November 2013

الأصحاح ٢٤

الملك يكشف المستقبل

إن الأصحاحين ٢٤ و٢٥ مرتبطان معاً على نحو وثيق. إنهما يقدمان لنا ما سمّاه السير روبرت أندرسون بـ "العظة الثانية على الجبل". كل ما لدينا هنا هو ما نطق به ربنا على جبل الزيتون رداً على أسئلة تلاميذه. "«مَتَى يَكُونُ هَذَا وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟»". إنهما يستحقان الكثير من الدراسة المتأنية وبالتأكيد لا نستطيع أن نعطيهما حقهما هنا الآن. في الأصحاح ٢٤ يُرينا الظروف التس ستسود في العالم خلال زمن رفضه, وبتحديد أكثر, بما يدعوه النبي دانيال بـ "وقت النهاية", ألا وهي فترة الضيقة العظيمة التس ستسبق مباشرة عودة ربنا كابن الإنسان, ليؤسس ملكوت السموات على هذه الأرض في قوة ومجد. في الأمثال الثلاثة التي في الأصحاح ٢٥ لدينا المثل الأول الذي عن العذارى, دلالة المسؤوليات المُلقاة على عاتق الناس خلال غيابه وأهمية الاستعداد لاستقباله عندما يعود. وفي مثل الوزنات نتذكر الحساب الذي سيقدِّمه كل خادم في ذلك اليوم عن إمكانية وُضِعَت تحت تصرفه؛ وأخيراً لدينا دينونة الناس الأحياء عندما يأتي ابن الإنسان في السحاب من السماء, ومعه ملائكته القديسين, ويتربع على عرش مجده.

دينونة الشعوب هذه على الأرض في ذلك الوقت لا يجب الخلط بينها وبين دينونة الأموات الأشرار, عندما يُقام العرش الأبيض العظيم في نهاية دهر الملكوت, الذي سيكون أيضاً نهاية العالم. إن التضاد جديرٌ بالانتباه هنا بين ذلك العالم كما في رؤيا ٢٠: ١١- ١٥ والدينونة قبل الألفية كما ترِد في متى ٢٥: ٣١- ٤٦. إن الحادثتين يفصل بينهما ألفُ سنة.

بعد شجبه المُهيب للكتبة والفريسيين المُرائين وتعبيره عن حزنه على عمى وتمرد الناس في أورشليم، غادر الرب أبنية الهيكل حيث كان يكرز ويعلِّم, وسار مع تلاميذه عبر جدول قدرون إل جبل الزيتون. وقبل أن يغادروا المدينة حاول التلاميذ أن يلفتوا انتباهه إلى عجب الأبنية الجميلة في موقع الهيكل.

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هَذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!»" (الآيات ١- ٢).

عندما تحدث يسوع على هذا الشكل لا بدَّ أن حديثه بدا كمثل نبوءة من غير المحتمل أن تتحقق. في عينيّ أتباعه, تلك الأبنية بدت ضخمة ومتينة لتصمد لقرون عديدة. ومع ذلك فإن كلماته كانت لِتُثبت حقيقتها بعد فترة امتحان تدوم أربعين سنة. من الواضح أن التلاميذ ربطوا تنبؤ يسوع بما كان قد قاله في مناسبات سابقة حول مجيئه الثاني؛ وهكذا, بعد أن وصلوا وجلسوا على الجبل الذي يُطِلُ على المدينة الجميلة ولكن الهالكة, طرحوا عليه ثلاثة أسئلة:

"وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟»" (الآية ٣).

لاحظوا الأسئلة بالترتيب:

١- "مَتَى يَكُونُ هَذَا"؟ أي، متى ستُدمَّر أورشليم؟ وجواب هذا السؤال يُعطى بشكل كامل في نقل لوقا لحديث يسوع (لوقا ٢١: ٢٠- ٢٤).

٢- "مَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ"؟ إن متى هنا ومرقس في الأصحاح ١٣ كلاهما يعطيان الجواب على هذا السؤال.

٣- "مَا هِيَ عَلاَمَةُ انقضاء الدهر (أي نهاية الزمان)"؟ ليس حديثهم هنا عن العالم بل عن الدهر. هذا السؤال نجد جوابه في المقطع الموافق من إنجيل مرقس. إن كل إنجيلي كتب كما أوحى له أو وجّهه الروحُ القدس. في الآيات ٤ و٨ يتناول متى بشكل خاص صفات الدهر الحالي بأكمله إلى أن يعود المسيح. ثم في الآيات ٩ إلى ١٤ يركِّز على علامات الأيام الأخيرة. والآية ١٥ تأتي بنا إلى بداية الضيقة العظيمة, كما تنبأ عنها أيضاً دانيال ١٢: ١١. الآيات ١٦ إلى ٢٨ تُعطينا تفاصيل عن ذلك الزمان من الضيقة. والآيات ٢٩ إلى ٣١ توصلنا إلى نهاية الدهر ومجيء ابن الإنسان. بقية الأصحاح يعطينا أمثلة توضيحية وتحذيرات, وكلها تستند إلى ما حدث قبلاً.

لنتمعن في المقطع الأول.

"فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «ﭐنْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارَ حُرُوبٍ. انْظُرُوا لا تَرْتَاعُوا. لأنَّهُ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا. وَلَكِنْ لَيْسَ المُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلازِلُ فِي أَمَاكِنَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ" (الآيات ٤- ٨).

إن الظروف التي تُوصف هنا قد ميَّزت كل القرون منذ أن عاد الرب إلى السماء (صعد إلى السماء). لا تخبرنا بحد ذاتها عن اقتراب مجيئه, ولكنها تُظهر لنا كم سيكون هذا العالم بائساُ يائساً سيء الأحوال وفي حاجة إلى حاكم مقتدر كفؤ وكيف أن كل الخليقة تئنُّ وهي تترقب عودته.

"ﭐنْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ". إن الشيطان يعمل بالمحاكاة والتقليد. إنه يحاول أن يوقعنا في الشرك عن طريق تزييف كل ما هو من الله. ومن هنا تأتي الضرورة لأن نكون محترسين على الدوام ضد أخاديعه. علينا أن نتمحّص كل شيء استناداً إلى الكتابات المقدسة.

"كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ". إن عدد الدجَّالين أو أضداد المسيح سيكون كبيراً جداً. وغالباً ما سيكون هؤلاء رجالاً وأحياناً نساء, قد برهنوا على جنون العظمة لديهم؛ ولكن الكثيرين كانوا مخادعين متعمدين. ما من أحد أبداً كان لِيَضل بسبب هؤلاء الذين يدعون المسيانية لو أنهم تذكروا أن المسيح لن يأتي ثانيةً إلى الأرض كما جاء قبلاً, أي من خلال بوابة الولادة. سوف يأتي كربٍّ من السماء مصحوباً بالموكب السماوي بأكمله.

"لَيْسَ المُنْتَهَى بَعْدُ". منذ صعوده إلى السماء كانت الحروب وإشاعات الحروب على الدوام تُذكِّر بحماقة الإنسان في رفضه لأمير السلام؛ ولكن هذه ليست أدلة على ختام أو انتهاء هذا الدهر. إنه من الخطأ أن ننظر إلى الصراعات بين الشعوب على أنها بحد ذاتها علامات على أن المجيء الثاني للمسيح هو وشيك.

الآية ٧ تصف سلسلة من الحروب العظيمة التي ستشترك فيها شعوب وممالك كثيرة. هكذا صراعات كانت مألوفة متكررة الحدوث خلال الألف وتسعمئة سنة الماضية وقد ازدادت بكثافة وبشكل مخيف خلال القرن الماضي؛ ولذلك كانت الحروب العالمية من ١٩١٤ إلى ١٩١٨ و١٩٣٩ إلى ١٩٤٥ أسوأ نوع قد عرفته البشرية. ونتيجة الحرب الواسعة الانتشار هناك نشأت مجاعات وأوبئة تلتها. وإلى هذه الأوبئة تضاف زلازل في أماكن كثيرة, والتي ستبدو على أنها ازدياد عظيم في اضطرابات الطبيعة مع اقتراب النهاية.

"هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ". هذه ستليها أحوال رهيبة وأشد سوءاً للغاية قبل أن يظهر ابن الإنسان شخصياً ليأتي بملكوته الذي كان قد رُفِضَ عندما كان هنا لأول مرة.

إن سر اختطاف الكنيسة الذي يسبق نهاية الزمن لا يُوصف هنا في هذه الخطبة النبوئية العظيمة. لقد كان ذلك لا يزال سراً خفياً عندما نطق يسوع بهذه الكلمات. ما من زمن محدد لها, وليس هناك أية علامات تشير إليها. إن العلامات هنا لها علاقة بإعلانه من السماء ملكاً سيرجع ليُجري قدرته العظيمة ويحكم. إن مجيء ابن الإنسان يشير دائماً إلى هذا الحدث, وليس إلى الاختطاف أبداً.

إن الظروف والأحوال الموصوفة في الآيات ٩ إلى ١٤ تتناسب بشكل كامل مع النصف الأول من الأسبوع السبعين غير المُنجز في دانيال؛ ولذلك فإنه من الممكن تماماً أن ذلك الاختطاف يُقحم بين الآيات ٨ و٩. منجهة أخرى, ظروف مشابهة قد حدثت مراراً وتكراراً خلال ما يُسمى القرون المسيحية, ولكنها لن تتأكد في زمن النهاية.

"حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي. وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً. وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ. وَلَكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ. وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى" الآيات ٩- ١٤).

"تَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي". إن استشهاد القديسين, أولاً تحت الحكم الوثني, ثم تحت الحكم الرومي البابوي, ولاحقاً تحت منظومات شريرة متنوعة أخرى, يجب ألا يُتجاهل عند التمعّن في هذه النبوءة. إن الاستشهاد لن يتوقف عندما ستُختطف الكنيسة. فعندها سيطلب الرب شهادة جديدة عندما يعود فيهتم ببني إسرائيل من جديد؛ وكثيرون من شهوده, في تلك الأيام المظلمة, سيُدعَون ليبذلوا حياتهم خلال فترة حكم قوة الوحش الملحد الاستبدادي في الأيام الأخيرة وتابعه, ضد المسيح شخصياً. وهكذا فإن هذه النبوءات سوف يكون لها تحقيق مزدوج- خلال الدهر الحالي من النعمة, وفي الفترة المستقبلية من الدينونة.

ثم سيكون هناك ارتداد عظيم عندما يتعثَّر كثيرون, وخدام الله المخلصين يخذلهم أقرب المقربين. وهذا أيضاً سيكون له تحقيق جزئي خلال هذا الدهر التدبيري. إن التاريخ يُعيد نفسه, في كل من الكنيسة المُعترِفة وفي العالم.

كلما اقتربنا من النهاية كلما صار الشيطان فعالاً نشِطاً أكثر, إذ يعرف أن وقته قريب وعلى وشك الانقضاء. ولذلك "وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ".

بسبب الإثم المتكاثر, فإن هؤلاء الذين يقرّون بالإخلاص والولاء للمسيح سوف يُمتَحنون بشكل شديد؛ وبينما تكون المحبة سطحية فقط فإنها تصبح باردةً, وهكذا ستسود فترة من الرِّدة.

إن امتحان أو اختبار الصدق في أي دهر هو التحمّل. فهكذا هو الحال الآن, وهكذا سيكون في يوم الحزن والألم الذي يرتقبه العالم المسيحي. "الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ". لكي تتناسب هذه الكلمات الجليلة مع الحق المُعلَن في كل مكان حول الضمان الأبدي للمؤمن, ليس من الضروري أن نقول أنها تنطبق فقط على فترة الضيقة. إنه أمر صحيح دائماً أن الذين يحتملون فقط سوف يخلصون في النهاية. ولكن عندما يُولد المرء من الله ويتلقى هكذا الحياة الأبدية فإنه سوف يحتمل. "لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا" (١ يوحنا ٥: ٤). من أبدى اعترافاً بالإيمان بالمسيح، ثم في ساعة التجربة ينكر إيمانه ويرتد، يشبه كَلْباً قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ، وَخِنـزيرَةً مُغْتَسِلَةً إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ (٢ بطرس ٢: ٢٠- ٢٢)، وبذلك يبرهن على أنه لم يُولد أبداً بكلمة وروح الله. لو كان هكذا شخص خروفاً يخص الله الراعي لما كان انجذب إلى مرواغة حمأة الخنـزيرة.

إن الضيقة العظيمة بكل معناها ستبدأ في منتصف الأسبوع السبعين- أي، السنوات السبع الأخيرة من نبوءة دانيال الزمنية العظيمة. وسوف يُعلَن عنها بإقامة رجسة الخراب. وإلى هذه يشير المقطع التالي.

"«فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ - لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَﭐلَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنـزلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً وَﭐلَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلاَ تَخْرُجُوا! هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ فَلاَ تُصَدِّقُوا! لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ الْجُثَّةُ فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" (الآيات ١٥- ٢٨).

لدينا هنا لوحة تصويرية عن الأحداث البارزة في وقت الشدة ذاك. "لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ" (دانيال ١٢: ١).

إن الرِّجْسَ الْمُخَرِّبَ في القديم (دانيال ١١: ٣١) كان صورة عن أنطيوخس أبيفانيوس ملك سوريا، في هيكل أورشليم، بعد أن دنّس المقدِس بتقديم خنـزيرة على المذبح ورش دمها في الأماكن المقدسة. ومن الواضح أن الرِّجْسَ الْمُخَرِّبَ سيكون في المستقبل اعتراف ظاهر ما بقوة مرتد وضد المسيح. أما وقد تم تحذيرهم بهذه النبوءة، فإن قديسي تلك الأيام سيدركون ذلك، وهذه ستكون إشارة لهم ليهربوا من أورشليم ومن فلسطين إلى "بَرِّيَّةِ الشُّعُوبِ" (حزقيال ٢٠: ٣٥)، حيث سيختبئون من غضب الوحش وأتباعه "حَتَّى يَعْبُرَ الْغَضَبُ" (أشعياء ٢٦: ٢٠). وهؤلاء سيكونون "إخوة" الرب الذين يتكلم عنهم في الأصحاح التالي، عندما يصور دينونة الأمم الذين سيكونون على قيد الحياة على وجه الأرض عندما يجيء ابن الإنسان في مجده.

هؤلاء اليهود المخلصين, البقية التقية الذين غالباً ما يتحدث عنهم الكتاب المقدس في الأنبياء, سيهربون على عجل, ولن ينتظروا أن يأخذوا أغراضهم وممتلكاتهم معهم لئلا يقع غضب ضد المسيح عليهم.

إنهم يُنصحون لأن يُصَلّوا لئلا يكون هروبهم في الشتاء ولا أن يكون في يوم راحة أو عطلة. هذا بحد ذاته يشير إلى حالة مختلفة للأشياء التي ستسود في هذا الدهر الحالي. فبينما هذه البقية التقية ستكون منتظرة استعلان المسيح, سوف يكون إيمانهم مستنداً على الناموس لأنهم لا يكونون قد دخلوا بعد إلى حرية النعمة.

"يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ". هكذا محنة لَمْ يَكُنْ مِثْلُها مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. ستكون الأحول رهيبة جداً وإن لَمْ يقَصّر الله تِلْكَ الأَيَّام لَن يَخْلُص جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ. إن تلك الأيام سيكون عددها ١٢٦٠ يوماً كما يرد في سفر الرؤيا. وهذه ستكون ثلاث سنوات ونصف, ويكون كل شهر مؤلفاً من ٣٠ يوماً, وهكذا سيكون أقصر من الزمن الكامل إذا ما كانت السنوات قد اعتُبرت بأنها مشتملة على ٣٦٥ يوماً.

في زمن الضيقة كل من التجأ إلى الله سوف يرتقب رجوع ابن الإنسان ليحرره. والشيطان سوف يحاول أن يخدعهم بتقديم مُسحاء كاذبين مزيفين, وفوق كل شيء سيقدم لهم ضد المسيح شخصياً بنفسه على أنه المرتقب المتوقَّع. ولكن أولئك الذين يعرفون الله ويستندون إلى كلمته- "المختارون أنفسهم"- سوف يكونون مستعدين ليرفضوا كل هذه الخدع والأكاذيب.

إذا قيل لهم أن المسيا قد جاء وأنه سيظهر لهم في البرية فعليهم ألا يذهبوا سعياً وراءه هناك. وإذا قيل لهم أنه محتجب في مكان سري ما فعليهم ألا يصدقوا ذلك. لأن مجيئه سيكون في مجد مُعتَلَن ظاهر عندما يسطع من السماء كالبرق الذي يلتمع في الفضاء.

بينما تصل فترة الضيقة العظيمة إلى أوجها فإن اليهودية المرتدَّة, والتي ستركز على أورشليم, ستكون جثة متعفنة ستتجمع عليها النسور (أو الجشعين المتوحشين). هذه صورة حيوية عن تجمُّع الجيوش من "كل الأمم ضد أورشليم للمعركة", كما سبق زكريا وتنبأ في الأصحاح ١٤ وكما كُتِبَ في نصوص كتابية أخرى.

المجيء الثاني سيحدث في نفس الوقت عندما سيبدو وكأن انتصار الشيطان قد اكتمل.

"وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا" (الآيات ٢٩: ٣١).

"وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ". هناك كثيرون يعتقدون ويعلّمون بأن الضيقة العظيمة قد صارت من الماضي الآن: أي أنها تشير إلى فترة الاضطهاد العظيم التي مرت بها الكنيسة في القرنين الأولين تحت الحكم الروماني الوثني, أو تتمثل في الاضطهادات الأسوأ التي ظهرت تحت الحكم الرومي الباباوي في السنوات التي سبقت والتي تلت الإصلاح البروتستانتي. ولكن ربنا يخبرنا بشكل محدد هنا أن مجيئه الثاني سيأتي مباشرة عند نهاية زمن الضيقة ذاك؛ ولذلك فمن الواضح أن هذا اليوم هو مِحنة ستأتي في المستقبل. وعندما يأتي إلى اكتماله سيكون هناك إعلانات ملحوظة وسط الأجرام السماوية وابن الإنسان سوف يُرى "آتياً في السحاب من السماء بقوة ومجد عظيمين". وقبائل الأرض سوف تنتحب عندئذٍ كما جاء في النبوءة في زكريا ١٢: ١٠- ١٢ عندما سينظرون إليه، ذاك الذي رفضوه يوماً والذي طعنوه, إذ يُدرِكون في نهاية الأمر أنه الملك, الممسوح, الذي لطالما انتظروا مجيئه.

ثم يُضرب بالبوق العظيم (أشعياء ٢٧: ١٣), وستجمع الملائكةُ المُختارين من كل أصقاع الأرض, أولئك الذين سيكونون قد اقتبلوا رسالة الملكوت في زمن الامتحان ذاك وهكذا يكونون مستعدين للترحيب بالملك لدى عودته. هذا ليس نفس الحادث الذي يتحدث عن الاختطاف في ١ تسالونيكي ٤. فهناك القديسون الأحياء والأموات سوف يتغيرون ويُقامون من القبر, ويُختطفون لملاقاة الرب في الهواء. ولكن عندما ينـزل ابن الإنسان إلى الأرض فإن هؤلاء المختارين سيكونون مجتمعين من أربع الرياح ليستقبلوه كملك ومخلّص لهم. وهكذا فبعد زمان طويل سيُقام عرش داود ثانية في أورشليم, والناموس سيطلع من جبل صهيون, حيث المسيح نفسه سيسود في البِرِّ لألف سنة مجيدة, كما نعلم من رؤيا ٢٠.

في القسم التالي يعطي الرب إجابة على السؤال: "مَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ"؟

"فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ" (الآيات ٣٢- ٣٥).

إن العلامة المميزة لاقتراب وقت ظهور ابن الإنسان هي تبرعم شجرة التين. إن شجرة التين هي رمز لبني إسرائيل كشعب. إن ذلك الشعب الذي كان قد اعتبره الله شعب عهده قد تفرقوا وتبعثروا عبر القرون في أرجاء الأرض المختلفة وما عاد لهم وجود مشترك كشعب. عندما تبرعم شجرة التين وتعطي أوراقاً خضراء فإنها تُعلن بذلك قرب عودة ذاك الذي كانوا يعترفون به على أنه المسيا والملك. لقد تحولوا الآن إلى الجحود وعدم الإيمان، كما تنبأ الكتاب المقدس، وستكون لديهم في المستقبل فرصة للتجدد. إذا تجلت الحياة الجديدة في براعم شجرة التين فإن هذا سيعني اقتراب البركة لبني إسرائيل واقتراب ساعة الاختطاف.

لاحظوا كيف أن الآية ٣٣ تتحدث عن شعب الله اليوم كما وعن البقية من بني إسرائيل في الأيام المستقبلية. "مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ".

إن عودته أكيدة لأن كلمته لا تسقط أبداً. ربما تزول اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَلَكِنَّ كَلاَمه لاَ يَزُولُ أبداً.

إن عدم المعرفة وعدم اليقين بخصوص موعد مجيئه الثاني الفعلي هو أمر حقيقي، وهو الأساس للكلمات التحذيرية التي تلي:

"وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ. وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. حِينَئِذٍ يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ يُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. ﭐِثْنَتَانِ تَطْْحَنَانِ عَلَى الرَّحَى تُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى" (الآيات ٣٦- ٤١).

إن مقارنة العالم السابق للطوفان مع ذاك الذي سيكون موجوداً لدى عودة الرب تنفي الفكرة التي أطلق عديدون لها العنان ونشروها في أن كل البشر سيهتدون قبل مجيء ذلك اليوم. هكذا توقُّع ما هو إلا حلم عديم الجدوى ليس له ما يؤيده في التعليم الكتابي. كما كان الحال في أيام نوح هكذا ستكون أيضاً لدى مجيء ابن الإنسان. ففي الأيام التي سبقت الطوفان كان الناس يعيشون بلا مبالاة ومنغمسين في ذواتهم. وكان الفساد والعنف يملأ الأرض. ورُفضت رسالةُ الله التي أعطاها عبر نوح بازدراء كحكاية لا قيمة لها. وإذ كانوا غير منتبهين إلى المخاطر، جاء الطوفان ودمرهم جميعاً. هكذا ستكون الحال أيضاً عند مجيء الرب.

