November 2013

الخطاب ٢٦

المسيح والمرأة التي أُمْسِكَتْ فِي زِناً.

"أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ وَمُوسَى فِي النَّامُوس ١ ِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِأُصْبُعِهِ عَلَى الأَرْضِ. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ. فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً»" (يوحنا ٨: ١- ١١).

على الأرجح أن الآية الأخيرة من الأصحاح ٧ تنتمي إلى الأصحاح ٨ فتشكل الآية الأولى فيها. يجب أن ندرك بدايةً أن كثير من الناس، والكثير من نقاد الكتاب المقدس، والعديد من الدارسين المسيحيين، يعتبرون هذا المقطع بجملته مشكوكاً فيه أو أنه موضع شك لأن بعض أقدم المخطوطات لا نجد فيها هذه الآيات الإحدى عشر. من جهة أخرى، إنها حقيقةٌ لافتة للانتباه جداً أن عدداً من المخطوطات القديمة جداً، وإذ تحذف هذه الآيات، فإنها تترك مكانها فارغاً في الصفحة، مظهرةً بوضوح أن الناسخ قصد أن يدل على أن هناك مقطعاً ما قد جاء في مخطوطات أخرى ووقع بين الآية ٥٢ من الأصحاح السابع والآية ١٢ من الأصحاح الثامن. وفي مخطوطات أخرى نجد هذا القسمَ محذوفاً كلياً. وفي مخطوطات أخرى أيضاً لدينا هذا المقطع ولكن ليس في مكانه هنا. فقد وُضِعَ هذا المقطع في نهاية إنجيل يوحنا كشكل من الحاشية أو الذيل الملحق. من جهة أخرى، هناك سبب قوي نجعلنا نعتبر أن هذا المقطع أصلي، فهو أولاً موجود في العديد من المخطوطات اليونانية القديمة، ويبدو واضحاً جداً أنه جزء من هذا الإنجيل. وسبب حذفه في حالات عديدة، على ما أعتقد، هو أن بعض المسيحيين الأوائل، على ما يبدو، قد شعروا أن هكذا قصة تبدو وكأنها تظهر تساهلاً تجاه سلوك غير أخلاقي، قد يُساء فهمها، وخاصة من قِبَلِ أناسٍ خرجوا من الوثنية التي كانت ذات ممارسات رديئة ونجسة، وهذه الممارسات كانت مرتبطة بعبادة آلهتهم. لعلّ هؤلاء المسيحيين رأوا أن البعض يمكن أن يعتبر أن الخطيئة التي يتكلم عنها هذا المقطع ليست خطيرة أو شنيعة في نظر الله. ولكن علينا أن نقرأ بقية الإنجيل لنرى أن هذا الافتراض ليس في محله.

إذ نقرأ في هذا الأصحاح فإننا نجد إشارات واضحة عديدة إلى هذه الحادثة. فهناك مقاطع لا يمكن فهمهما على نحو واضح وصحيح إن كانت هذه القصة غير موجودة. وأعتقد شخصياً أن المترجمين أحسنوا التصرف عندما ضمّنوها كجزء من النص المقدس في الكتاب بدون تمييزها أو فصلها عن بقية الكتاب المقدس. في بعض طبعات الكتاب المقدس يُوضع هذا النص كمقطع اعتراضي، وكثيرون لا يعتبرون هذا المقطع أصلياً. على كل حال، كل من يعرف نعمة الله، كما تكشفت في المسيح، على ما أعتقد، سيدرك أنه نص أصلي، لأن هذا المقطع له علاقة بما كان يصنعه يسوع هنا على الأرض. وفي نهاية الأمر، إن خطيئة هذه المرأة البائسة ليست أسوأ من خطايا أي أحد منا- "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ" (أشعياء ٥٣: ٦). إن الجزء الأول من هذه الآية يحدثنا عن خطيئة الجنس البشري- فالجنس البشري برمته قد ضلَّ. لقد ضلَّ سواء السبيل مبتعداً عن الله. ولكن الجزء الثاني من الآية يشير إلى آثامنا وتعدياتنا الشخصية الفردية- "مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ". هناك أناس حفظوا أنفسهم من انغماسات جسدية شهواني كهذه، ومع ذلك فهم آثمون من منظار الله إلى الخطايا التي في الفكر وفي القلب، والتي لا تقل نجاسةً ورداءة في نظره عن خطايا الجسد. "الإنسان ينظر إلى الخارج، أما الله فينظر إلى ما في القلب". الكبرياء هو أمر بغيض يقول الله أنه يمقته وكذلك الغيرة، والاشتهاء، ومحبة المال، والاغتصاب، واللسان الرديء الذي يقول أشياء قاسية وكاذبة وينشر إشاعات وفضائح. هذه كلها تُعَدُّ من الأشياء الشريرة والبغيضة في عيني الله. "مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ". " وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أشعياء ٥٣: ٦). هنا نتأمل في نعمة الله ورحمته نحو الخاطئ وتلك النعمة التي تمتد إلى كل الخطاة الذين يستفيدون من هذه النعمة. والآن لاحظوا المقطع بعناية أكبر.

"فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ. أَمَّا- ". كم كان ليغيب عن ذهننا المغزى في هذا النص لولا وجود هذه الكلمة "أَمَّا". فقد كان النهار قد انقضى. وظلال المساء تسقط والجماعة تتفرق، فيمضي كل إنسان إلى بيته، أما يسوع- يسوع، خالق كل الأشياء- فلم يكن له بيت يذهب إليه. فخرج إلى جبل  الزيتون. كان سامعوه قد مضوا ليجدوا راحتهم، كان سامعوه قد مضوا ليناموا في أسرّتهم المريحة. كان في مقدور سامعيه أن يعودوا إلى عائلاتهم وإلى بيوتهم، أما يسوع، الغريب في عالمٍ صنعتْه يداه، فكان ينشد الراحة والهدوء على منحدرات جبل الزيتون. على الأرجح أنه ذهب، كما كان يفعل عادةً، إلى بستان جثسيماني. يا لذاك الغريب القدوس المبارك، الذي أمكنه أن يقول: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (متى ٨: ٢٠). كم دنا ربُّنا من الناس البؤساء المتشردين المضطربين المنزعجين المتضايقين! لنفكر في الرجال والنساء  المشردين في هذا العالم اليوم. تذكروا أن يسوع كان مثلهم- فلم يكن لديه مكان ليضع عليه رأسه. لقد ذهب إلى جبل الزيتون، وبعض قضاء شطر من الليل هناك على سفح الجبل، تحت ظل أشجار الزيتون، نهض في الصباح الباكر وعاد إلى الهيكل، وجاء إليه بعض الناس، فشرع يعلّمهم. لقد ذكَرْتُ قبلاً أنها كانت عادة عند المعلّمين أن يذهبوا إلى الباحات الخارجية في الهيكل إلى جوار أحد الأعمدة، وهناك كان تلاميذهم يتحلقون حولهم ليسمعوهم. وهكذا اتخذ يسوع مجلسه إلى جوار أحد أعمدة الهيكل وبدأ يعلّم الناس. كان يكشف لهم الحقيقة المتعلقة بملكوت الله، عندما حدث اضطراب وجاء الفريسيون يجرّون المرأة البائسة إلى وسط الحشد المتجمهر هناك. لقد كانت تصارع وتحاول أن تخفي وجهها. وهؤلاء راحوا يضايقونها غير مبالين بإحساسها بالخزي والعار، وأرادوا أن يضعوا الرب يسوع المسيح في موقف حرج، حيث يتوجب عليه أن يتخذ موقفاً ضد ناموس موسى، وإلا فإنه سيتوجب عليه أن يدين تلك المرأة البائسة الخاطئة التي تحتاج إلى معونته. وهكذا جرّوا هذه المرأة أمامه- امرأة أُمسِكت في زنى. أين كان الرجل؟ هل لاذ بالفرار، وهو عشيقها، تاركاً إياها لتواجه الخزي وحدها؟  هذا أمر يحدث آلاف المرات في هذا العالم. المعيار المزدوج الذي كان آنذاك لا يزال موجوداً الآن. لقد أتوا بها لكي يعرّضوها لازدراء أولئك الذين تجمهروا حولها، ولكن الرجل الذي هو أشد منها إثماً ومذنوبية، ليس هناك ليواجه ذلك الحشد. إنه غير موجود ليقف إلى جانب ضحية رغباته الشهوانية وليقول: "بسبب شري وإثمي جاءت هذه المرأة إلى هذا المكان المريع". هذا هو حال النساء البائسات الحمقاوات على مر العصور، إذ قُدِّرَ لهم أن يعانوا الخبرات المريرة مراراً وتكراراً. قَالُوا لَهُ: "«يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟»". ما الذي أمر به موسى في الناموس؟ هل أمر بأنه في حالة سقوط شخصين في خطيئة كهذه أن المرأة وحدها هي التي تُرجَم؟ لا، لا شيء من ذلك. لقد أمر أن يُرجم كلاهما. لقد أمر ناموس موسى أن يُعاقَبَ الرجل الخاطئ وكذلك المرأة الخاطئة.

ولكنهم جاؤوا محضرين إياها، وهي الأضعف بين الاثنين. فما الذي سيفعله يسوع الآن؟ لنفترض أنه التفت إليهم وقال: "بلى؛ لقد أمر موسى بأن تُرجم هكذا امرأة، والناموس هو كلمة الله المقدسة، وما علينا سوى أن نأخذ هذه المرأة خارجاً وأن نرجمها؛ ومن ثم، إن استطعتم أن تجدوا الرجل، فاقبضوا عليه، وارجموه أيضاً". لو كان قد قال ذلك، لما كان أي خاطئ بائس سيأتي إليه أبداً كمثل تلك التي نسمع عنها في الأصحاح السابع من لوقا، التي جاءت منتحبة عند قدمي الرب يسوع. كانت لتقول في هذه الحالة: "لا؛ فهو لن يشفق على امرأة خاطئة مثلي". ولو فعل ذلك لما كان أي بائس تعيس قد تعرض للإغواء ويعاني من الأسى ليجرؤ على أن يأتي إليه طالباً العون. كانوا ليقولوا: "لا؛ فهو سيدين أمثالي. وسيسلمني إلى الدينونة".

ولكن لنفترض، من جهة أخرى، أنه قال: "حسناً. لقد قال موسى ذلك، وبالطبع هذه هي كلمة الله، ولكني أقول لكم: دعوا المرأة تمضي في سبيلها. إني أعفيكم من إطاعة الناموس". في هذه الحال كانوا سيقولون له في الحال: "إنه يقول بأنه مُرسَلٌ من الله، نبي الرب، ويعلِّم أشياء تتناقض مع ناموس موسى، ولذلك فإن تعليمه لا يمكن أن يعول عليه". لقد ظنوا أنهم أوقعوه في الفخ، ولكن كم كان رد ربنا رائعاً وعظيماً! قالوا له: ها هي ذي المرأة؛ فماذا تقول؟ ليس من شك في مذنوبيتها والناموس يقول برجمها. والآن ماذا تقول أنت؟" يا لأولئك الرجال من أصحاب البر الذاتي! فما الذي أجاب به؟ نقرأ أن يسوع انحنى إلى أسفل وراح يكتب على الأرض، وكأنه لم يسمعهم. لماذا فعل ذلك؟ كان أولئك الناس على معرفة بما جاء في الكتابات المقدسة، ولكن، وهذا مما يدعو إلى الأسف، كانوا أيضاً قساة القلوب كمثل حجر الرحى السفلي، كانوا دائماً على أهبة الاستعداد لإدانة الآخرين، متناسين أن "الْجَمِيع أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية ٣: ٢٣). وبما أنهم كانوا يعرفون كتبهم المقدسة، فلا بد من أنهم كانوا يعرفون ذلك المقطع في إرميا الذي يقول: "أَيُّهَا الرَّبُّ رَجَاءُ إِسْرَائِيلَ كُلُّ الَّذِينَ يَتْرُكُونَكَ يَخْزُونَ. [الْحَائِدُونَ عَنِّي فِي التُّرَابِ يُكْتَبُونَ لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ]" (إرميا ١٧: ١٣). لعله يمكن ترجمة العبارة بـ "على الأرضِ يُكْتَبُونَ". انظروا إليهم وقد تحلقوا حوله، وهو ينحني إلى الأسفل ويكتب على الأرض. يلتفتون أحدهم إلى الآخر ويقولون: "ما الذي يفعله، يكتب على الأرض!- أليس في كتبنا المقدسة ما يشابه ذلك؟" نعم، هناك ما يشابه ذلك. سيتحولون إلى تراب الأرض في نهاية المطاف بسبب خطاياهم. كان الرب يبلّغ الناسَ رسالةً من الله يُفترَض أن تدخل إلى قلب كل واحد، ولكنهم بدلاً من ذلك، كانوا يستمرون في الإلحاح عليه ويسألونه: "ما الذي سنفعله بها؟ ما من فائدة من انحنائك هكذا تكتب على الأرض. نريد أن نعرف ما ينبغي علينا أن نفعله". لقد كانوا في غاية الرياء والنفاق بادعائهم أنهم غيورون، إذ أنهم في نهاية الأمر كانوا يحاولون أن يحرجوه بحيث يضعفوا الثقة به.

انتصب يسوع وواجه تلك الحفنة من رؤساء الشعب المنافقين المرائين، الذين ما كانوا يهتمون بالله أو يبالون به خلال كل ممارسات خطاياهم في حياتهم، بل كانوا يحاولون أن يخفوا شرهم بادّعاء حماسة لإدانة الآخرين. وإذ نظر إليهم مواجهة مباشرة إلى عينيهم، واحداً تلو الآخر، قال لهم بهدوء شديد، ولكن بحزم شديد جداً: "«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»". لم يقل لهم: "لا تنفّذوا ناموس موسى". ولم يقل لهم: "لقد أتيتُ لأبطلَ ناموس موسى". بل أشار عليهم أن يطبّقوا ذلك الناموس إذا جرأوا على ذلك. "«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»". لقد كانوا مخيبين مندحرين تماماً. وأشاح الرب بوجهه عنهم، وراح يكتب على الأرض من جديد. أتساءل إذا ما كانت الكتابة الثانية هذه قد أوحت إليهم بتلك الآية الواردة في (مز ٢٢: ١٥): "إِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي". بعد هنيهة سيذهب (يسوع) إلى تراب الموت، عندما ستُلقى عليه كل تعديات وآثام الخطاة مثل هذه المرأة، إذ سيقدّم نفسَه ذبيحةً لأجل فداء العالم.

ولذلك انحنى من جديد وراح يكتب على الأرض. وبينما كان يكتب، كانت هناك حركة تجري بين المشتكين على المرأة. لقد راح كل واحد منهم ينظر إلى الآخر، ثم ينظر إلى يسوع وإلى المرأة الخاطئة، وقبل أن يتذكر أكبر الرجال الحاضرين سناً خطاياه التي طالما كان يحاول أن يتناساها منذ سنين، أسقط الحجر من يده ومضى قائلاً: "لا أجرؤ على أن أرجمها". وهذا ما فعله الثاني ثم الثالث وهكذا دواليك وصولاً إلى أصغرهم. فانسلوا جميعاً مبتعدين. لقد ذهب الجميع. ذهبوا جميعاً؛ الجميع خطاة آثمون على حد سواء أمام الله. "لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية ٣: ١٠). ونقرأ: "خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ".

وتُرك يسوع وحدُه (أي كان لا يزال هناك بعضٌ من الحشد). ولكن يسوع تُرِكَ لوحده وسط تلاميذه وأولئك الذين كان يعلّمهم. كانت المرأة لا تزال واقفةً هناك راكعةً على ركبتيها منحنية في خزي، ولا شك أن دموعها كانت تنهمر غزيرة إلى الأرض. فالتفت يسوع إليها. كم أتمنى لو أني سمعته يتكلم ذلك اليوم. إني على ثقة بأنه كان حنوناً عطوفاً ومشفقاً على تلك المرأة البائسة أكثر مما يمكن لأي إنسان أن يتخيل. قال يسوع: "«يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»" فرفعت المرأة بصرها وقالت: "«لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ ٢ »". لاحظوا كيف تخاطبه. لقد لمحت في يسوع شيئاً سامياً جداً، شيئاًً مختلفاً لم تجده عند أي إنسان، هذه المرأة الطريدة المسكينة- لقد رأت فيه يسوع، قدوس الله. "لا، يا رب، ما من إنسان تجرأ على رجمي". وهنا أجابها يسوع وقَالَ لَهَا: "«ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً ٣ »". لا بد أن هذا ما جعل بعض النسّاخ الأوائل يبقون هذا المقطع خارج الكتاب المقدس. لعلهم كانوا يفكرون هكذا: "ماذا؟ يسوع، القدوس، ألا يدين خطيئة كهذه؟ ألا يحرّم الزنى؟" بلى، لقد أدان الزنى بلهجة شديدة عدة مرات. ولكنه كان يعرف أن تلك المرأة البائسة كانت تدرك خطيئتها وإثمها. لقد كانت تدرك نجاستها ودنسها. وكان يسوع يعرف كل ما كان يجري في أعماق قلبها، وتكلم إلى قلبها وضميرها وهو يقول: "«ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً»".

لا أعرف شيئاً عن حياة تلك المرأة فيما بعد، ولا أعرف أين سكنت ولا كيف صارت تسلك بعد تلك الحادثة، ولكني أجرؤ على الاعتقاد بأنها لم تعد ثانية إلى تلك الخطيئة التي جعلتهم يأتون بها إلى حضرة المسيح. أشعر بقوة أن شيئاً ما حدث داخلها في ذلك اليوم. أعتقد أنه رآها تذهب خارجة من الهيكل في ذلك الصباح ونور السماء على محيّاها. أستطيع أن أتخيل أصدقاءها يقولون لها: "ما الذي يجعلك سعيدة جداً هكذا اليوم؟" فتقول: "آه. لقد ذهبتُ عند قدمي يسوع وقال لي: "«ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً»".

ولكن كيف أمكنه أن يقول لها: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ"؟ ذلك بسبب حقيقة أنه كان ماضياً في الطريق إلى الصليب، حيث كان سيأخذ خطيئته معها بعد هنيهة ويعالجها وكأنها خطيئته هو، محتملاً غضب الله وليتألم، وهو الطاهر، عن الدنسين، القدوس، الذي سيعاني عن الجاحدين، البار الذي سيتألم من أجل الفجار. ومن منظار الصليب، أمكنه أن يقول لتلك المرأة: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ". إنه على استعداد لأن يقول هذا الكلام اليوم أيضاً. إنه يقول ذلك لكل خاطئ بائس يأتي مؤمناً بنعمته ورحمته ويقبل إليه تائباً محطم الفؤاد ويجرؤ على أن يلتمس منه الرحمة. في (رومية ٨: ٣١) نقرأ: " فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا! اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟ مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ! نْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللهِ الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!" (رومية ٨: ٣١- ٣٤). ولذلك "لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (رومية ٨: ١). كم من معانٍ كنا سنخسرها لو كانت هذه القصة خارج الكتاب المقدس. كم من خطاة بائسين، كم من من رجال ونساء زناةٍ جلبت لهم هذه القصةُ رسالةَ أمل ورجاء وسلام عندما أتوا عند قدمي يسوع وآمنوا به مخلّصاً. ويبدو لي أن هذا الحديث كان ليوجهه إلى كل خاطئ لأننا جميعاً، على حد سواء، ملطخون دنسون.

"قل لي كيف أكون طاهراً
في ناظري من يرى كل شيء؛
قل لي أليس من علاج شامل،
أو نجاة من الخطايا التي أستخف بها؟
هلا يمرّ المخلص عليَّ،
ليريني كم كنت على ضلال؟
أفلا يأتي عندما أصرخ إليه،
ألا فلتطهرني الآن؟"

بلى. مَنْ طهّرَ وخلّصَ هذه المرأةَ البائسة كما نقرأ في يوحنا ٨ ينتظر أن يخلّصكَ إن تأتي إليه وتثق به. "«ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً»".


١. الآية هي "فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ" (يوحنا ٧: ٥٣). فحسنٌ أن تأتي تماماً قبل الآية (يوحنا ٨: ١): "أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ". وهكذا يمكن صياغة النص بشكل أكثر انسجاماً وتناسقاً ومنطقية بالقول: " فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ، أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ" [فريق الترجمة].

٢. الترجمة الأدق هي: "لا أحد، يا رب" إذ ترد هنا الكلمة اليونانية ( kurios )، وتعني "الرب" [فريق الترجمة].

٣. "لاَ تُخْطِئِي أَيْضا"ً أي "لا تعودي بعد الآن إلى الخطيئة" [فريق الترجمة].

الخطاب ٢٧

نور العالم

"ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً». هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (يوحنا ٨: ١٢- ٢٠).

سوف تلاحظون كيف أن هذا الجزء من الإنجيل يرتبط بشكل محدد مع ذاك الذي تأمّلنا فيه لتونا. لقد ذكرتُ أنه في مخطوطات قديمة معينة لا توجد قصة تعامل ربّنا مع المرأة الزانية وإعتاقه لها من الدينونة، ولكن إن حذفْناها فإننا سنجد صعوبة في فهم النص الذي يلي هذه الحادثة.

هذه الكلمات، التي تبدأ بها الآية ١٢، مرتبطة بشكل محدد وأكيد بما حدث قبلاً. "ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً"، أي أنه كلَّمهم مباشرة بعد حادثة ما، والتي من الواضح أنها القصة الواردة في الآيات ١- ١١. بما أننا ختمنا الأصحاح ٧ بالآية "فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ"، فالآية الأولى من الأصحاح ٨ هي "أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ". ولو كانت الآية ١٢ هنا هي بداية الأصحاح ٨ لكان الرب يسوع في الجبل وليس من أحد حوله يتحدث إليه، ولكن من الواضح أنه كان في باحة الهيكل حيث جرى حادث مدهش ما لتوه، ما يوحي بأن نوراً أشرق منه إلى داخل قلوب الناس الذين كانوا يسمعونه، ويُتْبِع ذلك بقوله: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»". عندما جاؤوه بتلك المرأة البائسة وقالوا له: "مُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟"، انحنى يسوع إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ، ثم، وقد انْتَصَبَ، َقَالَ لَهُمْ: "«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»". لقد كان النور يشرق من شخصيته المقدسة المباركة، كان يضيء عليهم وفي قلوبهم، ويوضح ويجلي كل الشر والفساد والرياء الخفي المخبأ في قلوبهم. ولذلك فلم يجرؤ أحدٌ على أن يرجم المرأة الخاطئة البائسة، بل بدءاً من أكبرهم حتى أصغرهم راحوا يخرجون الواحد تلو الآخر، وتُركت المرأة لوحدها مع الرب يسوع الذي قال لها هذه الكلمات الرائعة: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ".

