November 2013

الخطاب ١٣

في الجليل

"وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: «لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْجَلِيلِ قَبِلَهُ الْجَلِيلِيُّونَ إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي الْعِيدِ لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى الْعِيدِ. فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هَذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ: «يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ». فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ وَذَهَبَ. وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ». فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى». فَفَهِمَ الأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ. هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ" (يوحنا ٤: ٤٣- ٥٤).

"وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ". لقد كنا لتونا نتأمل في خدمة ربنا في السامرة، ذلك الامتداد من البلاد الذي كان بين اليهودية في الجنوب والجليل في الشمال. في اليهودية في الأدنى كان الناس عموماً مكرّسين جداً، ومتديّنين بشكل متعصب، وفوق في الجليل كان كثيرون منهم خطاة، وكفّاراً، وجهّالاً، وكان هناك عدد كبير من الأمميين. في السامرة كانت لديهم ديانة تستند جزئياً على ناموس موسى وتأخذ جزئياً من الأنظمة الوثنية التي عرفها آباؤهم قبل أن يستقروا في المنطقة، بعد أن سبى ملك الآشوريين شعبَ إسرائيل الأصلي.

كان الرب يسوع قد جاء إلى بئر سوخار، حيث كرز بنعمته لتلك المرأة السامرية البائسة. فصارت مبشّرةً جدّيةً بعد أن عرَفَتْه مخلّصاً، وبنتيجة ذلك فإن عدداً كبيراً من الناس خرجوا ليصغوا إليه ويؤمنوا برسالته. ودعوه إلى القرية، حيث مكث هناك يومين، معلناً أمور النعمة والحق الثمينة. آمن كثيرون به وقالوا: "إننا نؤمن الآن، ليس بسبب شهادة المرأة التي قالت أنه أخبرها عن أمور فعلتْها، بل لأننا رأيناه وسمعناه بأنفسنا". لقد كان في كلمات يسوع شيءٌ يروق لكل نفس صادقة ساعية وراء الحق.

ولكن الرب لم يستطعْ أن يمكث أكثر من ذلك في السامرة. كان يجب أن يتابع طريقه نحو الجليل. وكان النبي قد تنبّأ قبل زمان بعيد أن في ذلك المكان سيكون جزء كبير من خدمته ورسالته. في الأصحاح التاسع من أشعياء، وفي الآيات الافتتاحية، يتم الإشارة إلى ذلك بشكل واضح. فهناك نقرأ: "وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ ظَلاَمٌ لِلَّتِي عَلَيْهَا ضِيقٌ. كَمَا أَهَانَ الزَّمَانُ الأَوَّلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي يُكْرِمُ الأَخِيرُ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الأُرْدُنِّ جَلِيلَ الأُمَمِ. اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (أشعياء ٩: ١، ٢). هذه النبوءة وجدت تحقيقها العظيم عندما راح ذاك، الذي هو الحياة والنور، يشفي المرضى ويصنع آيات كثيرة تدلّ على اقتدار ويكشف الحقائق القيّمة المتعلقة بالإنجيل لأولئك الناس المحتاجين، رغم أن غالبيتهم كانوا يرفضون قبولها. لقد عاش في إحدى مدنهم، ونما وترعرع في وسطهم، وبعد أن بدأ خدمته انتقلت العائلة إلى كفرناحوم، وهذه دُعِيَتْ مدينته. لقد كانت الناصرة وكفرناحوم مدينتين بارزتين في الجليل. إننا نقول: "الألفة تولدُ قلّة احترامٍ". غالباً ما يحدث أنك عندما تتعرّف أكثر إلى الناس تفقد الإحساس بأنهم متميزون، وهذا هو الحال مع ربنا المبارك. فإذ كان يجول في تلك الأماكن حيث كان الناس يعرفونه جيداً، لم يستطيعوا أن يميّزوا فيه المسيّا الموعود. والمسيح نفسه شهد بأنه لا كرامة لنبي في وطنه. لقد قال ذلك، كما تذكرون عندما عاد إلى الناصرة، حيث كان قد نشأ، وذهب إلى المجمع في يوم السبت "على حسب عادته". أحبّ هذه العبارة، "على حسب عادته". إن يسوع الناصري، الذي نشأ وترعرع في تلك المدينة، ضرب مثلاً عن الحضور المنتظم إلى منابع النعمة. لا بدّ أنه كانت هناك أشياء كثيرة بغيضة بالنسبة إلى يسوع في خدمة ذلك المجمع، ولكنه كان المكان الذي يُعترفُ فيه باسم الله. لقد كان المكان الذي يتجمّع فيه الناس للصلاة والتسبيح في يوم السبت، ويسوع، طفلاً وشاباً ورجلاً، كان يشق طريقه دائماً إلى مجمع القرية، لأنه كان يرى فيه مكاناً يعترف بأمور الله. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ" (لوقا ٤: ١٦). وهناك قرأ: "«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ»" (لوقا ٤: ١٧، ١٨). ويخبرنا لوقا أنه بعد ذلك "طَوَى السِّفْرَ". إن رجعتم إلى أشعياء فستعتقدون أنه كان أمراً غريباً أن يقرأ ذلك المقطع. فبقية الجملة يرد فيها أن "ويوم انتقام ربنا". فلماذا أنهى السفر على ذلك النحو حيث وصل. ولماذا توقّف عن القراءة عند فاصلة بدل أن يتابع القراءة إلى نهاية الجملة؟ ذلك لأنه لم يأتِ ليعلن "يوم انتقام ربّنا". بل جاء ليعلنَ سنة ربنا المقبولة. وبناء على ذلك فقد بدأ رسالة نعمة الله إلى الناس في ذلك اليوم، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى منهم أشاحوا عنه وقالوا: "أليس هذا هو النجار؟ أفلسنا نعرف أمه وإخوته وأخواته؟" "أنّى لهذا الرجل أن يعرف هذه الأشياء؟" "لماذا لا يقوم بأحد أعمال قدرته؟" لقد كانوا يأملون أن يروا بعض المعجزات التي كان يقوم بها. ولذلك فقد كان اندفع الناس نحوه وكانوا سيرمونه من فوق الجرف خارج المدينة، ولكنه تابع طريقه قائلاً: "«لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ»".

هذا يعطينا فكرة صغيرة عن اتضاع أصل ربنا يسوع المسيح. لعله يمكننا أن نتخيل كيف أن مثل هكذا إنسان عظيم يترعرع في بلد ما ولا يعرفه الناس بشكل واضح ولا يقرّون بأنه رب الكل، لَكِنَّهُ "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي ٢: ٧). قليلون هم الذين أدركوا من كان. إني أتساءل إن كنا جميعاً قد عرفنا يسوع الناصري على أنه ابن الله السرمدي الذي صار إنساناً لأجل فدائنا؟

نقرأ بعد ذلك أنه عندما كان على وشك أن يدخل إلى الجليل فإنهم قبلوه؛ أي، تجمعوا لسماعه، ولكنهم لم يعرفوا أنه قدوس الله. لقد قبلوه، إذ رأوا كل الأشياء التي فعلها في العيد. لقد كان الرب قد  عاد لتوه من أورشليم. يجب أن ندرك أنه كانت هناك أشياء كثيرة وكثيرة قد فعلها الرب يسوع لم تُدوّن في هذا الأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا. لقد رأوه يمنح البصر للأعمى، ويجعل الأعرج يثب.... الخ. والآن هم يأملون أن يروه يصنع معجزات أخرى، ولذلك تجمعوا حوله.

"فجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً". "وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ"، على بعد خمسة وعشرين ميلاً شمال شرق قانا الجليل. هذا الأب، إما أن يكون قد جاء من مسافة بعيدة باحثاً عن يسوع، أو أنه كان متواجداً في قانا عندما وصله خبرٌ بأن ابنه كان مريضاً، فرأى الآن أن هذه فرصة مناسبة له ليعرض الحالة على صانع المعجزات العظيم. لم يكن لديه فهم لطبيعة الرب يسوع المسيح الحقيقية، ولكنه شعر بأن هذا الإنسان هو الذي يستطيع أن يلبي حاجته. عندما يكون الناس في محنة أو في مشكلة، كم يرغبون لو يصلون إلى يسوع على أمل أن يفعل شيئاً لهم، ومع ذلك فإنهم غالباً ما لا يعرفونه حقاً على أنه ابن الله متجلياً في الجسد، بل يشعرون أنه قادر على أن يصنع للناس ما لا يستطيع أي شخص آخر أن يفعله. يناشد الناس اسمَه في أوقات الشدة. ولعلّ هذه كانت حالة هذا الأب. لقد سمع أن يسوع كان خارجاً من اليهودية، ولذلك جاء يرجوه أن يشفي ابنَه. أترون ما يطلبه من يسوع: "يا يسوع، هلا تقوم برحلة لمسافة خمسة وعشرين ميلاً وتصنع شيئاً من أجل ابني؟ إن ابني يحتضر ولديك القدرة على شفائه. يمكنك أن تصنع المعجزات. أفلا تأتي وتصنع معجزة له؟" وتلاحظون أن يسوع أجابه بشكل يبدو قاسياً. فقد التفت الرب يسوع إليه وقال له: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»".

هناك أناسٌ كثيرون مثل هذا الرجل، الذين يريدون بعض الإظهار الخارجي لقوة الرب، ثم يعتقدون بأنهم سيؤمنون، ولكن الرب يسوع يريد الناس أن يقبلوه وأن يؤمنوا به بسبب ما هو في ذاته، بمعزل عن أي فائدة مؤقتة يمكن أن تتأتى عن معرفتهم له. أعتقد أن كثيرين يظنون أن مسيح الله عليه واجب مساعدتنا. إن كنا مرضى أو في ضائقة ما دية، فإننا نرجو أن يرينا طريقة تتحسن بها أحوالنا أو نكسب بها نقوداً. وإن كان بعض أفراد عائلتنا في ظروف صعبة وكنا نشعر بالقلق عليهم، فإننا كثيراً ما نفكر بأننا إذا ما ذهبنا ليسوع فإنه سيفعل شيئاً لأجلهم. ولكن الحقيقة هي أن هناك أشياء أسمى وأعلى من ذلك. إنه يريدنا أن نتعلّم أن نرى فيه ابنَ الله المتجسد المبارك، الذي جاء في نعمة ليعلن الآبَ وهو يطلب ثقتنا وإخلاصنا وولائنا، إذ أن علينا أن نعترف به وأن نسلم ذواتنا له، حتى ولو لم نتلقَّ أية فائدة زائلة مؤقتة مهما كان نوعها.

الإيمان الحقيقي بالمسيح يستند على حقيقة أنه إله صار إنساناً؛ وفي معرفتنا له، كابن، فإننا نعرف الآب. أتساءل إذا ما كان يمكن أن يقول لنا نحن أيضاً اليوم: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»". كم كانت الحالة مختلفة عند هؤلاء السامريين الذين قرأنا عنهم في الأصحاح السابق! فهم لم يروا أي معجزات تُصنع. لا نقرأ أن يسوع قد شفى أياً من مرضاهم أو فتح عيني أي من عميانهم، ولكنهم سمعوا رسالته ورأوا سلوكه، وكان هناك شيء أثّر فيهم لدرجة أنهم قالوا: "نحن نعرفه الآن، وقد رأيناه، وسمعناه بأنفسنا". هذا هو عمل روح قدس الله اليوم، أن يجعل المسيح معروفاً عند الناس، رجالاً ونساءً، لكي يؤمنوا به مخلّصاً ويعترفوا به رباً على حياتهم. أن نعرفه كابن لله، وقد صار إنساناً لأجل افتدائنا، هو الحياة الأبدية. في الواقع، يسوع نفسه يقول: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يوحنا ١٧: ٣).

ولكن هذا الأب البائس كان مأخوذاً بحاجته الحاضرة وقلقاً على ابنه وخائفاً أن يفقده، حتى بدا أنه لم يفهم ما كان الرب يسوع يقوله. قال الرب: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»". ولكن الرجل قال: "«يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي»". لم يدرك أن يسوع ما كان في حاجة لأن يذهب إلى كفرناحوم ليشفي ابنه. فكّروا في قائد المئة الروماني ذاك الذي لم يكن إسرائيلياً، الذي جاء إلى الرب يسوع وقال: "يَا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي" (متى ٨: ٨). لقد أدرك أن في كلمة المسيح قوة. ولكن هذا الإسرائيلي، الذي كان يجب أن يعرف أكثر بكثير من قائد المئة الروماني، كانت تعوزه تلك البساطة في الإيمان. قال الرب لقائد المئة الروماني: "لم ألتق بأحد أبهجني كمثل هذا الذي يؤمن بي ويعرف أن لدي كل القدرة والقوة". ومع ذلك فإن خادم الملك آمن بأن يسوع كان يمكنه أن يفعل شيئاً إن أمكنه أن يصل في الوقت الملائم إلى المكان حيث كان يرقد ابنه. هذا سؤال لطالما نطرحه. ليت يسوع يُسارع إلينا! قد نصلّي من أجل أحدهم، ونخشى أن يقضي ذلك الصديق ويذهب إلى حالة أبدية قبل أن يخلص، ونحاول أن نعجّل عملَ الرب. كثير من الناس يكتبون لنا ويطلبون صلاة خاصة من أجل مريض، ويقولون: "هلا تسارعون من فضلكم وتنقلوا طلب الصلاة هذا إلى الناس عندكم، لأنه مريض جداً جداً". إني أكتفي بالانحناء أمام الرب والقول: "أنت تعرف أني لا أستطيع أن أطلب هذا من الناس، ولكنك يا رب، لديك كل القدرة، وإني أضع هذا المطلب أمامك هنا"، وأعلم أنه يسمع ويستجيب. ينبغي عليكم ألا تحاولوا أن تستعجلوا أو تحثّوا الرب يسوع. تينك الأختين في بيت عنيا، كم كانت نفوسهما مضطربة! كان أخوهما مريضاً جداً، وفكّروا أنهم إذا ما أرسلوا رسالةً إلى يسوع، فإنه سيترك كل شيء ويهرع إلى بيت عنيا؛ ولكن مرت أربعة أيام ولم يأتِ يسوع. ثم قال: "لنمضِ إلى بيت عنيا". ولما وصل اعتقدت الأختان أن الوقت كان قد فات، ولكن يسوع كان قد أخبر تلاميذه للتو بأنه كان مسروراً لأنه لم يكن هناك أبكر من ذلك. لعلّكم كنتم تتوقعون أن يقول: "أنا آسف لأني لم أكن هناك". إنه لا يرتكب أي خطأ البتة، ويقول: "يسرني أني لم أكن هناك، لأن الله سيتمجّد بطريقة ما كانت لتصير لو أني هرعتُ للمجيء عندما تلقّيتُ الرسالة". عندما قال: "دحرجوا الحجر"، قالوا: "يا معلّم، ليس من فائدة من دحرجة الحجر. فقد مات منذ أربعة أيام". ولكن يسوع قال: "ألم أقل لكم أنكم إن آمنتم ستعاينون مجد الله؟" ثم دحرجوا الحجر، فصرخ يسوع: "لعازر، هلمّ خارجاً". لو لم يقل "لعازر"، في ذلك اليوم، لكان أفرغ كل المقبرة. وكما خرج لعازر، سيخرج كل خاصته يوماً ما ويُختطفون للقائه في الهواء. لسنا في حاجة لأن نحاول تعجيله أو تسريع عمله. ما نحتاج إلى معرفته هو أن نقيم في محبته وحكمته ونثق بما فنقدر على أن نقول مع كاتب المزامير: "إِنَّمَا لِلَّهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي" (مز ٦٢: ٥).

ولكن كما ترون، هذا الأب المحب لابنه لم يفهمه. ما كان يعرف سوى أن ابنه كان يتقلّب على فراش الحمّى وأنه قد يفوت الأوان بالنسبة له في أية لحظة، فقال له: "يا رب، تعال! تعال سيراً لخمسة وعشرين ميلاً! لا تضيع الوقت! هلمّ انزل! أسرع! فابني يحتضر!" أما يسوع فنظر إليه بإشفاق وحنو وقال له: "ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ". لم يكن في حاجة لأن ينزل إلى كفرناحوم ليقيم الغلام. "ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ. ستجده سليماً معافى. عد إلى كفرناحوم. اترك خوفك وخشيتك جانباً. كل شيء سيكون على ما يرام". وهكذا آمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع. والآن يزداد ثقة به. لقد آمن أولاً أن يسوع يمكنه أن يشفي الغلام إن وصل إلى هناك، ولكنه الآن يؤمن أنه يستطيع أن يقيمه حتى ولو كان بعيداً.

يا عزيزي، هل آمنْتَ بكلمة يسوع؟ هل تعرف أن ذلك الخلاص- ليس  شفاء الجسد وحسب، ولو كان هذا يرضي الله- يأتي من الإيمان بكلمة يسوع؟ "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤). نقرأ في العهد القديم: "أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ" (مز ١٠٧: ٢٠). وقال الرسول بطرس: "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ" (١ بطرس ١: ٢٣).

أذكر جيداً عندما كنتُ فتى، وخلال ضيقة عظيمة في نفسي. لقد كنتُ دائماً أقرأ الكتاب المقدس. لقد قرأتُ عن الملائكة تظهر للناس وتتحدث مباشرةً إليهم. وأذكر أني عندما كنتُ في الثانية عشر من عمري، أني قد ذهبتُ إلى غرفتي وركعتُ على ركبتيّ وقلت: "يا رب، إني ما برحتُ أقرأ الكلمة فهلا تتفضّل، عندما أفتح عيني، أن تجعل ملاكاً يقف إلى جانبي هنا؟ وهلا جعلتَ ذلك الملاك يخبرني أن خطاياي قد غُفِرتْ؟" وكنت أخشى أن أفتح عيني. ولكن عندما فتحتهما هناك لم أرَ ملاكاً كل تلك السنين. ولكن دعوني أقول لكم بما لا يرقى إليه الشك بأن خطاياي جميعاً قد غُفِرتْ. كيف أعرف ذلك؟ لقد عرفتُ ذلك عندما آمنتُ بكلمته، وعندما قبلتُ شهادته. يقول الكتاب: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية ١٠: ٩، ١٠).

أيتها النفوس المضطربة، إن قلتم: "أتمنى لو عرفتُ أن خطاياي قد مُحِيَتْ وأن قلبي قد تطهّر"، فإني أشجعكم على أن تؤمنوا بكلمة يسوع. فقط آمنوا به. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). وأن تؤمن يعني أن تثق به وتأتمنه.

وإذاً، آمن هذا الرجل بكلمة يسوع وعاد إلى كفرناحوم، وطوال تلك الأميال الخمسة وعشرين أتخيل أن الشكوك كانت تساوره: "لا أعرف ما يكون قد حلَّ بابني. لقد قال يسوع أنه سيكون على ما يرام، وأنه كان على قيد الحياة، وهذا حسن. ولكن هل سأجده حياً؟" ولكنه كان في غاية السرور، أخيراً، عندما وصل إلى كفرناحوم؛ فهناك تماماً وصل رسولٌ كان قد هرع إليه، وهتف بفرح قائلاً: "كل شيء على ما يرام. إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ". لقد آمن قبل أن يسمع شهادة خادمه. لقد آمن بيسوع وصدق كلامه عندما قال له: "اِبْنُكَ حَيٌّ". والآن لديه شهادة خدامه المعزِّزة. "اسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى»". ولعلهم أضافوا قائلين: "لقد كنا نسهر معتنين به وفجأةً غادرته الحمى. لقد انتبهنا إلى الساعة التي فارقته فيها الحمى، فقد راح يتصبب عرقاً، ووضعنا يدنا عليه، ومن تلك الساعة صارت صحته تتحسن أكثر فأكثر". فيقول الآب: "أكان ذلك في الساعة السابعة؟ لقد كانت تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي كنتُ أتحدث فيها إلى يسوع. إنها الساعةُ التي قَالَ لَي فِيهَا يَسُوعُ: إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ".

"آمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ". ها إن هناك إيماناً أقوى من قبل. ففي البداية آمن أنه إن استطاع يسوع الوصول إلى هناك فإنه يستطيع أن يشفي فتاه؛ وبعدها آمن بكلمة يسوع، والآن يؤمن بيسوع (شخصياً). وعائلتُه كلها آمنتْ معه. وقالوا: "لا أحد سوى ابن الله يمكن أن يصنع هكذا آية، بينما هو بعيد عنا خمسة وعشرين ميلاً". ويقول الإنجيل: "هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ". لقد أظهر نفسه لشعب موطنه بأنه المُرسَل من قِبَلِ الآب. كم هي بركة أن ندرك أن الرب يسوع، ولو بعد انقضاء حوالي ألفي سنة له في المجد، لا يزال يستطيع أن يسمع صرخاتنا في أوقات المحنة والشدة، تماماً كما يستطيع أن يشفي أجسادنا اليوم، وأن يسدّ احتياجاتنا، كما "فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ" (عبرانيين ٥: ٧).

الخطاب ١٤

عند بركة بيت حسدا

"وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ. لأَنَّ ملاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ. وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً. هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» أَجَابَهُ الْمَرِيضُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ. فَقَالَ الْيَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: «إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ». أَجَابَهُمْ: «إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». َسَأَلُوهُ: «مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟». أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ لأَنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ إِذْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ جَمْعٌ. بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ». فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ. وَلِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ" (يوحنا ٥: ١- ١٦).

والآن نأتي إلى التمعن في آية أخرى, ومعجزة أخرى قد نجدها مدونّة إجمالاً في إنجيل يوحنا. فالرسول، وبتوجيه من الروح القدس يختار المعجزات المتعددة التي يسردها لنا, ويدل بذلك على أنه كان يسعى لأن يوضح الطرق المختلفة التي تفعل فيها نعمة الله الرائعة, كما تبدّت في المسيح, للخطاة المعوزين البائسين.

خلفية النص هنا مثيرة للاهتمام جداً. فإننا نعلم أنه بعد خدمة ربنا في الجليل كان هناك عيد لليهود. لا نعرف بالضبط أي عيد هذا. على الأرجح أنه كان عيد الفصح, والرب يسوع, إطاعة للناموس نَزِلَ ليشارك في العيد. عيد الفصح كان ولا بد ذا أهمية استثنائية بالنسبة له. لأنه كان يعلم جيداً أن كل حملٍ فصحي يقدّم ذبيحةً في ذلك الوقت كان يرمز إليه, كما نعلم من ١ كورنثوس ٥: ٧، ٨: "لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ". ففي ذلك الوقت ذهب يسوع إلى العيد، وخلال دخوله وخروجه وسط الناس مرَّ بجوار بركة بيت حسدا، التي كانت قرب باب الضأن. ونقرأ: "فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ". لقد كان هذا ترتيب الله التدبيري الخاص لشعبه خلال عهد الناموس. و«بَيْتُ حِسْدَا» تعني "بيت الرحمة" حيث كان الله يمد يد الرفق الحانية إلى الشعب المبتلي. إننا في حاجة لأن ندرك أنه حتى قبل مجيء النعمة والحق بكل امتلائهما في شخص ربنا يسوع المسيح, قلبُ الله كان نحو كل نفسٍ محتاجة, وقد أَعَدَّ تدبيراً بحيث أن كل من يأتي إليهِ يفعل ذلك. كانت هناك تشريعاتٌ معينة أو متطلبات. لقد جاؤوا إلى الله, وهم حاملين تقدماتهم معهم, ولكن هذه التقدمات كانت ترمز جميعاً للرب يسوع المسيح وكانت تُقبل, ليس لأنها ذات قيمة فعلية أبداً على الإطلاق, بل بِفضل ذاك الذي كانت ترمز لهُ مسبقاً, وبسبب الإيمان والثقة التي كانت تدفع الناس للإتيان بها. ولذلك فطوال التدبير الناموسي التشريعي, كان الله يَتواصَلُ مع الإنسان ويخلِّصه بطريقته العجيبة الرائعة؛ وهذا ما يصوره لنا هذا المشهد.