في ذلك الوقت يكون اثنان يعملان في حقل، أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن. فالأخير يُؤخذ بالدينونة؛ والثاني يُترك ليدخل الملكوت ويتمتع ببركاته. على نفس المنوال ستكون حال امرأتين تطحنان الذرة لأجل وليمة الصباح. هذا المقطع غالباً ما يطبق على الفصل عند الاختطاف، وهو ممكن أن يُستخدم هكذا تماماً. ولكن في تلك الحالة علينا أن نفهم أن البار سيُختطف لملاقاة الرب في الهواء، والآخر يُترك ليتحمل دينونة فترة الضيقة.

ما من أحد يمكن أن يعرف مسبقاً بموعد رجوع ابن الإنسان تماماً. ولذلك يتعين على الجميع، الذين يعيشون في ذلك اليوم من المحنة أن يكونوا محترسين متيقظين دائماً وأبداً لئلا يأتي كلصٍ في الليل.

في الآيات الختامية من هذا الأصحاح يتم التركيز على المسؤولية لنعيش لله ونشهد للمسيح بينما نحن نترقب وننتظر مجيئه.

"فَمَنْ هُوَ الْعَبْدُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟ طُوبَى لِذَلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا! اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ الْعَبْدُ الرَّدِيُّ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ. فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ السُّكَارَى. يَأْتِي سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ»" (الآيات ٤٥- ٥١).

إنها مسؤولية كبيرة أن تُؤتَمن على حقيقة إلهية بأي شكل من الأشكال. إن ما يُعطى هو ليس لإعلامنا نحن فقط بل ليتم نقله إلى الآخرين. "ثُمَّ يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِيناً" (١ كورنثوس ٤: ٢). أولئك الذين عرّفهم الرب على هدفه ومشوراته مدعوون لأن يسلكوا كوكلاء أمناء على نعمة الله المنوَّعة المُعطاة لهم، فيشاركون عائلة الإيمان بالغذاء الروحي لتشجيعهم وتنويرهم. إن الخادم الذي يتحمل مسؤولياته على الدوام على هذا النحو سيُكافأ كما يستحق في يوم استعلان الرب. ولكن إن حاول أحد أن يستخف بالحقيقة، فيعتبر أن مجيء السيد مؤجلٌ، ويحيا بشكل أناني، مُبديا روح التكبر والتسلط، فإنه سيضطر أن يواجه القاضي الديّان في تلك الساعة غير المتوقعة، وسوف ينال نصيبه مع المنافقين والمرائين. هكذا خادم زائف ليس ابناً حقيقياً لله على الإطلاق، ولكنه مع ذلك سيُدان بحسب الاعتراف الذي أقرَّ به. إنه أمر خطير أن يستخدم المرء معرفته لحقيقة الله لأجل الغنى الأناني، بدون مبالاة بأولئك المحتاجين الذين دُعيَ لخدمتهم.

إن كل خدمة يجب أن تكون من منظار المجيء الثاني للملك عندما سيأخذُ كلُّ الخدام المخلصين أمكنتَهم المعيّنةَ لهم في الملكوت بحسب درجة تكرسهم خلال يوم الشهادة.

الأصحاح ٢٥

الملك يكشف المستقبل

(الجزء الثاني)

لدينا هنا متابعة للخطبة نفسها كما لاحظنا في الأصحاح السابق. هناك ثلاثة أمثال، كل منها يتناول جانباً خاصاً من جوانب الحقيقة المتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح.

إن مثل العذارى العَشر كان مثار جدل كبير. وطُرِحت أسئلة مشوشة ومتناقضة بخصوص تطبيقه الدقيق. يبدو أنه يجب تطبيقه على كل الفترة التي يكون فيها شعب الله المُعترف منتظراً تحقيق عودة العريس الموعودة. إنه بالتأكيد مثلٌ عن ملكوت السموات وفي شكله الأسراري، كما في كل أمثال الملكوت من الأصحاح ١٣ وما تلا؛ ولذلك، سيكون من الخطأ أن ننقل تطبيقه فنحصره في فترة الضيقة، وأن نسعى لنجعل العذارى يُمثّلنَ فقط اليهودية التائبة وليس الكنيسة من أجل المحاسبة والمسؤولية، كما يوحي العدد ١٠.

"حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتاً وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتاً فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلات: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْس ِ وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيراً جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضاً قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ يَا سَيِّدُ افْتَحْ لَنَا. فَأَجَابَ وَقَال: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَاسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ" (الآيات ١- ١٣).

حسنٌ أن نتذكر أن الكلمة "عذراء" تعني أيضاً البِكر. ليس هناك ثِقل كثير على الاستخدام الأول من ناحية المعنى. إن العذارى العَشر ليس بالضرورة أن يُمثّلن الناس المولودين من جديد، بل أولئك الذين باعترافهم هم في مكانة الشهادة على الأرض وإلى هذا ترمز المصابيح. خمسُ أبكارٍ حكيمات وخمسٌ جاهلات. الحكيمات لديهنَّ زيت النعمة ليملأوا مصابيحهنَّ من جديد؛ والحمقاوات الجاهلات لديهنَّ مصابيح ولكن ليس لديهنَّ زيت. كلهنَّ يذهبنَ للقاء العريس، وبينما هو يتوانى ينعسن وينمن. هذا يتجاوب بشكل كامل مع ما حدث في العالم المسيحي، عندمافقدَ الناس، في الأزمنة المظلمة، الرجاءَ بعودة الرب، وكل كنيسة معترفة نامت إلى أن أيقظها صوت البوق، عندما ازدادت العتمة ظلمة، "هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ".

منذ الإصلاح هذه الصرخة لا تزال تصدح ولكنها تصبح أكثر وضوحاً مع اقتراب النهاية. ومعها جاءت يقظة عظيمة. الحكيمات هيَّأن مصابيحهن للخلاص: شهادتهن أصبحت أسطع. ولكن أولئك اللواتي كنَّ غير صادقات في إيمانهن وجدن أنهن بلا زيتٍ ليُعيدوا ملأ مصابيحهن. لم تكن الحكيمات قادرات على أن ينقلن الزيت إليهن ولكنهن وجهنهن إلى مصدر يمكنهن أن يحصلوا منه على الزيت؛ ويخبرنا المثل أن العريس جاء بينما كن ذاهبات ليشترين. أولئك اللواتي كن مستعدات دخلن إلى العرس، أما الباقيات فقد تُرِكن خارجاً. وهؤلاء رُحنَ يقرعن طالبات الدخول فيما بعد ولكن وجدن أن الأوان قد فات. فمن الداخل خرج صوت العريس يقول: "إني لا أعرفكن". لقد أُغلِق عليهن كلياً في الخارج وإلى الأبد. إن التحذير الذي يأتي بعد ذلك هو ببساطة أن "اسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ". إن الكلمات "الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ" لا توجد في أفضل المخطوطات. وبالتالي فليس الحديث هو عن مجيء ابن الإنسان هنا بل عن عودة العريس.

إذ نتأمل في المثل الثاني علينا أن نكون منتبهين إلى التمييز بين المكافأة على الخدمة والخلاص بالنعمة. كل الذين يثقون بالرب يسوع يخلصون، وهذا منفصل تماماً عن الاستحقاق البشري. ولكن كل من يعترف بأنه يؤمن به مسؤول عن أن يخدمه وأن يستخدم ما أُعطي من موهبة أو مقدرة أو وسيلة لمجده وليعزز صلاحه وتأثيره وخيره على كل العالم. هناك من يعترفون بأنهم خدامٌ ولكنهم لم يُولدوا من الروح. ولكن الله يعتبر الناس مسؤولين عما يعرفونه ويعترفون به. إنه لزامٌ على الجميع الذين يؤمنون بكلمته أن يخدموا من كل قلبهم واضعين نصب أعينهم ذلك اليوم حيث كل واحد منا سيقدِّم حساباً عما فعله. ففي تلك الساعة الرهيبة ما من أحدٍ من الذين سيندمون يكون قد اهتم كثيراً بالعيش لأجله، بل إن كثيرين سيندمون ويأسفون على الساعات التي قضوها في أنانية وفي حماقة والتي كانت في مقدورهم أن يستخدموها لمجده، وسيندمون على الوزنات التي أضاعوها أوخبأوها، فلو كانوا قد استخدموها على ضوء الأبدية لكانوا قد سمعوا المسيح قائلاً لهم "نعمّا" إنه سيكافئ الجميع وهذا ما يتوافق مع كلمته (١كورنثوس ٣: ١٣).

عندما عاد السيد في ذلك الوقت حاسب خدامه. وعند عودة ربنا يسوع سوف يجمع خدامه ليقفوا أمام كرسي دينونته، ليس ليدينهم على خطاياهم، لأن تلك الدينونة قد مضت (يوحنا٥ : ٢٤)، بل ليقدِّموا حساباً عن خدمتهم. ستكون المكافآت لكلٍ من بني إسرائيل والكنيسة عند مجيئه. انظر أشعياء ٦٢: ١١؛ رؤيا ٢٢: ١٢.

إن الخادم الشرير والكسلان لا يمثِّل أبناء الله، لأنه يُلقى إلى الظلمة البرانية، ليس لديه ما يُكافأ عليه. بل بالأحرى المكافأة تكون لأولئك الذين تجددوا. ومكتوبٌ عنهم: "حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ" (١ كورنثوس ٤: ٥). هذا يشير، بالطبع، ليس إلى كل إنسان، بل إلى كل من يظهر عند كرسي دينونة المسيح حيث المؤمنون فقط هم الذين يقفون هناك.

إن استخدمنا أية مواهب أُعطيت لنا، مهما بدت صغيرة أو تافهة في نظرنا، وبالاتكال على الله، فإننا سنجد أن قدرتنا على الخدمة تزداد بشكل مطرد. ونعلم من الكتاب المقدس أن علينا أن نجدَّ للمواهب الحسنة (١كورنثوس ١٢: ٣١)، وأن نستخدمها في محبة.

ما من شيء يُكسَب بالمراوغة فيما يتعلق بالمكانة التدبيرية في هذا الدرس. سينطبق نفس المبدأ على الكنيسة الآن وأيضاً على البقية التائبة من بني إسرائيل بعد الاختطاف. الأمر المهم هو أن نستخدم على نحوٍ قويم ما تلقيناه من الرب.

"يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مُسَافِراً دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ وَآخَرَ وَزْنَةً - كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهَكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً. فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَﭐلْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ" (الآيات ١٤- ٣٠).

لاحظ أنه يجب قراءة النص مباشرة بالقول: "إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ"، إذ يجب حذف الكلمات "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ". هذا المَثَل له تطبيق واسعٌ جداً. إنه يشير إلى كل خدام المسيح خلال فترة غيابه في السماء. لقد "دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ". يجب أن يتصرفوا بالنيابة عنه كممثلين أو وكلاء في العالم إلى أن يعود.

"كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ". جميعنا لدينا وزناتٍ ما، ونحن مسؤولون عن استخدامها لمدّ عمل الرب في هذا العالم. "يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِيناً" (١ كورنثوس ٤: ٢).

"تَاجَرَ بِهَا". من أخذ خمس وزنات ومن أخذ وزنتين كانا أمينين بما أُعطيا. وكلٌّ منهما ضاعفَ نقودَ سيده باستخدامه الحريص والحكيم لما ائْتُمِنَ عليه. وهذا كل  ما كان يمكن أن يُتوقّع منهما.

"أَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ". هذا الرجل ظنَّ أن ما لديه قليل جداً مقارنة مع الآخرين، فلا يستحق إذاً أن يسعى ليفعل أي شيء به. لقد أخفاه في الأرض معتقداً أن ذلك هو أفضل طريقة في متناوله لئلا يبددها. لقد كان خادماً متبطلاً، بدون رؤيا أو إحساس حقيقي بالمسؤولية.

"وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ". لدى عودته دعا كلَّ واحد ليقدِّم حساباً عن استخدامه لما كان قد ائتمنه عليه. وهذا ما سيكون عليه الحال عند كرسي دينونة المسيح عندما يرجع مخلِّصنا (٢ كورنثوس ٥: ٩، ١٠).

"هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا". هذا الخادم كان قادراً على أن يعطي حساباً بفرح (عبرانيين ١٣: ١٧). لقد استخدم الوزنات التي أُعطيت له بأمانة، وكان متأكداً من مديح سيده له.

"كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ". بسبب أمانته وحكمته خلال فترة غياب سيده، كوفئ الخادم بأن نال مكانة خاصة من الثقة والائتمان عندما رجع. وهكذا ستكون الحال عند رجوع المسيح بالنسبة لأولئك الذين كانوا أمناء له في هذا الزمان من التجربة.

"ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ". كان لهذا الرجل شيئاً أقل ليتعامل معه، ولكنه كان أميناً حقاً كما زميله الخادم الذي كان لديه أكثر بكثير. إننا نعتبر مسؤولين عما نملك، وليس عما لا نملك (٢ كورنثوس ٨: ١٢).

"نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ". هذا الرجل يتلقى نفس الإطراء كما الآخر، لأنه هو أيضاً قد ضاعف ما كان قد عُهِدَ إليه به؛ ولذلك فقد مُنِحَ هو أيضاً الموثوقية في الملكوت.

"يَا سَيِّدُ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ". الرجل ذو الوزنة الواحدة يسعى ليضع اللوم على سيده في فشله وإخفاقه. لقد كان كمثل أولئك الذين يلومون الرب بسبب مواهبهم المحدودة، والذين لا يدركون أن من يُعطى قليلاً يُطلب منه القليل، وبالتالي فهو مسؤول عن استخدام ما يملك بأمانة. ومن جهة أخرى فإن ذلك الذي يأخذ كثيراً يُطالب بأكثر (لوقا ١٢: ٤٨).

"هُوَذَا الَّذِي لَكَ". لقد أخطأ كلياً في نفس الهدف الذي أُعطيت إليه الوزنة ليستخدمها لأجله، ومع ذلك فقد سعى لأن يبرر إهماله وافترض أن سيده سيكون راضياً.

"أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ". إنه شرٌ أن تكون عاصياً غير مطيع. وإنه لكسلٌ أن تخفق في أن تسلك بنشاط. هذا الخادم استحقّ أن يعاني بسبب اخفاقه في تحقيق الهدف الذي أراده له سيده وعرَّفه به.

"عِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً". لو أن الخادم لم يفعل سوى أن استثمر المال بالفائدة لكان بذلك أضاف شيئاً إلى ما كان قد تلقاه. إنه يمثل أولئك الذين، في نفس الوقت الذي يعترفون به بأنهم خدام للمسيح، فإنهم لا يعرفونه على الإطلاق ولا يسعون لإطاعة كلمته. إن المسائل الأبدية تتعلق بالاستخدام الصحيح لما نتلقاه من الرب.

إن الخادم الكسلان فقد كل شيء، وحتى اعترافه قد أُخِذَ منه. إن كلمات الرب قد تبدو غريبة، ولكن يمكن فهمها بسهولة إذا ما أدركنا أن ما هو أمامنا هو ربح كنتيجة لاستخدام الوزنة بشكل صحيح. فما أساء استخدامه قد أُخِذَ منه وأُضيف إلى من لديه العشر وزنات؛ بينما عديم النفع أُلقي إلى الظلمة البرانية- وهذا تعبير مشرقي عن غضب السيد. وهناك بكى لخسارته في حين أنه كان يصرُّ بأسنانه غضباً بسبب الدينونة التي أُنـزلَت به.

من خلال هذا المقطع (الأصحاح ٢٢ إلى ٢٥)، الذي يُظهِرُ مناظرة ربنا مع الفريسيين والصدوقيين والقادة الآخرين في إسرائيل, ونبوءاته العظيمة فيما يتعلق بمجيئه الثاني ودينونة الأمم, يظهر أمر واضح كالكريستال: إن ما يهم الله ليس الولاء الخانع لالتزامات تشريعية وشعائر أو طقوس, بل حياة تسيطر عليها المحبة الإلهية. هذا هو البرهان الأعظم على الولادة الجديدة (١ يوحنا ٣: ١٤), وفي الدهر التدبيري الحالي هو البرهان المحدد على أن الشخص هو سكنى للروح القدس (رومية ٥: ٥). من المهم أن يكون لدينا فهم صحيح لهذا المقطع من إنجيل متى, وأن نراه من خلال ارتباطه مع تعامل الله بشعبه الأرضي, أي اليهود, والأمميين من ناحية موقفهم نحو بني إسرائيل. من جهة أخرى, سنخسر الكثير من الخير لنفوسنا إن جعلنا هذا مقتصراً فقط على هذا الجانب التدبيري. علينا أن نتذكر أن الحقائق الأخلاقية والروحية لا تتغير على مر العصور، والمحبة التي تُعلن هنا على أنها تحقيق لكل الناموس والأنبياء ستتجلى في حياة جميع "السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية ٨: ٤).

ولذلك فإن المحبة, بأصدق معناها, هي المبدأ المسيطر في الحياة الجديدة. إنها تلك الشرعة الكاملة من الحرية التي تتحدث عنها رسالة يعقوب (١: ٢٥). إنها توصف هكذا لأن النفس المتجددة تسرُّ بفعل ما يُمَجِّد الله ويبارك أقرانه البشر, سواء كانوا إخوة في الإيمان أم ينتمون إلى العالم الذي يقبع فيه الشرير (١ يوحنا ٥: ١٩). إن المسيحي سَيُحِبُّ الخاطئ حتى وإن كان يبغض خطيئته. وفي هذا تتجلى الطبيعة الإلهية, لأن هذا أيضاً هو موقف الله نحو العالم.

إننا نُظهِر محبتنا للمسيح باهتمامنا بخاصته. هذا ينطبق على كل الأزمان, إذ في كل عصر تبقى الطبيعة الجديدة التي يتلقاها المؤمنون نفسها. وإن إحدى أولى صفاتها هي المحبة. بعد أن تُختَطف الكنيسة لملاقاة الرب في الهواء سيظهر شاهد جديد على الأرض. الحكماء من بني إسرائيل, وقد استناروا بالكلمة وخُتِموا كخدام لله, سيذهبون إلى كل الشعوب, ويعلنون الإنجيل الأبدي. إن موقف الأمم نحوهم سيحدد مصيرهم عندما يعود الملك ويؤسس عرش دينونته.

"«وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلٍِين: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقُولُ لَهُم: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ. «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً قَائِلِين: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ قَائِلاً: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ»" (الآيات ٣١- ٤٦).

"مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ". إن مجيء ابن الإنسان يشير دائماً إلى المجيء الثاني لربنا, عندما سيعود إلى الأرض, في مجد مُستَعْلَن, ليؤسس الملكوت الذي تنبأ عنه الأنبياء. هذا التعبير لا يُستخدم أبداً فيما يخص مجيئه إلى الهواء من أجل كنيسته- سرٌ كان لا يزال غير مكشوف عندما أُعطِيَت هذه الخُطبة (١ كورنثوس ١٥: ٥١).

"يَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ". انعقاد مجلس الدينونة هذه يجب تمييزها عن دينونة العرش الأبيض العظيم الذي يتكلم عنها الأصحاح ٢٠ في الرؤيا, والتي لن تحدث على الأرض على الإطلاق, بل ستكون دينونة للأموات الأشرار. وهذه التي أمامنا هنا هي دينونة الشعوب الأحياء التي تسبق الحكم الألفي. والأخرى- أي دينونة العرش الأبيض العظيم- ستكون بعد أن تنتهي تلك وتتلاشى السماء والأرض بنظامها الحالي. ولكن هذه الدينونة, مثل الأخرى, هي بحسب الأعمال. إن الخراف هم أولئك الذين تتجلى فيهم الحياة الإلهية من خلال عنايتهم المُحبة بأولئك الذين ينتمون إلى المسيح. وأما الجِداء فهم المحرومون من تلك, ويرمزون إلى غير التائبين, الذين لم يتجاوبوا مع رسل المسيح.

إن "اليمين/ اليد اليمنى" هي مكان القبول: وإن "اليد اليسرى" هي مكان الرفض.

"رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ". إن الملكوت المذكور هنا هو ذلك الذي تحدث عنه دانيال وأسفار نبوية أخرى (دانيال ٧: ١٣, ١٤). يجب عدم الخلط بينه وبين الميراث السماوي, بل يجب أن يتأسس على هذه الأرض لدى مجيء ربنا ثانيةً, عندما سَيُعلَن كملك الملوك ورب الأرباب (١ تيموثاوس ٦: ١٥), وملكوته العالمي سوف يحل محل كل السلطات البشرية (دانيال ٢: ٤٤).

"لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي". علينا ألا نفترض أن الخلاص لهؤلاء الأمميين سيكون على أساس الأعمال, بل إن أعمالهم سَتُثْبِت حقيقية ومصداقية أعمالهم. إن نفس المبدأ يظهر في يوحنا ٥: ٢٨, ٢٩, حيث يتحدث ربنا عن القيامتين- الأولى, لأولئك الذين فعلوا الخير, والأخرى, لأولئك الذين صنعوا الشر. وفي كل حالة, أعمالهم تُظهِر حالة قلبهم.

"فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلٍِين: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ..... ". لاحظوا أن "الخراف" يُعرَّفون بـ "الأبرار". وهذا بحد ذاته يشير إلى الولادة الجديدة, إذ بمعزل عنها ليس هناك من بار (رومية ٣: ١٠). هؤلاء ينكرون أي اعتراف بأهليةٍ في أنفسهم. بل إنهم حتى لا يدركون أنهم قاموا بخدمة للمسيح بأي شكل من الأشكال. ومن هنا كان سؤالهم عن الخدمات التي قدموها.

"بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ". إن الرب يسوع يميز كل أمر نفعله لأجل خاصته أو لأجله (متى ١٠: ٤٢؛ مرقس ٩: ٤١), وهو أيضاً يعتبر أي أذى نسبّبه لخاصته هو كأننا نسببه له (أعمال ٩: ٤). وبالمعنى الدقيق, إن الـ "الإخوة" هنا سيكونون جزءاً من اليهودية البقية في الأيام الأخرى, الذين سيكونون شهوداً لله في الأيام المظلمة من وقت ضيقة يعقوب, والضيقة العظيمة (دانيال ١٢: ١- ٣: إرميا ٣٠: ٧). وهذا سيكون بعد اختطاف الكنيسة وقبل تأسيس الملكوت, إذ سينتهي زمن الضيقة ذاك بمجيء ابن الإنسان, كما رأينا في الأصحاح ٢٤: ٢١, ٢٣, ٢٩, ٣٠. إذ يذهب رسل الملك إلى العالم سيكون هناك بعضٌ ممن يقبلونهم ويؤمنون برسالتهم: هؤلاء هم الخراف. وآخرون سيرفضونهم ويزدرون بشهادتهم: وهؤلاء هم الجداء.

إخوة المسيح: بينما هناك معنى في أن كل المؤمنين هم إخوة للمسيح, إلا أنه من الواضح أن العبارة هنا تُستَخدَم بمعنى خاص, لأن هناك ثلاث مجموعات من الناس أمامنا: الخراف, الجداء, وأولئك الذين يدعوهم ابن الإنسان بـ "إخوتي". وهؤلاء هم أولئك المؤمنين الذين يرتبطون بالمسيح, بحسب الجسد وأيضاً بحسب الروح, وسيكونون شهوده الموثوقين الصادقين في زمن الضيقة الآتي, عندما سيكون عصر الكنيسة قد انتهى.

"اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ". هذا الحكم بالمصير المشؤوم الأبدي سيصدر على أولئك الذين أظهروا بسلوكهم البارد واللا مبالي لخدامه أنهم لم يؤمنوا بالرسالة التي كانوا يحملونها إلى كل أرجاء العالم. ويبدو أن هذه ستكون دينونتهم النهائية, لأن الحكم يتزامن مع ذاك الذي سيصيب الأموات غير الأبرار الذين يقفون أمام العرش الأبيض العظيم بعد أن تنقضي الألف سنة (رؤيا ٢٠: ٧- ١٥).

"لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي... ". إن التهمة الموجهة ضد أولئك الضالين لا تتعلق بأي انتهاك فاضح للمبادئ الأخلاقية, بل بسبب موقفهم اللا مبالي نحو المسيح الذي يقرر نهائياً مصيرهم المشؤوم. لقد أظهروا أنه لم يكن لديهم إيمانٌ به أو برسالته وذلك بعدم اهتمامهم بمعاناة وآلام ممثليه. هذا المبدأ ينطبق أيضاً في فترة الضيقة الآتية.

"يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟". إنهم يتحدثون كأناس غير مدركين أبداً بأنهم ارتكبوا أي إثم, ولكنهم أخفقوا في أن يعرفوا ويكرِّموا ابن الإنسان في شخص إخوته, الذين أُرسِلوا لدعوتهم إلى التوبة, بالنظر إلى ملكوته الآتي.

" بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا". إن الإخفاق في إبداء الشفقة نحو أفقر وأضعف الناس المتألمين هو إخفاق في خدمة المسيح نفسه, لأنه يُطابق نفسه بهم. وإذ يتعلق هذا بالبقية التائبة من اليهود كما سبق وذكرنا, في أدق تفسير, فيمكن أيضاً أن ينطبق على جميع من ينتمون إليه.

"فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". إن نتيجة هذه الدينونة هي للأبدية- إما للعقاب الأبدي أو للحياة التي لا تنتهي, وهذه أكثر من مجرد الوجود طويل الأجل وحسب. الأشرار سوف يهلكون ويذهبون إلى مصيرهم المرعب في الحال. والأبرار سيدخلون إلى الحياة الأبدية في الحكم الألفي ومن ثم سيكون لهم نصيب مع المسيح خلال الدهور التي لا تنتهي والتي ستلي دمار الخليقة الحالية. هؤلاء هم القديسون الوارد ذكرهم في دانيال ٧: ١٨, الذين سيتمتعون بالبركات والغبطة في فترة حكم المسيا المجيد على الأرض.

شعبان مُختاران: مما يساعدنا على فهم الخلفية التدبيرية في هذا المثل أن نلاحظ أن هناك اختياران مختلفان في العهد الجديد. في أفسس ١: ٤ نرى الكنيسة في هذا الدهر, التي تتألف من اولئك المُختارين في المسيح منذ قبل تأسيس العالم. وفي المقطع الحالي يُعطى المُخلَّصون مكانة في الملكوت "المُعد قبل تأسيس العالم" (الآية ٣٤). وهذا يتفق مع ما يرد في رؤيا ١٣: ٨, حيث نجد نفس الناس في منظور المتحدث. إن الأول هو شعب إلهي مُختار؛ والآخر شعب أرضي مُختار. أن نخلط بين هذين في تفكيرنا يجعلنا نُخفِق في أن نقطع كلمة الله باستقامة (٢ تيموثاوس ٢: ١٥).

الأصحاح ٢٦

الملك يواجه الصليب

كان وقت موت يسوع يقترب- ليبذل حياتَه فديةً عن كثيرين. كل شيء كان متنبّأً به منذ الأزل، وجاء الرب إلى الأرض لأجل هذا الهدف المحدد ومع ذلك فمع دنو ساعته، تأثرتْ نفسُه بشدة.

"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ». حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ»" (الآيات ١- ٥).

أما وقد أكمل خطبته الجهرية الأخيرة، خيّم ظل الصليب المعتم على روحه وهو يتحدث عن عيد الفصح المُقبِل، والذي سيُسلَّم بعده ويُصلب. لقد كان هو وحده العارف بالمعنى الحقيقي لذاك الفصح، إذ كان هو نفسه المرموز إليه بحمل الفصح، الذي سيكونُ دمه ملجأً يحمي من دينونة الله كُلَّ الذين يؤمنون به.

في خلال هذه الأثناء كان رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب يلتقون سراً في دار قيافا الماكر، الذي كان رئيس الكهنة في تلك السنة من خلال حصوله على استحسان الرومان. كانوا يتآمرون حول أفضل الطرق وأكثرها أمناً بالنسبة لهم ليمسكوا يسوع لكي يقتلوه. في غيرتهم على دين الله الذي كانوا يشعرون أنه كان مهدداً بتعاليمه (أي بتعاليم يسوع)، كانوا على استعداد لأن يذهبوا إلى أقصى حد لكي ينحّوه عن الطريق، بحيث لا يتورطون بأنفسهم في صراع مع الشعب. لقد كانوا يعتبرون أن أفضل طريقة هي ألا يحاولوا الإمساك به في يوم العيد لأن هذا سيكون أكثر ما يسبب شغباً في الشعب ضدّهم.

إنه لينعش القلبَ أن نحيد انتباهنا عن هؤلاء القتلة الشائنين الماكرين فنرى الرواية الجميلة عن محبة مريم المتفانية (نحو يسوع) التي تُروى لنا في الآيات ٦ إلى ١٣:

"وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ. فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذَلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا هَذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هَذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا»" (الآيات ٦- ١٣).

لا نعلم شيئاً عن سمعان الأبرص. اسمه مدوّن هنا، مع الكلمة المُضافة التي تصف لنا مرضه والذي إما أن يكون لا يزال يعاني منه، أو على الأرجح أن هذا المرض كان قد شفاه الرب منه. هناك أيضاً إمكانية بأنه قد يكون توفّى سابقاً. رغم أن البيت كان يُعتَبر له، لكن رواية يوحنا تبدو وكأنه يجعل الحادثة تقع في بيت الأختين مرتا ومريم، وأخيهما لعازر. إن كان هذا صحيحاً فعندها يكون سمعان على الأرجح والد هؤلاء الأصدقاء الثلاثة المخلصين ليسوع، والذين لا يُذكَر اسم أيٍّ منهم في إنجيل متى.

نعلم أن المرأة التي أتت بقارورة الطيب الباهظة الثمن وعطَّرتْ به يسوع كانت مريم. يخبرنا يوحنا أنها سكبته على قدميه. متى ومرقس يذكران سكبه على رأسه. كلا الأمرين صحيح بالتأكيد. لقد كان هذا الفعل يدل على محبتها الصادقة نحو يسوع. بالنسبة لمريم، كان يسوع الملك. وإذ اتّكأ إلى المائدة، فإن عطر الناردين الذي سكبته ملأ الحجرة بعبيره (نشيد الأشاد ١: ١٢، أنظر أيضاً الآية ٣). لم يكن عند مريم أي شيءٍ غالٍ على يسوع. لقد جادت بكل ما لديها.

أما التلاميذ، وقد تأثروا بيهوذا في هذه الحادثة (يوحنا ١٢: ٤)، فقد ادّعوا الرزانة، وتذمّروا مما بدا لهم على أنه إتلاف. قالوا أن الطيب كان يمكن أن يُباع بثمن كبير، وأن يُعطى ثمنه للفقراء. لم يستطع يهوذا أن يفهم محبةً كهذه التي عند مريم، التي ستدفعها لتسكب أعظم كنـز على رأس وقدمي يسوع. بالنسبة له لقد كان هذا تبذيراً مُفرطاً.

وبّخ يسوعُ المتذمّرين وبرر المرأة، مُعلِناً أنها عملت له عملاً حسناً (وحرفياً: جميلاً). فقد كان لديهم دائماً الفقراء الذين كان يمكنهم أن يخدموهم. وكما قال الناموس, سوف لن يزول وجودهم من الأرض؛ أما هو فكان على وشك أن يغادر. إن مريم، التي على الأرجح أنها فهمت أكثر من البقية ما كان على وشك أن يحدث، سكبت الطيب على جسده لأجل تكفينه. لقد قدّر يسوع محبتها المتفانية بعمق حتى أنه أضاف قائلاً: "حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا".

هل المسيح نفسه حقيقيٌّ بالنسبة لنا وثمينٌ إلى تلك الدرجة حتى أننا مستعدون لأن نقدم أية تضحية لكي نريه تكرّسنا ومحبتنا له؟

في تضادّ حيوي مع محبة مريم وصدقها وإخلاصها نجد خيانة يهوذا تأتي الآن أمام ناظرينا.

"حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟» فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ" (الآيات ١٤- ١٦).

الخائنُ البائسُ ترك مشهد العيد وسعى نحو عصبة الكهنة المتآمرين الذين كان على معرفة واتّفاقٍ معهم، كما هو واضح. وطلب مبلغاً معيناً ليُدفَع له بشرط أن يسلّم يسوع لهم. ورغم أنهم لم يتذكروا نبوءة زكريا فيما يتعلّق بهذا الأمر بالذات، أي خيانة راعي إسرائيل، فإنهم اتّفقوا معه على ثلاثين من الفضّة (زكريا ١١: ١٢). بكل معرفتهم المتبجّحة بالكتابة المقدسة كانوا يحققون ما جاء فيها عن غير قصد من خلال هذه الصفقة التي اتفقوا عليها.

عاد يهوذا إلى حيث كان يسوع وتلاميذه، وظل ملازماً له مُنتظراً الفرصة السانحة لينفّذ دوره في الاتفاقية- هذه التي كانت ميثاقاً مع الجحيم، والتي ستجعل ضميره يوماً ما يشعر بالإثم فيحتجّ عليه بشدة بسبب النهج المريع الذي اتّخذه.

القسم التالي يخبرنا عن عشاء الفصح الأخير.

"وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» فَقَالَ: «ﭐذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي». فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدّاً وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» فَأَجَابَ وَقَال: «ﭐلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي. إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ». فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَال: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ لَهُ: «أَنْتَ قُلْتَ»" (الآيات ١٧- ٢٥).

"فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ". هذا العيد كان يستمرُّ سبعة أيام. في اليوم الأول كان الحملُ يُذبَح وتُقام الوليمة المفروضة. خلال الأيام السبعة لم يكن يُسمَح بوجود خميرة في البيوت عند بني إسرائيل.

اليوم اليهودي كان يبدأ عند غروب الشمس؛ ولذلك فإن الفصح كان "من المساء إلى المساء" (خروج ١٢: ٦). لقد احتفل يسوع بالعيد بعد الشروق الأول الذي تلا يوم الفصح ومات كونه حمل الفصح الحقيقي قبل الغروب في اليوم التالي.

"عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي". لقد كانت تُعتَبر عادة حميدة تقوية عند سكان أورشليم أن يحتفظوا بغرفة للضيوف، حيث كان الزوّار في المدينة يمكنهم أن يحتفلوا بالعيد. استفاد يسوع من هذه الإمكانية. يقول التقليد أن تلك الغرفة كانت في منـزل يوحنا مرقس حيث أقام المُخلِّص وتلاميذه الفصح الأخير.

"وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ". لقد بسطوا المائدة بالحمل المشوي، والعشب المرّ، والخبز الفطير، كما أمرهم الله. كم كانت هذه تعني الكثير ليسوع، الذي كان يعرف أنه كان هو المرموز إليه في هذه الوليمة الرمزية! (١ كورنثوس ٥: ٧، ٨).

"اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لم يكن يهوذا قد خرج بعد في تلك الليلة. لقد كان قد اتّفق لتوّه على أن يُسلّم الرب ولذلك كان يجلس مع البقية.

"إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي". مَن كان يعرف كل الأشياء (أي يسوع) كان يدرك الخطة الماكرة الخبيثة التي كان يهوذا قد دخل فيها، ولكنه أعطاه فسحةً حتى للتوبة، لو أن ضميره كان فعّالاً حياً.

"هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟". نعلم أن كل واحد منهم سأل هذا السؤال: إحدى عشر منهم كانوا في حالة حزن حقيقي وحيرة، وواحدٌ كان مُذنِباً ويعرف بذنبه وأنه كان طرفاً، عن عمد، في اتفاق ومؤامرة ليفعل هذا الأمر الشرير. كم تُقسّي الخطيئةُ القلبَ وتحجّر الضميرَ!

"ﭐلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ". حتى النهاية كان يهوذا مسموحاً له بأن يتمتع بأعظم اللحظات التي تعبّر عن محبة يسوع الحانية, بل حتى أن يشاركه نفس صحفة الأعشاب المريرة.

"كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ". هذه الكلمات تدمّر الأمل العقيم عند الخلاصيين ١ ، لأنهم يقولون لنا أن إنساناً واحداً فقط كان خيراً له لو لم يَعِشْ. وهذا ما كان ليمكن أن يصحَّ لو أن يهوذا خلص.

"أَنْتَ قُلْتَ". من الواضح أنه كان يشعر أنه موقع ارتياب من قِبَل البقية, فسأل يهوذا من جديد وهو يشعر بالخوف والقلق ومع ذلك يُبدي وقاحة, فقال "هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟". فأجاب يسوع بالإيجاب ومع ذلك بطريقة لم يسمعه الآخرون ولم يفهموه. بحسب إنجيل يوحنا, يبدو أن تلك كانت النقطة المفصلية حيث هبَّ يهوذا واقفاً على عجَل وغادر الحُجرة (يوحنا ١٣: ٣٠). إن كان هذا صحيحاً فهذا يعني أنه لم يكن حاضراً فعلياً عندما حدث الحدث التالي, بل خرج بعد الفصح. لقد كان هذا موضع جدال كثير, على كل حال.

بعد ذلك جاء تأسيس عشاء الرب, هذا الطقس المقدس الذي حلَّ في الكنيسة المسيحية محل عيد الفصح عند اليهود. إن الإثنين مرتبطان معاً, إذ بعد الاحتفال بعيد الفصح اليهودي قدَّم يسوع لتلاميذه الخبز ونتاج الكرمة, وطلب منهم في محبة وحنو أن يشاركوه فيها إذ أن جسده على وشك أن يُقدَّم على الصليب, ودمه سرعان ما سَيُسْفَك من أجل غفران الخطايا. وقد انقضت حوالي ألفيتين منذ تلك الليلة الجليلة, وخلالها ملايين لا تعد ولا تحصى من المؤمنين الممتنين قد شاركوا في هذه الذكرانيات ليتذكروا ذاك الذي أحبهم لدرجة الموت.

إن الشِركة (١ كورنثوس ١٠: ١٦) ليست بأي شكل من الأشكال التقدِمة. إنها تُحيي ذكرى تلك الذبيحة الكاملة التي قدَّمها ربنا مرة وعن الجميع عندما بذل نفسه من أجلنا على صليب الجلجثة. ولا يجب أن يُحتَفَل بها على اعتبارها ذات قوة خلاصية أو أهلية متأصلة. إنها التذكير بأننا عندما كنا ساقطين ضالين بشكل كامل وعاجزين ويائسين, مات المسيح ليفتدينا لله. صحيح أن ذبيحة التسبيح (عبرانيين ١٣: ١٥) يجب أن تصاحبها عندما نتأمل بالثمن الباهظ الذي به خلُصنا, ونبتهج بذاك الذي تحمَّل الحزن والألم والعار من أجلنا لأنه حيٌّ الآن وإلى الأبد, وسوف لن يخضع لألم الموت ثانيةً أبداً. ونتذكر أنه "رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ" (عبرانيين ١٢: ٢). والذي منه سيعود لِيُعلِن حقّه بما اشتراه بدمه. إلى أن يأتي ذلك الوقت يمكننا أن نحتفل بهذا العيد بقلوب متعبدة بينما نرجع بأبصارنا إلى الصليب وإلى المجد الآتي (١ كورنثوس ١١: ٢٦).

"وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «ﭐشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي». ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ" (الآيات ٢٦- ٣٠).

"«خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي»". لقد أخذ يسوع إحدى الأرغفة التي ليس فيها خمير في يده, وباركها وكسرها, وأعطاها للتلاميذ, طالباً منهم أن يأكلوها على أنها جسده. من الواضح أنه لم يكن هناك استحالة آنذاك, لأنه كان جالساً أمامه بجسده الحقيقي وكانوا يأكلون من الخبز. إن الأمر كمثل أن تُري صورة لآخر وتقول له "هذه هي أمي". فالأولى تمثّل الثانية.

"وَأَخَذَ الْكَأْسَ". لا نعلم بالضبط ما كان في الكأس. نعلم من الآية التالية أنه كان فيها "نتاج الكرمة", ولكن فيما إذا كان النبيذ مخمراً أم عصارة الزبيب المغلي, فإن الرواية لا تذكر, ولا يجب أن نرواغ ونماحك في ذلك (لقد كان الوقت باكراً جداً على العنب الطازج). إن المقصود هو المهم.

"هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ". ذلك الدم الثمين لم يكن قد سُفِكَ بعد, ولكن يسوع كان يتحدث عنه وكأن عمل الصليب قد أُنجِزَ للتو. لم يكن الكأس يحوي دمه, بل كان يحوي ما سيذكّرنا بعد سنين به عندما يُسفَك لأجل مغفرة الخطايا.

"حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي". لم يشارك يسوع في تلك الوليمة التي جعلها لذكرى موته, بل كان يتطلع إلى الوقت الذي ستكون فيه من نتيجة تلك الذبيحة أنه سيجمع كل خاصته حوله في ملكوت الآب, ليحتفل معهم بثمر الفداء المجيد الكامل. وعندها سوف يرى مخاض روحه ويكون راضياً (أشعياء ٥٣: ١١).

"ثُمَّ سَبَّحُوا". يقول التقليد أن هذه التسبحة كانت المزمور ١٣٥, التي تُعرف بالنسبة لليهود الـ "هلِّل" الصُغرى أو التهليلة الصُغرى, والتي بها كانوا يحتفلون بانعتاق بني إسرائيل من عبودية مصر, أو كما يعتقد آخرون كانت المزامير ١١٥ إلى ١١٨.

إن وليمة المحبة التذكارية, ألا وهي الطقس المركزي الذي تلتزم به الكنيسة, قد وُضِعَ لاستحضار يسوع نفسه أمام النفس. إنها مناشدة للعواطف. لقد كان ذاهباً. لم يُرِد أن ينساه أولئك الذين أحبهم كل تلك المحبة الحانية. ولذلك أسسس هذا العشاء المقدس حتى يُحتفل به في أي مكان وفي أي زمان, وبذلك يتذكرونه بشكل حيوي في فكرهم. لقد كانت المحبة التي هي أقوى من الموت, هي ما لم تستطع مياه الدينونة الكثيرة أن تطفئها (نشيد الأنشاد ٨: ٦, ٧). ليس (الرب) في حاجة إلى رموز لكي يتذكرنا. ولكن محبتنا له قليلة جداً. لأننا سرعان ما ننسى. ومن هنا كانت الحاجة إلى تلك الوليمة التي تُثير مشاعرنا وتُنعِش أفكارنا به. وعندها، ومثل مريم, سوف نأتي بقارورة طيب فاخرة ونكسرها في حضوره, ونسكب عطر عبادتنا وتعبُّدِنا عليه إلى أن يمتلئ البيت برائحة ذلك الطيب. إنه لمن الملائم أن قصة تكرسها ومحبتها للمسيح قد سبقت العشاء الذي أسسه.

إن الخطيئة غير المُعترَف بها هي وحدها التي يمكن أن تشكّل عائقاً أمام المسيحي يمنعه من المشاركة في العشاء المقدس, وكلما أُدينت الخطيئة أسرع، على ضوء الصليب, كلما أمكَن أن يتجدد المرء إلى الشركة. قال داود: "فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي" (مز ١٠٤: ٣٤). هل نبتهج بالجلوس إلى مائدته وأن نفكر في محبته؟

إن العقيدة الرومية المتعلقة بالقداس والحضور الحقيقي ليسوع في السر تناقض تماماً هذه الحقيقة. إن التعليم بأنه، بهيئة الخبز والخمر، نفس جسد ودم يسوع يُقدَّم بشكل مستمر على المذبح كقربان عن الخطايا للأحياء والأموات, هو أن تنكر أن المسيح غائب شخصياً, وهذا الواقع الذي لأجله نتذكَّره, وأيضاً يطعن كمال ذبيحته الوحيدة على الصليب, التي كانت كافية وليس من حاجة إلى تكرارها. لاحظوا الصواب, إننا ندنو إلى مائدة الرب كمفديين لله بدم ابنه, ذاك الذي يرغب الآن أن يُذَّكرنا بشخصه المجيد وبمحبته السائدة بالتمام والتي تبدت في بذل نفسه ذبيحة على الصليب من أجل خطايانا. إن دم المسيح هو الذي يجعلنا مستحقين لأن نشارك في عشاء الرب. ولكن علينا أن نحذر لئلا نشارك بدون استحقاق: أي, بطريقة فيها استخفاف أو لا مبالاة.

