November 2013

الخطاب ٤٩

الكرمة الحقيقية

"أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ. إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ. بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تلاَمِيذِي" (يوحنا ١٥: ١- ٨).

ظهر اقتراح، ووراءه سبب معقول، بأن ربنا المبارك قد تلفظ بهذه الكلمات بينما كان وتلاميذه يعبرون مدينة أورشليم بعد أن تركوا العلية ليخرجوا إلى جثسيماني. وإذ مروا بجانب الهيكل لاحظوا كرمة مذهبة منقوشة مشغولة جميلة على أحد أبواب الهيكل، فالتفت الرب يسوع إلى تلاميذه وقال لهم: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ". التركيز هو على كلمة "حقيقية". كان إسرائيل كرمة الرب. في المزمور ٨٠ نقرأ: "كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ". صورة الكرمة تلك تُستخدم مراراً وتكراراً في المزامير وفي الأنبياء لتُصور شعب إسرائيل. في فصل إسرائيل عن عالم الأمم كانت إرادة الله لكيما يكونوا شهادة له على الأرض، وليحملوا ثمراً له.

ليس للكرمة فائدة كبيرة إلا كحامل للثمار. لا يمكنك أن تبني منازل باستخدام خشب الكرمة. لا يمكنك أن تصنع منها أثاثاً. واستخدامها قليل جداً حتى كوقود، إذ عندما تلقيها في النار فإنها تلتهب لدقيقة أو اثنتين ثم تنتهي. خلق الله الكرمة لحمل الثمار فقط. والله أراد من بني اسرائيل أن يحملوا ثمراً له ليُمجدوا اسمه أمام كل شعوب العالم. ولكنه يقول بحزن، من خلال النبي هوشع: "إِسْرَائِيلُ جَفْنَةٌ مُمْتَدَّةٌ. يُخْرِجُ ثَمَراً لِنَفْسِهِ". أي أنه استنفد كل الخشب والأوراق، وليس فيه ثمار حقيقية لله. ويرسم أشعياء صورة الكرمة في الأصحاح ٥، حيث يقول الرب: "انْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً فَصَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً".

وهكذا فإن الله رفض تلك الكرمة الأرضية الدنيوية. فما عادت تقدم له شهادة للعالم. منذ دمار أورشليم صار شعب إسرائيل يعاني وتبعثر وسط الأمميين وحاول رغم ذلك أن يشهد للآخرين عن وحدة الله. كانوا يعترفون بإله حقيقي حي رغم ما عانوه من عبدة الأصنام. ولكن لم يؤدوا أي شهادة للرب من ناحية أن المسيّا هو المخلص الموعود الذي سيُرسل إلى العالم. لقد اكتفوا بحمل ثمار لأنفسهم.

متنبئاً بكل هذا مسبقاً، يقول الرب يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ". كان هناك إخفاق في كل شيء، ولكن يسوع كان ليشهد لله في العالم. كان عليه أن يحمل ثماراً لنفسه. إلا أنه كان ماضياً؛ لقد كان في طريقه لتوه إلى بستان الآلام، ومن ثم إلى قاعة المحاكمة، فالصليب، ومن ثم العودة إلى المجد. فكيف سيأخذ مكان إسرائيل في الشهادة وفي حمل الثمار في العالم؟

حسنٌ. إنه يقول: "جميع خاصتي هم أغصان في الكرمة، وسيحملون ثماراً لله هنا في العالم"، وهكذا يُصور نفسه على أنه الكرمة الحقيقية، ومن ثم فإن كل أولئك المفتدين لله بدم يسوع الثمين الذين وجدوا فيه مخلِّصاً ورباً، هم كأغصان في الكرمة الحيَّة هنا في هذا العالم وعليهم أن يحملوا ثماراً للآب.

والآن لاحظوا، الفكرة الأهم في هذه الآيات الثمانية هي حمل الثمار، وهذا مشروط بالشركة أو الصداقة مع الرب. إنه أمر مألوف لدى الناس الذين لديهم آراء عقائدية معينة في فكرهم، أن يحاولوا أن يُطبقوا تلك العقائد على كل جزء من الكتاب المقدس. فعلى سبيل المثال، الكالفينيون المتطرفون يعتبرون أن من المُسلّمات أن أي جزء من الكتاب المقدس يتناول ويؤيد عقائدهم الخمسة. ومؤخراً سمعت أنهم حولوا الأصحاح ١٥ من لوقا عن معناه الصحيح، فصار مثل الابن الشاطر يرمز إلى استرداد الإنسان المتردد في الإيمان. يقولون أن الابن كان دائماً ابناً، ومهما كانت الفترة التي كان فيها وسط الخنازير فقد ظل ابناً، إلى أن تاب أخيراً ورجِع إلى أبيه. لم يكن الرب يسوع يتكلم عن عقيدة الضمان الأبدي في لوقا ١٥. شخصياً ليس لدي أي شك في كتابية هذه العقيدة، ولكن في لوقا ١٥نقرأ أن الكتبة والفريسيين تذمروا وقالوا: "هذا الإنسان يستقبل خطأة، ويأكل معهم"، وأظهر يسوع أن في ذلك مجداً له، لأنه جاء يبحث عن الخطأة ويُخلّصهم. ثم أعطى مثل الخروف الضال ذي الجوانب الثلاثة وذهاب الراعي للبحث عنه؛ الدرهم الضائع والمرأة التي تبحث عنه، والابن الضال وترحيب الأب به عندما عاد. كل هذه قصد الرب بها أن يُشير إلى اهتمام السماء بالخطاة التائبين. ما الذي يقوله؟ "هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ"(لوقا ١٥: ٧). لم يكن يتحدث عن استعادة المتردد، بل خلاص الخاطئ.

حسناً، لقد كان فكر الكالفينيين المتطرفين منشغلاً جداً بأحد جوانب عقيدة الضمان الأبدي للمؤمن لدرجة أنهم كانوا يعتقدون أن المسيح حتى في لوقا ٥ كان يتناول تلك القضية.

أصدقاؤنا الأرمن الأعزاء، الذين يأخذون الجانب المتطرف الآخر، يخشون أن من يخلص، إن لم يكن شديد الحذر، قد يتعرض لأمر يُدمر علاقته مع الله، ولذلك يقولون: "ألا ترون، إن كان الغصن لا يحمل ثمراً فإنه يُقطع من الكرمة"، ولذلك يُصورون المسيحي على أنه ضال هالك إلى الأبد إن لم يحمل ثماراً. من جهة كان الرب يظهر نعمة الله نحو الخطأة، وفي هذه الحالة هنا كان يتكلم عن أهمية الشركة مع القديسين، وحمل الثمار كنتيجة لهذه الشركة. ولذلك يقول الرب يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ". الكرمة هو في الأعلى هناك، ولكننا على ارتباط بذاك الذي في السماء.

إنه يقول: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". "بِثَمَرٍ" و" بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". إن كنا أغصاناً في الكرمة الحية، إن كنا قد آمنا بالرب يسوع المسيح مُخلِّصاً، فعندها هناك أمر عظيم نُترك لأجله في هذا العالم ألا وهو أن نحمل ثماراً لمجد الله. ولكن قد يقول قائل: "ما الذي تقصده بالثمار؟" تخطر في بالنا معانٍ كثيرة لهذه الكلمة. في غلاطية ٥: ٢٢ نرى ثمار الشخصية المسيحية التي يضعها الروح القدس في حياة المؤمن: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ. كل هذه تُشكل ثماراً لمجد الآب. هل تُقر بأنك قد خلُصت بالإيمان بالرب يسوع؟ هل ثمر الروح القدس بادٍ في حياتكم؟ سيكون الأمر كذلك إن عشتم في شركة مع المسيح. ولكن إن تبدى عكس ذلك، فكونوا على ثقة بأنكم، ولو كنتم قد وضعتم على المسيح رجاء خلاصكم، فإنكم لا تعيشون في شركة مع الله. إن لم تكن هناك محبة بل قسوة ومكر وحقد، إن لم يكن هناك فرح بل كآبة، إن لم يكن هناك سلام بل اضطراب، إن لم يكن هناك طول أناة بل تململ، إن لم يكن هناك لطف بل فظاظة، إن لم يكن هناك صلاح بل شر أخلاقي، إن لم يكن هناك إيمان بل قلق ونقص بالثقة، إن لم يكن هناك حلم بل تكبر وتعجرف، إن لم يكن هناك ضبط نفس بل استسلام للَّذات ورغبات الجسد- فعندها تفهمون أنه مهما كان ما تعترفون به، فإنكم لا تعيشون في شركة مع الله. لأنه إن كنا نعيش في شركة معه ونسلك بقوة الروح القدس، فإن ثمر الروح القدس يتجلى في حياتنا.

ولكن عندها، الثمر سيكون أيضاً نتيجة الخدمة. نسمع أحياناً أن علينا أن نميز بين الثمر والخدمة، وهذا صحيح بمعنى ما من معاني الكلمة، ولكن إن كنتم تذكرون فإن الرسول بولس يكتب إلى أهل رومية قائلاً: "أود أن أزوركم ليكون لي بعض ثمار بينكم أيضاً". إنه يفكر في ربح النفوس الثمينة وبناء المؤمنين، وهذا أيضاً ثمر لأجل مجد الله. بالتأكيد، إن خلصنا فإن علينا أن نهتم بهذا الجانب من الثمار. علينا أن نسعى بذلك لتمجيد الله لكيما نحظى بفرح ربح الآخرين للرب يسوع المسيح. الخدمة شيء والثمر شيء لآخر، ولكن نتائج الخدمة المخلصة الصادقة ستكون ثماراً ثمينة تبقى إلى ذلك اليوم عندما سنقف أمام كرسي دينونة المسيح. كأغصان في الكرمة، نحن مسؤولون عن أن نأتي بثمر. علينا أن نعيش بحسب حالتنا أو وضعنا الحقيقي. علينا أن نكون حريصين بخصوص الاعتراف الذي نقدمه إن لم تكن حياتنا تدعم ما نعترف به. إن سمعنا الناس نتكلم عن خلاصنا بالنعمة، ولم يكن هناك دليل على ذلك، فإن الناس سيلقون بنا إلى النار ونحترق، فيما يختص بشهادتنا.

يقول أحدهم: "أرجو بالنعمة أن أحمل بعض الثمر لله، ولكنه يبدو ضئيلاً جداً". نعم، كلما تواضعنا أكثر، كلما أدركنا ذلك أكثر، وكلما شعرنا بأن الثمار ضئيلة. دعونا نتشجع من قول الرب يسوع: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". الآب هو الكرام، وهو دائما يُعنى بأغصان الكرمة الحيّة، وإن رأى بعض الثمار يقول: "هذا حسنٌ جداً، حتى الآن، ولكني أريد المزيد من الثمار أيضاً". إنه يُقلم ويطهر برذاذ الأسى والأسف العميق والحزن، لكي يجتذب قلوبنا إليه فتزداد ثمارنا لمجده.

أفترض أنه إن كان الغصن شيئاً مدركاً، وهو شيء حي، وإذ يدنو الكرام إليه بشفرات المجزّة ليقص ويقطع، ثم لينشر الرذاذ باستخدام مادة سامة ما لكيما تهلك كل أنواع الشر المنغرسة في النفس، فعندها يقول الغصن: "يا عزيزي، صارت المسؤولية عليَّ الآن. كم سأعاني، وكم سأتألم، وكم سأتعذب بسبب التقليم، وكم من خطر سأتعرض له من وطأة الرش!" ولكن الغصن سيتعلم بمرور الوقت أن ذلك كان لأجل بركة متزايدة وثمار أفضل.

هكذا هي الحال في كل تعاملات الله معنا. يجب أن لا نتثبط إذا ما دُعينا للمرور بمحن قاسية جداً. أنتم قلتم أنكم تريدون أن تسلكوا مع الله، أنتم أردتم أن تعيشوا لأجله، أنتم أردتم أن يتعظم المسيح في خبراتكم، سواء في الحياة أو في الموت. لعل الله يعطيكم خبرات معينة غريبة ومريرة جداً لكيما تتحقق أمنيتكم هذه.

"سألت الله أن أنمو
في الحياة والإيمان وكل نعمة،
وأن أعرف المزيد من خلاصه
وأن أطلب وجهه بجد أكبر.
هو الذي علمني أن أصلي هكذا،
وأثق أنه يستجيب لصلواتي،
ولكنها كانت بطريقة عجيبة
إذ كنت على وشك أن أيأس".

إننا نسمع صوت روح الله يقول: "أيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا الْبَلْوَى الْمُحْرِقَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ امْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا". إنه أمر ممتع جداً، إنه أمر لافت للانتباه، أن الله في هذا العالم يبدو وكأنه يعامل أفضل أصدقاءه بأسوأ طريقة، وفوق ذلك فإنه يعامل ابنه أسوأ من الجميع. ولذلك عندما نضطر للمرور بمحنة شديدة، مياه غائرة وأحزان كثيرة، فهذا لا يكون دليلاً على أنه لا يحبنا، أو أنه لا يُعنى بنا أو يهتم لأمرنا. لقد أحب ابنه- أليس كذلك؟- أكثر مما أحب أي إنسان آخر في نفس تلك اللحظة التي صرخ فيها يسوع: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ولكن الثمر الثمين كان:

"موته من الألم والأسى،
كما ولادته،
لا يعوزها مجدٌ،
ولا جلال من الأرض".

وهكذا يُقلّم الآب ويُطهر الأغصان في الكرمة الحية لكي نأتي بمزيد من الثمار. قال يسوع: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ". لقد كان يخاطب تلاميذه. لقد كانوا أنقياء بغسل الماء بالكلمة، من خلال غسل التجديد والتجدد بالروح القدس. كانوا أنقياء، وتوجب عليهم الآن أن يثبتوا فيه، مُطهرين بالكلمة، مدركين أهمية الشركة. "اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ". "الثبات" (في المسيح) يعني "الشركة". "كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ".

كم ننسى ذلك! يخرج الكارز إلى جمهوره ليواجه جمهوره الذين طالما كرز لهم عبر السنين، وغالباً من نفس المقطع الكتابي. يخرج بثقة بالنفس، متناسياً الحاجة إلى الصلاة، وأن يكون في حضرة اللهن لبعض الوقت وهو يسبر أغوار قلبه لئلا يكون هناك أي شيء أو أي تجذر للكراهية والمرارة قد يعيق عمل روح قدس الله. يهرع إلى المنصة ويلقي عظته- ولكن لا يحدث شيء. لا شيء يحدث لأنه لم يكن مقيماً عن وعي في الكرمة الحية.

لعلكم سمعتم قصة كارز شاب دُعي ليرعى كنيسته الأولى. كان قد خرج لتوه من كلية اللاهوت وكانت لديه ثقة كبيرة بقدرته الذاتية. كان قد تخرج بدرجة شرف، وكان الجميع يشعرون بأنه سيكون بمستوى هنري وارد بيشر. راح الناس ينظرون إليه وهو يدخل إلى منبر الوعظ موحياً بشعور العظمة لديه. فقرأ النص الإنجيلي، وفجأة طارت العظة من رأسه. نسي كل شيء. فقرأ النص من جديد، ومع ذلك لم يستطع أن يتذكر العظة التي كان ينوي تقديمها. وحاول للمرة الثالثة قائلاً: "أريد أن أقرأ النص مرة أخرى"، آملاً أن يتذكر العظة. ولكن دون جدوى، فنظر إلى الجمهور وقال: "أنا آسف، ولكني لا أستطيع أن أتكلم إليكم هذا الصباح". ونزل عن الدرج ورأسه محني وخطواته متعثرة. اقترب موظف في الكنيسة كبير في السن منه وقال له: "يا بني، لو صعِدت إلى المنبر كما نزلت، فربما نزلت كما صعِدت".

أترون، إنه لمن السهل بمكان أن نكون واثقين بأنفسنا وأن نعتقد، وبما أننا قد فعلنا الأمر قبلاً، أنه يمكننا أن نفعله من جديد، وهكذا ننسى الحاجة إلى السكنى الدائمة، وأن نكون دائماً أمام الله في الشركة. والحال نفسه هو في كل تفصيل من تفاصيل الحياة المسيحية. لقد تمتعنا ببركة ويوم انتصار عظيم، وبقوة ذلك نحاول أن نحيا في اليوم التالي، متناسين في زحمة الأمور الحاجة الماسة لأن نكون أمام الله، لأن نمضي وقتاً هادئاً أمامه. ثم يأتي الفشل والإخفاق والتحطم، فينكسر فؤادنا ونتساءل عن ماهية الأمر. إلا أن يسوع يقدم لنا الجواب: "كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لاحظوا الترتيب في الآية ٢: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ"، ثم في الجزء التالي: "يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". وانظر الآية ٥: "الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". إذاً لدينا "ثمر"، "ثَمَرٍ أَكْثَرَ"، و"ثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لطالما عرفنا أناساً ساروا مع الله في الأيام الأولى، وعاشوا متكلين على الرب، وتمتعوا بالشركة والصحبة معه بشكل رائع، مظهرين ثمر الحياة الروحية، فاستخدمهم الله، وربحوا نفوساً للمسيح، وهكذا قدموا ثماراً لحياة تُمجد الآب. ثم يحدث شيئاً ما. لا أحد يعرف ما يكون قد حدث. ففي الظاهر تكون الحياة على ما يرام، والعظات تكون واضحة ومؤثرة، ولكن فجأة لا يعود هناك نكهة للمسيح فيها، ولا يعود هناك ما يدل على السير في الشركة مع الرب؛ ولا نجد قوة ولا بركة. إن إرادة الله هي أن تزداد الثمار لا أن تقل مع مرور السنين. ويقول الرب عن القديسين القدماء الذين ساروا مع الله عبر السنين في المزامير: "أَيْضاً يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ". ولكن هذا يحدث فقط إذا ما تابعنا المسير باتضاع أمام الله.

يا له من أمر محبب أن نرى قديس الله، رجل أو امرأة ينمو في النعمة. هناك بعض من الناس الذين يكبرون في السن ويبدو أنهم يتخذون من تقدم العمر وأمراضه وأسقامه مبرراً لسرعة الغضب والنقد اللاذع وكل تلك الأشياء التي تجعل التعامل معهم أمراً صعباً. ولكن يا له من أمر جميل أن ترى الناس ينزلون إلى الوادي وينظرون إلى ما وراء النهر نحو المدينة السماوية ومجد السماء مشرق في وجوههم، والإيمان بالله يتملّك قلوبهم، ونعمة المسيح متجلية في حياتهم! كانت حياتهم حافلة بحمل الثمار. "ثمر"، "ثمر أكثر"، "ثمر كثير".

إن أخفق المرء هنا، إن لم يكن هناك شركة، إن لم تُحفظ الصداقة والعلاقة مع الرب، إن أُهملت كلمة الله، فإن الشهادة ساعتئذٍ تكون بلا قيمة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ". الناس يتجاهلون بالكامل شهادة أولئك الذين يعترفون بأنهم أتباع المسيح ولكن لا يعيشون في شركة مع الله، ولا يتجلى فيهم روح المسيح. فشهادتهم تصبح بلا أهمية.

كنت أحاول أن أتحدث إلى فتى عزيز نشأ في عائلة أفترض أنها مسيحية، فقلت له: "أليس والدك مسيحياً؟" فأجاب بحركة تهكم من شفتيه قائلاً: "هو يقول أنه كذلك؛ ولكني لا أعتقد ذلك". لقد كان واضحاً أن شهادة ذلك الآب لم تكن ذات قيمة بنظر ابنه. لطالما يحاول الناس أن يقولوا شيئاً لأجل المسيح، تدفعهم الرغبة لمساعدة نفس بائسة محتاجة، يريدون أن يقولوا الكلمة الصائبة، ولكن إن لم تكن حياتهم منسجمة مع الكلمة، فالحال يكون كما قال إميرسون مرة: "ما تقوله صوته أعلى مما أستطيع أن أسمع".

الحياة التي تُعاش في شِركة مع الله تعطي قوة للرسالة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ"، والناس يزدرون بهكذا اعتراف ويرفضون شهادته.

من جهة أخرى، "إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ"- وهنا السر- "يَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ". من أين نحصل على تلك الكلمات؟ من هنا تماماً من كتاب الله المبارك. وهكذا فالمؤمن الذي يمكث في المسيح هو الذي يتغذى على الكلمة، وليس لديه حقائق نظرية فقط. بعض الناس، إذا ما انفصم عنقهم، يفقدون كل الحق عن الله؛ ولكن آخرين تنفصم رؤوسهم وتبقى الحقيقة في القلب.

"إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ". فها هنا إذاً سرّ الصلاة المستجابة. لماذا نسأل الله أشياء كثيرة ولا يستجيب لنا؟ لماذا لا تصل الكثير من صلواتنا إلى السماء؟ حسنٌ، ذلك لأننا لا نمكث في المسيح. لم يعد الله أبداً بأن يستجيب لصلوات أولئك الذين هم خارج الشركة.

"بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تلاَمِيذِي". أفلا نجابه قلوبنا ونتساءل: "هل أمكث أنا فعلاً في المسيح؟ هل أعي وأدرك ما يمنع الشركة مع الرب، وما الذي يطرأ فيجعل صلاتي صعب سماعها، وكأن السماء تصبح نحاساً صلداً؟" إن كان كذلك، فليعطنا الله النعمة لنعقُل ذلك، ولا نهتم بأي شيء يعيق علاقتنا معه فنكون على استعداد أن نقتلع عيننا أو يدنا إن اقتضى الأمر، فلا يبقى في حياتنا ما يعيق الشركة مع المسيح؛ وبذلك نحمل ثمراً كثيراً لمجد الآب.

الخطاب ٥٠

السكنى في المحبة

"كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ. كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ. «هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ. لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي. بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً" (يوحنا ١٥: ٩- ١٧).

لقد أعطانا الروح القدس امتيازاً عظيماً بأن سمح بتدوين هذا الخطاب الرائع الأخير لربنا يسوع المسيح وحفِظه على مدى القرون والعصور، لكيما نستمع اليوم إلى الأمور العظيمة الحانية المباركة التي قالها لتلاميذه قبيل خروجه إلى الجثسيماني ومن هناك إلى قاعة المحاكمة فالصليب.

هل فكرتم يوماً في عظمة هذا الأمر أنه بعد مضي أكثر من أربعين أو خمسين سنة على الرسول يوحنا نجده يكتب سرداً كمثل هذا بكل تفصيل. هذه الكلمات نطق بها ربنا حوالي العام ٣٠ ميلادية، ومن المفترض أن يوحنا قد كتب هذا الإنجيل في مكان ما خلال العقد الثامن أو التاسع من القرن الأول في العهد المسيحي عندما كان شيخاً طاعناً في السن يعيش في أفسس. لقد ذكرت قبلاً أن أحد آباء الكنيسة الأوائل يخبرنا أن يوحنا كان مراهقاً عندما دعاه يسوع، ولذلك فإننا لا ننذهل عندما نعلم بأنه عاش مطولاً أكثر من بقية التلاميذ. فبطرس، على سبيل المثال، أمضى حوالي ثلاثين أو أربعين سنة بعد المسيح عندما كتب يوحنا هذا الإنجيل. وبولس، الذي لم يعرف يسوع على الأرض، مات شهيداً قبل سنة أو سنتين. ونعلم أن متى كان قد قُتل برمح في سكيثيا، وتوما قُتل في الهند حيث كان قد مضى ليكرز بالمسيح. وكل بقية الجماعة المسيحية كانوا قد ذهبوا إلى المسيح في السماء منذ فترة طويلة. كان يوحنا هو الوحيد المتبقي، وأمكنه أن يرجع بذاكرته إلى الوراء وأن يفكر في ذلك الزمن عندما كان يرافق الرب يسوع المسيح هنا على الأرض. وبحث من الروح القدس جلس وكتب هذا التدوين الرائع.