هنا كانت بركة «بَيْتُ حِسْدَا»، وحولها "كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ". هذه العبارات تدلّ على نتائج الخطيئة. إنها تُعمي أعينِنَا عن حق الله ومجد الله. إنها تجعلنا عرجاً لئلا نستطيع أن نسلك في طرق الرب. إنها تشل قوتنا, فنبقى عاجزين وغير قادرين على أن نفعل أي شيءٍ لنخلِّصَ أنفسنا. ومن الطبيعي أننا جميعاً مثل هؤلاء الناس المشلولين المتجمهرين هناك عند البركة. لعلنا نقول أن كل مرضٍ وألمٍ ومعاناةٍ وصراعاتٍ تؤلم وتحزن البشر قد جاءت إلى العالم, ليست بقرار الله الإلهي, بل بسبب تمرد وعصيان الإنسان. إنها ثمار السقوط, وقد جاء ربُنا يسوع المسيح ليبطلَ أعمالَ الشيطان, ويوماً ما, والحمد لله, سيبطل كلياً كل هذه الآثار الناجمة عن الخطيئة.

هذا الحشد المتنوع البائس العاجز كانوا مضطجعين في ساحة بيت حسدا. ما الذي كانوا ينتظرونه؟ لقد كانوا ينتظرون تحريك المياه. والآن أعرف أن هناك سؤال لدى الدارسين حول موثوقية الآية (٤), التي تخبرنا أن هناك ملاكا كان ينزلُ ويحرك الماء. في أقدم مخطوطات لإنجيل يوحنا لا نجد هذه الآية على الإطلاق, ونتابع القصة, يبدو أنه كان هناك إشارة للقصة حيث أن الآية كانت موجودة في النص الأصلي. ولكن محررين كثيرين يعتقدون أن هذه الآية قد أُقحِمت في الهامش على يد أحد النساخ قبل سنين كثيرة لكي نفهم لماذا كان الناس يتجمعون عند البركة, ثم جاء ناسخٌ آخر لاحقاً فأدخلها إلى النص. مهما يكن الأمر، إنها تُفسر السبب في وجود الناس هناك. لقد كان هناك نبعٌ وكان الجو هادئاً أحياناً، ولكن بين فينةٍِ وأخرى كانت المياه تفور على نحو متقطع. لَعلّ بعضاً منا رأى ينابيع كهذه, كان الناس يفهمون أن ملاكاً كان ينزل إلى هذا النبع في فصلٍ معين وكان يحرك الماء. ولذلك فمن كان ينزلُ في ذلك الوقت إلى البركة كان يتعافى ويُشفى من أي مرضٍ كان مصاباً به. لقد كان هذا أفضل ما يمكن للناموس أن يفعله. لقد كان الناموس يقدم مساعدةً لمن يحتاج إليه في الحد الأدنى. لقد كان للقوي أن يدخل إلى الماء أولاً. ولكن من كانت حالته أسوأ, ومن كان أكثر عجزاً وأكثر خطيئةً, من كان أكثر تعاسةً في حالتهِ,كان ذاك الأقل حظاً ليستفيد من الامتيازات التي كان يمكن لذاك الناموس أن يُقدّمها. بعض هؤلاء الناس كانوا مضطجعين هناك ليس فقط منذ أسابيع وأشهر بل منذ سنين, وأحدُ الرجال كان هناك وكان يُعاني من مرضٍ منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. لقد كان مشلولاً. لقد فقد القدرة على استخدام رجليه. لا نعرف كم طالت فترة اضطجاعه عند بركة بيت حسدا, ولكن على الأرجح أن أصدقاءه كانوا قد أحضروه إلى هنالك قبل أن يقابله يسوع بسنين. لقد كان صورة للخاطئ البائس العاجز. وهذا أمرٌ ينطبق على كل واحد منا في حالتنا الطبيعية.

منذ سنينَ كثيرةٍ, وفي خارج سان فرانسيسكو, كانت مجموعة منا تمضي نزهةً مع مدارس الأحد على الشاطئ قُربَ كْلِفْ هاوسْ. لقد اعتدْنا أن نذهب إلى هناك في ذكرى عيد ميلاد واشنطن. في ذلك الصباح, عندما خرجنا إلى الشاطئ عند الساعة التاسعة, كان الضباب قد بدأ ينقشعُ لتوه، وما هي إلا برهة حتى ذهلنا لنرى كل تلك الأنواع من حُطام السفن التي قذفها البحر إلى الشاطئ. لم نستطيع أن نفهم من أين أتى كُل ذلك الحطام. وبعد برهة علمنا أن سفينةً ضخمةً, هي سفينة (ريو دي جانيرو), وفي طريقها إلى موطنها عائدةً من الصين, حاولت أن ترسو في ميناء سان فرانسيسكو خلال الضباب الكثيف, واصطدمت بصخرةٍ وتحطمت إلى أشلاء. غرق مئاتٌ من الناس؛ وبعضٌ منهم نجا. وروت الصحيفة الرواية التالية: من بين الذين نجوا كان هناك صحفي أمريكيٌ شاب. انكسرت كِلتا رجليه, وأُلقي وهو بتلك الحالة إلى المياه. وعلى الأرجح أن الماء البارد قد أعاده إلى الوعي وبدأ يطفو. بعد ذلك بساعات قام فريقُ إنقاذ بسحبِ ذلك الإنسان العاجز كُلياً من الماء. فكَّرْتُ وأنا أقرأ ذلك أن يا لها من صورةٍ عن نعمة ورحمة الله نحو الخطأة البائسين! كان هناك آخرون سبحوا لساعات قبل أن يتم سحبهم من الماء, وكانوا يتمتعون بالقوةِ والصحة والعافية, وآخرون كثيرين غرقوا؛ ولكن ذلك الرجل لم تكن لديه القدرة على أن يسبح. لقد كان عاجزاً ومع ذلك فقد أُنقذَ. يا لها من صورةٍ تدل على كثيرين منا! نقرأ (في رومية ٥: ٦): "لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ"، وخلصنا نحن الخطاة البائسين العاجزين ووجدنا الحياة والسلام.  

لنتأمل في هذا الرجل العاجز البائس عند البركة. لم يسعَ ذلك الرجل طالباً المُخلِّص. لم يطلب من يسوع أن يشفيه. إننا غالباً ما نقوم بكل الإجراءات, ونناشد الخطاة أن يطلبوا يسوع لكي يخلّصهم, ولكن ليس من موضعٍ في الكتاب المقدس يُطلَبُ فيه من الإنسان أن يصلّي من أجل خلاصه. بل بالأحرى، نعلم أن الله نفسه هو الذي يناشد البشر ليتصالحوا معه. هذا الرجل حتى لم يعرف المسيح, ولكن يسوع جاء طالباً إياه. إنه ليسرني أن أخبركم, كما قِيْلَ لي دائماً, عن جواب ذلك الطفل الصغير عندما قال أحدهم: "يا بني, هل وجدت يسوع؟"، فَرفَع بصره وقال: "لماذا يا سيدي؟ لم أعرف أنه كان ضائعاً ولكن أنا كنت ضائعاً، وهو من وجدني".

"ابْن الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لوقا ١٩: ١٠). وهكذا جاء ليجد هذا الإنسان البائس العاجز, الذي لم يعرف عنه شيئاً البتة ولا حتى اسمه. (أي أن ذلك المشلول لم يكن يعرف شيئاً عن المسيح). لقد تبدّت حاجته لقلب ابن الله الحاني الكريم السموح. إن كان أحد من الذين يسمعونني اليوم ضالٌ وبائسٌ فليتأكدْ من أن بؤسهُ وتعاستهُ وعجزه يلمس قلب ابن الله. إنه يريد أن يحررك وأن يخلّصك.

انظروا ما تقول الآية ٦: "هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟»". لقد "رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً". نعم, ثمانٍ وثلاثين سنةً أطولُ من الفترة التي كان المسيح نفسه على الأرض، مرَّتْ على ذلك الإنسان وهو في هذا المرض. لماذا انتظر طوال ذلك الوقت؟ ألكي يصل الإنسان إلى نهاية حياته؟ ما كنت أنا وأنت لنأتي إلى المسيح لو لم نأتِ إلى رؤية عدم كفاءتنا وعجزنا. لابد أنكم سمعتم عن ذلك الشاب البائس الذي سقط في الماء. فإذ كان عاجزاً عن السباحة, غاص في الماء ثم صعد ثانية, وغاص إلى الأسفل من جديد. في هذه الأثناء كان هناك سباحٌ قوي يقف على رصيف البحر, ينظرُ في الأفق, وصرخ الناس: "لماذا لا تقفز وتنقذ ذلك الرجل؟" فلم يجب بشيء, بل ترك الرّجلَ يَغُوصُ في الماء ثانيةً, ثم خَلعَ عنه معطفه وغاصَ في الماء وأتى به إلى الشاطئ سليماً معافى. فقالوا له: "لماذا انتظرتَ طوال ذلك الوقت قبل أن تنزل إلى الماء لنقذه؟" فأجاب: "لقد كان قوياً في البداية. وكان عليّ أن أنتظر إلى أن تتلاشى قوته. كان علي أن أنتظر إلى أن يصبح عاجزاً عن أن يتصرف بنفسه, إلى أن يصبح عاجزاً وغير قادر على فعل شيء".

أعتقد أن يسوع كان ينتظر ذلك. عندما جِيءَ بالرجل إلى البركة لأول مرة كان لديه آمالٌ عالية. "لن يطول بي الوقت حتى أستطيع أن أنزل إلى الماء", هذا ما كان يعتقده. وعندها يجد شخصاً آخر ينزل إلى الماء قبله. ومراراً وتكراراً مرَّ بهذه الخبرة المخيبة. وها هو الآن مستعد لأن يتخلى عن كل أمل وهو في حالة يأس. إنها النفس البائسةُ التي يحب يسوع أن يلتقيها برحمتهِ و نعمتهِ. إنه يخلّص ذاك الذي يُقرُّ معترفاً: "لا أستطيع أن أفعل شيئاً لأحرر نفسي".

انظروا كيف تعامل الرب مع هذا الرجل: "هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟»". هذا سؤال بسيط للغاية. إنه يطرحه على الجميع. هل أنتَ مخلّص يا قارئي؟ الرب يسوع المبارك يقول: "أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟" هل تريد أن تجد خلاص الله؟ "أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟" أتريد أن تعرف نعمة الله المُخَلِّصة؟ ما هو ردّك؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟أجابه الرجل الضعيف العاجز قائلاً: "«يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ»". كم من أناس كثيرين هكذا. "يعوزني أمرٌ واحدٌ فقط. ليتني أجد ولو إنساناً واحداً يساعدني". ما أكثر عدد الناس الذين يشعرون هكذا. يقول البعض: "ليتني أجد الكنيسة الصحيحة". يا صديقي، إن انضممتَ إلى أي كنيسة في العالم المسيحي فهذا لا يمكن أن يُخلِّصَك. "ليتني أعرف المبادئ التي ينبغي أن أحيا بها". ليس الفعل هو ما يخلِّصُ روحَك. وكلما فهمنا الدرس أسرع كلما كان ذلك أفضل. "الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رومية ٤: ٤، ٥).قال المشلول: "لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يساعدني". وإذ رأى يسوع الحاجة الماسة عند ذاك فإنه قال له: "قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ". يا له من أمر غريب يعطيه لإنسان عاجز! ولكن هناك قوة في كلمات يسوع. فنقرأ: "حَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ". في كلمات يسوع ثمة ما غرس الإيمان في قلب ذلك الإنسان. قد يقول قائل: "لماذا أود أن أخلُص والأمر يقتضي إيماناً, بينما أنا لا أملك الإيمان". ولكن "الإيمان يأتي بالسماع, والسماعُ بكلمة الله". يقول ذلك الإنسان: "أودُّ أن أتعافى وأشفى, ولكن ما من مجال". ثم يسمع كلمة يسوع: "قم احمل سريرك وامشِ", فيرفع بصرَه ويبزغُ إيمانٌ في نفسه. كنت لأود أن أراه يثب على قدميه لأول مرة. كان ليقول: "يا عزيزي, بالكاد أستطيع أن أصدق ذلك". ثم نظر إلى الأسفل إلى ذلك العبء من الاضطجاع على الفراش وعند كلمة يسوع حملهُ تحت ذراعه, كنقالةٍ, ومضى مبتهجاً بقوتهِ الجديدة.

"فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ". ها هنا تعليق مشؤوم. "كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ". ما من خطأ فيما فعله يسوع في يوم السبت، ولكن كان هناك منتقدون ينتظرون أي سلوك له. "ألا يعلم أن هذا هو يوم سبت؟" لقد كان هذا يعنيهم أكثر من أمر شفاء مخلوق بائس. كانوا مهتمين بالشعائر والطقوس أكثر بكثير حتى أنهم كانوا على أهبة الاستعداد لتوجيه أي انتقاد في الحال. فقال اليهود للرجل الذي شُفِيَ: "لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ". فبدلاً من أن يبتهجوا ويقولوا للمشلول "أيا صديقنا. لقد رأيناك هناك لسنين مضطجعاً، وإننا شاكرون لأنك قد شفيت الآن"، نرى هؤلاء الناموسيين التشريعيين، مثل الابن البكر في قصة الابن الضال، الذي أبى الدخول عندما علم أن أخيه قد عاد إلى البيت وأنه قد غُفِرَ له، قد قالوا: "إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ عبء تصرفك". أما المشلول فقد قال: "أي عبء؟ إن حمله هي مدعاة سرور لي. فقالوا: "لا يحق لك ذلك". أما هو فقال: "إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ". فكأنه يقول "اذهبوا وتشاجروا معه إن كنتم تتذمرون". فسألوا: "مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟". "أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ". لقد كان في جهل تام لدرجة أنه لم يعرف من الذي شفاه. لقد تصرف بحسب ما قيل له.

هذا الإنسان المسكين لم يعرف اسمَ من شفاه. ونقرأ أنه "بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ". لم يكن قد ذهب إلى الهيكل لمدة ثمانٍ وثلاثين سنةً وأراد أن يعوّض عن الوقت الضائع. هذا ما يفعله الناس عندما يخلّصهم يسوع. "هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ". من الجلي أن مرض ذلك الإنسان كان نتيجة الخطيئة. فحذّره يسوع من مغبّة ارتكاب الخطيئة فيما بعد. لقد كان هذا تحذيراً في حينه. قد نتطهر من إثم الخطية، ولكن هناك تبعات رهيبة مؤقتة لخطايا معينة تتبع المرء طوال حياته رغم حصول المرء على المغفرة.

ها هو الرجل قد عرف من شفاه وأعتقه. "فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ". لعلكم تتوقعون أنهم كانوا سيذهبون إليه ويشكرونه على عمل اقتداره هذا، إلا أنهم عوضاً عن ذلك قادتهم قلوبُهم الناموسية القاسية الباردة لأن يسلكوا بطريقة مخالفة تماماً، ونقرأ: "لِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ". وبدلاً من الاعتراف بحقيقة أنهم في ذلك اليوم، من بين كل الأيام، كانوا ليترقبوا عمل الله، نجدهم ينتقدون يسوع. ما كانوا ليفهموا أو يقبلوا في قلوبهم أن الرحمة والنعمة يمكن أن تسد حاجة خاطئ بائس. فلنحذر إذاً لئلا نسقط نحن أيضاً تحت سطوة روح الناموسية ذاتها.

الخطاب ١٥

المعادلُ لله

"فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ. لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ١٧- ٢٤).

لقد كنا نتأمل في سرد رواية شفاء ربنا للمشلول عند بركة بيت حسدا، وختمنا الحديث بملاحظة سخط ونقمة اليهود الناموسيين في ذلك اليوم الذين كانوا منزعجين لأن الرب فعل ذلك في يوم سبتٍ. كان اليهود قد أضافوا الكثير من نواميسهم أو شرائعهم الخاصة إلى تلك التي جاءت في أسفار موسى. لقد كانوا مهتمين أكثر بالتقنيات في هذه القضية أكثر منهم بالبركة التي نالها ذلك الرجل المسكين الذي طال انتظاره للتحرر والانعتاق. "كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ".

لاحظوا دفاع ربنا: "فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ»". ما الذي قصده يسوع بذلك؟ لماذا يريدهم أن يعودوا بذاكرتهم إلى الخلق؟  لقد خلق الله السموات والأرض خلال فترة لا تقاس في مدتها إزاء ما يستطيع الإنسان أن يدونه. إنهم لا يعرفون متى حدث ذلك. وأياً كان زمن حدوث ذلك، ما لا شك فيه هو أن الله خلق السموات والأرض آنذاك. ثم دخلت الأرض في حالة فوضى وتشوش، وأخذ الله على عاتقه مهمة إعادة خلق الأرض لكي تصبح مسكناً للإنسان ومسرحاً لأحداث دراما الفداء العظيمة. وهكذا لدينا عمل الأيام الستة التي فيها تم تحويل العالم من الفوضى والشواش إلى النظام، ونعلم من الكتاب أن الله استراح في اليوم السابع وذلك اليوم السابع كان مقدساً. لقد كان يومَ راحةٍ للرب. ولكن، ويا للأسف، فإن يوم راحة الله كان قصيراً جداً، إذ سرعانَ ما دخلت الخطيئة إلى تلك الخليقة الجميلة التي لم يكن قد مر زمنٌ طويل على إعلان أنها كانت حسنةٌ جداً. وعندما دخلت الخطيئة، عاد الله إلى العمل من جديد، ولم يجد راحةً أبداً بعد ذلك إلى أن استراح أخيراً في العمل الذي قام به ابنه الحبيب على صليب الجلجثة. خلال جميع آلاف السنين التي سبقت الصليب لم يحفظ الله السبتَ. لقد أعطى للإنسان يوم راحةٍ في الناموس لأجل بركة الإنسان وخيره. ويسوع نفسه يقول : "جُعل السبتُ للإنسان وليس الإنسانُ من أجل السبت". ولكن عندما أعطى الله للإنسان يوماً من أصل سبعة أيام، فإنه لم يتمتع بالراحة هو نفسه. لقد كان من غير المعقول أنه، وهو الله المحبُّ القدوسُ الحنون، أن يستريحَ بينما مسألةُ الخطيئة تبقى بدون حلٍ. ولذلك أجاب يسوع أولئك الرجال قائلاً: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ". ذلك لأنه كان واحداً مع الآب، وقام بالعمل مع الآب في كل ما عمله، وهكذا كان يعمل في العالم ليبطل نتائج الخطيئة؛ وهؤلاء انتقدوه لأنه أعتق إنساناً من آثار الخطيئة في يوم سبت. وهذا إنما يظهر مدى ضآلة فهمهم لفكر الآب. "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ". لم يفهموا. وازدادت نقمتهم حتى فكروا بأن يقتلوه ليس لأنه لم يحفظ يوم السبت فقط بل أيضاً لأنه قال أن الله كان أباه. فهذا التعبير خاص نوعاً ما. ويعني أنه أعطى لنفسه الحق بأن يستخدم هذا الاسم بطريقة لم يجرؤ أي أحد آخر من الناس على أن يقوم بها. لقد قال أن الله أباه مساوياً بذلك بينه وبين الله. لقد فهموا من كلام يسوع في أنه ابن الآب على أنه يعتبر نفسه واحداً مع الله الآب- في ألوهية واحدة.

اليهود والأمميون كلاهما طالبا بقتل ابن الله. لقد جرّ اليهود يسوع إلى قصر بيلاطس قائلين: "لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ" (يوحنا ١٩: ٧). كان ذاك اتهامهم له، ولكن بيلاطس أعطى الحكمَ بحيث يكون حسب رغبتهم، ولذلك وقف كممثلٍ عن العالم الأممي، متّهماً أمام محكمة الله بجريمة قتل ابنه المبارك. ومع ذلك كم هو سموحٌ وغفورٌ وكريمٌ إلهنا! إنه يقدم لليهود والأمميين كليهما خلاصاً من خلال ذاك الذي رفضوه، رغم أنهم أنكروه بازدراء واتحدوا في جريمةِ صلبِ ابن الله. كان لليهود أن يرجموه حتى الموت، ولكن بدفعه إلى الأمميين أُرسل إلى الصليب. مهما يكن من أمر، فبفضل ذبيحة نفسه القربانية على صليب العار، صارَ الخلاصُ ممكناً لليهود والأمميين، إذا ما عادوا إلى الله وآمنوا بابنه. لسنا في حاجة لأن نخاف عندئذ في أن نقرّ بأنه كان لنا دورٌ في قتلِ ابن الله. ولكن يمكننا أن نأتي إليه كخطأة تائبين وأن نضع ثقة إيماننا بذاك الذي رفضناه، جاعلين منه مخلصاً شخصياً لنا. "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبّاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ" (رومية ١٠: ١٢).

الناموسيون من كل نوعٍ يرفضون يسوع دائماً وأبداً. الناموسيون من كل نوع، يهوداً كانوا أم أمميين، سيصلبونه لو كان هنا من جديد. كيف لك أن تبرهنَ ذلك؟ لماذا لا يريدونه الآن؟ لو كانوا يريدونه لكانوا سيقبلونه ويؤمنون باسمه، ولكنهم يرفضون أن يؤمنوا، مظهرين بذلك أن قلوبهم هي نفسها اليوم كما قلوب أولئك الذين سعوا ليقتلوه. لقد سعوا ليقتلوه لأنهم أنكروا ألوهيته. لقد أعلن أنه كان والآب الأبدي واحداً. لقد جعل نفسه معادلاً لله. "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ". وبدلاً من محاولة تسهيل الأمور لهم، فإنه يجعلها أصعب. إن أشاحَ الناسُ عنه ورفضوا أن يؤمنوا، فعندها سيعطيهم شيئاً أكثر صعوبة ليؤمنوا. ولكن إن جاءوا إليه في توبةٍ، فإنه سيجعل الأمور سهلةً بسيطةً لكي يستطيعوا بسهولةٍ أن يفهموا.

"قَالَ لَهُمُ: ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ". يا له من إعلانٍ رائع! إن الابن يرى كل ما يفعله الآب فيفعل مثله. هل في مقدور إنسان أن يجرؤ على قول ذلك؟ إن يفعل ذلك، أفلن يصنّف على أنه مصابٌ  بجنون العظمة؟ ولكن يسوع تكلّم هكذا لأنه ابن الآب.

يقول: "لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ". ما معنى ذلك حقاً؟ بعض الناس يظنون أنه يقول: "لديَّ قوة أقل من الآب. فاستطيعُ أن أحاكيه فقط". ولكن العكس تماماً هو الصحيح. إنه يقول: "يستحيلُ على الابن أن يسلكَ بمعزلٍ عن الآب". كل أقنوم من الثالوث القدوس قد يتكلم هكذا. لا يستطيع الآب أن يفعل شيئاً بدون الابن، والروح القدس لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الابن، والآب لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الروح القدس، والروح القدس لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الآب، والابن لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الآب، والابن لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الروح القدس. بمعنى آخر، العلاقة بين الأقانيم الثلاثة في الله هي بحيث أنه ما من أحدٍ يمكن أن يسلك بمعزلٍ عن الآخَرين. مهما كان ما يفعله الروح القدس، فإنه يفعل ذلك بشركةٍ كاملةٍ مع الابن ومع الآب، وهكذا الحال مع كلِ أقنوم آخر من الثالوث القدوس السرمدي. لدينا هنا تصوير رائع لحقيقة وحدة الثالوث القدوس في جوهرٍ واحد. نتحدث أحياناً عن ثلاثة أقانيم للثالوث وهم الآب، الأقنوم الأول؛ الابن، الأقنوم الثاني؛ الروح القدس، الأقنوم الثالث. لكنَّ الكتاب المقدس لا يظهر هكذا تمييز أو تفريق. الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس هم واحدٌ متساوين في القدرة ومتساوين في الأبدية، وما من أحدٍ يمكنه أن يتصرف بدون الموافقة الكاملة والشركة مع الآخَرين. فهنا، كإنسان على الأرض، أمكن للرب يسوع أن يواجه متّهميه في ذلك اليوم ويقول: "لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ". ويضيف قائلاً: "لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ". كم هو أمر مستحيل كلياً بالنسبة لنا أن نفهم محبة الآب للابن كإنسان هنا على الأرض. لثلاث مرات شقَّ الله السموات فوقَ رأسِ يسوع ليُعلن محبته لابنه. قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب". "لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ". إنهما متحدين في المشورة والقصد و"سَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ". لقد كان ينظر بعيداً إلى انتصاراته على الصليب وفي قيامته.