وهكذا يقول: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ". النور يسود، النور يكشف، وهذه هي أول طريقة يجب أن نعرف بها الرب يسوع المسيح. ليس له مثيل. حضوره نفسُه وسط الناس كان بحد ذاته إدانةً لكل الناس، إذ ها هنا، وأخيراً، كان ثمة رجل قدوس بشكل مطلق، صادق بشكل كامل، وبار على نحو تام. كل إنسان آخر كان يبدو إلى جانبه إنساناً خاطئاً مليئاً بالإثم. إنه "نور العالم"، ومع ذلك كان في العالم والعالم لم يعرفه. "ﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يوحنا ١: ٥). لقد أشاح الناس عنه خوفاً من الاستنارة التي كان يأتي بها حضورُه. ولكن، مع ذلك، هو نور العالم وكل الناس سيخضعون للدينونة على أساس النور الذي أتى به الرب يسوع المسيح إلى هذا العالم. يقول: "مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". من خلال معرفة المسيح والخضوع له، يُعطى الإنسانُ ذاكَ الانعتاق من الظلمة ومن سلطتها المريعة. يتكلم الناس عن مشكلة يسوع، وما برحنا نرى كاتباً تلو الآخر يؤلّف كتباً محاولاً أن يفسر مشكلة يسوع. ولكن يسوع ليس مشكلة. يسوع هو الذي يحل كل المشاكل وكل التعقيدات التي تواجهنا. ثقوا به واقبلوه كما هو إلهاً وإنساناً في شخص واحد مجيد، ومشاكلكم سوف تُحَل. وهكذا يقول: "اتبعوني، ولن تسيروا في الظلمة. بل سيكون لكم نور الحياة". ولكن تذكروا، وحده القدوس يسوع هو الذي يمكنه أن يقول: "أنا نور العالم". في هذا الإنجيل، وفي مناسبات عديدة، نسمعه يستخدم ذلك الاسم الإلهي "أنا". قبل زمنٍ بعيد، عندما ظهر الله لموسى في العليقة المحترقة وأرسله إلى مصر ليحرر شعبَه، سأله موسى: "من أقول لهم أنه أرسلني؟ أي اسم سأعطي لشعبك إسرائيل عندما أظهر أمام فرعون لأقول له أنك أنت من أرسلني كي أحررهم؟"، فقال الله: "هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ»، أنا «اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ»" (خروج ٣: ١٤). وهذا هو تفسير معنى الاسم "يهوه"، فهو يعني: "الدائم الوجود"، و"أنا الكائن". وهكذا فإن "أنا هو" هو لقب إلهي، ونطق به يسوع مراراً وتكراراً خلال مسيرة حياته هنا على الأرض. فيقول: "أنا هو خبز الحياة"، و"أنا هو الراعي الصالح"- أي راعي إسرائيل، و"أنا هو الباب"، وهنا يقول: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ". لو كان يسوع المسيح أقل من الله لكان تجديفاً أن يتكلم على هذا النحو. فكروا في خادم لله تعرفونه. فكروا في أفضل إنسان التقيتم به أو سمعتم عنه، في أعظم واعظ أو كارز، في أصدق تابع للمسيح، وتخيلوه يقف أمام الناس ويقول: "انظروا إليّ، أنا نور العالم. اتبعوني وسوف لن تسلكوا في الظلمة، بل يكون لكم نور الحياة". عندها ستقولون: من يظن نفسَه حتى ضخّم ذاته إلى تلك الدرجة، مسمّياً نفسه "نور العالم"؟ في الحالة هذه ستتّهمونه بجنون العظمة. ولكن ليس من دليل على جنون عظمة هنا. عندما يفكر يسوع في الملايين من الناس الذين جاؤوا إلى العالم وقالوا: "أنا نور العالم"، فإنه يقول عملياً: "انظروا إليَّ واخلصوا، لأني أنا الله وليس من إله آخر"، إذ نقرأ في مكان آخر: "الله نور، وليس فيه ظلمة على الإطلاق". انظروا إلى خادم مخلص للمسيح- إنه يدلكم على المسيح النور. إنه يقول: "إنه النور، انظروا إليه وستجدون نور الحياة". ولكن يسوع يقول: "تعالوا إليَّ وآمنوا بي، لأني أنا نور العالم". ولاحظوا الكونية والعالمية في قوله هذا. لم يكن فقط نورَ إسرائيلَ، بل النور الذي على الأمميين أيضاً.

وهكذا كان يسوع يتجول بينهم هناك ولم يعرفوه، بسبب قلوبهم العمياء. وهكذا هو الحال أيضاً اليوم. الناس يقولون لنا: "لا أدرك هذا الأمر. لا أفهم ما تقول. لا أعي ما تقول. لا أستطيع أن أستوعب كل هذه الأشياء التي تخبرنا بها عن الخطيئة والخلاص، عن حالة الإنسان الساقطة وتدبير الإنجيل لسد كل حاجات البشر. لا أستطيع أن أفهم ذلك". هذا هو تماماً ما تقوله الكلمة: "الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (١ كورنثوس ٢: ١٤). يشبه هذا رجلاً أعمى تحاول أن تشرح له شروق الشمس بكل بهائه في السماء، فيلتفت بعينيه فاقدتي البصر نحوك ويقول: "لا أستطيع أن أتخيل المنظر". إنه بحاجة إلى نور كي يفهم شروق الشمس. آه أيتها النفس التي لم تعرف المسيح، إن كان مثلها بينكم، أعزائي الذين تسمعونني اليوم، فعليكم أن تفتحوا أعينكم بقدرة إلهية لكيما تروا جمال ومجد ربنا يسوع المسيح. ولكن إن تأتوا إليه، فإنه سيفتح أعينكم وينير أذهانكم وتفهمون أمور الله العميقة. فكروا في الملايين التي لا عدد لها التي مرت على الأرض خلال العشرين قرناً منذ تلفّظ يسوع بهذه الكلمات، والذين وجدوا فيه نور الحياة.

هل تريدون أن تتحرروا من الظلمة؟ هل ترغبون في معرفة النور؟ إذاً اذهبوا إليه وإلا فلن تجدوه. كتبت لي سيدة مرةً قائلة: "لقد ظللتُ أبحث عن النور لسنوات. إني باحثة عن الحقيقة، وإن استطعتَ أن تساعدني فإني سأكون في غاية السرور". قالت: "لقد استقصيتُ الثيوصوفية ١ ، وتحضير الأرواح، والفكر الجديد، ومختلف العبادات والطوائف. ودرستُ كل الأديان. ولا أزال في الظلمة". فكتبتُ لها قائلاً: "صديقتي العزيزة، إنك تسلكين في ممرات مظلمة لسنين. عودي إلى كتابك المقدس، اقرأي إنجيل يوحنا، وانظري الكشف الرائع للرب يسوع المسيح، وفيه ستجدين الإجابة على كل تساؤلاتك. ستُسرُّ نفسُك وتبتهج عندما تقبلينه مخلصاً لك". لسنا في حاجة إلى كل هذه الأشياء الأخرى. هل تذكرون ذلك الحادث الذي جرى هنا في شيكاغو خلال المعرض العالمي عام ١٨٩٣؟ كان هناك مؤتمر ديني ضخم حضر فيه ممثلون عن أغلب أديان العالم، وكل واحد منهم كان يعلّي قيمَ النظام الديني المعين الذي يتّبعه. وفي أحد الأيام قدّم جوزيف كوك، كارز بوسطن العظيم شهادته. كان من المفترض أن يقدّمَ خطاباً يوضح فيه وجهة النظر الكتابية حول موضوع الخلاص. فاستند على نص ليس من الكتاب المقدس، بل من مأساة ماكبث ٢ التي كتبها شكسبير، ذلك لأنه كان يعرف أن تلك الآلاف لم تكن مهتمة بالكتاب المقدس، بل على الأرجح أنهم جميعاً كانوا قد قرأوا شكسبير. وقال: "انظروا، ها هي ذي الليدي ماكبث، بعد موت دونكان، كما تذكرون. انظروا كيف تفرك يديها، وتقول: "أيتها اللطخة اللعينة انمحي! أفلن تنظف هذه الأيدي؟ كل العطور العربية ليست كافية لتغسل هذه اليد الضئيلة". وها هو زوجها، ماكبث، ينظر إليها ويصرخ: "هل يستطيع إله البحر نبتون العظيم أن يغسل الدم عن يدي؟ لا، بل إن هذه اليد سوف تصبغ كل بحار العالم بالأحمر، محولة زرقة البحر إلى لون أحمر!" وراحا يفركان ويمسحان أيديهما محاولين إزالة لطخات دم دونكان، ولكن كان ذلك أمراً مستحيلاً". وقال جوزيف كوك: "سأضع الليدي ماكبث إلى يميني وزوجها إلى يساري، وإذ أسير في ممرات هذا المجتمع الكبير من الأديان لدي سؤال واحد أطرحه: "من سيطهّر أيدينا الحمراء؟ أيدينا وقلوبنا ملطخة بالخطيئة. أخبرونا كيف نتخلّص من خطايانا!" ما من نظام ديني على الأرض يمكن أن يقدّم جواباً مقنعاً مرضياً، ولكنه قال: "عندما أتحول عن كل هذه أسمع كلمات تتصاعد من الكتاب المقدس وتقول: "دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ابْنِ الله، يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

ذلك هو الجواب على كل مشاكلكم الروحية وارتباكاتكم: يسوع نور العالم، مخلص الخطاة الإلهي القدوس. ولكن عندما يكون الناس معاندين في رفضهم في حق الله وقلوبهم ممتلئة بالبر الذاتي، فإنهم سيذهبون إلى أقصى حد، فيكذّبوا الرسول ويضعفوا الثقة بالرسول. ما من شيء يعمي العيون والقلوب أكثر من التحامل والتحيز الديني.

ولذلك قال الفرّيسيون ليسوع: "أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً". أو "شهادتك ليست صحيحة أو شرعية". لقد كانوا يشيرون إلى ما قاله عن نفسه (يوحنا ٥: ٣٧). فأجابهم يسوع قائلاً: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ". ولكن بعد أن أخبرهم عن يوحنا المعمدان، وعن أعمال قدرته، قال لهم: "يَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". يخبرنا الناموس أنه "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ" (تثنية ١٩: ١٥). فشهادة رجل واحد ما كانت كافية بالغرض أو شرعية. ولذلك سارع الفريسيون إدانته على هذا الأساس. ولكنه أجاب بإعلانه أنه لم يكن لوحده، بل إن الآب معه، ولذلك فالشهادة تصبح حقيقية.

"إِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". "الناموس يشترط وجود أكثر من شخص واحد لتثبيت حقيقية الشهادة. حسناً. أنا أشهد لنفسي، والآب الذي أرسلني يشهد لي". كيف شهد له الآب؟ عندما كان ربنا يعتمد جاء صوت من السماء يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". ومن جهة أخرى هناك الأعمال التي قام بها يسوع- لقد كانت هذه الأعمال بفعل الآب بالروح القدس من خلال الابن، وتلك كلها تحمل شهادة على أنه كان حقاً نور العالم. وهكذا قدم الله شهادة كبيرة على ألوهية ربنا يسوع المسيح، فليت الناس على استعداد لقبولها، ليتهم ما كانوا متحاملين أو متحيزين، وليتهم ما كانوا مصممين بعناد على رفض رسالة الله.

"فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟" لا أدري كيف أفسر مدى الازدراء والإذلال الذي أظهره هؤلاء من خلال هذا السؤال. هل ترون ما يتضمنه هذا السؤال من معانٍ؟ يُقال أحياناً أن يوحنا الإنجيلي لم يُشِرْ بشكل محدّد إلى الولادة العذرية لربنا يسوع المسيح، ولذلك ذهب البعض إلى حد القول أن يوحنا لم يعرف شيئاً عن ذلك وأن ذلك قد ذُكر فقط في متى وفي لوقا، ومن هنا فقد لا يكون هذا الأمر صحيحاً. إن يوحنا الإنجيلي يتناول موضوع الألوهية الكاملة للمسيح. إنه يتتبعه رجوعاً إلى الأزل (يوحنا ١: ١)، ولكنكم تلاحظون هنا أن هناك تلميح إلى حقيقة تجسد ربنا يسوع المسيح وولادته العذرية. ما الذي كان وراء هذا السؤال الذي طرحوه والحافل بالإزدراء؟ قال لهم: "أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي"، فقالوا: "أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟" هل فهمتم المسألة؟ أترون مدى القسوة في فكرهم؟ هل ترون الخبث فيه؟ لقد كانوا يعرفون الخبر الذي تم تناقُلُه بأن هذا الإنسان (يسوع) لم يكن له أب بشري، وهم يلمّحون إلى أنه قد وُلِِدَ من زنى، حُمِلَ به خارج إطار الزواج- ولذلك فقد كان من الزيف تماماً بالنسبة لهم أن يتكلّم وكأنّه يعرف أبيه. في الآية ٤١ قالوا له: "«إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ»". انظروا ما قصدوه بقولهم. نعم، كانوا قد سمعوا بقصة الولادة العذرية، وتلك كانت الطريقة التي تناولوا بها هذا الموضوع.

ولكن الله كان أباه. الله كان والد ناسوته كما أيضاً والد لاهوته. وأجاب يسوع وقال: "لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً". دعونا نقدّر هذه الكلمات حقّ قدرها. يقول الناس أحياناً: "ليتني عرفْتُ الله وفهمتُ الله. أتمنى لو استطعتُ أن أعرف كيف ينظر الله إلى الأمور وكيف يشعر إزاء الأشياء، وما هو موقفه من الناس، ولكن الله، على ما يبدو، بعيدٌ جداً، وبالنسبة لي هو من لا يمكن معرفته. أعتقد أنه لا بد من وجود علة ما وراء هذا الكون، فذاك الذي صنع الأذن لا بد أنه قادرٌ على أن يسمع، وذاك الذي خلق الشفاه لا بد أن يكون قادراً على الكلام. وذاك الذي صنع الدماغ لا بد أنه يستطيع أن يفكّر. لا بد أنه يوجد إله شخصي خلف هذا الكون. ولكنه يبدو بعيداً جداً. ألا ليتني عرفتُهُ". لعله يمكنك أن تقول، مثل أيوب: "منْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ" (أيوب ٢٣: ٣). أصغوا إلي! قد تجدونه في يسوع. قال يسوع: "من رآني فقد رأى الآب". فإن أردتم أن تعرفوا الله، تعرّفوا على المسيح. "بِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ" (١ تيموثاوس ٣: ١٦). في وجه يسوع سترى وجه الله؛ في شخص يسوع ستجد شخص الله.

لكن يسوع يقول محزوناً: "لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً". ثم نقرأ: "هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". انظر من جديد، من الضروري بشكل مطلق أن تميزوا الآيات ١- ١١ كجزء من الإنجيل، وإلا فإننا لن نجد أي تسجيل لدخوله إلى الخزينة. "لَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". كما رأينا من قبل في تأملنا ببعض المقاطع السابقة، من غير الممكن أن يصيبَ أيُ ضررٍ يسوع، أو أن يتأذّى بأي شكل من الأشكال، أو أن يموت إلى أن تحين ساعتُه تلك التي من أجلها جاء إلى هذا العالم. قبل أن يغادر مجدَ الآب، كان قد تقرّر في المشورات منذ الأزل أنه في الفصح، وهو يوم محدد معين، أن يُقّدَّمَ يسوع، حمل الفصح، ذبيحةً. وإلى أن تأتي ساعتُه، ما كان يمكن للناس أن يمسكوه أو يقبضوا عليه. ولكن عندما جاءت تلك الساعة، فإنه وضع نفسَه في أيديهم وسمح لهم بأن يبصقوا في وجهه المبارك، وأن يجلدوه بسياطهم الخشنة القاسية، وفي النهاية أن يسمّروه على صليب العار، وهناك صالحَ الناسَ مع الله بعد التعديات والمعاصي التي كانوا قد وقعوا فيها، ولم يشرق النورُ أبداً بسطوع أكثر من تلك اللحظات كما في الظلمة عند الجلجثة. أما الآن وقد تمت تسوية مسألة الخطيئة، فإن الله يقدّم الخلاص لكل نفسٍ في كل العالم تقبل ابنَه وتؤمن به مخلِّصاً. أولئك الذين بيننا، الذين وضعوا ثقتهم فيه، وجدوا أنه أبعد مما كان يمكن لأي منا أن يحلم، وبسبب ما يعنيه لنا، فإننا نتوق لأن تتعرف عليه أنت أيضاً. ولذلك فإننا نرجو منكم جميعاً، من هم بعيدين عن المسيح، أن تأتوا إليه وأن تتخذوا منه مخلصاً لكم.


١. الثيوصوفية: ( theosophy ): الاعتقاد أن معرفة الله تأتي من خلال التبصر أوالكشف الصوفي أوالتأمّل الفلسفيّ. [فريق الترجمة].

٢. "ماكبث" ( Macbeth ): مسرحية لشكسبير تتحدث عن ماكبث ملك اسكتلندا (١٠٠٥- ١٠٥٧) الذي قتل دونكان ( Duncan ) عام ١٠٤٠، وظل متربعاً على العرش حتى قتَلَه مالكوم الثالث ( Malcolm III )، ابن دونكان، عام ١٠٥٧ [فريق الترجمة].

الخطاب ٣١

من العمى والفقر المدقع إلى البركة الأبدية

"وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ قَائِلِين: «يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ». قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً. فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى قَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ». وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ». فَقَالُوا لَهُ: «كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ: «لاَ أَعْلَمُ». فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ. فَقَالَ لَهُمْ: «وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ فَأَنَا أُبْصِرُ». فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: «هَذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا: «كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هَذِهِ الآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ». فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِين: «أَهَذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ؟» أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالا: «نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ فلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ». قَالَ أَبَوَاهُ هَذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. لِذَلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: «إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ اسْأَلُوهُ». فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى وَقَالُوا لَهُ: «أَعْطِ مَجْداً لِلَّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ». فَأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ». فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» أَجَابَهُمْ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تلاَمِيذَ؟» فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تلاَمِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا هَذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ». أَجَابَ الرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ فِي هَذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهَذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ اللَّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً». أجابوا وقَالُوا لَهُ: «فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً. فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ». فَسَمِعَ هَذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ»" (يوحنا ٩).

في تأملنا في الأصحاح ٨ رأينا أن الرب يسوع المسيح كان يتصرفُ  بحسب اللقب الخاص الذي أعطاهُ لنفسه: "نور العالم".

وفي هذا الأصحاح التاسع، لا يزالُ يظهر نفسه على أنه نور العالم، ولكنَّ الفرق ما يلي: في الأصحاح ٨ رأينا النور يُشرق في القلوب المظلمة لأولئك الذين كانوا يتهمون المرأة البائسة التي أُمسكت في حالة زنى وأُحضرت إلى يسوع لكي يُدينها ويحكم عليها بالموت. فقال: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!". والنورُ أشرقَ في قلوبهم وكشفَ لهم إثمهم الشخصي، ولذلك ما من أحدٍ جَرُأ على أن يرجمَ تلك الخاطئة البائسة التي ركعت عند قدمي يسوع خَجِلةً. والآن في هذا الأصحاح التاسع لدينا النور يدخلُ إلى قلبٍ مظلم لكي يُعطيه معرفةَ نعمة الله. فلدينا هنا إنسانٌ أعمى، والنورُ أشرقَ في جفونِ عينيه المعتمتين وأنارَ عينيه الطبيعيتين، كما عيون نفسه. نقرأ: "وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ". كان هذا مباشرةً بعدَ الحادثة المدونة في الأصحاح ٨، وعلى الأرجح في نفس يوم السبت، رغم أننا لسنا متأكدين. من الواضح أن الرجلَ كان يشغلُ مكاناً معيناً في باحات الهيكل. كان الناس يرونهُ من وقتٍ لآخر وهو يجلسُ هناك آملاً في أن ينالَ صدقةً منهم. لا شكَ أن البعض كان يسرّهم أن يساعدوه. وإذ كانوا يمرونَ بجانبه، التفت تلاميذ المسيح إليه وقالوا: "«يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟»" لقد كانوا يعرفونَ ذلك المرض والعمى وشتى الأمور التي كانت تعاني منها الإنسانية البشرية والتي أتت إلى العالم بسبب الخطيئة. والآن، ومثل أصدقاء أيوب الثلاثة، كانوا يحاولون أن يناقشوا ويصنفوا من هو المذنب. فها هنا كان رجلٌ وُلِدَ أعمى. هل كان العمى الذي يعانيه عقوبةً بسبب خطايا والديه، أم بسبب خطيئته هو؟ لعلك تقول: "على الأرجح أن سبب ذلك هو خطيئتهُ هو نفسه؟" حسناً، كان هناك الكثير من اليهود الذين كانوا يعتقدون أنه حتى الطفل في رحم أمه يخطأ. نعلم من التكوين عن يعقوب الذي "فِي الْبَطْنِ قَبَضَ بِعَقِبِ أَخِيهِ (عيسو)". لقد كان اليهود يؤكدون على أن الإرادة الذاتية يمكن أن تظهر في الطفل غير المولود بعد. ما كانوا يؤمنون بتقمص أو تناسخ الأرواح، لذلك كان هذا السؤال لا يحمل إمكانية أن يكون قد أخطأ في حياةٍ سابقة. ولكنهم ارتبكوا وتشوشوا بسبب تعليم بعض الربانيين.

"أَجَابَ يَسُوعُ: لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ". ما كان يسوع يقول أن هؤلاء الناس لم يخطأوا أبداً ولا في أي وقتٍ من الأوقات، بل كان يُجيب على سؤالهم.

لماذا وُلِدَ هذا الرجلُ أعمى؟ قد يثيرُ هذا بشكلٍ طبيعي سؤالاً يقلقُ ويزعجُ الكثير من الناس. لماذا يعاني الأطفال الصغار؟ لماذا يُولدُ بعض الأطفال في هذا العالم بأجساد ناقصة ومشوهة؟ البعض عميان، والبعضُ صمٌ وبكمٌ. أنى لك أن تؤمنَ بإلهٍ ذي محبةٍ ونعمةٍ لا متناهيتين ويسمح بمعاناة الأطفال؟ حسناً، إن تركتم جانباً عقيدة سقوط الإنسان، فإني لا أعرفُ أي وسيلةٍ أخرى أوفّقُ فيها بين فكرتي معاناة الأطفال ومحبة الله، ولكن عندما نُدرك أن كلَّ ألم ومعاناة وحزن وأسى قد جاءت إلى العالم بسبب الخطيئة، لأنَّ الإنسان، منذ البدء، قد أشاحَ بوجهه عن الله، فإننا ندركُ عندها أن هذه الأشياء هي نتيجة عصيان الإنسان. ويوضح ربنا يسوع المسيح أمراً آخر، وهو ما يلي: إن كان طفلٌ قد وُلِدَ في هذا العالم بهكذا حالةٍ كما ذكرنا هنا، فبطريقةٍ ما سيتمجد الله بتلك الحالة. هذا الرجل كان قد عاشَ لكي يبلغَ سنَّ الرشد، إذ نعلم من الإنجيل أنه عندما سُئِلَ والداه عنه، قالا: "هو كاملُ السن، فاسألوه". لقد أمضى كلَّ سنوات عمرهِ في الظلمة. ولكن الآن لنفكر في هذا الأمر الرائع: أولُ وجهٍ كان سيراه هذا الرجل هو وجه الرب يسوع المسيح! بالتأكيد كان هذا يشكلُ تعويضاً ما عن كل ما تحملهُ ذلك الرجل طوال تلك السنوات من العتمة.

اعتادَ السيد سبرجن أن يُخبرَ عن مسيحي طاعن في السن وُلِدَ أعمى ومع ذلك كان قديساً مؤمناً سعيداً. وفي إحدى الأيام عندما يتحدث مع مؤمن آخر قال: "أتعلم، لديَّ أشياء أشكرُ بها الله أكثر منك". فسألهُ: "ماذا؟ أكثر مني؟" لماذا، فأنا أرى منذُ سنوات؟" فرفعَ الرجل الأعمى بصرهُ إليه بتلك العينين اللتين لا نظرَ فيهما وقال لهُ: "نعم. ولكنكَ رأيتَ أشياءَ كثيرةٍ كانت كريهةً ومزعجة، ووجوهاً كثيرةً كانت جلفة وغاضبة وشريرة، ولكن أول وجهٍ سأراهُ على الإطلاق سيكون وجهَ مخلصي المبارك، الذي أحبني وبذلَ نفسهُ عني. ولذلكَ فإن لديَّ أشياءَ كثيرة أشكرُ الله عليها أكثر منك". لا بدّ أن نعمة الله هي التي مكّنت هذا الشخص من أن يتحدث هكذا. أعرفُ أن كثيرينَ منكم من الذين يقرأون هذا كانوا طوالَ حياتهم يندبونَ حقيقة أنهم عانوا بشكلٍ أو بآخر بينما الآخرون لم يمروا بهكذا معاناة، ولعلَّ ذلك كان منذُ سن  الطفولة، ولطالما قالوا: "إن طرق الله صعبةُ الفهم". دعوني أؤكد لكم ما يلي: إن كنتم ستضعون في ذهنكم أن الله لا يمكن أن يرتكب أخطاء، وأنهُ صالحٌ جداً فلا يبلي أطفال الناس بدون داعٍ، وإن كنتم تؤمنون بأنه مُحبٌ جداً فلا يفعل أيَّ شيءٍ مزعج للإنسان، فعندها ستُدركونَ أنكم عندما تدرسونَ الكلمة وعندما تضعونَ ثقةَ قلبكم فيه، يوماً ما ستجدونَ سبباً لتشكروا الله وتسبّحوه حتى على الأشياء التي سبّبت لكم الألم الشديد وجعلتكم تبكونَ بدموعٍ مريرةٍ.

