوى اسم يسوع. هل أتيتم إليه؟ هل تؤمنون به؟ إن كان كذلك، فأنتم على الطريق الصحيح نحو بيت الآب، ويمكنكم إذاً الانتظار بترقب سار لساعة عودته، لأنه قال: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ". متى سيأتي؟ لا يمكننا أن نعرف ذلك، إلا أننا نترقبه يوماً فيوماً.

"لا أعرف متى يأتي الرب
أو في أي ساعة سيظهر،
سواء في الليل أم في النهار،
أو في أي فصل من السنة.
أعلم فقط أنه قريب،
و صوته سأسمع عما قريب.
أعلم فقط أنه قريب،
و صوته سأسمع عما قريب".

الخطاب ٤٦

الآب متجلياً في الابن

"«لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ». قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي. وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالاِبْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ" (يوحنا ١٤: ٧- ١٤).

هناك سبعة أشياء يوحي بها هذا الجزء، وأوله هو: الآب لا يمكن معرفته إلا من خلال الابن. لاحظوا الآية السابعة: "«لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ»". إنه أمر حقيقي تماماً أن الله يمكن معرفته من خلال الخليقة. يقال لنا ذلك في الأصحاح الأول من الرسالة إلى أهل رومية. هناك نقرأ: "لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رومية ١: ٢٠). وهكذا فإن الناس الذين ينكرون الله، الذين يرفضون أن يؤمنوا بالله، الذين يعيشون وكأنه ليس من إله، هم بلا عذر. غالباً ما نواجه هذا السؤال: "هل سيدين الله الوثنيين البؤساء لأنهم لم يعرفوا الإنجيل؟" كلا. ولكنه سيديننا لأنهم لم يسمعوا بشرى الإنجيل. إننا مسؤولون عن إيصالها إليهم. لقد كنا أنانيين وقانعين بأن نستمتع بطبق الطعام الشهي لوحدنا. لم نلقِ انتباهاً كبيراً إلى وصية الرب أن: "اذهبوا إلى العالم أجمع". لقد راوغنا كثيراً حول إذا ما كانت الوصية تخص الدهر التدبيري الحالي أو دهراً آخر، وادعينا أن لدينا الكثير من النور والمعرفة، وهكذا قبعنا في البيت وتركنا الوثنيين يموتون في خطاياهم. سيتوجب علينا أن نجيب الله على ذلك يوماً ما. الوثنيون ضالون هالكون، ولذلك فهم بحاجة إلى مخلص. "ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (متى ١٨: ١١). لو لم يكن الوثنيون هالكون لما احتاجوا إلى مخلص، ولكنهم هالكون لأنهم لم يريدوا أن يبقوا الله في معرفتهم. إنهم مدانون من قِبل ضمائرهم الخاصة بسبب الخطايا المذنبين بها. سوف لن يُحاسَبوا على خطيئة رفضهم المسيح الذي لم يسمعوا به أبداً، بل على الخطايا التي ارتكبوها بالفعل. إذ نظروا إلى السماء لا بد أنهم عرفوا أن هناك إله. وإذ يرون الأمور الرائعة التي أعدها للإنسان، وإذ يفكرون بأجسادهم ذاتها وكل الوظائف العجيبة فيها لا يمكنهم إلا أن يدركوا إلى أن هنواك خالق لكل البشر هو مسؤول عن كل ذلك. وكذلك قدرته السرمدية وألوهيته يُعرفان من خلال الخليقة. "اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ" (المزمور ١٩: ١). ولكن أبوة الله أمكن فقط إعلانها بالرب يسوع المسيح. الطبيعة تقول لي أن هناك إله، وأنه لا بد أن يكون لا متناهياً في الحكمة والقدرة، ولكنها لا تقول لي أن له قلب أب. لن أعرف ذلك سوى من خلال الوحي الذي أعطاه بابنه المبارك كم نحن جاهلون بذلك الوحي أو الإعلان أحياناً.

أذكر سيدة كنت أتحدث إليها في إحدى المرات، وإن كان هناك إنسان على الأرض ينبغي أن يشكر الله على الإعلان المسيحي، فهم أولئك النساء في العالم، إذ كثر ما تغيرت حالتهم في كل أصقاع الأرض حيث عُرِف الإنجيل. إلا أن هذه السيدة رفعت رأسها إلى الوراء وقالت: "أنا لست مهتمة بالإنجيل. أنا لم أقرأ الكتاب المقدس أبداً. يكفيني أن أعرف أن الله محبة". فقلت: "أتعرفين ذلك؟" فقالت: "نعم بالتأكيد". "أتعرفين حقاً أن الله محبة؟" "بالطبع أعرف". "حسناً، اعذريني يا سيدتي، ولكن كيف اكتشفتِ ذلك؟" "ما هذا السؤال؟ الجميع يعرف أن الله محبة". في الحقيقة، ليس الجميع يعرفون ذلك. إنهم لا يعرفون ذلك في الهند، وفي إفريقيا، وفي الأراضي التي لم تصل لها بشرى الإنجيل. لم يعرفوا ذلك في جزر البحر في عصر آكلي لحوم البشر. ما من أحد عرف ذلك إلى أن جاء يسوع ليكشف قلب الله للمحتاجين. والروح القدس هو الذي أخبرنا أن الله محبة، والدليل الذي أعطانا إياه على ذلك كان: "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا"(١ يوحنا ٤: ١٠). آهٍ، كم أن الله عظيم، وكم هو قوي، وكم هو حكيم. ربما نكون قد عرفنا أو فهمنا من خلال الخيرات الوافرة التي جعلها لأجل مخلوقاته أنه صالح. ولكن ما كنا لنعرف أنه محبة لو لم يأتِ يسوع ليكشف لنا الآب. "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". وأكرر قائلاً، ما كنا لنعرف أبوة الله لولا الإعلان المعطى لنا بربنا يسوع المسيح.

ثم بالدرجة الثانية أود أن أذكركم بهذا أن المسيح هو التعبير الدقيق الكامل عن الآب. هل تقولون في أنفسكم أحياناً: "آهٍ، ليتني أفهم الله بشكل أفضل أود لو عرفت كيف ينظر الله الآب إلى الأشياء، وكيف يشعر بخصوص الأشياء، وما موقفه نحو البشر عموماً، وشعبه خصوصاً". حسناً، كل ما تحتاجون إليه هو أن تقرأوا الأناجيل الأربعة وتعرفوا الرب يسوع المسيح أكثر، لأنه جعل الآب معروفاً بكامل امتلائه.