لقد ادّعى ربُّنا أن له نفس القدرة تماماً كما الآب في إقامة الموتى. "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ" (يوحنا ٥: ٢١). أن يُحْيِي يعني أن يمنح الحياة. والابن يعطي الحياة لكل من يشاء. عندما نفكر في القيامة،  فإننا نفكر في القدرة الكلية لله وقد استُخدمت لاستعادة الموتى من القبر. هذه القوةُ والقدرة تُنسب إلى الآب والابن والروح القدس. وهذا صحيحٌ فيما يتعلق بقيامةِ ربنا نفسِها. نقرأ أنه كان قد أُقيم من الأموات بمجدِ الآب. لقد قال: "انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ" (يوحنا ٢: ١٩). وفي مزضع آخر يقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ (حياتي) مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً" (يوحنا ١٠: ١٨). ومن ثم يُقال لنا أن الروح القدس الذي أقام المسيح من بين الأموات سوف يُحيي أجسادنا الفانية. الله الآب، حسبما يُقال، قد أقامه من بين الأموات. الثالوث القدوس كلهُ عَمِلَ كشخصٍ واحد ليُقيم الرب يسوع، والثالوث القدوس كله سيشاركُ في قيامة جميع أولئك الذين في المسيح عند مجيئه. إن الله الآب والله الروح القدس والله الابن هو الذي يدعو الأمواتَ ليخرجوا من القبور.

ثم قال الربُّ أمراً مروعاً: "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ". يا له من إعلان مذهل! فذاك الذي جال تلال ووديان فلسطين، وفي الظاهر ما هو إلا حرفي من الجليل، يقول: "الآب ..... أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ". "وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يوحنا ٥: ٢٧). يقول الكتاب: "الله أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١). نقرأ في الكتاب أن الله سيدين العالم، ولكننا هنا نقرأ أن الديان هو ذاك الذي صار إنساناً لأجل فدائنا. يا له من إعلان مدهش! هل أنت خارج المسيح اليوم؟ إن كنتَ ستموت على هذا النحو، فإنه سيتوجب عليك أن تقفَ أمام العرش الأبيض العظيم، حيث ستجدُ نفسكَ تنظرُ إلى وجه إنسان. سوف ترى المسيح يسوع الإنسان جالساً على ذلك العرش، ذاك الذي ذهب إلى صليبِ الجلجثة ليموت من أجلكَ. سوف تُقدّم حساباً عن نفسك أمامهُ، وشفتاهُ سوف تُعلنانِ حكم الدينونة. ونحن الذين نؤمن، سوف لن نضطر إلى المجيء إلى دينونةٍ عن خطايانا، ومع ذلك فإننا سنقفُ جميعاً أمام كرسي الدينونةِ الذي يتربع عليه المسيح. سوف ينظرُ الربُّ يسوع إلى كلِّ سلوكنا هنا على الأرض، لأن نعمته أعطتنا أن نعرف الله كأبانا والمسيح كمخلص لنا، ولسوف يفحص كلّ عملنا ويحكم على الأعمال التي قمنا بها في الجسد. ربنا يسوع المسيح سيقوم بذلك. فهو الذي سيجمع أَمَامَهُ جَمِيع الشُّعُوبِ للدينونة في خاتمة المطاف: "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ" (متى ٢٥: ٣١). "الآب ..... أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ".

"لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ". أحد أكبر الانشقاقات التي حدثت في الكنيسة الأولى كانت بسبب بدعة آريوس. فقد كان آريوس يعلّمُ أنه من غير المعقول أن يكون الرب يسوع المسيح هو الابن السرمدي غير المخلوق للآب. بل أكّد أنه كان أول كائن مخلوق؛ فهو لم يكن أزلياً، ولم يكن هناك أحد مع الله الآب من الأزل. ووقف أثناسيوس ضد آريوس. وقال أن الرب يسوع هو من الأزل إلى الأبد، وهو ابن سرمدي كما أن الله الآب سرمدي هو وكذلك الروح القدس. تلك البدعة مزّقت الكنيسة لسنوات كثيرة، ولكن حدث في نهاية الأمر في مجمع نيقية أن تم الإعلان بشكل محدد بأن الكتاب المقدس يعلّم حقيقة أن الرب يسوع المسيح كان متحداً مع الله الآب منذ الأزل. وظلت الكنيسة بعد ذلك في حالة قلق لمدة قرن بسبب نفس الجدال الدائر.

ففي إحدى المناسبات، تم استدعاء أثناسيوس المدافع الشجاع عن حقيقة مساواة المسيح بالآب للمثول أمام أحد الأباطرة الذي كان قد منح ابنه الملكي شرف مشاركته السلطة الإمبراطورية وأن يشاطره الجلوس على العرش. ولدى حضور أثناسيوس إلى البلاط، انحنى مطولاً أمام الإمبراطور وتجاهل الابن كلياً. فصرخ الحاكم غاضباً: "ما هذا؟ أتدّعي احترامنا بينما تهين ابننا ولا تعيره انتباهاً، وهو شريكنا في السلطان؟" فأجابه أثناسيوس: "أفلا تدّعي أنت أيضاً أنك تكرم الله الآب بينما تنكر على ابنه المساوي له هذه الكرامة؟" لقد شاع انتشار هذا القول ولكننا لا نعلم إن كان الإمبراطور قد رأى الحقيقة أم لا؟

والآن نأتي إلى آيةٍ استخُدْمِت كثيراً كمثل باقي آيات إنجيل يوحنا في ربح النفوس: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤). يا له من قول مذهل هذا الذي نجده هنا! أنى لأي مؤمن بالرب يسوع أن يشك في خلاصه الأبدي وهذه الكلمات موضوعة أمامه، كلمات تصل إلينا مباشرة من شفاه ابن الله نفسه؟ إنه يبدأ كلامه باليمين الإلهي: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ". ورود هذه الكلمة مثنى (مرتين) لا نجده إلا في إنجيل يوحنا. و نجدها هناك مراراً وتكراراً، وهي دائماً تستهل حقيقة في غاية الأهمية. وفي إحدى ترجمات الكتاب المقدس نجد القول "آمين، آمين، أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بمَنْ أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ". فكروا في هذه الآية! يا له من إعلان رائع! "آمين، آمين"، "اَلْحَقَّ الْحَقَّ"! إنه يعني "مما لا جدال فيه: إن من يسمع كلامي........ ". هل سمعتَ كلامَه؟ هناك كثيرون يسمعون بأذنهم الخارجية، ولكن لا يسمعون بقلبهم. إنه يتحدث عن سماع الكلمة بمعنى اقتبالها في القلب. فهو يتحدث عمن يقتبل ما قاله الله بكلمته ويؤمن به- أي بما قاله الله فيما يخص حالتنا الساقطة وفدائنا- أي من يسمع كلمة الإنجيل، "وَيُؤْمِنُ بمَنْ أَرْسَلَنِي"- أي "يؤمن به ويصدّقه". الله هو الذي تكلّم. وعندما أقف وأنقل للناس شيئاً مما جاء في الكتاب، فإني إنما أكرز بما قاله الله. هل تؤمن بالله أو تصدّقه؟ يقول الناس أحياناً: "إني أحاول أن أؤمن". بمن تحاول أن تؤمن؟ الله تكلّم. فإما أن تصدق كلامه وتؤمن به وإما فلا. فإن آمنتَ بما قاله الله، يعلن ربنا أنك تنال حياة أبدية. ولاحظ أن الأمر ليس أنك تأمل أن تنال الحياة الأبدية، إن ثابرتَ على الإيمان. ليس الحديث عن حياة أبدية في نهاية الزمان (أي في المستقبل). بل الحديث هو بصيغة الزمن الحاضر (المضارع): "يُؤْمِنُ". ومن بين المعاني، هناك الحياة الأبدية في نهاية الزمان. فإن كنتُ مؤمناً بيسوع المسيح اليوم، فإني أعلم أني في يوم ما، عندما يأتي ثانيةً، سوف يُقامُ جسدي نفسه إلى الحياة الأبدية. إلا أن كل مؤمن، هنا والآن، يملك حياةً، حياةً أبدية. فحياةُ الله نفسها تُعطى لمن يؤمن بكلمة الله.

والآن لننظر إلى القول: "لاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ". هذه الكلمة تعني "محاكمة" حقاً. فما من محاكمة يخضع لها أولئك الذين هم في المسيح. لماذا؟ لأن الرب يسوع المسيح نفسه حمل دينونتنا عندما بسط يديه على الصليب. فهناك خطايانا جميعها قد أُلقيتْ على بديلنا المبارَك، ولذلك فما عدنا خاضعين لمحاكمة أو دينونة على خطايانا. فيوم دينونتنا كان يوم الصلب.

"لقد مات يسوع، ومُتنا معه،
وفي قبره دُفِنّا".

لقد تمت تسوية كل خطايانا عندما أخذ الرب مكاننا على عود الصليب، ولذا فلن نأتي إلى دينونة بل انتقلنا لتونا من الموت إلى الحياة.

الخطاب ١٦

القيامتان

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ" (يوحنا ٥: ٢٥- ٢٩).

لنتابع التمحص في كلمات يسوع التي قالها بعد شفائه الرجل المشلول في بركة بيت حسدا. لنتأمل في رسالة الإنجيل العظيمة تلك الواردة في الآية ٢٤: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ (أو محاكمة؛ ففي اليونانية الكلمة التي تُترجم "إدانة" في الآية ٢٩ هي نفسها المترجمة "محاكمة" في الآية ٢٧)، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ".

والآن في الآية ٢٥ يستخدم ربنا من جديد نفس العبارة التوكيدية في خطابه وبها يسترعي انتباهنا بشدة: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ". لا يتكلم في هذه الآية عن الموت جسدياً، بل بالأحرى عن الموت روحياً، لأولئك الأموات في التعديات والخطايا، وهذا يصحُّ على كل الناس الذين هم ليسوا في المسيح، كل الناس الذين في آدم بالنسل الطبيعي. لقد اجتازَ الموتُ إلى كل الناس عندما خطِئ آدم، والله الذي ينظرُ إلى الجنس البشري ها هنا اليوم يراهُ كجنسٍ من الرجال والنساء قد ماتوا لأنفسهم وكلّ شيءٍ روحي، ويجدهم أحياء لما يسميه الناسُ مسرة، أحياء لقضاياهم الشخصية الخاصة، ولكن ليس من أحدٍ فيه نبضة قلبٍ نحو الله- كلُّ واحدٍ ميت وعاجز كلياً، ذلك لأن الإنسان الميت، بالطبع، لا يستطيع أن يفعلَ شيئاً ليُغير حالته أو وضعه. لا يستطيع أن يساعد نفسه، وإن كان لأولئك الأموات في التعديات والخطيئة أن يحيوا، فإن عليهم أن يقبلوا الحياة من خلال شخصٍ آخر، ألا وهو ربنا يسوع نفسه. "إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ". إنه يستهل هذا الدهر التدبيري الرائع من نعمة الله. لقد بدأت الساعة عندما جاء إلى الأرض، وهي لا تزال مستمرة منذ أكثر من  ٢٠٠٠ سنة- الساعة التي فيها يُحيي الله النفوسَ الميتة ويأتي بالرجال والنساء ليجدوا حياةً في المسيح. لقد سمعت الملايينُ صوتَه وتابت، وتعرف ما يعنيه الحصول على الحياة الأبدية بقبول تلك الكلمة. "إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ". ذلك الصوت صوت قدير. إنه صوت يمكن أن يصل القلب الميت كلياً أمام كل ما هو مقدس. هل تذكرون لعازر؟ لقد كان ميتاً جسدياً عندما جاء يسوع إلى باحة تلك المقبرة وقال: "ارْفَعُوا الْحَجَرَ". عندما قَالَتْ لَهُ مَرْثَا أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ»" (يوحنا ١١: ٣٩). ولكن يسوع أمرهم أن يفعلوا كما قال، وفعلوا ذلك، فنادى: "لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً". لقد سمع ذلك الميتُ صوتَ يسوع لأنه كان صوتاً يعطي الحياة.

كان لدي صديق غارقٌ في الخطيئة، ميتٌ لله، يعيش في أردأ أشكال الفساد. وفي إحدى الليالي، في فرنسو في كاليفورنيا، وإذ حضر أمسيةً في الهواء الطلق سمع المجموعة ترنّم قائلةً:

"إنه يحطم قوة الخطيئة الباطلة،
ويحرر الأسرى،
ودمه ينقّي الدَّنِسَ،
وقد أٌفِدْتُ بدمه".

هذه الكلمات التي رُنِّمَتْ مراراً وتكراراً وجدتْ طريقَها مباشرةً إلى قلبه، وسمع ذلك الرجل، الميت في الخطية، صوتَ ابن الله، وآمن في تلك الليلة بالرسالة التي وصلَتْه وصار خليقةً جديدةً في المسيح. وانكسرت العادات الآثمة العتيقة التي كانت تقيده طويلاً. لقد صار مختلفاً لأنه سمع صوت ابن الله.

وأتذكر الآن رجلاً آخر، سكيراً بائساً، ضالاً بالكلّية، كان قد جاء إلى أحد الاجتماعات، فسمع أحدهم يردّد كلمات المسيح: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". فقال: "هل الحديث موجه إليّ؟ أتراه يدعوني إلى المجيء إليه؟" وأتى ذلك الرجل إلى الحياة. ولم يلمس قطرة خمر بعد ذلك. لقد آب واهتدى لأنه سمع صوت ابن الله. إن حياةً لتكمن في كلماته.

"إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ". لاحظوا أن الله لا يطلب من الناس أن يعملوا ليحصلوا على الحياة. ما كان يمكننا أن نفعل أي شيء لنستحق الحياة، ولا يمكننا أن نرضي الله إلى أن ننالها. "أُجْرَة الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (رومية ٦: ٢٣). لا يمكننا أن ننال الحياة من خلال الإذعان لطقوس شعائرية دينية أو من الاستفادة من الأسرار. لا يحصل الناس على الحياة عبر المعمودية أو العشاء الرباني أو من خلال القيام بأعمال تكفيرية أو حضور الكنيسة أو التبرع بالمال. إنهم ينالون الحياة الأبدية بسماع صوت ابن الله والإيمان به. "اسمعوا، فتحيا نفوسكم". هل سمعت ذلك الصوت؟ الناس أشاحوا سمعهم عنه. المسيح يتكلم في كل وقت وعبر جميع الأجيال، ولكن كثيرين أغلقوا آذانهم عنه واستمروا في حياة الخطيئة. وما لبثوا قابعين في حالة الموت. ولكن الإنسان في اللحظة التي يسمع فيها ذلك الصوت في أعماق قلبه عندها ينال الحياة. وهذه الحياة يعطيها ابنُ الله. إنه يقول: "كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ".

إذا رفض الناسُ رسالة الإنجيل، وإن أشاحوا بوجههم عن كلمة ابن الله، وازدروا بنعمته، فعندها، الله نفسه، الذي جعل يسوع مانحاً للحياة لكل الذين يؤمنون، قد عيَّنه أيضاً ديَّاناً على أولئك الذين يرفضونه، في اليوم الأخير. لقد أعطى الآبُ للابنِ أن تكونَ لهُ حياةٌ في نفسه وأعطاهُ السلطةَ على أن يدين. لدينا ما يشابه ذلك في الآية ٢٢. فنقرأ هناك: "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ". هذا يُعطينا أن نعرفَ أن الابن هو الله لأن الكتاب المقدس يُعلِن أن الله هو الذي يدين العالم. سوف يجلس الله على العرش الأبيض العظيم ويدعو الخطاة أمامهُ ليَتلقوا تَبِعة ذنبِهم في أنهم رفضوا الخلاص الذي كان قد قدّمه لهم، ولكن الأقنوم الإلهي الذي سيظهر عند ذلك العرش سيكون الرب يسوع المسيح. الناسُ الذين يقفون أمام ذلك العرش في خطاياهم سيُدينهم الإنسان، المسيح يسوع. الآبُ قد أعطى يسوع السلطةَ على أن يُصدرَ أحكام الدينونة لأنه ابنُ الإنسان. عندما احتار أيوب بسبب تعاملات الله معه، قال: "لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا" (أيوب ٩: ٣٢، ٣٣). وذاك هو ما كان يتوق أيوب إليه، إنساناً يمكن أن يمثّل الله أمامه، وذاك الإنسان موجود في شخص ربنا يسوع المسيح. فهو إنسان حق كما هو إله حق. "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (١ تي ٢: ٥). إن رفض الناس الإيمانَ بذاك الإنسان الذي حمل خطايانا في جسده على عود الصليب، فإن أعمالهم ستدينهم. ولئلا يحصل هذا فقد مات (المسيح) على صليب العار ذاك: "هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣: ٥). إنْ رَفَضَهُ الناسُ الآن وأشاحوا بوجههم عنه، فإنهم سيضطرون يوماً ما للقائه. يوماً ما سيضطرون لمواجهته وهم في خطاياهم عندما يكون الأوان قد فات ليخلصوا. فمن سيمنحهم الحياة سيكون آنذاك ديّانَهم.

أما الآن، وقد تكلمنا عن ساعة، الساعة التي سيُحيي فيها الله الخطاة الأموات إلى الحياة، فإنه يتابع الحديث عن ساعةٍ أخرى، ساعة قيامة أجساد الموتى. إذ أنَّ كليهما موجودتان في الكتاب المقدس. إنه يُحيي أولئك الأموات في التعديات والآثام في هذه الساعة. وفي المستقبل سوف يُحيي أولئك الذين أجسادهم في القبور. "تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ". "لا تتعجبوا من ذلك". لكأنه قال: لا تستغربوا من أني أستطيع أن أُحيي أرواح الأموات وأمنح الحياة الأبدية لأولئك الذين يؤمنون. فيوماً ما سأفرغ جميع قبور الأرض. "تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ..". لعلك تتساءل: "كيف يكون ذلك؟" وتقول: "ملايين من الناس ماتوا وتحللت أجسادهم إلى مكوناتها الكيميائية. فأنى لهم أن يعودوا إلى الحياة؟" لا شيء مستحيل عند الله الذي خلق تلك الأجساد الرائعة. سوف تكون هناك قيامة للأبرار والأشرار كليهما.

نعم، ستأتي تلك الساعة عندما ينهض كل أولئك الراقدين في القبور. لاحظوا أنه ستكون هناك قيامتان. بعض الناس تخيلوا أن كلتا القيامتين ستحدثان في نفس اللحظة، وأن المخلِّص سوف يُطلِق صوته وكل القبور ستفرغ في الحال. ولكن ليس هذا ما قاله ربُّنا تماماً. يُرينا الكتاب المقدس أنه ستكون هناك قيامتان: الأولى، قيامةٌ للحياة، وهي قيامة الأبرار. في رؤيا ٢٠: ٦، نقرأ: "مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى. هَؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ الثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لِلَّهِ وَالْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَةٍ". ثم نقرأ أنه بعد انقضاء الألف عام ستكون هناك قيامة الموتى الأشرار الذين سيقفون أمام العرش الأبيض العظيم للدينونة. إذاً ستكون هناك قيامتان، الأولى من أجل الأبرار للحياة، والثانية من أجل الأشرار للموت. ومع ذلك فكلتاهما تحدثان في ساعة واحدة؟ نعم، في ساعة واحدة. تذكروا كيف استخدم ربنا هذه الكلمة: "إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ". هذه الساعة بدأت عندما كان المسيح هنا على الأرض وهي لا تزال مستمرة. مرت أكثر من ١٩٠٠ سنة ولا نزال نحيا في تلك الساعة التي فيها يحيي المسيح النفوس الميتة. ساعة القيامة ستدوم ألف سنة على الأقل. في بداية الألف سنة تلك، الأمواتُ الأبرار سوف يُقامون. وفي ختام الألف سنة سيُقام الأشرار الأموات. الأمواتُ الأبرارُ سيَقِفون أمام كرسي دينونة المسيح لكي يكافَأوا. والأموات الأشرار ينهضون ليقفوا أمام العرش الأبيض الكبير، ليتحملوا هناك نتيجة الخطيئةِ المريعة في رفضهم للرب يسوع المسيح وليُدانوا من أجل كل الخطايا التي أضاعوا على أنفسهم فرصة التحرر منها. قد يقول أحدهم: " إني أحتار في الآية ٢٩ فهي تقول: "فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ". أفبعد ذلك هل يجوز القول أن الخلاص يعتمد على ما يفعله المرء؟ وهل نخلص لأننا نصنع الخير ونضلّ لأننا نفعل الشر؟" فأجيب قائلاً أنه إن ثابر الناس على خطاياهم فسيُدانون على أفعالهم الأثيمة الشريرة. جميع الناس ضالون اليوم ليس فقط بسبب الخطايا التي ارتكبوها بل لأنهم رفضوا الرب يسوع المسيح. إذ أن "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ" (يوحنا ٣: ١٨). وفي موضع آخر يقول يسوع أن الروح القدس سيأتي ويدينهم على الخطية لأنهم لم يؤمنوا به. تلك هي الخطيئة الرهيبة الكبيرة التي ستهلك نفسك إلى الأبد إن استمررتَ فيها. إن رفضْتَ عمل الصليب، أو أدرتَ ظهرك لذاك الذي مات على الخشبة، فعندها لن تنتفع من الميزات التي نجمت عن ذاك العمل. وفي يوم القيامة ستقوم من القبر كمن صنع الشر وستُدان بسبب خطاياك.

والآن، ماذا عن البقية؟ من هم هؤلاء الذين فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ أو صنعوا الخير؟ ما الذي يقصد بذاك القول؟ هل نخلص بفضل الصلاح الذي نعمله؟ نعلم جيداً من مختلف أرجاء الكتاب المقدس أن الخلاص لا يعتمد على أهلية أو استحقاق بشري. "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ الله. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢: ٨، ٩). ويقول الكتاب أيضاً: "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رومية ٤: ٤، ٥). ليس من تناقض. في اللحظة التي يؤمن بها الخاطئ بالرب يسوع المسيح يحدث تغيير. وذلك هو العلامة الظاهرة الخارجية على أنه مسيحي. بعد تلك الآية مباشرة نقرأ في (أفسس ٢: ١٠): "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا". إن قلتُ لك أني متبررٌ بالإيمان فإنك لا تستطيع أن ترى إيماني. ولا يمكنك أن ترى إذا ما كانت شهادتي حقيقية إلا إذا راقبتَ حياتي. وتتساءل إذا ما كانت حياتي تتطابق مع شهادتي. هل أحيا حياة تشبه حياة المسيح؟ وإن كنتُ لا أحيا هكذا حياة فإنك ترفض شهادتي. الله نفسه لا يقبل شهادة أي إنسان إن كانت حياتُه لا تتطابق مع شهادة إيمانه.وفي ذلك اليوم أولئك الذين مارسوا الصالحات سيُمتَدحون ويتجلّون كأبناء الله.

دعوني أؤكد على هذه الفكرة: كما أن هناك طريقتان للحياة، كذا فهناك طريقتان للموت، وقيامتان، ويلي هاتين القيامتين مصيران. هل قبلتَ المسيح مخلصاً لك؟ إن كان الأمر كذلك، فالموت يعني بالنسبة لك أن تموت في الرب، وأن تُقامَ في القيامة الأولى وتدخل إلى نعيم السماء. من جهة أخرى، إن بقيتَ رافضاً للرب، فإن سيأتي يومٌ تموت فيه في خطاياك. وأولئك الذين يموتون في خطاياهم سيقفون في يوم الدينونة  وسيُتركون رازحين تحت خطاياهم إلى الأبد. لئلا يصير هذا، جاء ربُّنا يسوع المسيح إلى الجلجثة وقدّمَ حياتَه كفارةً، ذبيحةً استرضائية عن كل من سيؤمن به.

الخطاب ١٧

الشهود الخمسة

"أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً. ﭐلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ. أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. َأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. وَﭐلآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ. فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. ولاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟»" (يوحنا ٥: ٣٠- ٤٧).