عن هذا الرجل يقول يسوع: "لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ". لقد أرسلَ الله ابنه المبارك إليه في الوقت المناسب ليجعلهُ شاهداً رائعاً على قدرته على التحرير. أتلاحظون ذلك؟ - كان الربُّ مهتماً بهذا الرجل بزمنٍ طويل قبل أن يهتمَ هذا الرجل نفسه بيسوع. لقد كانَ هناكَ إلى جوار باب الهيكل يطلبُ صدقةً ويأمل أن يرحمهُ الناس الذين يجتازون بقربه. لم يعلم أنه كان هناكَ ذاك الذي كانَ في مقدوره أن يفعلَ أكثرَ بكثير من أن يقدمَ لهُ صدقةً؛ ذاك الذي كان في مقدوره أن يعطيه الإبصار. ولكن كان هناك يسوع، وكان يتحدث إلى تلاميذه، فقالَ لهم: "يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ" (يوحنا ٩: ٤). علينا أن نضع هذه الكلمات في قلبنا. قال يسوع: "مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ". ولكنه قال لتلاميذه: "أنتم نور العالم". ولنا أيضاً يأتي الليل عندما لا يكون من إنسان يعمل. ليُعْطِنا الله أن نكون مخلصين بينما لا تزال لدينا الفرصة لتعريف الناس بالمسيح.

"مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ. قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى". وكان هذا أمراً في غاية البساطة. لعلك تقول أن هذا زاد الحالة سوءاً. فلو كان هناك بصيص نور في عينيه، كان الطين سيزيل كل بصره. ولكن كان هناكَ أمرٌ رائع في ذلك الفعل البسيط. لقد كان صورةً عن تجسد ربنا يسوع المسيح. كان قد نزلَ من مجدِ السماء واتخذ جسداً من الطين وهذا وحده ساعدَ على جعل الظلمة أعظم بالنسبة لكثير من الناس. لم يفهموا عندما رأوه يجولُ بينهم. لم يستطيعوا أن يفهموا إلى أن أظهرَ لهم الروح القدس، بأنه كان المُرسل من الآب. وهكذا طلا عيني هذا الرجل بالطين وقالَ له: "«ﭐذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ". بمعنى آخر: "عندما تدرك أني المُرسَل من قِبَلِ الله، ستبصر". وهذا ما حدث، إذ مضى واغتسل وَأَتَى بَصِيراً.

كم كانت هذه الخبرة رائعة عندما فتح عينيه ورأى جمال العالم وجاء ونظر إلى وجه الرب يسوع المسيح! لقد "مَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً".

في هذه الأثناء كان يسوع قد غاب عن المشهد للحظات. وتجمع الجيران حول ذلك الرجل ونظروا إليه ورأوا أنه صار يبصر، وقالوا: "«أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟»". "آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ»". لم يكونوا على يقين تام. بالطبع صار هناك فرق. فعادة تكون هناك نظرة فارغة لدى الإنسان الأعمى. قالوا: "أهذا هو جارنا القديم أم لا؟" ما كانوا متأكدين. "أَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ»". "نعم أنا هو ذاك الذي وُلِدَ أعمى، والآن صرتُ أُبصر". الشكر لله لأن هذا هو نوع الأعاجيب التي يصنعها يسوع حتى في هذه الأيام. كم هم كُثُرٌ عميان القلوب؛ العميان عن رؤية الحقائق الأبدية، ولكن عندما يعلمون أن يسوع هو المُرسَل من الله الآب ويؤمنون به، يصيرون قادرين على الرؤية. كل شيء يصبح مختلفاً.  

والتفتوا إلى ذلك الرجل وقالوا له: "«كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟»" فأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: "«إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ»". تعجبني البساطة التي في اعتراف هذا الرجل. لقد كان يعرف كيف حقق الشروط- "إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ"- هل تعرف هذا الاسم الحبيب؟ "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (١ تيموثاوس ٢: ٥). أتعرف ذاك الإنسان المبارك؟

"أنقى الناس على الأرض،
وأكثرهم مجداً؛
الكامل في لاهوته،
إنسان الجلجثة العظيم".

أن تعرفه يعني أن تعرف الله، لأنه التعبير الكامل عن الشخص الإلهي. لقد أمكنه أن يقول: "من رآني فقد رأى الآب".هل تعرفه؟ لا أوجه لك السؤال إن كنت تعترف بالمسيح أو تنتمي إلى كنيسة ما، أو إن كنت تستفيد بين الفترة والأخرى من المشاركة في أسرار الكنيسة أو إن كنت تحاول أن تحيا حياة صالحة. فهذه الأمور لها أماكنها، بل إني أسألك هكذا: هل تعرف الإنسان الذي يُقال له يسوع؟ هل وضعت إيمانك وثقتك فيه مخلصاً لك؟ ما لم تعرفه، فإنك لا تعرف الله، ولا تزال في خطاياك. ولكن عندما تعرفه فإن خطاياك ستُمحى وتحظى بالحياة الأبدية. عندما تعرفه تزول العتمة ويشرق النور الحقيقي.

هذا الرجل التقى بيسوع ومنحه يسوع البصر. يقول: "إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ". لقد سمع صوت ذاك الذي قال له: "اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ". وأطاع فنال البصر. واليوم ينطلق هذا النداء إلى الجميع: "اذْهَبْ وَاغْتَسِلْ. اغتسل وأبصر. آمن بالشهادة التي قدّمها الله المتعلقة بابنه فتنال حياةً أبدية". أتذكرون ما قاله الرب في يوحنا ٥: ٢٤: " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ (إدانة) بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ". وأيضاً نقرأ في مكان آخر في الكتاب المقدس: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية ١٠: ٩، ١٠).

لقد وثق ذلك الرجل بكلمة يسوع فنال البصر. آلافٌ من الذين قرأوا هذا النص آمنوا بكلمة الرب أيضاً ويمكنهم أن يقدموا نفس الشهادة: "مَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ". أنتم الذين لم تقتبلوا المسيح بعد، أناشدكم أن تفعلوا ما طلب منكم فعله. آمنوا به أنه المُرسَل من قِبَل الآب وستنالون النور والحياة والسلام.

"قَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ: «لاَ أَعْلَمُ». فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى". وبالطبع وُضع الرب يسوع في تضاد مع ضمائرهم الناموسية الشرائعية. لقد كان من المهم أكثر بالنسبة لهم أن يحفظوا نواميس وضعها البشر تتعلق بالسبت من سد حاجة إنسان أعمى بائس. وهكذا عرّضَ يسوع نفسَه مرة أخرى لانتقاداتهم. لقد سألوا الرجل عن كيفية استعادة بصره. فقال: "وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ فَأَنَا أُبْصِرُ". وسرعان ما قفز الفريسيون إلى استنتاجات لا مبرر لها، وأدانوا عمل الرب يسوع. فقالوا: "هَذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ". لا يهمهم ما يفعل حيال معاناة البشرية، ذلك لأنه لم يحفظ يوم السبت. إنه ليس من الله. لقد كان ينقض في تصرفاته مئات النواميس التي وضعوها بأنفسهم. لقد كان يسوع غير مكترث بهم، فعندما كان أي رجل أو امرأة في محنة كان يساعدهم ولو كان هذا الأمر يزعج هؤلاء الناموسيين.

وكان في وسطهم بعضاً من الناس قالوا: "كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هَذِهِ الآيَاتِ؟". ولذلك كَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. فنادوا الأعمى من جديد وقالوا: "مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ»". إنه مُرسَلٌ من الله. النبي هو إنسان يأتي ليفعل ما يقوله له الله. "فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ»".

"لَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ". وقالوا: "ليس هذا هو المتسول الذي اعتاد أن يجلس على باب الهيكل". ولذلك دَعَوْا أَبَوَيِه وَسَأَلُوهُمَا قَائِلِين: "«أَهَذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟" ما المعنى الضمني من السؤال؟ لكأنهم كانوا يتهمون والديه بأنهما يخدعان كل الناس هناك. فأجاب والداه وقالا: "«نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى. وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ فلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ»". والآية التالية توضح لنا لماذا كانا محترسين. فقد شاع الخبر في الحوار سريعاً بأن اليهود سوف يزعجون كل من يشهد للمسيح: "قَالَ أَبَوَاهُ هَذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ"، ولذلك لم يُريدا أن يوضعا في مأزِقٍ أو خطر، على حد تعبيرنا. فإن أُخرجا من المجمع سيكونان خارج كل شيء، ولذلك كان الناس يخشون هذا الحكم الذي يصدره المجمع بحقهم: الحرم من العضوية. هذان الأبوان لم يريدا أن يتحملا مخاطر الاعتراف بما كانا يؤمنان به في قلبيهما. فقالا: "«إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ اسْأَلُوهُ»". فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى وَقَالُوا لَهُ: "«أَعْطِ مَجْداً لِلَّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ»". "يبدو أنه مما لا شك فيه أنك وُلِدْتَ أعمى، ولكن يجب ألا تنسب أي فضل لهذا الإنسان (يسوع)، لأنه خاطئ". تروق لي شهادة هذا الرجل الذي كان يوماً أعمى. فقد نظر إليهم محدقاً بعينين ممتلئتين، هاتين العينين اللتين أبصرتا النور للتو، وقال: "«أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ»". إنها لشهادة عظيمة، وأعتقد أن كثيرين من قرائي يمكن أن يعطوا مثل هذه الشهادة: "أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ". "بينما كنتُ يوماً خاطئاً بائساً، معتّم الفهم، أعلم الآن أن عينيّ قد انفتحتا".

"أيا مسيحي، فيك وجدَتْ نفسي،
وفيك وحدك فقط،
السلامَ والفرحَ الذي طالما تقتُ إليه،
هذه الغبطة التي لم أعرفها حتى الآن.
فليس سوى المسيح هو الذي يشبع النفس،
ليس من أحد آخر سواه،
فهناك الحب والحياة والفرح الدائم،
وهذا ما نجده فيك يا ربي يسوع".
لقد انتحَبتُ حزناً على المسرات التي خسرتُها،
ولكني لم أطلبك بالدموع،
إلى أن نالت عيناي العمياء نعمتَكَ،
ورأتا محبَّتَك العظيمة"

نحن الذين نخلص لا نستند على كلام شخص قال ذلك، ولا على الإيمان بكلمة الله نفسها وحسب، بل قد اختبرنا في داخلنا عمق المعرفة بحضور الرب يسوع معنا عبر السنين، ما يمكّننا مكن أن نقول من أعماق القلب: "إِنَّمَا أَعْلَمُ". لقد استطاع بولس أن يقول: "إنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ" (٢ تيموثاوس ١: ١٢).

إذاً يعطي هذا الرجل شهادتَه ويبدأ الآن مستجوبوه بامتحانه أكثر: "كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟" تعجبني جدية الرجل هنا. لقد رفع بصره نحوهم وقال: "قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟"، " أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تلاَمِيذَ؟". ولكن هذا الجواب أثار سخطهم فقالوا: "أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تلاَمِيذُ مُوسَى". ولكن يسوع قال: "موسى كتب عني". "لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي". دعوني أقول لكم أنتم الذين تصدقون موسى وتؤمنون به نبياً لله والذين تقبلون العهد القديم على أنه موحى به من الله، اقرأوا تلك الكتابات، واسألوا الله أن ينير من السماء على هذه المقاطع، وإن كنتم مخلصين وصادقين سترون المسيح يسوع في شهادة موسى.

فقالوا: "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا هَذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ". وهنا أجابهم الرجل الذي أبصر حديثاً وقال: "«إِنَّ فِي هَذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهَذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ اللَّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً»". ما يلفت انتباهي هو مدى سرعة نمو هذا الإنسان. فقبل قليل كان شحاذاً أعمى. ولا شك أنه تأمل ملياً في أمور كثيرة وهو قابعٌ في ظلمته هناك. ولذلك فأشياء كثيرة اتضحت له. عندما تتعرف إلى يسوع فإن الحجاب يُرفع عن القلب والفكر.

أما وقد عجزوا عن إيجاد جواب على ما قاله ذلك الإنسان، فقد غضبوا. وهذا يحدث دائما. فكما تعرفون، عندما يُفحم المرء في جدال يحدث بشكل طبيعي أن يرفع صوته في النقاش ويُسكت من يجادله. فانبرى هؤلاء له وقالوا: "«فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!»". من كان هؤلاء الذين يتحدثون هكذا؟ لقد كانوا هؤلاء القوم الذين كانوا يصلون هكذا: "اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ. فلستُ سكّيراً. ولستُ من الزُّنَاةِ". ولهذا نظروا بازدراء إلى ذلك الرجل البائس. من هو ذاك الرجل؟ لقد كان مولوداً "فِي الْخَطَايَا" (على حد قولهم). ولكن الكتاب المقدس لا يقول ذلك. بل يقول "بالخطية". "بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي" (مز ٥١: ٥). هكذا قال داود. إننا نسقط في الخطية بعد أن نُولَد.

ولكنهم أخرجوه خارجاً. هذا كان أسوأ ما كان ليمكن أن يحصل له. بعض الناس يخشون أن يُطردوا خارجاً. أتعرفون إلى أين طردوه خارجاً؟ تماماً إلى ذراعي يسوع. فقال له يسوع: "«أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟»" فأجاب ذاك: "«مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟»" لكأنه بذلك كان يقول: "سأومن بأي شخص تقول لي عنه". فقال له يسوع: "قَدْ رَأَيْتَهُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ". وفي الحال سَجَدَ لَهُ، وقَالَ: "«أُومِنُ يَا سَيِّدُ»". لنفطر في الأمر: في بداية هذا المقطع كان هذا الرجل متسولاً أعمى بائساً وفي حاجة، وفي نهاية المقطع متعبّداً سعيداً، ينظر إلى وجه المسيح. إنها "رحلة حج" رائعة من العمى والفقر إلى السجود عند قدمي المخلّص، إذ يستنير المرء ويغتني إلى الأبدية.

"فَقَالَ يَسُوعُ: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ». فَسَمِعَ هَذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ»". إنهم مدانون برفضهم النور عن عمد.

لا يزال الرب يسوع نور العالم. لا يزال يفتح أعين العميان، وإن كان بين قرائي من لم يأتِ بعد إليه ولم يختبر بعد ما يستطيع الرب أن يفعله للقلب الذي يؤمن به، فإنه ليسرني أن أوصي الرب يسوع به. تعالوا بتجاربكم وخطاياكم ودموعكم، تعالوا بكل حاجتكم وإعوازكم، وكونوا على ثقة بأنه سيلبّيها بغنى نعمته وجزيل رحمته.

"تعالوا أيها الحزانى، إلى حيث يمكنكم التماس العطف،
تعالوا إلى كرسي الرحمة، واسجدوا راكعين بحرارة؛
هاتوا قلوبَكم المجروحة، وعبّروا له عن كربكم؛
فليس في الأرض حزن أو أسى تعجز السماء عن مداواته".

الخطاب ٣٢

الراعي الصالح

"«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ. لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَأَمَّا الْغَرِيبُ فلاَ تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ». هَذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى. اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ وَلَيْسَ رَاعِياً الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَﭐلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ وَلاَ يُبَالِي بِالْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يوحنا ١٠: ١- ١٦).

لدينا قسمان متمايزان حقيقةً في هذا الجزء. الآيات الخمس الأولى تشكّلُ مثلاً متكاملاً بحدِ ذاتها، ومن ثم لدينا الآيات من ٦ إلى ١٦ التي أضفنا فيها تعليماً وكشفاً أكمل لحقيقة شخصية الراعي في ربنا يسوع المسيح. إنه الراعي الصالح بشكلٍ لافتٍ للنظر. إنه لأمرٌ هامٌ جداً أن نُلفت الانتباه إلى أن كلمة "صالح" هنا تحمل في أحد معانيها المعنى "الراعي الجميل". بالطبع، إنها تشيرُ إلى جمال شخصيته- الراعي الذي هو غير غيري بشكلٍ مطلق ومكرس لمشيئة الآب. لقد قدمَ نفسه لبني إسرائيل كراعٍ لهم وكان هذا بتوافقٍ مع العديد من النصوص المسيانية الواردة في العهد القديم.

"في تكوين ٤٩، عندما يتكلم يعقوب بإلهام إلهي عن يوسف ، يختتم حديثه بهذه الكلمات: "يُوسُفُ غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ. فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أرْبَابُ السِّهَامِ. وَلَكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ (مِنْ هُنَاكَ مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ اسْرَائِيلَ)"، أي أن الراعي هو من الإله القدير الذي يعبده يعقوب؛ وهو يذكر هذا هنا لأن الخبرات التي قُدِّرَ للراعي الحقيقي، صخر إسرائيل، أن يمر بها كانت قريبة أو شبه مماثلة لتلك التي كان على يوسف أن يمر بها، مرفوضاً ومرذولاً ومزدرى به، كما كان هو نفسه، وذلك من قِبَلِ إخوته أنفسهم.

ثم لدينا الحديث عن المسيا على أنه راعي الرب في المزمور ٢٣، تلكَ الجوهرة الجميلة التي نحبها كثيراً جداً. قال أحدهم أن هذا النص هو من أكثر المقاطع المحبوبة لدى القراء وأقلها تصديقاً من أي جزءٍ من الكتاب المقدس. "الربُّ راعيَّ، فلا يعوزني شيءٌ". إننا نحب أن نرددَ هذه الكلمات، ولكن كم من الناس يؤمنون بها؟ لطالما نشعرُ بالذعر عندما يفرغ كيس نقودنا ونكون عاطلين عن العمل. هناك أمرٌ واحد نفعله، وذلك أن نقبل إليه ونتكل عليه في كل شيء. "الربُّ راعيَّ، فلا يعوزني شيءٌ".

في المزمور ٨٠: ١ نقرأ: "يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ يَا جَالِساً عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ". راعي إسرائيل لم يكن سوى الله نفسه، الذي كان يرعى شعبه ويسهر عليهم، والذي كان سيأتي إلى العالم في هيئة بشرية ليرشدهم إلى البركة. أشعياء يصوّره على هذا النحو. في (أشعياء ٤٠: ١٠، ١١) نقرأ: "هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ. كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ". كانت هذه هي النبوءة عن مجيء ممسوح الرب، مسيا إسرائيل، إلى هذا العالم.

ثم في إرميا ٣١- نجد ذلك الأصحاح العظيم الذي يتكلم عن اهتمام الله الدائم والأبدي بشعبه إسرائيل- في الآية ١٠ نقرأ: "اِسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ أَيُّهَا الأُمَمُ وَأَخْبِرُوا فِي الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ وَقُولُوا: [مُبَدِّدُ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُهُ وَيَحْرُسُهُ كَرَاعٍ قَطِيعَهُ]. لأَنَّ الرَّبَّ فَدَى يَعْقُوبَ وَفَكَّهُ مِنْ يَدِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ". وأعطِيَ لحزقيال أن يؤكد ذلك، عندما يقول في ٣٤: ١٢- ١٥: "كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسَطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ, هَكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ. وَأُخْرِجُهَا مِنَ الشُّعُوبِ وَأَجْمَعُهَا مِنَ الأَرَاضِي, وَآتِي بِهَا إِلَى أَرْضِهَا وَأَرْعَاهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ وَفِي الأَوْدِيَةِ وَفِي جَمِيعِ مَسَاكِنِ الأَرْضِ. أَرْعَاهَا فِي مَرْعًى جَيِّدٍ, وَيَكُونُ مَرَاحُهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ الْعَالِيَةِ. هُنَالِكَ تَرْبُضُ فِي مَرَاحٍ حَسَنٍ, وَفِي مَرْعًى دَسِمٍ يَرْعُونَ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.

ربما نتحول إلى مقاطع أخرى كثيرة تصف أو تصور الربَّ كراعٍ؛ مقاطع كانت لتجدَ تحقيقها في شخص ربنا يسوع المسيح. وذلك فعندما وقفَ وسطَ بني إسرائيل وأعلنَ نفسه أنه الراعي الصالح، كان يجب أن يفهموه في الحال، لأنهم كانوا على إطلاع جيد على محتوى العهد القديم. هذه المقاطع كانت في قلوبهم وأذهانهم منذ قرون. فقد كانوا يبحثون عن راعي الرب الآتي، وها هو يسوع قد ظهرَ الآن وقال لهم: "أنا الراعي الصالح". نلاحظُ قبل قليل، عند حديث المسيح باستخدام العبارات التي تبدأ بـ "أنا"، إن هذا التعبير هو لقبٌ إلهيٌ محددٌ. فيسوع يأخذُ ذلك الاسم الذي يُطلق على الله والذي لا يمكن لأحد أن يرفضهُ ويقول: "أنا هو الراعي الصالح".

وإنه يضع نفسه على تضاد مع الرعاة الزائفين الذين كانوا يظهرون من وقتٍ إلى آخر:

"«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَاف".

أعتقدُ أن هذه الكلمات يساءُ تطبيقها عامةً أو تطبق بشكلٍ مغلوط. لا أقصد أنها وُضعت لتُعلِمَ شيئاً مغلوطاً زائفاً، ولكنها تُستخدم بعكس المعنى المراد بها في الآية المحددة التي تحويها. لطالما نسمع الناس يقولون: "إذ حاولَ أحدٌ أن يصعدَ إلى السماء بطريقةٍ أخرى سوى بالمسيح، فإنهُ لصٌ وسارق". ولكن ليس هذا ما كان يتحدث عنه الرب هنا، على الإطلاق. الحق يُقال أنه إن حاولتم أن تدخلوا السماءَ بطريقةٍ ما عدا وضع ثقتكم بالرب يسوع المسيح، فإنكم ستكونون كمثلِ لصٍ يحاولُ أن يقتحمَ مكاناً ليس له حقٌ في دخوله.

"لأنه لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢).

ولكنَّ هذا ليس هو ما يتحدث عنه المُخلِّص هنا. إنهُ لا يتكلم عن الصعود إلى السماء. فالسماءُ ليست الحظيرة. كانت اليهودية هي الحظيرة وخلالَ النصف قرن قبل ظهور ربنا يسوع المسيح كان هناكَ كثيرون جاءوا يدعونَ أنهم المسيَّا، ولكنهم لم يدخلوا من الباب- أي، بحسب الكتاب المقدس. لقد كانوا يحاولون أن يتسلقوا طريقاً أخرى، وعنفهم يسوع بقسوةٍ واصفاً إياهم بسراق ولصوص. ثم يتحدث عن نفسه على خلاف حديثهِ عنهم:

"أَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ". لقد جاء كما في الكلمة النبوية. وكانت حياته متوافقة تماماً مع تنبؤات وتوقعات كتابات العهد القديم. "لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا". يوحنا المعمدان كان الْبَوَّاب الذي كان قد أرسله الله ليعلن مجيء المسيا. وأخبر عن شخص لا يجد نفسه مستحقاً أن يحل سير حذائه. وبالنسبة له جاء المسيح لأجل المعمودية. لقد قال يوحنا: "يا معلّم، لست أستحق أن أُعمّدَك. بل أنا في حاجة لأن أعتمد منك. فأنت الذي بلا خطيئة، وما أنا إلا معمِّدٌ خاطئ. هذه معمودية توبة، وليس لديك ما تتوب عليه". فقال له يسوع: "اسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا". وبمعموديته أخذ على عاتقه أَنْ يكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ مطلوب أمام عرش الله، وأن يسد حاجة الخطأة. وإذ خرج من الماء، أعلن صوت من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". لقد دخل عبر الباب إلى الحظيرة. والبوّاب فتح له الباب. وروح الله نزل من السماء وحلَّ عليه ماسحاً إياه على أنه المسيا. هذا ما تعنية كلمة "المسيا" أي "الممسوح". لقد مُسِح ذلك اليوم من روح قدس الله كراع حقيقي للخراف.