أحبُّ كثيراً تلك الآيات التي تُستهل بها الرسالة إلى العبرانيين: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عبرانيين ١: ١- ٣). هذه الكلمات "رَسْمُ جَوْهَرِهِ" يمكن ترجمتها بشكل آخر: "التعبير الدقيق عن شخصيته".

إنه يتحدث عن يسوع الذي هو التعبير عن شخصية الآب ولذلك فإن كنت تريد أن تعرف ما هو الله الآب، تعرف إلى الرب يسوع المسيح على نحو أفضل. كلما عرفته أكثر، كلما عرفت الآب أكثر. كل ما في شخصية المسيح يعكس ما في قلب الله؛ حبه للقداسة، ابتهاجه بالبر، اهتمامه بالبشر- حتى أولئك الناس الغير مهتدين- وحنوه الشديد العميق نحو خاصته كما تبدى واضحاً من خلال محبته لجماعة التلاميذ الصغيرة تلك الذين سار معهم لثلاث سنوات، والذين نقرأ عنهم أن: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". اهتمامه الحلو الثمين بالأولاد الصغار، ومحبته للشبيبة، لكي يُسَروا بالمجيء إليه ويجلسوا على ركبته. لقد أخذهم بين ذراعيه ووضع يديه عليهم في البركة. كل هذا يدلنا على محبة الله الآب للأطفال.

من جهة أخرى، ازدراء يسوع بالخطايا مثل الرياء والخداع وعدم الطاعة، الخ، يعبر عن احتقار الله الآب نفسه لكل ما هو كذب وكل ما هو شر. ومن ثم نرى غضب يسوع الممجد. لعلكم تقولون: "لا أود أن أفكر بأن يسوع قد غضب يوماً ما". هناك أناس يصرون على أننا يجب لا نغضب من أي شيء. ولكن الكتاب المقدس يقول: "اغضبوا ولا تخطئوا". فكروا في غضب يسوع عندما وقف في الهيكل بعينين محتاجتين وقال: "مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!»" (متى ٢١: ١٣). وتذكروا في ذلك اليوم في المجمع في كفرناحوم عندما جاءت تلك المرأة الفقيرة البائسة المحنية الظهر للغاية. كان الكتبة والفريسيون يراقبون. كانوا يقولون: "هَلْ يَشْفِيهِا فِي السَّبْتِ؟ فَقَالَ يسوع: «هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟»" ونظر حوله غاضباً وسألهم: "«مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟»" وأردف قائلاً: "وَهَذِهِ وَهِيَ ابْنَةُ إِبْرَهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟»" يا له من سخط مقدس! يا له من غضب مجيد! وغضب يسوع هو غضب الله. كيف نخاف غضب الله ولا نحب أن نفكر بأن ربنا يسوع المسيح قد يغضب؟ يأتي وقت سيهرب منه البشر إلى الصخور والجبال ويستصرخون الصخور والتلال: "اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ" (رؤيا ٦: ١٦)- غضب الرب يسوع المسيح. نعم إن غضب الحمل على البشر الذين ازدروا بنعمته ورفضوا رحمته قد أبطل كل فرصة للخلاص. أكرر، إن غضب يسوع هو غضب الله. إن أردت أن تعرف الله تعرف على يسوع.

جاء فيلبس إليه وقال: "أرنا الآب، وكفى". كما ترون كان أمراً جديداً لفيلبس. لقد تكلم يسوع بهدوء وبمعرفة كاملة بالآب. فيقول فيلبس: "ما الذي تقصده يا رب؟ أرنا الأب وحسبنا ذلك". وقال يسوع: "أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ". أي كما ترون، شخصية الآب تبدت بشكل كامل في يسوع.

ولكن هذا يشتمل على الأمر الثالث الذي أريد أن أركز عليه، ألا وهو وحدة الآب والابن. وحدة الآب والابن لا تشتمل على فكرة أن الآب والابن كانا نفس الأقنوم تماماً. لقد كانا أقنومين، ومع ذلك فهما واحد في وحدة اللاهوت مع الروح القدس- الآب، والابن، والروح القدس. اعتاد جوزيف كوك أن يقول: "الآب بدون الابن والروح القدس لن يكون إلهاً كاملاً. والابن بدون الآب والروح القدس لن يكون إلهاً كاملاً. والروح القدس بدون الآب والابن ليس إلهاً كاملاً. ولكن الآب والابن والروح القدس معاً هم إله واحد في ثلاثة أقانيم مباركة معبودة". ولذلك فإن يسوع كان هنا على الأرض الإنسان، المسيح يسوع، ومع ذلك فقد كان ابن الآب. والآب كان في السماء، وبالطبع كلي الوجود في الكون بأكمله. قال يسوع: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟" الاتحاد بينهما لا ينفصم. "الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ". كل ما فعله يسوع كإنسان هنا في هذا العالم، فعله في شركة مع الآب. ومن هنا أمكنه أن يقول أن الابن لا يفعل شيئاً من نفسه بل ما يريده الآب منه أن يعمله. فكان من الغير الممكن، لكونه ابن الآب، أن يفعل أي شيء لا يكون في انسجام مع إرادة الآب: أقنومان اثنان ولكن متحدين في الألوهية.

ثم لاحظوا بالدرجة الرابعة أن الأعمال التي عملها يسوع كانت شهادة على حقيقته. الآية ١١ تقول: "صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا". لكأنه يتحداهم قائلاً: "إن كنتم غير مستعدين لتصديق إعلان الوحدة مع الآب، وإن كان لا يزال لديكم شكوك في فكركم، فانظروا ما فعلت. هل صنع أي إنسان أي من تلك الأعمال التي قمتُ بها؟ هل استطاع أي إنسان أن ينجز ما أنجزتُ؟ آمنوا إذاً بهذه الأعمال التي عملها الله الآب فيَّ". لو أن إنساناً آخر لمس المجذوم لكان قد تنجس، ولكن عندما لمسه يسوع قال: "اطهر". لم تتنجس يدا الرب يسوع. شفت يداه البرص بدلاً من أن تتنجس بالجذام فيُصاب به. ما من إنسان مجرد كانت لديه القدرة على العاصفة، ولكن يسوع أمكنه أن يُهدئ الريح والأمواج ويقول: "اهدأ، ابكُم". الإنسان يزرع البذار ويحرث الأرض، وفي نهاية المطاف وبرحمة الله، الذي يشرق بشمسه ويُرسل أمطاره عليها فتتفاعل المزروعات معها تحت المرج، تأتي الأرض بالقمح الذي يصنع منه الإنسان خبزه. ولكن يسوع أخذ خمسة أرغفة وبضعة أسماك وبعد ان شكر قدم طعاماً لأكثر من خمسة آلاف إنسان. لماذا فعل هذه الأشياء؟ لمك يفعل ذلك لكي ينظر الناس إليه بذهول أو ليشد انتباههم إلى نفسه، بل لكي يُعلن ما في قلب الله.