هذا مقطع ممتع ولافت جداً، نرى فيه خمس شهادات متمايزة على حقيقة أن ربنا يسوع المسيح هو المُرسَل من الآب، الذي جاء إلى العالم لننال به الحياة وتكون لنا وافرةً، ولكي يكون ذبيحة كفارية استرضائية عن خطايانا. إنه يتحدث إلينا كإنسان في أيام إذلاله على الأرض هنا. في الآية ٣٠ نراه يقول: "أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي". وفي هذه نرى الرب يسوع المسيح يأخذ المكان المعاكس الذي كان يتوق إليه لوسيفر ١ القديم. غالباً ما يطرح الناس هذا السؤال: "لماذا خلق الله الشيطان؟" الله لم يخلِقْ الشيطانَ. لقد خَلَقَ لوسيفورس، ملاكاً رئيساً، ولكن الغرور أصابه بسبب شدة جماله. ولخمس مرات أعلن إرادتَه أمام الله قائلاً: "أُريدُ". "أريدُ أن أكون مثل العلي القدير. أريدُ أن أرتقي عرش الله". وفي هذا كان هلاكه ودماره. بسبب فرضه إرادته الذاتية صار لوسيفورس، الملاك الرئيس، شيطاناً أو إبليساً.

خلافاً لهذا الشخص، نجد هنا من كان في هيئة الله منذ الأزل، ومع ذلك، وبدافع رحمته ونعمته، فإنه تخلى عن المجد الذي كان له قبل تأسيس العالم. إذ عاش إنساناً متواضعاً هنا على الأرض، رفض الرب يسوع أن يستخدم قدرته الذاتية، بل كل ما فعله قام به بقوة الروح القدس. وقال: "لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ". لماذا؟ لأن دينونته كانت دينونة الله نفسه. لقد عمل كل شيء تحت سلطان الله، أبيه. وحده بين كل الناس عاش في هذا العالم وأمكنه دائماً أن يقول: "لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي".

المعيارُ الذي نحاكي فيه أنا وأنت، كمسيحيين، ربّنا يسوع في هذا سيكون هو المعيار الذي سنُمجّد فيه أيضاً الله هنا على الأرض. نتخيلُ أحياناً أن السعادة الأعظم التي يمكن أن نحظى بها هي أن نسلك طريقنا الخاص، ولكن هذا خطأ. الرجل أو المرأة الأكثر سعادة على الأرض هو ذاك الذي يصنع مشيئة الله الأسمى. لم تكن ليسوع مشيئةٌ من ذاتهِ أو خاصة به. رغبتهُ الوحيدة كانت أن يصنع مشيئة أبيه، التي لأجلها أُرسِل إلى العالم.

أما وقد أعطى هذا الإعلان، فإنه يتابع كلامه قائلاً: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً". ما الذي يعنيه بهذا؟ لقد كان قد قال لتوه أنَّ الآب قد وضع في يديه كل شيء. وأخبرنا أن صوته يوماً ما سيجعل الأموات يقومونَ من القبور. وأعلن أيضاً أنه المُرسل من قِبَلِ الآب والآن يقول: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي (الأمر الذي كان يقوم به) فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً". ما الذي يقصدهُ بذلك؟ إنه يقصد أنه إن كان وحدهُ يحملُ شهادةً عن نفسه، فإن تلك الشهادة ليست صالحة أو صحيحة. إذ نقرأ في موضع آخر أنه: "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ" (تثنية ١٩: ١٥). إن جاء أحدٌ يحملُ شهادةً عن نفسه ويتكلم عن نفسهِ ولم يكن هناك آخرون يُصادِقون على كلامه، فإن شهادته ستُرفضُ في المحكمةِ ولذلك لن تكون صالحة أو صحيحة. يقول: "إن كنتم ستعتمدون فقط على ما أقول، فأني أُدرك أن ذلك لن يكون صحيحاً أو صالحاً كشهادة". ثم يضيف قائلاً: "ولكن لدي شهوداً آخرين يؤكدون ما أقوله لكم". ويُورد الرب يسوع أربع شهادات أو يأتي بأربعة شهود يقدّمونَ شهاداتٍ واضحةٍ تماماً على حقيقة أنه بالفعل المُرسَل من قِبَلِ الآب، وكل هؤلاء هم إضافة إلى إعلانه الخاص. إنه الشاهد الأول.

الشاهدُ الثاني هو يوحنا المعمدان. هناكَ أمرٌ واضحٌ في أن الغالبية العظمى كانت تنظرُ إلى يوحنا المعمدان كنبي. ولكنَّ رؤساء إسرائيل رفضوا قبولَ شهادته لأنها كانت تُدينهم إلا أنَّ حشود الناس كانت تصدّق وتؤمن بأنه كان مُرسلاً من الله. ولذلك يقول الرب يسوع: "إن كنتم لا تقبلون شهادتي وإن كان لا يُصادقها أحدٌ آخر، فإني سأستدعي شاهداً آخر إلى المحكمة". ولذلك يُحضر يوحنا المعمدان للشهادة. "ﭐلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ". ها هنا شهادة ثانية، وهكذا يمكن قبول شاهدين في المحكمة. "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ". "أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ". أي حق يقصد؟ إنه الحق نفسُه الذي كان الرب نفسه قد أعلنه. فقد عرّف الناس بيسوع قائلاً عنه: "إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يوحنا ١: ١٥). وكان يوحنا المعمدان كان قد دلَّ عليه في مناسبة أخرى وقال: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا ١: ٢٩). إنه يشهدُ على حقيقة أن الرب يسوع المسيح كان الذبيحة المعينة الذي كان سيقدّم نفسهُ عن خطايانا على صليب العار ذاك. وبعد ذلك ثانيةً أعلن يوحنا: "رأيتُ وأشهدُ أن هذا هو ابن الله". حسناً ذلك هو السؤال بالضبط. هل يسوع هو ابن الله؟ هل هو الابنُ الأزلي المُرسل إلى العالم ليُحقق مخططَ الفداء؟ أجاب يسوع، وقال: "إن كنتُ أنا الوحيد الذي يقول هذا فإنكم لن تصدقونني، ولكن ها هنا هذا الشخص الذي اجتمعتم لتسمعوه، وعرفتم أنه كان نبياً. حسناً، إنه يشهدُ على نفس الأمر الذي أُخبركم به. يوحنا المعمدان يُخبركم أني ابن الله، حمَلُ الله الآتي ليموتَ عن الخطاة. أنا المسيحُ الذي كان قبل الوجود". ويستأنف يسوع كلامهُ قائلاً: "ولكني لستُ مُتّكِلاً على يوحنا. لستُ في حاجةٍ إلى شهادته لكي تصدقوا الأمور التي أقولها. لستُ مُتكِلاً على شهادة إنسان، ولكني أقول هذه الأشياء لكي تتأكدوا من حقيقيتها". لقد أرادَ الربُّ أن يزيلَ أيَّ أساسٍ يمكن أن يستندوا عليه تبريراً لجحودهم. لقد كان يرغب أن يوضح أنه كان المُخلِّص الذي تمَّ الاعتراف به. ولكنه لم يكن في حاجةٍ إلى شهادة يوحنا، رُغم مدى صلاحهِ وعظمته. الحقيقةُ تبقى حقيقةً بمعزلٍ عن أيِّ اعترافٍ بها من قِبَلِ أي إنسان. كان يوحنا إنساناً رائعاً، "نوراً ساطعاً متألقاً". ذلك الشاهد كان صامتاً لبعض الوقت. قطع هيرودس رأسه، ولكنَّ شهادتهُ بقيت، واليوم نسمع صوتَ يوحنا المعمدان يُعلن أن يسوع هو ابن الله، حَمل اللهَ، ذاك الذي كان سابقاً للوجود.

ولكن المخلص يقول الآن: "لدي شهادة أخرى". ما هي هذه الشهادة الثالثة؟ "هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي". وهذه هي الدافع وراء معجزات ربنا يسوع المسيح. لقد صنع أعمال الاقتدار تلك لكي يبرهن أنه المُرسَل من قِبَل الله الآب. ولكن يسوع لم يصنع تلك المعجزات لطي يُظهر نفسَه. لقد عملها ليخفف آلام البشرية ويساعد جنس البشر. وهذا ما كان قد تنبأ عنه العهد القديم. لقد قال الأنبياء أن أعين العميان ستنفتح، ويسمع الصمُّ بآذانهم من جديد، والعُرْج سوف يثبون في فرح، وسيتلاشى الحزن والأسى والمرض، وستنكسر قيود الخطيئة. هذه الأشياء حقّقها الربُّ يسوع المسيح خلالَ تلك السنوات الثلاث. تلك الأعمال الرائعة والمعجزات، أعمال الاقتدار تلك التي قام بها، كُلّها تحملُ شهادةً على حقيقة أنه كان بالفعل المُرسَل من قِبل الآب. انظر إلى ذلك المجذوم البائس. إنه يأتي إليه مغطى بالقروح. ويصرخُ إليه في ألمٍ وكرب قائلاً: "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي" (متى ٨: ٢). فينظرُ يسوع إليه وهو، القدوس، لا يخاف أن يتدنس بنجاسةِ ذاك المسكين، ولذلك يضع يدهُ عليهِ ويقول: "أُريد فاطهر". هل تعتقد أنَّ ذلك الإنسان شكَّ في أن يسوع كان المُرسَل من قِبَلِ الآب؟ هل تُشكّك في لاهوت ابن الله؟

انظروا إلى ذلك الأب المفجوع في كفرناحوم. إنه يأتي إلى يسوع ويلتمس منه أن: "ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا" (مرقس ٥: ٢٣). وذهب يسوع إلى ذلك المنزل وخرج الناس إليه قائلين: "لا فائدة. عبثاً تفعل شيئاً. فلقد ماتت". أما الرب فيقول "لا تَخَفْ. آمِنْ فقطْ". ويدخل إلى تلك الغرفة ويمسك بيد تلك الصبية الفتية الميتة ويقول لها في حنو باللغة الآرامية: "«طَلِيثَا قُومِي». (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي)"، ففتحت عينيها ونهضت جالسة. أتعتقدون أن يَايِرُسُ وزوجته كان لديهما صعوبة في الإيمان بأنه كان المُرسَل من الآب؟ وتلك الأرملة البائسة خارج مدينة نايين، تُشاهد مراسم دفن ابنِها الوحيد، إلى أن جاء يسوع وأوقف كل شيء. قال السيد مودي: "لا يمكنكم معرفة الطريقة التي كانت تُجرى بها خدمة الدفن في الكتاب المقدس. فيسوع أبطل كل جنازةٍ قد حضرها". ولذلك فقد تدخّل هنا، وقال للشاب: "«لَكَ أَقُولُ قُمْ»" (لوقا ٧: ١٤)، ودفع الفتى إلى والدته. أتعتقدون أنها شكّت في أنه كان المُرسَل من الآب؟

"هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي". لنذهب إلى بيت عنيا إلى جوار ذلك القبر على سفح التلة ولنسمع يسوع يصرخ بصوت عظيم: "«لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً»" (يوحنا ١١: ٤٣). ولننظر إلى لعازر يتعثر خارجاً من القبر، وجسده ملفوف بثياب القبر، وأختاه تندفعان لملاقاة أخيهم الحبيب وقد أُعِيْدَ من الموت إلى الحياة. هل كان لديهم أي شك في أن يسوع ذاك ليس هو المُرسَل من الآب؟ تلكمُ هي الأعمال التي كانت تشهد له.

وبعدها يأتي الأمر الأروع على الإطلاق، عندما ماتَ هو نفسه في نهاية الأمر وأسلمَ روحه للآب، ووضِع جسده في قبرٍ، وفي اليوم الثالث قامَ وأُعِلنَ أنه ابن الله بقوة. نعم، إن أعمال يسوع تحملُ الشهادة على حقيقة أنه ابن الله. 

ها قد رأينا ثلاثة شهود. والآن ثمة شاهد آخر، في الآية ٣٧: "وَﭐلآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ". كيف كان الله شاهداً على حقيقة أن يسوع هو ابنهُ السرمدي، المُرسل إلى العالم لأجل خلاصنا؟ عندما قَدّمَ المُخلص نفسه عند نهر الأردن ليكونَ البديل عن خطايانا، وعَمّدهُ يوحنا المعمدان هناك. عندما صَعِد من القبر المائي، انفتحت السماء والروح القدس حلَّ على هيئة حمامةٍ، وصوت الآب سُمِع يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى ٣: ١٧)، (أو "الذي به وجدتُ مسرّتي"). كانت هذه شهادة الآب. ليس في تلك المناسبة فقط، بل وعلى جبل التجلي أيضاً، قال الآب مرة أخرى: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا" (مرقس ٩: ٧). ولاحقاً، وفي إحدى المناسبات، عندما رفع صوته قائلاً: " أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ" (يوحنا ١٢: ٢٨)، سُمِعَ صوتٌ من السماء يقول: "مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً".

لثلاث مرات سُمِع صوت الآب من السماء يُصادق ويؤيد شخص ورسالة ابنه المبارك بينما كان هنا على الأرض، ومع ذلك فهؤلاء الناس الذين اعترفوا بأنهم يؤمنون بالله أباً لهم لم يسمعوا صوته. لقد سَمِعه التلاميذ، ولكنَّ هؤلاء الرجال الناموسيين القساة المنتقدين لم يسمعوا أبداً صوت الآب. هل سَمِعتَه؟ هل سمعتَ صوت الآب يتكلّمُ في قلبك؟ هل سَمِعته يقول لك: "هذا هو ابني الحبيب، أُريدكَ أن تُسرَّ فيه"؟ آهٍ، إن الآب لا يَزالُ يُسرُّ بأن يُصادقَ على شخصِ وعملِ الرب يسوع المسيح.

ثم نجد الشاهد الخامس. تقول الآية ٣٩: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي". معظم الدارسين، على ما أعتقد، يفهمون أن هذا التعبير الافتتاحي هو تصريح محدد أكثر منه طلب أو أمر، وكأنهم يقرأونها على النحو التالي: "أنتم تبحثون في الكتب". مهما كان الأمر، أعتقد أن الصياغتين تخاطبان قلبنا، وبالتأكيد فإن روح الله مراراً وتكراراً يأمرنا أن نفتش في هذه الكلمة المباركة. ولكن إذا اعتبرناها قولاً أكثر منها أمراً، تبقى نفسها في المبدأ. لقد كان يتوجه بالحديث إلى قادة إسرائيل. لقد كانوا يقرأون كتبهم المقدسة ويدرسونها، ولذلك قال لهم: "أنتم تفَتِّشُون الْكُتُبَ إذ أَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". أي أنكم تسلّمون أنكم ستنالون الحياة باطلاعكم على الكتاب المقدس وإطاعتكم له، ولكن ما لم تؤمنوا بالذي يتكلم عنه الكتاب المقدس، سوف لن تكون لكم حياة أبدية. في ٢ تيموثاوس ٣، عند الحديث عن إنسان تربّى على كلمة الله (تيموثاوس)، يقول الرسول بولس: "أَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (٢ تي ٣: ١٥). لاحظوا: ليس الإطلاع على الكتب المقدسة وحده يمنحكم حياة أبدية، بل التعرف على الابن المبارك، الذي هو موضوع القصة. ولذلك يقول يسوع: "لديكم الكتاب المقدس. فارجعوا إلى العهد القديم، وإذ أنتم تقرأون العهد القديم، ستجدون أنهم كانوا يتكلمون عني هناك". لقد كان موضوع حديث العهد القديم بأكمله. وكل الرموز اللاوية كانت ترمز إليه. وكل الأنبياء شهدوا له. لقد كان هو من وبّخ الخصوم في أيام زكريا النبي. وفي كل أرجاء العهد القديم نجد الحديث يدور عن يسوع من خلال الرموز والنبوءات. "هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي". الكتب المقدسة تتكلم عن يسوع والمسيح يصادق على الكتب المقدسة. وتحققت فيه النبوءات الواحدة تلو الأخرى.

إنه يُظهر أن العهد القديم برمّته هو كلمة الله الحي. والآن يقول: "أنتم تقرأون كتابكم المقدس، ومع ذلك تأبون أن تأتوا إليّ لتنالوا الحياة الأبدية". أصدقائي الأعزاء، هل تعرفون المسيح؟ إنكم على إطلاع على الكتاب المقدس، وأعرف أن بعضاً منكم يستند إلى معرفته تلك بالكتاب من أجل الخلاص. هل اقتبلتم المسيح الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس؟ هل وضعتم ثقتكم في المخلص الذي كتب عنه الأنبياء؟ هل آمنتم بذاك الذي جاء بدافع رحمته ونعمته ليموت عن الخطاة؟ هذا هو الموضوع الرئيسي في كل الكتاب المقدس. إنه لمما يثير الشفقة أن ندّعي تكريم الكتاب المقدس بينما نرفض مسيح الكتاب المقدس.

إن كلماتهُ تَدلُّ ضمناً على أنَّ كلّ الناس يمكن أن يأتوا إليه إذا شاءوا. هناك بعضٌ من الناس يتخيلون أنَّ البعض غيرُ مرحّبٍ بهم، ولكنَّ يسوع لم يستخدمَ لغةً كهذه إن كانت لن تشملَ الجميع. "كل مَن يأتي". إن بقيت ضالاً حتى النهاية، فسيكون ذلك لأنك لم تأتِ: "لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ".

والآن يقول المُخلِّص: "لا أُريدُ تكريماً من الناس". لم يُرِدْ يسوع رعايتهم لأنه يعتبرهم مناصرين له، بل رَغِبَ في أن يقبل الناس الخلاص الذي جاءَ ليقدمه. "ولكني أعرفكم (وهو الوحيد الذي كان يستطيع أن يقول ذلك)، وأعرف أنه ليس فيكم محبة الله". لقد كان هنا ليعملَ مشيئة الآب ومع ذلك لم يقبلوه. إنه يحذّرهم من ضد المسيح الآتي، المسيح الدّجال. فيقول: "إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ". من هو هذا الآخر؟ إنه ذلك الملك العنيد المتصلب الوارد ذكره في دانيال ١١، ذلك الراعي المعبود عند زكريا، النبي الكذاب الذي يذكره سفر الرؤيا، وذلك المتمرد على القانون الذي يتحدث عنه ٢ تسا ٢، الشخص الشرير الفاسد الذي سيظهر في هذا العالم. والناس الذين لن يقتبلوا المسيح سيخضعون لذاك الذي يحذّر يسوع منه.

إنه أمرٌ خطيرٌ جداً أن ترفضَ المسيح، أن تزدري بالخلاص الذي قدّمهُ الله. كم من شاب يُمضي وقتاً طويلاً في اجتماعاتِ الكتاب المقدس، ويكونُ متمتعاً بقناعةٍ عميقة، ولكن عندما يفكر بما يقوله أو يفكر به هـذا أو ذاك من أصدقاءه إن اعترف بالمسيح! وكم من صبية عرفت أنها ستَخلُص، ولكنَّ أحدهم ممن تقدرهُ عالياً يُبقيها بعيدةً إذ تقول: "ما الذي سيفكر بهِ من ناحيتي إذا ما فعلتُ ذلك؟" ما لم تضع الله أولاً، فإنك لن تكونَ قادراً على أن تؤمن. عندما تأتي إلى المكان حيث تستطيع أن تقول: "لا أستطيع أن أسمح لنفسي بأن أحيدَ عما هو صواب وحقيقي بسبب أيّ اهتمامٍ آخر، حتى رأي أقرب المقربين والأعزاء إلي؛ عليَّ أن أسعى أولاً لملكوت الله وبره، ومن ثم، يقولُ الربُّ يسوع "الأمور الأخرى ستُزداد لي". هل أعاقكَ خوفٌ من الناس عن الاعتراف بالمسيح؟ تذَكَّرْ أنَّ أولئك الذين يعيقونك هم بشرٌ بؤساء تعساء مثلك وسرعانَ ما سيقدمونَ حساباً أمام الله.

لعلكم تقولون: "إذاً فهل سيشكونا؟" لا. إنه يقول: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ" ويضيف قائلاً- وخاصةً لأولئك اليهود: "يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى". هل يشكو موسى؟ كيف يشكو ومن يشكو؟ سيشكو موسى كلَّ الذين يرفضون شهادته، ويتنبأ لهم بدينونة رهيبة. ويضيف يسوع قائلاً: "لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي". هذا هو الجواب لأولئك الذين يقولون: "لا نعتقد أن موسى هو كاتب الأسفار الأولى في الكتاب المقدس". لكن يسوع يقول: "لأَنَّهُ (موسى) هُوَ كَتَبَ عَنِّي"، وبذلك يضع توقيعه على هذه الأسفار، معلناً أن موسى كتبها- "لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي". تلك النبوءات التي كتبها موسى كانت تشير إلى المسيح. تلك الرموز كانت تدل على المسيح. عندما كتب موسى قائلاً: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ" (تثنية ١٨: ١٥)، فإنه كان يكيتب ويتكلم عن الرب يسوع المسيح. ومن هنا يقول المخلص: "إِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟". إن رفض الناس قبول شهادة العهد القديم فإنهم لن يقبلوا شهادة المسيح. كلاهما مرتبطان لدرجة لا يمكن معها فصلهما عن بعضهما.

وهكذا لدينا إذاً الشهادات الخمس. فهناك شهادته نفسه أولاً، وشهادة يوحنا المعمدان، وشهادة المعجزات التي اجترحها، وشهادة صوت أبيه، وهناك شهادة كلمة الله أي الكتاب المقدس؛ كلها تتفق في القول على أن يسوع هو ابن الله، الذي سيأتي إلى العالم. فهل اقتبلْتَه؟


١. لوسيفر: ( Lucifer ): يُترجم اسمُه إلى " زُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ" في ترجمة سميث/فاندايك-البستاني (البروتستانتية) ؛ (انظر أشعياء ١٤: ١٢). ولكننا آثرنا استخدام الاسم "لوسيفر" أو"لوسيفوروس" لأنه أقرب إلى النص الأصلي ومعروفٌ أكثر بهذا الاسم في ثقافة الناس العامة. وجدير بالذكر أن الأصل اليوناني لاسم "لوسيفورس" يعني "حامل النور" لشدة لمعان جماله كما جاء في الكتاب والتقليد.[فريق الترجمة].

الخطاب ١٨

إطعام الجموع

"بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي الْمَرْضَى. فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. وَكَانَ الْفِصْحُ عِيدُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً». قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ». وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ. فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. فَلَمَّا شَبِعُوا قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «ﭐجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ». فَجَمَعُوا وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!» وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. وَهَاجَ الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاَثِينَ غَلْوَةً نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ فَخَافُوا. فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا». فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا" (يوحنا ٦: ١- ٢١).

إن أعجوبةَ الأرغفةِ وإطعامِ خمسة الآلاف هي إحدى تلك الآيات المسجلة في كل الأناجيل الأربعة. لا بدّ من وجود سبب خاص جداً لتفسير ذلك، وإلا فإن روح الله ما كان ليهتمَّ لهذه الدرجة حتى يجعلَ كلاً من الإنجيليين يروي القصةَ لهذه المعجزة. هناك بضعة فروقات خفيفة أو فروقات طفيفة بطريقة سرد القصة، كما من المفترض أن نتوقعه من كُتَّابِنا المستقلين الأربعة، والذين كان بعضٌ منهم شهودَ عيان والبعضُ سَمِع بالقصة من خلال الآخرين. هذه الفروقات ما هي إلا دليلٌ آخر على حقيقة أنَّ الكتاب المقدس هو كلمة الله المُوحى بها، فلو كان هؤلاء الرجال الأربعة متى ومرقس ولوقا ويوحنا قد خططوا لكتابةِ قصةٍ عن الإنسان الذي يُدعى يسوع وأرادوا أن يقدّموها بزيفٍ إلى العالم مُدَّعين أنها بوحيٍ إلهي، لكانوا مهتمينَ للغاية بكل تفصيل من القصة ليذكروه بنفس الطريقةِ تماماً. ولكننا بدلاً من ذلك نجدُ فروقات بحسب وجهة نظر كلّ واحدٍ منهم. فمتّى، كما رأينا، يركّزُ على المسيَّا الموعود. ومرقس يشدّدُ على تلك الأشياء التي تُظهر شخصية الخادم في ربنا يسوع، إذ أن ذلك هو الموضوع الذي كان في ذهنه عند الكتابة، ألا وهو أن يُظهر المسيح كخادم لله والإنسان. ويركّزُ لوقا على تلك الأمور التي تُشير إلى إنسانية المسيح المقدّسة. وأما يوحنا فيتعامل بشَكلٍ أكثرَ خصوصيةً مع تلكَ الأشياء التي تُظهر أن المسيح هو ابنُ الله، إذ أنَّ هذا الإنجيل، كما رأينا، هو إنجيلُ ألوهيةِ ربنا يسوع المسيح. لا يُخبِرنا إنجيل يوحنا متى حدثت هذه الأحداث بالضبط. أما الأناجيلُ السينابتية فتُرينا أنها حدثت مباشرةً بعد موت يوحنا المعمدان، إذ أن الربَّ كان يبدأ آنذاك الفترة الأخيرة من خدمته والتي تمتد سنة ونصف سنة.