وهكذا دخل من الباب، وكان هناك في الحظيرة أولئك الذين اقتبلوه. كان هناك الذين هم أولاد الله حقاً. فقد كانوا قد فتحوا قلوبَهم لحقّه، وعندما جاء قالوا: "ها هو المخلِّص الذي كنا ننتظر". "الْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ". ما كان ينوي أن يتركهم إلى الأبد في حظيرة اليهودية، بل كان سيقودهم إلى حرية النعمة والبركة في المسيحية. لقد دخل إلى حظيرة اليهودية ليخرجَ كنيسته من اليهودية إلى حرية النعمة. "مَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ". هذا هو الامتحان الأعظم. يقول أحدهم: "حسناً. أعتقد أني مسيحي، ولكني لا أفهم لماذا توجّب على المسيح أن يأتي إلى هذا العالم وأن يموت ليخلّص الخطأة. لا أستوعب ذلك". هذا يدل على حقيقة محزنة. هذا يعني أنك لا تعرف حقاً صوت الراعي. ولم تأخذ بعد مكانك أمام الله كخاطئ تائب أو تقبل المسيح بإيمان بسيط. أولئك الذين فعلوا ذلك مولودون من جديد، واقتبلوا الحياة الأبدية، ومع هذه الحياة الجديدة صارت لديهم طبيعة جديدة تجعلهم يُسَرّون في إطاعتهم لصوته. إنهم يعرفونه. إنهم يعرفون صوت الراعي. وسوف لن يتبعوا الغريب.

ولذلك نقرأ في الكتاب: "هذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ" (يوحنا ١٠: ٦). لم يفهموا ما قال. وكانت أعينهم عمياء. لم يفقهوا معنى هذه الصورة البسيطة الجميلة. ولذلك تابع يشرح لهم بإيضاح أكثر: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى".

وهنا يغير الرب يسوع الاستعارة التشبيهية. فقد قال قبل قليل: "أنا هو الراعي، وقد دخلْتُ من الباب". والآن يقول: "أَنَا هُوَ الْبَابُ". فهل من تناقض؟ لا على الإطلاق. لعلكم سمعتم  عن حادثة صغيرة أخبرنا بها الدكتور بيازي سميث. ففي إحدى المناسبات رأى راعياً يصعد بخرافه إلى إحدى التلال. فقادهم إلى الحظيرة وأراحهم هناك، فقال له الدكتور سميث: "هل تترك الخراف في هذه الحظيرة طوال الليل؟" فأجاب: "نعم". فسأله: "ولكن أليس هناك وحوش برية في الجوار؟" فرد بالإيجاب. وهنا سأله السيد سميث: "أفلا يحاولون الوصول إلى الخراف؟" فقال الراعي: "بلى". فسأله: "حسناً. ليس لديك باب هنا، فأنى لك أن تضمن عدم دخول الوحوش إلى الحظيرة؟" فما كان من الراعي الأعرابي سوى أن اضطجع  على جنبه عند المدخل، ورفع بصره مبتسماً وقال: "أنا هو الباب". أترون؟ ما من وحش يمكن أن يدخل دون أن يوقظه، ولن يخرج أي خروف من فوقه.

ولذلك قال يسوع: "أنا هو الباب ومن خلالي تدخل خرافي إلى البركة وأنا حارسهم ومرشدهم". ثم يقول: "أنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى". وهذا ما عناه داود بقوله: "فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي" (مز ٢٣: ٢). الراعي يُعنى بالخراف، ويقودها إلى المراعي المناسبة حيث تنتعش وتتغذى. وهكذا ربنا المبارك يأخذ على عاتقه مسؤولية أولئك الذين يؤمنون به ويضعون فيه ثقتهم.

والآن بعكس نفسه، كان هناكَ معلمون وأنبياء كذبة، كانوا مهتمين فقط بمصلحتهم الشخصية الخاصة. كان هناكَ مثل هؤلاء على طول القرون والعصور وتكلمَ الربُّ عنهم بلهجةٍ قويةٍ شديدةٍ. "اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ". لقد جاءَ ليقدمَ حياةً أبدية لكل الذين وضعوا إيمانهم فيه. وإن كنا نسلكُ في شركةٍ مع الله فإن لدينا تلك الحياة الوافرة. مسيحيونَ كثيرونَ لديهم حياة، ولكن لا يبدو أن لديهم حياة وافرة. كنتُ مؤخراً في بيت حيث كان هناك طفلان. كان أحدهما متوعك الصحةِ وشاحباً، بينما كان الآخرُ مفعماً بالحياةِ لدرجة أنه كان مصدرَ إزعاجٍ مستمر للصغير المريض. وإذ نظرتُ إليهما فكرتُ في نفسي قائلاً: "إنهما مثلَ المسيحيين". هناكَ كثيرونَ من المسيحيين الذين لديهم حياة؛ فقد آمنوا بيسوع مخلصاً، ولكن لا يبدو أنهم يتكلون كثيراً على الله- فما من شهادةٍ يقدمونها. ثم هناكَ آخرون مليئون بالحماسة الروحية يحملون شهادةً عن ذاك الذي فداهم، متألقينَ ومشرقين لأنهم يعيشون في شركةٍ مع الله.

أولاً، يقول يسوع: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ". ثم يعلن قائلاً: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ أعرف خرافي وخرافي تعرفني". ها أنكم ترونَ جانبين من الحقيقة هنا. فكراعٍ صالح ذهبَ إلى صليب الجلجثة وهناكَ وضع حياته. وهناك جُرح لأجل معاصينا وطُعِنَ لأجل آثامنا وبجلداته قد شُفينا. يا لهُ من راعٍ رائع.

"أيها الراعي العظيم الكريم،
يا من أهرقَ دمهُ لأجلنا،
 وسُلّمَ للعارِ والموت،
 وذلك كلهُ لأجلِ أن يُدنينا إلى الله".

ذلك، كما ترون، لأنهُ لم يكن هناكَ من وسيلةٍ أخرى. في جثسيماني صلّى يسوع قائلاً: "إن أمكن أجر عني هذه الكأس". أي: "إن كان ممكناً أن ُأخلِّص الخطأ بطريقةٍ أخرى ما عدا شرب كأس الدينونة، فليكن ذلك". ولكن لم يكن هناكَ من طريقٍ آخر، وهكذا مضى الراعي الصالح ليموت.

ولكنَّ ذاك الذي مات يحيا من جديد. إنه يحيا في المجد، وهو لا يزالُ الراعي الصالح. في مكانٍ آخر يُدعى الراعي العظيم والراعي الكبير. "إِلَهُ السَّلاَمِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، ..... لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِتَصْنَعُوا مَشِيئَتَهُ، عَامِلاً فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ". (عبرانيين ١٣: ٢٠، ٢١). ولكنَّ هذا الراعي العظيم هو الراعي الصالح لا يزال، ويعرفُ خرافهُ، ويقول: "خرافي تعرفني". ألا يُعزي هذا قلبكَ، يا أيها الابنُ العزيز لله؟ إن كانَ يسمعني أحدٌ يضطجعُ على سريـرِ المـرض- فلعلَّ بعضكم ما كان قادراً على أن يتركَ سريره لسنين، ولعلَّ الإغراء والتجربة كانا يجعلانه يشعر بأنه متروك كلياً ومنعزل ومُتعب وضجر من كل ذلك- فيا عزيزي، أيها المريض، تذكر أن يسوع يقول: "أنا هو الراعي الصالح وأنا أعرفُ خرافي". إنه يعرفُ صراعتك، وخيباتك، والكأس الذي عليكَ أن تشربهُ. لقد شربَ من كأسٍ أشد مرارةٍ من الذي لك بكثير.

"إن وجِدت بعضُ أشواكٍ في طريقك،
ففكر بمن حمَِِلها على جبينه.
إن وجِدَ حزنٌ في قلبكَ المتألم،
فإنه يتقدسُ أكثر منك".

في تعاطفه العميق يدخل (الرب) إلى تجاربك ومحنك ويشاطرك أحزانك. وعندها- أليست هذه بركة؟- إنه يقول: "أعرف خرافي وخرافي تعرفني". ونقول مرة أخرى مع داود: "الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء". ونسمع يسوع أيضاً يقول: "كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ". بالتأكيد هو لا يتكلم بالدرجة الأولى عن الخراف في الحظيرة اليهودية. بل نقرأ في الآية التالية: "وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ". وإن كلمة "حظيرة" هنا ينبغي ترجمتها بـ "قطيع". أترون، لقد كانت اليهودية حظيرة، محيط دائرة بدون مركز، أما المسيحية فهي قطيع، حيث لدينا مركز بدون محيط دائرة. ليس لدينا جدران حولنا، ولكننا متجمعون حوله، راعينا الصالح. إن ربنا يسوع المسيح هو بالفعل راعينا الصالح، الذي "لَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ" (تكوين ٤٩: ١٠).

الخطاب ٣٣

ضمان  خروف المسيح

"لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي». فَحَدَثَ أَيْضاً انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْيَهُودِ بِسَبَبِ هَذَا الْكلاَمِ. َقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: «بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟» آخَرُونَ قَالُوا: «لَيْسَ هَذَا كلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟». وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ وَكَانَ شِتَاءٌ. وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»" (يوحنا ١٠: ١٧- ٣٠).

هناكَ مو ضوعان بارزان في هذه الآيات، ولعلهُ يحسنُ بنا القول أن الآيات ١٧و ١٨ تنتمي حقاً إلى المقطع السابق، الذي يصورُ مخلِّصنا كراعٍ صالح قد وضع حياته عن خرافه. يؤكدُ ربُّنا على حقيقة أنهُ ليس الإنسان هو من أجبرهُ على أن يفعل ذلك. بمعنى آخر، ما كان يسوعُ مضطراً لأن يموت. كانت إنسانيته مختلفة عن إنسانيتنا في هذا الأمر، أننا نبدأ بالموت حالما نُولد. إنَّ بذار الموت، بالحقيقة، هي في جسد كل ابن لآدم. نحنُ جميعاً تحت اللعنة التي وقعت على آدم، "موتاً تموت". أجسادنا هذه زائلة فانية، أي خاضعة للموت. لم يكن الأمر كذلك مع جسد ربِّنا يسوع المسيح. نعلم من الكتاب أنَّ "الْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً" (يعقوب ١: ١٥). وهذا هو السبب في أننا نموت، ليس لأننا جميعاً ورثنا فيروس خطيئة آدم. إلا أن ربنا يسوع المسيح كان العديم الخطأ وحده، ولذلك، وبينما جاءَ إلى هذا العالم بجسدٍ كان ليموت، لم يكن من الضروري أن يموت حقاً. فقد كان يمتلكُ من ذاته قدرةً على أن يموت أو أن يحيا إلى ما لا نهاية. ولكنهُ مات بدافع المحبة عن نفوسنا الآثمة وبدافع المحبة نحو الله الآب، لأنه جاء ليصنعَ مشيئة الآب.

في المزمور ١١٨ نسمعه يقول على لسان صاحب المزامير: "الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ" (مز ١١٨: ٢٧). لقد كان هو نفسه الشخص الذي كانت كل رموز الناموسِ تشيرُ إليه؛ ولذلك فإنَّ هذه الآية تشيرُ إليه. لقد كان مذبح العهد القديم فيه أربعة قرون نحاسية، ولعلنا لم نعرف أبداً أنها كانت تُستخدم لولا هذه الكلمات. إلا أننا نعلم من هذا المزمور أنهم عندما كانوا يأتونَ ببهيمة،  كثورٍ أو حمل، ليقدموها ذبيحةً، فإنهم كانوا يربطونها إلى قرون المذبح، وكان دمها يراقُ على المذبح، إذ "بدونِ إراقة دم لا تحصل مغفرة".

ولذلك فقد كان ربُّنا يسوع المسيح موثوقاً بربطٍ إلى قرون المذبح. وماذا كانت الربط؟ نقرأ في هوشع ١١: ٤ أن الله قد اجتذبنا بربط المحبة: " كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ" (هو شع ١١: ٤). إن ربط المحبة قد اجتذبت قلوبنا البائسة إلى المسيح وقيدتنا إليه، وهي تلك الربط من المحبة التي قيدتهُ إلى الصليب.

"المحبةُ هي التي كانت وراء الجلجثة،
وإلا لما كان يهوذا قد وجدهُ؛
المحبةُ هي التي علقتهُ على الصليب،
وإلا ما كان الحديد ليمكنهُ أن يقيدهُ".

ولم يكن هناكَ رباطٌ واحدٌ فقط؛ بل كان هناكَ ربط. كان هناكَ رباطُ المحبة للآب، ورباطُ المحبةِ لنا. وإننا نسمعهُ يقول:"لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا" (يوحنا ١٤: ٣١). وقد مضى إلى بستان الآلام وإلى صليب الكفارة. المحبة نحو الآب أخذتهُ إلى هناك، وهذا لكي يضعَ حياتهُ من أجلنا. ولكنه مكتوبٌ أيضاً: "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا" (أفسس ٥: ٢٥، ٢٦). وأمكن للرسول (بولس) أن يقول: "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غلاطية ٢: ٢٠). وهكذا فإن محبته لنا، ونفوسنا المحتاجة، كانت هي الدافع الذي أخذه إلى هناك ودفعه للموت ذبيحة عن الخطية.

ولذلك يقول: "لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً"، رغم أنه صحيح تماماً أن الناس الخطاة أمسكوا به وسمّروه على الصليب. قال الرسول بطرس لليهود في أيامه: "مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أع ٢: ٢٣). وعن الأمميين وحكامهم يقول الرسول بولس: "لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (١ كورنثوس ٢: ٨). الإنسان مسؤول عن رفض المسيح، ولكن ما كان الإنسان يستطيع أن يفعل شيئاً ليأخذ حياة المسيح. لقد وضع يسوع حياتَه بنفسه. يقول في الآية ١٨: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا". بمعنى أنه كانت وصية من الآب أن يضع حياته، وقد جاء ليصنع مشيئة الآب، وهذا يشتمل على تقديم نفسه ذبيحة عظيمة عن الخطية.

ثم لاحِظوا، كما أن له سلطان أن يضع حياته كذا فإن له سلطان أن يأخذها ثانيةً: "هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي". إن قيامة الرب يسوع المسيح تُنسب إلى كل أقنوم من الثالوث القدوس. نقرأ "أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ" (رومية ٦: ٤). وأيضاً: "الرُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ" (رومية ٨: ١١). وبالتالي فإن الروح القدس أيضاً كان له دور في قيامة المسيح. وإضافة إلى ذلك يقول يسوع: "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ". وإذاً الآب والابن والروح القدس معاً كانوا معنيين ومشاركين بإقامة ربنا يسوع المسيح كما كانوا جميعاً معنيين ومشاركين في موته. لقد كانت إرادة الآب أن يموتَ الابنُ فداءً لنا. وكانت قوة الروح الأزلي هي التي جعلت المسيح يقدم نفسهُ بلا عيبٍ لله. وبمحبته الذاتية ونعمته وضع حياته كراعٍ صالح، وقامَ ثانيةً، لكي ما نجدَ فداءً وانعتاقاً من الإثم وسلطان الخطيئة.

أتذكرونَ أنكم استشهدتم من مقاطع عديدة من العهد القديم التي رأينا فيها راعي إسرائيل الصالح على أن راعي إسرائيل الآتي كان هو الله نفسه الذي كان ليتجلى هنا على الأرضِ. ولذلك فعندما قال يسوع:"أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"، فإنه إنما كان يُعلن أنه هو الذي كان ليحقق كل تلك الكتابات.

ولكنَّ الناس ما كانوا مستعدين لاقتباله. كثيرون أعلنوا أن به شيطان. وآخرون قالوا: "لَيْسَ هَذَا كلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ". لقد بدوا وكأنهم قد اختيروا بعناية، وفي غاية الوقار والقداسة. لم تبدو بالنسبة لبعض مستمعي ككلماتٍ صادرةٍ عن شخصٍ واقعٍ تحت سطوة روحٍ شريرة. ثم سألوه بعقلانية كبيرة: "أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟" لقد تذكروا تلك المعجزة الرائعة التي كانَ قد صنعها بينهم. لقد بدا وكأن يسوع، في نهاية الأمر، من الممكن أن يكون المسيّا المتوقع.

والآن في الآية ٢٢ نعلم أنه: "كَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ". كان هذا العيد يُحتفل به سنوياً منذُ أيام عودتهم تحت قيادة زر بابل، الذي من نسل داود، ويشوع، الكاهن الأعظم، والكاتب عُزرا والحاكم نحميا. لقد كان الوقتُ شتاءً، ويسوع كان يتمشى في الهيكل في رواق سليمان. "فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟"

كان قد أخبرهم عدة مرات، ولكنهم من جديد يسألون، فأجابهم يسوع وقال: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي". لماذا لم يفكروا في الآيات المعجزية التي صنعها، هذه التي تشكل دليلاً؟ لقد بدوا عميان عن هذه الأمور. وقال لهم سبب ذلك: "لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْ". لقد أبوا أن يؤمنوا برسالته. خرافه هم أولئك الذين تحولوا إلى الله في توبة وقبلوا الرسالة التي أتى بها. يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي".

والآن أُقبل إلى مقطعٍ حساسٍ نوعاً ما، كان مثارَ جدلٍ أكثرَ من أيِّ مقطعٍ آخر في إنجيل يوحنا. قد يسألني أحدهم: هل تعتقد أن هذا المقطع يُعلِمنا أنه إن كان إنسانٌ قد خَلُصَ مرةً، فإنه يَخلِصُ إلى الأبد؟- أي أنهُ من المستحيل أن يسقطَ إنسانٌ من النعمة؟- أو أن يستمر الإنسان في أن يبقى مسيحياً، مهما كانت الخطايا التي يرتكبها، إن كان مرةً قد أقرَّ بالإيمان بالمسيح؟ علينا أن نكون حريصين جداً في تفكيرنا وفي فهمنا للمسألة هنا. من الضروري أن نتابع كلمات يسوع نفسها بدقة لئلا نضل.

أولا، يقول الرب يسوع: "خرافي تسمع صوتي". وفي يوحنا ٥: ٢٤، يقول لنا: "مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ". "أصغوا، فتحيا نفوسكم".ولذلك يقول: "خرافي تسمع صوتي". لا يمكن أن نقول أن الناس يُعتبرونَ من خرافه ببساطة لأنهم أبدوا اعترافاً به. فهناكَ أناس حتى في الكنائس الإنجيلية لا يُحصون من بين خِراف المسيح، لأنهم فعلياً لم يسمعوا صوتهُ. إنهم شكلانيونَ، أعضاءَ في الكنيسة خارجياً، ولكن ليس في الكنيسة التي هي جسدهُ. هكذا أُناس يبدونَ اعترافاً دينياً، وربما يكون ذلك بدافع العاطفة، ويندمجونَ مع الكنيسة ولبرهة من الوقت تسير أمورهم على ما يرام، ومن ثم، وبمرور الوقت، يتلاشى التجددُ وتختفي حماستهم، ويتفجرُ التوق الشديد إلى العالم في نفوسهم فيبدءون بالانجرافِ مع التيار. قد نقول: "يا لهذه النفوس البائسة، فإنهم مرتدونَ عن الإيمان". ولكن، وكما قالَ أحدهم بالصواب، "هؤلاء لم يكونوا أبداً مؤمنين حقيقيين". لقد ابتعدوا عن خطاياهم، وأصلحوا أنفسهم، ولكنهم لم يسمعوا صوتَ ابن الله في أعماقِ نفوسهم. قلوبهم كانت مثلَ ذلك البيت الذي كان مكنوساً ومزخرفاً، ولكنه تُرِكَ فارغاً بعد أن هاجرتهُ روح الشر. مثل هؤلاء هم أولئك الذين يتهجمونَ على عقيدة الضمان الأبدي للمؤمن في الرب يسوع المسيح. فهم لم يكونوا مؤمنين حقيقيين على الإطلاق. ومهما كان اعترافُ الناس، إن كانوا لا يسمعونَ صوتَ ابن الله، فإنهم ليسوا فعلياً من خرافه. آملُ أن يتضحَ ها الأمرُ بشكلٍ جلي. يقول عن كل خرافه: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا". ويمكننا أن نغاير بين هذا القول والمقطع في متى ٧: ٢١، حيث يقول: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". إذاً يقول: "الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي"- لنتوقف هنا لوهلة. هل نخلص لأننا "نفعل"؟ لا. إننا نخلص بالإيمان. فما الذي يعنيه إذاً بقوله: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"؟ نحن لا نخلص بالأعمال، بل نُظهر حقيقية وصدق إيماننا بعمل إرادة الله. أتذكرون ذلك المقطع في أفسس ٢: ٨، ٩: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ". ويضيف الرسول بولس قائلاً في الآية التالية مباشرة: "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا".

لتكن هذه المسألة واضحة بالنسبة لكم. ليسَ لأعمالنا علاقة بالحصول على الحياة الأبدية، ولكن ما من إنسانٍ يحصل على حياة أبدية إن لم تتجلى فيه الأعمال الصالحة.

"لن أعملَ من أجلِ خلاصِ نفسي.
 فهذا العمل قد أتمهُ الربُّ عني؛
بل سأعمل مثل أيِّ خادمٍ<
بدافعِ المحبةِ نحو ابن الله العزيز".

"«لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟" إنه يشير إلى يوم الدينونة، يوم الاستعلان.

يمكننا أن نضع هذه بصيغةٍ معاصرةٍ فنقول: "ألم نَكرز باسمك؟" لعَّل الناس من خلال كرازتهم قد تحرروا من قدرة الشيطان المرعبة، إذ أني أعتقدُ أن كارزاً غير مُخلَّصٍ ربما يستخدمه الله في خلاصِ نفوس البشر، حتى ولو كانت حياته نفسها كانت غير مقدسة سليمة. إن الله يستخدم كلمته من خلال أي شخص يُعلن أن "وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ؟". "فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!".

سوف لن يقول لأيِّ أحدٍ في يوم الدينونة ذاك: "لقد كنتُ أعرفك، ولكني ما عدتُ أعرفك". بل يقول: "لم أعرفكَ أبداً". إلا أنه يقول لخاصته: "أنا أعرفها".

والآن إذا أبقيتم هذه المسألة في أذهانكم فإني لستُ أعتقد بأنه سيكون لديكم أي شك في الضمان الأبدي للمؤمن. إن الربَّ لم يعرف أولئك الذين لم يسمعوا صوته أبداً، رغم إبداءهم بأنهم عمال في كرمه.

وإذاً، بالدرجة الأولى، خرافه تعرفُ صوته. وبالدرجة الثانية، يقول: "أنا أعرفها". لاحظوا الأمر الثالث: "فتتبعني". ما من فائدة من الاعتراف بأننا خرافٌ للمسيح ما لن نتبعه. المسيحُ يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين يولدون حقاً من جديد إذ تبتهج نفوسهم بإتباعه. هل تتبعونه؟ هل إرادته ثمينةٌ بالنسبة لكم؟ إننا لا نصيرُ خرافاً بمجرد إتباع يسوع. بل العكس تماماً. إننا نتبعهُ لأننا ننتمي إلى قطيعه. أما وقد خَلُصنا فإننا نظهر ذلك بإتباعه. هناكَ أناسٌ كثيرون يحملونَ اسم المسيح وهم لم يولدوا حقاً من الله. وهذا نجده عند كثيرين أبدوا يوماً ما أنهم مسيحيون، ولكن لأنه لم يكن لديهم صدقية، فإنهم لم يعرفوا الرب، ولذلك لم يجدوا أيَّ رضا أو سرور في اتباعه ولذلك فإنهم ينهارونَ ويبتعدون.

وبحديثه عن خرافه يقول: "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". أي نوع من الحياة؟ حياة أبدية. أخي وأختي، يا من شككتُم في الضمان الأبدي للمؤمن، أترون كم هي طويلة الحياة "الأبدية"؟ "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". ألا ترون؟ إنها ليست حياة تجريبية، وليست حياة مؤقتة، بل هي "حياة أبدية".