لاحظوا كيف أن مجيئي الرب يسوع مرتبطان معاً بالوليمة التذكارية. إننا نتذكر موته إلى أن يأتي (١ كورنثوس ١١: ٢٦).

بينما كان يسوع والتلاميذ على الطريق ذاهبين من المكان الذي جرت فيه هذه الأمور, إلى جبل الزيتون, حيث كان يسوع يختلي غالباً بتلاميذه, بدأ يسوع يحذِّرهم مما سيحدث في القريب العاجل, ويؤكد لهم عدم موثوقية وصدق قلوبهم.

"حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هَكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ" (الآيات ٣١- ٣٥).

لقد كانت هذه نبوءة أخرى من نبوءات زكريا أشار إليها يسوع أيضاً عندما أخبر تلاميذَه بأنهم جميعاً سيعثرون ويشكّون أو يُروَّعون بسببه تلك الليلة؛ فقبل زمن طويل قال هذا النبي متحدثاً بروح الله أن: "اضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ" (زكريا ١٣: ٧). هذه الكلمات كانت على وشك أن تتحقق حرفياً, رغم أنهم في تلك اللحظة شعروا جميعاً أنه لا يمكن أن يتخلوا عنه، ذاك الذي أحبوه بشكل كبير للغاية. ولكن ما من إنسان يمكن أن يسبر أبداً أغوار الشر في قلبه, التي تستطيع النعمة وحدها فقط أن تتغلب عليه.

لقد أضاف يسوع وعداً مؤكِّداً ومُطمئِناً بأنه ولو كان الأمر ليس ذا مغزى بالنسبة لهم في تلك اللحظة, فعندما سينهض ثانيةً سوف يسبقهم إلى الجليل. وهناك سوف يُقيم لقاءً مقدساً معهم.

أما بطرس, وإذ كان غير مدركٍ لضعف جسده, فقد احتجَّ قائلاً أنه ولو شكَّ فيه الآخرون جميعاً فإنه سوف لن يفعل ذلك. ولكن يسوع أعلن بأنه قبل صياح الديك- أي قبل الفجر الباكر- سوف ينكر (أي بطرسُ) معلِّمَه ثلاث مرات. وإذ كان بطرس واثقاً من نفسه فإنه أكدَّ له بأن هذا لن يحدث. بل حتى ولو مات من أجل يسوع فإنه لن ينكره. وفي هذا الموقف كانوا جميعاً مشاركين. ولكن يا للأسف! كم كانت معرفتهم بأنفسهم ضئيلة! إن ثقتهم بأنفسهم قادتهم إلى أن يعلنوا تأكيدات ما كانوا بأنفسهم لقادرين على أن ينفذوها عندما تأتي ساعة التجربة. إن الجسد ميال إلى إعلان صلاحه (أمثال ٢٠: ٦).

وإذ وصلوا إلى جبل الزيتون جاؤوا إلى بستان على السفح الغربي حيث كان يسوع غالباً ما يصلي هناك ويتواصل مع أبيه.

"حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هَهُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ ﭐِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا. هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ. هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»" (الآيات ٣٦- ٤٦).

جَثْسَيْمَانِي! يا لعمق المحنة، ويا لمرارة الحزن الذي توحي به هذه الكلمة! إنها خير ما يعبّر عن المعنى الحقيقي العميق لكلمات ربنا حين قال: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟" (لوقا ١٢: ٥٠). هناك في ذلك البستان، حيث كان غالباً ما كان يختلي إلى تلاميذه (يوحنا ١٨: ٢٩، وحيث كان كثيراً ما كان بتواصل مع أبيه دون أن بقطع أحدٌ خلوته، هناك أيضاً دخل في حالة الكرب المؤلم لنفسه وهو يتأمل حقيقة أنه صار خطية لأجلنا، "لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). وإذ تطلع إلى ذلك مقدماً، صرخ قائلاً: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِه السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ" (يوحنا ١٢: ٢٧). إن المزمور ١٠٢ غالباً ما عُرف بـ "مزمور الجَثْسَيْمَانِي". إذ نقرأ ذلك, فإننا نسمع نبضات قلب مخلِّصنا وهو يدخل في ذلك الشعور من العزلة والوحدة ذاك الذي تركه الله واحتقره ورذله الناس أنفسهم الذين جاء ليخلِّصهم. لقد كان هذا هو الكأس الذي انكمشت منه طبيعته الإنسانية المقدسة. وذلك كان في أنه, وهو الكامل, الذي وجد الآبُ فيه مسرَّته (لوقا ٣: ٢٢؛ ٩: ٣٥), سوف يُعامل كمنبوذ, بسبب اتخاذه مكان الخاطئ, فهذا هو الموقف الذي كان مرعباً ومروِّعاً بشكل لا حد له بالنسبة له. نعم، صحيح أنه جاء من السماء من أجل هذا الهدف. لقد اتخذ ناسوتاً لكيما يموت بدلاً عنا. ولكن إذ اقتربت الساعة عندما كان على وشك أن يصطبغ فعلياً بصبغة الدينونة الإلهية ضد الخطيئة, فإنه ما كان ليكون القدوس الذي كان لو أنه لم ينكمش من هول المحنة. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أن آلامه التي احتملها في الجثسيماني لم تكن بحد ذاتها الكفارة عن الخطية. عند الجلجلة, على صليب العار, هي اللحظة التي كانت خطايانا قد أُلقيَت عليه, واحتمل كل القصاص الذي كان يجب أن ندفعه نحن لو أن الله لم يتدخَّل في النعمة و"أرسل ابنه كفارة عن خطايانا". لقد كانت جثسيماني تذوقاً استباقياً للجلجثة, حيث شرب (يسوع) حتى الثمالة كأس المرارة والمر الذي ملأته بها خطايانا وآثامنا.

"يُقَالُ لَه جَثْسَيْمَانِي". إن الاسم يعني "معصرة الزيت". لقد كانت عبارة عن بستان زيتون, قُبالة جدول قدرون مباشرة. لقد كان يمكن الوصول إليها بسهولة من مدينة أورشليم. كان يسوع قد ترك ثمانية من تلاميذه قرب المدخل, بينما أوغل في البستان لكي يصلي.

"ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ". هذه الكلمات كانت موجهة إلى الثمانية الذين تُرِكوا قرب المدخل. من الواضح أن جميع تلاميذه لم يكن لديهم نفس المشاعر من المحبة والتعاطف.

"ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي". كانت علاقته مع هؤلاء الثلاثة أقوى من البقية, لأنهم بدوا متفهمين ومقدرين له أكثر. ولهم عبَّر عن اضطراب روحه تحت وطأة تلك الظروف التي كان يُعانيها. هؤلاء الثلاثة كانوا قد شاركوا في أكثر خبرات يسوع حميمية في مناسبات أخرى (انظر ١٧: ١؛ لوقا ٨: ٥١). لقد رأوا أن يسوع كان في ألم كثير رغم أنهم لم يفهموا السبب بالضبط.

"امْكُثُوا هَهُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي". جاء الوقت عندما سيتوجب عليهم هم أيضاً (هؤلاء الثلاثة) أن يتركهم خلفه, ولكنه أوصاهم أن يسهروا ويصلّوا لئلا تكون التجربة الآتية كبيرة جداً على إيمانهم (لوقا ٢٢: ٤٠).

"نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ". لا بد أن كلماته قد حيَّرتهم جداً, لأنهم كانوا لا يزالون غير مدركين لما كانت تعنيه تلك الكلمات التي كان قد قالها لهم منذ برهة- أي عن تسليمه, وموته وقيامته.

"ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً". لم يفهموا ما يجري وهو يسكب قلبه أمام أبيه قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ". استسلامه لمشيئة الآب كان كاملاً، ولكنه سأله، إن أمكن أن توجد طريقة أخرى لخلاص الخطأة، أن يعلنها له.

"أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟" إذ رجع إلى الثلاثة, وجدهم جميعاً نيام, فقد غلبهم حزنهم عليه. لقد وبَّخ بطرس بلطف بسبب عدم سهره, ذاك الذي كان قد تحدث عن محبته وإخلاصه بقوة (يوحنا ١٣: ٣٧).

"الرُّوحُ نَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ". لقد أدرك يسوع إخلاص ومحبة أتباعه, ولكنه أيضاً أدرك ضعف القلب البشري, حتى عند أفضل القديسين؛ ولذلك فقد أمرهم أن "اسهروا وصلّوا" لئلا تأخذهم التجربة على حين غرّة. لقد التمس منهم أن يكونوا متيقظين ومحترسين وأن يطلبوا المعونة من الله لئلا يسقطوا في ساعة التجربة. لقد كان يعرف جيداً أنهم كانوا يرغبون في أنفسهم أن يكونوا صادقين مخلصين, ولكنه حذَّرهم أن ضعفهم كبشر سيبقى في الجسد.

"يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ". لقد كان استسلامه كاملاً لإرادة الله, مهما كانت الآلام والكرب الذي يعنيه هذا الاستسلام. لقد جاء إلى العالم لأجل هذا الهدف (عبرانيين ١٠: ٧؛ يوحنا ٤: ٣٤). ولم يكن لديه صراع في الإرادات. لقد كان يسوع يُذعن لكل ما كان يرضي الآب. مهما تكن مرارة الكأس, فإنه كان سيشربه إذا ما كان خلاص الخطاة الضالين سيتم على ذلك النحو.

"ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً". لم يدركوا ما كان يُعانيه من أجلهم, ولذلك أخفقوا في أن يسهروا معه في ساعة محنة نفسه. لقد كان ربنا إنساناً حقاً كما كان إلهاً حقاً, وكإنسان كان بحاجة ماسة إلى تعاطف البشر وتفهمهم. لقد كان يبحث عن بعض الإشفاق من قِبَل الناس (مزمور ٦٩: ٢٠). ولكن تلاميذه الأعزاء خيَّبوا ظنَّه, مُضيفين بذلك إلى حزنه وألمه.

دعونا نتمحَّصْ قلوبَنا حول مدى دخولنا إلى الشركة في آلام المسيح. هل نحن قادرون على أن نسهر وأن نصلي في هذا الوقت حيث يرذله العالم الشرير؟ ما من إنسان سيستطيع أن يصمد في لحظة التجربة الشديدة إن كان مُتكاسلاً وليس مُتيقظاً, أو إن كان مُتراخياً وليس مُصَلياً. لو أدركنا فقط أن عدم الصلاة هو خطيئة فعلية ضد الله كما اللعن أو الحلف, لأنها عصيان محض لكلمته, أفلن نكون في الحالة هذه منتبيهين أكثر لنستغل الفرص التي يُعطينا إياها لنستدرَّ من السماء النعمة التي نحتاج إليها في أوقات التجربة؟

"ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً". لقد كان هذا تعقيباً محزناً على طبيعة الإنسان البائسة الضعيفة, حتى عند أفضلهم, كما رأينا في هؤلاء الذين أحبوا يسوع حقاً ولكن لم يرتقوا إلى مستوى جدية الحدث.

"وَصَلَّى ثَالِثَةً". من جديد انحنى يسوع لوحده في الصلاة إلى الآب, في خضوع كامل, رغم أنه كان في نفس المقدسة منكمشاً من المحنة المريعة التي تنتظره- محنةٌ لا تستطيع قلوبنا البائسة أن تفهمها بكامل امتلائها لأنها صماء جداً بفعل الخطيئة.

"قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ". لقد كان سابقاً قد أدان التكرار الذي لا طائل تحته لأقوال لا فائدة منها (متى ٦: ٧). ولكنه بيَّن أن الصلاة الملحة يجب أن تكون وفق فكر الله (لوقا ١١: ٥- ١٠). وفي هذا هو مثال لنا وهو يعبِّر أمام الآب مراراً وتكراراً عن قلقه.

"نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا". في ترجمة أخرى ترد كلماته بجملة تعجبية: "نوم هنيء واستراحة!". وكانت هذه والخائن على مقربة. كم كان ضئيلاً فهمهم لجلال تلك الساعة من الاختبار! فبينما كانوا في غاية النعس، وغير مدركين للخطر المحدق بهم, دخل حراس الكهنة إلى البستان.

"هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»". لم يحاول أن يهرب أو ينجو. لقد أتت ساعته, وفي هدوء كامل انطلق يسوع ليقابل مُسَلِّمَهُ والحشدَ من الغوغاء الذين جاؤوا ليقبضوا عليه. لقد مرت المحنة والكرب. وغدا الآن رابط الجأش وهو يمضي طواعية, كشاةٍ تُساق إلى الذبح, ليلتقي بأولئك الذين كانوا يطلبونه ليهلكوه.

إن إذعان يسوع المطلَق لمشيئة الآب يظهر ساطعاً في كل هذه الخبرات الختامية, وبشكل خاص في الجثسيماني. بينما غمر نفسَه البشرية وروحَه الخوف لأنه سيصير ذبيحة الخطية العظيمة, وقد جُعِلَ خطيةً لأجلنا, إلا أنه, كما رأينا, كان في حالة خضوع كاملة للمشيئة الإلهية, وما كانت لديه أية فكرة في أن يتنحى أو يتراجع. هناك أغوار عميقة هنا لا تستطيع عقولنا أبداً أن تفهمها جيداً, ولكنها كلها تدل على كماله. لو لم يفكر جيداً بكل ما كانت تعنيه ذبيحة الصليب ويقبلها برباطة جأش لما كان إنساناً كاملاً. ولكنه عرف كل ذلك وأدرك أنه ما من طريق آخر يمكن أن يصير به رأس خلاصنا (عبرانيين ٢: ١٠), فواجه المحنة بدون وجع لكي يتمجد الله ويخلص البشر الخطاة من الدينونة.

معنى الكأس: إن الكأس لا تشير فقط إلى الموت أو الآلام الجسدية. فيسوع لم يُجفل من هذه. بل كان سخط الرب (يهوه) الشديد على الخطيئة, الذي ملأ تلك الكأس ليقدمها الآبُ إلى ابنه القدوس, هو الذي سبّب محنة نفسه المريرة تلك التي أثّرتْ على جسده حتى أن الدم كان يتصبب مع العرق مُرتشحاً من مسام جلده. قال البعض أن الكأس كان عبارة عن الخوف من أن يقتله الشيطان قبل أن يصل إلى الصليب, أو أن يُجنَّ بقدرة شيطانية فلا يستطيع أن يقدم نفسه طواعية ذبيحة عن الخطية؛ ولكن هذه اقتراحات تافهة, لا تأخذ بالحسبان حقيقة أن الشيطان ما كان ليمكن أن تكون له قدرة عليه إن لم يسمح الله بذلك, وما من شيء كان ليمكن أن يُنهي حياته ما لم يبذلها هو نفسه (يوحنا ١٠: ١٧, ١٨). لقد كان قد قيَّدَ القويَّ لتوه (متى ١٢: ٢٩), وما كان خائفاً منه في البستان.

كأس الغضب: يُذكر في العهد القديم. إنه محفوظ للأشرار (مزمور ١١: ٦)؛ إنه كأس الغضب الإلهي ضد الخطيئة (مز ٧٥: ٨)؛ إنه كأس الخوف (أشعياء ٥١: ١٧, ٢٢)؛ إنه كأس غضب يهوه (إرميا ٢٥: ١٥). كل ذلك, وغيره كثير, كان مشتملاً في الكأس التي كان على ربنا أن يشربه لكي ننال كأس الخلاص (مز ١١٦: ١٣).

"الموت واللعنة كانا في تلك الكأس,
أيها المسيح, لقد كان ممتلئاً لأجلك؛
ولكنك شربْتَه حتى القطرة الأخيرة,
فصار فارغاً الآن من أجلي".

      إن قداسة يسوع تُرى في انكماشه خوفاً من شرب كأس الدينونة, والذي يعني أن يأخذ مكان الخاطئ ويتحمل تبعة خطايانا وآثامنا (أشعياء ٥٣: ٥, ٦). بسبب طهارته اللا محدودة لم يستطع أن يفكر سوى في الخوف مما يعنيه أن يصير خطية لأجلنا- أي أن يصير المرموز إليه بذبيحة الخطية- لكي يقبل الله بسلام جميع أولئك الذين سينتفعون من حياته من خلال موته, والتبرير من خلال إدانته. وهذا ما يُسِّر محنته وحزنه, التي كانت دليلاً على كمال ناسوته بينما كان في خضوع تام لإرادة أبيه. لقد أظهرت الجثسيماني بشكل واضح أنه كان الحمل الصحيح الذي بلا عيب الذي كان دمُهُ ليُطهِّرَ من الخطيئة ويقي من الدينونة.

"إِنْ أَمْكَنَ". في الجثسيماني تمت تسوية مسألة الخطيئة مرة واحدة ونهائية إذ كان من المستحيل التكفير عن الخطية بأي شكل آخر سوى بذبيحة ابن الله تحديداً على الصليب. لو كان هناك أي طريقة أخرى يمكن حل القضية بها وإرضاء مطالب العدالة الإلهية، لكان ذلك قد كُشِف عندئذٍ، استجابةً لصلاة ربنا المبارك المثيرة للمشاعر. ولكن لم تكن هناك من وسيلة. لقد علَّق الرب كل البشر بالمسيح وعمله المنجز. ما من اسم آخر يُعطى (أعمال ٤: ١٢)، وما من طريقة أخرى معروفة (أعمال ١٣: ٣٨، ٣٩)، بها يمكن أن يتبرر الخطأة الآثمون أمام عرش الله.

دعوني أكرر: لم تتم تسوية مسألة الخطيئة وصنع الكفارة عن الإثم في الجثسيماني بل على الجلجثة. ولكن الألم والمحنة في البستان كانت إنما مقدمة للظلمة عند الصليب. من أجل كفارة بدلية استرضائية كافية ملائمة عن خطايانا، كان من الضروري أن يكون البديل إنساناً، بل أكثر من إنسان؛ وإلا فإن ذبيحته ما كانت لتكون ذات قيمة كافية كفدية عن الجميع. كان لا بد أن يكون إنساناً ليس للموت أو الدينونة مطالب أو تهم ضده؛ ومن هنا كان ذاك هو من تجرَّب وبرهن أنه بلا خطيئة على الإطلاق- ذاك الذي لم يخالف أبداً ناموس الله المقدس في الفكر أو القول أو الفعل. ولكن انعدام الخطيئة في يسوع نفسها تعلل المعاناة التي عاناها عند تفكّره في أن يصير خطيئة من أجلنا. لم تكن هناك صراع إرادات، على كل حال. لقد كان على استعداد لأن يحقق هدف الله مهما كلفه ذلك من ذاته.

إنه لأمر لافت للانتباه، ودليل على التصميم الإلهي في الكتاب المقدس، أنه يتم في الأناجيل الإزائية الثلاثة لفتُ انتباهنا إلى آلام المسيح في البستان، بينما لا يوجد أي ذكر لهذا في إنجيل يوحنا، كما وأنه لا يوجد في إنجيله أية كلمة حول تغير هيأته أو تمزق الحجاب عند موت يسوع. في الأناجيل الإزائية، نجد التركيز على إنسانية (ناسوت) ربنا. بينما في إنجيل يوحنا التركيز هو على جوهر لاهوته. المجد يُرى مشرقاً هناك، في كل حركة وعمل في حياته وفي كل كلمة نطق بها. كل شيء كامل، لأن الكتاب المقدس قد أُوحي به من الله (٢ تيموثاوس ٣: ١٦).

رواية القبض على يسوع في منتصف الليل تأتي بعد ذلك، حيث نسي جميع تلاميذه وعودهم ولاذوا بالفرار تاركينه لوحده.

"وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ. وَﭐلَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: «ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ». فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «ﭐلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟» حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟». فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. وَأَمَّا هَذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ». حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا" (الآيات ٤٧- ٥٦).

ما الذي كان يجول في فكر يهوذا وهو يقود خلسة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والحشد وهم يحملون سيوفاً وعصي (أي هراوات) إلى ما كان اللقاء حيث كان متأكداً أنه سيجد يسوع هناك وهو يصلي؟ لم يشعر بالقلق، إذ لم يكن لديه ضمير حي نشط، بل أظهر دليلاً واضحاً على عكس ذلك وهو يقود الجموع بصفاقة إلى حيث رأى يسوع واقفاً مع التلاميذ الثلاثة. كان قد أعطاهم علامةً قائلاً: "«ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ»". إن المرء يشعر بمدى رعب هذه اللحظة عندما يفكر بهذا العمل الشائن؛ ومع ذلك فإن هذا العمل يقدر عليه كل قلب مخادع بالطبيعة.

خطا يهوذا بوقاحة نحو يسوع، وهتف قائلاً: "«ﭐلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!»". وقبَّله مراراً، كما يشير النص الأصلي. أما يسوع فنظر إليه بهدوء وسأله: "«يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟»". ثم سمح لأعدائه بأن يضعوا أيديهم عليه ويعتقلوه.

وفجأةً، ومدفوعاً بمشاعره القوية، سحب أحد التلاميذ، والذي نعرف أنه بطرس سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة، وقطع أذنه. كان بطرس نائماً عندما كان يجب أن يكون مستيقظاً وساهراً في الصلاة. والآن، وحين كان يجب أن يكون هادئاً ومتيقناً، غدا مستثاراً ونشطاً. ولكن كان ذلك نشاط وانفعال الجسد. وشَرَطَ بسيفه فقطع أذن مالخوس، هذا الشخص الضئيل المسؤولية، من ناحية مسألة القبض على يسوع. ما من شيء كان ليمكن أن يحدث لتجنب الكارثة التي كان بطرس قد ارتعب منها بشكل واضح.