يقول: "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". يعطينا يوحنا تفاصيل عن محادثات المخلص لا نجدها في أي مكان آخر؛ فنرى حواره الطويل مع نيقوديموس، ومع المرأة عند البئر ومع شخصيات أخرى كثيرة. والآن في هذا الأصحاح الرائع، ١٣ إلى ١٦، لدينا خطابه الأخير، وصلاته كرئيس كهنة في الأصحاح ١٧، جميعها مدونة بتفاصيل مذهلة كتبها يوحنا بعد انقضاء حوالي نصف قرن من حدوثها. هل تساءلتم يوماً: "كيف أمكنه ذلك؟" إننا في حاجة لأن نتذكر كلمات الرب نفسه: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ". وهكذا فعندما جلس يوحنا ليكتب هذا الإنجيل، لا شك أن هذه الأشياء التي كانت قد صارت باهتة بمرور السنين قد حضرت إلى ذهنه بقوة بإرشاد روح الله، الذي أمكنه أن يعيد صياغتها تماماً كما نطق بها الرب يسوع.

لقد سمح لنا هذا الإنجيل بأن نتخيل أننا جالسون في تلك العلية مع الرب وتلاميذه وأننا نطأ معه إلى بستان الآلام. وهنا نسمع ما يكشفه لنا من أمور مباركة تنبع من قلبه المحب الحنون. لاحظوا الآيات ٩ و١٠، التي ظهرت فيها محبة المخلّص لهم. إنه يقول: "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ". يقول يسوع: "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا". ونجد الجانب الآخر في الأصحاح ١٧ عندما يقول: "وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي". الله، الآب، يحبنا- نحن المؤمنين بالرب يسوع- كما يحب ابنه. الرب يسوع المسيح يحبنا كما يحب أباه. يا لها من حلقة رائعة من الحب!

"في تلك الحلقة من حنو الله،
حلقة محبة الآب؛
الجميع يسكن ويستقر إلى الأبد،
وكل شيء بملء كمال العلا".

أن تتكلم عن المحبة شيء وأن تظهرها شيء آخر. قد أقول أني أحب أمي، ومع ذلك أرفض أن أفعل أي شيء من أجلها عندما تكون مريضة. هكذا محبة ليس لها كبير قيمة. أنا أب، وأقول إني أحب أولادي، ولكني قد أكون مأخوذاً بأمور الدنيا كثيراً حتى أعجز عن رفع يدي لتقديم المساعدة لهم عندما يحتاجونها. المحبة تتجلى بعمل خير فعال وبالطاعة. يقول الرب يسوع: "إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي"، أي نثبت بشكل واع مدرك في معنى حبه. لقد كانت مسرة قلبه أن يصنع مشيئة الآب. وإنها لمسرة لقلوبنا أن نصنع إرادة الرب يسوع المسيح إن كنا فعلاً نحبه.

لقد سمعناه لتونا يقول: "سلامي أعطيكم". والآن في الآية ١١، يتكلم عن مشاركة الفرح معنا. "كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ". نعلم من الكتاب المقدس أن فرح الرب هو قوتنا. الفرح هو أكثر من مجرد سلام. الفرح هو سلام يطفح. الرب يريدنا أن نكون أناساً سعداء فرحين. هو نفسه كان هكذا. صحيح أنه كان المتألم، رجل الأوجاع، ولكننا لا نشعر أبداً، خلال قراءتنا لأناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، أننا نقرأ عن رجل حزين، بل في كل جزء نقرأ عن ذاك الذي كان ممتلئ القلب بالفرح. مهما كانت الأحوال من الخارج أو كان يستطيع أن يجد فرحه في الآب، وفي نفس الوقت الذي اضطُر إلى إدانة المدن الذي أنجز فيها معظم أعمال اقتداره، نقرأ: "في ذلك الوقت قال يسوع: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال»". إنه يقول، بمعنى آخر: "إن أقمتم فيلا الشركة معي، وجعلتم من هدف حياتكم أن تمجدونني، فإنكم ستشاركونني فرحي؛ والفرح نفسه الذي لي يكون لكم، لكي يكون فرحكم كاملاً". لعلكم تقولون: "أي وصية يقصد؟" أي وصية؟ "هذه وصيتي، أن يحب بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". أترون، إن حفظتم تلك الوصية، فكل شيء آخر سيكون على ما يرام، سوف لن تُحزِنوا قلب الله إن أحببتم بعضكم بعضاً. المحبة هي تحقيق الناموس. فليتنا نفحص أنفسنا أكثر. ليتنا نسأل أنفسنا: "هل أفعل ذلك الآن لأني أحب أخي؟ هل سأقول  ذلك لأني أحب أخي، أم أنني أقوم بالأشياء على هواي ولو تضاربت مع المحبة؟" المحبة تستر خطايا كثيرة كما يقول لنا الكتاب. إن كنت أحب أخي، فلن أريد له الأذى، ولن أخذله أو أجلب العار له. حتى إذا ما كان مذنباً وارتكب الخطأ، يجب أن أذهب إليه وأن أسعى لاسترجاعه بمحبة حانية. إننا ننسى ذلك كثيراً، ونتعامل مع بعضنا البعض بدون اهتمام، لو تعامل الله معنا كما نتعامل مع بعضنا البعض، فسيكون أمراً قاسياً صعباً علينا. ولكن يا لغزارة محبته! المحبة التي تستر، المحبة التي تعنى بنا بالنعمة. هل فكرتم يوماً أنه لو سُلط الضوء على ما تفعلون في الخفاء فستكونون عاجزين عن مواجهة العالم؟ أشياء كثيرة عليكم أن تذهبوا بها إلى الرب، وهو لطالما سترها. يا لرحمته! هل نتعامل مع إخوتنا بهذه الطريقة؟ بالمحبة التي تستر؟ "هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ". هنا إذاً يكمن الاختبار الأعظم لمحبته. يقول يوحنا الرسول: "علينا أن نضع حياتنا لأجل الأخوة". إن واجبنا أن نمضي في المحبة حتى لدرجة أن نضحي بأنفسنا لأجلهم. فهل نسلك على هذا الشكل؟ هذا ما فعله يسوع. وأمكن لبولس أن يقول: "أحيا في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلا ٢: ٢٠).

قبل سنوات كثيرة كان مرسَل في الصين منشغل بالعمل على ترجمة العهد الجديد إلى اللغات الصينية. كان لديه تلميذ متفوق يساعده، وهو كونفوشيوسي لم يسمع بالمسيحية على الإطلاق إلى أن أشركه هذا المُرسَل في العمل على الترجمة. كان يجلس معه يوماً فيوماً، ومعاً كانا يمران على العهد الجديد صفحة صفحة وآية آية. كان التلميذ الصيني يقترح الكلمة الصينية المناسبة ليجعل المعنى واضحاً. كان المرسَل شخصاً مجتهداً وتواقاً لإنجاز ترجمة رائعة. كان يعتقد أن ثمة أمر يجب ألا يفعله، ألا وهو أن يتحدث بالدين إلى مساعده. ولذلك كان منتبهاً جداً، ولم يقل أي كلمة للرجل عن حاجته إلى المسيح وخلاص نفسه. ولكن عندما انتهيا من الترجمة في نهاية الأمر، رأى أن عليه أن يقول شيئاً. فقال: "لقد قدمت لي عوناً كبيراً ما كنت لأستطيع إنجاز العمل لولاك، والآن أود أن أسألك، إذ قد أنهينا العهد الجديد، ألا تروق لك المسيحية الجميلة؟ ألا تود أن تكون مسيحياً؟" نظر الدارس إليه وقال: "نعم، إنها تروق لي، إنها أروع نظام أخلاقي وفلسفي عرفته. أعتقد أني لو رأيت مسيحياً ولو لمرة لكنت صرت مهتماً بأن أصير مسيحياً". فقال المرسَل: "ولكني مسيحي!" فقال الدارس الصيني: "أنت مسيحي؟ لا. عذراً، لا أريد أن أجرحك، ولكني رأيتك وأصغيت إليك طوال الوقت. أنت لست مسيحي. لأنه إن كنت أفهم المسيحية فهماً صحيحاً، فإني أظن أن المسيحي هو تابع ليسوع، ويسوع يقول: إني أعطيكم وصية جديدة، أن يحب بعضكم بعضاً. ولكني استمعت إليك تتكلم عن الآخرين الذين ما كانوا حاضرين، فتستغيبهم وتقول عنهم أشياء سيئة. أنت لست بمسيحي. ثم لاحظت أيضاً أن المسيحية تعلّم الثقة المطلقة، وترجمت لك مقطعاً يقول: "يملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع"، فالمطلوب منك أن تثق بالله وأن لا تخاف، ولكنك لم تفعل كذلك. فإن تأخر وصول الحوالة المالية إليك تصبح قلقاً بشكل مخيف وتتساءل عما ستفعل". وتابع يسرد له عدداً من الاشياء على هذا النحو، وانتهى بالقول: "ومن هذا أستنتج أنك لست مسيحياً. وأعتقد أني لو رأيت مسيحياً لوددت أن أكون مثله".

يا للمرسَل البائس المحطم الفؤاد! راح يبكي أمام الرب قائلاً: "آهٍ، لقد كنت مهملاً". وجثى على ركبتيه وطلب المغفرة عن برودة إيمانه والإهمال. ذهب التلميذ وهو يقول: "أتساءل، في نهاية الأمر إن لم أكن قد رأيت مسيحياً". كما ترون، المسيحيون ليسوا كاملين كما يتوقع العالم، ولكن علينا أن ننمو أكثر لنشابه معلمنا كل يوم.

"لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ". هكذا يقول يسوع. نحن لا نصبح مسيحيين بأن ننفذ وصاياه، ولكننا نصبح أصدقاءه بشكل جلي بإطاعة كلامه. إننا نظهر أننا أصدقاء حقاً للمسيح إن سلكنا في الطاعة.

"لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي". يريد يسوع أن يقول: "أريد أن أخذكم في عهدتي وأجعلكم موضع ثقتي". "قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي". أنتم تعرفون كيف تشعرون تجاه أصدقائكم. معظمنا ليس لديه الكثير من الأصدقاء. لدينا بضعة أناس نسكب ما في قلوبنا أمامهم، ونتحدث إليهم وعنهم كأصدقاء لنا. لا نحب أن نشارك أسرارنا مع أي إنسان. ولكن عندما يكون لدينا صديق حقيقي حميم، فإننا نحب أن نتشارك أسرار قلبنا مع ذلك الصديق. ومن هنا يقول الرب يسوع المسيح: "أدعوكم أصدقائي". آهٍ، كم يفتح يسوع قلبه ويعرف أصدقاءه بالأشياء الثمينة التي لديه.

وأمر آخر، نحن نعطي لأصدقائنا امتيازات لا نعطيها للغرباء. ومن هنا يقول الرب: "أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي". بمعنى آخر، إنه يريد خاصته أن تدخل إلى شركة عميقة حميمة ورفقة معه لكي يذهب إلى الآب باسمه، وكأصدقاء يرفعون باسمه طلباتهم، وسيُسر الآب بسماعها وتحقيقها، لأنها تمجد اسم يسوع.

قد يكون لدي صديق وأكتب ملاحظة صغيرة أقول له فيها: "سأعرفك إلى فلان، الذي هو أيضاً صديق لي. إن كنت تستطيع أن تفعل كل ما يُرضي هذا الصديق، فإني سأعتبر كأنك قد فعلت هذا من أجلي". فيذهب ذلك الشخص إلى صديقي الذي يقول له: "أنا صديق له، وسأكون صديقاً لك". هذا ما يقوله يسوع. إنه يقصد القول: "أخبروا الآب أني أرسلتكم". كما ترون، فإن بعض الناس يعتقدون أن الصلاة باسم يسوع تعني ختم الصلاة بالقول: "هذه الأشياء نطلبها باسم الرب يسوع المسيح وكرمى له". إن كنت غير مخلص فليس مسموحاً لك أن تذهب إلى الله باسم يسوع. وإن كنت في شركة مع الله فلست مخولاً لأن تذهب إلى الله على هذا الشكل. الناس الذين يعيشون في أنانية يعيشون دنيوياً فلا يسمح لهم بأن يذهبوا إلى الله على هذا الشكل. إن مكثتم فيه يمكنكم أن تذهبوا إلى الاب بسلطة ابنه وهو سيقود طلباتكم في الصلاة. إنه يُسر بأن يجيب صلواتكم، إذ بإجابته لها يظهر محبته لابنه المبارك وثقته به.

ولكن هناك شيئاً في الآية ١٦ يجب ألا أغفله. ما الذي يقصده؟ "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ". ألم يختاروه؟ ألم تختار المسيح؟ نعم، ولكن ليس قبل أن يختاركم.

"لست أنا الذي اخترتك،
فلا يمكن هذا يا رب؛
فهذا القلب سيبقى رافضاً لك،
ولكن أنت الذي اخترتني.
إنه نفس الحب الذي نثرته عند الوليمة،
ذاك أُخِذت به برفقٍ،
وإلا لبقيت رافضاً لك،
وهلكت في خطيئتي".

قبل أن يميل قلبي إلى المسيح، لمسني الرب بروح قدسه المبارك، وأخيراً عندما ركعت أمامه وأتيت إليه في توبة، وصرخت إليه في خزي أن: "خلصني يا رب وإلا فإني هالك"، أخذني إليه وجعلني خاصته.

ومن ناحية الخدمة، إنه هو الذي اختارني لهذه الخدمة أو لذاك العمل الخاص. وهو الذي يختار مجال خدمتي، سواء كنت في الوطن أو في الخارج. أنتم تذكرون ذلك الرجل الذي أراد أن يتبع المعلم، كيف أن الرب قال له: "لا. بل اذهب إلى بيتك، وأظهر كم عمل الرب معك من أمور عظيمة". يمكننا أن نمجد المسيح في أي مكان نكون فيه وعلينا أن ندرك أنه اختار لنا تلك المهمة لنؤديها. "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ".

يقلق كثيرون من ناحية الإقامة (الرسامة). يسأل البعض: "هل يحق لمن ليس مرسوماً أن يعظ أو يكرز؟" في هذا السفر (إنجيل يوحنا) لا نقرأ عن أناس يُرسمون ليكرزوا بالإنجيل. لا نسمع أي ارتباط لكلمة "سيامة/ إقامة" بفرز أو تكريس فعلي لإنسان ما للكرازة بالإنجيل. ماذا عن الشهادة؟ ولا تستخدم كلمة "أقام" في حالة الشهادة. لعلكم تقولون: "ولكن هل نسيت بولس وبرنابا؟" لا. ذلك لأنهما كانا ما برحا يكرزان في أنطاكيا لزمن طويل قبل أن يضع الشيوخ عليهما الأيدي. لم يعطهما أحدٌ أي سلطان لخدمة سيامة لينطلقوا ويكرزوا بالإنجيل. كان هذا الحق مقصوراً على الرب يسوع. لقد قال: "أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ". إن كلمة "أقمتكم" تعني "فرزتكم أو كرستكم". "اخترتكم". وحسنٌ لو نستطيع القول:

"المسيح، ابن الله، أرسلني،
خلال أراضي الظلمات؛
كرسني القدير
بيديه المثقوبتين".

تلك هي السيامة بحق. كل ما يمكن للشيوخ أو للآخرين أن يفعلوه هو أن يقروا أو أن يعترفوا بما يكون الله قد فعله لتوه. قال الرب فيما يخص بولس، عندما كان لا يزال شاول الطرسوسي: "هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل". وقال لبولس نفسه: "ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سأظهر لك به". إن الرب نفسه هو الذي يصنع الخدام، هو الذي يعطي للناس أولاً أن يعرفوا المسيح مخلص لهم، ثم يكرسهم ويرسلهم للكرازة. "أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي".

ويختم هذا الجزء المعين بهذه الكلمات: "بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". آهٍ، هذا هو الاختبار النهائي. المحبة هي الدليل على النعمة الفاعلة في نفوسنا. وهكذا يختتم المقطع كما بدأ.

الخطاب ٥١

ليس من العالم

"إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كلاَمَكُمْ. لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ. اَلَّذِي يُبْغِضُنِي يُبْغِضُ أَبِي أَيْضاً. لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبْتِدَاءِ" (يوحنا ١٥: ١٨- ٢٧).

هذه الكلمات توقِع في النفس مهابة وجلالاً عندما نتذكر حقيقة أن الرب يسوع المسيح هو الذي نطق بها عندما خيم على طريقه الظل المعتم للصليب، الذي كان يعبر عن كراهية العالم له. فمسبقاً رأى الجلجثة حيث، من كان بلا خطيئة، سيصير خطيئة لأجلنا. وهناك سيختبر كل الكراهية والحقد الذي عند البشر، وقد حثته قوة الشيطان، فيثقل عليه. لم يكن متوهماً فيما يخص مستقبله. لقد عرف من البداية كيف ستكون خاتمة خدمته على الأرض. لقد جاء من السماء ليختمها على ذلك النحو. وكان قد قال قبلاً بزمن طويل: "ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين". لقد كان يعرف أنه سيلاقي رفضاً من كل جانب، ولكنه جاء ليموت عن أولئك الذين أبغضوه، عن أولئك الذين داسوا على محبة الله ونعمته متبديتين فيه.

والآن يدعو أولئك الذين آمنوا به ليسيروا معه، مدركين حقيقة أن هذا الشر الذي لا شفاء منه الذي في نظام العالم لا يمكن تحسينه بل سيبقى دائماً وأبداً ضد الله. تخيل الكثير من المسيحيين أن هذا يمكن تحسينه. وافترض كثيرون أن برنامج الكنيسة هو أن تجعل العالم أسمى وكذلك أفضل. ولكن عندما تنظرون إلى هذا العالم اليوم بعد ألفي سنة من الكرازة بالإنجيل، ستجدون انه نفس العالم الشرير. وأن الشر قائم حالياً كما كان في الماضي. يسأل الناس: "ولكن أليس العالم أفضل، لأن فيه الآن ملايين عديدة من المسيحيين؟" إنهم ينسون أن المسيحيين ليسوا من العالم، لأن الرب يسوع المسيح يخبرنا هنا أنه قد اختارنا من العالم. ولذلك فعندما تريد أن ترى إذا ما كان العالم أفضل مما كان عند صلب رب المجد، أسقِط الكنيسة وكل ما يتعلق بها، وعندها ستجد أن ما تبقى هو العالم ببشاعته الشديدة وكراهيته لله- العالم الشرير اليوم هو تماماً كما عندما صرخ ممثلوا هذا العالم في قاعة محكمة بيلاطس قائلين: "ليس لنا ملك سوى قيصر"، وعن يسوع قالوا: "اصلبه. اصلبه". وهكذا تأتي هذه العوالم إلينا، "إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ". وعلينا أن نتذكر أننا نبدأ حياتنا المسيحية باختيارنا لذاك الذي يرفضه العالم. إننا نتوحد به، بالإيمان. ولذلك يقول روح قدس الله في مكان آخر أن "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد".

يرتبك بعض الناس عندما نستخدم هذه الكلمة، "العالم"، ويسألون: "ما الذي تقصدونه تماماً عندما تقولون أن على المسيحيين ألا يحبوا العالم وأن يسوع اختارنا من العالم. أي عالم تقصدون؟ هل تقصدون الكون؟" لا. "هل تعنون الكرة الأرضية؟" لا؛ ليس كذلك. "ماذا إذاً؟" إننا نقصد هذا النظام البشري الذي أدار ظهره لله. هذا هو العالم. وذلك العالم، أكرر قائلاً، هو نفسه اليوم كما كان سابقاً ودائماً، وعندما يحاول المسيحي أن يكون صديقاً للعالم، فإنه يجعل من نفسه، على الأقل من خلال هذا التصرف، عدواً لله. يستخدم الكتاب المقدس لغة قاسية شديدة في حديثه عن أولاد الله الذين يحاولون أن يصادقوا العالم. وفي رسالة يعقوب نقرأ: "أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله؟ فمن أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله". لقد عهدنا بأنفسنا لذاك الذي يرفضه العالم. ومن هنا، فإننا نرتكب الزنى الروحي إذا ما رمينا بأنفسنا في حضن العالم الذي رفض المسيح. ليت كل مسيحي يدرك أنه مختار من العالم. لو فهمنا فقط الطبيعة الإلهية في دعوتنا لما كنا لنطرح كل تلك الأسئلة عما إذا كان هناك ضير في هذا أو ذاك. السؤال الكبير المهم يجب أن يكون: "هل هذا من الآب، أم هو من العالم؟" إن كان لمجد الله، فيمكنني أن أتابع فيه بسرور، وإن لم يكن كذلك، فلا يجب أن يكون لهذا الشيء وجود في حياتي كمسيحي.

هذا العالم يكره المسيحية. ونرى الكثير من الأمثلة عن ذلك اليوم. يا للمعاناة التي يعانيها المسيحيون في أماكن مختلفة من العالم اليوم حيث كانوا قد لاقوا ترحيباً فيما مضى! قبل بضعة سنوات كانت اليابان تناصر المسيحية من كل القلب، واليوم يعلنون أنها عدو الدولة. وآخر ما سمعناه أن المرسلين المسيحيين يطالبون بمغادرة تلك الديار. لماذا؟ لأن هم يعرفون أن المسيحية هي النقيض تماماً للنظريات التي يطرحونها الآن، والتي بها يأملون أن يسيطروا على شرق آسيا. نرى نفس الموقف عند قوى عالمية قوية أخرى. لا يزال المسيح مبغضاً. المقاومة له تزداد كثافة وقوة. ينبغي علينا أن نطرح لأنفسنا سؤالاً عما إذا كنا مستعدين لأن نقف مع يسوع ولأجله مهما كان موقف الناس المحيطين بنا. إنهم يكرهون ربنا. إنهم يكرهون نعمته ومحبته ولطفه لأنها تعكس وتفضح كبرياءهم وروح العداء عندهم التي تتعارض مع تواضع يسوع. يمقته الناس لأجل اتضاعه.

يقول: "لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ". يا للروعة أن نكون مختارين من العالم! إني على يقين أننا عندما ننظر إلى الأمام ونفكر بالدينونة، يمكننا أن نشكر الله لأننا مختارون من العالم.