جاءت إليَّ سيدة في سان فرانسيسكو حيثُ كنتُ أعظُ على يوحنا ٥: ٢٤، وقالت: "إني أوافقك الرأي على كل ما قلت الليلة ما عدا تلك العقيدة في أن الذي يَخلُص مرة يَخلصُ إلى الأبد. فلم أجد ذلك في الكتاب المقدس". فقلتُ لها: "ألا تؤمنين بكلمات الرب يسوع؟ دعيني أُظهر لك ما قال". فأجابت: "أعرف إلى أين ستذهب: يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩". فقلتُ لها: "حسنٌ ها إنك تعرفين. ولكن دعيني أقرأ هذه الآيات "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي".

لقد سألتُها: "هل تصدّقين ذلك؟" فقالت: "ليسَ على طريقتك". فقلت: "ما هي طريقتي؟" فقالت: "إنك تعتقدُ أنه إن كان المرءُ قد خَلُصَ مرةً فلا يمكن أن يهلكَ أبداً". فقرأتُ المقطع عليها من جديد: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". فقلت: "أتصدقين ذلك؟". "ليس على طريقتك". فقلتُ: "ولكني لم أخبركِ عن طريقتي. لم أشرح لكِ على الإطلاق. ألا تصدقينَ بما قالهُ ابن الله؟" قالت: "ليس بالطريقة التي تفعل أنت". "حسناً، دعيني أقرأ المقطع عليكِ من جديد". وقرأتُ المقطع بأكمله مرة أخرى، مع إحداث تغيير بسيط. فقد استعملتُ كلمات "عشر سنوات" بدلاً من "حياةً أبدية". وسألتها: "ماذا يعني ذلك؟" فقالت: "إنه يعني أن المرء إذا خَلَصَ مرةً فإنه سيخلص لمدة عشر سنوات". فقلت: "تماماً؛ والآن دعيني أمط الوقت أكثر. "أُعطيكم حياةً أبديةً لأربعين سنة". ما معنى ذلك الآن؟" فأقرت بأن هذا يعني أن المرء إذا ما خلَصَ فسيكونُ مضموناً لأربعينَ سنةً. "لنفترض أنني قرأت: أُعطيكم حياةً طالما أنتم مُخلِصون". فأجابت: "هذا ما أؤمن به. ولكن ليس هذا ما يقوله النص. النص يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". "ما مدة الوقت المقصودة؟" فقالت: "طالما بقيوا خرافهُ". ومضت. لم تكن تريدُ النور، ولذلك أدارت ظهرها إليه. ليتَ المرء يأخذُ كلمة الله على محملها الجدي وبقيمتها الحقيقية. "أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". لا يمكن أن تكون أبدية إن كانت لها نهاية، وقال: "لَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ". "لاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". ليس من تصريح أشد قوة من هذا. خرافهُ آمنةٌ في يدي الآب والابن. ما من قوةٍ في الأرضِ أو في الجحيم يمكن أن تخطفها، وما من قوةٍ في السماء ستريد أن تفعل ذلك. لعلك تقول: "ولكنك تعلم أني أستطيع أن أخذها". ولكنك لن تهلَك عندئذ؛ أليس كذلك؟ الأمرُ العجيب هو عندما يُخلِّصُ الربُّ شخصاً فإنه يضع فيه محبة كبيرة نحوه في قلبِ ذلك الإنسان حتى أنه ما من شيء سيفصلهُ عنه.

أتذكّرُ صديقاً عزيزاً لي، كان كارزاً بالإنجيل، رجلاً لطيفاً سموحاً، كان يناقشني حول هذه المسالة. فقال لي في نهاية الأمر: "يا أخي، إن كنتُ سأؤمن بما تؤمن به، لكانَ بمقدوري أن أخرج وأن أُخطئ كما يطيبُ لي، ولن يشكلَ هذا أي فرق". فقلتُ: "يا أخي العزيز، هل تريد أن تخطأ؟" فأجاب: "لا. لا أريد أن أخطئ". هذه هي المسألة. المسيحيون لا يريدوا أن يخطئ. ما من شيء يجعلهُ أكثر بؤساً من إخفاقاته أو سقوطه في الخطيئة. مسرته الوحيدة يجدها في السير في الشركة مع الله.    ما الذي يقصده يسوع بقوله: "أَبِي .... أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ"؟ لقد كانَ مساوياً للآب منذ الأزل. ولكن كإنسان هنا على الأرض، أمكنه أن يقول: "أبي أعظم من الكل". لقد جُعِلَ أقل من الملائكةِ بقليل من أجلِ ألم الموت، لكي ما يذوقَ الموتَ بنعمة الله من أجلِ كل إنسان. لقد أخذ طوعياً مكان الإنسان في أيام وجوده بالجسد.

أما وقد قال: "أَبِي .... أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ"، فإنه أردف مباشرة بالقول: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ".

يا لهُ من دليل على ألوهيته الحقيقة، ذاك الذي نجده هنا! "أنا وأبي". لماذا، يقول ذلك؟. لعلكم تقولون كان ينبغي أن يقول: "أبي وأنا".فكان هذا ليكون الأمر الطبيعي- أليس كذلك؟ -ذلك لأنه الثانوي. ولكن ليس من أحدٍ ثانوي هنا؛ فالله الابن، والله الآب، والله الروح القدس متساوون في الدرجة؛ ولذلك يقول: "أنا وأبي واحد".

أليست نعمة عجيبة! الآب، والابن، والروح القدس متحدونَ معاً يرسلونَ هذا الإنجيل إلى العالم ويدعون الخطاة في كل مكان ليؤمنوا بالعمل الذي فعله يسوع. وعندما تؤمنون به تنالون حياة أبدية، وستكونون مضمونين لأن الله نفسه يؤكد لكم في أكثر من مكان على ذلك ونقرأ في موضع آخر: "فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية ٨: ٣٨، ٣٩).

يا لهُ من إنجيلٍ يُعلن للناس البؤساء الأموات! إن كان أحدٌ منكم يقرأ هذه الكلمات ولم يؤمن بالمخلِّص بعد، أفلا تأتونَ إليه اليوم؟ قبل سنوات، كان هناك عجوزٌ بائس عاش في كوخٍ فقير وكان يقتاتُ على ما يتسوله. وأخيراً أُخِذَ إلى مشفى، وهو في حالة مرضٍ شديدة، وعندما أزالت الممرضة ثيابه وجدت ورقة ممزقة كان قد وضعها منذ زمنٍ طويل في جيبه الداخلي. وعندما تفحصت الورقة وجدت أنها كانت أمراً من خزينة الدولة في الولايات المتحدة لإعطائه معاشاً تقاعدياً بسبب إخلاصه في الخدمة ككشاف في الجيش خلال الحرب بين الولايات. قال الرجل الفقير: "لا تأخذي هذه مني. فالرئيس لنكون أعطاني إياها، وإني أُقدرها أكثر من أي شيء آخر". ومع ذلك، لم يصرف الحوالةَ. لم يستفد أبداً من الامتيازات التي كان يتمتع بها.

هل تتعاملون مع خلاص الله على هذا الشكل؟ لديكم الحق بأن تأتوا إلى يسوع وأن تقبلوا الحياة الأبدية والمغفرة عن الخطايا.

"الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ" (عبرانيين ٣: ١٥).

الخطاب ٣٤

الابن السرمدي للآب

"فَتَنَاوَلَ الْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِين: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ. فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟ إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ». فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ الأُرْدُنِّ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ. فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: «إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هَذَا كَانَ حَقّاً». فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاكَ" (يوحنا ١٠: ٣١- ٤٢).

الهدف الحقيقي، كما رأينا من قبل، من كتابة هذا الإنجيل، هو أن يؤمن الناس بأن يسوع هو ابن الله وأنه بإيمانهم ينالون حياةً باسمه. ولذلك رأينا الحادثة تلو الأخرى، وقد قُصد بها جميعاً أن توضح إلوهية ربنا يسوع المسيح وعلاقته السرمدية بالآب لأنه الابن الوحيد الحبيب، الذي كان دائماً وأبداً واحداً مع الآب والروح القدس من ناحية أبدية الكينونة والقدرة والسلطان والحكمة والمحبة والنعمة. لقد ختمنا الإصحاح الماضي بإعلان مخلِّصنا: "أنا والآب واحد". والآن مهما كان فهم الناس لما يعنيه هذا الكلام، فليس هناك شك بأن أولئك الذين تحدث إليهم يسوع فهموا أنه كان يؤكد مساواته المطلقة بالله. وهذا هو السبب في أنهم أخذوا حجارة من جديد ليرجموه. فقد كان مجدفاً في نظرهم. لعله يمكنني أن أقول لكم ما يلي: إن لم يكن الرب يسوع المسيح هو الله- الله متجلياً في الجسد- فإنهم يكونون على صواب. إن لم يكن الإله الحقيقي، فلابدَ أنه كان مجدفاً، لأنه استخدمَ لغةً ما من أحدٍ سوى الله كان ليمكن أن يستخدمها وقبِلَ عبادةً ما كان يحقُ سوى لله وحده أن يقبلها. كان الناموس قد قال: "الرب إلهك تعبد، وله وحده تسجد"، وسمحَ الرب يسوع لتلاميذه بعبادته، ولذلك فقد نسبَ لنفسه ما هو حقٌ لله. والآن إما أن يكون هو الله متجلياً في الجسد أو مخادعاً كبيراً. لدى البعض وجهة نظر أخرى عن الموضوع فيقولون أنه كان يعاني جنون الاضطهاد، وأنه كان يتخيل أنه كان ذا طبيعة إلهية بينما هو مجرد إنسان مثل بقية الناس. ولكن لم يكن هناكَ شيء في سلوك الرب يسوع المسيح وكلماته ما يشير إلى إنسانٍ ذي فكر غير متزن. لقد كانت حياته نقية جداً، وكلماته رائعة جداً، في أن يسمح لنا بأن نقبل تلك النظرة لوهلة، وبالتأكيد لا يمكننا أن نفكرَ بهكذا شخصٍ قدوس كمخادع. الناس الصالحون لا يقولون ما هو غير حقيقي. لقد زعمَ مرةً تلو الأخرى على أنه ابنٌ للآب- "أنا وأبي واحدٌ".

بسبب هذا الإعلان أخذَ أعداؤه، بحسب ناموس موسى الذي كان يأمر برجم المجدف حتى الموت، أخذوا حجارةً ليرجموه. لقد قال لهم في هدوء: "أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟" أعمالهُ أظهرت حقيقة ما كان يقوله لهم عن نفسه. لقد كانت هذه الأعمال دائماً من أجل منفعة وفائدة وخير ومصلحة البشر. فما الذي فعله لكي يرجموه؟

"أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِين: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ". ما هو التجديف؟ ""إِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً»". قالوا: "أنت إنسان، وأنت تعلن نفسَك إلهاً. ولذلك فإنك مجدّقٌ". حسناً. الحقيقة هي أنه كان إنساناً بكلِ كماله، ولكنه كان إلهاً أيضاً- كان كإنسانٍ حقاً كما لو لم يكن إلهاً على الإطلاق، وكان إلهاً كاملاً كما لو لم يكن أبداً إنساناً.

ولكن يبدو الرب يسوع هنا وكأنه هو من يوجه السؤال لهم قائلاً: "«أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟"

ما الذي يُشير إليه الرب هنا؟ في المزمور  ٨٢: ٦، وفي مخاطباته لقضاة الشعب الذين وقفوا مكان الله ليسلكوا بناءً على أوامره، نقرأ هذه الكلمات:"أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ". إن أول آية في ذلك المزمور تقول: "اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسَطِ الآلِهَةِ يَقْضِي". ما الذي يقصده بذلك؟ إن الله هو قاضٍ على الجميع، ولكنه عيَّن رجالاً في إسرائيل كانوا ليمثلوه. كان على الناس أن يأتوا بقضاياهم وشكاواهم إليهم وكان على هؤلاء أن يحكموا بحسب كلمة الرب. "قلتُ أنكم آلهة؛ هذا يعني، أنهم كانوا هناكَ ليتصرفوا بالنيابة عن الله. اليوم كل القضاة لا يسلكونَ بالنيابة عن الله. ولكن الفكرة هي أن هؤلاء كان يجب عليهم أن يكونوا قضاة عادلين، ولأنهم هكذا فإنهم يوصفون بآلهة".

لقد كان هذا في كتبهم المقدسة، ولم يفكروا بتلك العبارة على أنها تجديف.         والآن لماذا لا يستعلمون أكثر وبشكلٍ محدد أكثر عما كان يعنيه الرب يسوع بقوله: "أنا وأبي واحدٌ؟" لقد كان من الضروري القيام بذلك لكي يفهموا على شكلٍ صحيح ولذلك يقول الرب يسوع بشكلٍ عملي: "لماذا لا تفكرون في الأعمال التي أصنعها؟ لماذا لا تدرسون كتبكم المقدسة نفسها وتروا إذا ما كانت الأقوال التي أقولها تدلُ عليها الأعمال التي أقومُ بها وأيضاً على أنها تتناسب مع ما جاء في الكتب المقدسة؟" ولكنهم ما كانوا راغبين بأن يفعلوا ذلك. لقد قفزوا إلى الاستنتاجات، كما يفعل الناس في أغلب الأحيان. لدينا أفكارٌ متصورة مسبقاً ولسنا على استعداد لنُخضع أفكارنا لإعلانات كلمة الله. إننا نفرض وجهة نظرنا وأفكارنا ونرفض تلك التي للرب.

وهكذا كانوا على استعداد لأن يدعونه مجدفاً، ذاك الذي كان هدف حياته هو مجد الآب. ولكن لاحظوا الآن، هذا المقطع لا يوضع فقط إلوهية الرب يسوع ومساواته بالآب، بل يؤكدُ أيضاً على وحي الكتابات المقدسة. يمكننا ولعلهُ علينا أن نكون ممتنين إلى أولئك اليهود الذين حفظوا لنا الكتاب المقدس. فالعهد القديم كله قد حفظوه، وسلموهُ جيلاً فجيل عبر القرون على شكل مخطوطات، وترجموه إلى اليونانية فيما بعد، وهذا كان على يد الكتبة اليهود، لكي ما تصِلَنا كل كتابات العهد القديم من خلال بني إسرائيل هؤلاء. ولا يمكننا نكران فضل اليهود على إيصال المخطوطات الكتابية إلينا. إن العهد القديم الذي بين يدينا اليوم هو العهد القديم نفسه الذي كان بين يدي يسوع. لقد كان متوفراً لديه باليونانية والعبرية، وقرأه بكلتا هاتين اللغتين، إذ استشهد منهما كلتيهما في خلال خدمته هنا على الأرض، أحياناً من العبرية، وأحياناً أخرى من اليونانية. لقد كان هناك عيوب في تلك الترجمة، ولكن كلما استطاع كان يستخدم تلك الترجمة، لأنها كانت بين يدي عامة الناس. لنلاحظ ما يقوله: "لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ". يا لها من راحةٍ تقدمها هذه الكلمات لقلب وفكر الناس في هذه الأيام عندما نسمع أصواتاً كثيرةً تتعلق بمسألة وحي كتابنا المقدس! إنها تخبرنا أن الكثير من أسفار العهد القديم قد تعرضت للشك. يقول الربُّ يسوع أنَّ المكتوب لا يُنقض وعندما كان يستخدم ذلك التعبير "المكتوب" فإنه كان يستخدمه كما استخدمه اليهود في أيامه، وقد كانوا يقصدون به أسفار عهدهم القديم، التي كانت الناموس، والأنبياء، والمزامير. الكتابُ المجلد بأكمله كان يُدعى "المكتوب". يقول يسوع: "المكتوب لا يُنقض". بمعنى آخر، صادقَ الرب يسوع على كامل العهد القديم.

يتبدى هذا لنا بشكلٍ واضح جداً ونحن نقرأ كامل الأناجيل الأربعة، ونرى كيف أن يسوع يضع موافقته على كل جزء من الناموس، والأنبياء، والمزامير. إن كنتم تتشوشون بنظريات النشوء المتعلقة بالخلق والتي تميل إلى الاعتقاد بأن الناس هم بهائم خاصة وحسب وقد نشئوا عبرَ العصور من سلفٍ حيوانيٍ سابق، فإنكم تجدون يسوع يقول: "من البدء (أي من بدء الخلق) خلقهما الله رجلاً وامرأة". وهكذا يضع ربُّنا ختمه على عقيدة الخلق الخاص للإنسان. لقد خلقهما من البدءِ ذكراً وأنثى. وهو يُعطي أيضاً تصديقه على علاقة الزواج. "لذلك يترك الرجل أباه وامرأته ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً". هذه هي مؤسسة الزواج الإلهية. وهكذا نجد الرب يسوع المسيح بنفسه يصادقُ على الخلق الخاص للإنسان وأيضاً علاقة الزواج كلتيهما.

ثم هناكَ أمور أخرى عديدة في العهد القديم يعترض عليها المعلمون المعاصرون. فهل صحيحٌ أنه كان هناك طوفان عظيم يوماً ما وأن عائلة واحدةً فقط قد نجت من ذلك المطر الغامر؟ فهنا يمكنكم أن تفتحوا العهد الجديد وتقرءوا: "لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ" (متى ٢٤: ٣٨، ٣٩). ليس لديَّ شكٌ في عالمية الطوفان أمام كلمات كهذه. لقد كان يسوع يعرف، لأنه كان الله متجلياً في الجسد.

وهكذا الأمر مع دمار سدوم وعمورة. فيقول الرب من جديد: "كَذَلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ. هَكَذَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ابْنُ الإِنْسَانِ" (لوقا ١٧: ٢٨- ٣٠).

يطرح الدارسون أسئلةً حول من كتبَ الأسفار الأولى من كتابنا المقدس، من التكوين إلى التثنية، وهم على استعداد للإقرار بأن كاتب هذه الأسفار هو أي شخص عدا موسى، ومع ذلك يقول الرب يسوع المسيح: "لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي" (يوحنا ٥: ٤٦). وهو هنا يتحدث عن الناموس، والناموسُ كان يتشكل من هذه الأسفار الخمسة، ويقول الرب أن موسى قد كتبها.

هل كان هناك شخص اسمه إبراهيم؟ أم أنه كان شخصية متخيلة في أسطورة عبرانية؟ وهل وجد حقاً، وكان أباً للمؤمنين، كما قال موسى؟ يُجيب يسوع: "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يوحنا ٨: ٥٦). ما الذي كان يقصده؟ لقد كان يشير إلى ذلك الوعد الذي أعطاه الله لإبراهيم: "يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ" (تكوين ٢٢: ١٨). "«فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»" (رومية ٤: ٣). وعلى نفس المنوال صادق يسوع على قصة يونان وتوبة نينوى. أعترف لكم بأني لا أستطيع أن أفهم أنى يمكن لأي إنسان أن يعترف بأنه تابع للرب يسوع المسيح ويقرُّ بإلوهيته الحقيقية ومع ذلك يرفضُ بازدراء أيَّ جزءٍ من شهادته، إذ أننا نرى الرب يسوع المبارك نفسه يُعلِن أنَّ المكتوب لا يُنقض.

لنلاحظ الآية ٣٦: "الَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ". لقد قدَّس الآب الابنَ وأرسله إلى العالم. ماذا تقول لنا هذه الكلمات؟ إنها تقول أن ربنا يسوع المسيح لم يُصبح ابناً عندما وُلِدَ من العذراء مريم هنا على الأرض. إنها تقول أنه كان ابن الآب في مجدٍ لا يوصف قبل أن جاء إلى الأرضِ هنا. لقد كان أحد الثالوث القدوس والآب قدّس الابن وأرسله إلى العالم. ما الذي تعنيه كلمة "يقدِّس؟" إنها تعني "يفرز". وهكذا فإن الآب فرزَ الابن وأرسله إلى العالم لكي يُصبح كفارةً لخطيئتنا. وهذه هي الحقيقة المجيدة التي تنكشفُ أمامنا هنا بشكلٍ كامل. "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ" (١ يوحنا ٤: ٩). لم يصبح الابن (ابن الله) بعد مجيئه إلى الأرض، بل الآب أرسل ابنَه. "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (١ يو ٤: ١٠). لا عجبَ إذاً عندما يضيف الرسول قائلاً: " أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضاً أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً"(١ يو ٤: ١١). إن المثال الأسمى عن محبة الله هي هذه – أن الله أرسل ابنه للعالم، وهذا لم يبالِ بالمجد السماوي، ووُلِد طفلاً هنا على الأرض، لينمو إلى الرجولة، ويحيا حياةً مقدسة لا عيبَ فيهان ويمضي في نهاية الأمر إلى صليب الجلجثة ليبذل نفسه من أجل فداءنا. أهو تجديفٌ أن نؤمن هكذا؟ بل على العكس، إنها إهانةٌ لله أن ننكر ذلك. يقول يسوع: "الَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟" لقد طلب منهم أن يفكروا في أعماله. ألا تصادق هذه عليه؟ "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فلاَ تُؤْمِنُوا بِي".

من أجل هذا فإننا نلقي عنا هذا التحدي اليوم. إن كانت لديكم شكوكاً فيما إذا كان يسوع هو ابن الله السرمدي، فاقرءوا السجل في الأناجيل. انظروا ما فعل عندما كان هنا. هل تستطيعون تفسيرَ أعمالهِ بأي شكلٍ آخر عدا ذلك؟ إن كنتم تستطيعون، فإنكم عندها تستطيعون أن ترفضوه. ولكن إن كانت أعماله تصادقُ عليه، فعندها كونوا عقلاء واقبلوه.

لو قرأ الناسُ الكتاب المقدس بشكلٍ كامل وواجهوا شهادتهُ بصدقٍ، فكم من أناسٍ سيتحررون من شرك الكفرِ والإلحاد!

ولذلك يقول يسوع: "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فلاَ تُؤْمِنُوا بِي. وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ". ولكن، للأسف، رغم أنه كان في غاية الحنو والصدق، إلا أن أولئك الذين كانوا يستمعون إليه ما كانوا على استعداد ليقوموا بالامتحان.

"فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ". ما كانت قد أتت ساعة موته بعد، وما كان باستطاعتهم الإمساك به، ولذلك ذهب إلى ما وراء الأردن حيث عمَّدَه يوحنا. "وَمَكَثَ هُنَاكَ. فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: «إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هَذَا كَانَ حَقّاً»".

"فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاكَ". أن تؤمن به يعني أن تضع ثقتك به. أتساءل إن كان كل من قرأوا هذه قد آمنوا حقاً به. هل وضعتم ثقتكم فيه؟ إذاً اقرأوا هذا السفر بأنفسكم. واجهوا شهادة الإنجيل بصدق، وإن كان روح قدس الله يكشف لكم أن يسوع هو حقاً ابن الله الحي، فاقتبلوه مخلصاً لكم واعترفوا به علانية أمام الناس.

"ليتَ لي ألف لسان لأرنم
وأسبح فاديَّ العظيم،
وأمجاد إلهي وملكي،
وانتصارات نعمته".

الخطاب ٣٥

القيامة والحياة

"وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا. فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: «يَا سَيِّدُ هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ: «هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ». وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَيْضاً». قَالَ لَهُ التّلاَمِيذُ: «يَا مُعَلِّمُ الآنَ كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ». أَجَابَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا الْعَالَمِ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ». قَالَ هَذَا وَبَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ لِتُؤْمِنُوا. وَلَكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ». فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ». فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ. وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟» قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ». وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً قَائِلَةً: «ﭐلْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ يَدْعُوكِ». أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ بَلْ كَانَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لاَقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا. ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي الْبَيْتِ يُعَزُّونَهَا لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: «إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ». فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي». فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ تَعَالَ وَانْظُرْ». بَكَى يَسُوعُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: «ﭐنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ». وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: «أَلَمْ يَقْدِرْ هَذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟». فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ: «ﭐرْفَعُوا الْحَجَرَ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ؟». فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعاً وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً». فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ». فَكَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ" (يوحنا ١١: ١- ٤٦).