ولذلك فإن عجائب يسوع تضعنا أمام تحدٍ. نرى فيها الدليل على أن يسوع هو ابن الآب السرمدي.

ولكنه الآن ماضٍ، وفي الدرجة الخامسة نلاحظ وعداً رائعاً يقطعه لنا وسيحققه في غيابه. نقرأ في الآية ١٢: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي". هناك بعض الناس يقولون أنه يقطع وعداً هنا لم يحققه أبداً. إنهم يقولون أنه ما من إنسان عمل أعمالاً أعظم من تلك المعجزات التي صنعها يسوع. إلا أنه لم يكن يتكلم عن المعجزات. إن عمله الأساسي لم يكن اجتراح الأعاجيب بل الإعلان عن الآب، معرفاً الناس على الآب. عن ذاك كان يتكلم. في ختام خدمته التي استمرت ثلاث سنوات هناك، وعندما غادر هذا العالم، ودع مجموعة مؤلفة من حوالي خمسمئة تلميذ. ولا شك أنه كان هناك بضعة آخرون متفرقون ولكن ليسوا كثيرين. قليلون هم أولئك الذين رأوا فيه إعلان الآب. ولكن لنتابع ما سيجري بعد بضعة أيام- بعد خمسة عشر يوماً. آهٍ، عندها بطرس وبقية الأحد عشر تلميذاً يقفون في يوم العنصرة والأقنوم الثالث من الثالوث القدوس يحل عليهم بقوة ويكونون مستعدين للشهادة له. لقد راحوا يبشرون بمسيح مصلوب ومُقام، وما الذي حدث؟ آمن ثلاثة آلاف إنسان. وعلى الأرجح أن العدد الذي آمن في ذلك اليوم كان أكتر من عدد الذين آمنوا خلال السنين الثلاثة والنصف من رسالة يسوع. إنه لا يتكلم هنا عن المعجزات. لو كان الحديث عن المعجزات، فأيها كان الأعظم؟ بخصوص المعجزات المتعلقة بالجسد، ألم تكن هي تلك المعجزة عندما ذهب إلى ذلك القبر في بيت عنيا ووقف وصرخ: "لعازر هلم خارجاً". فقام ذاك الذي كان مائتاً- الإنسان الذي قالت أخته: "يا سيد، إنه ميت منذ أربعة أيام". كان هذا أعظم عمل قام به يسوع فيما يتعلق بالجسد. هل من أحد عمِل ما هو أعظم من ذلك؟

وما هي أعظم معجزة تتعلق بقدرات الطبيعة؟ هل كانت تحويل الماء إلى خمر أو تكثير الأرغفة والسمكات؟ أوَلمْ تكن إسكات الريح وأمواج البحر؟ ما من أحد آخر أمكنه أن يفعل كل ذلك.

ولكن أعظم عمل قام به على الإطلاق هو أنه أعلن عن الآب. عندما تدرك أن يسوع بتركه لهذا العالم، قد عهد بإنجيله إلى مجموعة صغيرة مؤلفة من إحدى عشر رجلاً لكيما ينقلوه إلى أقاصي الأرض، في ذلك الزمان عندما كان العالم بمجمله ما عدا بضعة قليلة من شعب اسرائيل هالكين ضالين ضائعين في ظلمة الوثنية. ولكن لم تمضِ ثلاثمئة سنة حتى أغلقت المسيحية كل المعابد في الامبراطورية الرومانية الوثنية تقريباً، وبلغ عدد المهتدين إليها إلى ملايين. تلك كانت أعظم أعمال، وعلى مر العصور لا يزال يقوم برسالته تلك.

وبالدرجة السادسة، لاحظوا وعده بأن يستجيب لصلوات خدامه. "وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذَلِكَ أَفْعَلُهُ.... إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ". ربما يرفع أحدهم الصوت قائلاً: "حسناً، لقد طلبت شيئاً من الله باسم ابنه، يسوع المسيح، ولم يستجب لي". آهٍ، ولكن لعلك لم تطلبه حقاً باسمه. فأن تطلب باسمه يعني أن تطلب بسلطته؛ أي أن تصلي بما يتوافق مع إرادته المعلنة. لكأنه قال لنا: "كل ما تطلبونه بسلطتي أفعله". ولذلك فإن ما نحتاج إليه أنت وأنا هو أن نكون متأكدين بأننا نفهم إرادته وأن لدينا سلطته لأجل الطلبات التي نطلبها.

الأمر السابع هو هذا: ربنا له هدف واحد: الجزء الأخير من الآية ١٣ يقول: "لِيَتَمَجَّدَ الآبُ بِالاِبْنِ". لقد كانت مسرة الرب يسوع، وبينما كان هنا على الأرض، هي أن يمجد الآب، والآن إن الفرح الوحيد لقلبه هو أن يرى شعبه يُنفذون المهمة التي أعطاها لهم. كل مرة تخلص فيها نفس، فهذا يكون لمجد الآب وفي هذا فرح الابن. كل ما نفعله في طاعة محِبة لكلمته هو لأجل تمجيد الآب.

الخطاب ٤٧

المعزي الموعود

"إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ. لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضاً وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي وَأَنْتُمْ فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي». قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ: «يَا سَيِّدُ مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. بِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يوحنا ١٤: ١٥- ٢٦).

هناك غنى وامتلاء في هذا المقطع المعين من إنجيل يوحنا إلى درجة كبيرة أتردد معها في أن أتناول كل مقطع في خطبة واحدة، ومع ذلك فإنه مترابط مع بعضه بشكل قوي جداً لدرجة أشعر معها بأني سأسيء إلى المقطع إذا ما قسمته.