ولكن ما الذي نقوله عن أولئك الذين يرجون أن يُعتقوا ويتحرروا والذين يعترفون أنهم مسيحيين، ولكن يسعون وراء كل المتع والمسرات التي يمكن أن يقدمها لهم العالم. قد يفكر المرء بلوط وعائلته الذين عاشوا في الماضي البعيد. لقد انتقلوا إلى سدوم لكي يشتركوا في الدنيويات، إذ ملوا من حياة العزلة وهم يعيشون هناك فوق التلال في فلسطين. وهكذا انحدروا شيئاً فشيئاً إلى أن صاروا محتجبين في سدوم. ثم جاء اليوم عندما صارت دينونة الله على وشك أن تقع على تلك المدينة الآثمة فجاء الملائكة حاملين الرسالة أن: "اُهرب لحياتك. لا تنظر الى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب الى الجبل لئلا تهلك". يخبرنا الكتاب أن الملائكة أمروا لوط أن يذهب إلى أقرباءه في المدينة، الرجال الذين تزوجوا من بناته، وأن يخبرهم أن الدينونة ستقع في اليوم التالي. ولكنهم هزأوا بلوط عندما تكلم إليهم عن الدينونة. لماذا؟ لأنه كان قد عاش تماماً مثل سائر الناس. والآن اعتقدوا أنه قد فقد عقله. هل نعيش أنت وأنا بطريقة تجعل شهادتنا جديرة بالاعتبار لدى الناس عندما نحذرهم لأن يهربوا من الغضب الآتي، أم أننا نعيش قرب حافة العالم فنشابه من حولنا مما يجعل الآخرين يشكون فيما إذا كنا نؤمن حقاً بما نعترف به. يا أحبائي، إن كان هناك يوم يدعونا الله فيه لأن ننفصل عن هذا العالم، فهذا اليوم هو اليوم. "اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اِضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كلاَمَكُمْ". هنا لدينا المجموعتين، أولئك الخاضعين له وأولئك الذين يرفضون الإقرار بسلطانه. الخطوط تتقارب أكثر فأكثر وسيزداد تقاربها بالتأكيد. إذ نقرأ الكتاب المقدس والصحف، وننظر حولنا، لا يمكننا إلا أن نعتقد على أننا منذ الآن نتحرك صوب عتمة وفظائع الضيقة العظيمة. وإن كان الأمر كذلك، فإنها الساعة عندما سينزل الرب يسوع المسيح من السماء مع صراخ، وصوت رئيس الملائكة، ومع بوق الله: والموتى في المسيح سيقومون أولاً، وهذا على ما يبدو أمراً وشيك. دعونا نرى أننا نعيش هكذا، وكذلك نتأدب، وهكذا نستخدم الوزنات التي عهِد بها الله إلينا لكيما تزداد أعمال محبتنا نحو أولئك المحيطين بنا، في العائلة، وفي الكنيسة المعترفة وفي العالم أجمع، وهكذا فعندما نسمع ذلك الصوت، تلك الصرخة، ذلك البوق، نذهب ونحضر أمامه لدى مجيئه بكل سرور ودونما خجل من أي شيء. هناك أمر أنا على يقين منه، أنه لن يكون هناك مسيحي في ذاك اليوم يتمنى لو كان دنيوياً أكثر أو أن يكون قد استمتع أكثر بأعمال الطيش والعبث. بل سيكون هناك عشرات آلاف من المؤمنين الذين سيكونون على استعداد في ذلك اليوم ليُضحوا بأي شيء إن كانوا مهتمين أكثر بأمور الرب خلال الوقت القصير الذي يمضونه له في هذا العالم. إن الله يعطينا القدرة والإمكانية على أن نحيا مثل أولئك الذين اختيروا من العالم. عندما أتينا إلى المسيح قلنا وداعاً للعالم. تركنا العالم لأجل اسمه. فكم سنُسر عندما نعود لنتذكر تلك اللحظات التي عشناها في أول لقاء حب مع المسيح.

دعونا نسبر أغوار قلبنا، وإن شعرنا أن العالم يعني لنا الآن أكثر مما كان عندئذ، فلنتُب و"نقوم بأعمالنا الأولية من جديد"، لكيما نحظى باستحسانه في اليوم الآتي.

العالم يكره الله؛ وسيكرهنا. إن كنا نطلب محبة العالم فستكون على حساب إخلاصنا للمسيح. هذه هي المشكلة مع العالم. إن العالم لا يعرف الله. هل نعرفه نحن؟ لا يمكننا أن نعرفه أبداً إن رفضنا يسوع المسيح. إنه يقول: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي". "لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص". لقد جاء ليُعلن لنا الآب. لقد أخبرنا عن كل ماهية الله، فإن رفضه الناس، فذلك لأنهم لم يعرفوا الله. عندما نقتبله، ننال حياة أبدية- "وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته".

"لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ". المسؤولية تزداد مع المعرفة. لطالما قال الناس لي: "إن كان هذا صحيحاً إذاً ماذا عن عبدة الأصنام؟ أليس الوثنيون على ما يرام في وضعهم كما هم؟ لماذا ينبغي أن نذهب إليهم حاملي الإنجيل؟ إذ أننا لو لم نذهب لما كانت لديهم خطية. هل يعني هذا أن الوثنيين يخلصون بدون إنجيل؟" لا أبداً على الإطلاق. الأصحاح الأول من الرسالة إلى رومية توضح ذلك. ليس بسبب ما لا يعرفونه- وليس بسبب رفضهم للمخلص الذي لم يسمعوه أو يسمعوا به أبداً- بل بسبب ما يعرفونه، وبسبب نور الضمير الذي لديهم، على هذا الأساس يُدانون. إنهم يصنعون يوماً فيوماً الأشياء التي يُنبئهم ضميرهم أنها خطأ. على المسيحي أن يذهب إليهم بالإنجيل وأن يعلن لهم عن خلاص كامل ومجاني من خلال العمل المُنجز الذي قام به الرب يسوع المسيح، وبذلك يقدم رسالة فرح وسعادة لم يعرفوها قبلاً خلال تعبُدهم للأصنام. عندما يسمعون، يكونون مسؤولين عن قبول عطية الله. كل مرة نعظ بها بالإنجيل هنا علينا أن نتذكر أن لهذا بالنسبة للبعض طعم الموت للموت وبالنسبة للبعض الآخر له طعم الحياة للحياة. الناس، إذ يسمعون الرسالة، إما أن يقبلوا المسيح مخلصاً أو يزدرون بالكلمة وتزداد دينونتهم. إنه أمر جليل مهيب عندما تُقدَّم الحياة للناس فيرفضونها. هذا ما يخبرنا به الجزء الأول من هذا السفر عندما يتكلم يسوع إلى نيقوديموس. لقد قال: "وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة".

وهكذا فإن الدينونة الأعظم تقع على أولئك الذين سمِعوا ورفضوا المسيح عندما جاء. لقد جاء، وكشف عن الله، فرفضوه وبرفضهم له ما عاد هناك إمكانية لديهم لينالوا مغفرة خطاياهم، إذ ببغضهم له أبغضوا الآب أيضاً.

"لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي". أي أن الرب يسوع المسيح ليس فقط ختم رسالته وخدمته بكلمة شفتيه بل صادق على تعليمه بأعمال قدرته، وكل معجزة قام بها المسيح برهنت أنه كان كما يدعي، ابن الله القدوس الذي بلا عيب. كان الناس يذهبون إليه أفواجاً أفواجاً ليروا أعاجيبه، ولكنهم رفضوا ذاك الذي قام بتلك الأعمال، وهكذا ضاعفوا من الدينونة الملقاة على عاتقهم. وعن هذا يقول: "لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ". إنه يقتبس من المزمور ٦٩، حيث لدينا صورة نبوية رائعة عن موته على الصليب لأجل خطايانا. ومن هذا الترابط نقرأ: "أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ". لم يكن هناك سبب أو مبرر ليبغض الناس يسوع. لقد جاء بقلب ممتلئ حباً للبشرية، وجال يصنع الخير. ازدرى به الناس ورفضوه لأن نقاوته تظهر نجاستهم تحت الضوء؛ قداسته أبرزت دنس نفوسهم، بره الكامل أظهر فحشاءهم. قالوا: "أزيحوه عن الطريق".

هناك قصة تُحكى عن زعيمة افريقية صادف أن زارت مركزاً لإرسالية. كان لدى المُرسل مرآة صغيرة معلقة على شجرة خارج كوخه. ونظرت الزعيمة بالصدفة إلى المرآة ورأت نفسها فيها ببشاعة طلائها وملامحها الشريرة. نظرت إلى ملامحها البشعة القبيحة، وأجفلت مرتعبة وقالت: "من ذاك الشخص المخيف المرعب المنظر داخل تلك الشجرة؟" فقالوا: "آهٍ، إنه ليس في الشجرة؛ زجاج المرآة يعكس صورة وجهك". لم تستطع أن تصدق ذلك إلى أن حملت المرآة بيدها. قالت: "يجب أن أحصل على المرآة. بكم ستبيعني إياها؟" فقال: "آهٍ، أنا لا أريد أن أبيعها". ولكنها أصرت على ذلك وتوسلت إليه، إلى أن فكر أخيراً أنه لا ضير في أن يبيعها لها تجنباً للمشاكل. ولذلك حدد السعر فأخذت المرآة. وقالت: "سوف لن أسمح للمرآة بأن تسخر مني ثانية"، ورمت بالمرآة أرضاً فكسرتها إلى أشلاء.

تلك هي الطريقة التي يتعامل بها الناس مع الإنجيل ومع يسوع المسيح. كلمة الله تظهر شر الناس. إنهم يقولون: "دعني من المسيح! لا نريد كتابك المقدس ولا نريد مسيحك". ولكن الآن، أي قوة لنا للشهادة إذا ما ذهبنا للقاء عالم كهذا؟ في آخر آيتين يشير يسوع من جديد إلى ذاك المبارك الذي وعد بمجيئه في مقطع سابق من حديثه. "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الاِبْتِدَاءِ". ليس لنا قوة في أنفسنا. إننا ضعفاء كمسيحيين، وليس لنا قدرة على مواجهة العدو، ولكن "ما فيك هو أعظم مما في العالم". ولذلك فإن اعتمادنا هو على المعزي الإلهي، الأقنوم الثالث من الثالوث القدوس، الذي جاء ليأخذ مكانة المخلص ويقوينا لنستمر ونشهد، لكيما بهذه الشهادة يخلص الناس.

محاضرات على الذبائح اللاوية

(لاويين ١- ٧)

المحاضرة ١

المحرقة

إقرأ بعناية لاويين، الأصحاحات ١؛ ٦: ٨- ١٣؛ ٧ و ٨؛ تثنية ٣٣: ٨- ١٠؛ مزمور ٤٠؛ أفسس ٥: ١، ٢.

إن الذبائح الخمسة يمكن أن تُقسَم بطرقٍ مختلفة. فأولاً نلاحظ أن أربعاً منها هي ذبائح تشتمل على إهراق دم- ذبيحة المحرقة، وذبيحة السلامة، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم. إن قربان التقدمة، أو كما يجب أن نقول، تقدمة الغذاء أو الطعام، كانت تقدمةً غير دموية، ولها مكانةً خاصةً بها بحد ذاتها. ثم من جديد هناك الذبائح الحلوة المذاق المميزة عن ذبائح الخطية. إن ذبيحة المحرقة، وقربان التقدمة وذبيحة السلامة يقال أنها "وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". وهذا لم يكن ينطبق أبداً على ذبيحة الخطية أو ذبيحة الإثم. السبب الإلهي وراء هذا التمييز سيتبيّن سريعاً بشكل واضح، على ما أعتقد، إذ نحن نمضي في هذه المحاضرات.

إن الذبائح الخمس التي جُمعَت هنا تصوِّر لنا صورةً متعددة الجوانبِ مذهلةً لشخص وعمل ربنا المبارك يسوع المسيح. إنها تُظهِر علاقته بالله، وكيف أنه جاء بالنعمة إلى الخطاة الذين مات من أجلهم، وإلى أولئك الذين آمنوا به والآن يقفون أمام الله مقبولين في المحبوب. إنْ كانت هناك تفاصيل، كما هو الحال في الواقع، والتي يصعب علينا أن نفهمها، فهذه لا يجب إلا أن تعطينا فرصةً لسحق القلب أمام الله وللتأمل والصلاة. لعلنا على يقين من ذلك أنّه كلما ازدادت معرفتنا كلما صرنا أقرب إلى مخلّصنا وأكثر دخولاً إلى ما تكشفه لنا كلمة الله في أماكن أخرى فيما يتعلق بتفاصيل عمله على الصليب، وكلما ازدادت سهولة فهمنا للرموز.

كما نجدها هنا في الأصحاحات السبعة الأولى من اللاويين، نرى الأشياء من وجهة نظر إلهية، أي أن الله يعطينا ما يهمه أكثر أولاً؛ ولذلك نبدأ بذبيحة المحرقة، والتي هي أرفع رمز لعمل الصليب التي لدينا في التنظيم الموسوي، وننزل بعد ذلك مروراً بتقدمة الطعام، وذبيحة السلامة، وذبيحة الخطية، إلى ذبيحة الإثم، والتي هي أول جانب من عمل المسيح عموماً كما تدركه نفوسنا.

كقاعدة، عندما يأتي الخاطئ الأثيم إلى الله طالباً الخلاص، فإنه يفكر بأعماله الرديّة، ويُطرَح سؤالٌ في داخل نفسه أن: "كيف يمكن لله أن يغفر خطاياي ويقتبلني إليه في سلام عندما أدرك تماماً وجداً آثامي وتعدياتي الذاتية؟".

يتذكر معظمُنا عندما وصلتْ نعمة الله إلى قلوبنا. لقد اضطربنا بسبب خطايانا التي كانت قد وضعتْنا على مبعدةٍ عن الله، والأسئلة الكبيرة التي تقلقنا كانت هذه: كيف يمكن لخطايانا أن تُزال أو تُمحى؟ كيف نتحرر من هذا الإحساس بالذنب؟ أنى لنا أن نشعر أبداً بأنّنا في ديارنا مع الله عندما نعرف أننا أثِمنا على نحو كبير نحوه وأننا أنتهكنا باستهتارٍ ناموسه المقدس؟ سوف لن ننسى، كثيرون منا لن ينسوا، كيف أتينا لنرى ما لم نكن لنستطيع أبداً أن نفعله بأنفسنا، بل إن الله قام به لأجلنا من خلال عمل ربنا يسوع على الصليب. ونتذكر عندما ننشد بابتهاجٍ قائلين:

"جميعُ آثامي أُلْقِيت عليه،
وجميع ديوني قد دفَعَها،
كل من يؤمن به، كما قال الرب،
له حياة أبدية".

هذه حقيقة ذبيحة المحرقة، والتي فيها تأخذ الخطيئة مظهر دَيْنٍ لا بدّ من تسديده.

ولكن إذ نتابع فإننا نبدأ بالحصول على رؤية أوسع قليلاً حول العمل الذي جرى عند الصليب. فقد رأينا أن الخطيئة لم تكن فقط دَيْناً يتطلب تسويةً بل كان شيئاًَ بحدّ ذاته نجساً ودنساً، شيئاً جعلنا غير مؤهلين أبداً للصداقة مع الله، القدوس اللامتناهي في قداسته. وشيئاً فشيئاً فتح روح قُدْسِ الله جانباً آخر من الكفّارة ورأينا أن ربّنا المبارك، ليس فقط جُعِلَ كفارةً عن جميع آثامنا، بل عن كل نجاساتنا أيضاً. "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ". لقد كانت لحظةً رائعةً مدهشةً في تاريخ نفوسنا عندما رأينا أننا كنا قد خلصنا إلى الأبد، وجُعِلنا مؤهلين للوقوف في حضرة الله إذ أن القدوس قد صار ذبيحةَ خطيئةٍ عظيمةٍ، وجُعِلَ خطيئةً عنا على صليب الجلجثة.

ولكن كانت هناك دروسٌ أخرى وكان علينا أن نتعلمها. فرأينا مباشرةًً أنه بسبب خطايا البشر فإنهم كانوا على خصومةٍ وأعداءٍ مع الله، وأنه لم يكن بالإمكان أن تكون لهم شِرْكةٌ أومشاركةٌ مع الله إلى أن يتم تدبير أساسٍ قويمٍ مبررٍ للشركة مع الله. كان لا بُدّ من حدوث شيء قبل أن يصبح ممكناً لأن يسود رضى وسرور كامل وسعيد بين الله والإنسان. ومن هنا فقد بدأنا ندخل إلى جانب ذبيحة السلامة من عمل المسيح. فرأينا أنها كانت رغبة الله أن يأتي بنا إلى شِرْكةٍ معه. وهكذا أمكننا أن نكون خطاة مفتدين فقط بذاك الذي صالحنا مع الله من خلال موت ربنا يسوع.

إذ تعلمْنا أن نقَيِّم أكثر العمل الذي قام به مخلّصنا، فإننا وجدنا أنفسنا منشغلين بشكلٍ متزايدٍ بذلك الشخص الذي قام بذلك العمل. في البداية كانت قيمة الدم هي التي أعطتْنا السلامَ نظراً إلى خطايانا، ولكن بعد أن تابعنا تعلمنا أن نتمتع به لأجل ماهيته في حدّ ذاته. وهذه هي قربان التقدمة؛ إذ هنا نرى المسيح بكل كماله، والله والإنسان في شخصٍ مجيدٍ واحدٍ، وألبابُنا هنا تصبح مسلوبةً بجماله ونتغذى بابتهاجٍ منه.

يمكننا أن نفهم الآن ما عنَتْه الشاعرة عندما رنّمت قائلةً:

"يحدثونني عن موسيقى نادرةٍ فذةٍ،
عن ألحانٍ ناعمةٍ وخفيضةٍ،
للقيثار، وللفيول، وترنيم جوقات الملائكة،
كل هذا يمكن أن أفوته؛
 أما الموسيقى التي في صوت الراعي،
 ذاك الذي ربح قلبيَ العاصي،
فهو اللحن الوحيد الذي سمعتُه أبداً،
والذي لا يمكنني أن أنساه أبدا.
فآهٍ كم هو جميلٌ ذاك المعلم،
كم هي عذبةٌ ابتسامته، في ناظري المطرودين،
أولئك الذين يلتقون به وهم غير مدركين،
 ولا يمكنهم أن يستريحوا على الأرض بدونه من جديد.
وأولئك الذين يرونه قائماً ناهضاً من بعيد،
على يمين الله، ليرحب بهم،
يتناسون المنزل والديار،
ويرجون أورشليم الجميلة".

بالنسبة للشكليين الباردين، يبدو هذا كله مجرد شعرٍ صوفيٍّ ومبالغةٍ، ولكن بالنسبة للمؤمن الحقيقي بالمسيح فإنها حقيقةٌ رزينةٌ متزنةٌ.

والآن يبقى جانبٌ آخر من شخص وعمل ربنا يجب أن نفكر به ونأخذه بالاعتبار، ألا وهو ذاك الذي يُقدَّم أو يُصَّور إلينا من خلال ذبيحة المحرقة. بينما مرت السنين على بعضٍ منا بدأ يفهم، بضعفٍ في البداية، ثم بشكلٍ أكثر وضوحاًَ وبمجدٍ أعظم نوعاً ما، أنَّ شيئاً في البداية لم يبزُع أبداً بإشراقٍ في نفوسنا، وذلك أنَّه حتى ولو لم نخلص أبداً من خلال عمل المسيح على الصليب، لكان هناك شيءٌ في ذلك العمل عظيم الأهمية ويعني الله أكثر من خلاص الخطاة.

لقد خَلَقَ الإنسانَ لأجل مجده. والتعليم صحيحٌ عندما يخبرنا أن "الغاية الأساسية الرئيسية من الإنسان أن يمجد الله ويتمتع به إلى الأبد". ولكن، وللأسف، ما من مكانٍ وُجِدَ فيه إنسانٌ لم يخزِ الله بشكلٍ أو بآخر. التهمة التي وجهها دانيال إلى بلشاصر، الملك البابلي، كانت تنطبق بشكلٍ صحيحٍ علينا جميعاً. "أَمَّا اللَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ نَسَمَتُكَ وَلَهُ كُلُّ طُرُقِكَ فَلَمْ تُمَجِّدْهُ". كان لا بد لله أن يجد إنساناً في هذا العالم يمجّده بشكلٍ كاملٍ في كل الأشياء. لقد أُخزيَ وأُهين بشكلٍ رهيب على الأرض هنا؛ وأساء الإنسانُ الأول (آدم الأول) تمثيلَه بشكلٍ متواصلٍ ذاك الذي عهد الله إليه سيادة الأرض، وكذلك لكل نسله، حتى أنه كان من الضروري أن إنساناً ما كان يجب أن يُوجَد بحيث يحيا في العالم كلياً لمجده. إن شخص الله يجب أن يتبرر؛ والرب يسوع المسيح، الإنسان الثاني (آدم الثاني)، الرب الذي من السماء، كان الوحيد الذي أمكنه أن يفعل ذلك، وفي طاعته الكاملة حتى الموت نرى ما يحقق بشكل كامل كل متطلبات الطبيعة الإلهية ويمجد الله بشكلٍ كامل في هذا العالم حيث أُسيء تمثيله بشكلٍ محزن. ذلك هو جانب ذبيحة المحرقة من الصليب. بواسطة ذلك الصليب تعاظم المجدُ لله أكثر مما خسره بسقوط الإنسان. ولذلك لعله يمكننا أن نقول أنه حتى ولو لم يخلص خاطئٌ واحدٌ من خلال ذبيحة ربنا على عود الصليب، فإن الله قد تمجّد كلياً من ناحية الخطيئة، وما من عيبٍ أمكن أن يُلصَق بشخصه، وما من شكٍ كان يمكن أن ينشأ طوال الأبدية من ناحية مقته للخطيئة وسروره بالقداسة.

ولذلك ففي سِفْر اللاويين تأتي ذبيحةُ المحرقة أولاً، لأنها تلك الأكثر أهميةً وقيمةً بالنسبة لله ولذلك ستكون ذات أهمية وقيمة أكبر بالنسبة لنا.

وأوضح آخرون كيف أن الأناجيل الأربعة ترتبط بطريقةٍ رائعةٍ جداً مع الذبائح الدموية الأربع. فمتّى يعرض جانبَ ذبيحة الإثم من عمل المسيح، التي تواجه الخاطئ لحظة حاجته عندما يدرك لأول مرة مديونيته لله. إنها لجديرةٌ بالملاحظة فكرةُ أن الخطيئة هي كدَيْن وجريمة تجاه نظام الحكم الإلهي، هذه الفكرة التي نجدها تحتل موقعاً كبيراً في ذلك السفر.

في إنجيل مرقس, جانبُ الخطيئة كنجاسة وفسوق يتم التركيز عليه أكثر, ومن هنا لدينا وجهة ذبيحة الخطية في الصليب. ثم نجد عند لوقا ذبيحة السلامة كأساس الشِّرْكة بين الله والإنسان. في الأصحاحات ١٤ و١٥ و١٦ تُصوَّر لنا الطريقة التي خرج بها الله بنعمته اللامتناهية إلى الإنسان الخاطئ ليأتي به إلى الصداقة والشّرْكة معه, ومع ذلك كيف أن كثيرين يرفضون تلك الرحمة فلا يعرفون أبداً السلام مع الله. في إنجيل يوحنا يُرى الرب يسوع المسيح كذبيحة محرقة, مُقدِّماً نفسَه بلا عيب لله, مُحْرَقَة وَقُود رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ, وهذا هو السبب في أن يوحنا لا يذكر صرخة الألم المريعة التي قالها يسوع: "إلهي, إلهي, لماذا تركتني؟". هذا يتعلق فعلياً بجوانب ذبيحة الإثم والخطية من عمله؛ ولكنه لا يأتي حيث يُرى موته موتاً يمجد الله بالكلية في العالم الذي أُهين فيه للغاية. إن قربان التقدمة تُرى في كل الأناجيل الأربعة حيث يُصوِّر لنا شخص المسيح بأشكال مختلفة؛ كمسيّا الذي ينتظره بنو إسرائيل في متى؛ وعبد يهوه المتألم في مرقس؛ والإنسان الكامل في لوقا؛ وابن الله الذي صار جسداً في يوحنا.

وإذ نتأمل في كل هذه الأشياء القيّمة, نتمتع حقاً بالشركة مع الآب. خطرت في ذهني مرة, في بداية حياتي المسيحية, فكرة بأن الشركة تنسجم مع المشاعر التقويّة وأُطر الذهن, ولكي أمتلك هذه المشاعر يجب أن أقرأ كل كتاب تأمل أستطيع أن أجده, وسأدون باختصار في مفكِّرة أفكاري عندما أحصل, كما بدا لي, على معنى واضح للتقوى التي كانت سارة للغاية ومقدسة. في السنوات التي تلت ذلك وقع هذا الكتاب في يدي بالصدفة وبالكاد استطعتُ أن أصدّق أنني توصلتُ على الإطلاق إلى هكذا أفكار غريبة مُتخيَّلة أفترض أنها كانت نتيجة الشركة مع الله. أُدرك الآن أن ما اعتقدته شركة كان بالنسبة لي أن أجعل الله يجد مسرَّة في مشاعري التقوية. ولكن ليس الأمر هكذا على الإطلاق. فالشركة مع الله هي عندما تدخل نفسي إلى أفكاره المتعلّقة بابنه.