الموضوع الرئيسي في الأصحاح الحادي عشر هذا هو إقامة لعازر من بين الأموات. في رومية ١: ٤ نعرف أن ربنا يسوع المسيح قد "تَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ .... بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ". هكذا ترد الآية في الترجمة التي لدينا. فقد أشار العلماء اليونانيون إلى أن كلمة "أموات" هي هنا بالأصل في حالة الجمع. لعلنا نفكّر أن المقطع عُنيَ به ببساطة أن يدلَّ على أن الرب قد أُعلِنَ ابناً (لله) بقوةٍ بقيامته نفسه من الموت. إلا أن الترجمة الأدق والأفضل للنص هي هكذا: "من خلال قيامة الأشخاص الأموات". وهذا يشمل، بالطبع، انتصاره على الموت، ولكنه يشتمل أيضاً على تلك القيامات الأخرى من الأموات التي نقرأ عنها في الأناجيل. فقد مارس ربُّنا قدرته العجيبة هذه على إقامة الأموات لثلاث مرات، وهذه الحالات مختلفة عن بعضها تماماً، وفي اعتقادي أن لكلٍّ منها مغزى مميز جداً.

في أول مناسبة لدينا ابنة يايرس، ابنة رئيس المجمع في كفرناحوم. تلك كانت فتاة صغيرة قد ماتت، ودخل الرب يسوع إلى الغرفة حيث كانت ترقد، وقال لها بحنوٍ بالغ: "يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي" (مرقس ٥: ٤٠)، فقامت. لقد أيقظها من رقاد النوم، ولعل هذا يوحي بطريقة الرب الرؤوفة اللطيفة في تعامله مع الأطفال الذين يموتون في التعديات والخطايا ويحتاجون لسماع صوته كما الأشخاص الأكبر سناً اليوم.

وبعد ذلك لدينا المثال عن إقامة ابن أرملة نائين. الرب يسوع وتلاميذه كانوا يقتربون من القرية عندما خرجت منها تلك المجموعة الجنائزية الحزينة يحملون جثمان هذا الشاب الميت، وأمه البائسة تتبعهم. أوقف الرب يسوع موكب الجنازة ذاك، ولمس النعش وقال للشاب: "لَكَ أَقُولُ قُمْ"، ونقرأ أن "جَلَسَ الْمَيْتُ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ" (لوقا ٧: ١٥). وهذا أيضاً، على ما أعتقد، ليعطينا درساً روحياً. إن الكثير من الشبان، الأموات في التعديات والخطايا، أو الفتيات أيضاً، يسببون حزناً للأب والأم الأتقياء. كم كانت تلك الأم والأب يتطلعون إلى أن يأتي الوقت الذي يضعُ فيه الرب يسوع يده على أولئك الأعزاء، ويقيمهم إلى الحياة الأبدية! قال السيد مودي يوماً: "إنه لأمر غريب، أنه لا يمكنك أن تجد أية تعليمات في الكتاب المقدس عن الطريقة التي كانت تُجرى بها الجنازة، لأن يسوع قد قطع كل جنازة شهدها، بإقامته للميت".

والآن نجد المثال الثالث ماثلاً أمامنا، ألا وهو إقامة لعازر وهنا لعله يمكنني أن أقول أن لدينا صورة كان غائباً لسنين في الخطية، وفي فسادٍ كاملٍ وقد تعدى كل رجاءٍ بشري. ومع ذلك فإن يسوع جاء وأقام لعازر من الأموات بعد انقضاء أربعة أيام عليه في القبر. دعونا نتأمل في هذا المقطع بعناية وانتباه.

يقول لنا الإنجيل: "كَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا". هذا أمرٌ مثيرٌ للانتباه؛ أليس كذلك؟ إني على يقين بأنه كان هناك آخرون كثيرون جداً يعيشون في بيت عنيا. ولكن بالنسبة إلى الرب الذي نظر إلى تلك المدينة، أو لله نفسه، لقد كانت بلدة مريم ومرثا. ما الذي يعنيه هذا؟ كان هناك قلبان مكرسان، وكان هذا يعني لله أكثر من كل الناس الآخرين الذين كانوا يعيشون في تلك القرية. إني أتساءل عن جماعتكم. هل أنتم مكرسون للرب يسوع المسيح، وتعيشون لمجد الله، لدرجة أن الله يفكر في جماعتكم أو مجتمعكم على أنه مكان خاص حيث تعيشون؟ هل يعبر إلى الأغنياء والعظماء، الأقوياء والبارزين، من وجهة نظر دنيوية، ويقول لكم: "هذا أحد أصدقائي، الذي يحبني"، ولذلك يفكر بذلك المكان على أنه بلدتكم أو مكانكم أو محلتكم؟

أعتقد أن هذا هو الأمر الأكثر أهمية. "مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا". وهكذا كانت الأختان، عندما رأتا أخيهما يهن ويحتضر، أرسلتا خبراً إلى الرب يسوع، الذي كان على مبعدة. لقد كان في بيت بارة. كان الأمر ليستغرق في العادة يومين كاملين ليصل من بيت بارة إلى بيت عنيا؛ أو لعله كان سيستغرق ثلاثة أيام إذا سار الإنسان على قدميه، أو يومين إذا ما كان راكباً.

وهكذا أرسلوا رسالة له. ويا لها من رسالة مقتضبه: "يَا سَيِّدُ هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ". لقد شعرتا أن تلك كانت كافية. لقد كانتا تعرفان أن أخيهما كان عزيزاً جداً على قلب الرب، وشعرتا بشكل مؤكد أنه لو فهم يسوع أنه كان مريضاً، لكان سيأتي في الحال ويشفيه من المرض ويخلص حياة صديقه.

إلا أنه أبدى موقفاً في غاية الغرابة، فقد قال: "«هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ»". أي أن الموت لن يصيب هذا الرجل في الزمن الحاضر ولن يقبض عليه، ولكن الله سيتمجد بطريقةٍ عجيبة في هذه الحالة بالذات. ولذلك لم يكن هناك عجلة من جهة يسوع. إن هذا يضعنا على المحك نحن الذين نعترف بالإيمان به. عندما نأتي تحت وطأة مشكلةٍ ما نأمل أنه سيتدخل في الحال ويجيب على صلاتنا بالطريقة التي نحب أن يتصرف بها دون أي إبطاء أو تأجيل. ولكن غالباً ما يبدو أنه ينتظر طويلاً ويبدو في الظاهر كأنه غير مكترث. إن الرب ليس متجاهلاً لنا أبداً على الإطلاق؛ إنه مهتم ٌ بنا دائماً. ولعله يجب أن نكون على يقين من هذا: لو سمح بالتأجيل في الإجابة على صلاتنا، فذلك لأن لديه مخطط ما يرغب أن ينفذه فيما يختص بالاستجابة لتلك الطِلبة، وعلينا أن ننتظر بإيمان حتى يتصرف الرب. تعرفون أن الكتاب المقدس يتكلم عن الثقة بالله وانتظار الله. إنه أمرٌ رائع نتعلمه ألا وهو أن نعوّل على الله. قد نأتي إليه في كل مرة نجد صعوبة أو ارتباك في فهم كلمته التي تقول: "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ" (فيلبي ٤: ٦). ويقول داود: "إِنَّمَا لِلَّهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي" (مز ٦٢: ٥).

ولكن في هذه الحالة إن الأمر يتطلب أكثر من إيمان من أجل الانتظار لله. بعد أن تقدم التماساً إلى الله، اترك كل شيء بين يديه، وكن على يقين بأنه في الوقت الذي يجده مناسباً، سوف يتصرف بالطريقة التي يجدها مناسبة أكثر.

هاتان الأختان، أتخيل أنهما كانتا ترتقبان أن يتصرف الرب في أية لحظة بعد أن تكون قد وصلته الرسالة التي أرسلتاها إليه، ولكن مضت الساعة تلو الأخرى واليوم تلو الآخر، ومع ذلك لم يأتِ يسوع. وبعدها توفي لعازر. لا بد أنهما قالتا: "يا له من أمر غريب؟ لم يرسل يسوع ولا كلمة ولم يبعث إلينا بأية رسالة؟ وليس هنا، وكان بإمكانه أن يمنع كل هذا، ولكنه لم يأتِ". هل كان هذا يعني أنه لم يكن مهتماً، أو أنه لم يكن يحب لعازر، ولم يكن قلقاً إزاء تلك القلوب المنفطرة للأختين؟ أبداً على الإطلاق. ولكن كان عليهما أن تتعلما دروساً ما كانتا لتتعلمانها بطريقة أخرى.

نعلم أن "كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَيْضاً»". لقد اضطُهد بشدة في اليهودية، والتلاميذ كانوا يفضلون أن يشيح بوجهه عنهم ويتجه نحو الشمال وأن يعود إلى حيث كان الناس يسمعونه بكل سرور. عندما تكلم عن رجوعه إلى اليهودية، قالوا: "يَا مُعَلِّمُ الآنَ كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ؟" لكن "أَجَابَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا الْعَالَمِ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ»".

لقد كان يعني ما يلي: "أعلم ما سيكون عليه طريقي. لقد أوضح لي الآب بشكل كامل أين أمضي، وفي عودتي إلى اليهودية، إنما أسير في النور الذي يشرق أمام خطواتي". ثم يضيف قائلاً: "لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ". وفي نهاية المطاف، هذا هو الموت بالنسبة إلى المؤمن. إنه رقادٌ. لعلك تقول: "آه، الإنسان برمته، روحاً ونفساً وجسداً؟" لا. بل رقادُ الجسد البائس المتعب، الروح والنفس اللتان لا تنفصلان في الحياة أو الموت، الإنسان غير المنظور، غائب عن الجسد وحاضر مع الرب. ولكن للأسف، في حالة الإنسان غير المخلص، عندما يموت الجسد، فإن الروح تخرج لملاقاة الله في الدينونة لرفضها الرب يسوع المسيح. "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب ٩: ٢٧). ولكن بالنسبة للمؤمن الموت هو رقاد، رقاد الجسد إلى أن تأتي ساعة القيامة.

ومن هنا يقول يسوع: "لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ. فَقَالَ تلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى»". لقد ظنوا أنه كان يعني النوم الجسدي ولذلك فقد سايرهم في مفاهيمهم، فنقرأ، في الآية التالية: "قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ. وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ لِتُؤْمِنُوا. وَلَكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ». فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ»". لقد كان عليهم أن يتعلموا درساً رائعاً من كل هذا. هذا الأمر كان بركةً عظيمةً لهم. لقد كان وسيلة لتأسيس وترسيخ إيمانهم بطريقة ما كان شفاء لعازر ليفيده بها على هذا النحو.

"«لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ»". وهنا يتكلم توما. نحن ندعوه "توما الشكاك"، ومع ذلك لا أعتقد أنه دائماً يستحق أن نتكلم عنه على هذا النحو. "فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ". الكلمة هنا في اليونانية هي (ديداموس Didymus ) وتعني "التوأم". أتساءل من كان التوأم الآخر؟ لعلك إذا نظرْتَ إلى المرآة ترى من هو التوأم. قَالَ تُومَا التَّوْأَمُ "لِلتّلاَمِيذِ رُفَقَائِهِ: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ»". كأنه يقول: "حسناً، لا يمكننا أن ننقذ حياته حتى لو أردنا ذلك، لذلك دعونا نقف إلى جانبه. سننزل معه ونموت معه". لقد كان توما مُخْلِصاً لسيده ومعلِّمِه، حتى عندما لم يكن يفهم.

وهكذا جاء يسوع مع التلاميذ وعندما اقتربوا من بيت عنيا وجدوا أن لعازر كان قد مضى عليه أربعة أيام في القبر. "وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي". هل كانت تلوم الرب يسوع المسيح حقاً لأجل موت أخيها؟ إن كلامها يدل ضمناً وعلى الأقل بهذا السؤال: "لماذا لم تأتِ عندما أرسلنا في طلبك؟ فعندها ما كنا سنندب أخينا". "لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ". أعتقد أنها كانت تعني القول أنهم سيستطيعون نوال قوةٍ في ساعة تجربتهم. إلا أن يسوع قال لها: "سَيَقُومُ أَخُوكِ". وقالت مرتا: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". وهذا ما يعتقده كثير من الناس، ألا أنه في اليوم الأخير سيقوم المخلّصون وعير المخلّصين جميعاً.

لكن يسوع قال لها أمراً أجمل مما كانت تفكر. فقد قال: "«أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟»"

ما الذي يقوله لها؟ آه، إنه يخبرها: "ليس عليكم أن تنتظروا إلى أن تأتي القيامة في اليوم الأخير. أنا نفسي هو القيامة والحياة، وعندما آتي إلى العالم فإن الموت ينتهي". ويضيف قائلاً: "مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا". متى سيكون ذلك؟ لدى عودته من السماء، عندما نصعد لدى سماعنا لصرخةٍ عظيمة حيث ستفرغ كل القبور التي يرقد فيها المسيحيون المائتون. "مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا". ثم يتطلع إلى ذلك الزمان، عندما أولئك الذين لا يكونون قد ماتوا لدى عودته بل يكونون على قيد الحياة آنذاك، هؤلاء الذين سيتغيرون بدون أن يموتوا، فيقول: "مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا". يا له من إعلان رائع! ثم يطرح السؤال: "أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟"

أعتقد أنها كانت في حالة ارتباك وحيرة نوعاً ما. فقالت: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ". ولذلك، وبالطبع، إنها تقول ضمناً: "كل ما تقوله صحيح". سواء فهمت ذلك أم لا، فقد كان لا بد أن يكون كلامه صحيحاً في نظرها، لأنه جاء من ذاك الذي عرفت فيه ابن الله.

لقد مضت ونادت أختها، والتقت ماري بهم خارج البلدة. رآها اليهود تغادر، وقالوا: "إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ". ولكن لا، في الطريق خارجاً التقت بيسوع، وقالت له أيضاً ما كانت مرثا قد قالته له، ولكني أتساءل إذا ما كانت اللهجة مختلفة عندها عنها عند مرثا. "«يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي»". نظر إليها يسوع في حزنها، وأشفق عليها في قلبه. واليهود الذين كانوا قد تبعوه كانوا يندبون وينوحون ويسوع تألم في الروح واضطرب. لقد كان إنساناً حقاً لم يكن مجرد ألوهية تسكن جسداً بشرياً، بل كان إنساناً حقاً بالروح والنفس أيضاً كما وأنه كان ذا جسد بشري. ولذلك تألم بالروح واضطرب.

وَقَالَ: "«أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» فقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ تَعَالَ وَانْظُرْ»".

والآن نأتي إلى أقصر آية في الكتاب المقدس. هذه الآية المترجمة أن: "بَكَى يَسُوعُ". لقد بكى دموعاً عندما تأمّل في البلايا التي كان الموتُ يحدثها الموت بسبب الخطية. "فَقَالَ الْيَهُودُ: «ﭐنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ». وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: «أَلَمْ يَقْدِرْ هَذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَيْضاً لاَ يَمُوتُ؟». فَانْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ". لقد كان أمراً واحداً. لقد فكرت به دائماً كفوهة في جانب الجحيم، كما في حالة القبر حيث دُفن ربنا يسوع المسيح، إلى أن زرت بيت عنيا ورأيت قبراً مشابهاً. إنك تنزل في كهفٍ وتجد حجراً ملقى عليه. وهكذا كانت الحالة هنا. لقد كان الحجر يقبع فوق القبر.

"قَالَ يَسُوعُ: «ﭐرْفَعُوا الْحَجَرَ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ»". لم يرتَقِ إيمانُها إلى مستوى ذاك الأمر العظيم الذي كان على وشك أن يحدث. "قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ؟»" الإيمان ينتصر على جميع الظروف وفي كل الأحوال، وذلك استناداً إلى الله الحي.

"فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعاً وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي". يا لها من شركة رائعة هذه التي بين الآب والابن! "وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي". لقد صلى هكذا لكي ينوّرهم بصلاته، لعلّهم يؤمنون: "وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً»". آهٍ، صوت القوة ذاك سيُسمع يوماً ما، وكل الأموات في المسيح سيقومون. في ذلك اليوم اختار الرب شخصاً وحيداً معيناً. ولو كان لم ينطق باسم "لعازر" لكان أفرغ كل المقبرة! لكنه قال: "«لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً». فَخَرَجَ الْمَيْتُ". وتقول الآية: "وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ". هكذا كان اليهود يدفنون موتاهم؛ لقد كانوا يلفّون الميت كلياً بالكتّان.

"فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ»". ثمة درس هنا أيضاً- الحياة أولاً ثم التحرر. كل من يسمع صوت المسيح ينال حياةً- "من يؤمن بالابن فله حياة أبدية". ولكن مؤمنين كثيرين لا يعرفون الحرية بعد. لا يزال كثيرون مقيّدين بثياب قبرٍ تتمثّل بالتقليد، أو سوء الفهم، أو الإلحاد. وكم هو رائعٌ قول يسوع: "«حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ»". "ستعرفون الحقَّ والحقُّ يحرّركم".

وهكذا تم إقامة لعازر وحلّه. "فَكَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ". كما يبدو فإنهم كانوا مناوئين له، وكانوا ينقلون مجريات الأحداث إلى الفريسيين، وذلك بغية لإثارتهم ضدّه.

الشيطان هو من له سلطة الموت، وبالشيطان جاء الموت. ويسوع هو الذي له سلطان التحرير من الخطيئة ومن الموت نفسه. أتساءل إن كنا قد آمنّا به. لقد أُعلنَ ابناً لله بقوة إقامته للأموات. لا يزال هو نفسه، ويسرّه أن يهب الحياة لكل من يسمع صوته.

الخطاب ٣٦

إنسان يموت عن الأمة

"فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا». فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ قَيَافَا كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا». وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ. فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الْكُوَرِ إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبْلَ الْفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ. فَكَانُوا يَطْلُبُونَ يَسُوعَ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُمْ وَاقِفُونَ فِي الْهَيْكَلِ: «مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لاَ يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟» وَكَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ" (يوحنا ١١: ٤٧- ٥٧).

لقد تأملنا في إقامة لعازر، تلك الحادثة التي تُعتبر الأعظم بين آيات ومعجزات وعجائب ربنا يسوع الدالة على قدرته على الغلبة على الموت، والتي تثبت أنه كان بالفعل المسيا الذي كان سيأتي إلى العالم ليس فقط ليُعتق بني إسرائيل، بل ليكون وسيلة بركةٍ لكل الأمم و لتحقيق الوعد الذي كان قُد قطع لإبراهيم.

قد يفكر المرء بأن تلك الحادثة كانت ستشكل علامةً تخاطب قلوب حتى أكثر الناس عداءً للرب يسوع المسيح، وتبرهن على أن هذا الإنسان الذي كان يجول بينهم بتواضع ويجترح المعجزات وأعمال الرحمة العجيبة كان فعلاً وحقاً عمانوئيل. ولكن ليس الحال هكذا. إن كانت ضمائر الناس غير حية أو متيقظة، أو كان الناس مصممين على مقاومة الحق، فإن المعجزات لن تكسَبهم إلى المسيح.

هل تذكرون تلك القصة التي رواها يسوع عن رجل غني؟ إننا نقرأ بأن ذلك الرجل الغني قد مات وذهب إلى الجحيم، وفي الجحيم رفع عينيه- ذاك الرجل الذي كان قد تمتع بكل ميزات وفرص الحياة على الأرض، ولكنه عاش فقط ليرضي رغباته الذاتية- ذاك الرجل بدأ يتوسل من أجل إخوته الخمسة. يا لها من عائلة: ستة أخوة، أحدهم في الجحيم وخمسةٌ على الطريق إلى هناك! فصرخ متوسلاً إلى إبراهيم، الذي أمكنه أن يراه في الفردوس، قائلاً له: "أَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ" (لوقا ١٦: ٢٤). وعندما قيل له أن هذا الأمر مستحيل، قال بأنه يتوسل إليه أن يرسله إلى إخوته الخمسة، لكي ينبههم فلا يأتون إلى موضع العذاب هذا. فقال له إبراهيم: "عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ". وهذا يعني أن لديهم كلمة الله، ألا وهي العهد القديم. فليقرأوه ويؤمنوا بما جاء في كتابهم المقدس. ولكن الرجل الغني رد عليهم قائلاً: "لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ". ولكن جاءه الجواب حاسماً جازماً: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ".

يا لها من حقيقة مهيبة تتكشف لنا هنا! إن كان الناس مصممين وعازمين على أن يسلكوا طريقهم الخاص، إن كانوا لن ينحنوا أمام شهادة كلمة الله، فإن الآيات والمعجزات لن تصل إلى قلوبهم المقسّاة وتأتي بهم إلى التوبة. هؤلاء الكتبة والفريسيون قد نصّبوا أنفسهم ضد كلمة الله. لقد رفضوا كل رسالةٍ منه، وإقامة لعازر ما كانت سوى لتحركهم وتحرضهم على الشعور بأنهم كانوا على الأرجح سيفقدون السيطرة على الشعب. لقد رأوا بذور رغبةٍ واضحةٍ وسط العامة ليجعلوا يسوع ملكاً، ونتيجة ذلك سوف يُصار إلى إرسال فيالق الرومان لفرض إرادة قيصر عليهم بحد السيف.

لقد قالوا: "والآن، ما الذي نصنعه إزاء ذلك؟" لعلك تظن أنهم قالوا شيئاً مثل: "علينا أن نهتدي إلى الله وأن نقرّ بخطايانا وأن نواجه معصيتنا وآثامنا. علينا أن نكون على علاقة سليمة مع الله. قوة القيامة في يسوع تبرهن أنه هو المرسَل من الآب". ولكن ليس الحال هكذا. لقد قالوا: ""إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً". على الأرجح أن يجتذب هذا الرجل الناس وراءه. علينا أن نأخذ موقفاً حازماً تجاه هذا الإنسان وعجائبهِ". لقد جرأوا لتوهم على أن يقولوا للحشد أن يسوع قد صنع تلك المعجزات بقوة بعلزبول، وهكذا فإنهم جدفوا على الروح القدس الذي كان يعمل من خلاله (الرب يسوع). والآن قالوا: "إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ". فكروا بذلك! لقد كانوا خائفين من أن يؤمن الناس بيسوع.

دعوتُ مرةً سيدة إلى لقاءٍ كتابيّ. فقالت: "أخشى أن أذهب لئلا أهتدي". تخشى! تخشى أن تصبح على علاقة سليمة قوية مع الله؟ أذكر رجلاً، تسير أموره على أحسن حال في أوساط العمل التجاري على الشاطئ الغربي. قلت لزوجته ذات مرةٍ: "لم أرَ زوجَك منذ فترةٍ. هل فقد اهتمامه؟" فقالت: "حسنٌ، إنه في الواقع يخاف أن يأتي؛ لأنه عندما يأتي ويسمع الكلمة، سيحتاج إلى حوالي أسبوعين ليتغلب عليها". كم يجب أن نُبقي في الذهن الدليل الواضح بأن روح الله يتكلم لكل واحدٍ منا! هناك أناس في هذا العالم اليوم، على ما أخشى، قد سمعوا الرسالة الأخيرة من كلمة الله وكانت هذه آخر كلمة سيسمعونها. إنه أمرٌ كئيبٌ عندما يتوقف الله عن أن يتحدث إلى النفس.

ولكن هؤلاء الفريسيين كانوا عازمين على أن يمضوا في طريقهم وأن يرفضوا المسيح. فقالوا: "علينا أن نزيل تأثيره عن الشعب، وإلا فإن الرومان سوف يدمرون مدينتنا وشعبنا". ولاحظوا هذا، الأمر نفسه الذي كانوا يخافون من حدوثه قد حدث. ولكنه قد حدث، ليس لأن الشعب آمن بيسوع بل لأنهم رفضوا نعمته. لقد رفضوه بازدراء عندما أظهر ذاته أمامهم على أنه أمير السلام. عندما قال بيلاطس: "هل أصلب ملككم؟" وقالوا "ليس لنا ملك سوى قيصر"، ما الذي حدث؟ صُلب يسوع، رفضه البشر، مات هناك على صليب الجلجثة لأجل افتداء العالم.