هناك عدد من الأشياء التي تتطلب أن نركز عليها. أول أمر، لدينا وعد بمجيء المعزي. هذه الكلمة "المعزي" مثيرة للاهتمام. إنها الترجمة للكلمة اليونانية "براكليتوس"، والتي هي مزيج من كلمات تعني: من يأتي إلى جانب شخص آخر، والمعين في وقت الشدة. في رسالة يوحنا الأولى (الأصحاح ٢، الآية ١) لدينا كلمة "شفيع" والتي هي نفس الكلمة تماماً في الأصل.

هناك حلاوة وقيمة كبيرة للكلمة "المعزي" التي تروق للقلب. ففي نهاية الأمر، لا يمكننا أن نستخدم أي كلمة أخرى في لغتنا ستكون مكافئة تماماً للكلمة اليونانية، لأن كلمة "الفاراقليط" هي "المعزي" تماماً. إن هذه الكلمة تحمل معنى مرافقة وأيضاً تقوية وتعزيز، وبالتالي فإن "المعزي" هو الذي يُقوي من خلال الرفقة. تلك هي إحدى الوظائف العظيمة التي يقوم بها الروح القدس. الفاراقليط هو الذي يأتي إلى جانبك ليساعدك، وليقدم لك العون، وهذا هو الاستخدام الصحيح للكلمة. إن المحامي أو الشفيع، هو الذي يأتي ليساعدك في صعوباتك وأمورك ومشاكلك القانونية، والروح القدس هو هكذا. لقد جاء من السماء، كما وعد ربنا المبارك، ليعيننا في كل أزمة وفي كل وقت نشعر بصعوبات تنشأ في حياتنا المسيحية- إنه يقوينا بمرافقتنا.

دعونا نلاحظ كيف أن الرب يسوع يوضح لنا بشكل محدد، أو يؤكد على شخصانية المعزي، الروح القدس. لنتأمل في الجزء الأخير من الآية ١٧: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ". ومن جديد الآية السابقة: "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ".

ما كان ربنا ليستخدم هذا الضمير المذكر لو لم يكن يريدنا أن نفهم أنه كما أن الله الآب أقنوم، والله الابن أقنوم، كذا فإن الله روح قدس أقنوم هو- ثلاثة أقانيم في إله واحد. أؤكد على هذا لأني أخشى أن كثيرين من المسيحيين الحقيقيين، الذين يظهرون كأنهم على السراط المستقيم، لديهم أفكار منتقصة تتعلق بالروح القدس. ولذلك فإننا غالباً ما نسمع الناس يتكلمون عن الروح القدس مستخدمين الضمير غير العاقل، ونقرأ في رومية ٨: "اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ". ذلك لأن الكلمة "الروح" في اللغة اليونانية هي في صيغة المحير، ولذلك فإن ضميراً محيراً يُشير إليها.

ما يعلمنا الرب يسوع هو أن الروح القدس ليس أن له تأثيراً لا شخصياً، وفوق كل ذلك فإن الروح القدس ليس مجرد موجة من المشاعر تفيض في قلب وفكر الإنسان، بل إن الروح القدس هو أقنوم إلهي. كما أن الله الآب أرسل الابن، وكان للابن رسالة وخدمة معينة يقوم بها على مدى ثلاث سنين ونصف رائعة في هذا العالم، وهكذا فإن الآب والابن قد أرسلا الروح القدس الآن، وهو ما برح يقوم بالخدمة الخاصة به لأكثر من ألفي سنة، وفيها انطلق إنجيل نعمة الله إلى كل العالم، وراح يقوم بمعجزات ويحول حياة الناس في كل مكان عندما يقتبلونه بالإيمان.

ثم لاحظوا التمييز التدبيري الذي يجعله الرب هنا فيما يتعلق بالخدمة التي يؤديها الروح القدس. إنه يقول: "أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ".

لاحظوا ذاك التعبير: "أمكثُ معكم". لقد كان هذا صحيحاً طوال القرون التي سبقت يوم العنصرة الرائعة ذاك عندما نزل روح قدس الله ليُشكل كنيسة الدهر التدبيري الجديد وليمكث في كل المؤمنين. في كل القرون السابقة كان الروح القدس يعمل في العالم وكان يسكن في المؤمنين. ويخبرنا الرسول بطرس كيف كان نوح يكرز بالروح القدس بينما كان يجهز الفلك. كان الروح القدس مع الآباء في دهرهم التدبيري الخاص بهم. كان الروح القدس مع شعب الله في البرية في أيام موسى، وطوال الدهر التدبيري الناموسي كان مع القديسين على الأرض. صلى داود قائلاً: "روحك القدوس لا تنزعه مني"- هذه الصلاة التي كانت تناسب جداً ذلك العصر الذي عاش فيه، ولكنها ليست بصلاة ملائمة للمسيحيين اليوم لأن يسوع قال: "عندما يأتي (الروح القدس- المعزي) يمكث معكم إلى الأبد". ولكن في العهد التدبيري القديم جاء الروح القدس وسكن وسط الشعب، وعمِل فيهم ومن خلالهم، ومعهم. "مكث معكم". كان هذا صحيحاً وخاصة عندما كان يسوع هنا على الأرض حيث أُعطي الروح القدس له بلا قياس.

والآن يتطلع يسوع إلى الدهر الجديد، العصر التدبيري الجديد، الذي كان سيبدأ بالعنصرة، ويقول: "يَكُونُ فِيكُمْ". وهذه هي الحقيقة المميزة المجيدة الخاصة بالدهر التدبيري الذي نعيش فيه. الروح القدس في هذا العصر يمكث في كل مؤمن بالرب يسوع المسيح. "لدى إيمانكم، ختمتم بذلك الروح القدس حسب الوعد". ويمكن القول الآن: "إن لم يكن روح المسيح في أي إنسان، فإنه ليس له (للمسيح)". هذا لا يعني أنه إن كان إنسان ليس فيه سكنى المسيح فإنه ليس له، بل إن الرسول يتكلم هنا عن أقنوم الروح القدس. ولذلك، ففي عصر النعمة هذا لسنا في حاجة إلى أن نذهب إلى الله ونسأله أن يعطينا الروح القدس. لأن الروح القدس يمكث فينا. لقد ختمنا كمؤمنين بالرب يسوع المسيح. ما نحتاج إليه، ونحتاج إليه بشدة، هو أن ندرك سكنى الروح القدس وأن نسمح له بأن يدخل إلى قلوبنا وحياتنا، لكيما نمتلئ بالروح ونسير بحسب هديه.