هل ذهبتَ يوماً إلى منزل حيث عُهد إلى أمٍّ بابنٍ جديدٍ؟ كم استطعتَ أن تتشارك مع تلك الأم قلبياً؟ ربما تحدثتُم بأشياء متنوعة, ولكن ما كان ليمكنك أن تنقر على وتر قلبها الحساس إلى أن قلتَ شيئاً يخص صغيرها. فسرعان ما أشرقت أساريرها وبدأت تخبرك كم هو رائعٌ ذلك الطفل حقاً, ولا تلبث أن تدخل معها في علاقة حميمة كلياً, إذ أنكما كلاكما مشتركان في الاهتمام بنفس ذلك الشخص الصغير. ربما تكون الصورة هزيلة بعض الشيء. إن الطفل قد عُهد به إليها لفترة قصيرة فقط, أما إله الكون فما برح يجد مسرّته في ابنه المبارك خلال كل الدهور وإلى الأبد, والآن كأنه يقول: "أريد أن أُدخلك إلى صداقة معي في أفكاري حول ابني. أريد أن أخبرك عنه. أريدك أن تفهم أكثر السرور الذي أجده فيه وأن ترى بشكل أكمل ما يعنيه عمله وتكرسه بالنسبة لي".

وهكذا يُفتتح سفر اللاويين هذا بصوت الرب ينادي موسى من المقدس. لقد كان ذلك الصوت خارجاً من المجد العظيم قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت". وبالتالي, فمن داخل خيمة الاجتماع حيث يقطن مجد الله فوق كرسي الرحمة, نادى صوت الرب موسى قائلاً: "قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ". لاحظوا أنه ليس هناك كلمة عن خطيئة الإنسان. فهذا الحديث مُوجَّه إلى أولئك الذين كانوا في علاقة عهد مع الله, والذين كانت قلوبهم تطفح بالامتنان له لأجل كل ما فعله لهم, والذين يرغبون طوعياً أن يأتوا لله بشيء ينالون به استحسانه. وإن كل ما يقدمونه له يرمز إلى المسيح. إذ ما من شيء يمكن أن نقدمه لله يعطيه السرور ما لم يدل أو يرمز بشكل أو بآخر على ابنه المبارك. إن الطواعية التي في ذبيحة المحرقة هي ما تعطيها هكذا قيمة. ليس الإلزام أو الفرض أو المطالبة من أي نوع هي الدافع لتقديم الذبيحة هنا, بل إنها القلب الممتلئ بالشكران والراغب في أن يعبّر عن نفسه بشكل ما أمام الله. ولاحظوا العمومية هنا. إنه يقول: "إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ"، (أيْ أيُّ إنسان). هذا أمر كان يمكن لأي شخص أن ينتفع منه. والجميع بمقدروهم أن يأتوا إلى الله ويستفيدوا من عمل ابنه.

تُذكر ثلاثةُ أنواع من الذبائح. إن ذبيحة المحرقة قد تكون ذبيحة من القطيع, أي عجل أو ثور فتي, كما في الآيات ٣- ٩؛ وقد تكون من الماشية, الضأن أو المعز, كما في الآيات ١٠- ١٣؛ أو أيضاً قد تكون من الطيور, كاليمام أو أفراخ الحمام, كما في الآيات ١٤- ١٧. هذه الدرجات والتصنيفات في الذبائح كان لها علاقة بقدرة المُقدِّم أو المُقرِّب. فمن كان يستطيع أن يقرِّب عجلاً كان يأتي به, وإن عجز عن تقديم عجل, فخروفاً أو معزة, وأما الناس الأكثر فقراً فكانوا يأتون بطيور. ولكنها جميعاً على حد سواء ترمز إلى المسيح. إنها مسألة فهم روحي, على ما أعتقد. بعضنا لديه فهم ضعيف جداً للمسيح, ولكننا نُثمِّنه, ونحبه, ونثق به, وهكذا نأتي إلى الله محضرين ذبيحة طيور معنا. إننا نعرفه على أنه السماوي القدوس, والطير يرمز إلى ما يخص السموات. إنه يطير فوق الأرض. وآخرون لديهم فهم أكمل بقليل, وهكذا نأتي بذبيحتنا من الماشية. إننا نرى فيه ذاك المكرَّس المتفاني الذي "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ". أو يُمثِّله الماعز, صورة الخاطئ في المكان الذي أخذه بالنعمة. وآخرون أيضاً لديهم فهم أعلى وأكمل لشخصه وعمله. فنرى فيه العجل الصابر القوي الذي كانت مسرّته أن يعمل إرادة الله في كل الأشياء.

هناك فارق صغير جداً في طريقة التعامل بين ذبيحة القطيع وذبيحة الماشية. ولكن الفارق الأكبر يتبدى عندما نأتي إلى ذبائح الطيور.

دعونا نفكر قليلاً في الآيات ٣ إلى ٩: "إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَكَراً صَحِيحاً يُقَرِّبْهُ. إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ". أو كما ورد في إحدى إصدارات الكتاب المقدس: "لكي يقتبله الله منه برضا". إن العجل, أو حرفياً أكثر, العجل الفتي, يرمز, كما قلنا, للخادم الصبور. مكتوب في ناموس موسى: "لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِساً". يُطبق الرسول بولس هذا على خُدام الله, أولئك الذي يُعدون الطعام لشعب الله, ولا يُحرَمون مما يحتاجون لمعيشتهم. لقد كان ربنا المبارك كمثل العجل الصبور يدرس الذرة. ذاك الذي جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم, كان الخادم المثالي الذي يأتي ليُقدِّم حياته فدية عن كثيرين. ولاحظوا أن العجل يجب أن يكون ذكراً بلا عيبٍ. من بين الرموز تُشير الأنثى إلى الخضوع, في حين أن الذكر يوحي بالفكر أو الاستقلال الملائم. كان ربنا يسوع الإنسان الوحيد أبداً الذي سار على هذه الأرض وكان يتمتع بالاستقلال, ومع ذلك اختار أن يكون تابعاً وخاضعاً, حتى إلى الموت. وكان ذاك الذي بلا عيب. ما من خطيئة وُجدت فيه وما من نقص من أي نوع كان وما من إثم أو إخفاق. كان المُقدِّم, عند تقديمه لذبيحة المحرقة الصحيحة يقول عملياً: "ليس فيَّ استحقاق. إني مليء بالخطيئة والإخفاق, ولكني أُحضر إلى الله ما هو بلا عيب, ذاك الذي يدلّ على استحقاق ابنه المبارك". والمقَدِّم غير المستحق كان يُقبَل من خلال الذبيحة المستَحقة, كما يقال لنا في أفسس ١: ٦ "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي جعلنا مقبولين بِهَا فِي الْمَحْبُوبِ"، أو بترجمة أخرى "أنعم علينا بِهَا فِي الْمَحْبُوبِ". لاحظوا أنه ليس على قدر إيماننا, وليس على قدر حماستنا, وليس على قدر تكرسنا, بل بحسب أفكاره حول ابنه المحبوب. نحن الذين أتت بنا النعمة الإلهية لنرى أنه ليس لدينا من استحقاق في داخلنا, لنا كل الاستحقاق في المسيح.

هذا يتم التأكيد عليه في الآية الرابعة. لقد وقف الإنسان كمُقرِّب أمام الكاهن ويديه على رأس المحرقة. لقد كان يُطابق نفسه فعلياً مع الضحيّة التي كانت على وشك أن تُذبح. إنها يد الإيمان التي تُوضع على رأس المسيح وترى فيه ذاك الذي يأخذ مكاني. وكل ما هو, هو من أجلي. من الآن فصاعداً يراني لله فيه. ولكن لن يفعل ذلك في حياته، بل بموته. ولذلك نقرأ: "يَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ وَيُقَرِّبُ الْكَهَنَةُ بَنُو هَارُونَ الدَّمَ وَيَرُشُّونَهُ مُسْتَدِيراً عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ". لقد كان لنا جميعاً دور في ذبح العجل. أي, كانت لنا جميعاً علاقة بموت المسيح. إن الناس يعرفون هذا عموماً, ولكن يُخفقون في أن يتمسكوا به فُرادى. فعندما أرى أن يسوع مات من أجلي, حتى ولو لم يكن هناك خاطئ آخر في كل العالم, فسأظل أعتبر انه بذل نفسه ضحية بدلاً مني, وهكذا تنطبق قيمة دمه الثمين عليَّ, وأُقْبَل أمام الله من خلال كل ما فعله, وفي كل ما هو عليه.

في الآيات ٦- ٩ نقرأ عن السلخ, أي سلخ المحرقة, وتقطيع الضحية إلى أشلاء. سنتحدث عن الجِلْد لدقيقة, وهناك حقائق ثمينة متعلقة به. كان يجب غسل جميع الأجزاء بالماء ثم تُوضع على خشب المذبح لتُحرَق بالنار, وتصعد إلى الله "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". الغسل بالماء يرمز إلى تطبيق كلمة الله على كل جزء من كيان المسيح؛ إن كل ما فعله كان في قداسة كاملة, إذ كان تحت سلطان كلمة الله بقوة الروح القدس. وأمكنه أن يقول بكل معنى الكلمة: "خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ". لم يكن في حاجة إلى الكلمة للتطهير, لأنه كان القدوس أبداً, ومع ذلك كان خاضعاً في كل شيء للكلمة, إذ كان هنا ليُمجِّد الله كإنسان مُتَّكل على الله.

نقرأ "يُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ". كان هذا ينطبق فقط على المحرقة من بين أنواع الذبائح. في بقية الذبائح جميعاً كان هناك شيء ما معكوس بالنسبة إلى الكاهن المُقرِّب أو المُقدِّم نفسه, أما في هذه المحرقة تحديداً فإن كل شيء كان يصعد إلى الله؛ إذ أن هناك شيء في هذا الجانب من عمل الصليب كان الله وحده يستطيع أن يفهمه ويقدّره.

ولكن في الأصحاح ٧: ٨ لدينا استثناء واضح وحيد. بينما كل جزء في الضحية كان يُحرق على المذبح, كان الجِلد يُعطى للكاهن. هذا بالفعل ذو قيمة كبيرة. لكأن الله كان يقول للكاهن: "لقد وجدتُ نصيبي في المسيح. إنه كل شيء بالنسبة لي, حبيب قلبي, الذي فيه وجدتُ كل مسرّتي. والآن أريدك أن تأخذ الصوف وتغطي نفسك به. تدثَّر بجلد المحرقة". إنها صورة رائعة عن القبول أمام الله في المسيح. إننا نتدثَّر بجلد التقدمة.

ليس من داعٍ كبير لأن ندخل في أية تفاصيل تتعلق بذبيحة الماشية، إذ كما رأينت، كانت تثعامل عملياً بنفس الطريقة مثل ذبيحة العجل, ولكن هناك فكرة أو اثنتان تتعلقان بالطيور. نقرأ في الآيات ١٥, ١٦: "يُقَدِّمُهُ الْكَاهِنُ إِلَى الْمَذْبَحِ وَيَحُزُّ رَأْسَهُ وَيُوقِدُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَيُعْصَرُ دَمُهُ عَلَى حَائِطِ الْمَذْبَحِ. وَيَنْزِعُ حَوْصَلَتَهُ بِفَرْثِهَا وَيَطْرَحُهَا إِلَى جَانِبِ الْمَذْبَحِ شَرْقاً إِلَى مَكَانِ الرَّمَادِ". إن الطيور، وكما رأينا، ترمز إلى المسيح لأنه ذاك الذي يخص السموات والذي نزل بالنعمة إلى هذا العالم. ولا ريب أن هناك نفس الاكتمال في تصوير عمله هنا فيما يتعلق بالمخلوقات الأخرى. ولكن موته من جديد يتم التأكيد عليه بشكل كامل، وقبل أن توضع الذبيحة على المذبح، كانت تُقتلَع الحوصلة والريش وتُلقَى إلى الرماد. إن استئصال الريش من الطيور، يوحي، على ما أعتقد، باحتضار مجده وجماله عندما طأطأ رأسه بنعمة متواضعة إلى موت الصليب، بينما إزالة الحوصلة تدل، بلا شك، على تخليه طواعيةً عن كل ما يخدم المسرة الطبيعية. نرنم أحياناً، وقلّما ندخل بالمعنى:

"أسلم كل شيء،
أسلم كل شيء،
كل شيء لك، يا مخلصي الثمين
أسلم لك كل شيء".

ولكن إن تفكرنا في هذه الكلمات، فكم تدفأ قلوبنا، وكم نعرف منها مكانتنا التي اتخذناها في النعمة:

"لقد سلّم كل شيء،
لقد سلّم كل شيء،
كل شيء لأجلي، مخلصي الثمين،
سلّم كل شيء".

في الأصحاحات ٦: ٨- ١٣ لدينا شريعة المُحرقة، أي، التعليمات للكهنة عن طريقة سلوكهم عند إجراء هذا الجزء من الشعائر. ففي الأصحاح الأول لدينا ما هو موضوعي أكثر- صورة الله عن شخص وعمل ابنه. ولكن في شريعة المحرقة لدينا ما هو ذاتي أكثر- تأثير ونتيجة كل ذلك علينا، وكيف تدخل نفوسنا فيه. وهكذا ففي الأصحاح السادس نرى الكاهن مرتدياً ملابس بيضاء (ثيابه تدل على ذلك البر الذي لنا الآن في المسيح والذي يجب أن يميزنا عملياً)، بوقارٍ يُخرِج رماد المحرقة ويضعها بجانب المذبح؛ إن الرماد يرمز بوضوح ورغم أنه فاقد للحياة إلى أنه "قد تمَّ". لأن الرماد يدل على النار التي تكون قد خَمَدَت وهذا يدل على أن عمل المسيح قد اكتمل. لقد تألم، ولكنه لن يموت ثانيةً، وتمجد الله بشكل كامل في عمله الذي صَعِد كوقود رائحة سرورٍ إليه. في أزمنة العهد القديم كان يجب أن تبقى النار مشتعلةً دائماً على المذبح. ما كان يجب أن تُطفَأ أبداً، إذ كانت كل مُحرقةٍ تليها مُحرقةٌ أخرى بشكلٍ متواصلٍ مستمر، وإلى نفس النار كانت تُوضَع ذبيحة السلامة وذبائح الخطية والإثم. ما كان العمل منتهياً لأنه ما من ضحيةٍ كانت قد ظهرت بعد مؤهلةً كفايةً لتسدد مطاليب الله بشكل كامل. أما الآن، والحمد لله، فإن لهيب نار المذبح قد انطفأت، والعمل قد تم، وتأثير ذلك العمل يبقى إلى أبد الآبدين. لتبتهج نفوسنا به. في المزمور ٤٠، والذي هو فعلاً مزمور المحرقة، نسمع صوت مديح ينشأ أو يصدر عن تقدير النفس لهذا الجانب من عمل المسيح. لنا أن ندخل فيه بكل امتلائه. في تثنية ٣٣، نرى أن الشغل الشاغل لكهنة الله الممسوحين كان تقديم ذبائح المحرقة على مذبحه. فعلنا نحن الكهنة المقدسين للدهر التدبيري الجديد أن نجد دائماً أن مسرتنا الأولى هي في انشغالنا في المسيح وهذا الجانب من عمله.

المحاضرة ٢

قربان التقدمة

إقرأ لاويين، أصحاحات ٢؛ ٦: ١٤- ٢٣؛ مزمور ١٦؛ يوحنا ٦: ٣٣

لقد لاحظنا لتونا أن قربان التقدمة كان يختلف عن بقية الذبائح الأربع في أنه كان ذبيحة غير دموية. لم تكن هناك من حياةٍ  بُذلَت ومع ذلك فقد كان جزءٌ منها يُحرَق على مذبح لأجل الرائحة العطرة. إن الاسم المعطى لهذه التقدمة في إحدى الترجمات للكتاب المقدس هو "تقدمة الصباح"، ولكن علينا أن نتذكر أن أسلافنا كانوا يعنون بها تقدمة الطعام أو الغذاء. فلم يكن فيها لحمٌ من أي نوع. لقد كانت تقدمةً مكونة من الطعام وعبارة عن دقيق وزيت، أو من سنابل الذرة الخضراء المجففة والزيت. إنها لا ترمز إلى مخلّصنا وقد بُذِلَ ذبيحةً عن الخُطاة على الصليب، بل هي صورة الله الرائعة العجيبة عن كمال شخصه العجيب. تذكّروا، كان يجب أن يكون كما كان لكي يفعل ما فعل. ما من أحدٍ سوى ابن الله السرمدي الأبدي كان ليمكن أن يصير جسداً وأن ينجز ذلك العمل العظيم الذي جاء لأجله. إنّها لقيمةٌ لا تُثمَّن للنفس أن تتّكل على تقدير الله لابنه. كما أشرنا في المحاضرة السابقة، بهذه الطريقة ندخل إلى الشركة مع الآب.

يقول صاحب المزامير: "يَلَذُّ لَهُ تَأَمُّلي". ولعله يمكننا أن نثبت ذلك بالفعل ونحن نمعن النظر إجمالاً في هذه الرموز المذهلة العجيبة في شخصه المجيد.

يجب أن نضع في أذهاننا دائماً أن كمال الرب هو الذي أعطى كل الفعاليّة والتأثير للعمل الذي أُنجِزَ على الصليب. وعن بقية الناس كُتِبَ: "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إِلَى الدَّهْرِ". وهذه ترجمةٌ حرفية لذلك المقطع اللافت الوارد في مزمور ٤٩: ٧، ٨. إن نظرنا إلى الآية ٨ نتساءل: ما الذي يُغلَق إلى الدهر؟ إلا أن الترجمة الأصح هي: "لتكن وحدها إلى الأبد". أي لا نفع في أي محاولة يقوم بها أي شخص نحو عمل الفداء؛ إنه أعظم من أن تؤثر فيه قدرة بشرية. "إنَّ فداء النفس يكلِّف ثمناً باهظاً، ولذلك فليكن وحده إلى الأبد". ولكن المسيح ابن الله قد صار أنقص من الملائكة بقليل من حيث تألُّمِه حتى الموت لكي يذوق الموت عن كل إنسان. إنه القدوس اللامتناهي وقد صار إنساناً، وفي نفس الآن إنسانٌ كاملٌ بلا خطيئةٍ وبلا دَنَسٍ. إنه وحده كافٍ لفداء أخوته وليقدم لله كفارةً عنهم. إنه ذاك الشخص الذي اشتاق إليه أيوب عندما صرخ قائلاً: "لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!"، وهو من تكلم عنه إليهو عندما قال: "يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً". وهكذا علينا الآن أن ننشغل بالمسيح نفسه، وإني على ثقة بأننا وإذ ندرس هذه الصورة الرائعة، عن ذاك الذي كان بالحق خبز الله، الطعام الذي سُرَّ الله الآب أن يقدِّمه، سنحصل على مفهومٍ أكمل وأوضح من قَبْل عن ذاك الذي خلَّصنا.

إنّ قربان التقدمة مرتبط دائماً بذبيحة المحرقة. فالله ما كان ليسمح لشخص وعمل ابنه المبارك أن ينفصلا؛ ولذا فالإثنان يجب أن يسيرا معاً. ولكن تذكّروا هذا, إن السلوك في القداسة, الحياة المكرَّسة لربنا يسوع المسيح, ما كانت لتنفع في إزالة الخطية. إن سلوكه المقدس لم يكن وسيلة خلاصنا؛ وسيره في حياة الكمال لم يكن له فعالية تكفيرية تعويضية. إن الحياة (حياة المسيح) التي أُزْهِقَتْ بالموت هي التي تُخلّص. لقد قال (الرب يسوع) وهو يُمسك بكأس الشركة في يديه: "هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ". إن حياته بمعزل عن موته أمكنها فقط أن تُظهر بشكل فاضح خطايانا المتزايدة المطردة، إذ وضعت تَضاداً بين ما هو عليه وما نحن عليه بصورة حيوية. ولكن دمه الذي أُهرق عنا كان حياةًً قد بُذلت وسُكبت في الموت لكي نحيا إلى الأبد. إنَّ حياته المقدسة أهَّلَتْه ليكون القربان، وهكذا فإن التقدمتين مرتبطتان معاً.

كثيرون من شعب الله المحبوب، على ما أعتقد، انقادوا (لبرهة من الزمن على الأقل) إلى منظومات مختلفة من الأخطاء. ولو كانوا قد عرفوا الشخصية الحقيقية لهذه الأنظمة لكانوا قد تحولوا عنها مرتعبين، مدركين أنه في كل واحد منها توجد هناك تعاليم شريرة تتعلق بشخص ربنا يسوع المسيح. تذكّروا أنه منذ عدة سنوات مضت التقيتُ مع زوجين متزوجين حديثاً في كاليفورنيا. لقد تمَّ تعريفي عليهما على أنهما دارسان جدّيان للكتاب المقدس. لقد بديا لامعين جداً ومتحمسين صادقين في خبرتهم المسيحية، ولكنهما سرعان ما أخبراني أنهما كانا يحصلان على مقدار كبير من المساعدة والمعلومات من خلال مجموعة من الكتب كانت تُباع لهم عن طريق بائع كتب متجول. ولدى استفساري عن هذه الكتب وجدتُ أنها كانت المجموعة المعروفة باسم "الفجر الألفي". عندما سألتُهما إن كانا قد قرأا الكتب، قالا: "نعم بالطبع، وقد وجدنا فيها بعض التعاليم الرائعة". فأجبتُ أنه كانت في هذه الكتب بعض التعاليم المباركة والصادقة والحقيقية، ولكنها في الواقع كانت كمثل السُّكر الذي يغطي حبة دواء سامَّة، لأنها كانت غير سليمة كلياً وغير صحيحة بالنسبة إلى شخص وعمل ربنا يسوع المسيح. وأوضحتُ لهما أن هذه الكتب كانت تعلم أن ربَّنا المبارك وقبل أن يأتي إلى هذا العالم لم يكن إلهاً، بل كان الكائن الروحي المخلوق الأعلى في الكون؛ وأنه بالتجسد قد صار إنساناً وتخلى نهائياً عن طبيعته الروحانية؛ وأنه عندما مات على الصليب فإن ناسوته تكرَّس للهلاك. وإن كاتب تلك الكتب يذهب بعيداً لحد أنه يقول: "لم يكن ضرورياً فقط أن يموت الإنسان يسوع المسيح، بل كان ضرورياً أيضاً ألا يحيا ثانية، بل أن يبقى ميتاً وإلى الأبد". ولكن هذه الكتب كانت تعلّم أن كائناً قد خرج من القبر قد جُعِل مشاركاً في الطبيعة الإلهية وهو الآن إله ولكن ليس الله، وأنه في يومٍ ما مجموعةٌ مختارة من الغالبين سوف تكون مشارِكة في نفس الطبيعة التي له وسوف تساعده في إكمال عمل الفداء. لم يكن ليمكن لهذين الزوجين أن يصدّقا ما قلتُ مباشرة حول التعليم في هذا النظام، ولكنهما كانا صادقين وذهبا إلى منزلهما ليفتشا عن المراجع التي أعطيتُ لهما وأن يقارنا بينها وبين كتبهما المقدسة. فجاءا إليَّ بعد بضعة أيام، وأعطياني مجموعة الكتب وهما يقولان: "إن كنتَ تستطيع أن تستخدم هذه الكتب لتساعد في إنقاذ آخرين فإننا سنكون شاكرين. لقد ركعنا على ركبنا سائلين الله أن يغفر لنا من أجل أي شيء يتعلق بذلك التعليم الذي اكتشفنا أنه عبارة عن تجديف على ربنا يسوع المسيح. لم تكن لدينا فكرة أو تعليم حقيقي عن تلك الكتب". وهكذا أُعتقا وتحررا كلياً، وتحولا بذعر عن كل ذلك النظام الشرير.