نقرأ: "بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ". وبحر طبرية يقع على الشاطئ الغربي من هذه البحيرة الجميلة. لقد عَبَرَ يسوعُ من هناك إلى الشاطئ المقابل، حيثُ كان جمعٌ غفير قد تَبِعهُ لأنهم رأوا الأعاجيب التي فعلها. في كلّ مكان كان يذهب إليه كانت هناك حشود تتبعهُ بسبب أعمال قدرته الرائعة التي كان يصنعها. هو لم يقصد أن يعرفوهُ كابن الله، بل كانوا قد استُحثوا وانتابهم الفضول، وكانَ هناكَ في بعض الأحيان اهتمامٌ قلبي. "أيمكن أن يكونَ نبياً قد قام من بين الأموات؟ هل هو إيليا المُزمَع أن يأتي، أم هو المسيَّا الموعود بالفعل؟".

صعِدَ يسوعُ إلى جبلٍ، نجدٍ مرتفعٍ بجوارِ بحر الجليل، وهناكَ علَّم الناس. يُخبرنا يوحنا أنَّ عيد الفصح كان وشيكاً. لقد كان يُدعى "عيد الرب" في العهد القديم، ولكن اصطُلِحَ عليه اسم "عيدُ اليهود". لقد جعلوا منهُ عيدَهم الخاص، لأنَّ من يرمز إليه الفصح كان في وسطهم ولكنهم لم يعرفوه. فما عادَ له أية قيمة من بعد.

نعلم من إنجيل يوحنا أنه في ذلك المساء "رَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". لقد كانوا معهم طوال ذلك النهار. لقد استمعوا إلى الأقوال الرائعة التي نطقت بها شفتاه. ونعلم من الأناجيل الأخرى أن التلاميذ هم الذين أخذوا المبادرة وقالوا: "أرسلهم إلى بيوتهم إذ ليس من إمكانية لإطعامهم". ولكن يوحنا علم أن الرب يسوع كان قد فكّر بهذا للتو. فالتفت يسوع إلى فيلبس وقال له: "«مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". يُمكننا أن نقول، ببعض التأكيد، أنه ومهما أبدى التلاميذ من اهتمام عظيم نحو حشود الناس، إلا أنَّ اهتمام الرب يسوع كان أعظم منهم بكثير. وهذا يُشجّعنا كثيراً نحن الذين لدينا بعضُ الاهتمام والشغف وحسب نحو الحشود التي تحيطُ بنا، ولكن يا لها من مشاعرَ حنوٍ رائعةٍ لدى المسيح تلك التي يَكنّها نحو البشر في كل مكان! إنه مهتمٌ بخيرهم أكثر بكثير من خدامه (التلاميذ). إن بدونا أحياناً وكأننا سنفشل في الدخول إلى جدية الأمور، ولم تتحرك قلوبُنا كما ينبغي مقابلَ حاجة البشرية الصارخة، فإن القلب الكبير لابن الله المبارك ينبضُ بالشفقةِ والحنوِ. إنه ينظرُ إلى الجموع بمحبةٍ حانيةٍ كما فعلَ على الدوام. لقد نظرَ إليهم وقال: "يجب أن أُطعمهم؛ يجب أن أَسُدَّ حاجتهم" – فهو، خبزُ الله المبارك الذي نزلَ من السموات. ولذلك سأل: "«مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". ليس الأمر أنه لم يعرف ما يفعل، "وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ".

يا لها من كلماتٍ معزية! فها هنا كانت حالةٌ طارئة- آلافٌ من الناسِ بدون طعام! لو كانوا سيسعونَ للحصول على الطعام بأنفسهم لكانَ سيُغمى عليهم قبلَ أن يحصلوا عليه. فلقد كانوا بعيداً جداً عن بيوتهم. ولكنَّ الرب يسوع المسيح قد خطّطَ لتوهِ أن يَسدَّ حاجتهم تلك.

هل من بين الحاضرين أمامي من يجد نفسه في ظروفٍ صعبةٍ وشاقةٍ، وهل من بينكم من يتساءل إذا كان اللهُ قد نَسي أو إن كان قد فقدَ كلَّ اهتمامٍ بكم؟ دعوني أُخبركم ما يلي: إن آمنتم به مخلِّصاً لكم، فإن قلبهُ دائماً نحوكم، وهو يعرفُ ما سيعملهُ. هو لن يخذلكم. هو لن يترككم تترنحونَ وتسقطون. قد يبدو وكأنه ليس هناكَ من طريقةٍ ممكنة لسدِّ حاجتكم الحالية، ولكنهُ يعرفُ ما سيفعلهُ. إننا ننظرُ إلى الأشياء التي نستطيع أن نراها، ويمكننا أن نُصبح مثبَّطين جداً فاقدي العزيمة ومضطربين إذا أخذنا الظروف بعين الاعتبار، ولكنَّ ربَّنا يسوع المسيح المبارك لا يتأثرُ أبداً بالظروف.

"إنهُ يعرفُ ويحبُّ ويُعنى،
ما من شيء يمكن أن يُبهتَ هذه الحقيقة:
إنه يُعطي الأفضل لأولئك
الذين يتركون له الخيار".

لنرجع إلى الكتاب المقدس ونرى تلكَ الشخصيات الواردة في العهد القديم الذين تعرضوا لتجارب. فيعقوب كان في محنة. كانت هناكَ مجاعة في كلِّ أرجاءِ الأرضِ. وأحدُ أولادهِ قد وقعَ في الأسر لأنَّ يوسف أرادَ أن يرى أخيه، بنيامين، ولكنَّ يعقوب كان عازماً على أن لا ينزل بنيامين إلى مصر. ولكنه في محنته لا يعرف ما يفعل، ويقول لهُ أبناؤهُ الآخرون: "لا يمكننا أن نذهبَ بدون بنيامين". فيُسقط يعقوب ذراعيه ويقول: "كلُّ هذه الأشياء ضدي". لماذا، يا أصدقائي الأعزاء، وكما تعلمون، كان الله يخططُ من أجلهِ بطريقةٍ رائعة، ولم يطل الوقت حتى جاءَ الأخوة وأخذوه وعائلته إلى مصر، حيثُ نالَ وفرةً. هل تشعر وكأنك تلوي يديك المتشابكتين وتصرخُ في يأسٍ قائلاً: "كلُّ شيءٍ يسيرُ على غيرِ ما يرام. كلُّ هذه الأشياء هي ضدي". إن كان كذلك فإني أقولُ لكَ لا. ليست الأمور هكذا. الله معكَ، وإن كان الله معكَ فمن يمكن أن يكونَ ضدكَ؟ ربنا المبارك معنا: "لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب ٤: ١٥) و"لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عب ٢: ١٨). وهو يعرفُ ما سيفعل. إنهُ يخططُ لكَ، يا أخي، في هذه اللحظة بالذات. إنَّ لديه تصميماً لكِ، يا أختي. صدقوا ذلك. ثقوا به، وكونوا على يقين بأنه سيعملُ الخيرَ لأجلكم في الوقت الذي يجدهُ مناسباً.

وهكذا كان ربُّنا المبارك هنا يعرف ما سيفعل. لقد كانَ سيسدُّ حاجةَ هؤلاء بطريقته الخاصة العجيبة. ولكن فيلبس لم يفهم، وأجابه قائلاً: "لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً". لقد كان الدينار الذي يتحدث عنه فيلبس أجرة يوم عمل كامل للرجل في ذلك الزمان. بينما كان هذا يعادل شلن إنكليزي أو أقل بقليل، إلا أنه كانت له قوة شرائية أعظم بكثير في تلك البلاد. وهكذا يقول فيلبس: "لماذا سنصرف يا رب ما يعادل أجرة مئتي يوم عمل كامل لإطعام هؤلاء الناس بخبز لا يأخذ كل منهم إلا القليل منه ولا يكفي ليشبع، ومن ثم أنى لنا أن نأتي به؟" لقد بدا وكأنهم أمام معضلة كبيرة لا يمكن حلها. ولكن ليس من معضلة كبيرة لا حل لها عند المسيح. لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً. لن يعطيهم المسيح حفنة صغيرة لأجل العشاء، بل سيقدم لهم وجبة وافرة جداً ستشبعهم جميعاً.

هنا تقدّمَ أندراوس إلى المسيح. يبدو وكأن أندراوس هو دائماً الرجل الملائم للمكان الصعب. لقد كانَ يهرعُ مسارعاً في أرجاء المكان ليرى ما يمكن أن يجد. فيقول: "لقد صادفتُ غلاماً معهُ عشاءٌ ضئيل". نعم، هناكَ دائماً غلامٌ وسطَ الحشود الكبيرة. إنه ينسلُّ وسط الحشد. عندما يربح الرب قلوبَ الفتيان، يمكنك أن تعرف كيف يكونون. هذا الغلام الفتي كان هناكَ ذلك الصباح. لعَلهُ قال: "يا أمي، أريدُ أن أذهب لأسمع ذلكَ الواعظ العظيم". ولذلك فقد أعدَّت لهُ طعامَ غذاءٍ ليأخذهُ معهُ. لقد قال أندراوس: "«هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟»". ورغم ما يقول، إلا أني لا أعتقد أن أندراوس كان فاقد الأمل. لكأنه كان يتساءل: "هل من طريقة تجعل بها هذه كافيةً؟".

ولذلك قال يسوع: "«ﭐجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ»". ويخبرنا يوحنا أنه "كَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ. فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ". أي حشد يمكن إطعامه بخَمْسَة أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَينِ، فليس هناك ولو نصف سمكة لكل ألف!. أولئك هم الشعب، مها هي الوليمة. "أَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ (بثقة كاملة بأن الله سيسد كل حاجة) وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا". لقد بدا وكأن تلك الزوادة لا تنضب. استمتع خمسة آلاف من الشعب السعيد بالوليمة التي قدمها يسوع لهم. وبعد ذلك قال: "«ﭐجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ»". إنه يعطي مجاناً ولكنه لا يبذّر أبداً. فَجَمَعُوا الْكِسَر وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ. يا للمفارقة، في البداية قالوا "ليس لدينا ما نقيت به هذا الحشد"، بينما فضلت قفة لكل واحد من التلاميذ في نهاية الأمر! لقد كان هناك طعام وافر للجميع. إنه لا يبخل بشيء. فيا أخي وأختي، إن كنتم في محنة، اطلبوا بثقة، لأن ملكاً هو ذاك الذي تطلبون منه. لا تخشوا أن يعجز عن تلبية مطلبكم. فهو قادرٌ أن يسد كل إعوازٍ. "فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي ٤: ١٩).

لقد مَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ، و"لَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!»". ما الذي دفعهم لقول ذلك؟ لا بد أن أولئك الناس عرفوا كتابهم المقدس. لقد كانوا يقرأون سفر المزامير في بيوتهم، وكانوا يترنمون بالمزامير في اجتماعاتهم في الهيكل، وكانوا يعلمون أن الآية في المزمور ١٣٢: ١٥ كانت تتحدث عن مسيح إسرائيل، النبي والملك الذي كان سيأتي إلى العالم. إذ تقول الآية: "طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً". وبالتالي قالوا في أنفسهم أن: "لا بد أن هذا هو. فهذا ما فعله بالضبط. انظروا كيف أشبعنا هنا بالخبز. فلا بد أنه هو بالفعل".

أي نبي كانوا يقصدون؟ إنه ذاك الذي قال موسى عنه: "تطيعونه في كل الأمور". ولذلك قالوا: "لا بد أن هذا هو النبي. لا بد أن هذا هو المخلص الآتي". ولكن ما كان قد آن الأوان بعد ليكمل يسوع كل نبوءات العهد القديم تلك ويؤسس الملكوت. لقد كان سيفعل ذلك بحسب توقيت الله، ولكن قبل ذلك سيكون عليه أن يعود إلى السماء ويقوم بخدمة رائعة كرئيس كهنة عظيم لنا، ويتّخذ لنفسه شعباً من الأمميين ليكونوا عروسه في يوم اقتداره.

ولهذا السبب فإنه ترك السفينة وصعد إلى الجبل ليصلي. وهنا لدينا تصور يمكننا من معرفة ما انفك الرب يسوع يقوم به منذ صعوده إلى السماء. لقد أرادت تلك الجموع أن تنصبه ملكاً، ولكنه انْصَرَفَ إِلَى الْجَبَلِ. لقد صعد لكي يتكلم إلى الآب، ليتشفع من أجل تلاميذه، الذين لا يزالون في العالم وسط التجارب والمحن والصعوبات. هذا تصوير لذاك الذي كان نبياً على الأرض، والذي صعد الآن إلى السموات ليكون شفيعاً لنا ومحامياً عنا أمام الآب.

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ". تقول لنا الأناجيل الأخرى أن التلاميذ عبروا البحر إلى كَفْرِنَاحُومَ، ولكن يُقال لنا أن الرياح كانت معاندة. أما يوحنا فلا يخبرنا شيئاً عن ذلك، بخلاف الأناجيل الأخرى. يقول يوحنا: "فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ". هناك نوع من الخليج، وكانوا يعبرون هذا الخليج عندما هبّت عاصفة فجأة. ووصل بهم المطاف إلى بحر الجليل. "وَكَانَ الظّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ". لعلك ترى في هذه صورة عن شعب الله الذين يجتازون الآن في ظلمة بحر الزمان، ويسوع، وإن كان حاضراً بالروح، إلا أنه غائب شخصياً. "وَهَاجَ الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ". كان في مقدورهم أن يعودوا أدراجهم قبل أن تهب الريح، ولكن يسوع كان قد قال لهم أن يمضوا قُدُماً. وهكذا حاولوا جهدهم المضي في طريقهم. ارتفعت الأمواج وبدا وكأن السفينة ستتحطم. هل نسيهم يسوع؟ هل كان غير مبالٍ بهم؟ لا يا أخي وأختي، لم يكن متجاهلاً لهم كما أنه لا يمكن ألا يكون مبالياً بمحنتكم. لقد كان في مقدوره أن يرى. وحتى في الظلام كان يمكنه أن يرى. بل إنه يستطيع أن يعرف أفكارنا. إنه يدرك آلامنا. ويعرف بكل مشقة تعترضنا.

كان هناكَ يناشدُ الله بالصلاة وكانت أمواج البحرِ تتقاذفهم، وكان قلبهُ قلقاً عليهم، ولذلك ففي نهاية المطاف نجدهُ يأتي إليهم. وسيأتي يوماً ما إلينا. حتى الآن في هذا الوقت نجدهُ يأتي بعنايته المُحبّة ليُعطينا العون الذي نحتاج إليه تماماً عندما نكون في ضائقة أو في صعوبات. نقرأ أنهم "لَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاَثِينَ غَلْوَةً نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ فَخَافُوا". إنَّ الأمرَ يتطلبُ إيماناً حتى نراهُ على هذا النحو اليوم. لقد أمكنهم أن يروه بالعيان. لا نستطيع أن نراه بعيننا الطبيعية، ولكننا نسلكُ بالإيمان وليس بالعيان. مهما كانت عواصفُ الحياة، ومهما كانت الأمواجُ عالية، ومهما كانت العاصفةُ خطيرةً، ثِقوا به، واعتمدوا عليه، وانظروا في إيمان، وسترونه يسيرُ على أمواج المياه.

نقرأ: "ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ" (أشعياء ٢٦: ٣). ولكن كما تعلمون من الممكن أن ننشغلَ بأمور الأرض لدرجة أننا نعجز عن تمييز يسوع عندما يأتي ليُساعدنا. إننا منشغلينَ بأمورنا الخاصة، وظروفنا، حتى أننا لا نعرفهُ عندما يأتي ليُعتقنا ويحررنا.

لقد كانوا خائفين لأنهم ظنوا أنهُ كان طيفاً أو شبحاً. مهما يكن من أمر، إن الأمور الآن هي أسوأ مما كانت قبلاً بكثير. والظروف تُعمي العيون جداً لدرجة أننا نُخفق في أن نميز يسوع عندما يأتي فعلياً ليقدم لنا الراحةَ التي طالما نكونُ قد تُقنا إليها.

إلا أن المخلّص دنا إليهم وقال: "«أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا»". وهذا ما يقوله لكل قلبٍ مضطرب اليوم يطلب العون: "«أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا»". لا تغتمّوا تحت وطأة ظروفكم. سأل رجلٌ يوماً رجلاً آخر: "كيف تتدبّر أمورك يا أخي؟"، فرفع الآخر بصره نحوه بوجه مكتئب وقال: "لا بأس. أقاوم قدر الإمكان وطأة الظروف". فقال ذاك: "يؤسفني أن أسمع أنك تحت وطأة ظروف. لقد سُرَّ المسيح أن يرفعنا فوق كل الظروف". وهذا هو ما يفعله تماماً. لسنا مضطرين لأن نعاني من الظروف. لقد عانى بولس الرسول من ظروف أعتى وأشد مما يمكن أن نعانيه على الإطلاق، ولكنه قال: "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ" (فيلبي ٤: ١٢). يقول الله أنه لن يتركك ولن ينساك.

وها إن يسوع يقول الآن: "أيتها النفوس البائسة المضطربة، لا تخافوا، فها قد أتيتُ لمساعدتكم". "فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ". قالوا له: "يا رب، إن كان هذا أنت، فادخل إلى السفينة معنا"، وفعل ذلك، "وَلِلْوَقْتِ" تغير كل شيء، و"صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا". انظر، لقد كانوا قريبين من المرفأ، وما كانوا يعرفون. يا صديقي العزيز، سفينتك قريبة من الميناء، فلا تستسلم لليأس. إنه ينتظر أن يريك كيف يهتم بك بطريقة عجيبة. "سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي" (مز ٣٧: ٥). هل تقول في نفسك: "حسن، جميلٌ أن تتكلم إلى أولئك المسيحيين بتلك الطريقة، ولكن انظر إليّ، فأنا لا أعرفه على الإطلاق. ولا أعرف أبداً كيف أكون مسيحياً". حسناً، يا أصدقائي الأعزاء، لدينا رسالة لكم. أصغوا إلى هذه الكلمات: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). هل أنت على استعداد لاقتبال الرب يسوع المسيح مخلصاً لك؟ هل تؤمن به فادياً لك؟ هل تؤمن بكلمته التي تقول لك بأنه قد سُلِّم (إلى الموت) لأجل آثامك، وأنه أُقيمَ (من بين الأموات) لأجل تبريرك؟ وهل ستطيع تلك الكلمة التي تقول: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ" (رومية ١٠: ٩). في اللحظة التي تفعل فيها ذلك، يقتبلك بالنعمة والرحمة، ويخلّصك. "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال ١٠: ٤٣). وعندما تؤمن به، ستعرف أنه لم يأتِ فقط لكي يغفر خطاياك، بل ليقود حياتك أيضاً. فلمَ لا تُسلّم ذاتك له اليوم؟ لماذا لا ترفع بصرك إلى الأعلى وتقول: "أيها الرب يسوع، لك أُسَلّمُ حياتي لتمتلكها، جسداً وروحاً ونفساً، فهلا تتولّاني برعايتك وعنايتك من الآن فصاعداً؟" سيفعل ذلك. فهو يعد برعاية كل من يضعون عليه ثقة إيمانهم.

 

الخطاب ١٩

الطعام الذي يبقى

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا رَأَى الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلاَمِيذُهُ وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلاَمِيذِهِ بَلْ مَضَى تلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ - غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ - َلَمَّا رَأَى الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلاَ تلاَمِيذُهُ دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ. َلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخُبْزَ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً. وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً. لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ»" (يوحنا ٦: ٢٢- ٤٠).

في هذا القسم الطويل نوعاً ما لدينا ثلاثة أجزاء متميزة. في الآيات ٢٢- ٢٥ يطرح الناس سؤالاً حول كيفَ أمكنَ للرب يسوع أن ينتقلَ مبتعداً من ذلك الجزء من الأرض حيثُ أطعمَ الخمسة آلاف وكيف أمكنهُ أن يكونَ في كفرناحوم في اليوم التالي. لقد كانوا يعرفون، إذ أنه كان قد شاع الخبر بشكلٍ واسع، أنه في نهاية النهار، وبعد أن أطعمَ ذلك الحشد الكبير العدد، أنه أرسلَ تلاميذه، ولكنه نفسهُ كان قد ذهبَ إلى جبلٍ ليُصلّي. لم يستطيعوا أن يفهموا كيف قطعَ تلك المسافة من المنطقة حيثُ كانوا إلى المكان الذي وجدوه فيه في المرة التالية.

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا رَأَى الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلاَمِيذُهُ وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلاَمِيذِهِ بَلْ مَضَى تلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ - غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ - َلَمَّا رَأَى الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلاَ تلاَمِيذُهُ دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ".

هذه تبدو كحركة ذات اهتمام حقيقي، ولكنَّ المرء لا يمكنهُ دائماً أن يعتمدَ على المظاهر الخارجية. لقد بدا مُشجعاً رؤية حشدٍ من الناس يسعون وراء يسوع على هذا الشكل، الذين كانوا مستعدونَ ليذهبوا ويتحملوا مشقةَ عبورِ البحر لكي يصلوا إليه. لقد بدا وكأن هذا يُشير إلى اهتمام حقيقي عميق وثابت. ولكن في نهاية الأمر كان ذلك الاهتمام من النوع الضحل جداً. إذ أنهم ما كانوا مهتمينَ بالمسيح نفسه، ولم يكن لديهم أيَّ إحساس بالحاجة إلى مخلِّص، رغمَ أنهم ربما كانوا يرجونَ أن يبرهن على أنهُ المسيا الموعود، إذ ظنوا أنَّ ذاك الذي كان بإمكانهِ أن يعطيهم بركاتٍ وقتيةٍ، كان يمكنهُ أيضاً أن يقدّمَ لهم خبزاً ليُشبِعَ جوعهم.

ولذلك جاؤوا يطلبون يسوع، وعندما وجدوه قالوا: "«يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟»". ما كانوا يعرفونَ شيئاً عما حدث خلال الليل؛ أي صلاته على الجبل أو اضطراب التلاميذ وسط البحر، ومجيء الرب يسوع إليهم، ثم سيره على المياه نحوهم، واستقبالهم لهُ في السفينة، الذي جاءَ قبل وصولهم إلى المرفأ المرجو. كلُّ هذا ما كان يعرفه هذا الحشد الذي جاءَ يطلب يسوع ويسألونه:"«يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟»".

ولكنَّ يسوع استغلّ هذه الفرصة ليقوّي شهادتهُ ويشرحَ السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى الأرض. لقد رأى من خلال موقفهم اهتماماً ظاهرياً. وعَرفَ ما كان حقيقياً في قلوبهم. غالباً ما يأتي الناس، على سبيل المثال، إلى اجتماع للكتاب المقدس، ويبدأونَ بالحديث بتدين، ولكن سرعانَ ما تكتشف حقيقة ما في قلوبهم ألا وهو البحث عن حاجة مؤقتة، طعام أو كِساء، ونوعاً ما يشعرونَ أن المسيحيينَ يجب أن يكونوا مهتمين بتأمين هذه الأشياء. والمسيحيون مهتمون ويسرهم سدُّ هذه الحاجات، ولكنَّ قدرتهم غالباً ما تكون ضئيلة جداً. عندما يأتي الناس مدَّعين التدين فإن هذا الاهتمام الذي لديهم يتبدى في أدنى مستوياته. ومن الأفضل لهم بكثير أن يكونوا صريحين وأن يقولوا: "ليست نفسي هي ما أهتمّ بها، بل معدتي الخاوية، أو إن حاجتي هي إلى معطف". وعندها سيعرف المرء ما يمكن أن يفعل من أجلهم بأقصى طاقته. ليس من الضروري للناس أن يدّعوا اهتماماً بالدين لكي يحصلوا على معونة مؤقتة زائلة. ولكن هذا ما فعلهُ أولئك الناس. لقد ادّعوا اهتماماً حقيقياً بالمسيح، ولكنه كان يعرف أنهم كانوا يفكرون فقط بأرغفة الخبز والسمك.