ثم لاحظوا أن سُكنى الروح القدس فينا يجعلنا ندرك أن المسيح حقيقي فينا. كان الرب يسوع المسيح ماضياً إلى السماء، ومع ذلك قال: "لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ". إنه سيأتي في الروح القدس ليقيم في المؤمن. "بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضاً وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي". سيرونه بالإيمان، سيعرفون بحضوره بالإيمان. يقول لنا الكتاب أن المسيح يسكن في قلوبنا بالإيمان. "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي وَأَنْتُمْ فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ".

لاحظوا الارتباط الوثيق بين المؤمنين مع أقانيم الألوهية: "أنْتُمْ فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ". يقول أنه عندما نسلك في الطاعة معه فإنه يظهر لنا نفسه بشكل رائع وثمين: "اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي".

يَهُوذَا، لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ، بل التلميذ المخلص، لم يفهم هذا، فقال: "يَا سَيِّدُ مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟" أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً". بمعنى آخر، المؤمن المطيع يتمتع بالشركة مع الآب والابن بقوة سكنى الروح القدس.

"إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي"- أي المؤمن المطيع. "وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي". لاحظوا أمرين هنا: أعود إلى الآية ١٥: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ". والآن الآية ٢٣ من جديد تقول: "إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي". ما الفرق بين أن يحفظ المؤمن وصايا المسيح وأن يحفظ كلامه؟ حسنٌ، هناك أشياء كثيرة عديدة تكلم عنها ربنا بشكل محدد جداً، إما شخصياً أو بالروح القدس، أشياء كثيرة عديدة كشفت إرادته بشكل واضح جداً ، مظهرة لنا ما كان يريده منا وكيف كان يريدنا أن نعيش. لنأخذ على سبيل المثال: "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد". المسيحي لا يستطيع أن يسير وراء أمور الدنيا ويحب العالم بدون أن يدخل طريق العصيان، لأن هناك وصية واضحة محددة جداً تتعلق بهذا قد كلمنا بها روح قدس الله. ومن جديد نسمعه يقول: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟" فها هنا تجدون أمراً واضحاً جداً يطلبه منا روح قدس الله.

والآن يقول يسوع: "إن كنتم تحبوني، تحفظون وصاياي". وهكذا إذ نبحث في الكتاب المقدس، نرى أين عبر الرب عن إرادته، إما بشكل شخصي، كما في الأناجيل، أو بالروح القدس، كما في الأجزاء الأخرى من العهد الجديد، ويسير المؤمن المطيع بسرور وفق ما هو مكتوب هناك. عندما يحصل على أمر مباشر من الرب يقول: "ليس لي أن أجادل، ولا أن أناقش في الأمر؛ كمسيحي، علي أن أفعل ما يطلبه مني معلمي".

ولكن الرب يسوع يذهب أبعد من ذلك. "إن أحبني أحد، يحفظ كلماتي". ما الذي يقصده بذلك؟ هذا أكثر من مجرد حفظ وصية مباشرة. سأحاول أن أوضح بمثال. هناك فتاة شابة، لندعوها ماري، ابنة محبوبة لأم أرملة. إنها تذهب إلى المدرسة والأم مراعية بمشاعر الآخرين؛ إنها تعرف أن ماري لديها الكثير من الدروس المتعبة والمسؤولية الثقيلة، ولذلك فإنها تحاول ألا تضع عليها أعباء منزلية إضافية أكثر مما يجب. ولكن كأم حكيمة تدرك أن ابنتها لديها واجبات معينة عليها إنجازها، ولذلك تقول لها: "يا ابنتي، تستطيعين أن تعتني بغرفتك؛ علقي ثيابك، وإني أتوقع منك أن تفعلي كذا وكذا".

ماري تحب أمها، ولذلك فإنها تطيعها. إنها على وشك أن تغادر غرفتها متجهة إلى المدرسة في صباح أحد الأيام، فتلاحظ أن الأشياء ليست مرتبة. "تقول أمي أن علي أن أرتب غرفتي دائماً قبل أن أغادر. قد أكون متأخرة، ولكن يجب علي أن أفعل ذلك". عليها أن تحفظ وصية أمها لكي تكون فتاة مطيعة. ولذلك فإنها ترتب غرفتها ثم تنطلق إلى المدرسة بقلب مبتهج.

في أحد الأيام يتوق قلب ماري إلى الخروج لممارسة لعبة التنس بعد الظهر حالما تعود من المدرسة، ولذا تهرع إلى البيت. إذ تدخل إلى المنزل تسمع والدتها تتكلم إلى جارتها ويحدث أن تسمعها تقول: "يا عزيزتي، أشعر أني على غير ما يرام. لدي أناس سيأتون إلينا في هذا المساء، وهذا الصداع الرهيب لا يزال يرافقني منذ الصباح، وعلي أن أُعد العشاء وبالكاد أستطيع ذلك". فتقول ماري عندئذٍ: "ما الأمر يا أمي؟ أعليك إعداد العشاء ولا تشعرين بأنك على ما يرام؟ يا ماما، اذهبي واستريحي وسأقشر البطاطا، وأضع اللحم على الغاز، وأعد كل شيء". ولكن الأم تقول: "لقد خططتِ للقاء أصدقاءك ولعب التنس بعد ظهر اليوم. لا أريد أن أعرقل مشاريعك". ولكن ماري تجيب قائلة: "لا يا أمي، لن أكون سعيدة بأن ألعب التنس وأنا أعرف أنك مريضة وعليك كل الأعباء التي تقومين بها؛ وإني أريد أن أفعل ذلك من أجلك لأني أعرف أنك بحاجة لي".

أترون الفرق؟ في الصباح حفِظت ماري وصية والدتها؛ والآن تحفظ كلمتها. إنها تدرك مما قالته والدتها كم ستكون سعيدة إذا ما قدمت المساعدة للآخرين، فتقول: "إنه لسرور لي أن أساعد أمي أكثر من أمضي وقتي في اللهو". فتخلع ماري المعطف عنها وتضع المئزر وتتجه إلى المطبخ لتحفظ كلمة أمها.