"بماذا تفتكر في المسيح؟" هذا هو السؤال الأول الذي يجب أن يسأله كل واحد يأتي زاعماً أن لديه شيئاً مختلفاً عن المسيحية الأرثوذكسية. إن كان الناس مخطئين هنا، فكونوا على ثقة بأنهم سيكونون مخطئين في كل شيء. ليس بالضرورة أنهم يعرفون كل الشر الذي في تلك المنظومات لكي يحكموا عليها؛ إن ما نحتاج إليه هو فقط أن نعرف أنها كتب وتعاليم مزيفة وغير صحيحة عن ربنا يسوع، وذلك لكي نرفضها كلياً إن كنا صادقين معه.

لنَرَ إذاً كيف أنّ شخصه المُبارَك يُصوّر لنا في قربان التقدمة. سنقرأ معاً الآيات ١- ٣: "وَإِذَا قَرَّبَ أَحَدٌ قُرْبَانَ تَقْدِمَةٍ لِلرَّبِّ يَكُونُ قُرْبَانُهُ مِنْ دَقِيقٍ. وَيَسْكُبُ عَلَيْهَا زَيْتاً وَيَجْعَلُ عَلَيْهَا لُبَاناً. وَيَأْتِي بِهَا إِلَى بَنِي هَارُونَ الْكَهَنَةِ وَيَقْبِضُ مِنْهَا مِلْءَ قَبْضَتِهِ مِنْ دَقِيقِهَا وَزَيْتِهَا مَعَ كُلِّ لُبَانِهَا. وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ تِذْكَارَهَا عَلَى الْمَذْبَحِ وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ. وَالْبَاقِي مِنَ التَّقْدِمَةِ هُوَ لِهَارُونَ وَبَنِيهِ. قُدْسُ أَقْدَاسٍ مِنْ وَقَائِدِ الرَّبِّ". لاحظوا إذاً أن قربان التقدمة كان طعام الله حقاً، ولذلك فإنه يرمز للمسيح بنفسه، وقد صُنع من الدقيق الناعم. أنتم، يا ربَّات المنازل، تعرفون ما هو الأمر، فتلك القرابين هي دقيق ناعم بدون ذرات خشنة فيه. لقد كانت هذه صورة الله عن ناسوت يسوع. فكل شيء في انسجام كامل، ولم يكن هناك من خشونة أتت بها الخطيئةُ إلى إنسانيتنا البائسة الساقطة. لطالما فكرت أنه إن كان الله يريد أن يضع صورة عن الطبيعة الإنسانية فإنه كان سيطلب حفنة من طحين الشوفان العتيق. وهذا كان سيرمز بشكل ملائم إلى طبيعتنا، إذ أن هناك الكثير من الأشياء الخشنة والفظة والمزعجة في كل واحد منا؛ ولكن يا للكمال الذي كان متجلياً فيه! ثم لاحظوا، كان يجب أن يُسكب الزيت على الدقيق الناعم وأن يُوضع عليه اللبان. الزيت هو دائماً رمز الروح القدس. فهو الذي يمسح. ونقرأ أن "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨).

إن المسْحَ حدث مباشرة بعد المعمودية في نهر الأردن، والآب أعلن عن رضاه عنه بقوله: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". لقد كان هذا رائحة اللبان. "كان هناك الدقيق الناعم بكل كماله، ونزل عليه الروح القدس بهيئة مثل حمامة"؛ وذاك كان الزيت المسكوب على الدقيق الناعم. ثم كان هناك اللبان ذو الرائحة العطرة الدال على الجمال الذي لا يوصف والعبير الذي كان يميز أبداً كل طرقه. فلا عجب أن العروس في نشيد الأنشاد تقول: "اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ". وقد أدركت مريم هذا الرمز عندما "أَخَذَتْ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ".

في الآية الثانية نقرأ أن هذه التقدمة أو الذبيحة كانت تُجلب إلى بني هارون الكهنة، وكان على الكاهن المترئس للخدمة أن يأخذ حفنة من الطحين، بزيته ولبانه، ويحرقه كتذكار على المذبح؛ لقد كانت تقدمة وقود رائحة سرور للرب. لقد كانت هذه طعام الله. ثم كان على الكهنة أنفسهم أن يقتاتوا على ما تبقى منها، وهكذا فإن الله وكهنته المفديين يستمتعون معاً بكمال المسيح. هذا هو فعلياً تناول للعشاء الرباني.

والآن لدينا بعض التفاصيل الممتعة جداً في الآيات ٤-١٣. سوف لن أستشهد بالمقاطع بشكل كامل، ولكن سوف ألفت الانتباه إلى الملامح البارزة ونحن نمر على كل هذا الأصحاح. كانت هناك طرق عديدة يمكن بها إعداد القربان. في الآية ٤ نجد أنه كان "مخبوزاً في التنور"، وفي الآية ٥ "مخبوزاً على الصاج"، وفي الآية ٧ يكون "مخبوزاً من الطاجن"، أي بوضوح على أعلى الموقد. في كل حالة من هذه الحالات كان معرضاً لفعل الحرارة، وهذا يدل على التجارب الشديدة التي كان ربنا المبارك خاضعاً لها، والتي ساهمت جميعاً فقط في إعطاء معيار أمثل على كماله. ومن جديد في الآية ٤ نجد أن قربان التقدمة قد يكون مؤلفاً من أقراص مِنْ دَقِيقٍ فَطِيراً مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ وَرِقَاقاً فَطِيراً مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ. في الحالة الأولى لدينا تجسده كمولود من العذراء؛ لدينا ناسوته في كمال، ناسوت متحد بالألوهية. لقد حُبل به من الروح القدس؛ والطحين الناعم كان ممتزجاً بالزيت. في الحالات الأخرى لدينا، كما في الآية السابقة،  مسحته. وهكذا فإن الله أكّد على كلا الجانبين من الحقيقة لنا. لقد كان مولوداً من الروح بدون أبٍ بشري؛ وكان ممسوحاً من الروح القدس عندما كان على وشك أن يدخل أو يبدأ مأموريته العظيمة. ثم، لاحظوا، كان هناك بعض الأشياء التي ما كان ليسمح بها في قربان التقدمة. في اثنتين من هذه الآيات نجد أنه يجب أن يكون قربان التقدمة فطيراً، وفي الآية ١١ نقرأ بشكل واضح مميز أن: "كُلُّ التَّقْدِمَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُونَهَا لِلرَّبِّ لاَ تُصْطَنَعُ خَمِيراً لأَنَّ كُلَّ خَمِيرٍ وَكُلَّ عَسَلٍ لاَ تُوقِدُوا مِنْهُمَا وَقُوداً لِلرَّبِّ". وهذا يرمز إلى انعدام الخطية في الطبيعة البشرية لمخلّصنا. الخمير، في الكتاب المقدس، يدل دائماً على شيء شرير. وهذا يظهر بشكل واضح جداً في تطبيق العهد الجديد لرموز العهد القديم. فنقرأ في ١ كورنثوس ٥: ٧، ٨: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ". بينما كان بنو إسرائيل الأتقياء في العهد القديم يبحثون في منازلهم بعناية ويزيلون كل خمير استعداداً لوليمة الفصح، هكذا فإننا، كمؤمنين، مدعوون إلى أن ندين كل ما هو شرير في قلبنا وحياتنا وأن نزيله على ضوء العمل الذي أُنجز على الصليب. في كل من ١ كورنثوس وغلاطية نقرأ أن "خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". أي بمعنى، أن خطيئة صغيرة أو عقيدة شريرة صغيرة لم يُنتبه إليها ولم تُدن سرعان ما تُفسدُ كلَّ شهادة المرء. ومن جديد ستتذكرون كيف أن ربَّنا نفسه قد استخدم هذا المصطلح. لقد حذّر تلاميذه من خمير الفريسيين والصدوقيين وهيرودس. إن خمير الفريسيين كان النفاق والبر الذاتي؛ وخمير الصدوقيين كان العقائد الشريرة أو التعاليم المزيفة؛ وخمير هيرودس كان الدنيوية والفساد السياسي. ما من مكان في الكتاب المقدس تُستخدم فيه الخميرة كرمز لأي شيء صالح. المرأة في المثل الذي يرد ذكره في متى ١٣: ٣٣ يُقال أنها خبأت الخمير في ثلاثة أكيال من الدقيق حتى اختمر الجميع. أعرف أن هذا اعتبرَهُ كثيرون كرمز لنشر الإنجيل، ولكن من كان أبداً ليخفي الإنجيل في أي مكان؟ ما من شيء سري حول إعلانه؛ يجب أن ينشر ويكرز به علانية وفي كل مكان. "قال يسوع: "فِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ"، ونفس الشيء يجب أن ينطبق على أتباعه. المرأة التي في المثل هي الكنيسة الزائفة، وليست الحقيقية، وهي لا تخفي الخمير في العالم بل في ثلاثة أكيال دقيق، التي تبدو قربان تقدمة لا سواها، هذه التي نتمعن بها الآن، والتي كان يجب أن لا يكون خمير. بمعنى آخر، يعلّمنا المثل أن كل حقيقة تتعلق بالمسيح قد تُفسدها الكنيسة الزائفة. كما أنه ليس في الرمز خمير، كذلك ففي المسيح ليس هناك خطيئة؛ إنه قربان تقدمة فطير؛ وكان ذلك ناسوته في كمال بدون أي نزعة نحو الشر من أي نوع كان. لقد أمكنه أن يقول: "إن أمير هذا العالم يأتي وليس فيَّ شيء منه". أما أنا وأنت فلا نستطيع أن نقول هكذا. إننا مدركون لحقيقة أنه عندما يأتي الشيطان ليجرّبنا من الخارج هناك خائنٌ في داخلنا سيفتح له بوابة حصن قلوبنا إن لم نكن محترسين حذرين على الدوام. ولكن معه كان الأمر مختلفاً؛ فتجاربه كلها كانت من الخارج. فهو "مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ". وهذا لا يعني فقط أنه كان "بِلاَ خَطِيَّةٍ"، بل كان "في منأى عن الخطيئة"، أي أنه لم يُجرَّب بخطيئة فطرية؛ لقد كان تقدمةَ قربان فطير.

إننا نتعلّم أيضاً من الآية ١١ أنه لم يكن هناك عسل في قربان التقدمة. العسل هو حلاوة الطبيعة، ولكنه عندما يتعرض للحرارة فإنه سرعان ما يتحمض ويتخمّر. كان هناك شيء أكثر بكثير من الحلاوة الطبيعية في شخص المسيح. كان ذلك هو حبٌ إلهي ومقدس؛ ومشاعره وعواطفه كانت مشاعر ابنٍ لِلّهِ الذي صار إنساناً. لم يكن هناك شيء من الطبيعة وحسب؛ ولذلك فإن محبته لا تَبَدُّلَ ولا تحوُّلَ فيها. وخيانة يهوذا لم تستَطِعْ أن تبدّل هذه المحبة ولا النكران الجبان لبطرس. "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". كم تنفصم الصداقات البشرية وكم تتحول علاقات الحب إلى كراهية! أما معه فكان الأمر مختلفاً.

في الآية ١٣ نقرأ: "كُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلَهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً". أليس غريباً جداً هذا الإلحاح لثلاث مرات على استخدام الملح في القربان؟ ستتذكرون أن مخلّصنا قال: "لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ"، وكان قد أشار في غير موضع إلى هذا المقطع، مؤكداً عليه بطريقة مهيبة (مرقس ٩: ٤٩، ٥٠). إن الملح هو القوة الحافظة للبر الفعال؛ وهذا كان متبدياً فيه أبداً، ويجب أن يتبدى فينا نحن الذين وُلِدْنا من فوق.

هناك تفاصيل أخرى كثيرة في هذا الجزء القيم يمكننا أن نتوسع فيها لفائدتنا، ولكن كل ما أغفلتُه سيصبح واضحاً أكثر، على ما أعتقد، على ضوء ما لاحظناه لتونا إذا ما فكّرنا بانتباه وعناية في حضرة الرب. وكلما تذكرنا أكثر ما يكشفه لنا العهد الجديد في ما يخص المسيح، كلما دخلنا أكثر في الاستمتاع بما لدينا هنا. وإذا صرنا على اطلاع على الحقيقة المتعلقة بشخص الرب فإنها سوف تحفظنا من خطر السقوط في الغلط.

إن السمة البارزة في قربان التقدمة هي أنها مركّبة من الدقيق الناعم. لم يكن هناك دقيق شعير. فلقد كانت تلك التقدمة من أفضل وأنعم دقيق قمح كان مركباً. فهكذا صور الله ناسوت الرب يسوع المسيح، إذ في شخصه كإنسان لم يكن هناك أي شيء يُزعج أي شخص. يا لها من صورة رائعة مذهلة تقدمها لنا الأناجيل الأربعة. لو أنها لم تكن موحى بها، فكم كان أمراً يتعذر تفسيره أن أربعة رجال أَمْكَنَهم أن يتخيلوا هكذا شخصية مذهلة. لو أن الرب يسوع المسيح لم يَعش أبداً، لكانت الأناجيل نفسها من أروع الروائع. ففي كل آداب العالم ليس هناك من شخصية يمكن أبداً أن تضاهي شخصيته. لنفكر به وهو يترعرع في الناصرة، إحدى القرى الأكثر ضعةً في الجليل، مع فرصة ضئيلة له للثقافة أو التهذيب؛ ثم تأملوا به وقد ظهر وسط رجال في عصره، وكان الأكثر دماثة والأكثر ثقافة بينهم على الإطلاق. لقد كان أول جنتلمان أمكن لهذا العالم أن يراه. لقد كان حنوناً، سمحاً، ومراعياً دائماً للآخرين، ومع ذلك صادقاً ومخلصاً للجميع. إن التهذيب، كما يقول المثل، هو أن تفعل ألطف شيء بألطف طريقة، ومن رأى أبداً مثالاً يجسد هذا اللطف كما في الرب يسوع المسيح؟ لقد كان عبير حياته يملأ العالم بعد ١٩٠٠ سنة.

 ورغم أنه صعد الآن إلى المجد، إلا أنه هو نفسه يسوع الذي يجلس على عرش أبيه، رئيس كهنتنا العظيم، الذي يحيا أبداً ليتشفع فينا. وهكذا ففي الآيات ١٤- ١٦ لدينا جانب آخر من قربان التقدمة؛ وهذه المرة نجدها مصنوعة من بواكير الجريش السويق للذرة وقد شويت بالنار. وهذه تُدهن بزيت ويُوضع عليها اللبان. إنها ترمز إليه لأنه ذاك الذي مرَّ بالموت، ولكنه أُقيم ثانية بقوة الحياة التي لا نهاية لها. وقد أُصعد إلى الله بكل كمال ناسوته، ليكون إلى الأبد الإنسان في المجد. ومن هذه، أيضاً، تذكارٌ كان يُحرق على المذبح، لأن قيامته لا يجب أن تنفصل عن موته. إن المسيح الذي مات هو المسيح الذي يحيا ثانية. لعلنا نتعلم أن نتغذى عليه ككهنة في المقدس، مبتهجين هنا على الأرض كما يفرح الله في السماء. هذا هو ما يتم التأكيد عليه بصورة خاصة في (٦ :١٤- ٢٣)، حيث لدينا شريعة قربان التقدمة. فهناك نرى الكهنة يأخذون حصتهم من التقدمة ويتمتعون بها في حضرة الله. لقد كان يجب أن تؤكل في المقدس. إننا جميعاً كهنة الله اليوم، إذا ما أُحصينا من بين المفتدين، وإنه لامتياز مقدس لنا أن نتغذى على المسيح في ديار الله- فنبتهج به، وتنتعش نفوسنا، ونحن نتأمل في عبادة كمالاته. لسنا مدعوين لأن نحلل أو نشرِّح شخص الرب، بل أن نعبده بوقار ونستمتع به، لكيما نصبح أكثر شبهاً به.

المحاضرة ٣

ذبيحة السلامة

اقرأ لاويين، الأصحاح ٣؛ ٧: ١١- ٣٤؛ مزمور ٨٥

إن لذبيحة السلامة قيمة ثمينة مميزة بسبب فرادة صفتها بأنها تعبير عن الصداقة مع الله القائمة على أساس عمل الرب يسوع المسيح على الصليب. كما أظهرنا بالتفصيل لتونا، لا يمكن أن تكون هناك شركة حقيقية مع الله إن كنا نتجاهل ذلك العمل المُنجَزْ. إن التوحيدي يتحدث عن التمتع بالصداقة أو العلاقة مع الله، ولكنه يخلط بين المشاعر الدينية والمشاركة أو الشركة الروحية، لأن الأخيرة لا يمكن أن توجد بمعزل عن الإيمان بالرب يسوع كابن سرمدي لله، واستناد الروح على العمل الذي أنجزه على عود الصليب.

في نفس الحقيقة التي تفيد بأن ذبيحة السلامة يُحتاج إليها تتضمن أن هناك شيئاً ما خطأ فيما يتعلق بالعلاقات بين الله والإنسان. إن الإنسان بالطبيعة ومنذ السقوط غير مؤهل لصحبة الله. إنه يأتي إلى هذا العالم كخاطىءٍ بالطبيعة؛ ومنذ البدء يكون ميله نحو ما هو آثم أكثر منه نحو ما هو مقدس. إنه لأيسر بكثير له أن يخطئ من أن يفعل ما هو صائب وقويم؛ وإنه لأيسر له بكثير أن ينحدر إلى الأسفل من أن يتسامى إلى الأعلى. أعلم أنه طراز قديم هذه الأيام أن تنكر كل هذا، وأن تُعلِّم أن الإنسان آخذٌ في التحسن خلال القرون؛ ولكن ليس الحال هكذا تماماً. فبمعزل عن كلمة الله، خبراتُنا الفعلية تعلِّمُنا أنه أسهل على الإنسان أن يفعل الشر من أن يفعل الخير، وذلك بسبب فساد طبيعته. هتف داود في المزمور ٥١: ٥ : "هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي". بالطبيعة لا يفهم الإنسان أمور الله؛ فلا يستطيع أن يتشارك معه؛ إنه يحب ما يكرهه الله، ويكره ما يحبه الله. إن الله قدوس بالمطلق؛ يحب الخير ويفعل الخير فقط. ليس هناك أي شيء مشترك فعلياً بين الإنسان والله. إن الناس ليسوا فقط خطاة بالطبيعة، ولكنهم يصبحون متعدين بالممارسة. عن عمدٍ، وطوعياً، ينتهكون الناموس، ويخالفون الوصايا، ويسلكون بحسب مشيئة أنفسهم. وكما تقول لنا الكلمة: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أشعياء ٥٣: ٦). بما أن الله يرغب لنا أن نكون في سلام معه، فإنه يتوق لأن يأتي بنا إلى صحبة وعلاقة معه. ولكن سرعان ما يُطرح هذا السؤال أن: "أنى يمكن لإنسان خاطئ ملوث أن يكون أبداً في سلام مع الله؟ هل يمكننا أن نصنع بأنفسنا السلام معه؟" وغالباً ما نسمع أناساً مهمين جداً يحثون نفوس غير المؤمنين بالمسيح على أن يصنعوا سلاماً مع الله. لا أريد أن أكون مثيراً للشقاق، ولا أريد أن أكون مفرطاً في النقد، ولا أريد أن أجعل إنساناً مذنباً من أجل كلمة، ولكني مقتنع بأن هذا التعبير هو مضلل وخاطئ تماماً. إن ما يقصدونه صحيح تماماً. إنهم يقصدون أن الناس يجب أن يتوبوا عن خطاياهم، وأن يُقِرّوا بحالتهم الساقطة الضالة، وأن يعترفوا بحاجتهم إلى مخلص. ولكن ما من إنسان يستطيع مهما حاول أن يصنع سلامه مع الله. إن المسيح هو الذي يصنع السلام لنا.

"هل تذرف عيناي إلى الأبد،
وهل تبقى حماستي لا تعرف تراخياً،
فهذه ما كان ليمكن أن تُكفّر عن الخطيئة،
أنت تخلّص، وأنت وحدك تُخلّص.
ليس في يدي من ثمن أدفعه،
ولذلك ألتصق بصليبك وحسب".

إنه مجد الإنجيل هو ذاك الذي يكشف لنا قلب الله وقد خرج ورأى الناس في خطاياهم، ويخبرنا عما فعله لكيما ينال الإنسان السلام مع الله، إنه يخبرنا عن المسيح الذي أتى من حضن الآب، من المجد الذي كان له مع الآب قبل أن يُكَوَّن العالم، فصار في نعمة أدنى قليل من الملائكة لكي يعاني آلام الموت، ويذهب إلى الصليب، ذلك الصليب المخيف، حيث صار لعنة لأجلنا لكيما يأتي الله والإنسان معاً إلى انسجام كامل، وهكذا نتصالح مع الله بموته (أي بموت المسيح). "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ". ومع ذلك فإن تلك الحياة الرائعة العجيبة ما كانت لتستطيع بحد ذاتها أن تسوي مسألة الخطيئة وأن تستعيد الإنسان إلى الله. فلكي يفعل ذلك كان لابد له أن يموت، وإذ مات فقد أظهر حقيقة أنه ليس هناك عداوة من جهة الله نحو الإنسان؛ إن كل العداوة هي من جهتنا نحن؛ والآن فإنه يناشدنا لنتصالح مع الله.

إننا نقف متجهين نحوه ومدينين، مدينين ندين له بمبلغ كبير، مدينين ورصيدنا استُنفذ بالكامل، ولذلك فنحن عاجزون تماماً أن نوفي المستحقات المفروضة علينا. إلا أننا نقرأ عن رجُلَين كانا في نفس الوضع تماماً، ونعلم أنه "وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً". وإنه يفعل ذلك على أساس ذبيحة السلامة: لقد بذل المسيح نفسه ليسدد الالتزامات المفروضة علينا نحن. تقول الآيات في (كولوسي ١: ١٩، ٢٠): "لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ أمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ". هذه هي ذبيحة السلامة. لقد صنع سلاماً بدمه الذي أراقه على الصليب. في أفسس ٢: ١٣، ١٤ نقرأ: "لَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ". هذا ما يتم تصويره بشكل رائع في ذبيحة السلامة التي في القديم. المسيح نفسه هو سلامنا. وكما قال أحدهم:

"السلام مع الله هو المسيح في المجد،
فالله نور والله محبة؛
لقد مات يسوع ليحكي الرواية،
عن أعداء أتى بهم إلى الله في الأعالي"

السلام مع الله ليس مجرد شعور بالسعادة والطمأنينة في النفس، رغم أن من يحظى بالسلام مع الله لا يمكن إلا أن يتمتع بالسرور، لأنه مكتوب: "فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ" (رو ٥١، ٢). إن السلام مع الله قد صُنِعَ على الصليب، وإننا ننتفع به متى آمنا بذاك المخلص المبارك الذي مات من أجلنا. لقد وجد الله مسرته في ذلك العمل، ونحن نجد مسرتنا هناك، وهكذا نتمتع بالمسيح معاً. إن فرحه هو المسيح وفرحنا هو المسيح؛ فهو يبتهج بالمسيح ونحن أيضاً نبتهج به؛ إنه يتغذى على المسيح ونحن نتغذى على المسيح أيضاً، وهكذا لنا شركة وعلاقة صداقة مباركة سعيدة، على أساس تلك التقدمة ذات الرائحة الطيبة العطرة.