في القسم الثاني، الآيات ٢٦- ٣٤، لدينا جواب يسوع. لقد قال: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ". ليس لأن الآيات أظهرت شيئاً لهم، بل بسبب حصولِهم على وجبة طعام جيدة. لقد أمَّن لهم ما كانوا يحتاجون إليه البارحة ويودّونَ أن يفعلَ الأمر نفسهُ اليوم. لقد كانوا يرجون أن يستمرّ في سدِّ حاجاتهم الزائلة المؤقتة، ولكنهُ كان مهتماً بحاجتهم الروحية، إذ أنَّ الحاجة المؤقتة الزائلة، أولاً وأخيراً، هي فقط لبرهةٍ أو فترةٍ محدودة، ولكن إن عاش الناسُ وماتوا بدون سد حاجتهم الروحية، فإن إعوازهم سيستمرُ إلى الأبد. ولذلك قال: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". ما كان قصده بذلك؟ هل كان يعني أنه ليس من الضروري لنا أن نكدَّ في عملنا اليومي لتأمين حاجات الحياة الأساسية؟ أبداً على الإطلاق. أيضاً وأيضاً يُطلب منا أن نكون مجتهدين وحريصين بخصوص هذه الأمور. فلماذا قال، إذاً، أن "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ"؟ لقد كان يقصد أن يقول لنا أنه لا ينبغي لنا أن نجعل هذا أمراً أسمى. الأمر الوحيد الأهم الذي لا يجب أن ننساه هو أن هذه الحياة ما هي إلا بخار وسرعان ما ستتلاشى. "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي (الغذاء الروحي) لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ".

الناسُ غيرُ الأتقياءِ في هذا العالم يقولون أحياناً: "الدينُ هو مجرد أفيون للشعب ليشغِلهم بالأمور الروحية ويخبرهم عن الخبز السماوي ليُشبعَ نفوسهم، وهكذا ينسونَ جوعَ أبدانِهم". ولكنَّ هذه صورةٌ تجديفيةٌ زائفةٌ عن المسيحية. فطوال العصور ما كان أحدٌ مهتماً بخدمة حاجات الناس المؤقتة الزائلة أكثرَ من أولئك الذين عرفوا الرب يسوع المسيح حقاً وأحبّوهُ. لقد كانوا دائماً هم المهتمّين أكثر بالتخفيف من وطأة الظروف التي يُعاني منها أخوتهم البشر، ومع ذلك فإننا لن نضع الراحة الزائلة قبل الراحة الروحية. علينا ترتيب الأمور حسب أولويتها: "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" - هذه الأشياء التي يعرف أبوكم السماوي أنكم في حاجة إليها. هذه الأشياء كلها مهمة، وفي غاية الأهمية، وهذا حق، ولكن هناك أمر أكثر أهمية ألا وهو "الطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". وها هو الرب يسوع يعلن هنا أن ابن الإنسان وحده هو القادر على إعطاء هذا القوت الذي يشبع الروح. فهذا هو ما جاء من أجله، أن يطلب ويخلّص من ضلّ. لقد نزل من السماء باتضاع وصار ابن الإنسان لكيما يسدّ حاجات الخطاة الضالين.

"هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ". عندما كرّس نفسَه علانيةً ليقدّمَ حياته لأجلنا عند اعتماده في نهر الأردن، بدا الروح القدس نازلاً إليه على هيئة حمامة وحلَّ عليه، وسُمِعَ صوت الله يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى ٣: ١٧). وكان هذا هو ختمه.

قال يسوع أنه لا ينبغي أن نعمل فقط من أجل الأشياء الزائلة المؤقتة. لقد أكّد على ضرورة العمل بكدّ من أجل القوت الذي يبقى للحياة الأبدية. وفي محاولة منهم لتفادي ذلك، سألوه: "مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟" لقد كانوا يفكرون في الناموس الذي أعطاهم الله إياه في سيناء. إنهم يقولون: "أخبرْنا مَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ، فنحصل على الحياة الأبدية. ما الذي يجب أن نفعله؟" ويجيب يسوع، فيكشف لهم غنى رحمة ونعمة الله. فيقول لهم: "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ". لعلّك تقول: "ولكن الإيمان ليس عملاً". نعم معك حق. ولكن هذا هو الدليل على عمل الله في النفس. ومن هنا يُقال لنا: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢: ٨، ٩). ما هي عطية الله؟- الخلاص أم الإيمان؟ لعله يمكننا القول أنها كلاهما معاً. نعلم من موضع آخر أن عطية الله هي الحياة الأبدية، ولكن من الواضح تماماً أيضاً أن الإيمان هو عطية الله. وليس من إنسان لديه إيمان في نفسه بشكل طبيعي. "لأَنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ لِلْجَمِيعِ" (٢ تسالونيكي ٣: ٢).     

ولكن قد يقول أحدهم: "إن كان الإيمان عطية من الله، فأنّى لي، أنا الخاطئ البائس، أن أقدر على أن أؤمن؟" يقول الكتاب المقدس: "لإيمان يأتي من السماع، والسماع يكون بكلمة الله"، أو "الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ" (رومية ١٠: ١٧). بمعنى آخر، لقد أرسل الله رسالةً إلى الإنسان، وينبغي أن نؤمن بذاك الذي تتحدث عنه الرسالة، ومن هنا يقول يسوع: "إن كنتم تتحدثون عن عمل، فإن هذا عمل الله، أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ". عبثاً نتحدث عن إرضاء الله ما لم نتلقى عطية الله. ولذلك يقول الكتاب أن الخلاص "لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ"(أفسس ٢: ٩). ولكن الروح القدس سرعان ما يضيف قائلاً: "مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا"(أفسس ٢: ١٠).

ومن هنا فليس صحيحاً القول باكتساب الخلاص عن طريق الأعمال. فنوال الحياة الأبدية لا يكون بجهد منا. "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا". لقد كان عليهم أن يثقوا بكلمة الله.

ولكن أولئك الناس لم يكونوا جديين. ما كانوا مهتمين حقاً بخيرهم الأبدي. لقد كانوا مهتمين بالحصول على طعام جيد، كمثل الوليمة التي أفردها لهم يسوع في اليوم السابق. ولذلك سألوه: "فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟". لقد كانوا يعرفون ذلك سابقاً. كانوا يعلمون أنه سيشفي المرضى، وأنه سيخلّص الرجال والنساء من كل أنواع الأمراض الرهيبة، وأنه سيعيد السمع إلى الصمّ. وبعضهم سمع أنه قد أقام موتى. ولكنهم كانوا يفكرون بمصلحتهم الآنية الزائلة كما هو الحال اليوم مع الكثير من الناس الذين يظنون أن المسيحية هي وسيلة لتحسين ظروفهم الدنيوية أو المادية.

قالوا ليسوع: "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ؟" ثم أردفوا قائلين (معتقدين أنه لم يفهم ما وراء كلماتهم): "آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا". تلاحظون أنهم يستطيعون الاستشهاد بالكتاب المقدس. "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ؟" "هل من منّ هنا أو هناك؟ إننا نبحث عن الخبز. لقد أطعم موسى الشعب لأربعين سنة خبزاً من السماء. أوتستطيع القيام بذلك؟ سمعنا أنك صنعتَ ذلك البارحة. فهل تستطيع أن تفعل ذلك اليوم؟ فعندها نستطيع أن نؤمن أنك المسيا. أليس مكتوباً أن المسيا سيطعم الناس خبزاً؟ حسناً إذاً. ها نحن هنا، فأعطنا خبزاً من السماء". ولكن يسوع أجابهم قائلاً: "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ (بمعنى الخبز الحقيقي الذي له أهمية من دون شك) مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ»". لقد نزل يسوع من السماء. المنّ أقاتَ بني إسرائيل مدة أربعين عاماً في البرية. يسوع هو القوت الذي يغذي الإنسان في هذا الدهر وفي الأبدية. لنتأمّل في المنّ، كم كانت جميلة، كمثل الثلج الذي يتساقط من السماء. وتلك كانت ترمز إلى يسوع، القدوس، الطاهر، الذي لا عيب فيه ولا خطيئة ولا نقص من أي نوع. ذلك المن كان ينزل من السماء على الندى، رمز روح الله، مشيراً إلى اليوم الذي سيفيض فيه الله روحه على بني إسرائيل. فيقول: "سأكون كالندى لإسرائيل". أي أن روح الله سينزل عليهم بقوة مجدّدة محيية منعشة. لقد كان المنّ ينزل على الندى ويسوع جاء بقوة الروح القدس. لقد وُلِدَ من الروح القدس، من أمّ عذراء. وعاش حياته بقوة الروح القدس، وعندما مات في نهاية الأمر، فإنه قدّم نفسه لله (ذبيحة) بالروح الأبدي بلا عيب. وعندها- لاحظوا ذلك- عندها نزل المنّ، ليس فوق الجبال العالية حيث كان الناس سيضطرون للصعود إلى هناك للحصول عليه، وليس في وهدٍ حيث كان الناس سيضطرون للنزول إلى هناك للحصول عليه، بل سقط على الأرض حولهم وغطى السّهل حيث كانت خيام بني إسرائيل، ولذلك فكان أمام كل إسرائيلي، ما إن يستيقظ في الصباح ويخطو خارج باب خيمته، إما أن يطأ المنّ أو ينحني إلى الأرض فيلتقطه كعطية من الله.

هذه الصورة تمثل المكانة التي اتخذها يسوع في اتضاعه. هل دستم على محبته بعدم اكتراث؟ أم أنكم اقتبلتموه في قلوبكم بالإيمان مخلِّصاً شخصياً لكم؟ انهضوا وتغذوا به، هو خبز الله النازل من السماء. ما هو موقفكم اليوم؟ "أَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ" (يوحنا ١: ١٢، ١٣).

وهكذا ينحّي يسوع جانباً كل تلميحاتهم حول الطعام والخبز الزائل البائد الذي لإشباع الإنسان الطبيعي، ويقول: "ثمة شيئاً أكثر أهمية بكثير من طعام الإنسان الجسداني، ألا وهو خبز الروح للإنسان، خبز الحياة. ولكنهم كانوا متبلدي الحس وبطيئي الفهم، كما حال رجال ونساء هذا الدهر اليوم، وكما كنا سابقاً، إلى أن انفتحت أعيننا. قالوا له: "«يَا سَيِّدُ أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخُبْزَ»"، ولكن كل ما كانوا يفكرون فيه هو المعونة المؤقتة الآنية البائدة. لم يفهموا ما قاله لهم.

في القسم الثالث، الآيات من ٣٥ إلى ٤٠، يوضح الأمر أكثر لهم فيقول: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً". يا له من إعلان مذهل! ما برح يسوع يحقق هذا الوعد منذ أكثر من ألفي سنة. كثيرون مضوا إليه، جائعين، مكتئبين، مثبطين، واقتبلوه بالإيمان ووجدوا سرور القلب.

لاحظوا بساطة المسألة: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ". الخلاص هو في شخصٍ، في ربنا يسوع المسيح نفسه. تذكّروا عندما كان سمعان يصلي في الهيكل ودخلت مريم ويوسف ومعهما الطفل الصغير، حيث قال يوسف: "ها هو خلاص الله"، وهرع نحو الطفل وأخذه بين ذراعيه وقال: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ" (لوقا ٢: ٢٩، ٣٠). نعم، إن خلاص الله هو في شخص، وهذا الشخص هو ابنه المبارك. وباقتباله ننال الخلاص. باقتباله ننال الحياة الأبدية. ولكن من المحزن أنه، ورغم وضوح الرسالة، فإن قليلين يؤمنون: "وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ".

وهنا ينكبّ يسوع على كشف ذلك السر العظيم المتعلق بجلال الله القدير. فيقول: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". الحمد لله على هكذا تطمين وتوكيد! الله لن ينهزم أبداً. ولن يخفق أبداً في تحقيق هدفه. كل من يعطيهم الله ليسوع سيأتون إليه. لعلكم لا تتقبّلون ذلك. لعلكم تقولون أنكم لا تؤمنون بالاختيار أو التقدير المسبق. ولكنكم في هذه الحالة ستضطرون لتمزيق عدد من الصفحات من كتابكم المقدس، لأن الكثير منها يعظّم نعمة الله الاختيارية الجليلة. ولكن حذارِ أن تسيئوا فهمها. فما من مكان في الكتاب المقدس يقول أن الله قد قدّر للإنسان قبل ولادته أنه سيكون ضالاً هالكاًَ أو مُخلَّصاً، ولكن الكتاب يقول: "لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ" (رومية ٨: ٢٩). لقد أصاب مودي عندما اعتاد على القول: "كل من يريد هم المختارون ومن لا يريد هم غير المختارين". وها هو يسوع يقول: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً".

ولكن يجب ألا نغفل مسؤوليتنا الشخصية، "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". فلا يقولنَّ أحدٌ: "أخشى ألا أكون مختاراً فلا أخلص". السؤال هو: هل أنت راغبٌ في أن تُقبِلَ إلى يسوع؟ فهو لن يخرجك خارجاً. كائناً من تكون اليوم، إن كنت ترغب أو تريد أن تأتي إليه فإنه سيستقبلك ويقبلك. لا حاجة بك لتلقي بالاً أو تحل مسألة التقدير المسبق أو التعيين المسبق ثم تأتي ليسوع. وعندما تأتي إليه فإنه يقتبلك، وإذ تكون قد جئتَ إليه، فإنك تعلم أنك أحد الذين أعطاهم الله الآب للرب يسوع المسيح.

يقول يسوع في الآية ٣٨: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي". لقد كان جزءاً من إرادة الله أن يخلّص المسيحٌ إلى الأبد كل من يأتي إليه. هذه هي مشيئة الآب، ألا يخسر أياً ممن أعطاهم له. ومن هنا نرى أنه ينبغي أن يكون لدينا ثقة كاملة ويقين أكيد كبير بأننا ننال خلاصاً كاملاً ونهائياً بمجرد اقتبالنا ليسوع المسيح، الخبز المبارك النازل من السماء. "وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". لاحظ الفردانية في القول "كُلَّ". فكل رجل، وكل امرأة، كل فرد لوحده، "كل من يرى الابن"- ويراه طبعاً بالإيمان، بالكلمة إذ جُعِلَ متجلياً بالروح- "كُلّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". وإذاً ما معنى التغذي بخبز الحياة؟ معنى ذلك هو اقتبال الرب يسوع المسيح بالإيمان كمخلص شخصي لك وأن تتمتع بالشركة معه يوماً فيوماً. إذ تقرأ هذه الكلمة المباركة، التي تكشف حقائق مباركة رائعة الواحدة تلو الأخرى، فإنك تتغذى على الخبز الحي إذ تجعل نفسُكَ هذه الحقائق خاصة بك. أفلا زلتَ تجوع أو تعطش؟ أتريد الخبز الحي؟ حسناً إذاً، اقبلْه الآن بالإيمان، وإن كنت تصدّق الشهادة التي يقدّمها الله، فإنه سيقبلك، وهو يعدك بأن يهبَك حياةً أبدية وأن يقيمَك فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ.


١. (متى ٦: ٣٣).

٢. بمعنى آخر: "الإيمان ليس من نصيب جميع الناس"، أي أنه" ليس كل الناس مؤمنين" [فريق الترجمة].

الخطاب ٢٠

تناول جسد المسيح وشرب دمه

"فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ. لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هَذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذُلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يوحنا ٦: ٤١- ٥٦).

إنهُ مبدأٌ لافتٌ للانتباه جداً يتعلق بطرق تعامل ربِّنا يسوع المسيح مع البشر، وهو أنه إذا ما أتت النفس إليه، وكانت صادقة وجديّة وتسعى لمعرفة الحق، فإنهُ يتعهدُ بجعل تلكَ الحقيقة بسيطة وممكنة الفهم حتى بالنسبة للإنسان العادي. من جهةٍ أخرى، إن كان المخلِّص قد شرحَ حقيقةً وكانت صعبةَ الفهم على الفكر الطبيعي، والناسُ بدل إدراكهم لحاجتهم ومجيئهم إليه طالبينَ تفسيراً مظهرينَ موقفَ جحودٍ وغطرسةٍ، فإنهُ دائماً يجعل الحقيقة أكثر صعوبةً بدلاً من تبسيطها. بمعنى آخر، إن كان الناس لن يفهموا حقيقة الله عندما تُقدّم إليهم بل يختارون عن عمد أن يتبعوا طريق الخطأ، فإنه ستُعمى بصيرتهم عن إدراك الحقيقة نفسها. هذا المبدأ يسودُ في كل أرجاء الكتاب المقدس. هل تذكرونَ كيف أن فرعون قد صممَ على أن يعصى إرادة الله. إننا نقرأ أن الله قد قسّى قلب فرعون. لقد ثبَّت موقف الملك المتغطرس في شرهِ نفسه. وفيما بعد، وعندما اختارَ شعبُ إسرائيل طريق العصيان، قالَ الله: "سأَخْتَارُ مَصَائِبَهُمْ" (أش ٦٦: ٤). عندما ننظر إلى المستقبل إلى ذلك اليوم عندما ضد المسيح، عدو الله والإنسان الفاسد الشرير الأخير ذاك، عندما يبزغ ضد المسيح هذا، يُخبرنا الكتاب أنَّ الناسَ في ذلك الوقت سوف لن يقبلوا محبة الحقيقة فيَخلصوا، ولذلك فإن الله سيرسلُ لهم مصيبةً شديدة.

هناك أمرٌ جديٌّ وفي غاية الخطورة هنا. هناكَ مسؤوليةٌ جسيمة توضعُ على عاتق الرجل والمرأة الذي تُعلن لهم حقيقةُ الله. تلكَ الحقيقة تُعطى لنا لنؤمن بها. وهي ليست شيئاً يمكننا أن نتلاعبَ به على نحو ماكرٍ أو مخادع. إننا مدعوون لنقبلها. "اشترِ الحقيقة ولا تَبعها"، يقول كاتب سفر الأمثال. إن كان بينكم اليوم من لم يفتح قلبهُ للإنجيل ولم يقتبل المخلِّص، فلا تتخيلوا أنه أمرٌ بسيطٌ أن تُشيحَ وجهك عن الحق أو تنحرفَ عنه. لا تحاولوا أن تُقنعوا أنفسكم أنكم في يومٍ آخر ما ستعملونَ الصواب. "هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ" (٢ كور ٢: ٦). هل تتخيلون أنَّ الأمور ستكون على ما يرام تماماً إن انتظرتم لاتخاذ قراركم في أن تأتوا إلى الله عندما تكونون مستعدين؟ عندما يأتي يومكم، قد تجدونَ أن الله قد انسحبَ. وعندما تأتونَ في نهاية الأمر لتقرعوا على الباب، ربما ستجدون أنه قد أُغلقَ وتسمعون صوتاً يقول: "اذْهَبْ عَنِّي. إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكَ قَطُّ!".

قال كاوبر:

"اسمعوا الناموس العادل، الدينونة من السموات:
من يبغض الحق مغفلٌ كاذب؛
ومن سينخدع إلى المنتهى،
ستصيبه البلايا بقوة كالجحيم".

إني لأرجوكم جميعاً، أن تعززوا كل دليل على أن الروح القدس يعمل في قلوبكم وضميركم. اشكروه على فرصة سماع الإنجيل. فقد كَتَبَ: "اسمعوا فتحيا قلوبُكم".

لقد رأينا في دراستنا لهذا الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا أن يسوع كان يتعامل مع مجموعة من الناس الأنانيين. ما كانوا مهتمّينَ بالروحانيات. ولذلكَ فبدلاً من أن يشرحَ الأمور بطريقةٍ تجعلهم يفهمونَ بسهولة، وعندما أدركَ أنهم كانوا غير مبالين أو مهتمين حول فهمه، يبدو أنه جعل الأمور صعبةً أكثر فأكثر على الفكر الطبيعي لكي يستوعبها.

لقد تذمّرَ اليهود (الآية ٤١). وراحَ كلّ منهم يحدّث الآخر بدلاً من أن يأتوا إلى الرب يسوع، ويقولوا: "يا معلم، إننا جهلة، وعقولنا مظلمة. إننا لا نفهم، ولكننا نتطلعُ إلى الفهم. نحنُ لا نعرفُ ما تقصد، ولكننا نريد أن نعرف. فيا معلم، أشفق على جهلنا وأنرِنا". لقد تذمّروا وَقَالُوا: "أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟". لا. لم يكن هو من يظنون. لقد كان ابن مريم، ولكن ليس له أب بشري. لقد عرفوه كابنٍ ليوسف في الناصرة، ولذلك قالوا: "أليس هو ابن قريتنا؟ ما قصده بقوله أنه نازلٌ من السماء؟" لم يوجهوا أسئلتهم ليسوع، ولكنه سمع تذمّرهم لأنه كان يعرف ما في قلب الإنسان. "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ. لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". نعم. لكأنه كان يشيح عنهم متعمداً، قائلاً: "لستم الشعبَ الذي أتيتُ من أجله. ليس لدي رسالة أنقلها لكم. ما من أحد يمكن أن يأتي إليَّ إلا من اجتذبه الآب، وهو لا يجتذبكم أنتم". كان قد قال قبل قليل: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ". ولكنهم لم يأتوا إليه، وإذاً لم يكونوا من أولئك الذي يجتذبهم الآب.

أصْغِ إليَّ يا صديقي: أ أنت مهتمٌ أن تعرف إن كنتَ أحد أولئك المجتَذَبين من قِبَلِ الله الآب؟ يمكنك معرفة ذلك بكل سهولة. هل أتيتَ إلى يسوع؟ هل ترغب أن تُقبل إليه؟ إن كان في قلبك رغبة ولو صغيرة في المجيء إليه، فإن الآب هو الذي يجتذبك إلى ابنه. فلنسلط الضوء على ما يعمله الروح القدس، وبدل مقاومة مناشدته، سلِّم له في الحال. أذعنْ له وقُلْ: "أيها الرب المبارَك، هناك أمور كثيرة لا أفهمها، ولكني أطلب الاستنارة منك. فأوضح لي الأمور الغامضة المعتمة، وأعطني أن أعرف أني قد وُلِدتُ ثانيةً في يسوع المسيح، وأني سأخلص إلى الأبد". يمكنك أن تتكل على ذلك، وسوف لن تُتْرَكَ في الظلمة والحيرة. "إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ". فهل سمعْتَ؟ وهل تعلّمْتَ من الآب؟ ما الدرس الذي يعلّمه الآب؟ إنه يسعى ليحتل قلوب الناس بالتدبير الكريم الذي عمله بعطية ابنه المبارك.

لقد أرسلَ الآب ابنهُ ليكونَ مخلِّصاً للعالم. وفي محبته اللا متناهية أرسلهُ إلى العالم، لكي نحيا به. اسمعوا، إذاً، كأبناء صغار صوتَ الآب. دعوهُ يكونُ معلِّّماً لكم. دعوه يعلّمكم ويكشفُ لكم بكلمته غنى نعمته كما تبدت من خلال ابنه المبارك. وهكذا ستتعلمون عن الله وتعرفون أنكم محسوبينَ بين أولئك الذين سوِّيت مسألةُ خطاياهم إلى الأبد. ليسَ الأمرُ أنكم ستكونون قادرين على رؤية الآب بأعينكم الطبيعية، ولكن بعين القلب. الشخص الوحيد الذي رأى الآب حقاً هو مخلِّصنا المبارك نفسه، فهو يقول: "لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ" (يوحنا ٦: ٤٦). ولكن، رغم أني وإياك لا نستطيع أن نراه، إلا أنه يمكننا أن نؤمن بكلمته. إننا نسمع رسالته، ونقبلها بالإيمان وننال حياة أبدية. ولهذا يقول يسوع: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". لتكن هذه نهاية لكل جدل. ليكن هذا جواباً على تساؤلات كل حائر. أنى لي أن أعرف أني ابنٌ لله، وأني مقبولٌ عنده، وأن خطاياي مغفورة، وأن لي حياة أبدية؟ "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ" (أع ١٦: ٣١). "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ".