مع المسيحي ليست دائماً مسألة تنفيذ وصية محددة. إنه يقرأ الكتاب المقدس، وإذ يقرأ يرى أن الله قد عبر عن فكره بطريقة يتبين للمسيحي فيها ما هي إرادة الرب، ولذلك يُسر بأن يحفظ كلمته وهكذا يقدم له خدمة مكرسة.

الأمر الأخير الذي أريد أن أسهم فيه تجدونه في الآية ٢٦. الروح القدس المبارك هو القوة لأجل كل ذلك، هو الذي يكشف حقيقة الله، ومن خلاله محبة الله تنسكب في قلوبنا. الروح القدس هو المعلم الآن، إذ أن يسوع قال: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ".

تلك هي الخدمة الخاصة التي يقدمها لشعب الله إذ يسلكون في هذا العالم. أن تجلس وتقرأ الكتاب المقدس وتفتح للروح القدس المجال ليعلن الحقائق الإلهية الثمينة، أهم بكثير من التشويق والإثارة التي تشعر بها في اجتماع ممتع ما. هناك الكثير من المسيحيين الذين يمضون الكثير من وقتهم في البحث عن الإثارة والتشويق. إنهم يعتقدون أنهم إذا ما صاروا مستثارين أو مبتهجين في اجتماع ما فإن هذا يكون خبرة تدل على إعلان خاص عن الخدمة التي يقدمها الروح القدس. الحقيقة هي أن الخدمة العظيمة للروح القدس هي أن يأخذ أمور المسيح ويكشفها لنا، وأن يعلن لنا حقيقته، ويجعل كلماته المقدسة واضحة وبينة وحقيقية لنفوسنا. وكلما قرأنا أكثر هذه الكلمة متكلين على تعليم الروح القدس، كلما يتكشف لنا أكثر وكلما أصبحت أثمن.

الخطاب ٤٨

سلام الآب

"سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي. وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ. لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ. وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا" (يوحنا ١٤: ٢٧- ٣١).

من الممكن في هذه المرحلة أن يكون ربنا المبارك وتلاميذه قد قاموا عن مائدة العشاء التي كانوا يحفظون فيها عيد الفصح، الذي تلاه تأسيس أكثر المناسبات تقديساً في الكنيسة، ألا وهي العشاء الرباني. كان قد غسل أرجلهم، وأخبرهم عن مجيئه ثانية، وعن محبة الآب، وعن مجيء المعزي. والآن نهضوا معاً وبدأوا الطريق نحو جثسيماني حيث كان ربنا المبارك سيدخل إلى ساعة الكرب تلك قبل ذهابه إلى قاعة المحكمة والصلب.

كلماته لها تأثير معين عندما نفكر في الظروف التي نطق بها فيها. إنه يقول: "سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ". عند مجيئه إلى الأرض، قُدم للبشر على أنه ذاك الذي يأتي بسلام. وكان النبي أشعياء قد تنبأ قبل سبع مئة سنة من ميلاد المسيح المخلص قائلاً عن اسمه: " يدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام". الملائكة رنمت عند ميلاده قائلة: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرَّة". ومع ذلك فإن الأمر المحزن الذي لا يمكن إلا أن يتملك قلوبنا اليوم هو هذا، أنه بعد أكثر من عشرين قرن من الكرازة بالإنجيل، يجهل العالم حالياً السلام أكثر من أي وقت مضى. أشار ربنا إلى أن هذا ما سيحدث قبل أن يمضي، وقال أن سبب ذلك هو: "لأنكم لا تعلمون وقت افتقادكم و الأشياء التي تخص سلامكم". "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله". لقد قدم نفسه لهم ملكاً فقالوا: "لا نريد لهذا الرجل أن يملك علينا". وفي بلاط بيلاطس رفضوه بهذه الشخصية- أي كملك. سألهم بيلاطس: "ماذا؟ هل تريدون أن أصلب ملككم؟" فأجابه اليهود: "لا ملك علينا سوى قيصر"، ولكم عانوا من عدة قياصرة منذ ذلك الحين! وكل ذلك بسبب تلك الخطيئة الفظيعة. قال المخلص قبل أن يمضي: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً". أي، إن لم يقتبله الناس والحقيقة التي كانت ستحررهم، فعندها لابد أنهم يبقون في عبودية الخطيئة بكل تبعاتها المريعة.

لقد رأى مسبقاً كل هذه المشاهد من النزاع وسفك الدماء، وعندما سألوه: "ما هي علامة مجيئك؟" أجاب قائلاً: "سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب، لأنه تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن، ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع".

غنى الأولاد الصغار وهو يدخل أورشليم راكباً جحش ابن أتان لآخر مرة قائلين: "مبارك الملك الآتي باسم الرب! سلام في السماء ومجد في الأعالي". لاحظوا الفرق. الملائكة قالت: "على الأرض السلام"، بينما الأولاد قالوا، بوحي إلهي: "سلام في السماء". لأنه كان راجعاً إلى السماء، آخذاً معه السلام الذي كان سيتشارك به بسرور مع الناس في العالم. والآن يجلس إلى يمين الله- إنسان السلام. وقبل أن يمضي قال لتلاميذه: "سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ".

أرى أن لدينا شكلين متميزين من السلام في هذه الآية: الأول هو السلام الذي تركه يسوع- "سلاماً أترك لكم". أي، على ما أعتقد، هذا السلام له علاقة بمسألة الخطيئة. ما كان ليمكن أن يكون سلام بين الله والإنسان طالما كانت الخطيئة تحل بينهما كحاجز أو عائق. مرتان في أشعياء نقرأ القول: "لا سلام قال الرب للأشرار". فبالدرجة الأولى إنه يتبع جدال الرب بما يتعلق بالأصنام. فلا سلام لأولئك الذين يضعون أي شيء محل الله الحقيقي والحي.