في لاويين ٣ هناك ٣ أضاحي مختلفة يرد الحديث عنها وكل واحدة منها يمكن أن تُقرّب على المذبح كذبيحة سلامة. فأولاً نقرأ: "إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ فَإِنْ قَرَّبَ مِنَ الْبَقَرِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى فَصَحِيحاً يُقَرِّبُهُ أَمَامَ الرَّبِّ" (الآية ١). ثم في الآية ٦ نقرأ: "وإِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مِنَ الْغَنَمِ ذَبِيحَةَ سَلاَمَةٍ لِلرَّبِّ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى فَصَحِيحاً يُقَرِّبُهُ". ومن جديد في الآية ١٢ نقرأ: "وإِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مِنَ الْمَعْزِ يُقَدِّمُهُ أَمَامَ الرَّبِّ". عند النظر إلى ذبيحة المحرقة، رأينا لتونا شيئاً مما توحي به هذه المخلوقات المتعددة بشكل رمزي. فذبيحة البقر تشير إلى المسيح كخادم مكرَّس لله والإنسان، وسواء فكّرنا به كمستقل بشكل كامل، كما يوحي إلينا الذَّكَرُ من هذه الحيوانات، أو الخاضع التابع، كما توحي لنا الأنثى منها، فإننا نستطيع أن نتشارك مع الله من ناحية كلا وجهتي النظر. ثم أن الغنم يرمز إليه على أنه ذاك الذي كُرّس حتى الموت؛ والمعز ترمز إلى ذاك الذي أخذ مكان الخاطئ.

لعله ليس لدينا جميعاً نفس الإدراك تماماً لقيمة وغنى المسيح وعمله، ولكن إن كنا نؤمن به حقاً، ونأتي إلى الله معترفين به، فإننا على أساس من السلام، ولنا أن نقيم صداقة مع الله على مقدار إدراكنا الكامل، وإذ نتابع التعلّم أكثر فأكثر عمّن هو المسيح حقاً، وما هو بالنسبة إلى الله، فإن شركتنا ستتعمق وتتكثف.

كان على المُقرِّب أن يضع يده على رأس الذبيحة التي يُقدمها، وأن يذبحها بنفسه عند باب خيمة الإجتماع. وهذا من جديد يرمز إلى تطابق المقرِّب مع قربانه. إنه يوضح على أكمل وجه حقيقة "البَدَليَّة"، وسوف يؤكد لكل واحد منا حقيقة أننا جميعاً نحتاج إلى بديل، مخلص بلا خطيئة بإمكانه أن يتألم عوضاً عنا. والمسيح هو ذلك البديل، وإننا مسؤولون مباشرة عن موته.

خلافاً لذبيحة المحرقة فإن ذبيحة السلامة لم تكن تُوضَع كلُّها على المذبح، بل جزء صغير فقط منها، أقصد بذلك "الشَّحْمَ الَّذِي يُغَشِّي الأَحْشَاءَ وَسَائِرَ الشَّحْمِ الَّذِي عَلَى الأَحْشَاءِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِمَا الَّذِي عَلَى الْخَاصِرَتَيْنِ وَزِيَادَةَ الْكَبِدِ مَعَ الْكُلْيَتَيْنِ يَنْزِعُهَا"- تلك كانت الأجزاء الواجب حرقها عَلَى نارِ المذبح وَقُودَ رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ. ولاحظوا أن هذه الأجزاء يمكن الوصول إليها فقط بعد موت الأضحية. وهذا يشير إلى أعمق أعماق مشاعر وأحاسيس الرب التي قادته بدافع محبته للآب إلى أن يقدم نفسه للموت لكي يتصالح الناس مع الله. من كان ليسبر غور معنى الكلمات التي تقول: "سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ" (أشعياء ٥٣: ١٢)؟

عندما نأتي إلى شريعة الذبيحة في الأصحاح ٧، مبتدئين بالآية ٨، فإننا نرى بوضوح أكثر لماذا تُدعى هذه الذبيحة بشكل خاص بذبيحة السلامة. إننا نجد الله وشعبه يتمتعان بها معاً. عندما كانت توضع الأجزاء المعينة على المذبح من أجل الشكر (الآية١٢)، كانت تُقدَّم معها أنواع مختلفة من التقادِم المصنوعة من الدقيق، وجميعها ترمز كما رأينا لشخص المسيح. ومن هذه كان جزء صغير يُحرق على المذبح، والبقية كان يأكلها الكهنة. ثم إن صدر الأضحية، الذي يرمز إلى عواطف المسيح، كان يُعطى إلى هارون وبنيه، العائلة الكهنوتية؛ كان جميع الكهنة يأكلون من ذاك الذي يرمز إلى محبة المسيح، لأن هذا هو ما يرمز إليه الصدر. إن الساق اليمنى كانت ترمز إلى قوة الرب، وقدرته الكلية، وكانت هي الجزء الخاص للكاهن المُقَرِّب نفسه. أما بقية الذبيحة فكانت تُؤخذ بعيداً من قِبَلِ المقرب، وكان يأكلها هو وعائلتُه وأصدقاؤُه معاً أمام الرب، مبتهجين بحقيقة الرمزية أن الرَّحْمَة وَالْحَقّ الْتَقَيَا وأن الْبِرّ وَالسَّلاَم تَلاَثَمَا. هذه في الواقع صورة حيوية ومتقنة عن التناول الرباني؛ فالله نفسه وكهنته الممسوحون، والمقرِّبُ وأصدقاؤه، جميعهم يتناولون معاً من نفس الأضحية، قربان ذبيحة السلامة.

والآن، إن كنتُ سأستمتع حقاً بصحبة الله، فيجب أن أكون في حالة ملائمة ولائقة من الروح. فلا يمكن أن تكون هناك شركة بدون أن تكون خطاياي مغفورة وفق الضمير. في الآية ٢٠ نقرأ: "وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي تَأْكُلُ لَحْماً مِنْ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ الَّتِي لِلرَّبِّ وَنَجَاسَتُهَا عَلَيْهَا فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا". فما من مؤمن حقيقي تبقى نجاستُه عليه أمام الله- "وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١: ٧). على ذلك الصليب، عندما أُلقِيَتُ كلُّ آثامنا على المسيح، فإن ذاك الذي كان بلا خطية، أخذ عليه خطايانا. ليس علينا خطيئة الآن بل إن الخطيئة في داخلنا، وهذه الخطيئة ستُدان أبداً على ضوء صليب المسيح. وهذا يتوضح لنا في الآية ١٣: "مَعَ أَقْرَاصِ خُبْزٍ خَمِيرٍ يُقَرِّبُ قُرْبَانَهُ عَلَى ذَبِيحَةِ شُكْرِ سَلاَمَتِهِ". ها هنا مثال واضح عن خبز خمير كان يُستخدم في ذبيحة شكر السلامة. كنا قد لاحظنا أنه ما من خمير كان مسموحاً بوجوده في قربان التقدمة، وأما في هذه التقدمة بالذات فمن الواضح أنه يرمز، ليس إلى المسيح نفسه، بل إلى المتعبّد الذي جاء إلى الله حاملاً ذبيحة سلامته. لكأن الإنسان كان يعترف من خلال هذا العمل قائلاً: "إني خاطئ بائس في داخلي، والخطيئة هي في أمِّ طبيعتي؛ وبسبب ذلك فإني لا أجرؤ على الدنو إلى الله بدون تقدمة". وعلى أساس هذه الذبيحة كان يُقبل ويمكنه الدخول في علاقة صداقة مع الله.

وهكذا نرى أن لدينا هنا تصوير لحقيقة بالغة الأهمية في العهد الجديد. فكل مؤمن لديه خطيئة فيه، ولكن ما من مؤمن عليه خطيئة. لطالما توَّجه الاهتمام والانتباه إلى ثلاثة صلبان على الجلجثة. في الوسط كان صليبٌ عُلِقَّ عليه الإنسانُ الإلهي القدوس الذي لم تكن فيه خطيئة، ولكن كانت عليه الخطايا، إذ في تلك الساعة من ألم نفسه وضع الله عليه إثمَ جميعنا. لم تكن لديه خطايا من ذاته أو خاصة به، بل جُعل مسؤولاً عن خطايانا. وهذه كلها أُضيفت إلى حسابه، كما طلب بولس من فيلمون أن يحسب ديون  أُنِسِيمُسَ عليه. فصار بولس كفيل  أُنِسِيمُسَ ووافق على تسديد الدين عنه. هذه إنما صورة باهتة عما فعله يسوع لأجل الخُطاة عندما "حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ" (١ بطرس ٢: ٢٤). إن اللص غير التائب كانت الخطيئة فيه وكانت الخطيئة عليه؛ فكان بآن معاً خاطئاً بالطبيعة وبالممارسة، وقد رفض بازدراء المخلص الوحيد الذي كان بمقدوره أن يحرره من حمل إثمه. ولذلك دخل إلى حضرة الله بكل خطاياه على نفسه ليُسأل عنها في يوم الدينونة عندما سيجازي الله كل إنسان بحسب أعماله. ولكن كم كانت حالته مختلفة عن حالة ذلك اللص التائب! فهو أيضاً، كان مذنباً وأثيماً كما الآخر، ولكن عندما التجأ في توبة إلى الرب يسوع ووضع عليه ثقته، فبينما ظلت الخطيئة فيه، ما عاد الله يحسب الخطيئة له. فلم تكن الخطيئة عليه لأن الله رآها جميعها قد انتقلت إلى يسوع.

أعرف أن الكثير من المسيحيين يتخيلون أنهم يصلون إلى حالة من النعمة حيث خطاياهم ليست فقط تُغفر، بل حيث الخطيئة الفطرية بالطبيعة تُزال منهم بعملية مباشرة يقوم بها الروح القدس، ولذلك فإنهم يزعمون أنهم تقدسوا كلياً وتحرروا من كل ميل داخلي نحو الخطيئة. ولكن هذا خطأ خطير ويؤدي إلى نتائج فظيعة جسيمة. فلا شيء في كلمة الله يعلّمنا هكذا. إننا، كمؤمنين، نحمل معنا إلى نهاية العمر طبيعتنا الخاطئة، ذلك الفكر الجسداني الذي "لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ" (رو ٨: ٧). ولكن الله يقول بعد ذلك أن الخطيئة لا يجب أن تسود علينا، بلى لا يجب ذلك، إن كنا ندرك بركة الحقيقة في "أَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ" ١ .

هناك أشياء كثيرة جداً في لاويين ٧ يمكننا أن نستفيد منها بشكل كبير وأن نفكر بها، ولكن الوقت لا يسمح بأن نبحث فيها بالتفصيل. إلا أن هناك شيء أرغب أن أؤكد عليه أكثر قبل أن أختم، وذلك هو التوكيد الإلهي بأن تناول الذبيحة كان يجب ألا يكون منفصلاً عن التقدمة على المذبح. لقد كان يجب أن تؤكل في نفس اليوم، في الظروف العادية، أو إن كانت تقدمةً طوعية، فيُمكن أن تُؤكل في اليوم التالي، ولكن بعد ذلك سيكون من المطلوب بصرامة أن يُحرق كل ما تبقى منها بالنار. إن معنى هذا واضح؛ فالله سوف لن يسمح لنا بأن نفصل بين شركتنا معه وعمل المسيح على الصليب. إن صداقتنا معه تستند على الذبيحة الوحيدة الأسمى ألا وهي ربنا يسوع المسيح الذي صنع سلاماً لأجلنا. إن الشركة، كما رأينا لتونا، ليست مجرد مشاعر تقوية؛ فهذه قد تكون أكبر انخداع أو وهم، وقد تكون مجرد رضى داخل نفس تتخيل أنها صالحة بدلاً من انشغال القلب بالمسيح. إنه لأمر خطر بأن ننشغل بأي ذات صالحة كما بأي ذات سيئة. في الحالة الأخيرة على الأرجح أني سأُحبَطُ وأنهارُ، ولكن في الحالة الأولى أرتفع منتفخاً بالكبرياء وبالتخيل الشديد الخطر من ذاتي الأَنَويّة الروحية بأني في شركة مع الله.

هنا تماماً عشاء الرب يخاطب قلوب شعب الله. إذ على مائدته ننشغل بالمسيح نفسه وبما فعله لأجلنا عندما تنازل بالنعمة وأخذ مكاننا في الدينونة وصنع سلاماً بدم صليبه. وإذ نتأمل في هذه الأسرار السامية الجليلة، تُقاد نفوسنا إلى المقدس، إلى الحضرة المباشرة لله في صحبة مقدسة وشركة لا مثيل لها في الحلاوة. وندرك أن ذلك الحجاب سوف لن يُخفي اللهَ عنا من بعد، ولن يمنعَ دخولَنا إليه. عندما صرخ يسوع: "قد تم"، فإن حجاب الهيكل انشق من الأعلى إلى الأسفل. لقد كانت يدُ الله هي التي مزقت ذلك الحجاب، والآن يطلب إلينا أن ندخل بجرأة إلى حضوره المباشر نخرُّ راكعين ساجدين أمام وجهه لنباركه ونعبده ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا.

"الحجاب ينشق، ونفوسنا تدنو
إلى عرش النعمة؛
فضائل الرب تظهر،
إنها تملأ المقدس.
دمه الثمين قد نطق هناك،
أمام وعند العرش،
وجراحه ذاتها في السماء تعلن
أن عمله الكفاري قد تمَّ.
لقد تمَّ- وهنا تجد نفوسنا الراحة،
فعمله لا يمكن أبداً أن يخفق،
فبهِ، ذبيحتنا وكاهننا، نجتاز من خلال الحجاب".

وهناك، مع كل الحشد الذي اشتراه بدمه، نأكل من ذبيحة السلامة متّكلين على محبته ونعمته اللا محدودة ذاك الذي عبَّرَ بشكل كامل عن قلب الله نحو الإنسان الخاطئ ببذله حياته المقدسة بالموت من أجلنا. أن نحاول أن نعبده بمعزل عن هذا ما هو إلا مدعاة للسخرية. كل الخبرات الدينية وحقيقة المشاعر التي لا ترتبط بعمل الصليب هي ضلال وخداع للنفس وحسب، إذ لا يمكن أن تكون هناك شركة حقيقية مع الله إلا بالارتباط مع عمل الصليب الذي قام به ربنا يسوع المسيح.

أُضيفُ بعض الملاحظات المتعلقة بالمزمور ٨٥، الذي لا نخطئ إذا دعوناه مزمور ذبيحة السلامة، لاحظوا الآيتين ١ و ٢: "رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ". ثم لاحظوا الآيات ٧- ١١: "أَرِنَا يَا رَبُّ رَحْمَتَكَ وَأَعْطِنَا خَلاَصَكَ. إِنِّي أَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ اللهُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ. لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ لِيَسْكُنَ الْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا. الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا. الْحَقُّ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُتُ وَالْبِرُّ مِنَ السَّمَاءِ يَطَّلِعُ". إن الله نفسه هو من يعطي السلام لشعبه، لأنه وحده يمكن أن يضع مخططاً به تلتقي الرحمة والحق ويتعانق البر والسلام. الحق والبر يتطلبان تسديد ديننا الكبير قبل أن تتبدى الرحمة للخاطئ. من الواضح أن الإنسان ما كان ليستطيع أن يسوّي الخلافات بينه وبين الله؛ وما كان ليستطيع أن يكفّر عن خطاياه. مكتوبٌ في زكريا ٦: ١٢، ١٣: "وَقُلْ لَهُ: هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُوَذَا الرَّجُلُ [الْغُصْنُ] اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ. فَهُوَ يَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَلاَلَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ وَتَكُونُ مَشُورَةُ السَّلاَمِ بَيْنَهُمَا كِلَيْهِمَا". مشورة السلام هي بين رب الجنود و الرَّجُل الذي اسْمُهُ "الْغُصْنُ"، أو – بلغة العهد الجديد- هي بين الآب والابن. لقد صُنِعَ السلامُ عندما أَخَذَ ربُّنا يسوعُ مكانَنا على الصليب وسدّد كل مطالب جلالة عرش الله الغاضبة. والآن يتحد البر والسلام معاً إلى الأبد، وإذ قد تَبرّرنا بالإيمان فلنا سلام مع الله. ليس هذا مجرد إحساس بالبرّ في قلوبنا، بل إنه أكثر من ذلك بكثير. إنه مسألة تمت تسويتُها بين الله والخاطيء في برّ كامل، ولذلك أمكن للنعمة الآن أن تنسكب على الإنسان الخاطئ الأثيم. عندما نؤمن بذلك ندخل إلى السلام. ونستمتع بما صنعه المسيح.   

هناك حادثة لطالما سُرِدَت، ولكنها خير مثال يُوضِحُ ما أحاول أن أقوله. فعند نهاية الحرب بين الولايات (المتحدة)، كانت مجموعة من الفرسان الفيدراليين يمتطون جيادهم على الطريق نحو ريتشموند في أحد الأيام، وإذا شخص رث الثياب بائس فقير ضعيف هزيل الجسم، ولا يرتدي سوى بقايا بذلة فيدرالية رثة، خرج من بين الأشجار على أحد جانبي الطريق، واجتذبَ انتباهَهم بتسوله خبزاً بصوت أجش. قال لهم أنه كان يتضور جوعاً في الغابة منذ أسابيع، وأنه كان يقتات على ثمر العلّيق وبعض الجذور التي كان يجدها. فاقترحوا عليه أن يذهب معهم إلى ريتشموند ويحصل من هناك على ما يحتاجه. فاعترض قائلاً أنه كان هارباً من الخدمة في الجيش الفيدرالي، وأنه لم يكن يجرؤ على إظهار نفسه لئلا يُعتقل ويقيد في السجون، أو يُعدم بالرصاص لأنه هرب من الخدمة في وقت الحرب. فنظروا إليه في ذهول وسألوه: "ألم تسمع الخبر؟" فسألهم قلقاً: "أي خبر؟" فقالوا له: "إن الكونفدرالية ما عادت موجودة. فالجنرال لي استسلم للجنرال غرانت قبل أسبوع، و السلام قد حلّ". فهتف قائلاً: "آه. السلام قد حل، وأنا كنتُ أتضور جوعاً في الغابة لأني لم أسمع النبأ". وإذ صدّق ما قالوه له، ذهب معهم إلى المدينة، فوجد الراحة والطعام.

أيا أخي غير المُخلّص، دعني أؤكّد لك الحقيقة المباركة أن السلام قد حلّ عندما مات مخلّصُنا المعبود عن خطايانا على صليب العار. آمنْ بهذه الرسالة التي أقولها لك، وانتفعْ منها. وتذكَّرْ أن السلام لا يقوم على أساس تصوراتك أو مشاعرك، بل على عمله المتمَّمْ.

"لا يقدرُ أي شيء أو أحد أن يهز الصليب،
أو يمس السلام الذي أتى به،
أو يقول لي أن المسيح لم يمُتْ،
أو أنه لم يغادر القبر".

طالما بقيت هذه الحقائق المباركة- أعني بها موت وقيامة ربنا يسوع المسيح- يبقى سلامنا راسخاً مضموناً.


١. لقد حاولتُ أن أتوسّع في هذا الموضوع في كتابي "القداسة: الوهمية والحقيقية"، وأجرؤ على تشجيع كل من لديه مشكلة بخصوص هذا الموضوع على قراءة هذا الكتاب.

المحاضرة ٤

ذبيحة الخطية

اقرأ لاويين، الأصحاح ٤؛ ٥: ١- ١٣؛ ٦: ٢٤- ٣٠؛ مزمور ٢٢؛ ٢ كورنثوس ٥: ٢١.

لقد لاحظْنا لتوّنا أنَّ القرابينَ الدموية مقسّمة إلى نوعين: تقدمات رائحة سرور (أو رضا) وذبائح عن الخطايا. ذبيحة المحرقة وذبيحة السلامة هما من النوع الأول، بينما ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم من النوع الثاني. لم يكن يُؤْتى بذبيحة المحرقة لأن الأموركانت تسير على غير ما يُرام؛ لقد كانت تعبيراً عن عبادة المُقرِّب. لقد كان يأتي بها إلى الله كدليل على امتنان قلبه بسبب ما كان الله بالنسبة له وما فعله لأجله، وهذه كانت تصعد إلى الرب كرائحة رضى. وكما رأينا، كانت تمثّلُ الرّبَّ يسوع المسيح مقدماً نفسه بدون أية وصمةٍ أو لطخةٍ لله كتقدمةً رائحة سرورٍ بالنيابة عنا. عندما نأتي إلى حضرة الله كمتعبدين وقلوبنا منشغلة بالمسيح، فإننا نأتي ومعنا ذبيحة المحرقة. تُؤْخَذُ نفوسُنا به، وهو المستحق، الذي بذل نفسه عنا نحن الذين كنا غير مستحقين. إننا نفكر به ليس فقط على أنه ذاك الذي مات عن خطايانا، بل كإله متمجد في هذا العالم حيث أخزيناه وخذلناه كثيراً، ونعبده بسبب ما هو عليه، وأيضاً بسبب ما فعله. إن الطفل يحب والدته ليس فقط بسبب ما تفعله بل بسبب ما هي عليه. إن قلبها المحب الحنون هو الذي يجتذب الطفل إليها. وكذلك كان بنو إسرائيل يعبّرون عن عبادة نفوسهم من خلال ذبيحة المحرقة. لقد كانت اعترافاً بصلاح الله، ولأنه رأى فيها ما يرمز إلى ابنه فقد صعدت كرائحة سرورٍ إليه. وإذ رأى دخان المحرقة يتصاعد إلى السماء، فإنه كان ينظر إلى الجلجثة؛ فأمكنه أن يرى مسبقاً كل ذلك العمل المُبارَك الذي سيقوم به الرب يسوع، والذي يدل على كم كان يعني ذلك بالنسبة له؟ في تكوين ٨: ١٠، ٢١ نقرأ كيف أن نوح قد قدم محرقة على الأرض المتجددة، ونعلَمُ أن الرب تنسم رائحة الرضى، أو، كما تُورِد هوامش أحد طبعات الكتاب المقدس، "رائحة الارتياح". لقد كان شيئاً يجد قلبُه فيه مسرةً، ليس بسبب أي قيمة جوهرية فعلية لها بحد ذاتها بل لأنها كانت رمز المسيح وعمله.

ثم في ذبيحة السلامة لدينا اقتراح آخر. ففيه كان الإسرائيلي التقي يعبر عن شركته مع الله ومع الآخرين الذين كانوا يتناولونها معه. إن جزءاً منها كان يُحرق على المذبح. لقد كان يُدعى طعام التقدمة، وكان يرمز إلى رضى الله بالكمالات الداخلية لابنه. ثم كانت تُعطى ساق الرفيعة إلى هارون وأبنائه لكيما يتغذوا عليها. الساق هي مكان القوة. كانت العائلة الكهنوتية تتناول حصّتها من ذاك الجزء الذي يرمز إلى القوة المقتدرة والقوة التي لا تخيب للرب يسوع المسيح. وكان الكاهن المترئس للخدمة يتناول صدر الترديد. الصدر يشير، بالطبع، إلى العواطف، والمحبة، وهكذا كان على الكاهن أن يتناول ذلك الجزء الذي يمثل المحبة الحانية للمخلّص الآتي. ثم كان المقرِّبُ يدعو عائلته وأصدقاءه، وكانوا جميعا يجلسون معاً ويتناولون ما يتبقى من ذبيحة السلامة. كل جزء منها كان يرمز إلى المسيح. ومن هنا فإننا نرى الله، وهارون، وبنيه، والكاهن الخادم، والمقرِّب، وأصدقاءه جميعهم في شركةٍ سعيدةٍ يتناولون معاً تلك الذبيحة التي ترمز إلى المسيح. وكذلك الأمر اليوم، إن جميع أولئك الذين خلصوا بموته على الصليب يُدعون للتمتع بالمسيح معاً في صحبة وعلاقة مقدسة معه نفسه، وهو ذاك الوحيد الذي صنع سلاماً بدم صليبه.