لقد سمعتُ أيرا دي. سانكي يخبر عن مدى قلقه لأيام وشهور حول يقين الخلاص، وكيف كان يسعى وراء دليل داخلي يجعله يعرف أنه نال الحياة الأبدية، وكيف أنه قد حضر اجتماعاً واقتِيد لا شعورياً إلى فتح الكتاب المقدس على هذا الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا فوقعت عيناه على الآية ٤٧ هذه، وفهمها للتو في داخله بمعنى جديد على نحو غريب. "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". أخبرنا السيد سانكي كيف رأى تلك الآية، في تلك الليلة في اجتماعه في سان فرنسيسكو، في لحظة، فرفع بصره وقال: "أنا أومن يا رب. وإن لي جرأة على أن أصدّق كلمتك". وكانت تلك بداية تلك الخدمة العظيمة من الترنم بالإنجيل لمئات وآلاف الناس ناقلاً البشرى السارة بالخلاص الكامل والمجاني.

"مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". لا تفصلوا بين كلمة "يؤمن بي" و"له حياة أبدية". لا تقولوا "من يؤمن يرجو أن تكون له الحياة الأبدية"، بل "مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". آمنوا بكلمة الله. يقول يسوع: "أنا"، "أَنَا خُبْزُ الْحَيَاةِ". "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا". إنه يقول: "بلى. لقد أكل آباؤكم من ذلك الخبز في البرية التي تتوقون إليها، ولكنهم ماتوا. أنا هو الخبز النازل من السماء ليأكله الإنسان فلا يموت". "أنا هو الخبز الحي". ليس فقط أني "جئتُ لأعطيكم الخبز الحي"، بل "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. وعليكم اقتبالي بالإيمان. وعلى النفس أن تتغذى بي كما أن الجسد يتغذى بالخبز الطبيعي لكيما تبقوا أحياء". "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذُلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ". إنه ينظر متطلعاً إلى الصليب. فما هي إلا برهة ويمضي إلى ذلك الصليب. وهناك يجب أن يُقدّمَ قرباناً على أنه ذبيحة الخطية العظيمة. لقد كانت الأضحية في العهد القديم تُدعى طَعَام وَقُود المذبح، فيقول: "هناك سأموت، وبذلك أبذل ذاتي، فيصبح جسدي خبزاً للنفوس التي تتضور جوعاً فيتناولونه ويتغذون به ويحيون إلى الأبد". "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥: ١٢). وهكذا، يا أصدقائي الأعزاء، فالسؤال الهام المطروح على كل منا هو: "هل اقتبلْتُ المسيح بلا ريب؟" عندما نتناول خبزنا الطبيعي يصبح جزءاً منا ويعطينا قوة وحياة جديدة. وعلى نفس المنوال عندما نتناول خبز الله، عندما نقتبل الرب يسوع المسيح بالإيمان وتركن قلوبنا إلى العمل الذي صنعه لأجلنا على الصليب، فإننا نكتسب قوة وحياة جديدتين.

"«أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذُلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟»". لقد بدوا عاجزين على الارتفاع إلى أعلى مما هو طبيعي. لقد كانت كلمات ربنا في غاية الوضوح. كل خاطئ يأتي إلى الله تائباً لن يجد صعوبة في فهم ذلك. ولكن الناموسيين الهازئين قالوا: "كَيْفَ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟ هذا أمر مبهم غامض. أنى لإنسان أن يعطينا جسده لنأكله؟" وهكذا بدا الرب يسوع وكأنه يقول: "حسناً. إن كنتم ترفضون أن تصدقوني، إن كنتم تأبون أن تأتوا إليّ، فسأخبركم أمراً أكبر صعوبة للفهم". إن كان البشر لن يفهموا ما قاله للتو، فعندها فسوف يخبرهم بشيء آخر يصعب عليهم أكثر أن يفهموه.

ولذلك قال: "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ". يا لها من عبارات مفاجئة! وكم يصعب على الإسرائيلي غير المؤمن أن يفهمها! ما الذي قصده بقوله "يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي"؟ بالطبع لا يمكن أخذ هذه الكلمات حرفياً. فهو لم يقصد أن عليهم أن يتناولوا جسده ودمه الحقيقيين. بحسب الناموس كان يُمنَع على بني إسرائيل أن يأكلوا دماً بأي شكل وأي طريقة. كل نوع من اللحم يأكلونه كان يجب أن يكون خالياً من أي قطرة دم. ومع ذلك يتحدث يسوع عن تناول دمه، ولذهولهم الشديد، يتحدث عن تناول دمه بالذات- دم إنسان. إلا أنه لم يقصد ذلك حرفياً. لقد حثّهم لكي يروا جهلهم وحاجتهم إلى الاستنارة. ظاهرياً لم يكن لكلماته هكذا تأثير. لم يقصد أن يقول أنه كان سيقدم جسده ودمه بسر غامض ما. أعرف أن كثيرين يفترضون أنه كان يشير إلى العشاء الرباني، الذي يتم فيه، بعد الصلاة التي يرفعها الكاهن الذي يرئس القداس، تحوّل أسراري ما على الخبز والخمر المقدمين، فيشترك الناس في تناولهما وكأنهم يتناولون جسد ودم يسوع فعلياً. ولكن دعوني أقول ما يلي: لقد اشترك ملايين الناس في ما يسمى "عشاء الرب" أو "سر القربان المقدس" أو "المناولة" أو "الذبيحة الإلهية"- تسميات مختلفة- ملايين من الناس اشتركوا فيه ولكن دون أن ينالوا به الحياة (الأبدية). ولم يقدموا أي دليل على حصولهم على الحياة الأبدية من خلال هذه المشاركة. فيمكنهم الاشتراك به صباح الأحد بينما يعيشون في الخطية بعد ظهر يوم الأحد. ليس من دليل على الإطلاق على أنهم وُلِدوا من جديد. إن الأسرار لا تعطي الحياة. بل ودعوني أقول أيضاً: ما من أحد البتة أكل جسد يسوع المسيح وشرب دمه دون أن ينال الحياة. لقد وعد بذلك، ووعده صادقٌ. فكلمته ما برحت تتحقق طوال كل العصور.

ما الذي عناه بكلامه ذاك؟ خلال عصر الكنيسة بمجمله أرانا الرب يسوع أن تناول خبز الحياة يعني اقتباله بالإيمان. إنه يعني بالمضمون اقتبال ما يكشفه الكتاب المقدس فيما يتعلق بذبيحة ربنا يسوع المسيح على صليب الجلجثة، في أنه على عود الصليب ذاك قد بُذِلَ جسدُه الثمين من أجلنا وسُفِكَ دمُه لفدائنا. عندما ندرك أن دمه الثمين قد أُريقَ على الصليب كفارةً عن خطايانا، فعندها نأكل جسده ونشرب دمه. وصحيح عملياً أنه في حفظنا للعشاء الرباني فإننا نستحضر إلى أذهاننا من جديد الجلجثة ونتذكر ثانيةً ثمن الفداء. لعله يجب علينا أن ندرك العلاقة بين الشركة وهذه الحقيقة الثمينة. ولكن حذار أن تخلطوا بين الرمز والحقيقة. إذ نتغذى بالإيمان على جسد ودم الرب يسوع المسيح، فإننا نفقد أية شهية إلى ما هو غير مقدس. ذاك الجسد والدم الثمينان أنفسهما سيكونان طعاماً وشراباً لنا طوال الأيام، وعندما نصل إلى المجد العتيد سنبقى منشغلين بيسوع، الحمل الذي ذُبح. "الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ." (رؤيا ١: ٥، ٦).

الخطاب ٢١

خبز الحياة ١

"كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. هَذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». قَالَ هَذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ. فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِذْ سَمِعُوا: «إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا فَقَالَ لَهُمْ: «أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي». مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاِثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟» فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (يوحنا ٦: ٥٧- ٧١).

هذا الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا بآياته الواحدة والسبعين هو أطولُ أصحاحٍ في هذا السفر الرائع الذي يُخبرنا عن حياة وخدمة ربنا يسوع المسيح. لقد قال أحدهم أن إنجيل يوحنا هو أروع كتاب في العالم، وهذا الأصحاح هو أروعُ أصحاح فيه. سيكونُ مفيداً أكثر إن أخذنا كل الأصحاح دُفعةً واحدةً، ولكن هناكَ أفكار وأشياء كثيرة فيه تجعلُ من المستحيل أن ننهيه في خمسة وثلاثين أو أربعين دقيقة، ولذلكَ سنجزّئهُ إلى أقسام. ولكني أمل ألا يؤدي هذا إلى أن نخسر رؤية خلفية المشهد. كان يسوع قد أطعمَ الجموع وفي اليوم التالي جاءَ الناس إليه مشيرينَ إلى أنهم يودّونَ الحصول على وجبةٍ أخرى بنفس الطريقة. لقد قالوا: "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا". لكن يسوع استغل المناسبة ليريهم أن هناك ما هو أهم بكثير من تأمين الطعام للجسد. نعلم من الكتاب أنه "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ".وكان هذا صحيحاً حتى بالنسبة لابن الإنسان الذي جاء ليقدّم حياته ذبيحة كفارية عن العالم. وفي هذا الأصحاح يكشف الرب يسوع عن سر تجسده. خبزُ الله هو الذي نزلَ من السماء. بمعنى آخر، لم يبدأ بالحياة فقط عندما حُمِلَ به في رحم العذراء مريم. لقد كان ابن الله السابق وجوده الذي صارَ إنساناً من أجل فدائنا. وبتجسده، أي الله والإنسان في شخص ربنا يسوع المسيح الرائع، يُقدمُ لنا بصورة خبز الله. ثم يتكلمُ عن شيءٍ أعمق، شيءٍ أكثر جديةٍ وأهمية. إنه يقول: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يوحنا ٦: ٥٣). وبقوله هذا استخدم تعابير كانت لأول وهلة منفِّرة ومقزِّزة لبعض هؤلاء اليهود، إذ كانوا يعرفون أن الناموس كان يحرّم على الإنسان أكل الدم. ولكنه أعلن قائلاً أنه: "عليكم أن تأكلوا جسدي وتشربوا دمي إن كنتم تريدون أن تحيوا، وسأقيمكم في اليوم الأخير. إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدي وَتَشْرَبُوا دَميُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ على الإطلاق". وليس في هذا أي إشارة لما يُسمى سر العشاء الرباني. فما كان قد أسَّسَه بعد في ذلك الحين، ولكنه أشار إلى موته البدلي الكفاري عندما انفصل دمُه عن جسده، وأراق دمه من أجل الخطاة. وعلى الناس أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه، بمعنى أن يكونوا ملائمين لقيمة عمله الكفاري كي ينتفعوا من خلاص الله.

أكلُ جسدِ ابن الله وشربُ دمه، هي تعابير استعارية مجازية، وهي تعني التمسك بهذه الحقائق الثمينة والاعتراف بها بإيمان وتَمثلها باقتناعٍ كامل. الأكلُ هو الإيمانُ الملائم. هل فعلتم ذلك جميعاً؟ هل قبلتم الربَّ يسوع المسيح بتلك الطريقة؟ هل وضعتم ثقتكم به من أجل الخلاص؟ هل تعرفون أنَّ موتهُ كان من أجلكم، وأن إهراقَ دمهِ كان لكي تُمحى خطاياكم؟ بينما تتأملونَ في ذلك الصليب - الصليب الفارغ الآن، فإن ذاك الذي عُلِّقَ مُسمراً عليه قد جلسَ الآنَ إلى يمين الله- وإذ تنظرونَ من ذلك الصليب الفارغ إلى عرش الله هل تستطيعون أن تقولوا: "أيها الربُ يسوع، إن دمكَ قد أُهرقَ من أجلي، فأؤمن بك مُخلِّصاً لي؟". هذا هو معنى أن نأكلَ جسدهُ ونشربَ دمهُ. إنه ليس أمراً مؤقتاً آنـياً وحسب. إنهُ ليسَ موقفاً نتّخذهُ في زمنٍ معين من حياتنا عندما نكون في ضيقة ونكون مُدانينَ بالخطيئة فنقتبلهُ بالإيمان، بل هو أن نعيش يوماً فيوماً في شركةٍ معهُ، مقدّرينَ كل ما هو المسيح وكل ما فعلَ. هذا بالفعل معنى أن نتغذى على خبز الحياة. ونفعل ذلك ونحنُ نتأمل في كلمة الله. لا أعرفُ أيَّ طريقٍ آخر يمكننا أن نتغذى فيه على خبز الحياة. من تآلفوا منا مع الكلمة في وقت الصحة الجيدة، يجدونَ تلك الذكرى تستحضرُ الكلمات عندما نكونُ مرضى وهكذا نتغذى على تلكَ التي نكون قد تعلّمناها لتَونا. كم هو مهم عندما نكون قادرين على قراءة الكلمة وعندما نكون أقوياء وفي صحة جيدة وعافية، كم هو مهمٌ أن نُكرسَ نفوسنا لدراسة مطولة لهذا السفر، وللتأمل فيه، ولنبني ونغذي أنفسنا، بما يقدم لنا الكتاب، من جهة الإيمان والتعليم الصحيح. إننا في حاجةٍ إلى هذا لكي ندخلَ إلى الشركة مع ربِّنا ونتمتعُ بها.

في الآية ٥٧ يقول: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي". تلك هو الشركة. عاش الرب يسوع المسيح كإنسان هنا على الأرض في شركة يومية مع الآب، وإنه لأمر رائع أن نفكر أنه قد درس الكتاب المقدس تماماً كما يطلب منا أن نفتش الكتب. ونقرأ في المزمور ١٦ كيف كان ربنا المبارك يتكلم إلى الآب ويقول: "أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ. الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَالأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ" (مز ١٦: ٢، ٣). لقد كان هنا، وهو إنسان على الأرض، يرفع بصره نحو الآب، لا يطلب من أجل ذاته، بل من أجل الآخرين، ومع ذلك يعيش في شركة يومية مع الله. ويقدم النبي أشعياء (الأصحاح ٥٠) صورة رائعة عن عن عيشه بالإيمان. فهناك يقول في الآية ٢: "لِمَاذَا جِئْتُ وَلَيْسَ إِنْسَانٌ نَادَيْتُ وَلَيْسَ مُجِيبٌ؟ هَلْ قَصَرَتْ يَدِي عَنِ الْفِدَاءِ وَهَلْ لَيْسَ فِيَّ قُدْرَةٌ لِلإِنْقَاذِ؟ هُوَذَا بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ. أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً. يُنْتِنُ سَمَكُهَا مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ وَيَمُوتُ بِالْعَطَشِ". من الذي يتكلم هنا؟ إنه الله السرمدي، خالق وضابط الكل. ولكن أي أقنوم إلهي هو؟ إنه ربنا المبارك يسوع المسيح، الله الابن، بدلالة ما نقرأ في الآيات التالية (٤- ٦)، حيث يتكلم كإنسان. وفي الآيات ٢، و ٣ يتكلم كإله. ولكننا نسمعه الآن قائلاً: "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أش ٥٠: ٤). هذا هو نفس الشخص الذي قال: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أش ٥٠: ٣). لقد اتخذ مكانة تلميذ يتعلم كيف يقول الكلمة في موضعها للمحزونين والمتعبين. تعجبني هنا ترجمة أخرى للنص تقول: "لأعرف كيف أُعزّي بالكلمة أولئك المكروبين". فكروا في ذلك. الرب يسوع هنا على الأرض يدرس الكتاب المقدس يوماً فيوماً لكي يعرف كيف ينطق بالكلمة المناسبة في مكانها المناسب للنفوس الحزينة المثقلة بالهموم لكي يريحها ويعزيها ويعينها. ثم يضيف قائلاً: "يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أش ٥٠: ٤). لثلاث مرات نقرأ في الكتاب المقدس عن الأذن المثقوبة أو المفتوحة. ونسمع عن ذاك العبد الذي أنهى خدمته وصار أهبة لإطلاق سراحه. ولكن في سفر الخروج ٢ نقرأ أنه "إنْ قَالَ الْعَبْدُ: أحِبُّ سَيِّدِي وَامْرَاتِي وَأوْلادِي. لا أخْرُجُ حُرّاً، يُقَدِّمُهُ سَيِّدُهُ إلَى اللهِ وَيُقَرِّبُهُ إلَى الْبَابِ أوْ إلَى الْقَائِمَةِ وَيَثْقُبُ سَيِّدُهُ أذْنَهُ بِالْمِثْقَبِ فَيَخْدِمُهُ إلَى الأبَدِ. وإن رأت إحدى بناته أذنه وقالت: يا أمي، لماذا هناك هذا الثقب البشع في أذنه؟ فإنها ستقول لها: لا تقولي أنه بشع. فهذا يدل على مدى محبته لك ولي. فكما ترين، قد كان عبداً وأمكنه أن يمضي حراً ولكنه اختار أن يبقى معنا وألا يتركنا، ولذلك ثُقِبَتْ أذنُه بمخرز". هذه صورة عن ربنا المبارك في المجد وآثار المسامير لا تزال في يديه، والندوب تخبرنا كم هي عظيمة وثابتة محبته لأبيه ولكنيسته. نعم هو العبد ذو الأذن المثقوبة.

ثم يقول من جديد في المزمور ٤٠: "أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" (مز ٤٠: ٦)، وفي العهد الجديد تبدل هذا إلى: "ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً" (عب ١٠: ٥). وهذا يعني ما يلي: عندما كان الرب يسوع واحداً مع الآب قبل التجسد، ما كان يتلقى أوامر من أحد، وما كان في حاجة إلى أذن عبد؛ ولكن عندما صار إنساناً أخذ مكانة العبد وصار يتلقى تعليمات من الآب يوماً فيوماً. "لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا ٥: ٣٠). وهنا في أشعياء ٥٠ يقول: "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُناً وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ" (أش ٥٠: ٥). كم نحن معاندون في الواقع. الله يشرع في إظهار ما يريدنا أن نفعل بينما نحن نعاند ونتمرد. لم يكن الحال هكذا مع يسوع، ذلك لأنه عاش شركة مع الله في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة وكان يُسَرُّ بتحقيق مشيئة الله. لاحظوا ما كانت نتيجة ذلك عليه. يقول (في أش ٥٠: ٦): "بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ". لنفكر في الأمر. من استطاع أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أش ٥٠: ٣)، يقول الآن: "وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (أش ٥٠: ٦). فهكذا نراه في طبيعتيه كإله وإنسان. وكإنسان عاش على الأرض هنا كان في شركة مع الآب. "أَنَا حَيٌّ بِالآبِ" (يوحنا ٦: ٥٧). وهكذا فمن كان يلائم نفسه بالإيمان يوماً فيوماً عليه هو نفسه أن يحيا به. ويعبّر بولس عن ذلك بقوله: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غلاطية ٢: ٢٠أ). كان هذا هو معنى تناول المسيح- معنى أن يجعل المسيحَ خاصَّتَه وجزءاً منه، على حد قوله- "فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غلاطية ٢: ٢٠ب).

إننا نصبح وبمقياس كبير مثل الطعام الذي نتناوله. قال أحدهم: "نحن ما نأكل". من يتغذى حقاً على المسيح سيصير مثله. وهكذا إنسان سيظهر نقاء المسيح وصلاحه وحنانه وحنوه واهتمامه الحقيقي بالآخرين. إذا رأيتَ مسيحياً معترفاً قاسي الطبع وميّالاً إلى انتقاد الآخرين فستعرف أنه مضى عليه وقت طويل لم يتغذَّ فيه على المسيح. وهذا يفسر الأمور. وإن التقيتَ بمسيحي منساق وراء الدنيويات والعبثية وقد غدا مختالاً متعجرفاً ومتمحوراً على ذاته- فستعرف أنه لا يتغذى على المسيح. تقول الكلمة: "ليَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً" (فيلبي ٢: ٥). ذلك هو الفكر المتواضع، الفكر الوديع. إنه الفكر الذي يعتبر الآخرين، ويقول: "لا بأس". هذا ليس طبيعياً فينا، بل ينشأ وينمو فينا ونحن نتغذى على ربنا المبارك. وهذا سيكون نصيبنا إلى الأبد. ومن هنا يتابع يسوع كلامه قائلاً: "هَذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ" (يوحنا ٦: ٥٨).

ولكن الناس عندما سمعوا هذا الكلام انزعجوا. كثيرون ساروا معه كل ذلك الشوط ووجدوا فيه نبياً رائعاً، وكانوا يتساءلون في داخلهم: "أليس هذا هو المسيا؟" لقد كانوا يستمعون إلى تعاليمه ويتبعونه، ولكن عندما تكلّم عن أكل جسده وشرب دمه، عندما كشف حقيقة ذبيحته الكفارية هذه، بدأ كلامه يزعجهم. لقد كانوا يبحثون عن حاكم عالمي عظيم يحررهم من حكم الرومان ويجعل منهم الأمة الأولى في العالم. ما كانوا مستعدين لما كان يتحدث عنه- موته، وبذل حياته لأجل العالم. عندما سمعوا ذلك قالوا: "إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟" (يوحنا ٦: ٦٠). ونجد مثل ذلك الكثير في أيامنا الآن. إنهم مستعدون لاتخاذ يسوع معلّماً عظيماً. وهم على استعداد للإقرار بأنه في حياته قد أعطانا مثالاً رائعاً، ويتكلمون عن محاولة إتّباع خطواته، ولكن لا يعترفون به مخلصاً، ولا يريدون كفارته البدلية، وهم غير راغبين أو مستعدين للإيمان بأن يسوع إلهٌ وإنسانٌ معاً في شخص واحد مبارك. إنهم مستعدون للنظر إليه على اعتباره شهيداً للحق، ولكنهم غير مستعدين للاعتراف بأن المسيح قد مات عن خطايانا كما جاء في الكتب. ليس في هؤلاء حياة في أنفسهم لأنه ما من ولادة جديدة ما لم يقتبل المرءُ المسيحَ باعتباره ابن الله المتجسّد الذي مات على الصليب من أجل فدائنا. ولذلك فإن كثيرين اليوم يشيحون بوجههم عن هذه الحقيقة قائلين: "إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟"

لقد كان يسوع يعرف ما يقولون فقال لهم: "أيزعجكم هذا؟ أَيُعْثِرُكُمْ أن أقول أني نزلتُ من السماء وصرتُ إنساناً؟ ولأني أخبركم أني سأموت لكي يخلص الإنسان؛ أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ سأقول لكم المزيد: في أحد الأيام سأصعد، كإنسان، إلى السماء". أتلاحظون، عندما يرفض الناس الحقيقة يصعِّبُ الرب يسوع المسألة عليهم، بينما يسهّل فهمهم للأمور عندما يقبلون الحقيقة. ولذلك، فإنه الآن يجعل المسألة أصعب بكثير من ذي قبل: "ماذا إِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً؟" كانوا ليقولون: "لا يمكننا أن نصدّق ذلك، أن يسوع سيصعد، كإنسان، إلى السماء". ومع ذلك فإن هذا هو ما حدث في الوقت الذي كان الله قد حدده. لقد أقامه الله من بين الأموات وأُصعِدَ إلى السماء. لأربع مرات في الأصحاح الأول من سفر أعمال الرسل تتكرر هذه العبارة. وهو يجلس الآن إلى يمين الله. يعتقد بعض الناس أن تغيراً كبيراً طرأ على جسد المسيح عندما أُصعِدَ بعد موته. فيعتقدون أنه روح غامضة غريبة ما بدون جسد بشري مادي، ولكن تذكروا أنه قال بنفسه: "اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي" (لوقا ٢٤: ٣٩). لقد كانت له هيئة جسدانية. لقد سَفَك دمَه من أجل فدائنا، ولكنه في السماء هناك بالجسد- بنفس ذاك الجسد الذي عُلِّقَ على الصليب. إنه يسوع المسيح الإنسان الجالس على يمين الله اليوم، وعندما سنراه سنعاين وجه ذلك الإنسان، وسنمسك بيد ذلك الإنسان، وسنميز في يديه آثار المسامير. فسوف تبقى في يديه إلى الأبد.