وبالدرجة الثانية، يصور لنا أشعياء مجيء المخلص إلى العالم، عبد يهوه، الرب يسوع المسيح، ويقول: "محتقر ومخذول من الناس.... وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا". وأخبر كيف أن الابن سيُرفض من قبل شعبه خاصته أنفسهم وختم ذلك الجزء من النبوءة بهذه الكلمات: "لا سلام،  يقول إلهي، للأشرار"، فلا سلام لأولئك الذين يرفضون الرب يسوع الذي كان هو الوحيد الذي جاء ليعطي السلام. ولكن رغم أنه كان مرفوضاً، إلا أنه مضى إلى الصليب ليصنع كفارة عن الخطيئة، وهناك حقق النبوءة المتعلقة بالتأديب أو العقاب الذي يُصنع به سلامنا. ولذلك فإننا نقرأ في كولوسي ١: "عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته". أعتقد أن هذا هو ما كان يشير إليه عندما قال: "سلاماً أترك لكم". لم يعد إلى السماء إلى أن سوى مسألة الخطيئة وجعل ممكناً للإنسان أن يكون في سلام مع الله، وذلك على أساس شرعي، إذ كما تذكرون لا يمكن أن يكون هناك سلام مع الله بمعزل عن البر. "ويكون صنع العدل سلاما وعمل العدل سكونا وطمأنينة إلى الأبد" (أشعياء ٣٢: ١٧). يسوع هو "كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق، ملك ساليم". "ملكي صادق" تعني "ملك البر"؛ و"ساليم" تعني "السلام". وروح الله يقول: "المترجم أولا «ملك البر» ثم أيضاً «ملك ساليم» أي ملك السلام"- ما من سلام بدون بر. لأجل ذلك، فإني أنا وأنت خطاة ما كان ليمكننا أن نصنع سلاماً مع الله.

في العهد القديم دعا الله للإنسان ليصنع سلاماً معه، ولكن لم يمكن لأي إنسان أن يفعل ذلك. لماذا لا أستطيع أن أصنع سلاماً مع الله؟ لأنه ليست لدي القدرة لأن أترك الخطيئة جانباً. وما من جهد أبذله يمكن أن يرضى به الله عني بعد الخطيئة.

ولكن الرب يسوع المسيح، كممثل عنا، مضى إلى الصليب وصنع سلاماً- صنع سلاماً بدم صليبه. في (زكريا ٦: ١٣) نقرأ: "ويكون كاهناً على كرسيه وتكون مشورة السلام بينهما كليهما". أي أن ميثاق السلام قد وُضع بين الآب والابن. الابن أخذ مكاننا، وحل مشكلة الخطيئة فصنع بذلك سلاماً للبشر الخطاة البائسين، فكل من يأتي إلى الله كخاطئ تائب، يمكنه في لحظة إيمانه أن يقول: "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح".

في نهاية الحرب الأهلية بين الولايات، يقال لنا أن فرقة كشافة من الفرسان الفيدراليين كانوا يمتطون جيادهم على طول الطريق من ريتشموند إلى واشنطن. وفجأة رأوا بائساً فقيراً مرتدياً ثياباً رثةً وهو زي كونفيدرالي خرج من الغابة. فحيا الكابتن الذي كبح لجام فرسه وانتظره. راح يلهث قائلاً: "إني أموت جوعاً. هل يمكنك أن تساعدني؟ هلا أعطيتني بعض الطعام؟" فقال الكابتن: "تتضور جوعاً! لماذا لا تذهب إلى ريتشموند وتحصل على كل ما تحتاج إليه؟" فأجاب ذاك الآخر قائلاً: "لا أجرؤ على ذلك، لأني إن فعلت سأُعتقل. قبل ثلاثة أسابيع خذُلت وشعرت بالخوف فخرجت من الجيش الكونفيدرالي، وها إني مختبئ في الغابة منذ ذلك الحين منتظراً أن تسنح لي الفرصة لأعبر الحدود إلى الشمال، لأني أعلم أنهم إن اعتقلوني فسوف يعدمونني لأني تركت الخدمة في وقت الحرب". نظر إليه الكابتن بانذهال وقال له: "ألم تسمع النبأ؟" "أي نبأ؟" قال الفقير البائس. "أن الحرب قد انتهت. وقد حل السلام. فالجنرال لي استسلم للجنرال غرانت في أبوماتوكس قبل أسبوعين. وانتهت الكونفيدرالية". فقال ذلك البائس: "ماذا؟ السلام قد حل منذ أسبوعين، وأنا أتضور جوعاً في الغابة لأني لم أعرف ذلك؟" آهٍ، لقد كان ذلك هو إنجيل السلام له. أيها الخاطئون، استمعوا إلي. لقد حل السلام قبل ألفي سنة، وملايين من الناس اليوم يموتون في خطاياهم لأنهم لم يعرفوا بذلك. ليس عليك أن تصنع سلامك مع الله. ليس عليك أن تكفر عن خطاياك. ما كان ليمكنك أن تفعل ذلك، ولكن يسوع قد فعل كل ذلك وهكذا صرت تستطيع أن تأتي إلى الله باسمه (اسم يسوع). كل ذلك قد أنجزه عند الجلجثة وسيضاف إلى رصيدك. ذاك الذي مات على الصليب ليصنع كفارة استرضائية عن خطاياكم قد قام ثانية وها هو يجلس اليوم إلى يمين الله يتكلم بالسلام لك أولئك الذين يأتون إليه ويؤمنون به فادياً لهم-

"السلام مع الله هو المسيح في المجد،
الله نور والله محبة؛
مات يسوع ليخبر القصة،
فصالح الخطاة مع الله في الأعالي".

وهكذا فإن يسوع قال: "سلاماً أترك لكم". هل استفدتم من هذا السلام؟ هل يمكنكم القول: "أشكر الله إني تبررت بالإيمان وأن لي سلام مع الله بالرب يسوع المسيح"؟

ولكن هذا أحد جوانب السلام. هناك جانب آخر من السلام. "سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا". فالآن يقول يسوع: "سأعطيكم سلاماً سيحفظكم من اضطراب القلب". إننا نعيش في أيام وأوقات شاقة عصيبة. هناك اضطراب وقلق في القلب قد يسبب أسىً شديداً وكرباً حتى وإن كان القلب الطبيعي في حالة صحية جيدة، وذلك عندما يضطر المرء لأن يعاني الحرمان، والمشاكل المالية، والمحن العائلية، وربما الأشد من كل ذلك هو المشاكل الكنسية. أعتقد أحياناً أن أعظم الم يتعرض له الناس هو الاضطراب وسط المسيحيين الذين لا يثقون ببعضهم البعض أو ما عادوا يحبون بعضهم البعض، والذين، وبدل أن يكونوا معينين لبعضهم البعض، قد صاروا معيقين كل منهم لتقدم الآخر. وكثر ما نقف إزاء هذا الأمر. جاء أخ قبل فترة من الزمن وبدأ يخبر آخر أمراً سيئاً عن أخ مسيحي ثالث. فقال الشخص المخاطَب: "مهلاً، هل تخبرني هذا الأمر لأنك تحب هذا الإنسان؟"

ثم لدينا الأحزان التي علينا أن نعاني منها بسبب هذا العالم. هناك بالفعل أشياء تدور في كل مكان وهي مؤلمة بما يكفي لتحطم فؤاد كل إنسان حساس. ومع ذلك فإن يسوع يقول: "سلاماً أترك لكم. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ". فيعطي الراحة إلى القلوب المضطربة.