والآن نأتي إلى وجهة نظر أخرى في الأشياء. إلى أن ترى النفس فيه ذاك الذي أخذ مكان الخاطئ وحمل دينونته، لا يمكن أن يتم التمتع بالمسيح أبداً على أنه ذاك الذي صنع سلاماً؛ ولذلك لدينا ذبيحة الخطيئة. إنه لأمر صعب نوعاً ما أن نميز بين الجانبين في ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم؛ ولكن الأولى تبدو نوعاً ما على أنها ترى الخطيئة كتعبير عن الحالة النجسة الدنسة التي في نفس طبيعة الخاطئ؛ في حين أن ذبيحة الإثم تؤكد على حقيقة أن الخطيئة يجب أن تُرى كدَيْن لا يمكن لإنسان أن يدفعه، ديناً لا بد أن يدفعه شخص آخر إن كان ولا بد من ذلك. لا أقول أن ذبيحة الخطيئة ترى فقط الطبيعة الشريرة فينا، لأن ذلك سيكون خطأ. من الواضح، على ما اعتقد، أن التعديات والآثام الفعلية هي التي نصب أعيننا في الأصحاحات ٤و٥ - ولكن ما أؤكّد على قوله هنا هو أن هذه الآثام والخطايا إنما هي إظهارات للطبيعة الفاسدة في ذاك الذي يرتكبها. فأنا لست خاطئاً لأني أخطئ؛ بل إني أخطئ لأني خاطئ. فأنا نفسي، نجس في عيني الله؛ وإني غير مؤهل أبداً للمثول أمامه؛ فأفعالي الشريرة تجعل هذا الأمر ظاهراً؛ ومن هنا الحاجة إلى ذبيحة الخطيئة. لنكن على يقين من أن هذه الذبيحة مثل بقية الذبائح إنما ترمز إلى المسيح، إذ كما نعلم من ٢ كورنثوس ٥: ٢١: "لأَنَّهُ (أي الله) جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ". إن الكلمات الأصلية المستخدمة لـ "الخطيئة" و"ذبيحة الخطية" هي نفسها في كلا العهدين، ولذلك يمكن أن نصيغ الآية بشكل آخر كما يلي: "لأَنّ الله جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، ذبيحةَ خَطِيَّة لأَجْلِنَا". وفي الرسالة إلى العبرانيين في الأصحاحات ٩ و ١٠، يُظهِرُ الروحُ القدس بوضوح كيف أن ذبيحة الخطية في القديم كانت ترمز إلى ذبيحته الوحيدة على صليب الجلجثة. في الواقع، في الاقتباس المأخوذ من المزمور ٤٠ كما نجده في الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٥، ٦، إن كل التقدمات والذبائح مُتَضمنة، وكلها تُظهِرُ على أن اكتمالها هو في عمل المسيح. "الذبيحة" هي ذبيحة السلامة؛ و"القربان" هو قربان التقدمة؛ و"المحرقة" تدل على ذاتها والعبارة "ذبيحةٌ للخطية" تشمل كلاً من ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. ما نقرأُه أن "بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً"، في الآية ١٠، و"قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً"، في الآية ١٢، يُظهرُِ أن المسيح قد أنجز كل هذه الأنواع وكان هو المرموز إليه فيها.

ولننتقل إلى لاويين ٤: ٢. فنقرأ: "إِذَا أَخْطَأَتْ نَفْسٌ سَهْواً فِي شَيْءٍ مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَعَمِلَتْ وَاحِدَةً مِنْهَا"- ثم يعطي تعليمات حول كيفية معالجة الخطيئة. لاحظوا أنه لم يكن هناك ذبيحة خطيةٍ عن الخطايا المتعمدة المقصودة بحسب الشريعة. لقد كانت فقط الخطايا التي تُرتكب عن جهل. ولكن منذ الصليب، صار الله، بنعمته اللا محدودة، يحسب خطيئةً واحدةً فقط متعمدةً، وتلك هي الرفض النهائي لابنه المحبوب. كل الخطايا الأخرى يُنظر إليها كخطايا جهل؛ إنها ناتجة عن القلب الخاطئ الممتلئ بالجحود الذي في داخل كل واحد. إن الناس يخطئون بسبب الجهل الذي فيهم. تذكرون كلمات بطرس إلى بني إسرائيل الآثمين وهو يؤنبهم على خطيئتهم الشنيعة الرهيبة في صلبهم لرب المجد. فيقول: "وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً". والرسول بولس، في حديثه عن صلب وموت المسيح، يقول: "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ". كم هي عظيمةٌ هذه النعمة المتجلية هنا! إن أبشع الخطايا نفسها التي ارتُكبت في تاريخ العالم يصنّفُها الله على أنها خطيئة جهل. وهكذا فإن ذبيحة الخطية متاحة لكل إنسان يرغب في أن يخلص. مهما كان سجلك (من الخطايا)، فإن الله ينظر إليك بشفقةٍ ورحمةٍ غير محدودة ومحبة، ويفتح باب الرحمة لك، لأنك أخطأت عن دون قصد. ولكن إن ظللتَ ترفض الرحمة التي يقدمها لك بالنعمة، فعندها ما عدت تستطيع أن تدّعي الجهل، لأنك تصلب بنفسك ابن الله من جديد وتعرضه للعار العلني. هذه هي الخطيئة المتعمدة المقصودة التي توصف بشكل مريع في الرسالة إلى العبرانيين، الخطيئة التي ليس لها مغفرة، إنها ليست موضوع مسيحي سقط وأخفق؛ بل إنها خطيئة الإنسان المستنير، ذاك الذي يعرف الإنجيل، والمتيقن فكرياً من حقيقته، الذي يدير ظهره عن عمد إلى تلك الحقيقة، ويرفض في نهاية الأمر أن يعترف بابن الله مخلِّصاً له. ليس هناك أمام هكذا إنسان سوى "قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ" (عب ١٠: ٢٧). إلا أن كل خاطئ بائس يرغب في أن يخلص يمكنه أن يستفيد من ذبيحة الخطية العظيمة (المسيح)، ويعلَم أن كل آثامه قد أُزيلَتْ.

في لاويين ٤: ٣ نقرأ: "إِنْ كَانَ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ يُخْطِئُ"؛ وفي الآية ١٣ نقرأ: "وَإِنْ سَهَا كُلُّ جَمَاعَةِ إسرائيل وَأُخْفِيَ أَمْرٌ عَنْ أَعْيُنِ الْمَجْمَعِ وَعَمِلُوا وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمُوا"؛ ثم في الآية ٢٢ نقرأ: "إِذَا أَخْطَأَ رَئِيسٌ وَعَمِلَ بِسَهْوٍ وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ إِلَهِهِ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمَ"، بينما في الآية ٢٧ نقرأ: "إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ مِنْ عَامَّةِ الأَرْضِ سَهْواً بِعَمَلِهِ وَاحِدَةً مِنْ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمَ". عندما تقرأ التعليمات التي تلي ذلك ستلاحظ أن هناك عدة درجات من ذبائح الخطية. إِنْ خطِئ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ كان عليه أن يأتي بثور ابْن بَقَرٍ فتي، وهذه كانت أيضاً ذبيحة عن كل الجماعة؛ ولكن إن خطِئ رَئِيسٌ كان عليه أن يَأْتِي بِقُرْبَانِهِ تَيْساً مِنَ الْمَعْزِ ذَكَراً صَحِيحاً. من ناحية أخرى، إن خطئ واحدٌ من عامة الناس، كان يتوجب عليه أن يقرّب عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ أُنْثَى صَحِيحَةً أو غنمة من الماشية. ولكن في الأصحاح ٥: ١١- ١٣، نجد أنه حتى القرابين الأقل أو الأدنى كانت مقبولة إن كان المقرِّبُ في فقر مدقع. كل هذا يوحي بفكرة أن المسؤولية تزداد مع الامتياز. كان الكاهن الممسوح خاطئاً كما الجماعة كلها؛ كان يجب أن يعرف أفضل لأنه كان أقرب منهم بكثير إلى الله في الامتياز الظاهري. ثم الحاكم، ورغم أنه لا يكون مسؤولاً على نفس القدر مثل الكاهن، فقد كان أكثر مسؤولية من أحد عامة الشعب. هناك مبدأ هنا يجدر بنا أن نتذكره. كلما زاد الضوء الذي تلقيه حقيقة الله أمامك وكلما عظمت الامتيازات التي نتمتع بها في هذا العالم، كلما اعتبرَنا الله مسؤولين أكثر؛ وسوف نُدعى إلى تقديم حساب بحسب الحق الذي جعله معروفاً لنا. وللأسف أيها الأخوة، أليست حقيقةً مؤسفة تجعلنا نشعر بالخزي أمام الله في أن كثيرين منا، الذين يفتخرون في أنفسهم بالإعلان الرائع للحق، يكونون أحياناً أكثر إهمالاً ولا مبالاة في سلوكهم، ويصبحون أحجار عثرة لأولئك الذين هم أقل استنارةً منهم؟ كم نحن في حاجة إلى أن نلتجئ إلى ذبيحة الخطيئة العظيمة، لنتذكر، ونحن ننحني في الاعتراف بإخفاقنا أمام الله، أن كل خطايانا قد عولِجَتْ بصليب المسيح.

ليست هناك حاجة كبيرة إلى أن ندخل في كل التفاصيل  المتعلقة بكل ذبيحةٍ، ولكن لعلنا ننظر بشكل خاص إلى تلك التي يجب أن يقدمها الكاهن، إذ أنها تنطبق عملياً على كل شيء يُذكر فيما يتعلق بالذبائح الأقل شأناً. لاحظوا أولاً، أن الكاهن كان عليه أن يأتي بثور فتي صحيح لا عيب فيه إلى الرب كذبيحة خطية. ذاك الذي لم يعرف خطية، قد صار خطيئة لأجلنا! -وإلى هذا يرمز ذلك الثور الصحيح الذي بلا عيب. كان يجب أن يُؤْتى به إلى باب خيمة الاجتماع للجماعة، أمام الرب. كان على الخاطئ أن يطابق نفسه مع الذبيحة التي يقدمها بأن يضع يدَه على رأسها ويذبحها بنفسه، ثم الكاهن القائم بالخدمة يأخذ دم الثور، ويدخل إلى المقدس فيرشه سبع مرات أمام الرب أمام الحجاب. كان عليه أن يضع بعضاً من الدم عَلَى قُرُونِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ الْعَطِرِ الَّذِي فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ أمَامَ الرَّبِّ. وما تبقّى منه كان يجب أن يَصُبّهُ إلَى أسْفَلِ مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ. يا لها من دروس مهيبة نتعلمها هنا! فهنا على هذه الأرض مات ربُّنا المبارَك كذبيحة عن الخطية عظيمة من أجلنا ؛ وهنا انسكب دمُه عند أقدام صليبه. وتشربت الأرض من دم خالِقِها. وذاك الدم المهراق يدل على الحياة التي بُذِلَت (لأجلنا). في لاويين ١٧: ١١، يقول الله: "نَفْس الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ فَأنَا أعْطَيْتُكُمْ إيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ". حياتُه المقدسة والخالية من كل عيب والنقية والتي لا دنس فيها قد وَضَعها بالموت من أجلنا نحن الخطأة بالطبيعة وبالممارسة، والآن، وإذ نضع عليه إيماننا وثقتنا، فيمكننا أن نرنم قائلين:

"على حياة لم أعشْها،
وموت لم أمُتْهُ،
بل على حياة آخر، وموت آخر،
أضعُ كل حياتي الأبدية"

ولكن ذلك الدم المهراق هنا على الأرض كان قد نفذ إلى السموات لتوه. لقد كان يُحمل إلى المقدس، ورش الدم لسبع مرات كان يُجرى داخل الحجاب الذي كان لا يزال قائماً في نظام العبادة ذاك الذي في القديم. لقد كان شهادةً أمام الله عن العمل الذي أُكمل هنا على الأرض. ثم أن الدم الذي على قرون المذبح الذهبي مرتبطٌ بالمذبح الذي في المقدس والمذبح الكبير الذي كان خارجاً في الباحة، لأن المذبح البرونزي كان يرمز إلى عمل المسيح في هذا العالم؛ وكان المذبح الذهبي يرمز إلى عمله في السماء والدم كان مرتبط بكليهما معاً. إن شفاعته في السماء تستند إلى عمله الذي أنجزه على الصليب.

في الآية ٨ نعلم أن الكاهن كان عليه أن ينتزع من الثور كل الدهن وبعض الأجزاء الداخلية المحددة من الذبيحة والتي كان يمكن الصول إليها فقط بموتها، وكان عليه أن يحرقها على مذبح المحرقة. لم تكن هذه رائحة سرور، لأنها كانت ترمز إلى المسيح وقد جُعل خطيئة لأجلنا. هذا يتم التأكيد عليه أكثر عندما نقرأ أن جلد الثور وكل ما يتبقى من جسد الذبيحة حتى الثور بأكمله، كان يجب أن يُحْمَلَ إلى خارج المحلة حيث يُذر الرماد ويُحرق على خشب النار. هذا يُعبّر عن الحقيقة المريعة في أن المسيح قد جُعِل "لعنة" من أجلنا. نقرأ في عبرانيين ١٣: ١١: "فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ". لقد دخل إلى مكان الظلمة والنؤي لكي يأتي بنا إلى مكان النور والقرب من الله إلى أبد الآبدين. في لاويين ١٣ كان يُوضع المجذوم خارج المحلة. لقد كان مكان الأشياء النجسة، وهكذا ربنا، عندما صار ذبيحة الخطيئة العظيمة قد عُمل وكأنه أخذ مكان النجسين، رغم أنه نفسه كان القدوس المطلق. وعلى كل حال، إن المكان نفسه يدعى "مكان طاهر". وليس من نجاسة فعلية تُلحق به.

من المهم أن نعلم أنه ليس الألم الجسدي فقط هو الذي صنع كفارةً عن الخطية. ولم يكن الجَلْدُ بالسياط في قاعة محكمة بيلاطس، والآلام التي عانها من الجنود الأردياء والسفهاء في بلاط هيرودس، أو تتويجه بأكاليل الشوك والجَلْد -هذه لم تكن بحد ذاتها لتكفّر عن إثمنا. ولكن نقرأ في أشعياء ٥٣, "جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ". لقد كان ما عاناه ربنا في أعمق أعماق كيانه هو الذي سدَّدَ مطاليبَ العدالة الإلهية وسوّى مسألة الخطيئة. لقد لاحظتم، بلا ريب، أن مخلصنا المبارَك قد عُلق على ذلك الصليب الملعون لست ساعات، وهذه الساعات الست مقسمة إلى قسمين. من الساعة الثالثة إلى الساعة السادسة، أي من الساعة ٩ صباحاً إلى الظهيرة، حيث كانت الشمس مشرقة على هذا العالم، ورغم كل آلامه الشديدة، فإن ربنا كان في علاقة شركة لا تنفصم مع الآب آنذاك. ولكن من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، أي من الساعة ٣ بعد الظهر، حَلَّت الظلمة على كل الأرض. ما حدث في تلك الساعات الرهيبة وحدُه الله وابنُه المبارك يعرفها. وعندها جُعلِتْ نفسُ يسوع ذبيحةَ خطيئة. عندما كانت الظلمة تحل، صرخ يسوعُ في ألم "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟". لعلك ترى معي أن في خطايانا وطبيعتنا الفطرية الخاطئة الجواب على تلك الصرخة. لقد تُرك لكي ندخل نحن الخطأة كمفديين إلى حضرة الآب. وإلى هذا كان يرمز حرق الذبيحة خارج المحلة. لاحظوا، كان يجب أن تُحمل إلى مكان طاهر. لقد قلنا أن المكان في الخارج كان مكان النجاسة في حالة المجزوم، وهذا صحيح، ولكن النجاسة لم تكن بأي معنى من المعاني ملتصقة بيسوع؛ وحتى في ذبيحة الخطية كان كامل القداسة. لم تكن فيه خطيئة رغم أن خطايانا قد وُضِعت عليه.

إن دراسة متأنية لأشكال وغايات ذبائح الناس ستُلقي ضوءاً على بعض التفاصيل التي لم يتناولها أحد، ولكن لستُ في وارد أن أُسهب فيها هنا إذ أن كل شيء سيكون واضحاً على ضوء ما رأيناه لتونا.

لدينا في الأصحاح ٥ بعض الأشياء التي تَلفت انتباهنا. في الآيات الأربع الأولى, لدينا درجات مختلفة من النجاسة بسبب الخطيئة. "وَإِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَسَمِعَ صَوْتَ حَلْفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ يُبْصِرُ أَوْ يَعْرِفُ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ حَمَلَ ذَنْبَهُ. أَوْ إِذَا مَسَّ أَحَدٌ شَيْئاً نَجِساً: جُثَّةَ وَحْشٍ نَجِسٍ أَوْ جُثَّةَ بَهِيمَةٍ نَجِسَةٍ أَوْ جُثَّةَ دَبِيبٍ نَجِسٍ وَأُخْفِيَ عَنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ وَمُذْنِبٌ. أَوْ إِذَا مَسَّ نَجَاسَةَ إِنْسَانٍ مِنْ جَمِيعِ نَجَاسَاتِهِ الَّتِي يَتَنَجَّسُ بِهَا وَأُخْفِيَ عَنْهُ ثُمَّ عُلِمَ فَهُوَ مُذْنِبٌ. أَوْ إِذَا حَلَفَ أَحَدٌ مُفْتَرِطاً بِشَفَتَيْهِ لِلإِسَاءَةِ أَوْ لِلإِحْسَانِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَفْتَرِطُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الْيَمِينِ وَأُخْفِيَ عَنْهُ ثُمَّ عُلِمَ فَهُوَ مُذْنِبٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ". هذه توحي بما أسهبتُ لتوّي في شرحه, بأن ذبيحة الخطية مرتبطة بالخطية كدليل على فساد طبيعتنا. أيّ من هذه الأشياء سيُظهر النجاسة المخفية. ثم في الآية ٥ نقرأ: "فَإِنْ كَانَ يُذْنِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ يُقِرُّ بِمَا قَدْ أَخْطَأَ بِهِ". لاحظوا قطعية الاعتراف. لا يكفي مجرد الإقرار العام بالفشل. على المُتّهم أن يواجه إثمه الحقيقي ويعترف به في حضرة الله, ولذلك نقرأ: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ". لا يكفي أن يطلب المغفرة, أو كما نفعل عندما نُقرّ بشكل عام بكل إخفاقاتنا- "أننا لم نفعل الأشياء التي كان يجب أن نفعلها, بل فعلنا أشياء ما كان يجب أن نفعلها", بل يجب أن يكون هناك اعتراف محدد لكي نحصل على مغفرة محددة قطعية.

ثم في الآيات ٦- ١٣ لاحظوا نعمة الله في تدبيره الذي صنعه حتى لأفقر الناس في شعبه. مهما كان إدراكنا وفهمنا ضعيفاً للمسيح، فإننا إن أتينا إلى الله باسمه سوف يغفر لنا. إن المُقرِّب في الظروف العادية كان عليه أن يأتي بأنثى من الماشية شاةً أو معزة من أجل ذبيحة الخطية. ولكن الله أخذ الفقر بعين الاعتبار, ونقرأ في الآية ٧: "وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ كِفَايَةً لِشَاةٍ فَيَأْتِي بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ الَّذِي أَخْطَأَ بِهِ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ إِلَى الرَّبِّ أَحَدُهُمَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ وَالْآخَرُ مُحْرَقَةٌ". ولكن قد يكون هناك في إسرائيل بعض ممن لا يستطيعون أن يدبّروا حتى ذبيحة كهذه, ولذلك ففي الآية ١١ نقرأ: "وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ فَيَأْتِي بِقُرْبَانِهِ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ عُشْرَ الْإِيفَةِ مِنْ دَقِيقٍ قُرْبَانَ خَطِيَّةٍ. لاَ يَضَعُ عَلَيْهِ زَيْتاً وَلاَ يَجْعَلُ عَلَيْهِ لُبَاناً لأَنَّهُ قُرْبَانُ خَطِيَّةٍ". وبعد ذلك كان على الكاهن أن يأخذ تذكاراً منها ويحرقه على المذبح, وحتى عن هذا نقرأ في الآية ١٣: "فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَيُصْفَحُ عَنْهُ. وَيَكُونُ لِلْكَاهِنِ كَالتَّقْدِمَةِ". لم يكن هناك شيء في هذه الذبيحة يرمز إلى إهراق الدم، ولكنها كانت تصوِّرُ المسيحَ نفسَه، وهو يأخذ مكان الخاطئ. ومن هنا كان انعدام وجود الزيت واللبان. وإن الله سيقبل هذه عندما لا يستطيع المقرِّبُ أن يأتي بأي شيء آخر فوقها. إنها تخبرنا أن أضعف إدراك لدينا عن المسيح كمخلّص للخطاة يأتي بالمغفرة. قد لا يفهم المرء الكفارة، ولا ما كان يعنيه العمل الفدائي لمخلصنا، ولكنه إن آمن بالمسيح، مهما كان إيمانه ضعيفاً، فإن الله سيُفكر بشخص وعمل ابنه الذي يريد أن يكون الجميع في السماء، فيعطيهم كل وسيلة وكل التبريرات لكي يصلوا إلى هناك. يا لها من نعمة لا مثيل لها!

في الأصحاح ٦: ٢٤- ٣٠، لدينا شريعة ذبيحة الخطية، وتُعطى تعليمات للكاهن فيما يتعلق بطريقة تصرفه بالنسبة إلى تقديم الذبيحة، وكيف يجب أن يعالج الأواني التي استُخدمت من أجل هذه الغاية. ونقرأ مرتين بأن تقدمة الذبيحة هي "قدسُ أقداسٍ". إن الله لن يسمح بأن تكون أفكارنا متدنية فيما يخص قداسة ابنه ذلك لأنه تنازل بالنعمة ليصير خطيئة من أجلنا. لقد كان دائماً وأبداً غير نجسٍ وغير قابلٍ للتنجس.

كان هناك جزءٌ من ذبيحة الخطية يتوجب على الكهنة أن يأكلوه. ولعلنا نفكر بهذا على أنه يوحي بتأملنا بما كان يعني المسيح بأن يأخذ مكان الخاطئ.

"ساعدني على أن أفهم،
لعلني أستوعب،
ما عناه لك، أيها القدوس،
 أن تزيلَ خطيئتي".

لاحظوا بانتباه، لم يكن يجب على الكهنة أن يأكلوا من الخطية – كان عليهم أن يأكلوا من ذبيحة الخطية. وليس من داعٍ بالنسبة لنا أن نتوقف عند الخطيئة، سواء كانت خطيئتنا نحن أم خطايا الآخرين. فإن نفعل ذلك فيه تنجيسٌ على أشد ما يكون. ولكننا جميعاً مدعوون لنتناول من ذبيحة الخطية في قدس الأقداس. في الآية ٣٠, نعلم أنه ليس من ذبيحة خطية "يُدْخَلُ مِنْ دَمِهَا إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِلتَّكْفِيرِ فِي الْقُدْسِ لاَ تُؤْكَلُ. تُحْرَقُ بِنَارٍ". كان بإمكان الكهنة أن يشاركوا فقط في أجزاء محددة من هكذا قرابين وذبائح طالما أنها لم تُحرق خارج المحلّة، ولا رُش الدم أمام الحجاب. لا يمكننا أن ندخل إلى امتلاء موت المسيح. إن إدراكنا وفهمنا لما عاناه من أجل الخطيئة لا بُدّ وأنه فهمٌ ضعيفٌ دائماً، ولعل إدراكنا الكامل له سيكون أيضاً أكثر مما تحتمله قلوبنا عقولنا الضعيفة. لقد حطم فؤاده (مزمور ٦٩: ٢٠)؛ وسيسحقنا بشكل كامل؛ ولكن، والحمد لله، هناك معنى نستطيع به أن نتناول من ذبيحة الخطية في المقدس ونحن نتأمل بما كشفه لنا الكتاب المقدس بما يتعلق بالعمل الكفاري على صليب العار ذاك. إن قرأنا بعناية المزمور ٢٢، والذي يمكن أن نسميه مزمور ذبيحة الخطية، فإننا ندخل، بدرجةٍ ما، إلى ما مرت به روحه المقدسة عندما أخذ مكاننا في الدينونة. أن نفعل ذلك بوقار وخشية يعني أن نتناول من ذبيحة الخطية بطريقةٍ مقبولةٍ لدى الله.