"فماذا إِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً؟" أكنتم تستطيعون أن تصدقوا ذلك؟ ولكنه يقول: "اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ". فقط عندما نقتبل كلماته بالإيمان نحصل على الحق الأبدي بإحكام. إن الجسد، ما لم يتحرك بالنعمة الإلهية، سوف لن يفهم. كلماته جهالة للإنسان الطبيعي، لأنه لا يمكن تمييزها إلا بطريقة فائقة الطبيعة. ولكن هذه الكلمات رُوحٌ وَحَيَاةٌ وعندما تفتح قلبك لاقتبالها، فإن حياة جديدة تُخلق، ويمكنك أن تتمثّلها.

"«وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ". لقد كان يعلم ما يدور في قلوب البشر. وكان يعلم أي اعتراف من قِبَلِ الإنسان لا يكون صادقاً أو حقيقياً. إنه يعرف اليوم. ابن الله يعرف إذا ما كنت مؤمناً حقيقياً أم لا. أصدقاؤك قد لا يعلمون ذلك. والمقربون إليك قد لا يعلمون. ولكنه يعلم إذا كنت قد وضعتَ ثقتك فيه فعلاً أم لا، وهو خبز الله النازل من السماء. لنسعَ لأن نكون مؤمنين حقيقيين صادقين أمامه. دعونا لا نتّكل على مجرد الاعتراف به، فهذا لن يفيدنا في ذلك اليوم. يجب أن يكون هناك صدق وإيمان حقيقي. "فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي»". فهل يعني هذا أن يُغلَق على أحد خارجاً؟ هل يستحيل بهذا على بعض الناس أن يأتوا إلى المسيح؟ وهل يعني هذا أن بعض الناس الذين خلقهم الله يمكن أن يُقبلوا إلى المسيح دون البعض الآخر؟ لا. "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". الجميع يستطيعون أن يقبلوا إليه إذا شاءوا. ولكن بمعزل عن اجتذاب الآب لا يأتي أحد.

ولنتابع. هنا نجد ما يمكن أن نعتبره "طعاماً قوياً"، ونقرأ: "مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ". لقد استمروا في رفقته حتى ذلك الوقت. وكانوا يأملون يوماً فيوماً أنه سينصّب نفسَه رئيساً على اليهود، وأن يقودهم إلى انتصارات ظافرة، ولكن آمالهم خابت الآن. لم يفهموا كلامه عن موته وصعوده إلى السماء. ليس هذا هو المسيا الذي كانوا يبحثون عنه. وهنا التفت الرب يسوع إلى الإثني عشر الذين كان قد اختارهم بنفسه رسمياً وسألهم: "أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟" لقد رأوه وهو يصلي. واستمعوا إلى تعليمه واقتبلوا كلمته ظاهرياً في قلوبهم. ولقد عرفوا قدرته. ومع ذلك، للأسف، كان بينهم من فيه شيطان.


١. بما أن هذا الخطاب قد ألقيتُه أمام كثيرين لم يكونوا حاضرين في مناسبات سابقة، فإنكم تجدون بعض التكرار هنا فضّلتُ ألا أغير فيها. (هـ. أ. آ).

٢. (خروج ٢١: ٥).

الخطاب ٢٥

«لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ»

"فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكلاَمَ قَالُوا: «هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ». آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ؟» فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ. ٤٤وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ. فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟» أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ" (يوحنا ٧: ٤٠- ٥٣).

في الخطاب السابق تمعَّنّا في إعلان ربنا الرائع المتعلق بمجيء الروح القدس عندما صرخ قائلاً في اليوم الأخير من عيد المظال: "إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ". ثم يضيف قائلاً: "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ". وشرح الإنجيلي معنى الماء الحي حين قال: "قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ". الناس الذين سمعوا ربنا يسوع يتكلم على هذا الشكل عن الماء الحي، كان من الطبيعي أن يربطوا ما جاء في المقاطع التي وردت في العهد القديم التي تتكلم عن الماء الحي بالمسيا، لأنهم كانوا يعرفون من نبوءات إرميا وأشعياء أنه في يومه سوف يتم تقديم عطية الماء الحي. ولذلك فسرعان ما وصلوا إلى الاستنتاج بأن ربنا كان يعلن مسيانيتَه، وبالفعل كان هكذا، ومع ذلك فقد كان يعرف أن ساعته لم تأْتِ بعد، تلك الساعة التي تحلّ فيها هذه البركة على كل شعب إسرائيل، ولكن البركة التي رفضوها كانت لتذهب إلى الأمميين وسيتمتع بها البقية التقية من بني إسرائيل الذين سيؤمنون بيسوع.

أولئك الذين كانوا يصغون إلى الرب التفوا الواحد نحو الآخر وقالوا: "هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ". ما الذي عَنَوه بقولهم "النبي"؟ لقد كانوا يفكرون في كلمات موسى في تثنية ١٨. فهناك، وابتداء من الآية ١٥، نسمع موسى يتحدث إلى شعب إسرائيل وهم مجتمعون حوله في سهول موآب قبل أن يدخلوا إلى أرض كنعان. فقد قال: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاِجْتِمَاعِ قَائِلاً: لا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلا أَرَى هَذِهِ النَّارَ العَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلا أَمُوتَ قَال لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلمُوا. أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ" (تثنية ١٨: ١٥- ١٩).

هذه الكلمات كانت تشير إلى ربنا يسوع المسيح. في (أعمال الرسل ٣: ٢٢، ٢٣) يخاطب الرسول بطرس الناس فيقول: "إِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذَلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ". وهكذا فإن هؤلاء اليهود الذين كانوا يصغون إلى تعليم ربنا يسوع، بجمعهم معاً عدة أمور مختلفة سمعوها،  وبتفكيرهم بالآيات العجيبة التي قام بها بينهم، قالوا: "لا بد أن هذا هو الذي كنا ننتظره". كما ترون كان من المزمع أن يأتي هذا من بينهم؛ "سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ". لقد كانوا مرتعدين عندما كان الله يكلمهم بنار ملتهبة في جبل سيناء وقالوا: " «تَكَلَّمْ أنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلا يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلا نَمُوتَ" (خروج ٢٠: ١٩). فقال الله: "حسناً. سأقِيمُ نبياً مثل موسى. يكون رسولي إليهم، ولكن من لا يَسْمَع من ذاك النبي أَنَا أُطَالِبُهُ" أو "يُُبَادُ".

لم يكونوا على يقين كامل، ولكنهم فكروا أن هذا هو المنتظر بلا شك. وقال آخرون: "«هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ»"- أي : "هذا هو الممسوح". لقد كانوا يعرفون من كتبهم المقدسة أنه سيأتي يوم يظهر فيه لهم مسيح الله. ولذلك دعاه اليهود "المسيا"، إذ أن "المسيا" تعني "الممسوح". في المزمور ٢ نقرأ: "لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ فِي الْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ قَائِلِينَ:[لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا]". وفي نفس المزمور وبعد قليل، في الآية ٦، نقرأ: "أمَّا أَنَا فَقَدْ أقمتُ مَلِكِي عَلَى جَبَلِي المقدس صِهْيَوْنَ". "أمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي". الرب يسوع المسيح هو مسيح الله الذي مسحه الله نفسه بالروح القدس وأرسله إلى العالم ليفدي الجنس البشري الساقط الهالك.

ولكن البعض ذمَّ شفتيه وسأل متهكماً: "أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟" هؤلاء الناس الذين من اليهودية كانوا يحتقرون ويزدرون بأولئك القوم من الجليل الأقل منهم معرفة تديناً، وما كان يُعقل بالنسبة لهم أن يأتي مسيح الله من هناك حقاً. وفيما بعد، في الآية ٥٢، نجدهم يقولون شيئاً غير صحيح عن الجليل.

"أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ؟" نعم. هذا ما قاله الكتاب المقدس. فالنبي ميخا أعلن ذلك بوضوح، وتم الاستشهاد بنبوءته لدى ميلاد الرب: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ" (متى ٢: ٦). لقد كانوا يعرفون ذلك؛ فقد كان في كتبهم المقدسة. لقد كانوا يعرفون أن المسيح سيُولدُ في بيت لحم. ولكنهم راحوا يتخبطون لأنهم لم يسمعوا أنه قد وُلد في بيت لحم، وأنه من نسل داود عبر مريم العذراء، التي كانت من نسل داود. لقد كان ميلاد الرب تحقيقاً للنبوءة بشكل كامل. لقد وُلِدَ من عذراء، و وُلِدَ في بيت لحم، و وُلِدَ من نسل داود، ولكنهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء التحقق من صحة هذه الأشياء. عندما يعطي الله كلمتَه، فإن الجهل بتلك الكلمة لا يبرّر أحداً. كثيرون اليوم يجهلون هذا الكتاب بشكل كبير، وربما يتخيلون أنه يمكنهم في يوم الدينونة أن يتخذوا من الجهل ملاذاً كعذر لهم على عدم فهمهم لإرادته. ولكن، تذكّروا، إن كنتم جاهلين لكلمة الله، فإنكم جاهلون عن عمد. إذ أن لديكم الكتاب المقدس في منازلكم. إن كنتم لا تدرسون كتبكم المقدسة، فإنكم تكونون مسؤولين إنْ لم تعرفوا فكرَ الله. يقول يسوع: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (يوحنا ٥: ٣٩). هل يحرّضنا هذا ويوقظ فينا الإحساس بالمسؤولية؟ ليتَ هذا! أخشى أن يكون هناك آلاف من الناس الذين نادراً ما يفتحون كتبهم المقدسة، بالكاد من عطلة نهاية الأسبوع إلى الأخرى. إنهم يعتمدون على مقاطع تُستخدم عند الضرورة من وعظ المنبر أو من مدارس الأحد، والله يعرف أنهم نادراً ما يذهبون إلى هناك. ولكن لا مبرر لهم (ولكم)، إذ أن لديكم الكتاب المقدس، ويمكنكم أن تقرأوا فيه بأنفسكم ولأجل أنفسكم. لستُ متأكداً من الأمر، ولكن إن كان هناك إحساس بالمسؤولية تجاه ذلك وإن كان المسيحيون يبدأون بقراءة هذا الكتاب، فسرعان ما سنرى انتعاشاً كبيراً وسط شعب الله ويقظة عظيمة عند أولئك الذين لم يعرفوا المسيح.

قبل فترةٍ، أخبرنا مُرسَلٌ عزيز في إنكلترا أنه كان قد ترك موقعه في الهند بسبب اعتلال صحته. وقرأ علينا رسالةً وصلتْه من أحد الشيوخ الأصليين في كنيسته في الهند. لقد كان يخبر كم أنه مشتاق إليه، وكيف أنهم خلال غيابه كانوا يصلّون كثيراً ويقرأون كلمة الله. وفي الواقع كان يتعايشون مع الكتاب المقدس. وكما قال ذلك المُرسَل، فإنه عندما يُعاشُ الكتاب المقدس تحدث نهضة أو انتعاش. إذ "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متى ٤: ٤). ولكن إن تجاهل الناس الإطلاع على كلمة الله، فعليهم تقع مسؤولية جهلهم بها.

ونقرأ أنه "حَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ". ولا يزال هناك انشقاق بسببه. قال بعضهم: "أليس هذا هو المسيح؟" وقال آخرون: "أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ لا. لا يمكننا قبوله في هذه الحالة". ولا يزال هناك هذان الفريقان المنشقان في الرأي حتى اليوم. هناك من ينظرون بإيمان ويقولون: "لقد عرفنا فيه مخلصنا وفادينا". وهناك من يرفضونه ويزدرون به. ولكن الله أخبرنا أنه ليس باسم أي أحد آخر سواه من بني البشر نخلص، وإن كنا سنرفض شهادة الله عنه، وإن كنا سنأبى قبوله مخلصاً ورباً لنا، فعندها سيتحقق إنذاره الجليل: "حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا، وما لم تؤمنوا بأني أنا هو فإنكم تَمُوتُونَ فِي خَطِايكُمْ".

نعم، هناك انقسام بسببه اليوم، ولعلني أسألكم بلطف الآن: إلى جانب من تقفون الآن؟ هل أنتم من أولئك الذين آمنوا به وقبلوه؛ أم أنكم تُعتَبرون من أولئك الذين رفضوه وازدروا بنعمته ورحمته؟ على كل حال، إن كنتم من المجموعة الأخيرة هذه، فقريباً ستأتون إليه تائبين وستتخذونه مخلصاً. كان هناك انقسامٌ بين الشعب بسبب يسوع. البعض كان ليود أن يقبض عليه ويعتقله. ولكن ما من إنسان وضع يده عليه. لم تكن ساعته قد أتت عندما سيُرفع على الصليب. كان الفريسيون قد أرسلوا إليه خداماً معينين ليقبضوا عليه ويأتوا به أمام رؤساء الكهنة في المجمع، ولكننا نعلم من الآية ٤٥ أنهم عادوا خاليي الوفاض. فقال هؤلاء: "لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟" "لماذا لم تمسكوا به؟" وأعطى الخدام هذا الجواب الرائع: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". نعم، كان هناك شيء يتعلق بيسوع، أحياناً يختص برسالته نفسها، وطريقة كلامه، ومدى تأثير تعليمه على قلوب هؤلاء الخدام القساة المتحجري الفؤاد، حتى أنهم وجدوا أنفسَهم عاجزين تماماً ومشلولين وما تجرأوا على أن يقبضوا عليه. لقد مضوا مرتبكين ومحتارين ومنذهلين. فمن هو ذاك الذي يتحدث بمثل هكذا سلطان؟ "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وإذ أجاب الخدام رؤساء الكهنة والفريسيين بهذا القول، فقد ظن هؤلاء أن الخدامَ قد اقتنعوا بمسيانية يسوع. فقالوا: "«أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟" وقصدوا بذلك: "هل انخدعتم أيضاً حتى عجزتم عن محاكمة الأمور بشكل سليم وعقلاني؟" ثم سألوا: "أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟" ما كان يُسمح للعظماء أو الكبار، كقاعدة، أن يؤمنوا به. ولكن الله كان قد اختار الفقراء في هذا العالم، الناس المحتقرين. إنه يستخدم الأشياء ولكنه لا يخفق فيها مهما يكن الأمر. العظماء قلّما يندمجون ويؤمنون، ولكن مع ذلك، ومن جهة أخرى، كان هناك دائماً أناسٌ في الطبقة العليا من الشعب كانوا يدركون جمال وبركة ربنا يسوع، وهكذا فمن بين القديسين البارزين المؤمنين بالله كان هناك رجال ونساء حتى في العائلات الملكية أو الهامة. الله له قديسين حتى بين الأثرياء، وذلك أمرٌ عظيم كما تعلمون.

لقد سألوا: "أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟" لقد أعلنوا أن هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الناموس قد تخلوا عن إدانتهم ليسوع لأنهم لا يفهمون. كانت هذه فرصة لنيقوديموس ليُظهرَ موقفَه. لقد كان أحد الفريسيين، أحد الضليعين بالناموس، والمتمكّنين في معرفتهم للكتابات المقدسة. قالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ (الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ): "«أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟»". لكأنه يقول لهم: "هل استمعتم إليه؟ هل رأيتم أعمال الاقتدار التي صنعها؟ إن كنتم لم تفعلوا ذلك فلماذا تدينونه؟ ولماذا تقولون أنه مخادعٌ مُضِلٌ؟" لكأن نيقوديموس كان يقول لهم: "تحرّوا عن الأمر قبل أن تحكموا". ومن هنا فإننا اليوم نقول لكل أولئك الذين يحاولون أن يرفضوا كلام الرب يسوع المسيح: "تحقّقوا قبل أن تقرروا أو تحكموا. إن كنتم لا أدريين أو شكوكيين وتقولون: لا أستطيع أن أومن بقصة يسوع المسيح، ولا أستطيع أن أومن بأنه كان ابن الله، المولود من عذراء"، فدعوني أسألكم: هل تحرّيتم في هذه السجلات التي دُوِّنَتْ في الأناجيل وتحققتم منها؟

أعتقد أن جميع الخدام المثقفين العارفين بالإنجيل قد سمعوا بعدد لا حصر له من الكتب الذين وضعها أناسٌ يرفضون الكتاب المقدس ويرفضون الشهادة التي قدّمها الرب يسوع المسيح. يمكنني أن أقول أني قرأتُ شخصياً مئات الكتب من هذا النوع التي كتبها أناسٌ غير مؤمنين. لعلكم تسألونني: ألم تهزّ (هذه الكتب) إيمانَك بالكتاب المقدس؟ لا في الواقع، بل إنها تظهر لي فقط حماقة عدم الإيمان. أما وقد قلتُ ذلك، فدعوني أقول أيضاً أني لم ألْتَقِ أبداً بأي شخص غير مؤمن قد قرأ كتاباً جدياً عن أدلة الإيمان المسيحي. لعل هناك البعض ولكن لم ألتقِ بمثل هؤلاء. الناس يقرأون الجدل والنقاش الذي يقدّمه الطرف الآخر. ولكن المعترضين العاديين لا يكلّفون أنفسَهم عناء قراءة الكتب التي كُتِبَتْ دفاعاً عن حق الله. أعرف محامياً كان غير مؤمن، باعترافه، لسنين. وفي النهاية قال له أحدهم: "ولكنك لم تقرأ الجانب الآخر". فكان جوابُه: "لقد أخذتُ قراري وحدّدْتُ موقفي". "نعم، ولكنك لم تقرأ وجهة نظر الجانب الآخر. هناك كتاب قديم- "نلسون حول الإلحاد"- لنفترض أنك قرأته!". فقال: "أفترض أن عليَّ ذلك". وقرأه بالفعل. وقبل أن يكمل قراءته صار مسيحياً. هناك كتب كثيرة على هذه الشاكلة، مثل كتاب الدكتور إي. تي. بييرسون: "أدلة إلحادية كثيرة"، وكتب أخرى يمكن أن نتكلم عنها. المشكلة هي مع أعداء صليب المسيح. فهم ليسوع على استعداد لأن يتحرّوا ويستقصوا الحقائق لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن خطيئة ما يدينها الكتاب المقدس. إنهم يعلمون أنهم إذا صاروا مسيحيين فإن هذا يعني تحولهم عن الخطيئة وإخضاع إرادتهم للمسيح.

واجه نيقوديموس هذا التحدي وقال: "«أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟»" فهل يجيبونه على سؤاله؟ لا أبداً. لقد ردوا عليه، نعم. ولكن ردهم كان نوعاً من المراوغة. فقد سألوه: "«أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ»". وأظهروا من جديد جهلهم. لقد كان هؤلاء المعلمون المبجّلون يظنون أنهم يعرفون كل شيء. كانوا يعتقدون أن "كل المعلّمين متفقين في الرأي" معهم، وعندما كان أحدهم يقول شيئاً مختلفاً عما يفكرون، كانوا يقولون له: "أَلَعَلَّكَ مِنَ الْجَلِيلِ؟ هل ستنضم إلى ذلك الحشد؟ ما من نبي خرج من الجليل". ما كانوا يقرأون كتبهم المقدسة بانتباه. لقد نسيوا أن يونان كان من جَتَّ حَافَرَ، هذه البلدة في الجليل (انظر ٢ ملوك ١٤: ٢٥). ومن جهة أخرى، كان هناك اعتقاد بأن ناحوم كان جليلياً. وإذاً نبي واحدٌ على الأقل خرج من الجليل، وربما اثنان، ولم يكن مستحيلاً أن يخرج منه آخر. لكنهم قالوا: "فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ". هذه هي الطريقة التي يتعامل بها الناس مع حق الله اليوم. يا أعزائي، لا تكونوا غير منصفين لنفوسكم. إن كنتم لم تتحروا وتتحققوا من كلام الرب يسوع المسيح، فإنني أرجوكم أن تفعلوا ذلك. إن منتهى الحماقة هو افتراض أن مزاعم الرب يسوع غير صحيحة في حين أنكم لم تفكّروا ملياً في الدليل.

ولكن دعونا نعود إلى تلك الكلمات التي قالها الخدام: فقد قالوا: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ"، وأريدكم أن تفكروا في هذه الكلمات التي تشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح العظيم الرائع. إن كلماته كانت كلماتٍ ذات سلطان. لم تكن التشابيه اللطيفة والصور التوضيحية الجميلة والمحببة هي فقط التي قادتْهم إلى أن يتحدثوا على هذا النحو. فقد قالوا: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". لنفكّرْ في بعض أقواله. إنه يقول: "والآن مكتوب في الناموس هكذا وهكذا، ولكني أقول لكم كذا وكذا". بالتأكيد ما من إنسان تكلّم مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ! وفكروا في قوة كلماته، عندما كان الناس يأتون إليه في محنة- كما فعل الأعمى عندما قال: "«يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ»" (مرقس ١٠: ٥١)، ووضع الرب يديه على عيني ذلك الأعمى قائلاً له: "فلتنفتحا"، وصار الرجل الأعمى مبصراً. انظروا إلى ذلك الرجل المجذوم البائس، الذي كان نجساً ودنساً وملوثاً بشكل كبير. "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي»" (متى ٨: ٢). هذا ما قاله ليسوع. فمد يسوع يده ولمسه قائلاً: "«أُرِيدُ فَاطْهُرْ»". وإذ نظر المجذوم إلى جسده النظيف بتعجب، كان قلبه يقول: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". ومن ثم، عندما وقف يسوع عند القبر، كما فعل عندما دخل إلى البيت حيث كانت ابنة يايرس الصغيرة، وأنهضها بيدها قائلاً: "يا صبية قومي"، وقامت. لا بد أن والديها قد فكّرا أن: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وعند قبر لعازر، عندما دحرجوا الحجر، صرخ يسوع: "«لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً»" (يوحنا ١١: ٤٣)، "فخرج الميت". أتخيل أن ذلك الحشد قد قالوا في قلوبهم: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". ويا أصدقائي الأعزاء، عندما عُلِّقَ على الصليب وصلّى من أجل الخطاة والآثمين والفجّار وصرخ قائلاً: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ما يفعلون"، وبعد ذلك هتف منتصراً قائلاً: "«قَدْ أُكْمِلَ»" (يوحنا ١٩: ٣٠)- بالتأكيد "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". عندما نهض قائماً والتقى بتلاميذه وقال لهم: "«سَلاَمٌ لَكُم»"، وظهر فيما بعد وسط تلاميذه وقال: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا" (يوحنا ٢٠: ٢١)- بالتأكيد مضوا وكلب واحد يقول في نفسه: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". والآن قد صعد إلى مجد الله، وها هو يجلس على يمين الجلال في السماء، ولكن ما هي إلا برهة حتى يعود وسيدعو الأموات من القبور ويغير الأحياء- عندما يهتف قائلاً: "انهضوا، يا أحبائي، يا أعزائي، وقوموا"، فإننا سنقوم وننهض مرنمين في طريقنا عبر الفضاء قائلين: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وفي نهاية الأدهار الزمانية، عند العرش الأبيض العظيم، وعندما يُنادى الأمواتُ من قبورهم فيقفون أمامه للدينونة وينظرون إلى وجه ذلك الذي سار على شواطئ الجليل، ذلك الذي تكلّم بحنو لا مثيل له إلى أولئك المحزونين القلقين المضطربين، عندما يرون ذاك على العرش ويقفون أمامه ليقدموا حساباً عن خطاياهم، وفوق كل شيء آخر، عن خطيئتهم في رفضهم لنعمته، ويسمعونه يقول (وإني لآمل ألا تسمعونه أبداً يقول هذه الكلمات): "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ" (متى ٢٥: ٤١)، فإنهم سيشبكون أيديهم توجعاً ويقولون: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". "لو كنا قد قبلنا شهادتَه عندما دعانا في النعمة وقال: تعالوا إلي أيها المتعبون وثقيلوا الأحمال"، لما كنا سنسمعه يقول: «اذْهَبُوا عَنِّي»".

ها هو يتكلم اليوم ويقول: "تعالوا إليَّ ..... وأنا أريحكم". "الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ" (عبرانيين ٣: ٨). إنه يتحدث إليك أنت الغارق في خطاياك ويعدك بأن يحررك بمجرد أن تضع ثقتك فيه. فليصرخ قلبك إليه قائلاً: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وقل: "سأتخذه الآن مخلصاً لي".

Pages