ولكن ماذا عن الشعب؟ ما لبث الرومان أن جاؤوا فعلاً وأزالوا مدنهم وشتتوهم إلى كل أصقاع الدنيا. وكل الآلام والمعاناة التي تعرضوا لها كانت نتيجة لعدم معرفتهم بيوم افتقاد الرب لهم.

ولذلك فإن الأمر الذي كان الفريسيون يظنون أنهم يحاولون تجنبه برفض يسوع، هو نفسه الذي حدث وأصابهم لأنهم رفضوه. إن الناس قصيروا النظر وعاجزون عن التنبؤ بالمستقبل، لدرجة أنهم يرفضون الشهادة التي يقدمها الله نفسه.

وبينما كانوا يتجادلون حول هذا الأمر، تزعم أحدهم الجمع- وكان قيافا، الذي كان رئيس الكهنة في ذلك العالم. وهذا الأمر بحد ذاته يشير إلى معارضة الناس لسلطة الرومان. بحسب ترتيب الله الأصلي، عندما كان أحد أبناء هارون يتقلد منصب رئيس الكهنة، كان يبقى فيه إلى حين وفاته. ولكن الشعب سقط إلى أسفل الدركات لدرجة إن الرومان كانوا يبيعون منصب رئيس الكهنة كل عام لمن يدفع أعلى سعر. وفي هذا الوقت المحدد كان قيافا هو رئيس الكهنة. كان هناك آخرون لهم منصب رئيس الكهنة، ولكن كانت قد تمت تنحيتهم جانباً.

ولذلك فإن قيافا الآن، في ذلك العام، قال لهم: "إنكم لا تعلمون شيئاً على الإطلاق". وحسنٌ ما قال، على حد قول أحدهم، وكانت هذه طريقة جيدة لإنهاء أي نقاش أو جدال يمكنك أن تلجأ إليه. يكفي أن تقول: إنكم لا تعلمون شيئاً على الإطلاق. إنكم لا تعلمون ما تتحدثون عنه". لا يمكنك أن تقنع الناس على هذا النحو. إنهم يعرفون الأمر برمته، ولن يقروا ولو لدقيقة بأن لديك أية معلومات ذات قيمة بالنسبة لهم. أعتقد أن أصدقاء أيوب كانوا على هذا النحو نوعاً ما. وتتذكرون أنه أجابهم في أحد المناسبات قائلاً لهم: "أنتم الشعب، والحكمة ستموت معكم". أي: "تظنون أنه ما من أحدٍ سواكم يعرف شيئاً".

كان هذا هو الموقف الذي اتّخذه قيافا: "أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا". وفي هذا تسمعون صوت السياسي الخسيس الجبان. لقد كان يعرف أن يسوع كان بريئاً من كل تهمةٍ يمكن أن يتهم بها. لقد كان يفترض به أن يكون مخلّص الأبرياء، ولكنه، ولغاية السياسة كان ضد يسوع. لقد فكّر أن: "علينا أن نزيحه من الطريق وإلا فإننا سوف نعاني، ولذلك فإن أفضل شيء هو أن نتخلص منه. هاتوا تهماً زائفة، إن احتاج الأمر، لكي نخّلص الناس". لقد كانت نصيحةً غاشةً ومع ذلك فإن الأمر العجيب هو أن الله كان وراء كل ذلك، واستخدمها لينفذ مخططه الخاص. لا يغيب عن بالنا ولو لوهلة كلام قيافا ولكن من جهة أخرى، إن شهادة الروح القدس هنا لتخبرنا أنه كان يقول أكثر مما كان يعرف حقاً. السبب وراء كلامه على ذلك النحو هو الأنانية، ولكن ما اقترحه هكذا إنما هو، بمعنى أرفع مما يستطيع أن يفهمه، كان تحقيق قصد الله في فداء، ليس إسرائيل فقط، بل كل العالم البائس الذي يحتاج إلى الخلاص.

ونقرأ هنا: "لَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ". أي أنه ظن أنه كان يقدم لهم نصيحة ذات طبيعة سياسية، ولكن روح قدس الله كان هو المتحكم فيه وهو الموجه له وراء فكره الذاتي. هل نعتقد أن روح الله يمكن أن يستخدم إنساناً شريراً كهذا؟ في حالة بلعام، الذي أحب أجرة الفجور، لدينا ثلاثة أصحاحات في سفر العدد تحتوي بعض أعظم النبوءات في الكتاب المقدس، والتي أتت من شفتين غير مقدستين. لقد كان الله هو المتحكم لأجل البركة.

ولذلك فإن الله كان هو الذي يتحكم بالأمور هنا، وقد استخدم إنساناً سيئاً، سياسياً أنانياً وصولياً، لينطق بحقيقةٍ مهيبةٍ جليلةٍ. "لَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ". بدون معرفة منه، بل إن روح قدس الله كان يتحدث من خلال هاتين الشفتين الدنستين. "تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ"، ولو لم يكن ذلك بالمعنى الذي قصده. لقد كان يعني أن موت هذا الإنسان البريء سيستخدم لخلاص الشعب من الرومان. ولكن هذا لم يؤد إلى تلك النتيجة، لأن اليهود سُبيوا بعد ذلك الزمان. إلا أن النبوءة كانت حقيقية بمعنى أنه كان سيصبح ذبيحة خطيةٍ عظيمة، آخذاً على عاتقه اللوم والدينونة المتأتية عن إثم أولئك الناس، حمل الخطيئة ذاك، وبحمله له أمام الله واقتباله للدينونة التي كانت تستحقُها تلك الخطيئة. وهذا ما كان أشعياء قد رآه، عندما قال، وهو ينظر عبر الأجيال بعيني الإيمان، أن: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أش ٥٣: ٥، ٦). فها هنا كان الفادي القريب العظيم، الذي نظر إلى شعبه بعين الرأفةِ الذي بيع تحت الخطيئة، وقال: "سأدفع الثمن بدمي الثمين"، وهكذا قدم ذاته كفارة عن الجميع. ولكن موته لم يكن فقط من أجل ذلك الشعب. فنقرأ: "أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ". أي أن العمل الذي قام به ربنا يسوع المسيح على الجلجلة لم يكن فقط من أجل شعب إسرائيل. ليس فقط من أجل خطايا وآثام ذلك الشعب قد جاء ليفتدي الناس، بل أيضاً، وعلى حدّ قوله: "لي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يوحنا ١٠: ١٦). وأولئك الـ "خِرَاف أُخَرُ" هم الأمميون، الشعوب الذين خارج بني إسرائيل، أولئك الناس الذين لم يكن لديهم في ذلك الوقت أي إعلان مكتوب من قِبَلِ الله. فلم يكن لديهم كتاب مقدس، لا ولا أنبياء ومعلمين. كانت لديهم شهادة الخليقة، وأشاحوا عن تلك، ولذلك فإن الله قد سلّمهم إلى كل أنواع الخطية والنجاسة والفجور. ومع ذلك فإن قلبه كان يعطف عليهم وكان قد خطط مسبقاً أن يأتي ابنه المبارك ليكون كفارة عن الجميع. يا لها من نعمة مذهلة! فالله كان سيرسل يسوع، ويسوع ذاك سيأتي ليموت عن عالم أثيم. وإننا نقرأ: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ (وأمكن للرسول بولس أن يضيف قائلاً:) الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيطس ١: ١٥).

واليوم نرنم قائلين:

"مخلّصين بدم المصلوب،
ومفتدين من الخطية إلى حياة جديدة،
أرنم وأسبح الآب، وأسبح الابن،
فقد خلصتُ بدم المصلوب"

يمكننا أن نقول أنه ما من خاطئ في كل العالم اليوم ومهما كان شريراً آثماً مذنباً، يأتي إليه بفضل ذبيحة الصليب، إلا ويستقبله الله، ويحرره بلا مقابل ويفغر له ويمنحه حياة جديدة. أبينكم من لا يدرك أن المسيح مات "لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ". أينما كنتم اليوم، إن انحنيتم معترفين بخطاياكم وآثامكم، وإن كان ضميركم يؤنبكم أمام الله القدوس وتقولون: "آه، أعلم أني لا أستطيع أن أكون في سلام مع الله، فكيف يمكنني أن أكون على علاقة صحيحة معه؟" فأقول لكم أنه ليس واجباً عليكم أن تصنعوا سلاماً معه (مع الله) بأنفسكم. لقد صنع يسوع سلاماً بدم صليبه. تعالوا إليه بقلبٍ منسحقٍ نادمٍ. اعترفوا بخطاياكم ومعاصيكم، وآمنوا به مخلّصاً. لعلكم تعرفون نعمته الفادية اليوم. يكفي أن تأتوا إليه وكما أنتم.

ولكن لاحظوا أيضاً ما يلي: فيما يختص بهذه المحاولة للحكم على ابن الله كمجرم يستحق الموت من جهة البشر الذين عرفوه على أنه بريء: "فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ". لم يكن هناك لينٌ في القلب، ولا أي إحساسٍ بشرّهم وإثمهم الذاتي. إن الخطية تُقسّي القلوب. ونجد تحذيراً ضد خطر أن تتقسّى قلوبُنا من جرّاء خداع الخطيئة. إن الطريقة الوحيدة لنتعامل مع الخطية أو لنعالجها هي في أن نواجهها بصدق أمام الله، الذي هو وحده يمكنه أن يمنح الخلاص من سطوتها، من خلال الإيمان بالرب يسوع المسيح. بعد ذلك نقرأ: "لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ". لم تكن قد أتتْ ساعتُه بعد ليُسَلَّمَ إلى الموت، ولذلك فقد تابع عمل رسالته، كارزاً وخادماً الناس في منطقة أخرى.

ويقال لنا أن فصح اليهود قريبٌ. يا له من تعبيرٍ غريب كما لاحظنا قبلاً- فصح اليهود. لقد كان أصلاً عيداً للرب، ولكنهم كانوا مستمرين بحفظه خارجاً بينما يرفضون المسيح الذي كان يرمز العيد إليه. أعتقد أننا نرى شيئاً من هذا في الوقت الحالي. أخشى أن يكون هناك الآلاف من الناس الذين هم حريصون على الشكليات بما يتعلق بعضوية الكنيسة وحضور الخدمة الإلهية، والذين يلقون أهمية كبيرة على الطقوس المسيحية كمثل الطقوس المقدسة للمعمودية وعشائر الرب، ومع ذلك فإن قلوبهم ترفض المخلص الذي تدل عليه كل هذه الأشياء. إن الله، الذي ينظر إليها، يرى فيها شعائر فارغة وطقوس يقوم بها الناس في الجسد ولا تفيدهم شيئاً لأنهم يرفضون الرب يسوع المسيح.

فكروا في وقار وإجلال حفظ عشائر الرب وتناول الخبز والخمر اللذين يرمزان إلى المخلص المصلوب، بينما نرفض ذلك المخلص، رافضين أن نؤمن به، نابذين نعمته، فنأكل ونشرب دينونةً لأنفسنا، بسبب عدم تمييزنا جسد الرب. لنكن صادقين، ولنواجه الأمور كما هي في الواقع أمامه.

إن فصح اليهود كان قريباً جداً. خرج كثيرون من الأرياف إلى أورشليم ليطهّروا أنفسهم. كان هؤلاء أبناء الريف، وليسوا سكان المدينة الذين كانوا رفضوه، ونقرأ عن ذلك في الكتاب المقدس حيث نسمع أن "كان عامة الشعب يَسمعه بسرور".

وإذ جاؤوا ليحفظوا عيد الفصح، كانوا يتساءلون: "هل ستتاح لنا الفرصة لرؤيته؟" لقد كانوا تواقين لأن يروه و يصغوا إلى تعليمه. لقد كانوا يبحثون عنه وهم يقولون في أنفسهم: "«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لاَ يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟»". نعم؛ لا بد أن يكون هناك. وما هي إلا برهة ويرونه هناك. ولكن للأسف، كل نعمته العجيبة لن تغير موقف القادة والزعماء في ذلك الشعب. ونقرأ: "كَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ". لماذا؟ ألكي يتفحصوا أقواله ويواجهوا الأمور بصدق أمام الله ويقرروا إن كان هو المسيا أم لا؟ لا. لم يكن هذا هو الدافع. لقد "أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ"، ويقبضوا عليه، ويقتلوه بالتالي. كم كانت ضئيلة معرفتهم بأن أحدهم سيخونه ويسلمه لهم، وهذا كان أحد الذين يُعتَبَرون من أتباعه.

الخطاب ٣٧

تقدير القلب للمسيح

"ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ. فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ». فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ" (يوحنا ١٢: ١- ١١).

نأتي الآن إلى مقاربة في دراستنا للساعات الأخيرة من خدمة ربنا هنا على الأرض. كان قد جاء إلى أورشليم لآخر مرة ليقدّم شهادته الأخيرة، عالماً وبدرايةٍ كاملةٍ بأن الرفض والصلب كانا في انتظاره، إذ ما من شيء من تلك الأشياء التي جرت كان مفاجئاً له. لقد كان قد جاء من السماء لهدفٍ واضحٍ محدد ألا هو أن يموت عن الضالين. ونقرأ عن ذلك بشكل واضح ومحدد. لقد قال: "ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠: ٢٨). وكان قد أعلن ذلك منذ البدء. فيتم تقديمه في المزمور ٤٠ الذي يقول: "هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي" (مز ٤٠: ٧، ٨). عمل تلك الإرادة كان يعني ذهابه إلى الصليب. ولكن بينما كان يقترب أكثر فأكثر من الصليب، وبسبب أنه كان إنساناً كاملاً كما إلهاً حقاً، تصاعد الخوف في نفسه إلى أن رأيناه في نهاية الأمر (كما تدون لنا بقية الأناجيل، وليس في إنجيل يوحنا بنفس الطريقة تماماً) انحنى في كربٍ وحزنٍ شديد في بستان جثسيماني، فصلى قائلاً: "إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ" (متى ٢٦: ٣٩). ومع ذلك يقول: "إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" (متى ٢٦: ٤٢). وبعد هنيهة نجده يقول لبطرس، الذي قطع أذن عبد رئيس الكهنة: "اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟" (يوحنا ١٨: ١١). ذلك الكأس كان كأس الغضب، كأس الدينونة الإلهية التي كانت تستوجبها خطايانا، الكأس التي كانت تفيض بسخطِ ونقمة الله القدوس ضد الخطيئة والإثم. ما كان ليسوع أن يكون إنساناً كاملاً وقدوساً لو لم ينكمش مرتعداً إزاء شُرب ذلك الكأس. أن يُجعَل خطيئةً كان يعني أن يتعامل مع الله وكأنه هو الخاطئ العظيم على مر كل الأجيال. كل تعدياتنا ومعاصينا قد وُضعت عليه. وهذا كان يعني رُعباً وظُلمةً في النفس لا يمكن لعقولنا المحدودة البائسة أن تتصورها أو تفهمها. لقد كانت تعني أن نتحمل هناك على الصليب، في أعماق روحه التي لا عيب فيها، ما استوجبه رفض الناس للمسيح من جهنم العذاب إلى الأبد. لقد كان يدرك فظاعة الخطيئة؛ والرِعدة من معالجة الله القدوس لها. في مز ٦٩: ٢٠ مكتوب: "انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ". لقد كان إنساناً بكل معنى الكلمة حتى كان يتوق لأن يدخلَ أولئك معه في أحزانه. إننا نشعر على هذا النحو. إننا ننظر إلى أعزّاءنا من أجل الراحة والعزاء، وننتظر أن يعبّروا عن محبتهم لنا. كان يسوع يتوق إلى رفقةٍ بشريةٍ وكان ليسرَّ إن وجدها. ولدينا صورة جميلة عن ذلك في هذا الأصحاح الثاني عشر.

لقد جاء إلى اليهودية، وكان مع رفقائه القليلين الآن في بيت عنيا، مدينة مريم ومرثا ولعازر. وقد تأملنا لتونا في إقامته للعازر من بيت الأموات. نقرأ هنا: "ثمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً". في إنجيل مرقس نقرأ أنه مضى يومان عليه هناك قبل أن يُصنع له عشاء الفصح هذا. لقد جاء إلى بيت عنيا قبل ستة أيام من الفصح. ومضت أربعة أيام، وبعدها صنعوا له هذا العشاء. لقد كان شهادة من جهة أصدقائه المحبين، دليلاً على محبته له.

نعلم من متى (٢٦:٦) أن هذا الأمر قد حدث في بيت سمعان الأبرص. بالتأكيد ما عاد أبرصاً، إذ كان من المستحيل آنذاك أن يقطن هناك. "فالأبرص كان يجب أن يسكن لوحده"، كما يقول الكتاب المقدس. كان عليه أن يضع غطاءً على شفتيه، وكان عليه أن يصرخ دائماً قائلاً: "نجس، نجس" إذا ما اقترب أي إنسانٍ منه. لا بد أن هذه كانت حالة سمعان الأبرص السابقة- ولا ندري كم دامت. ولكننا نستنج من هذا النص الكتابي أنه حدث في أحد الأيام حدثٌ رائعٌ عجيبٌ في حياة سمعان. لقد التقى بيسوع وصار كل شيءٍ مختلفاً. هل كان لك مثل هكذا لقاء؟ هل كنت تعيش حالة برص الخطيئة، ضالاً بشكلٍ كاملٍ ومدمراً وهالكاً؟ هل كان لك لقاء مع يسوع؟ هذا يغير كل شيء. أن تسمعه يقول: "فلتطهُر"، أن تجعله يتكلم بالسلام إلى القلب المضطرب، أن تعرف أنه طهّر النفس الآثمة- يا لها من خبرةٍ! لا بد أن سمعان قد مر بخبرةٍ كهذه، وإلا لما كان موجوداً هناك في بيت عنيا.

من بين أولئك الذين كانوا يشاركون في تلك الأمسية إضافة إلى ربنا المبارك وتلاميذه، كان هناك أيضاً ثلاثةُ أشخاص بارزين. وهؤلاء هم الثلاثة الذين طالما استضافوا يسوع في بيتهم. نقرأ: "كَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ، فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ" (يوحنا ١٢: ٢). هذا يمثل الجوانب الثلاث في الحياة المسيحية. فنرى في مرثا الخدمة، وفي مريم الشركة، وفي لعازر العبادة. الخدمة والشركة والعبادة- إلى أي درجة نعرف عن هذه الجوانب الثلاثة في الحياة المسيحية؟ الخدمة هنا تأتي أولاً- "كانت مرثا تخدم". عندما نخلص لا نعود ملك ذواتنا. كم هو أمر طبيعي أن نسلّم أنفسنا له (للرب) كمثل أولئك الأحياء بين الموتى، لكيما نخدم السيد الذي فعل الكثير من أجلنا. لا أفهم أولئك الذين يقرّون بأنهم خلصوا ولا يقدمون دليلاً على رغبةٍ في خدمة الرب يسوع المسيح. فهذا يجب أن يكون الدليل الأول على الولادة الجديدة: "لقد خلّصني؛ والآن ما الذي أستطيع أن أفعله لأُظهر محبتي له؟" إننا لا نخلص بخدمتنا. الخلاص ليس بأعمالنا، لئلا يفتخر الإنسان. ما من جهد نبذله بأنفسنا يمكن أن يطهّر أرواحنا الآثمة.

"ما من عملٍ تقوم به يداي،
يمكن أن يحقق مطالب ناموسك؛
وما من حماسةٍ أو راحةٍ أعرفها،
وحتى دموعي لو ذرفتها إلى الأبد،
كلها لا يمكن أن تكفر عن خطيئتي:
أنت وحدك تخلّص، وأنت وحدك فحسب".

ولكن هل هذا يعني أن نستخف أو أن نقلّل من شأن الخدمة أو أن نكون غير مكترثين بالأعمال الصالحة؟ لا، أبداً على الإطلاق. إننا ندرك أنه عندما يتجدد المرء، عندما يتبرر من كل الأشياء، عندما يصبح ابناً لله، فإنه يصبح مسؤولاً عن القيام بأعمالٍ، والاجتهاد من أجل ذلك الذي فعل الكثير لأجله.

وإننا نخدمه بينما نخدم أولئك الذين مات من أجلهم. خدمة المسيح ليست أمراً غامضاً أسرارياً أو غير عملي. إن كنتُ أقدم كأس ماء بارد باسم يسوع، فإني إنما أخدمه. وإن رفضت أن أعطي كأس ماء بارد لأحد، فعندها أنكفئ عن خدمته. إن كان الناس في محنةٍ وخدمتُهم، مقدماً ثياباً للعريان، وطعاماً للجياع، ومشاركاً الآخرين في الآلام والمشاكل والأحزان، فإني إنما أخدمه. عندما سيجلس على عرش مجده إثر عودته إلى هذه الأرض، فإن مقياس الدينونة سيكون هذا: "لقد جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي". فيقول البعض: "يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟" فيقول: "بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ". ويقول الآخرون: "يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟" فيقول لهم: "بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا" ١ . دعونا لا نغفل عن أهمية ذلك النص الكتابي برؤية جانب التدبير الدهري فقط. إنه درسٌ عمليٌ لكل الأجيال. إنه يضع أمامنا المعيار أو المقياس الذي سيُدان عليه كل واحدٍ عندما يقف أمام كرسي دينونة المسيح. سوف يضع في رصيدنا كل خدمة قد عملناها لأحدٍ من خاصته وكأننا قد قمنا بتلك الخدمة له ذاته. هذا أمرٌ جديٌ في غاية الأهمية. هل تعاملون المسيحيين بلطف؟ هل تدعون الفقراء، والمحتاجين الذين هم في محنة فتخففوا من معاناتهم؟ أم أنكم تمرون بهم بلا مبالاة وبدون اكتراث؟ هل تُقسّون قلوبكم في وجه المحتاجين؟ إذاً اسمعوا! إنه يقول: "بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا". ولكنكم عندما تشاركون ما تملكون مع الآخرين الذين هم في محنةٍ، عندما تخدمون أولئك المبتلين، عندما تحاولن أن تظهروا رحمة المسيح لأولئك الذين يعانون ويتألمون، فإنه يعتبر كل ذلك وكأنكم فعلتموه له شخصياً.

دعونا لا نستخف بالخدمة. إنها أمر في غاية الأهمية. إنها تأتي أولاً هنا. "كانت مرثا تخدم". لم تكن خدمةً متذمرة. حدث مرةً أن مرثا كانت قد أُرهقت من الخدمة، ولكن لم تكن هذه المرة. لقد كانت مرثا تخدم، ومن الواضح أنها كانت تفعل ذلك بسرور. فقط قبل بضعة أيام رقد أخوها في الموت وعندها مضت مع يسوع إلى القبر القائم هناك وسمعته يقول: "لعازر، هلمَ خارجاً". وذاك الذي كان ميتاً خرج من الأكفان ويداه ورجلاه مقيدتان. كانت مرثا قد رأت كل ذلك وبقلبٍ مفعمٍ بالامتنان للرب، وكانت في غاية السرور لاستطاعتها أن تخدم. إني أتخيل أنه لو كان أحدٌ قال: "دعني أخدم"، لكانت سترفض وتقول: "لقد فعل (يسوع) الكثير لأجلي ولذلك أريد أن أفعل كل شيء أستطيعه من أجله".