وبَّخه يسوع على حماقته، وأمره أن يردَّ سيفه إلى غمده. ما كانت هناك حاجة إلى الأسلحة الدنيوية لحماية أو الدفاع عن المسيح الله. كان يكفي ان يطلب من الآب أن يرسل اثني عشر جيشاً من الملائكة ليخلصوه؛ ولكن أنَّى للكتابات المقدسة عندئذٍ أن تتحقق، تلك التي سبق فأنبأت عن موته كبديلٍ عن البشر الخاطئين؟

وملتفتاً إلى الحشد المحيط به، سأل يسوع: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي". لقد ذكّرهم أنه كان موجوداً في كل يوم في الهيكل ويعلّم. فما كان هناك حاجة إلى هذه الغزوة الغريبة في منتصف الليل. ولكن في كل هذه الأشياء كانت تتحقق كلمة الله المعطاة عن طريق الأنبياء.

بينما سلّم نفسه بإذعان لهم غدا التلاميذ مصعوقين من الفزع وهرب الجميع من المكان. لو لم يكن قد سلّم نفسه طواعيةً لهذه المعاملة المهينة لكان أعداءه وقفوا عاجزين أمامه. ولكنه وضع نفسه في أيديهم لكيما تتم إرادة الله. لعلنا نرى في ذلك الخضوع تعبيراً عن محبته للآب ولأولئك الذين كان سيموت لأجلهم.

بدون اعتبار منهم، أو بتناسٍ لناموسهم نفسه، الذي كان يمنع محاكمة أي شخص متهم بأي جريمة بين ساعات الغروب والشروق، أولئك الذين اعتقلوا يسوع هرعوا به إلى بيت قيافا سريعاً قُبيلَ صياح الديك، التي تقابل الساعة الثالثة بعد منتصف الليل لدينا، حيث كانت مجموعة من قادة الشعب ينتظرون لكي يصدروا إدانة عاجلة بحقه. فتعليمه جعل الكثيرين يفقدون الثقة بسلطتهم ومصداقيتهم؛ وخافوا أن يكسب تبعية أكبر إن لم يُزاح من الطريق في العجل.

"وَﭐلَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ لَمْ يَجِدُوا. وَلَكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالاَ: «هَذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَأجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ». حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟»" (الآيات ٥٧- ٦٨).

انضم بطرس، الذي كان قد تعافى من خوفه الأولي، إلى الجماعة، فتبع يسوع على مبعدة ليرى كيف ستكون نهاية كل هذه الأحداث والإجراءات غير القانونية. ودخل إلى رواق قصر رئيس الكهنة، وجلس مع الخدام في موضع يستطيع منه أن يرى ما يحدث في الداخل.

استُدعيَ الشهود على عجل ليشهدوا ضد يسوع، وكانوا جميعاً على استعداد لأن يحلفوا يميناً كاذباً لكي ينالوا حظوة عند القادة في هذه المؤامرة على يسوع. ومع ذلك، لم تتفق شهاداتهم. وأخيراً جيءَ برجلين شهدا بأن يسوع كان قد قال في إحدى المناسبات: "إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ". إن نصف الحقيقة هو أكذوبة كاملة. كان يسوع قد قال شيئاً بدا مماثلاً لهذا، ولكنهم نقلوا كلماته بتحريف كامل للمعنى.

لم يحاول يسوع أن يدافع عن نفسه، فكان كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا، كما تنبأ أشعياء (أش ٥٣: ٧). لم يفتح فتهُ البتة. وهذا ما أغاظ قيافا حتى صرخ قائلاً: "«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟»". أما يسوع فلم يكلف نفسه عناء الرد إلى أن استحلفه رئيس الكهنة مناشداً إياه باسم الله الحي أن يقول فيما إذا كان هو المسيح ابن الله أم لا. عندئذ أعلن الرب بمهابة قائلاً: "أَنْتَ قُلْتَ!". أي، إن الحق هو ما تقول. "مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ". لقد كان هذا إعلاناً واضحاً وإيجابياً عن مسيانيته وألوهيته كونه الابن الأزلي الأبدي. بالنسبة لقيافا، كان هذا تجديفاً. ومتناسياً للتحذيرات التي وردت في الناموس والتي تمنع الكاهن من أن يمزق ثيابه (لاويين ٢١: ١٠) فقد شق رداءه إلى نصفين، دالاً بذلك على حقيقة لم يدركها بنفسه وهي أن كهنوته قد انتهى. فما عاد الله يعترف بكهنة النظام اللاوي. وبادعاء وقار عظيم وغيرة على الله اتهمَّ قيافا يسوع بالتجديف وقال أنه ما من حاجة إلى مزيد من الشهود. فاحتكم إلى بقية أعضاء المجلس قائلاً: "هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟". فأجابوا جميعاً: "«إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ»". في الواقع، كانوا لتوهم قد درسوا القضية وأدانوا المتهم.

بعد ذلك، وبطريقة لا خجل فيها على الإطلاق، هؤلاء الرجال، الذين كان يُفترض فيهم أن يكونا حراساً على حقوق الفقراء والمستضعفين، بدأوا يبصقون في وجه يسوع ويضربونه بإهانة فظيعة ويصفعونه بأيديهم ساخرين وقائلين: "«تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟»". ولم يجب بل كان يحتمل ذلك بصبر.

في هذه الأثناء، كان بطرس جالساً في باحة القصر، متحاشياً إبداء أية علامة على اهتمامه بهذا المتألم القدوس الذي كان يزدرون به.

"أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً خَارِجاً فِي الدَّارِ فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ». فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!» ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهَذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!» فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً" (الآيات ٦٩- ٧٥).

جاءت جارية، كانت تراقبه، بوقاحة نحو بطرس واتهمته بأنه كان مع يسوع الجليلي. وإذ أُخِذَ على غفلة، لم تكن لديه الشجاعة بأن يعترف بأن هذا كان صحيحٌ حقاً. بل بالعكس، أنكر أمامهم جميعاً، مصراً على أنه لا يعرف شيئاً عما كانت المرأة تقوله.

وإذ خرج إلى الدهليز، اعترضته خادمة صرخت قائلةً: "«وَهَذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!»". فأنكر أيضاً بأغلظ الأيمان بأنه يعرف الرجل الذي كان يتعرض لتلك المعاملة داخل القصر. وبعد ذلك زفع رجل صوته وقال: "«حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!»". إن لهجة بطرس الجليلية كشفته أمامهم جميعاً على أنه رجل من شمال البلاد. وإذ اضطرب وخاف كلياً، فَقَدَ بطرس سيطرته على نفسه وراح يلعن ويحلف، ومن جديد يقسم بأنه لم يكن يعرف الرجل (يسوع). بل حتى لم يذكر اسمه.

إلى أي عمق يمكن لابن الله أن ينحدر عندما لا يكون في شركة مع سيده ومعلمه بل يكون تحت سطوة الجسد!

وما أن نطق التلميذ البائس الناكر حتى أُجفِلَ لسماع صياح الديك. فتذكر الكلمات التي قالها يسوع. وإذ أدرك إخفاقه الفظيع، ترك الجماعة المتجمهرة هناك وخرج إلى العتمة وبكى بكاءً مراً. لقد كانت تلك دموع الإقرار بالجميل، لأنها تدل على عمل التجديد الذي بدأ في نفسه، "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ" (٢ كورنثوس ٧: ١٠)، وكانت هذه بداية الندم الحقيقي الذي ينشأ عنه تجدد كامل للنفس بعد أن يقوم يسوع من بين الأموات.

هناك فرق بين الارتداد والنكران أو فتور الحماس. كان يهوذا مرتداً. لم يعرف أبداً حقيقة الولادة الجديدة. ورغم كونه قد اختير كرسول فإنه كان شيطاناً (يوحنا ٦: ٧٠، ٧١). بالنسبة له لم يكن هناك مجال للشفاء. أما بطرس فنرى فيه نموذجاً للشخص المتواني المتراخي. لقد كان ابناً حقيقياً لله وقد أخفق بسبب ثقة بالنفس ونقص روح الصلاة عنه؛ ولكنه تجدد فيما بعد وصار شاهداً مخلصاً للمسيح. الارتداد هو التخلي عن الحق الذي يكون الشخص قد آمن به سابقاً. أما الفتور فهو النكوص الروحي عن خبرة كان المرء قد تمتع بها سابقاً. إن الفرق شاسع بين الأمرين. وأن نرى هذا التمييز بشكل واضح سيجنبنا الكثير من الالتباس وتشوش الفكر.


١. الخلاصيون: (Universalists): أفراد كنيسة بروتستانتيّة تقول بأن جميع الناس سينْعمون آخر الأمر بالخلاص [فريق الترجمة].

الأصحاح ٢٧

إدانة وموت الملك

بما أنه ما كان لليهود سلطة، في ظل نظام الحكم الروماني، أن يُنـزلوا عقوبةَ الإعدام بأحد، فما كانوا يستطيعون أن ينفذّوا الناموس اللاوي الذي كان يحكم على المجدّف بالموت (لاويين ٢٤: ١٥، ١٦)، إلا إن أخذوا الأمر على عاتقهم فتصرفوا بخلاف القانون المفروض عليهم من قِبَل الحكومة الرومانية، كما فعلوا فيما بعد في حالة استفانس، حين اتهموه، مثل معلّمه، بالتجديف (أعمال ٧: ٥٤- ٦٠).

في قضية يسوع، كان رؤساء الكهنة وبقية قادة الشعب تواقين لينقلوا مسؤولية موته إلى عاتق الرومان، وذلك خوفاً من أن ينقلب ضدهم في سخط أولئك الناس الذين كانوا قد سمعوا يسوع بسرور. ولذلك، وبعد أن أعلنوا أنه مستحق للموت، كانت خطوتهم التالية هي أن يأتوا به أمام بيلاطس القائم بالأعمال في اليهودية في ذلك الوقت.

"وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي" (الآيات ١- ٢).

ما أن سمحت الظروف حتى اقتيد يسوع، المكبل بالسلاسل، وأُحضِرَ إلى بلاط بيلاطس. ما من شك أن الحاكم كان قد عرف شيئاً عنه وعلى الأرجح أنه ظن أنه من الزيلوت (المتحمسين) غير المؤذيين لطائفة يهودية ما. والآن طُلِبَ إليه أن يصدر إدانة على يسوع لكونه محرضٌ على الفتنة، كان يحاول أن يحرض عامة الشعب على التمرد ضد روما وقبوله كملك عليهم بدلاً من قيصر.

في هذه النقطة المفصلية، ظهر يهوذا الخائن أمام رئيس الكهنة والشيوخ. كان ممتلئاً ندماً لأن الفعل الذي قام به بدأ يُثقل عليه. حاول كثيرون أن يعذروا يهوذا ويبرروا له على أساس أنه كان شديد التوق ليرى ملكوت المسيا مؤسساً، وأنه ظن بأن تسليم معلمه إلى تلك العصبة التي كانت تسعى إلى هلاكه، سيجعله (أي يسوع) يضطر للتصرف، إن صح القول، ويعلن نفسه في الحال ملكاً على اليهود. ولكن ليس من إشارة أو دليل على هذا في الكتاب المقدس؛ لا شيء ما عدا أن يهوذا يوصف بأنه رجل محب للمال، قد باع معلمه وربه لقاءَ ثلاثين من الفضة.

أما الآن وقد بدأ يُدرك المصير المرجح الذي ينتظر يسوع، فقد تملكه الخوف، وفي قلقه واضطرابه الفظيع، حاول، ولكن بعد فوات الأوان، أن يتراجع عن الصنيع المخيف الذي ارتكبه.

"حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ «حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ القَائِل: «وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»" (الآيات ٣- ١٠).

إن ندم يهوذا لم يكن بفعل إدانة ذاتية حقيقية بسبب الخطيئة التي ارتكبها. الكلمة المستخدمة هنا هي ليست الكلمة العادية التي تعني "تابَ" والتي تشتمل على تغير كامل في الذهن أو الموقف. بل إنها بالأحرى تعني "نادماً"، ولكن ليس كل ندم مرير يكون مترافقاً مع توبة حقيقية.

إذ أعاد الثلاثين من فضة إلى أولئك الذين أخذها منهم، قال يهوذا: "«قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً»". لقد كان يعرف جيداً قداسة وبر المسيح: فقد رافقه خلال نحو ثلاث سنوات أو أكثر، وكان يدرك أنه لم يكن هناك عيب في شخصه، أو أي شر في سلوكه.

فأجاب الكهنة ببرود: "«مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!»". هؤلاء المنافقون المراؤون قساةُ القلبِ أحكموا قبضتهم على فريستهم، كما ظنوا، وما عادوا مهتمين بحقيقة أو بعدم حقيقية التهم التي وجهوها إليه. لقد كانوا مصممين وموطدي العزم على إدانته.

وفي رعبه ويأسه ألقى يهوذا المال في الهيكل، واندفع خارجاً في نوبة جنون ومضى إلى بقعة منعزلة حيث انتحر بشنق نفسه. يذكر بطرس تفاصيل ليست موجودة هنا. فيخبرنا أن "هَذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا" (أعمال ١: ١٨). وإذا وضعنا الروايتين معاً نصل إلى استنتاج بأن ذلك البائس الذي كان على الأرجح بديناً، قد شنق نفسه إلى شجرة ما أو دعامة انكسرت تحت ثقل وزنه، فتمزق جسده من جراء السقوط إلى الأرض بالحالة التي وصفها بطرس بحسب استنتاجه. لقد كانت نهاية فظيعة ومأساوية بالفعل لحياة شخص كان قد وعد بأن يفعل الكثير.

كان الكهنة، وبدافع الحرص الشديد على الشكليات، قد ترددوا في وضع ثمن الدم في خزينة الهيكل، فقرروا بعد بعض التشاور أن يشتروا به حقل الخزاف- أي قطعة الأرض تلك التي كان يُستخرج منها الطين لصنع الآنية الفخارية؛ وهكذا فبهذه الطريقة يكون يهوذا نفسه قد اشترى حقاً الحقل بثمن المكافأة التي تلقاها على إثمه. هذه الأرض المقفرة كانت قد خُصِصت كمقبرة لدفن الغرباء الذين لا يمكن إعداد أي ترتيبات أخرى لدفنهم. وقد دُعِيَت باسم ذي مغزى، ألا وهو "حقل الدم"- تذكير دائم للصفقة الشائنة الشنيعة التي شارك فيها الكهنة ويهوذا.

طُرِحَت أسئلةٌ كثيرة تتعلق بالفهم الصحيح للآية ٩. في زكريا ١١: ١٣ نقرأ: "فَقَالَ لِي الرَّبُّ: [أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ]. فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ. رغم أن المقطع مشابه لما اقتُبِسَ هنا، إلا أنه ليس نفسه: "أَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»". ربما يكون هناك قد ارتكبه أحد الكتبة أو النُّساخ بالنسبة إلى اسم إرميا فكتبه بدون قصد بدلاً من زكريا، وهو يفكّر بنص كتابي آخر ربما كان ينسخه، يحكي عن زيارة إرميا إلى بيت الفخاري, وأن النساخ فيما بعد، وإذ وجدوا هذا الاسم في النص، اضطروا إلى الالتزام به دون تغييره. من جهة أخرى، قد لا تكون نبوءة زكريا تحديداً هي ما يُشار إليها هنا على الإطلاق، بل بالأحرى شيءٌ تناقله التقليد منسوبٌ لإرميا ولكنه كان شفويَّاً وليس مكتوباً.

يقترح ج. ن. داربي أن سفر زكريا كان يشكل جزءاً من درج يبدأ بنبوءة إرميا، ولذلك يحمل اسمه؛ ولذلك أمكن الحديث عنها كقول موجود في "إرميا". مهما يكن الأمر، لعله يمكننا أن نكون على يقين بأن ما من شيء هنا يُضعف موثوقية ومصداقية الكتابات المقدسة.

إذ نترك قصة يهوذا القذرة نعود من جديد إلى قصر بيلاطس لنرى ما سيؤول إليه مصير الأسير الذي أحضره رؤساء الكهنة أمامه.

"فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلاً: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ». وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟» فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدّاً. وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَاداً فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيراً وَاحِداً مَنْ أَرَادُوهُ. وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً" (الآيات ١١- ١٨).

في رده على سؤال الحاكم: "«أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»" أجاب يسوع في هدوء قائلاً: "«أَنْتَ تَقُولُ»". أي أنت تقول ما أنا. وهكذا  شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاِعْتِرَافِ الْحَسَنِ (١تبموثاوس ٦: ١٣). بينما لم يجب على الاتهامات الباطلة والحاقدة التي وجَّهها أعداؤه ضده، أعلن بدون تردد الحقيقة عندما خاطبه الوالي نفسه.

اندهش بيلاطس من الثقة الهادئة التي أبداها الرب. فما من اتهام كان ليُقلقه. ولم يحاول أن يدافع عن نفسه. إذ كان (بيلاطس) متأكداً في داخله بأن يسوع كان بريئاً من أي جرم، ومع ذلك يعرف الطبع العنيد الحقود عند مُتَّهميه والمُدَّعين عليه، فإنه حاول البحث عن طريقة ما يمكنه بها أن يطلق سراح يسوع، وفي نفس الوقت لا يُغضِب هؤلاء القادة الدينيين الماكرين عادمي الضمير. لقد كان وقت الفصح، وجرَت العادة منذ سنين- وكنوع من المحاباة لليهود- أن يُطلَق سراحُ أسير بارز ما من شعبهم. لو كانوا صادقين في اتهامهم ليسوع بالتحريض على الفتنة والعصيان، أفما كانوا ليقدّرون التغاضي عن التهمة وإعطاء الحرية للأسير؟ كان هناك متمرد عاصٍ آخر ينتظر حكم الإعدام في ذلك الوقت، وهو باراباس الذي كان قد قاد عصياناً مُسلَّحاً ضد الحكومة. وهكذا وضع بيلاطس الاسمين أمام الشعب المُحتشِد وسألهم: "«مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟»". كان كلاهما مُتَّهمان بنفس الجرم. فلماذا لا يُطلَقُ سراح يسوع إذا وهكذا يرضى الشعب؟

بينما كانت المسألة موضع جدال مُحتدم بين مُتَّهِمي يسوع والحشد الغوغاء الذي كان قد تجمع حولهم، وصلت رسالة إلى الحاكم من زوجته.

"وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: «إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ». وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. فَأَجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُم: «مَنْ مِنَ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ». قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» فَقَالَ الْوَالِي: «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: «لِيُصْلَبْ!»" (الآيات ١٩- ٢٣).

جعل تقليدُ الكنيسة من كلوديا بروكيولا، زوجة بيلاطس، قديسةً. تقول الأسطورة أنها كانت مُهتدية يهودية وقد صارت مؤمنة بيسوع. ولكن الكتاب المقدس لا يُخبرنا سوى ما هو مُدوَّن هنا. لقد أرسلت رسالة إلى زوجها المُرتبِك المحتار والأناني، طالبة منه ألا يُسيء إلى ذلك "البار" الذي تألّمت كثيراً من أجله في حُلمٍ.

لا نعلم عن رد فعل بيلاطس تجاه هذه، سوى أننا نجد أنه ظلَّ متردداً مُتفكِّراً في طريقةٍ ما يتخلص منها من الحكم في قضية يسوع, فيجد منفذاً قانونياً وتشريعياً يستطيع به أن يصل إلى تبرئة السجين أو العفو عنه. وهذا كان سيثير السخط الشديد عند المُدَّعين عليه الذين كانوا على الأغلب ومن المؤكد سيسعون بأي شكل من الأشكال وحتى النهاية لإهلاك الحاكم بتشويه موقفه أمام قيصر مُعتبرين إياه خادماً غير موثوق مُؤتَمن لروما، بسبب إخفاقه في القيام بواجبه فيما يتعلق بذاك المُدان بتهمة التحريض على الفتنة والعصيان.

فانتظر بيلاطس الناس أن يتخذوا قرارهم. مَن سيطلقون: يسوع أم باراباس؟ وسرعان ما جاء الجواب. إذ بتحريض من رؤساء الكهنة والشيوخ، أعطى الحشد أصواتهم بصخب لصالح باراباس.

فسأل بيلاطس بضعف: "فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟". هذا سؤال سيواجه كل إنسان آجلاً أم عاجلاً كلما تُنوقِلَتْ قصة يسوع.

صرخ الحشد بصوت واحدٍ: "ليُصلَب". وهكذا، ملك إسرائيل، الممسوح من الرب، قد رُفِضَ بشكلٍ قاطع؛ وبهذا، فللوقت الراهن، كل آمال اليهود قد زالت. فما عادت هناك إمكانية لملكوتٍ لهم لأن حاكمهم الشرعي قد رُفِضَ وقُتِلَ.

إذ أدرك عجزه عن معالجة هذا الحشد من المتديّنين المُحتدّين، طلب بيلاطس ماءً وغسل يديه بطريقة مسرحيةٍ درامية أمام الحشود، قائلاً: "«إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ»". ومع ذلك فقد كان هناك ممثلاً للعرش الإمبراطوري، وكان مسؤولاً عن إدانة المذنب وتبرئة البريء. كم كان إدراكه ضئيلاً عن أن اسمه سيُقدَّر له طوال الأيام أن يكون مُقترِناً بذاك المُتألِّم الصابر الذي أسلمه بدافع ضعفه إلى مُتَّهميه المُجحفين الظالمين. فملايين لا تُحصى لم تولد بعد كانت ستتلو على مر القرون القادمة أن: "أومن بإله..... وبابنه يسوع المسيح.... الذي صُلِبَ على عهد بيلاطس البنطي". ما كان لأي ماءٍ أبداً أن يُزيل لطخة دم ابن الله.