"سلامي أعطيكم". كان يمكنه أن يقول: "لقد حطمتم فؤادي". ومع ذلك فإن روحه كانت في سلام كامل. والسلام نفسه الذي تملك قلب ابن الله كان يرغب أن يمنحه لنا. فكيف نناله؟ في أشعياء ٢٦: ٣ نقرأ: "ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً لأنه عليك متوكل". هنا السر- الإيمان بالله المحبة والثقة به، الإله ذي القدرة اللامتناهية الذي صنع كل تلك الأعمال بتوافق مع إرادته. يُطلب إلينا أن نأتي إليه هو الذي يقول: " لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتعلم طلباتكم لدى الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع". المعنى الحقيقي لهذا المقطع هو التالي: سلام الله سوف "يشغل" قلبك، أو "يحفظ" قلبك، أو "يحمي" قلبك. هذا هو السلام الذي سيتشاطره يسوع مع خاصته.

"يا للسلام الذي يعطيه مخلصي،
سلاماً لم أعرفه من قبل أبداً،
وغدا الطريق أكثر سطوعاً ووضوحاً
منذ أن تعلمت أن أثق به أكثر".

في الآيات ٢٨- ٣١، التي يُختتم بها هذا الأصحاح، نرى كيف أن ربنا المبارك قد حُفِظ في سلام بمواجهة أشد الظروف سوءاً وصعوبة. فقال: "سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي". "لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ". أليس في هذا كلمة عزاء لنا نحن الذين فقدنا أشخاص أعزاء على قلوبنا هنا على الأرض؟ لقد قال: "قلت لكم أني ماض. وعليكم أن تكونوا مبتهجين جداً لأني ذاهب إلى الآب". آهٍ، أولئك الأحباء في المسيح الذين غادرونا. إلى أين ذهبوا؟ لقد مضوا إلى الآب. وبالتأكيد ستُسر قلوبنا لمعرفتنا بأنهم دخلوا إلى بيت الآب. "أبي أعظم مني". تذكروا أن الله الابن قد صار إنساناً، وكإنسان على الأرض يأخذ موقف الإذعان ويقول: "أبي أعظم مني". لكونه ابناً سرمدياً، هو واحد مع الآب والروح القدس. "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب". لقد أخذ مكانة الخضوع الجدير بالاعتبار نحو الآب.

"وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ". هذا يمكن تطبيقه على أشياء كثيرة تجري في هذا العالم اليوم. لو لم تكن لدينا شهادة الكتاب المقدس فيما يتعلق بالظروف التي ستخيم على العالم، لكان يمكن أن نُثبط. بعد ألفي سنة من الكرازة بالإنجيل، نجد أن تلك الأمور المريعة تحدث في العالم ما يجعلنا نظن أن بشرى الإنجيل قد أخفقت. ولكن ليس الحال كذلك. وليس الأمر إخفاقاً. الناس لن يقتبلوا الإنجيل. قال أحدهم: "ألا ترى أن المسيحية قد أخفقت بشكل مريع؟" فرد عليه آخر قائلاً: "المسيحية لم تخفق. لم يتم تجريبها أبداً". أترون، لقد أرانا الله مسبقاً الأحوال التي ستخيم على حين عودة الرب. وهكذا كما ترون، فكل شيء معلوم لديه وسيحكم كل شيء لأجل الخير.

"لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ". لا يمكن لي أو لكم أن نقول ذلك. أنا مسيحي منذ خمسين سنة ولكني لا أجرؤ على قول ذلك. رئيس هذا العالم هو الشيطان ولا يزال هناك شيء فيَّ يتجاوب مع رئيس العالم، ولكن يسوع لم يكن فيه شيء من هذا. لم يعرف خطيئة. ولذلك فعندما جاء إليه رئيس العالم يجربه أخفق. عليَّ أن أكون منتبهاً إلى خدع الشيطان، ولكن لم يكن لدى يسوع حاجة إلى ذلك في حالته. لقد كان دائماً وأبداً ابن الله الذي كان بلا خطيئة، وبلا إثم، ولا عيب فيه.

"وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا".

"قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا". إلى أين ينطلقوا؟ إلى جثسيماني، خارجاً إلى الجلجثة. لماذا؟ "لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ". هذا هو جانب تقدمة المحرقة من عمل المسيح. لقد مات، ليس فقط من أجل أن يزيل الخطيئة، بل ليمجّد الآب. لقد أُهِين الله في هذا العالم بسبب شر الإنسان وعصيانه ثم صار ابن الله إنساناً وكان طائعاً حتى موت الصليب. لقد مجّد الآب بطريقة اقتبل فيها لله مجداً من خلال تلك الذبيحة القربانية أكثر مما خسِر بسبب كل خطايا الإنسان. وإلى هذا ترمز ذبيحة المحرقة. لقد قدم يسوع نفسه  ذبيحة قربانية وعِطراً ذكي الرائحة لله.

وعندها مجد الله وخلاصنا ارتبطا معاً، والآن وإذ تمجّد الله في عمل الصليب، فيمكنه أن يكون عادلاً وأن يبرِّر كل من يؤمن بيسوع.

"أسمع كلمات المحبة،
أنظر إلى الدم؛
أرى الذبيحة العظيمة،
وأحظى بالسلام مع الله.
إنه سلام أبدي،
أكيد كاسم الرب؛
ثابت كعرشه الراسخ،
فيبقى كذلك إلى الأبد.
الغيوم تأتي وتذهب،
 والريح تعصف بالسماء،
هذه الصداقة التي ختمها الدم لا تتغير،
والصليب منتصر إلى الأبد.
أتغير أنا، أما هو فلا يتغير،
المسيح لا يمكن أن يموت أبداً؛
حبه، وليس حبي، هو موطن الراحة،
وحقه، وليس حقي، هو الرباط".

Pages