سمعت مرةً عن أخ عزيز جداً علي كان ينتمي إلى مجموعةٍ تدير مبنىً إرسالي. لقد كان يريد أن يكرز، لكن لم تكن لديه الموهبة لفعل ذلك. فساعد في فتح هذا المبنى للإرسالية. اعتاد هذا الرجل أن ينزل هناك بعد أن يُغلق مكتبه ظهر يوم السبت. فكان يشمر بنطاله من الأسفل، ويأخذ دلواً من الماء وينظف بالفرشاة، وينظف الكراسي ويفرك الأرضية وينظفها. ما من أحدٍ من بقية الأخوة في الشركة كان يعرف عن خدمته. أنتم تعلمون كم أن الناس غير مبالين. لم يكن يفكر بأن يطلب من أحد أن يقوم بالتنظيف. ولكن حدث مرةً أن اثنين من الشبان ذهبوا إلى هناك بعد الظهر ليأخذوا كتب التراتيل. وإذ فتحوا الباب رأوا ذلك العجوز ينظف الأرضية. لقد فوجئوا به، وقالوا: "لم نكن نعلم أنك تقوم بذلك! ينبغي ألا تفعل ذلك. سوف ننظف هذه الأرضية". فقال: "لا لا، أرجوكم دعوني أقوم بذلك من أجل المسيح". لقد توسل إليهم ألا يحرموه من فضل القيام بهذا العمل من أجل مجد المسيح. ولذلك تركوه على راحته ليقوم بهذا الأمر.

والآن لننظر إلى الشخص الثاني: "أَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ". هذا يعني الشركة. لعازر، القائم من الأموات يجلس إلى المأدبة مع يسوع ويتمتع بالشركة المقدسة معه. إن التواصل مع الناس الذين لديهم نفس الفكر والتمتع بوليمة عظيمة معهم، هو أمرٌ جميلٌ- ليس فقط بسبب الطعام الذي يتناولونه، ولكن لأنهم يُسَرّون بتبادل الأفكار فيما يتعلق بالأمور المهمة بالنسبة لهم جميعاً. إننا نتحدث أحياناً عن عشاء الرب باعتباره التناول. ونتأمل معاً في لطف الرب ومحبته. ومن هنا فإنهم كانوا هنا مشغولين مع الذي أحبوه. إني على يقين بأنه حيث كان يجلس المسيح كان يعتبر رأس المائدة. لقد كانت الوليمة في بيت سمعان ولكن الرب هو المُضيف الحقيقي للجماعة.

وهكذا جلس لعازر إلى المائدة مع يسوع، لعازر الذي كان ميتاً فعاش ثانيةً. أنت وأنا، المخلصون، رجالُ ونساءُ القيامةِ، وإنه لامتيازٌ مباركٌ نتمتع به ألا وهو الشركة والتناول مع الرب يسوع المسيح لكونه رئيسنا الممجد. إن الشركة تتطلب شخصين على الأقل. أحدهما يتكلم والآخر يُصغي. إن لدينا شركةً مع الرب عندما نجلس أمامه ونصغي إلى كلمته وهو يتحدث إلينا، وعندما نقترب منه بالصلاة ونسكب أمامه قلوبنا.

العبادة هي الشيء الثاني: "فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ". أتساءل إذا ما كانت تفكر في تلك الآية الواردة في نشيد سليمان، "مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ" (نشيد الأناشيد ١: ١٢). لقد نظرت إلى يسوع وقالت: "هذا هو ملكي، وعليَّ أن أريه كم أني أحبّه وأعبده"ز وتذكّرت أنه كان لديها رطل من طِيبِ نَارِدِينٍ باهظ الثمن. وكان ثمنه يعادل أجرة عمل عامٍ كامل. لعلها كانت تحتفظ به منذ وقت طويل، وربما استخدمت مقداراً ضئيلاً منه في بعض المناسبات. ولكنها تعرف الآن أن يسوع سيخرج إلى الموت. فبعد هنيهة يخبرنا بذلك. فتقول في نفسها: "عليّ أن أقدّم له أفضل ما عندي". وهكذا كسرت صندوق المرمر وسكبت ما فيه على قدمي يسوع. في متى ومرقس نقرأ أنه كان "على رأسه". ليس من تناقض هناك. لقد فعلت كلا الأمرين. لقد كان ذلك تعبيراً عن العبادة التي في قلبها، إذ أن تلك هي العبادة. عندما نعبد فإننا نُعيد للرب ما كان قد أعطانا إياه. في العهد القديم كان يُعبَد الله على أنه الخالق. وهذا أمرٌ في غاية الأهمية والقيمة، ولكن عندما نأتي إلى العهد الجديد سنجد أن الرب يسوع هو موضوع العبادة لدى شعبه الحبيب وهم يصرخون قائلين: "مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ ..... لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤيا ٥: ٩). كم استحق يسوع ذلك! كم يحب أن ترتفع قلوب الناس إليه في العبادة!

إلا أن غير المخلّصين لا يستطيعون أن يفهموا ذلك. ذاك الذي كان يزمع أن يسلمه قال: "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟" هل كان يسوع أبداً غير مكترث بحاجات الناس الفقراء؟ أم كانت مريم كذلك؟ أبداً على الإطلاق. أعطِ المسيحَ المكانة الأولى، وكل شيء سيكون على ما يُرام. من يتعبد للرب يسوع المسيح ويعبده لأنه المتقدّم في الكرامة، سوف لن ينسَ الفقراء والمحتاجين.

لكن يهوذا لا يمكنه أن يفهم. "قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ". كان يسوع وتلاميذه قد عيّنوا يهوذا ليحمل كيس النقود ونقرأ أنه "كَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ". أي حرفياً: "كان يأخذ ما يُلْقَى فِيهِ". لقد كان رجلاً طمّاعاً. لقد كان يشعر أن مريم كانت تهدر ثروتها على يسوع.

ولكن المخلّص كان يدرك ويعرف ما كان يدور في قلب يهوذا. فقال: "اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ". يجب ألا ننسَ كلماته تلك. في مرقس يقول: "لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْراً. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ" (مرقس ١٤: ٧).

وفي الآيات الختامية نقرأ: "فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً". كانوا قد قالوا: "خيرٌ لنا لو يموت مرةً أخرى، لئلا يؤمن ذلك الشعب، بسببه، بيسوع"، وذلك "لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ".

يا للفساد والشر في قلب البشر! اسمعوني، يا أعزائي، إن كنتم لن تؤمنوا بيسوع المسيح إحساساً منكم بالحاجة إلى مخلّص، وإن كنتم لن تأتوا إليه بالروح القدس، فإنكم لن تأتوا إليه مهما كانت المعجزات التي يصنعها.


١. (متى ٢٥: ٣٥- ٤٥).

الخطاب ٣٨

الدخول الظافر

"وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ». وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلاَمِيذُهُ أَوَّلاً وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ. فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ﭐنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ». فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا قَائِلاً: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»" (يوحنا ١٢: ١٢- ٢٨).

في الواقع ثمة حادثين مميزين مدونين في هذه الآيات، كلٍ منهما يمكن أن يكون موضوعاً لخطبةٍ كاملة؛ ولكني أريد أن أحاول أن أدمج الحادثتين معاً.

لدينا أولاً الرب يسوع يركبُ داخلاً إلى أورشليم ويتم الترحيب به ويتم مناداته بابن داوود، ثم لدينا اليونانيين يأتون ويطلبون أن: "نريد أن نرى يسوع".

إن رسالة مخلصنا لا تلبث أن تقترب سريعاً من نهايتها. فلثلاث سنوات ونصف رائعة كان ينتقل في أرجاء أرض فلسطين ويجترح أعمالاً معجزية ويشهد للناس. والآن وجب أن يأتي إلى أورشليم لكي يموت هناك، وليقدم نفسه كفّارةً عن خطايانا. بدا للوهلة الأولى وكأن الناس كانوا على استعدادٍ لاستقباله كملك، وأنه لن يُنبذ كما سبق أن تنبأ هو بنفسه. ولكن تبين أن هذه كانت حركة سريعة الزوال لم تدم طويلاً، وأن من شاركوا في ذلك الاستقبال كانوا أطفالاً وأيضاً أولئك الذين كانوا قد استفادوا أو انتفعوا من خدمته، وأولئك الذين أحبوه بسبب ماهيته وبسبب ما فعل. في اليوم التالي، اليوم الذي تلا الزيارة إلى بيت سمعان الأبرص، جاء كثيرٌ من الناس إلى عيد الفصح الذي كان على وشك أن يُحتفل به. عندما سمعوا أن يسوع كان آتياً إلى أورشليم خرجوا لملاقاته آخذين معهم أغصان النخل، النخل الذي هو الرمز المعروف للنصر، صارخين "أُوصَنَّا" أو "خلّص الآن". وهذه مقتبسة عن المزمور ١١٨، الذي هو مزمور مسياني، يعتبر الرب يسوع ابن داود المبارك. "أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!"

قد يقول أحدهم: "أخيراً تم الاعتراف بالمخلص لما هو عليه، وسيكون قادراً على أن يستلم العرش ويحكم بالبر، مزيلاً كل التعديات". جماعةٌ قليلةٌ بقية فقط من الناس هم أولئك الذين اعترفوا به حقاً. أما أغلبية القادة الدينيين فقد توحدوا لرفض دعواه وأقواله، ولم تمضِ فترة طويلة على صراخهم أن "أُوصَنَّا"، حتى حرك هؤلاء القادة أنفسهم الشعب في بلاط محكمة بيلاطس فجعلوهم يصرخون أن "ليس لنا ملك سوى قيصر". وهكذا رُفض تماماً في حين أنه جاء كملك.

لقد دخل يسوع كما جاء في الكلمة النبوية. فنقرأ أن: "وَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ". خطوةٌ فخطوة، من ولادته وحتى النهاية، كان الرب يتحرك في توافق تام مع النبوءة. هذا الأسبوع الأخير نفسه كان هناك عدد لا حصر له من النبوءات التي تحققت، علماً أن هذه النبوءات قد جاءت قبل مئات السنين. في نبوءة زكريا نجده يُصوَّر داخلاً أورشليم راكباً على جحش وابن أتان. من هذا السفر يقتبس روح قدس الله الآن، فيقول: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ»". وحتى في هذا كان ثمة أمرٍ مثير. لماذا؟ يخبرنا إنجيلٌ آخر أن الرب كان قد أُجلسَ على جحش ابن أتان لم يركبه إنسانٌ قط، مهرٌ صحيحٌ سليمٌ. وليس من السهل بمكان في العادة أن يركب المرء مهراً صحيحاً سليماً، ولكن هذا المهر بدا وكأنه ميّز غريزياً سيده. فقد كان يسوع هو خالق كل الأشياء، الذي تنازل بالنعمة ليصير إنساناً، وهكذا أخذ زمام المهر وركبه منتصراً داخلاً المدينةَ حيث نشر الناسُ ثيابَهم أمامه وهتفوا مرحبين به. في البداية لم يفهم تلاميذه أياً من هذه الأشياء، ولكن بعد أن تمجد يسوع، وبعد أن مرّ بألم الصليب، وبعد أن قام من بيت الأموات، وصعد إلى يمين الآب في السماء، وحل الروح القدس، كما حدث في العنصرة، انفتحت أعينهم لفهم الحقيقة التي لم يفهموها قبلاً، وعندها تذكروا أن كل تلك الأشياء كانت قد كُتبت عنه، وأنهم فعلوا كل تلك الأمور له. إنه عمل روح القدس الله هو أن يجعل الناس يفهمون الأمور التي كتبها الله بكلمته لتعليمنا، لأنه كتب الكلمات التي تقول: "إنما تكلّم رجال الله القدّيسون محمولين بإلهام الروح القدس". وبالتالي فإنه أمرٌ في غاية البساطة بالنسبة للروح القدس أن يأخذ هذه الأشياء وأن يكشفها لشعب الله، مذكّراً إياهم بالنبوءات والوعود التي كانوا قد نسيوها منذ زمن طويل إلى أن رجع الروح القدس بها إلى مساحة الوعي والإدراك.

"وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ". يبدو أن إقامة لعازر من بين الأموات كان لها أعظم تأثير على الشعب أكثر من أي معجزةٍ أخرى قام بها الرب يسوع. ولا حاجة لأن نتعجب من ذلك، إذ كانت أكبر معجزةٍ جسديةٍ قد قام بها، كما الحال عندما هدّأ العاصفة، تلك المعجزة التي كانت متعلقة بالطبيعة. بمناداته لذاك الرجل لأن يخرج من القبر، والذي كان قد مضى عليه أربعة أيام وهو ميت، أظهر يسوع نفسه على أنه القيامة والحياة. والناس الذين لم يُلقوا بالاً إلى دعواه من قبل بدأوا يتعجبون ويتساءلون إذا ما كان هو المسيا الموعود الذي كان سيأتي وذلك عندما دخل أورشليم راكبٍ على جحشٍ في تلك المناسبة. ولكن كان هناك أيضاً آخرون معارضون وهؤلاء نجحوا في نهاية الأمر في إبعاد الكثير منهم. "فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ﭐنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!»". وهكذا فإن كلمات أشعياء، التي نطق بها قبل سبعمئة سنة، وهو يتأمل في مجيء المسيا كانت تتحقق في تلك اللحظات: "«يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟»" أولئك الذين كان يجب أن يؤمنوا، أولئك الذين كان ينبغي أن يكونوا أول من يقتبلوه، كانوا فعلياً أول من رفضه ونبذه.

ننتقل الآن إلى الحادثة الثانية. عندما كان الفريسيون يرفضون دعوى ومزاعم المسيح عن عمدٍ وعن قصد، كان من دواعي سرور الرب يسوع أن يلتقي بأولئك الأمميين المهتمين به وأن ينقل الرسالة إليهم. نقرأ في الآية ٢٠: "وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ". عندما نقرأ أحياناً في كتابنا المقدس عن اليونانيين، فإن الكلمة تشير إلى الناس الذين لم يكونوا يونانيين بالطبيعة بل يهوداً وُلِدوا بين اليونانيين في العالم الأممي. ولكن هنا المقصود بهم اليونانيين فعلاً. هؤلاء الأمميون كانوا قد جاؤوا إلى عيد اليهود، الفصح. لعلهم كانوا مهتدين حديثاً. وربما وجدوا في أورشليم نظاماً دينياً أكثر نقاوةً وأكثر قداسةً وأفضل مما كانوا قد اعتادوا عليه وسط الشعوب الوثنية التي كانوا يشكلون جزءاً منها. كان هناك كثيرون في ذلك الزمن غير راضين وكانوا يتحولون عن آلهة آبائهم التي كانوا يعبدونها، كانت قلوبهم ترنو إلى شيء أفضل وأكثر نبلاً وأكثر نقاءً وأكثر حقيقيةً. وهكذا إذ كان اليهود مبعثرين في أرجاء العالم، حيث كانت لديهم مجامع وأماكن للصلاة، كثيرون من الأمميين المتسائلين الباحثين عن الحقيقة كانوا يزورون أماكن الاجتماع اليهودية وتعلموا شيئاً عن الله الحي الحقيقي، وعن الوعد الذي كان قد قطعه الله لإبراهيم بأن من نسله سوف يأتي من يبارك العالم. ولعل هؤلاء اليونانيين كانوا من بينهم. لقد صعدوا من أجل عيد الفصح. جو من العبادة، كما يخبرنا الإنجيل. وعندما كانوا في أورشليم سمعوا عن يسوع. لقد سمعوا عن ذلك الشخص المذهل العجيب الذي كان يعيش وسط الناس لثلاث سنوات ونصف، والذي كان يجول في كل مكان يصنع الخير، يشفي المرضى ويفتح أعين العميان. ما من شك في أنهم سألوا كثيراً أولئك الذين كانوا قد سمعوه وكانوا بالتأكيد سيتساءلون في أنفسهم أن: "أيمكن أن يكون هذا هو الموعود؟" وإذ كانوا يستمعون إلى القصص حول يسوع، يمكن للمرء أن يتخيلهم يقارنون بين الانطباعات التي تلقوها من الناس وأفكارهم ويقولون: "أيمكن أن يكون هذا هو اللوغوس الذي كان يتوق إليه أفلاطون، وهل من الممكن أن يكون هذا هو ذاك الذي تحدثت عنه الكتابات اليهودية، التي كنا نقرأُها، ووُعِدنا بها، والتي كانت تشير إلى مجيء المسيا إلى العالم؟"

وهكذا إذ علموا أن يسوع قد كان صار في المدينة لتوه، سعوا وراء صحبة التلاميذ. لقد َتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ، الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ. لماذا أتوا إلى فيلبس بالذات؟ لا بد أن هذا الاسم راق لهم. فهو اسم يوناني يعني "محبُّ الخيل". وكان أحد ملوك الإغريق، فيلبس المقدوني، قد حقّق شهرة عظيمة لنفسه، واعتقد هؤلاء أن فيلبس هذا سيفهمهم. لم يذهبوا إلى بطرس أو يوحنا أو يعقوب أو بقية التلاميذ. لقد ذهبوا إلى فيلبّس الذي كان يحمل اسماً يونانياً، وقالوا: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع". لا بد أن ما كان يرغبون به قد سرى قلب فيلبُس، لأن هؤلاء اليونانيون كانوا غرباء. كانوا أممين من خارج المدينة يتوقون لرؤية ومعرفة يسوع. لا بد أن فيلبُس شعر في نفسه أن "آه، لا بد أنَّ يوم انتصر ربنا قد صار وشيكاً فالأمميون يأتون، كما قال العهد القديم ويعترفون برسالته".

نادى فيلبُس أندراوس، وذهب أندراوس وفيلبُس إلى الرب يسوع، وأتخيل أنهما كانا الأكثر توقاً ليقولا له: "يا سيد، هلاّ تأتي وتلتقي بهؤلاء الأمميين الذين صاروا هنا، والذين يريدون رؤيتك ومعرفتك، والمهتمين بالرسالة التي تنشرها؟" لا شك لدي أن يسوع كشف نفسه لأولئك اليونانيين، ولكن الإنجيل لا يخبرنا عن ذلك. ونعلم أنه أجاب قائلاً: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ". لقد رأى في هذا المطلب الصادر عن الأمميين نوعاً من بواكير ثمار الحصاد العظيم وسط الأمم. كان على وشك أن يرفضه شعبه ذاته، ولكن الكتاب المقدس كان قد قال أنه إذا ما رفضه شعب إسرائيل، فإنه سيصبح نوراً للأممين. ولذلك فها هنا نجد أول دليلٍ على هذا الكلام من خلال هؤلاء اليونانيين الذين جاؤوا يطلبون أن: "نريد أن نرى يسوع".

لقد رأى في طلبهم دليلاً على ما سيحدث في كل العالم الأممي في السنوات التي ستأتي لاحقاً. وأخبر تلاميذه عندئذٍ بجدٍ وبشكلٍ مهيبٍ جليل بأنه لم يستطع أن يكشف نفسه بشكل كامل لليهود أو للأمميين إلا أن يكون قد مرّ بالموت والقيامة. "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". ما الذي كان يعنيه بالضبط؟ حسناً، لقد كان حبة الحنطة، وما لم يمت لن يكون هناك خلاص لأي خاطئٍ بائس. لم يأتِ يسوعُ ليخلِّصَ أناساً بتعليمه؛ لم يأتِ ليخلِّص الناس بمثال حياته. لم يقل للناس: "إن حاولتم أن تعيشوا بالطريقة التي أعيش بها، وأن تتبعوا خطواتي، فإنكم ستخلصون". دعوني أقول ثانية- كما قلت مراراً وتكراراً من قبل، ومع خوفي من أن يساء فهمي- لم يكن ممكناً لأحد أن يخلُص بإتباع يسوع. إننا نبدأ بإتباعه بعد أن نخلص (ننال الخلاص). لقد ترك لنا مثالاً نتبعه، ولكننا في حاجة لأن نعرفه كفادٍ، ونحتاج إلى أن نقتبل الحياة الإلهية منه قبل أن نستطيع أن نتبعه.

يسوع ليس معلِّماً عظيماً فحسب، وليس مثلاً فقط. كان لا بد ليسوع أن يتألم ويموت لكي يخلّص الناس رجالاً ونساءً. "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لولا موته، ما كان ليمكن لحياة يسوع الجميلة أن تخلِّصَ ولو خاطئاً واحداً بائساً. وبدلاً من ذلك، كانت لتدين الناس فقط. إن كان هناك شيءٌ ليبهر فهو كم كانت حياة الناس حافلة بالخطيئة، ذلك الخط الذي يسير جنباً إلى جنب مع الرب يسوع. إن كنتم راضين تماماً عن أنفسكم، وتريدون أن تروا كم أنتم أشرار فاسدون خطاة في نظر الله اقرأوا هذه الأناجيل الأربعة، وتأملوا بالحياة التي عاشها يسوع، وسترون سريعاً كم أنكم بعيدون عن كل ذلك. "يبقى وحده". لقد كان الوحيد الذي بلا خطيئةٍ وبلا عيبٍ وبلا نجسٍ، الابن الوحيد للآب، والوحيد الذي أمكنه أن يقول: "إني أفعل دائماً هذه الأشياء التي ترضيه". لقد كان هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يقف في وجه أسوأ أعدائه وأن يقول لهم: "من منكم يبكّتني على خطيئة؟" لقد كانت إنسانيتُه (ناسوته) مقدسة بشكلٍ كاملٍ، و كان متفرداً لا مثيل له في حياته هنا على الأرض.

ويضيف قائلاً: "وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لقد مضى إلى الصليب، وعلى ذلك الصليب قدّم نفسه كفّارة عن خطايانا؛ لقد مات لكي يفتدينا؛ لقد أراق دمه الثمين لكيما نتطهر من كل معاصينا وآثامنا. أفكر الآن في ملايين الناس الذين دُعيوا مسيحيين على مدى القرون، الذين وجدوا حياةً وسلاماً وخلاصاً من خلال دمه الكفاري. حبة الحنطة سقطت فعلاً في أرض الموت، وكان هناك حصادٌ عظيمٌ. "إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لاحظوا التحدي أمام أولئك الذين يؤمنون به ويثقون به، في الآيات التالية. إن اعترفنا بأننا اقتبلناه واتخذنا منه مخلصاً لنا، فمن الطبيعي أن نتبعه، وأن نصبح تلاميذ له. وهكذا فإنه يخبرنا أن: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ".

بالنسبة إلى مُحِبّي الدنيا يبدو الأمر دائماً وكأن المسيحي يتخلى عن حياته عندما يتخلى عن الحماقات والمسرات الدنيوية ويكرس نفسه لمجد الرب يسوع المسيح. ولكن ذلك الذي ينكر حياته بهذا المعنى يجدها فعلاً. الدنيوي يفكر بأنه يعرف الحياة على أفضل وجوهها. ولكن الحقيقة أن المسيحي هو الذي يدخل إلى الحياة الأعمق والأكثر بركة ويتمتع بها. إنه يدخل إلى الحياة في أعلى مستوياتها، وكامل غناها وعلى أفضل شكلٍ لها.

قال يسوع: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي". هناك وعد لكل مؤمنٍ. أنت وأنا أُعطينا الفضل ليس بأمن نؤمن باسمه فقط، بل أن نتألّم لأجله متبعين خطاه، حاملين العار والخزي لأجل المسيح، ويوماً ما سوف يكرم الله الآب كل أولئك الذين حملوا عار اسم ابنه المبارك.

والآن وقد تكلمنا عن عمل الصليب، يبدو وكأن روح يسوع بدأت لتوها تدخل إلى الظلام الدامس الذي كان يحيط به جُعِل خطيئةً، لأنه قال: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ". لماذا اضطرب؟ الحقيقة هي أنه لاقى على الصليب كل غضب الله الكامل، وكان عليه أن يخضع لتبعات الدينونة لكي نخلص نحن بنعمته. وكل هذا جعل نفسه تضطرب. ما كان يمكن أن يكون إنساناً كاملاً وقدوساً لو لم يرتعد من فظاعة أنه جُعِل خطيئةً عنا. "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ»". وهكذا، فبدلاً من أن يطلب أن تبتعد عنه تلك الكأس وأن يتفادى تلك الساعة، نجده يصلّي لكي يتمجد اسم الآب. وعندها، كما يقول الإنجيل، جاء صوت من السماء، وكانت هذه هي المرة الثالثة في حياة ربنا يسوع المسيح أن يأتي صوتٌ من السماء يقول: "«مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»".

عندما مر يسوع بالصليب تمجّد اسم الله بإقامته له من بين الأموات. لقد مجّد اسمه بأن جعل ابنه على يمينه في السماء. وسيتمجد اسمه أيضاً عندما يرسل يسوع من جديد إلى هذا العالم ليحكم كملك الملوك ورب الأرباب.

Pages