في طيشٍ وتهوّرٍ فظيع استنـزل اليهود لعنةً على أنفسهم إذ صرخوا قائلين: "دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا". وهكذا وجبَ على ذلك الشعب أن يتحمّل الكثير من الألم والمعاناة على مدى الأيام بسبب الخيار الذي اتّخذوه ذلك اليوم عندما فضّلوا قاتلاً على ذاك الذي جاء بالنعمة ليفتديهم. ولكن بالنسبة لهؤلاء، كما لكل شخصٍ آخر، إن تابوا وعادوا إلى الله فإن اللعنة يمكن تجاهلها بفضل شفاعة المخلِّص: "«يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»" (لوقا ٢٣: ٣٤).

مُستسلماً إلى مطالبهم، سلَّمَ بيلاطسُ يسوعَ إلى مشيئتهم، وحوَّله إلى الجنود، الذين أنـزلوا به المزيد من المعاملات المُهينة.

"حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً" (الآيات ٢٦- ٢٨).

وفقاً للعادة الفظيعة المُتَّبعة في ذلك الزمان أعطى بيلاطس أمراً بجلد يسوع- هذه الوسيلة التعذيبية القاسية التي كانت تشتمل على تمزيق جسده إلى أشلاء وهو يُجلَد بالسياط على ظهره العاري باستخدام سوط ذي تفرُّعات متعددة ثُبِّتت إلى أطرافها قطع من المعدن، فتحمم جسدُه سريعاً بدمه إن أمكننا القول حرفياً. ومع ذلك فما من كلمة توبيخٍ خرجت من شفتيه المقدستين. إذ كانوا يعلمون بأنه قد دِيْنَ بسبب إعلانه سابقاً بأنه ملك، نـزع الجنود عنه ثيابه الخارجية وألبسوه رداءً قرمزياً، ووضعوا إكليل شوك على رأسه، ثم راحوا ينحنون أمامه ساخرين.

"وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ نـزعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً اسْمُهُ سِمْعَانُ فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ." (الآيات ٢٩- ٣٢).

ما كانوا يدرون ما يفعلون، ولكن سلوكهم كان ذا مغزى وهم يضعون حلقة الشوك على جبينه الشاحب. عندما لعن الله الأرض بسبب خطيئة الإنسان جعل بذلك أشواكاً وحسكاً ينبتُ فيها (تكوين ٣: ١٨). الشوك هو ثمرُ اللعنة؛ وكان يسوع على وشك أن يُجعَل لعنةً لأجل أولئك الذين عاملوه على ذلك النحو الشديد من الدناءة ومن أجل كل البشر، وذلك حتى ينال الفداء من لعنة الناموس كلُّ مَن سيؤمن به.

كان الجنود السفهاء ينحنون أمام يسوع، الذي جعلوا في يده قصبةً كصولجان، وكانوا يهتفون بأصوات ساخرةٍ قائلين: "«ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!»". بالنسبة لهم، كان ذلك عبارة عن نكتة كبيرة، أن ذاك الأسير الحليم الخانع المغلوب على أمره كان ليتخيَّل نفسه أو يسمح لأتباعه بأن يفكّروا به كملك. ففي نظرهم لم يكن هناك شيءٌ من التفخيم الملوكي يحيط به: ولكن في عيني الإيمان لم يكن هناك أكثر منه ملوكيَّةً عندما تحمَّلَ هذه المعاملة السيئة من الخُطاة وقابلها بصبرٍ وخضوع مُقدَّس لمشيئة الآب.

بَصقَ الجنود على وجهه، كما فعل اليهود في بيت قيافا. كان اليهود والأمميون متساوين في رفضهم له.

عندما تعبوا من المعاملة الرديئة الخشنة والبذيئة له، نـزعوا عنه الرداء ووضعوا عليه ثيابه نفسه، ومضوا به ليصلبوه.

يقول التقليد، وليس الكتاب المقدس، أنه سقطَ تحت ثِقَل صليبه، وليس مرةً واحدة بل ثلاث مرات؛ ولكن لا يستند هذا الكلام إلى روايات مُدوَّنة موثوقة. وعلى كل حال، يبدو واضحاً أن قوته الجسدية كانت ضعيفة جداً بسبب فقدانه للدماء والمعاناة المُفرِطة التي بلغت من الشدة درجةً رأى فيها حتى الجنود القساة القلب أنه كان في حاجة إلى المساعدة لحمل الصليب؛ ولذلك فقد أمسكوا بسمعان القيرواني الذي صادف مروره من ذلك الطريق، وأجبروه على تقديم المساعدة. يا للامتياز الذي تمتع به سمعان! إننا ولا بدّ مُتيقِّنون بأنه قد قدَّرَ ذلك. قال المسيحيون الأوائل أن الشخصين ألكسندر وروفوس المذكور اسمهما على أنهما ابناه في مرقس ١٥: ٢١, قد صارا كلاهما من أتباع يسوع المتحمّسين، وأن أباهما أيضاً كان من الرفقة التي تبعته. إننا نرجو أن يكون هذا أكثر من مجرّد تقليد لا أساس له.

وأخيراً وصلوا إلى التلَّة الصغيرة خارج أسوار أورشليم التي كان يسمّيها اليهود "الجلجثة"؛ وفي اللاتينية ترد الكلمة بمعنى "موضع الجمجمة". وهناك تدور أحداث مأساة كل الدهور. هناك التقدمة التي إليها ترمز كل ذبائح العهد القديم تُقدَّمُ إلى الله من أجلنا.

"وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «ﭐقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هَذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ" (الآيات ٣٣- ٣٨).

لقد جرت العادة أن يُعطى المحكوم عليه بالموت صلباً شراباً مُخدِّراً ليُسهِّلَ عليه احتمال التعذيب المُخيف الذي كان سيمرُّ به. هكذا مشروب، والمكوَّن من النبيذ المُتخمِّر (أو الخلّ) الممزوج مع المرارة أو المرّ، قُدِّمَ ليسوع، ولكنِّه رفضه. ما كان ليرضى أن يتناول أي شيء قد يخدّرُ ذهنه أو يخفف الآلام التي كان سيحتملها.

تحت الصليب، قسمَ الجنود، الذين كانوا مسؤولين عن تنفيذ حكم الإعدام به، ثيابَه بينهم وألقوا قرعةً مراهنين عليها، إذ كان رداؤه طويلاً ليس فيه درزاتٌ (يُشد بحزام حول الخصر)، كما جاء في نبوءة داود التي نُطِقَ بها قبل ألفِ سنة (مز ٢٢:١٨). وخلال هذه الساعات الست راحت النبوءات تتحقق الواحدة تلو الأخرى.

إن الآية ٣٦ تمس قلوبَنا جميعاً: "ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ". فهذا الموقف لافت للانتباه. إذ أن هؤلاء الجنود القساة القلوب وغير المكترثين راحوا ينظرون بلا مبالاة إلى ذاك المعلّق على عود الصليب. لعله يمكننا أن نتخيل هذا المنظر الجليل، كيف أن ابن الله القدوس يتألم ألماً لا حد له على يد أناسٍ تعتمدُ حياتهم ذاتها على قوة قدرته. كم نتعلم لو أننا جلسنا هناك ننظر إليه وهو ينـزف دماً ويحتضر موتاً عن خطايا ليست له.

لقد كانت العادة أن يُشار بواسطة إعلان أو لافتة عن الجريمة التي كان يُعاقب عليها المرء. ولذلك فقد كان مع بيلاطس وثيقة مُعدَّة كُتِبَ عليها: "«هَذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ»". أي بمعنى أن (يسوع) قد صُلِبَ لتنصيب نفسه ملكاً في حركة تمرّد ضد قيصر.

صُلِبَ لصَّان مع يسوع، واحدٌ عن كلِّ جهة. وهكذا أُحصيَ مع الأثمة.

"وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانـزلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا». إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنـزلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ! قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللَّهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللَّهِ!». وَبِذَلِكَ أَيْضاً كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ" (الآيات ٣٩- ٤٤).

لم تكن قلوب أولئك العابرين تتأثر بألم الرب. لقد استمرّوا في الهزء به، رافعين من جديد الاتهامات القديمة وقائلين: "يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ خَلِّصْ نَفْسَكَ!". بل حتى تحدُّوه أن ينـزل عن الصليب إن كان حقاً ابن الله.

انضمَّ أصحاب المقامات الرفيعة إلى جوقة المزدرين والهازئين به؛ ومع ذلك فقد أقرُّوا بحقيقة عظيمة هم أنفسهم لم يفهموها عندما نطقوا بها: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا". لقد كان شاعرنا المسيحي على حق عندما كتب:

"ذاك الذي ما استطاع أن يخلّص نفسه؛
عليه أن يموت على الصليب،
وإلا فلن تأتي الرحمة،
إلى أولئك الخطاة على الإطلاق".

نظراً إلى معنى موته، فإن هؤلاء الكهنة والشيوخ تحدُّوا يسوع، كما فعلَ الحشد، طالبين منه أن ينـزل عن الصليب إن كان حقاً ملك إسرائيل. وأعلنوا أنهم سيؤمنون به في تلك الحالة. بل حتى اقتبسوا من المزمور ٢٢ وبدا وكأنهم يدركون المعنى بقولهم: "قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللَّهِ فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ!". كان قد قال أنه ابن الله. ودعوه لأن يُظهِر ذلك بأن ينـزل عن الصليب.

يقول اللصان نفس الأشياء، كما نقرأ. لا يُخبرنا متى عن التوبة التالية لأحدهما. ولنعرف عنها يجب أن ننتقل إلى رواية لوقا.

حتى هذا الوقت كانت قد مضت ثلاث ساعات، من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الثانية عشر ظهراً، وفيها تلقَّى يسوع العذاب على يد البشر. لم تكن هذه الآلام هي التي ستزيل الخطيئة. بضعة الآيات التالية تُوجز الأحداث المروّعة التي جرت في الساعات الثلاث الأخيرة، عندما احتمل غضب الله، كذبيحة إثمٍ عظيمة، فأمكنه أن يقول: "أرد الآن ما لم أختطف" (مز ٦٩: ٤).

"وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي» (أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا». وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا: «ﭐتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ»" (الآيات ٤٥- ٤٩).

ما من عقلٍ محدود يمكن أن يسبرَ غور أعماق المحنة والألم الذي غاصت إليهما نفسُ يسوع عندما انتشرت تلك الظلمة المخيفة على كل العالم. لقد كانت رمزاً إلى الظلمة الروحية التي دخلَ فيها كيسوع المسيح الإنسان وقد جُعِلَ خطيئةً لأجلنا لكيما نصبح برَّ الله فيه. فعندها ألقى الله عليه إثم جميعنا- فصارت نفسه ذبيحةً عن الخطيّة.

"سُمِعَ صوتُ العاصفة المدويَّة؛
أيها المسيح لقد هبَّتْ عليك.
قلبكَ المفتوح كان مقصدي؛
لقد احتملَ العاصفة من أجلي".

إن لدينا بعض الفهم لما يعنيه هذا له، عندما كانت العتمة تعبر، إذ نسمعه يصرخ: "إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟". كلُّ مؤمن يمكن أن يجيب: "كان ذلك لئلا أُنسى أبداً". لقد أخذ مكاننا واحتمل غضب الله الذي كانت تستحقه خطايانا. كانت هذه هي الكأس التي انقبضت نفسه بسببها في جثسيماني؛ والآن أُدنيَت إلى فمهِ، فشربها حتى الثمالة:

"كانت كأس مرٍّ ومرارة:
كانت كأس اللعنة؛ فاحتملها كلها؛
وصرخته كانت صرخة ألمٍ مرير،
عندما حملَ خطايانا".

بعضٌ من الذين سمعوا صرخة ألمهِ بالآرامية لم يعرفوا معنى كلماته؛

"إِيلِي إِيلِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟"، وظنوا أنه كان ينادي النبي إيليا طالباً منه العون. فهرع أحدهم وملأ إسفنجةً بالخل وقرَّبها إلى شفتيه لكي يشرب. وهذه اقتبلها. فقال آخرون بعدم اكتراث: "ﭐتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ". ولكن لم يكن هناك مَن يمكن أن يخلِّصَه؛ فقد كان لا بد له أن يحتمل آلام الموت لئلا نموت.

" فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ وَﭐلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: «حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ». وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي" (الآيات ٥٠- ٥٦).

عندما تمَّ كل ما أُعطيَ له ليفعله، صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ. ويخبرنا يوحنا بأنه قال: "قد تمَّ". ثم أسلمَ روحه. لم يمت من الإنهاك، بل بذل حياته طواعية عندما أتمَّ العمل الذي جاء لأجله.

أما حجاب الهيكل، الذي كان يفصل المقدس عن قُدْس الأقداس، فقد تمزَّقَ في الحال إلى نصفين، من الأعلى إلى الأسفل، فيد الله غير المنظورة مزّقت ذلك الستار رمزاً إلى أن الطريق إلى قدس الأقداس قد صارت الآن واضحةً جلية مستعلنة. فما عاد الله يسكن في الظلمة الكثيفة. إذ صار بمقدوره أن يخرج إلى الإنسان في النور؛ والإنسان، المُفتَدى بدم الكفّارة، صار بمقدوره أن يدخل بجرأةٍ إلى حضرة الله ذاته.

وحدثت أيضاً ظاهرة طبيعية معينة يذكرها متى وحده- زلزلة عظيمة، تشقُّق الصخور وانفتاح القبور. فالقديسون الذين كانت أجسادهم راقدة في القبور قد أُقيمت وخرجت من القبور بعد قيامته وظهرت لكثيرين.

قائد المئة الذي أُوكِلَت إليه مع فرقة الجنود مهمة حراسة الضحايا المصلوبين كان قد تأثر بكل ما رآه وسمعه حتى أنه امتلأ بالرهبة، فأعلن قائلاً: "حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ". لم يستخدم أداة تعريف عند ذكره لـ "ابن الله"، ولكنه، كمثل نبوخذ نصَّر في العهد القديم، الذي رأى الشخص الرابع الغامض في الأتون (دانيال ٣: ٢٥)، اقتنع بأن القدوس المتألم الذي مات لتوه على ذلك الصليب المتوسط كان أكثر من مجرد إنسان.

وعلى مبعدة، وبقلوب مليئة بمشاعر الحزن، كانت هناك العديدات من النساء المخلصات، اللواتي كنَّ صادقات في ولائهنَّ ليسوع حتى النهاية، رغم أنهن لم يستطعن أن يفهمن السبب وراء تركه ليتألم ويموت بلا عون. ومن بين هؤلاء كانت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأيضاً زوجة زبدي، أم يعقوب ويوحنا.

من الجدير بالملاحظة أنه طالما كان ربنا المبارك يأخذ مكان الخاطئ في الذبيحة البدلية التي قدم نفسه فيها لله، سُمِحَ لأعدائه أن يعاملوه بكل أنواع المعاملة السيئة المُخزية. ولكن من لحظة الدم والماء- اللذان كانا، مع الروح القدس، شهوداً على الفداء المُنجَز (١ يوحنا ٥: ٦، ٨)- اللذان سالا من جنبه المطعون، بدا الله وكأنه يقول: "ارفعوا أيديكم". فمن تلك اللحظة ما من يدٍ غير طاهرةٍ تلمس جسد ابنه القدوس. أنـزلَ أصدقاؤه المحبّون جسده عن الصليب، ولفّوه بالكتّان النقيّ الجديد، ووضعوه في فراش الطّيْب الذي كان نيقوديموس قد أرسله (يوحنا ١٩: ٣٩، ٤٠)، في القبر الجديد الذي ليوسف الذي من الرامة. لقد كان هذا دفناً ملوكياً (أنظر أخبار الأيام الثاني ١٦: ١٣، ١٤).

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. فَهَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ. فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ وَمَضَى. وَكَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ الْقَبْرِ" (الآيات ٥٧- ٦١).

"جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ". لقد كان واحداً من بضعة أولئك الذين كانوا ذوي ثروات وينتظرون الملكوت (متى ١٩: ٢٣، ٢٤؛ مرقس ١٥: ٤٣)، ولكنه ما كان قد أعلن صراحةً وعلانيةً نفسه تابعاً ليسوع، حتى الآن (يوحنا ١٩: ٣٨). لقد كان تلميذاً ليسوع بالسر، ولكنه برهن عن ولاء وشجاعة عندما جاء وقت الاختبار.

"فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ". وهكذا حُفِظَ جسد يسوع من المزيد من سوء المعاملة، وتحقق ما جاء في أشعياء ٥٣: ٩. فلا بد من أن يكون مع الأغنياء في موته.

"وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ". كما كانت عادة اليهود في الدفن، كان الجسد يُلفُّ كلياً بالطول، بقماش كتّاني، ولا يُغطَّى ببساطة بكفن.

"دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ". كان الحجر يغطي كل المدخل وعلى الأرجح أنه كان كمثل حجر الرحى وملائماً للأخدود المشقوق في وجه الجرف الصخريّ.

"مََرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى". مريم المجدلية، التي كان قد أخرج منها سبع شياطين (لوقا ٨: ٢)، ومريم، أم يوسي (مرقس ١٥: ٤٧)، كانتا تنظران وتراقبان كل ما يجري، عسى أن تأتيا إلى القبر بعد أن يكون السبت قد مضى فيضمّخان على نحوٍ لائقٍ جسد ذاك الذي أحبتاه والذي عليه كانت كلُّ آمالهما، ولكنه كان الآن بارداً في الموت.

"وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ" (الآيات ٦٣- ٦٦).

"وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ". كان هذا مساء اليوم الذي مات فيه يسوع، وفق حساباتنا للوقت. ولكن بالنسبة لليهود، كان اليوم الجديد يبدأ بغروب الشمس. وهكذا فبعد الرابع عشر من نيسان مباشرةً، وما أن بدأ المساء الذي يُدخلنا في اليوم الخامس عشر من الشهر، هرعَ الفريسيون والآخرون إلى بيلاطس ليرفعوا إليه مطلبهم.

"قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ". غريبٌ أن هؤلاء، وهم أعداؤه، قد تذكروا ما نسيَ تلاميذهُ أنفسهم. هذا دليلٌ على أن ما تنبَّأ به قد صار معروفاً جيداً.

"فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ". ما كانوا ليتركوا مجالاً للصُدف أو للمخاطرة. لقد كانوا يدركون أنهم ولو تركوا فسحةً صغيرةً لنشر إشاعةٍ بأن يسوع قد حقق وعدهم، فإن محاولاتهم تدمير آثار تعليمه ستكون بلا طائل. إن اختفاء جسده من قبر يوسف الجديد سيكون، في تقديرهم، مأساةً كارثية، وسيقبله كثيرون كدليل على قيامته. ولذلك فقد كانوا يخافون أن يرتب تلاميذه للسطو على القبر وإخفاء جسده؛ ومن هنا كانت أهمية إحباط أي محاولة كهذه فعلياً.

"اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ". لم يكن بيلاطس متملّقاً وحسب، بل حتى مستمتعاً بمخاوفهم وقلقهم. فأعطاهم كتيبة من الجنود الرومان وعيّنهم لحراسة القبر. كانت كلماته الصارمة اللهجة في أن يتأكدوا بأنفسهم من ذلك تبدو ساخرةً تهكّمية. سرعان ما عرفوا كم سيكونوا عاجزين وبلا حولٍ ولا قوة عندما تدق ساعة الله.

"فََمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ". كسر ذلك الختم كان ليكون جريمة من الدرجة الأولى، شعروا أنه ما من أحدٍ من التلاميذ سيجرؤ على محاولة القيام بها، والجنود الحرّاس سيضمنون عدم السماح لأي شخص بأن يسرق الجسد قبل انقضاء الأيام الثلاثة.

من الواضح أن إعلانه بأنه سيقوم ثانية في اليوم الثالث (٢٠: ١٩) قد تركَ انطباعاً قوياً على أذهان أعدائه أكثر منه على قلوب تلاميذه أنفسهم. رغم أنه كان قد ذكر ذلك في عدة مناسبات، فيبدو أنهم لم يفهموا معنى كلماته. وكانوا يتساءلون عما يمكن أن تعني القيامة من بين الأموات (مرقس ٩: ١٠، ٣١، ٣٢؛ لوقا ١٨: ٣٣، ٣٤). ولذلك، وحتى بعد صلبه ما كانوا يتوقعون أو يرتقبون قيامته (يوحنا ٢٠: ٩). ولكن قادة الشعب، الذين كانوا قد قاوموه بشدة فائقة، تذكّروا كلماته؛ وفي حين أنهم لم يتوقعوا أن تتحقق، كانوا يخشون أن يقوم التلاميذ عن طريق الخداع بشكل ما أن يقنعوا عامة الشعب الساذجين السريعي التصديق بأنه قد انتصر فعلاً على الموت؛ ومن هنا كان ذهابهم إلى بيلاطس وطلبهم اتّخاذ كل الحيطة والحذر لمنعهم اختفاء جسده من القبر. ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، فبرغم الختم للحجر، الذي كان يغلق مدخل القبر، ويقظة الحرس الرومان، دُحرِجَ الحجر وقام المخلِّص من بين الأموات وظهر لكثير من الناس المحترمين ذوي السمعة الحسنة، الذين شهدوا على حقيقة قيامته.

الأصحاح ٢٨

الملك القائم، والتفويض الملكي

في صباح عيد البواكير، وهو أول يوم في الأسبوع الذي يلي أول سبت بعد الفصح، قام يسوع من بين الأموات وصار باكورة للراقدين (لاويين ٢٣: ٩- ١٤؛ ١ كورنثوس ١٥: ٢٠، ٢٣).

إن قيامته هي الدليل على أن الفداء قد أُنجِز. لأنه كان راضٍ تماماً عن عمل ابنه، أقامه الله من بين الأموات (أعمال ٤: ٢) وأجلسه إلى يمينه، كنوع من الإقرار بأنه الرب والمسيح (أعمال ٢: ٣٣، ٣٦). لو لم يقم جسد الرب يسوع المسيح من القبر، لكان هذا دليل صامت على أنه كان إما مخادعاً أو مخدوعاً عندما أعلن أنه كان سيبذل حياته فديةً عن كثيرين (٢٠: ٢٨). لولا القيامة لكان ببساطة مجرد شهيد آخر في سبيل ما آمن أنه الحقيقة، أو شهيد طموحاته الشخصية. ولكن قيامته، بالتوافق مع ما تنبأ به بأنها ستكون في اليوم الثالث، أكدت أقواله وأثبتت أن موته كان بالفعل كفارة عن الخطية وأن الله قد قبلها على هذا النحو.