ختاماً دعوني أقول أن الله بتقديمه ابنه ليأخذ مكان الخاطئ، قد عبّر إلى المنتهى عن محبته غير المحدودة نحو الإنسان الساقط الضال. فأي إثمٍ عظيم سيكون لذلك الإنسان الذي يرفض هكذا نعمة ويدوس على هكذا محبة؟ ماذا يمكن أن يكون له سوى "قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ" (عب ١٠: ٢٧).

"نعمةٌ كهذه, إن احتُقرَت, تجلب دينونة,
على مقدار الغضب الذي احتمله"

يفترض الله أن ما أحد تأتي إليه هذه الرسالة قد يدوس هكذا لطف مُحِبّ فيستحق دينونة رهيبة من جرّاء ذلك.

نعلم من يوحنا ٣: ١٨ أن "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". وفي يوحنا ٣: ١٨، الخطيئة التي جاء الروح القدس ليبكّتَ الناس عليها هي: "أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي". هذه خطيئة متعمدة، ومن أجل هذه الخطيئة، إن لم تكن هناك توبة عنها، لن تكون هناك مغفرة، وحتى العمل الافتدائي للمسيح سوف لن يفيد في تخليص الخاطئ الذي يرفض بازدراء ذاك الذي مات ليمحو الخطية بذبيحة نفسه. أن نشيح الوجه عن رسالة الإنجيل -أن نرفض بعمد وبشكلٍ نهائي ذاك الذي صار ذبيحة الخطيئة العظيمة على تلك الشجرة الملعونة يعني أن نستخف بروح قدس الله، ونطأ بأقدامنا محبة المسيح، معتبرين أن دمه الكفاري الثمين غير مقدس، شيءٌ عامٌ، وبذلك نصلب من جديد ابن الله، ونضعه على صليب العار علانيةً. وهذا يعني كأننا نُلقي في وجه الله الغاضب جسدَ ابنه المذبوح، وهكذا نستنزل غضب الله المحق العادل على المذنب الأثيم الذي يرفض نعمته.

المحاضرة ٥

ذبيحة الإثم

اقرأ لاويين ٥: ١٤- ٦: ٧؛ ٧: ١- ٧؛ مز ٦٩.

الذبيحة التي سنتحدث عنها الآن تمثّل ما نعتبره الجانب الجوهري من عمل الرب على الصليب. إنها تجيب الخاطئ الحريص المتيقظ كاستجابة لمخاوفه، عندما يقلق بخصوص آثامه، ويستفسر باهتمامٍ متسائلاً: "كيف يمكنني أن أخلص من التبعات المستحقة شرعاً لخطاياي؟" إن كل خطيئة هي تعدٍ على جلالة السماء. إنها إثم يُرتكب ضد الحكم الإلهي المقدس، ويتطلب البرّ إجراء تحسينات وإصلاحات فيها، وإلا فإن ذلك الأثيم يُغلق عليه خارج حضور الله وإلى الأبد. إن الإثم يمكن أن يكون أيضاً ضد إخوتنا البشر، ولكن حتى في حالة الخطيئة تلك تكون بشكلٍ أساسيٍ وجوهريٍ ضد الله. لقد أساء داود بشكل شنيع نحو صديقه الجندي, أوريّا الحثّي, ونحو بتشبع نفسها, وبمعنى أعمّ نحو كل بني إسرائيل. ولكنه في صلاة اعترافه,  في المزمور ٥١, صرخ من أعماق قلبه المتألّم قائلاً: "إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ". ولقد كان حزيناً جداً ومُدركاً لجسامة إثمه لدرجة أنه أدرك أن كل دماء الثيران والمِعَز ما كانت لتستطيع أبداً أن تغسل تلك اللطخة, ولذلك يصرخ قائلاً, وهو ينظر بإيمان إلى صليب المسيح: "طَهِّرْنِي بِالزُوّفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ". هذا هو الجانب من الصليب الذي يُحضَر أمامنا في ذبيحة الإثم.

في الآيات الـ ١٣ الواقعة بين لاويين ٥: ١٤- ٦: ٧, لدينا السبب في ذبيحة الإثم وصفة هذه الذبيحة. فنقرأ أولاً: "إِذَا خَانَ أَحَدٌ خِيَانَةً وَأَخْطَأَ سَهْواً فِي أَقْدَاسِ الرَّبِّ يَأْتِي إِلَى الرَّبِّ بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ: كَبْشاً صَحِيحاً مِنَ الْغَنَمِ بِتَقْوِيمِكَ مِنْ شَوَاقِلِ فِضَّةٍ عَلَى شَاقِلِ الْقُدْسِ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ. وَيُعَوِّضُ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ مِنَ الْقُدْسِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْكَاهِنِ فَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ عَنْهُ بِكَبْشِ الْإِثْمِ فَيُصْفَحُ عَنْهُ". هذا هو أوَّل جانب من ذبيحة الإثم. إنه شيءٌ يحدث ضد الله نفسه؛ ولكن، كما في حالة ذبيحة الخطية، يكون قد حصل من جراء الجهل أو عن طريق الجهل. وذلك فمن جديد يذكّرنا النص أن الله ينظر إلى كل الخطيئة كأنها ناشئة عن الجهل الذي في الإنسان؛ ما لم تكن تلك الخطيئة هي الرفض الأخير للرب يسوع المسيح الذي هو قربان خطية عظيم. فأن تفعل ذلك يعني أنك تكون مذنباً ومداناً بخطيئةٍ متعمدةٍ وأبديةٍ. إن الإسرائيلي قد يخطئ في الأشياء المقدسة التي تتعلق بالرب بطرق مختلفة. فمثلاً قد يقلل من تقدير حجم محصوله السنوي، وبالتالي، وعن جهل، يأتي إلى الكاهن بعُشر أقل منما كان يطلبه الناموس. ولكن عندما يُلفت الانتباه إلى حقيقة وضع الأشياء، فإنه لا يجب أن يمرر الإثم وكأن شيئاً لم يكن، بل كان عليه أن يأتي بذبيحة إثمٍ، ومعها المبلغ أو الكمية المقدرة التي يجب أن يضيف إليها الخمس تحت إرشاد وإشراف الكاهن. كانت ذبيحة الإثم تُقَدَّمُ بتوافق مع الناموس، وكانت الفضة تُعطى للكاهن لتُدخل إلى مقدس الرب. ومن هنا، فحيث تكاثرت الخطيئة كانت تتكاثر النعمة أكثر فأكثر، وإن أمكننا القول، فإن الله قد اقتبل فعلياً من تخبط الإنسان أكثر مما كان ليقتبل منه لو لم يحدث ذلك. كم يتضح هذا على ضوء عمل الصليب! فبه تلقى الله مجداً أكثر بكثير منما خسره بخطيئة الإنسان. في المزمور ٦٩ نسمع المتألم القدوس عند الجلجثة يقول: "حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ". لقد سَرَقْنا اللهَ، فهو قد صار ذبيحة إثم، وهو، بذلك، جعل إصلاحاتٍ وتعديلات عند الله تخص كل الخطأ الذي فعلناه، وأضاف الخُمسَ إليه، إذ ليس علينا أن نفكر لوهلة بآلام مخلصنا وكأنها كانت كافية لتكفّر عن تعدياتنا وآثامنا. لقد كان في ذلك العمل المنجز على صليب الجلجثة قيمة لا متناهية، لم تكن فقط لتمحو كل الخطايا الفعلية لجميع أولئك الذين آمنوا به، بل لجميع الذين سيؤمنون به، بل كان هناك أكثر من ذلك وفوق ذلك تلك القيمة التي ما كان أي خاطئ تائب ليستطيع أن يدنوا إلى الله لولاها.

إن الكبش الصحيح في ذبيحة الإثم يرمز إلى القدوس الذي كان "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ". هنا نرى رئيس القطيع, الكبش الفخم الطويل, يُذعِن للموت لكي يُكفّر عن آثامنا. "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا".

في الآيات ١٧- ١٩ نقرأ: "«وَإِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَعَمِلَ وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَلَمْ يَعْلَمْ كَانَ مُذْنِباً وَحَمَلَ ذَنْبَهُ. فَيَأْتِي بِكَبْشٍ صَحِيحٍ مِنَ الْغَنَمِ بِتَقْوِيمِكَ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ إِلَى الْكَاهِنِ فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ سَهْوِهِ الَّذِي سَهَا وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ فَيُصْفَحُ عَنْهُ. إِنَّهُ ذَبِيحَةُ إِثْمٍ. قَدْ أَثِمَ إِثْماً إِلَى الرَّبِّ»". ههنا الحقيقة المهمة التي يتم التأكيد عليها في أن كلمة الله هي معيار الدينونة، وليس معرفتي بها. إن النّفْسَ التي ترتكب الإثم عن جهل، أو أي شيء محظور بحسب شريعة الله، مدانة، حتى ولو لم تعرف بأنها مخطئة. وبدون ذبيحة الإثم لا يمكن لهذه النفس أن تحتمل تبعات تلك الخطايا. المسألة ليست أن الله سيعتبر الناس مسؤولين عن النور الذي لم يحصلوا عليه، بل إنه سيعتبرهم مسؤولين عن أن ينتفعوا من النور الذي كان يعطيه. لقد أعطى الناموسَ لبني إسرائيل؛ وبالتالي هم مذنبون آثمون إذا ما تجاهلوه ولم يطيعوا وصاياه. بما أنه كان لديهم موسى والأنبياء، فإنهم كانوا مسؤولين عن إطاعتهم، كما يعلن ابراهيم للرجل الغني في هادس (الهاوية). ثم ما الذي يمكننا أن نقوله، اليوم، عن أولئك الذين لديهم كل كلمة الله، ومع ذلك يسمحون بإلقاء الكتاب المقدس في منازلهم مُهمَلاً متروكاً، ولا يكلّفون أنفسَهم عناءَ البحث أو السعي ليعرفوا فكر الرب؟ كم ستكون خطيئتهم عظيمة ودينونتهم كبيرة في ذلك اليوم الذي تجاهلوا فيه عن عمد هذا الإعلان الإلهي وهكذا أخفقوا في أن يعرفوا إرادة الله!

في قصة رمزية خالدة لبنيان، عندما قرأ رجل اسمه غريسلس في سفرٍ، أدرك منه ثقل العبء المُلقى على ظهره. وكان ذلك كأن كلمة الله قد أتت فأثقلت على ضمائر الخطاة الذين يشعرون بخطاياهم ويصرخون طالبين الخلاص والانعتاق منها، وعندما يوضع حمل خطايانا أمامنا، فإن ذبيحة الإثم – والحمد لله- تكون قريبة، في متناول أيدينا. ما علينا سوى أن نأتي إلى الله طالبين الاستفادة من امتيازات العمل الكفاري الذي قام به ابنُه المحبوب لنجد التكفير الكامل عن كل معاصينا وآثامنا.

في الأصحاح ٦: ١- ٧, لدينا الجانب الآخر من الأشياء, الخطيئة ضدّ القريب. ولكن حتى تلك هي إثمٌ تجاه الرب, ولذلك يُقال لنا: "إِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَخَانَ خِيَانَةً بِالرَّبِّ وَجَحَدَ صَاحِبَهُ وَدِيعَةً أَوْ أَمَانَةً أَوْ مَسْلُوباً أَوِ اغْتَصَبَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ وَجَدَ لُقَطَةً وَجَحَدَهَا وَحَلَفَ كَاذِباً عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مُخْطِئاً بِهِ - فَإِذَا أَخْطَأَ وَأَذْنَبَ يَرُدُّ الْمَسْلُوبَ الَّذِي سَلَبَهُ أَوِ الْمُغْتَصَبَ الَّذِي اغْتَصَبَهُ أَوِ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ أَوِ اللُّقَطَةَ الَّتِي وَجَدَهَا أَوْ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِباً. يُعَوِّضُهُ بِرَأْسِهِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ. إِلَى الَّذِي هُوَ لَهُ يَدْفَعُهُ يَوْمَ ذَبِيحَةِ إِثْمِهِ". هنا أيضاً، نجد المبدأ الذي أشرنا إليه سابقاً، أن الإنسان يستفيد من تدبير ذبيحة الإثم. فالإنسان الذي أخطأ تكون حاله أفضل بعد أن يعترف بخطيئته ويدفع الخمس جزاءً عن الخطأ الذي ارتكبه بالإهمال وعن جهل وبدون معرفة عندما قدم ذبيحة الإثم إلى الرب. إذ كما في الحالة السابقة، ولو كان قد سرق جاره عن خداعٍ ، أو وجد شيئاً كان مفقوداً فخبّأه وفي نيته أن يحتفظ به لنفسه، أو أخطأ في أي شكل من الأشكال أو احتال على شخص آخر، فإن ذبيحة إثمه ما كانت لتُقبل لدى الله ما لم يقدم تعويضاً كاملاً بإعادة الشيء الذي كان قد استحوذ عليه بالخداع ثم يضيف إليه خمس قيمته.كم تُظهِر لنا هذه عِظَمَ وروعة نعمة الله التي لا مثيل لها فخلال كل الدهور سيُرى، كما قال تينيسون، في قصيدته "الحالم"،

"ما نخسره سيكون أقل مما نكسبه".

ذلك لأن الله يجعل حتى غضب الإنسان لمدحه، وبقية الغضب يكبته ويكبحه. قد يسأل الشكوكي بسخرية قائلاً: "لماذا يسمح الله العادل البار والكلي القدرة بالخطيئة لترتفع برأسها البشع في الكون، وهكذا تنجّسُ السموات والأرض؟" ولكن عمل الصليب هو الجواب على هذا كله. إن مسؤولية الإنسان نحو الله كخاطئ مَفدي أعظم بكثير وأكثر بركة بكثير من مجرد علاقة بين مخلوق وخالق. ونعمة الله قد تضاعفت بذبيحة الإثم العظيمة التي على الصليب بطريقة ما كان ليمكن أن يُعرف معها إن كانت الخطيئة أصلاً قد أتت أبداً على الإطلاق.

كم هي ثمينة كلمات الآية ٧ "فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ فَيُصْفَحُ عَنْهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَهُ مُذْنِباً بِهِ". هل تخطر هذه الكلمات على فكر أي نفس بائسة قلقة مضطربة؟ أتتساءلون أحياناً إن كنتم قد خطئتم فتجازتُم كل أمل بالرحمة؟ كونوا على ثقة، إن أتيتم إلى الله وحسب مُحضرين ذبيحة إثمكم، أي بوضع ثقة قلبكم في الرب يسوع، ناظرين إليه وحده لأجل الخلاص، فإن كل خطيئة سوف تُغتفر؛ وكل ما قد فعلتموه سيُمحى وإلى الأبد، ويكون في نظر الله كأنه لم يحدث أبداً.

قبل سنين وفي ختام لقاء مهم كبير في شيكاغو حيث كان الغجري رودني سميث هو الواعظ، جاء رجل قويٌّ يبكي وهو يسير في الممشى الذي في الكنيسة في ختام عظة الكارز، وكان يحكي وهو ينشجُ بالبكاء قصة خطيته وخزيه. فقال للغجري الذي كان يحاول أن يساعده: "يا سيدي، خطيئتي عظيمة جدا أكبر من أن تُغتَفر". فرد عليه الواعظ بسرعة كالبرق قائلاً: "ولكن نعمته أعظم من كل خطاياك". وهنا التقط الدكتور تاونر، كاتب الترانيم المحبوب والموسيقي، الذي كان يقف إلى جانب، التقط الكلمات، وهو يسير نحو منزله في تلك الليلة فأخذت شكلاً في قلبه وفكره، وألَّف لحناً سماه "الكورس":

"النعمة، النعمة، نعمة الله،>
النعمة التي هي أعظم من كل خطايانا".

إنَّ لحن الأبيات كان أيضاً قد أُعطي له، وقد دونه عندما وصل إلى منزله. في اليوم التالي أعطاهُ إلى جوليا جونستون، التي كانت قد كتبت الكثير من ترانيم التسبيح الثمينة، وألَّفَتْ كلمات الترنيمة المعروفة جيداً التي تحمل عنوان "الجوقة". ويقول المقطع الأول فيها:

"نعمةٌ مذهلة من ربنا المحب،
نعمةٌ فاقت كل خطيئة وكل ذنب،
على جبل الجلجثة انسكَبَتْ،
هناك حيث سُفك دم الحمل".

عبر السنين منذ ذلك الحين وما تلاه، حملت تلك الترنيمة قصتها عن النعمة التي هي أعظم من كل الخطايا، إلى عشرات الآلاف من النفوس القلقة المضطربة. وكانت هذه بالفعل هي رسالة ذبيحة الإثم.

 في الأصحاح ٧: ١- ٧ لدينا شريعة ذبيحة الإثم. وكما في حالة شريعة الخطيَّة، يقال عنها مرتين "إنها قدس أقداس". ما كان الله ليترك أدنى فُسحة للفكرة بأن ناسوت مخلصنا المبارك كان قد تنجس بالخطيئة. فيُقال لنا: "لم يعرِفْ خطيئةً"، "ولم يفعلْ خطيئةً"، "وليس فيه خطيئة". كيف حفظ الله هذا بعناية! حتى في نفس صباح يوم محاكمته وطوال نهار تنفيذ حكم الإعدام كان متبدياً. أرسلت زوجة بيلاطس الرسالة التي تقول: "ما لك وهذا الرجل البار". وبيلاطس نفسه أعلن قائلاً: "لا أجد عيباً فيه"؛ واللص على الصليب هتف قائلاً: "هذا لم يفعل شيئاً ليس في محله"؛ وقائد المئة الروماني، وقد ارتاع من الأحداث المذهلة في تلك الساعة المخيفة، أعلن قائلاً: "بالحقيقة كان هذا رجلاً باراً". ومع ذلك فإننا نرى أن البار يتألم عنا نحن غير البررة، لكيما يأتي بنا إلى الله.

كان يجب نحرُ ذبيحة الإثم على المذبح وأن يُرش الدَّم حول المذبح. وأجزاء معينة من الضحية كانت تُحرق على المذبح، وهكذا تصعد إلى الله كتعبير عن الدينونة الإلهية ضد خطايانا، بينما الأجزاء الأخرى كان يأكلها الكهنة في المقدس، كما الحال في ذبيحة الخطية، إذ يُقال لنا أنّ "ذَبِيحَة الْإِثْمِ كَذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ لَهُمَا شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ. الْكَاهِنُ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهَا تَكُونُ لَهُ". كل مؤمن هو كاهنٌ اليوم، وإنه لامتياز مقدَّس لكل واحد منا أن يتغذى على ذبيحة الإثم. إننا نفعل ذلك بينما نقرأ كلمة الله ونتأمل فيما يعلنه لنا عن العمل الكفاري لربنا يسوع المسيح لكيما يُزيل كل خطايانا وآثامنا ويؤهلنا للحضور أمام الله القدوس.

إنَّ المزمور ٦٩ هو خيرُ دليلٍ على الربط بين هذه التعليمات اللاوية. إنه مزمور ذبيحة الإثم؛ فيُظهر لنا ربَّنا المبارَك ماضياً إلى الصليب، مرذولاً من الناس، حاملاً دينونةً بسبب خطايانا. وهناك كما ذكرنا للتو نسمعه يقول: "حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ". وأقرّ بخطايانا كأنها خطاياه, ويمكنه أن يقول: "لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ". وفي الآيات ٢٠ و٢١ من هذا المزمور نقرأ: "الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ.وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ". كم واضحٌ أن هذه الآلام التي يتم التنبؤ عنها هنا هي تلك التي ستعانيها نفسه على الصليب, وإذ نتأمل به كذبيحة إثمٍ عظيمةٍ نهتف مع صاحب المزامير قائلين: "فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ" (الآية ٣١). ما لم تستطع ذبائح القديم أن تحققهُ، أعني إزالة الخطيئة فعلياً، قد حققه عمل ربنا يسوع المُتمم المُنجز، تلك الذبيحة الوحيدة، التي لن تتكرر، التي جُعلت من أجلنا على عود الشجرة الملعون (الصليب). لا يمكننا أن نضيف إلى هذا العمل المُنجز المُتم، و-الحمد لله- لانستطيع أن ننتقص منه. إنه قائم بذاته بكماله المذهل. وفيه وجد الله رضىً لا متناه، وفيه يجد الخاطئ الذي يؤمن رضاً أيضاً. إن جواب ذلك الراهب العجوز للشاب الذي جاء إلى باب الدير يسأله عما يجب أن يفعله لكي تزول خطاياه، هو في توافق تام مع حقيقة ذبيحة الإثم. فذاك الرجل الكهل أجابه: "ما من شيء قد بقي لك لتفعله". وعندها حاول أن يُري ذلك السائل كيف أن المسيح قد سدد بالكامل كل مطاليب الله ضد الخاطئ هناك على الصليب. فأن نحاول أن نزيل خطايانا ما هي إلا حماقة وجهل مُتحدَّان.

"ليس ما فعلَتْه هاتان اليدان،
 يمكن أن يُطهِّر هذهِ النفس الأثيمة؛
 ليس ما حملهُ هذا الجسد المتعب،
يمكن أن يجعل روحي تَخلصُ.
ليس ما أفكر به أو أفعله،
يمكن أن يعطيني سلاماً مع الله؛
ليست كل صلواتي، ولا كدحي، ولا دموعي،
يمكن أن تخفف هذا العبء الثقيل المريع.
دَمُكَ وحدهُ، أيا ربي يسوع،
يمكنه أن يُطهِّرَ نفسي من الخطيَّة؛
كلمتك وحدها، يا حمل الله،
 يمكن أن تعطيني سلاماً داخلياً".

وهكذا نأتي إلى نهاية تأملنا الحالي حول هذه الذبائح الخمس وأهمية معانيها الرمزية. لم أحاول أن أغوص فيها بشكل شامل؛ إذ أن آخرين قد فعلوا ذلك، وكتاباتهم يمكن الوصول إليها بسهولة وهي جديرة حقاً بالدراسة المتأنية والمعمَّقة. ما حاولتُ أن أفعله هنا هو ببساطة أن أؤكد على الحقائق البارزة العظيمة المتعلقة بشخص وعمل ربنا يسوع المسيح كما توحي بها القرابين والذبائح في العهد القديم، وإني آمل أن يستفيد كل واحدٍ منا بها. كم هو جميل أن نعرف عنه أكثر وأن نُقدِّر بشكلٍ كامل عمَلَه الرائع الذي كان يعني الكثير بالنسبة إلى الله والذي هو أساس بركتنا الأبدية!

"هنا نرى بزوغ السماء،
 في حين ننظر إلى الصليب؛
فنرى آثامَنا قد غُفرت،
وترانيم ظَفَرِنا ترتفعُ".

هذا ما أنشده السير إدوارد ديني، ولعلَّ كل مؤمن تائب يستطيع أن ينشدها، وهو يستند إلى الإيمان القائم على ذبيحة الإثم تلك.

هـ. أ. آيرونسايد

Pages