على الجلجثة، كما رأينا، أخذ الرب يسوع المسيح مكان خاطئ واحتمل الدينونة التي كنا نستحقها. تلك الدينونة كانت تشتمل على انفصال الخاطئ الشرير أبدياً عن الله. وإذ جُعِلَ خطيئة، صرخ الرب يسوع إلى الله قائلاً: "لماذا تركتني؟" بما أنه غير محدود ونحن إنما محدودين، كانت ذبيحته وآلامه كفارة كافية وافية عن خطايا العالم. عندما صُنِعت الكفارة، تعين على الله الآب أن يعيد يسوع من بين الأموات، مُبرئاً إياه بذلك على نحو كامل من أي تهمة بخلل أو إخفاق شخصي يتسبب في جعله "مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولاً" (أشعياء ٥٣: ٤). كل آلامه الكفارية كانت من أجلنا، وليست عقاباً بسبب سوء استحقاق منه. وفي إقامته من الموت، صادق الآب على كمال عمل ابنه.

قبر يسوع الفارغ هو شاهد صامت ولكن فعلي مؤثر على حقيقة قيامته. لو أمكن إيجاد جسه، لكان تلاميذه سيقتبلونه ويقدمون له مراسم دفن لائقة من جديد. وإن كان أعداءه قد أخرجوه، لكانوا قد عرضوه ولطبَّلوا وزمَّروا مقدمين إياه كدليل في نظرهم على أن تنبؤه- في أنه سيقوم في اليوم الثالث- لم يكن سوى أكذوبة تماماً. ولكن ما من صديق أو عدو أمكنه أن يحدد موضعه، لأن الله أقام ابنَه من الموت دلالةً على رضائِه الكامل عن الذبيحة التي قُدِمت على الصليب. كان القبر فارغاً في صباح يوم الرب الأول، ليس لأن التلاميذ كانوا قد جاؤوا ليلاً وسرقوا الجثمان بينما كان الجنود نيام، ولا لأن رؤساء الكهنة وجواسيسهم وحراسهم قد تجرأوا على كسر الختم الروماني على الحجر الذي كان يسد مدخل القبر المنحوت في الصخر، بل لأن يسوع كان قد حقق ما سبق فقال بأنهم إذا ما هدموا هيكل جسده، فإنه سيقيمه من جديد في ثلاثة أيام. إن فعل القيامة يُنسب إلى الآب (عبرانيين ١٣: ٢٠)، والابن (يوحنا ٢: ١٩- ٢١؛ ١٠: ١٧، ١٨)، والروح القدس (رومية ٨: ١١). لقد شارك الثالوث القدوس جميعهم في هذا الحادث المجيد، الأعجوبة الأسمى على مر الدهور، عندما قام ذاك الذي مات عن خطايانا لأجل تبريرنا. لم يدرك يوسف الذي من راما إلا قليلاً مقدار ذلك الشرف الذي سيكون له عندما أعد القبر الجديد الذي صار مسكناً لبضع ساعات لذلك الجسد الذي مات والذي يحيا الآن إلى الأبد.

"وَبَعْدَ السَّبْتِ عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: «لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَﭐذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا». فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لاَ تَخَافَا. اذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي»" (الآيات ١- ١٠).

"وَبَعْدَ السَّبْتِ". كان سبت اليهود قد انقضى الآن. وها هي حقبة جديدة على وشك أن تبدأ، وتتميز بيوم جديد. "عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ". ففي الصباح الباكر من اليوم الذي يلي السبت، ذهبت المريمتان "لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ"، وذلك لتطيبا الجسد الذين كان قد دُفِنَ على عجالةٍ في يوم موته.

"مَلاَك الرَّبِّ نـزلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ".  لم يكن ذلك الحجر قد دُحرِجَ ليسمح للرب القائم بالخروج، لأنه كان قد غادر القبر لتوه. فما من حواجز كانت لتعيقه في جسد قيامته. لقد فُتِحَ القبر من أجل السماح للنساء والتلاميذ بالدخول.

"وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ". الملائكة كائنات فائقة الطبيعة، أرواح صرفة، يتخذون هيئة بشرية عندما يشاؤون ويمكن أن يختفوا بشكل مفاجئ. إن عبارة "كالبرق" موحية وتعبر فعلاً عن أولئك الذين قيل عنهم أنهم كـ "لهيب نار" (عبرانيين ١: ٧).

"مِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ". في خوفهم لدى ظهور هذا الرسول السماوي، لاذَ الجنود الحراس الشديدوا البأس والقساة بالفرار عاجزين عن النظر إلى محيَّاه المخيفة.

"فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا". في محاولة لتهدئة مخاوف المرأتين، أعطى الملاك لهما الفهم بأنه كان يعرف مطلبهما بالضبط. ولكنه نقل لهما نبأً ساراً.

"لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لأَنَّهُ قَامَ". هذا أساس كل رجائنا. فليس صحيحاً، كما كتب آرلوند، أن جسد يسوع لا يزال راقداً في قبر سوري. إن القبر فارغ. "الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ" كان يحوي دليلاً صامتاً على قيامته من خلال الأَكْفَان المَوْضُوعَة التي كانت تلفّ جسده (يوحنا ٢٠: ٣- ٨). توجه انتباه المريمين إلى سرداب المدفن الفارغ، حيث كان ذلك الجسد الثمين قد رقد وكأنه في برودة الموت. ما من أيدٍ دنيوية رفعته أو نقلته. لقد قام يسوع في الساعة التي حددها الله وترك القبر مخلفاً إياه وراءه إلى الأبد.

"ﭐذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ". لقد كان امتيازاً لهاتين المرأتين التقيتين أن تكونا أول مبشرتين في الدهر التدبيري الجديد- أن تحملن النبأ السار بقيامة المخلص إلى التلاميذ المتألمين المحزونين بسبب عدم إيمانهم. قبل مضيه إلى الصليب، كان يسوع قد أخبرهم قائلاً: "بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ". وإلى مكان اللقاء هذا طلب يسوع من المرأتين أن تخبرا التلاميذ كي يذهبوا إلى هناك، وهكذا يلتقي الرب القائم بهم مجموعين.

"خَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ". المحبة والفرح منحا قدمي المرأتين أجنحة وهما تسارعان لنقل النبأ السار. لم يكن في فكرهما أي شك في حقيقة الرسالة التي نقلها الملاك.

"وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا»". لقد ظهر لهما بنفسه، وهكذا فليس لديهما الآن فقط كلمة الملاك ورؤية القبر الفارغ لتستندا عليه، بل أمكنهما أيضاً أن تشهدا بأنهما قد رأتا الرب نفسه في جسد قيامته، وهكذا تحول إيمانهما إلى شيء مرئي. أشار إليهما يسوع بأن تنقلا الخبر السار وأن تطلبا منهم أن يذهبوا إلى الجليل إلى اللقاء المعين، حيث كان قد وعد بأن يقابلهم.

وبينما كانت المرأتان تهرعان لنقل نبأ انتصار المسيح على الموت إلى التلاميذ، كان الجنود الرومان في حالة اضطراب وتشوش بسبب أحداث ذلك الصباح الباكر، وكانوا قد شقوا طريقهم إلى المدينة ليخبروا رؤساء الكهنة عما حدث.

"وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ الْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَاجْتَمَعُوا مَعَ الشُّيُوخِ وَتَشَاوَرُوا وَأَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: «قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ». فَأَخَذُوا الْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ فَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ" (الآيات ١١- ١٥).

ما من حدٍّ لمدى الخداع والحيلة الدنيئة عند المتعصبين الدينيين العازمين بإصرار على متابعة نهجهم حتى النهاية المريرة، مهما اقتضى الأمر. عندما شرح الجنود ما حدث، أولئك الكهنة، والشيوخ الذين انضموا إليهم، أشاروا على الجنود أن يقولوا بأن تلاميذ يسوع قد جاؤوا ليلاً، والجنود نيام، وسرقوا الجسد.

هكذا إقرار من قِبَل الجنود، لو كان صحيحاً لكان سيعرضهم إلى أقصى العقوبات، ولكن رؤساء الكهنة وعدوا بأن يتشفعوا لأجلهم إذا ما وصل النبأ إلى مسامع الوالي الحاكم. فأعطوا الجنود رشوة كبيرة ليضمنوا تعاونهم في المسألة. ولذلك انطلقوا وأشاعوا هذا الخبر كما قيل لهم، وشاع هذا القول، كما يقول متى، "إلى هذا اليوم".

"وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (الآيات ١٦- ٢٠).

"فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ". خلال أيامه الأخيرة مع تلاميذه، وبينما كانوا يقتربون من أورشليم، كان يسوع قد أخبرهم عن موته الوشيك وقيامته، وذكر جبلاً معيناً في الجليل كان سيلاقيهم فيه بعد أن يتم كل شيء (متى ٢٦: ٣٢؛ ٢٨: ٧؛ مرقس ١٦: ٧). رغم أنه ظهر قبلاً إلى أفراد ومجموعات متنوعة، إلا أنه في الجليل أظهر نفسَه "دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ" (١ كورنثوس ١٥: ٦). على الأقل، يتفق معظم النقاد والمفسرين في الرأي على أنه التقى أولاً بالأحد عشر تلميذاً في هذه المناسبة، قبل أن يتراءى للعدد الأكبر.

"سَجَدُوا لَهُ". عندما رأوه وعرفوا أنه كان حقاً المسيح المُقام الذي كانوا ينتظرونه، سجدوا له، عارفين أنه ابن الله وقد نهض من القبر منتصراً ظافراً (رومية ١: ٤). "وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا". يا له من دليل على الشر القيم الراسخ في قلب البشر! إن عدم الإيمان لا يمكن أن يُغلَب إلا بقوة الروح القدس. فمنذ برهة وجيزة كانت جماعة التلاميذ الصغيرة تلك كلها مؤمنة (مرقس ١٦: ١٤).؟ ولعل هذا يساعدنا على أن نفهم (مرقس ١٦: ١٧). لقد كان الوعد فقط للرسل المؤمنين أن آيات عجائبية ستتبع شهادتهم وتصادق عليها بالتالي.

"دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ (سلطةٍ) فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ". بما أنه المطيع، الذي وضع نفسه حتى موت الصليب، تمجَّد يسوع كإنسان من قِبَل الآب ورُفِّعَ إلى مكانة تسمو فوق كل الأشياء (فيلبي ٢: ٩- ١١). لقد أُقيم ابناً على بيته (عبرانيين ٣: ٦)، والذي له يخضع كل خدّام الله. إنه نفسه "المدير العام" للبرنامج الإرسالي للدهر الحالي.

"اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ". هذا يعطيهم التفويض الأساسي. الأمر هو بتعليم، أو بإعداد تلاميذ، من كل الأمم. العبارة "عمدّوهم" ثانوية. لم يُرسَلَوا ليعَمِّدوا، مع أهمية المعمودية، بل ليعلِّموا الأمم بطريق الحياة. وأولئك الذين يتلقون الكلمة سيُعمَّدون كتعبير خارجي عن إيمانهم.

لقد كانت صيغة المعمودية باسم الثالوث، كما كانت كرازتهم وتعليمهم- ليس بأسماء، بل باسم الآب، والابن، والروح القدس. كل أقنوم من الألوهية كان له دور ولا يزال في عمل الخلاص؛ ولذلك فجميعهم متميزون ويُقرُّ بهم في المعمودية المسيحية.  الآب أرسل الابن، الذي بذل حياته بقوة الروح الأبدي.

"جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ". خلال الأيام الأربعين بين قيامته وصعوده، كشف يسوع لتلاميذه البرنامج الذي كان يريدهم أن ينفذوه، وأعطاهم الوصايا التي كان عليهم أن يعلّموها إلى الناس في جميع الأمم (أعمال ١: ٢، ٣). "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ". فحضوره بالروح كان قد وَعَدَ به كلَّ من يحاول أن ينفّذ المأمورية التي فوضهم بها. "إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ". إن الكلمة الأخيرة هي "دهر". وهي تشير إلى العالم الزمني أكثر منه الكون المادي. وتحديداً، إن الدهر الذي كان يشير إليه لن ينتهي إلى أن يظهر في المجد ليؤسس ملكوته على كل أرجاء الأرض، ولكن زمن دعوة الكنيسة من العنصرة إلى الاختطاف مشتملٌ بالضرورة ضمن هذه الفترة بدلالة الكلمة "إلى". خلال كل الفترة منذ ساعة نطفه بهذه الكلمات وإلى بدء عهد الملكوت، يجب أن تتم الكرازة بالإنجيل، وروحه القدوس سيكون مع رسله المخلصين، ليمكِّنهم من إعلان الرسالة بقوة واقتدار من أجل بركة الجنس البشري.

إن "المأمورية العظمى" بأن يُتلمذوا العالم لا تُعطى مرة واحدة بشكل كلي إجمالي في أي من الأناجيل، إلا أن علينا أن نرى جميع المقاطع المرتبطة ببعضها في الأناجيل الإزائية الثلاثة وفي أعمال ١ لنحصل على تعليمات كاملة عنها. هناك جوانب مختلفة من التفويض يتم التركيز عليها في كل مكان. ومن ثم، وإضافة إلى ذلك، لدينا أمرُ الرب إلى الإثني عشر كما يتبين من يوحنا ٢٠. وهذه جميعها تتفق وتتوافق في ما يلي: أن مسؤولياتنا أن ننقل إنجيل النعمة إلى كل الناس في كل مكان، بينما ننتظر رجوع ربنا، بحسب وعده. من خلال طابع سياق إنجيل متى الذي يركز على الملك والملكوت، التفويض أو المأمورية المُعطاة هنا فيها بشكل خاص نظرة تهتم بالإتيان بجميع الأمم إلى الاعتراف بسلطان المسيح، وإعلان ولائهم بالمعمودية باسم الثالوث القدوس. بمعناها الكامل، لم تتحقق هذه المأمورية حتى الآن. ستكتمل بعد أن يكون عصر الكنيسة قد انقضى. وبقية تقية من اليهود ستحقق تعاليم وأوامر الرب تمهيداً لتأسيس الملكوت. ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولياتنا بأن ننفذها قدر الإمكان في الدهر الحالي. يؤكد مرقس على أهمية الإيمان من جهة أولئك الذين يحملون الرسالة، والتي كانت ستؤيدها "آيات تتبع". ويربط لوقا، في إنجيله وفي الأعمال، الذاتي بالموضوعي- التوبة من جهة الخاطئ، والغفران من جهة الله. ويؤكد يوحنا على سلطان المسيح القائم الذي يفوض خدامه بإعلان مغفرة الخطايا لكل الذين يؤمنون وإمساك الخطايا على أولئك الذين يرفضون الرسالة.

ولكن الجميع على حدٍ سواء يعلنون ضرورة وأهمية حمل الشهادة، وإعلان الإنجيل، إلى جميع أمم العالم بأسرع وقتٍ ممكن. ولكن للأسف، كم من المحزن أن نرى مدى إخفاق الكنيسة في هذا الجانب! إنه لمن المريع، بعد تسعة عشر قرناً من الكرازة بالإنجيل، أن هناك ملايين كثيرة من الرجال والنساء لا يزالون يقبعون في الظلمة وظلال الموت (أشعياء ٩: ٢) وهؤلاء لم يسمعوا أبداً باسم يسوع ولا يعرفون شيئاً عن الفداء الذي اشتراه بموته الكفاري على الصليب.

إن البرنامج الذي وضعه ربنا لم يُعدَّل ولم يُلغَ أبداً. لا يزال يشكل ما يسميه آيرون دوك (ويلنغتون) بـ "أوامر السير" للكنيسة- أوامر، تعرضت كثيراً للتجاهل من قِبَل الغالبية العظمى من المسيحيين المعترفين. لقد تميزت القرون الستة الأولى من الحقبة الحالية بحماسة كبيرة للعمل الإرسالي، في حين كانت كل الأمم أحياناً تُبدي حداً أدنى من الاعتراف الظاهري بالإيمان بالمسيح. ولكن السنوات الألف التي تلت، والتي تسميها روما "عصور الإيمان"، لم تكن تقدّم التعليم الصحيح للمسيحيين فأمكن بالحري اعتبارها "عصور الظلمة"، وقد تميزت بخسوف النشاط الإنجيلي الحقيقي بشكل كبير. مع الإصلاح البروتستانتي جاء اهتمامٌ جديد بالإرساليات، التي كان المورافيُّون سبَّاقون رُوَّاد فيها. وفيما بعد، وخلال القرن والنصف الماضيين، ظهرت يقظة عظيمة تنبَّهت إلى مسؤولية الكنيسة في تبشير المناطق البعيدة. وليس من عذرٍ اليوم إن كان هناك نقصٌ في المعلومات أو نقصٌ في الحماسة فيما يتعلق بالنشاط الإرسالي.

هناك بعضٌ ممن ينكرون أننا نحن الذين في عصر الكنيسة علينا أن نسلك بحسب هذا التفويض المُعطى هنا، بل يقولون أن الحديث هو عن شهادة يهودية في العهد الآتي من الضيقة العظيمة. ولكن هذا منتهى الوهم. إن حقيقة مسؤوليتنا في نقل قصة المحبة الفادية إلى كل الناس في كل مكان هي أكثر أهمية من أي مراوغة أو مواربة بخصوص طابع هذه المأمورية بالضبط. لقد أُعطي، ليس فقط للخُدَّام الرسميين أو للمُرسَلين المُعيَّنين بشكل خاص، بل لكل مؤمن بالرب يسوع المسيح أن يحاول أن يعرّف الآخرين به وهكذا يربح نفوس ثمينة كثيرة قدر الإمكان بينما نهار النعمة لا يزال مستمراً. هذا هو العمل الأول والأهم لكل عضوٍ في كنيسة الله الحي. الجميع مدعوون ليكونوا شهوداً، بحسب استطاعة كل منهم. إن واجبنا هو أن "نذهب" (الآية ١٩)، وأن "نطلب أو نصلي" (٩: ٣٨)، وأن نساعد في إطلاق (أعمال ١٣: ٣) ومؤازرة أولئك القادرين على أن يتركوا بيوتهم وأصدقاءهم وأقرباءهم مسارعين إلى الأصقاع البعيدة ليحملوا الإنجيل إلى تلك الأماكن (٣ يوحنا ٦- ٨). إن الأمر بتعليم أو تلمذة جميع الأمم لا يعني أن مسؤوليتنا هي أن نعلّم الوثنيين في الأمور الدنيوية. فهذا قد يأتي بنتيجة الخدمة الإرسالية، ولكنها ليست العمل الأسمى المطلوب من رسول الصليب. إنه لمن المحزن جداً أن الكثير من المال الإرسالي قد كُرِّسَ لتأسيس وصيانة واستمرارية المدارس والجامعات التي تحولت إلى أعداء لدودين لصليب المسيح. لو أن نفس المال والطاقة كُرِّسا للكرازة بالإنجيل، لكانت النتائج مختلفة جداً عن ذلك. إن التعليم في المدارس مهنةٌ جديرة بالثناء، ولكن يجب عدم خلطها بالشهادة للإنجيل، رغم أنه سيكون أمراً ساراً ومباركاً إن استطاع كل معلّم مدرسة أن يكون مُبشِّراً ببشرى النعمة.

إن تعليم وأوامر ربنا لم تتم إطاعتها على نحوٍ كامل، وإننا نعلم أن ليس كل الأمم ستقبل الرسالة في دهر النعمة هذا؛ ولكننا مُطالبون بأن نمضي باسم الله مثلث الأقانيم، ونعلن سلطان الملك القائم الذي يأمر جميع الناس أن يُذعنوا له بخضوع راضٍ سعيد، وهكذا يدخلون إلى السلام والبركة في حين أنهم ينتظرون عودته من السماء.

يختم متى إنجيله بإرسال الرب لرسله. ولا نقرأ (في إنجيل متى) بصعود المسيح هنا. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لأن تفويض الملك لسفرائه هو ما رغبَ الروح القدس بأن يركز عليه. المشهد الأخير الذي نراه فيه، هو أنه يوجّه ممثليه لأن يذهبوا إلى كل الأمم ويدعوا الرجال والنساء في كل مكان إلى الاعتراف به مخلِّصاً لهم والخضوع لإرادته.

عندما يتكلم الضابط الآمر، فإنه ليس على الجندي المخلص إلا أن يطيع. إن "رئيس جُنْدِ الرب" (يشوع ٥: ١٤) قال: "اذهبوا!". والأمر يعود لنا في أن نسلك بحسب أوامره. إن بركة الله كانت دائماً تحلُّ بكل شكل من الأشكال على الشخص أو الكنيسة التي لها فكرٌ إرسالي. وما من أحدٍ ضلَّ أبداً بإطاعته لأمرِ ربنا القائم.

عندما نقول أن هناك الكثير من الوثنيين في ديارنا الذين علينا أن نركّز انتباهنا عليهم بدلاً من أن نسعى وراء الضالين في الأراضي البعيدة، فإننا ننسى أن كل مَن في ديارنا يمكن إيصال الإنجيل إليهم بسهولة إن كنا مهتمين؛ في حين أن هناك شهداء لا حصرَ لعددهم يموتون في الأراضي الوثنية على يد أولئك الذين لم يعرفوا طريق الحياة، والذين لم يسمعوا أبداً بالكتاب المقدس أو ما يكشفه هذا الكتاب عن المخلِّص.

لم يكن هناك حياة إرسالية في الكنيسة الأولى لأن جسد المؤمنين كله كان يُفتَرض أن يكون مُشترِكاً في عمل تبشير العالم العظيم. وبالحري بعد أن فقدت الكنيسة بالإجمال هذه الرؤية تشكلت الهيئات لإثارة الاهتمام بالعمل الإرسالي ومتابعته وتحسينه.

إرسال رجال ونساء كمُرسَلين مُبشِّرين ممن ليست له خبرة مسيحية معينة هو حماقة من أردأ الأنواع. إن ذلك هو حال الأعمى الذي يقود عميان، فكلاهما يقع في الحفرة (١٥: ١٤). ما من أحد مُؤهَّل ليكون مُرسَلاً في الخارج ما لم يكن مُرسَلاً في الداخل في دياره. الرحلة البحرية عبر المحيط لا تصنع من أحدٍ مُرسَلاً. لا بد من أن يكون هناك محبة غرسها الله نحو النفوس الضالة قبل أن يكون المرء مستعداً ليمضي باسم المسيح لينقل الإنجيل إلى العالم الوثني. إحدى أهم البراهين على الاهتداء الحقيقي والإيمان بالمسيح هو الرغبة في جعله معروفاً للآخرين.

لطالما طُرِحَ السؤال: أين الحكمة في أن يسمع المرء الإنجيل مئات المرات في حين أن ملايين لم يسمعوا به ولو مرة واحدة؟ لعلنا اختبرنا هكذا تساؤلات، لأننا مدعوون لأن نكون سفراء للمسيح. هذا هو اللقب الذي يعطيه بولس لأولئك الذين يسعون لنشر تعاليم ربنا وتلمذة الأمم (٢ كورنثوس ٥: ٢٠). بينما ربنا نفسه شخصياً في السماء، جالساً إلى يمين العظمة الإلهية (عبرانيين ١: ٣)، فإننا مدعوون لأن نمثله في هذا العالم، فنذهب إلى المتمردين على سلطان إله السماء والأرض، وأن نناشدهم ليتصالحوا مع ذاك الذي أرسل ابنه في النعمة لكي تكون لكل الناس حياة وسلام به. إننا ممثلون عن المسيح غير مُخلِصين بالفعل إن أخفقنا في التجاوب مع الأمر الموجَّه إلينا، وإن سمحنا لإخوتنا البشر بأن يهلكوا في خطاياهم دون تحذير أو معرفة بطريق الحياة.

راعوث الغريبة

راعوث ١

"الرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ الْعُمْيِ. الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ" (مزمور ١٤٦: ٨، ٩).

من الآية الافتتاحية نعرف أن سفر راعوث يتناول الأحداث التي جرت "فِي أَيَّامِ حُكْمِ الْقُضَاةِ". من الآية الأخيرة في السفر السابق نعرف أن أيام حكم القضاة تميزت بأمرين: فأولاً، "لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ". وثانياً، "كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ".

إنها لأمرٌ خطيرٌ وصعبٌ تلك الحالة عندما يتخلى أي شعب عن حاكمه، إذ أن هكذا شعب سيكون بلا رأس يوجّهه أو سلطة تحكمه. وعندما تكون الحالة هكذا فإن كل إنسان يفعل ما يراه صواباً في عينيه وهذا يؤول إلى أنه ما من شيء صائب يحدث.

فقدان الملكية يؤدي إلى صعود الديمقراطية التي تؤدي إلى حكم الإرادة الذاتية، وهذا قد يرمي جانباً كلَّ قيود ويؤدي إلى التساهل مع كل أنواع الإنحرافات. تحت وطأة هذه الظروف كان شعب الله مسحوقاً في أيام القضاة. وللأسف، هذه الحالة المتردية المتدنية نجد نسخةً عنها في عالمنا اليوم وسط شعب الله المعترِف. نفسُ المبادئ نجدها فعالة ومؤثرةً ومؤديةً إلى نفس النتائج. إرادة الإنسان الذاتية، وتحرره من القيود، يجعله يرفض كل سلطة. إن الملكية تتلاشى أمام إرادة الشعب حيث يسعى كل إنسان ليفعل ما يراه صائباً في عينيه. الديمقراطية سلطة ضعيفة واهنة في كل دوائر الحياة. الناس يسعون ليحكموا بدلاً من الملك وممثليه: الناس يسعون ليحكموا بدلاً من المعلمين، والأطفال بدل الآباء. والنتيجة أن نظام العالم كله يصير فاسداً أخلاقياً وسرعان ما يسقط ويتحول إلى دمار وفوضى.

ولكن للأسف نفس المبادئ التي تأتي بالفوضى والشواش إلى العالم، نجدها فاعلةً وسط شعب الله، مع نفس النتائج المحزنة المؤسفة. ولذلك فإننا نجد أنهم هم أيضاً منقسمون ومبعثرون ومتفرقون، وعملية الانحلال لا تزال مستمرة. إن ممارسة الإرادة الذاتية تغلق الباب أمام سلطة الرب وإرشاد الرأس. وكما العالم كذا جمهور مسيحيين يفعلون ما يرون أنه صائب في أعينهم. هذه المبادئ كانت سائدة حتى في أيام الرسول بولس، ولذلك قد توجب عليه أن يحذّرَ القديسين من أن يكونوا في خطر عدم اتّباع الرأس، ويعترف بأسى أن "الْجَمِيع يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ".

في اللحظة التي نتوقف فيها عن أن نستمد كل معونتنا ومواردنا من المسيح، الرأس الصاعد لجسده الذي هو الكنيسة، في هذه اللحظة نتوقف عن أن نسلك تحت إرشاد الرب وتوجيه الروح القدس، فنبدأ بالقيام بما يحسن في أعيننا. قد لا نفعل ما هو خطأ أخلاقي في نظر العالم، ولكننا نكون فعالين في العمل، وربما مخلصين بشكل كامل؛ ولكن إن كانت مطالب الرب في نشاطاتنا وفعاليتنا، وتوجيه الرأس، موضع تجاهل، فإننا إنما نفعل إرادتنا الذاتية فيما هو صواب في أعين أنفسنا.

  النتيجة المُحزِنة للحالة المتردّية لإسرائيل نجد وصفها في الآية الافتتاحية من الأصحاح الأول هذا. فقد أدت إلى "جُوع فِي الأَرْضِ". في الأرض التي كان يُفترض أن تكون مكان وفرة في هذا العالم، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً- لم يكن هناك ما يكفي من المؤونة لسد حاجات شعب الله.

يا للأسف! نفسُ الشرور قد دخلت إلى العالم المسيحي وبنفس النتائج السيئة. فالمسيحيون ما عادوا ينظرون إلى الرأس أو يلتزمون به، وما عادوا يعطون الرب مكانته من السلطان، وقد شرعوا يفعلون ما يعتبرونه الأفضل في نظرهم، مشكّلين بذلك طوائف لا عدد لها فيها يتضور شعب الله جوعاً إلى الغذاء الروحي. بيت الله الذي يجب أن يكون مكان وفرة لكثيرين، قد صار في أيدي الناس مكان مجاعة وجوع.

١.

زمن الجوع يصبح زمناً للاختبار للمؤمن الفرد. إن المجاعة تختبر إيماننا. كان أليمالك في أرض الله مع بني إسرائيل. وكانت خيمةُ الاجتماع هناك؛ والكهنة كانوا هناك؛ والمذبح كان هناك. ولكن في طرق الرب التدبيرية مع شعبه، كانت المجاعة هناك أيضاً؛ وكان هذا اختبار أليمالك، فيما إذا كان سيثق بالله خلال المجاعة ويبقى في الطريق المحدد له من قبل الله رغم المجاعة؟ للأسف هذا الرجل من بيت لحم لم يكن أهلاً للامتحان. لقد كان مستعداً لأن يسكن في أرض الله منفصلاً عن الشعوب الأخرى في زمن الوفرة، ولكنه يهجر الأرض تحت وطأة ظروف المجاعة والجوع.

وهكذا ففي تاريخ الكنيسة، كان هناك كثيرون قانعين بأن يكونوا على ارتباط مع شعب الله، والشهادة للرب، عندما كان آلاف يهتدون، وعندما كان كل أولئك الذين يؤمنون بقلب واحد ونفس واحدة، وعندما كانت عليهم جميعاً "قوة عظيمة" و"نعمة عظيمة". ولكن عندما بدأ المسيحيون المعترفون بأن يفعلوا ما كان صائباً في أعينهم، عندما سعى الجميع ليقوموا بأمورهم الذاتية، وبولس الرسول العظيم كان في السجن، والبشارة كانت في بلوى، عندها ظهرت المجاعة بالفعل. ومع المجاعة جاء زمن الاختبار، وتحت وطأة اختبار الإيمان انهار كثيرون، حتى اضطر بولس إلى القول: "جَمِيعَ الَّذِينَ فِي أَسِيَّا ارْتَدُّوا عَنِّي" وأيضاً: "الْجَمِيع يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لأَنْفُسِهِمْ لاَ مَا هُوَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ".

حتى في يومنا هذا لا يمكننا أن نتجنب اختبار المجاعة. إن الله برحمته أنار من جديد كثيرين إلى الأساس الحقيقي الذي يستطيع شعبه أن يلتقي معاً على أساسه، وانجذب كثيرون بخدمة الكلمة وقبِلوا بفرحٍ طريقَ الفصل. ولكن عندما يأتي الاختبار، عندما تكون الأعداد قليلة، عندما يكون الضعف الخارجي ظاهراً متجلياً، وعندما لا يكون هناك سوى خدمة ضئيلة، عندها يجدون أن الطريقَ قويمٌ جداً بالنسبة لهم، والضعفَ ذو وطأة شديدة عليهم، والصراعَ شديدٌ للغاية. وتحت ضغط الظروف ينكرون المكانة التي هم فيها ويتيهون إلى مكان ما يختارونه من تلقاء أنفسهم يأملون به أن يجدوا مفراً من التجربة وراحةً من الصراع.

كان هذا هو الحال مع أليمالك. إن اسمه ذو مغزى مناسب جداً إذ يعني "الذي إلهه ملك". لعل والداه كانا تقيين، وأدركا أنه ليس هناك ملك في إسرائيل، فرغبا في أن يكون الله ملكاً على ابنهما. ولكن للأسف، كما هو الحال غالباً، فإننا لا نكون صادقين وأوفياء لأسمائنا. عندما جاء الاختبار أخفق أليمالك في إظهار الولاء والطاعة للملك. إن كان الله ملكاً فهو يستطيع أن يؤازر وأن يساند المؤمنين في أيام المحنة كما في أيام الوفرة والراحة؛ إن إيمان أليمالك لم يكن بمستوى الاعتراف الذي يوحي به اسمُه، وهكذا لم يكن مؤهلاً لضغط الظروف. ولذلك عندما وُضِعَ على المحك، فإنه أخذ طريق المرتدين، وليس هذا فقط، بل أن آخرين تنحوا جانباً أيضاً بسبب نقص إيمانه. ومن الطبيعي أن تتبعه زوجتُه وابناه.

أما وقد ترك أرض الرب، فإنه جال وتاه إلى مكان اختاره بنفسه. والأسوأ من ذلك، وإذ قد وصل إلى أرض موآب، فقد "استمر هناك". من السهل أن نستمر في مكان زائف أكثر من أن نقيم في المكان الصحيح الحقيقي. المكان الذي يختاره ذو مغزى. فالبلدان التي تحيط بأرض الموعد، كانت ترمز بلا شك إلى العالم بأشكال مختلفة. مصر تمثّل العالم بكنوزه من الثروة والمسرات الناتجة عن الخطيئة؛ وعلاوة على ذلك عبودية الشيطان التي سيستجرها ذلك السعي وراء المسرات. بابل كانت تمثل العالم في فساده الديني. تمثّل موآب أيضاً مظهراً مختلفاً من العالم. مغزاها الروحي يشير إليه النبي إرميا عندما يقول: "مُسْتَرِيحٌ مُوآبُ مُنْذُ صِبَاهُ وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى دُرْدِيِّهِ وَلَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ" (إرميا ٤٨: ١١). إن موآب تمثل حياة الراحة التي يسعى إليها المرء متقاعداً ومستريحاً من كل ارتباك، حيث ليس هناك سوى حركة ضئيلة، وتتدفق الحياة بدون تغيير كبير. إن استخدام التشبيه الاستعاري للنبي ليس فيه تفريغ من إناء إلى إناء. مصر، بمتعها الكبيرة، وبابل بدينها الفاسد، لم تكن تجتذب أليمالك. ولكن موآب بالراحة والخلوة والتقاعس الذي فيها، كانت تروق كثيراً له كمنفذ به يهرب من الصراع والتجربة. وبوجود المجاعة تبقى موآب الفخ الكبير لأولئك الذي قبلوا يوماً الله وصاروا شعباً له. في حضور المجاعة مثل هكذا إنسان يجد الصراعَ من أجل الحفاظ على طريق الانفصال مؤلماً جداً، والحركة المطردة المستمرة في الطريق تكون فاحصة جداً، فيتعرضون للإغواء للتخلي عن الكفاح الصالح للإيمان ويستقرون بهدوء في وادي موآب المنعزل الهادئ، ولا يعودوا ينتقلون من إناء إلى إناء، بل يركدون في أمورهم الذاتية. ولكن على مثال أليمالك علينا أن نتعلّم، وغالباً من خلال خبرة مؤلمة، النتيجة المريرة للإرتداد والإنغماس في المعاصي.

كما رأينا ، لم يأتِ أليمالك وحدُه فقط إلى موآب، مع زوجته وابنيه، بل إنهم "أقاموا هناك". لم يكن هناك شفاء لأليمالك. فبالنسبة له صارت أرض موآب وادي ظلال الموت. لقد سعى إلى تجنب الموت بالمجاعة في أرض يهوذا، فسار مباشرة إلى أذرع الموت في أرض موآب. الخطوة نفسها التي اتّخذها ليتحاشى الموتَ جلبتْ عليه الموت. إن الخطوة الخاطئة التي يتخذها المرء ليتجنب الإشكال والصعوبات تؤدي إلى الإشكالات والصعوبات التي نسعى إلى تحاشيها. إضافة إلى ذلك أن نطلب الراحة في هذا العالم، حتى في الأشياء التي ليس فيها خطأ أخلاقي، هو أن نطلب الراحة في الأشياء التي يأخذها الموتُ منا، أو التي نُؤْخَذُ منها بالموت. في أجمل مشاهد الأرض هناك ظل الموت. ولكن المسيح قائم، وما عاد للموت سطوة عليه، ومن الأفضل بكثير أن نكون مع المسيح القائم في مجاعة من أن نُحاط بوفرة هذا العالم في رفقة مع الموت .

يموت أليمالك. التأثيراتُ السيئة لخطوته الباطلة، لم تكن مقتصرة عليه. فنعمي- زوجتُه، وابناه قد تبعاه إلى موآب. وشكّل الابنان أحلافاً مع نسائهم من موآب، بعكس ناموس الرب. عشر سنوات تمر ثم يأخذُ الموتُ روحَ الابنين. أما نعمي، وإذ قد حُرِمَتْ من الزوج والأبناء، فإنها تُترك كأرملة معزولة وبلا أولاد في أرض غريبة. لقد جردها الرب ممن يخصّونها وأتى بها إلى الإقفار والأسى، ولكنه لم يتخَلَّ عنها. اليدُ التي ضربتْ هذه المرأة المبتلية المتفجعة بقوة حركها نفسَها قلبٌ محب. إن تأديب الرب يعد الطريق لتجددها واستعادتها.

٢.

إذا رأينا في أليمالك طريق الارتداد والتخاذل، فإننا نرى في نعمي طريق الإستعادة. بعيداً عن أرض الرب وبعد عشر سنوات طِوال، طلبت الراحةَ في أرض موآب فلم تجدْ سوى الألم والحزن. ولكن تأديبَ الرب أخيراً لها، أثَّرَ في حياتها كثيراً، وأتى بمفعوله، إذ نقرأ أن: "قَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ" (الآية ٦). ما الذي حفَّزها لكي تعود؟ أكان ذلك هو الآلام التي احتملَتْها والخسارات التي تعرضتْ لها؟ لا. بل النبأ السار عن نعمة الرب هو الذي أعادها. إذ عندما "سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزاً"، هنا "َقَامَتْ ..... وَرَجَعَتْ" (الآية ٦). إن الآلام لن تحركنا للعودة إلى الرب، رغم أنها قد تعلّمنا كم هو مر التجوال والتيهان بعيداً عن الله، وهكذا يعد القلب للإصغاء إلى النبأ السار المتعلق بالرب ونعمته نحو شعبه. لم يكن البؤس والحاجة أو العبودية المريرة أو خشونة الحياة والجوع في البلد البعيد هي ما أعاد الابن الضال إلى دياره، بل تذكّره للوفرة في بيت أبيه. والنعمة والرحمة في قلب الأب هي التي قادته إلى أن يقول: "أقوم وأمضي إلى أبي". لم يكن البؤس في ذلك البلد البعيد هو الذي قاده إلى العودة، بل رحمة قلب الله ونعمته هي التي اجتذبَتْه فعاد. وهكذا الحال مع نعمي، في أرض موآب، حيث أُخذ الجميع منها، فقد سمعت عن أرض يهوذا حيث كان الرب "يعطي" شعبَه. وبوجود الرب أمامها، رُفعت فوق كل إخفاقها ونهضت لتعود. وكما نرنم أحيانا:

"فكرة محبة يسوع،

ترفع قلوبنا البائسة فوق هذا العالم المتعب"

خطوتها الأولى في طريق العودة إلى الديار هي أن تتخلص من الرفقة الزائفة في موآب. "وَخَرَجَتْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ فِيه" (الآية ٧). وهذه الخطوة العملية نفسها كان لها تأثير مباشر على آخرين. إن كنتيها ذهبتا "معها". أن ننتقد مكاناً غير ملائم ومع ذلك نبقى فيه، سوف لن يكون له تأثير على الآخرين، إن كان المكان غير صحيح أو سليم فإن أول خطوة يجب أن تكون هي أن ننفصل عن هذا المكان الخطأ.

 هكذا كانت الحال مع نعمي. لقد انطلقت وكنَّتيها معها. لقد تركن رفقاء السوء وذهبن إلى المكان الصحيح المتاح أمامهن "وَسِرْنَ فِي الطَّرِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا".

٣.

يا للأسف، الانفصال عن المكان الساقط، وأن يكون لدينا مكان صحيح في نظرنا، سوف لن يدل بالضرورة على صدقية كل من يتصرف على هذا النحو. من بين هؤلاء النساء الثلاث كانت نعمي القديسة المترددة في طريق الإسترداد؛ لقد تميزت راعوث، الشاهدة على نعمة الله الفياضة الجديدة، بالإيمان وبالمشاعر المتكرسة المخلصة، وكانت عرفة مثالاً عن المعترف الفارغ ومع ذلك الذي لن يصل إلى أرض الموعد.

إن راعوث وعرفة كلتيهما تشكلان إقرارا بالتكرس الذي لدى نعمي. كلتاهما تعبران عن رغبتهما بمغادرة أرض والديهما، وكلتاهما تتوجهان نحو أرض الرب. ولكن، وكما دائماً، الاعترافُ يُوضَعُ على المحك. فتقول نُعْمِي: "اذْهَبَا ارْجِعَا كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا" (الآية ٨). لقد كانت لديهم الفرصة لكي يرجعوا. وهذا سيلقي ضوءً يبين إذا ما كان فكرهما متوافقاً مع اعترافهما الخارجي الظاهر. إن كانتا مدركتين وواعيتين لذلك البلد الذي خرجتا منه فقد كانت لديهما الفرصة للعودة (عبرانيين ١١: ١٥). وسرعان ما ينكشف فكر عرفة، فقلبها متشبث بأرض مولدها. وراعوث، كما سارة، سترغب "ببلد أفضل". ورغم ذلك، فإن عرفة تظهر إقراراً جميلاً، ولكنه مجرد إقرار وحسب. فمشاعرها كانت متأثرة بعمق، إذ رفعت صوتها وبكت (الآية٩):  لقد تأثّرت عاطفياً "فَقَبَّلَتْ.... حَمَاتَهَا" (الآية ١٤). لقد كانت كلماتها جميلة حين قالت: "إِنَّنَا نَرْجِعُ مَعَكِ إِلَى شَعْبِكِ" (الآية ١٠). إنه لأمر ذو مغزى، على كل حال، أن راعوث تذكر إله نعمي، ولكن مع عرفة ليس هناك سوى نعمي وشعب نعمي. وهكذا، ورغم ما قالته، ورغم دموعها، وقبلاتها، فإنها تدير ظهرها لنعمي، وإله نعمي، وأرض البركة، وتعود إلى "شعبها"، و"آلهتها"، وأرض ظل الموت.

٤.

كم هو مختلفٌ تاريخ أو قصة راعوث؛ إذ أنها تصبح الشاهدة على نعمة الله. تبدي راعوث أيضاً اعترافاً جيداً؛ وهي أيضاً تنطق بكلمات جميلة؛ هي أيضاً تأثرت بعمق، إذ أنها، مثل عرفة، رفعت صوتها وبكت. ولكن مع راعوث هناك أكثر من ذلك، إذ معها نجد "الأشياء التي ترافق الخلاص"، الإيمان، والمحبة، والرجاء (عبرانيين ٦: ٩-١٢).

مع عرفة كان هناك فقط التعبير الخارجي عن المحبة. لقد أمكنها أن تقبّل نعمي وأن تغادرها، تماماً كما نرى في زمان بعيد لاحق كيف أن يهوذا أمكنه أن يقبّل ويسلم الرب. لا يقال عن راعوث أنها قبّلت نعمي؛ ولكن إن لم يكن هناك تعبير خارجي عن المحبة فقد كانت هناك محبة حقيقية، إذ نقرأ: "وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا" (الآية ١٤). إن المحبة، إن كانت حقيقية، فلا يمكن أن تتخلّى عن المحبوب، ويجب أن تكون مترافقةً مع المحبوب، ولذلك تضيف راعوث قائلة: "لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ".

إضافة  إلى ذلك، فإن إيمانها يعادل مشاعرها. ففي اتقاد إيمانها تتغلب على اجتذاب أرض مولدها، وطن أمها، وشعبها، وآلهتها. وتقبل خوض طريق الحج، إذ تقول: "حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ". إنها تتمسّك بنصيب الإنسان الغريب، لأنها تقول: "حَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ". فتطابق بينها وبين شعب الله إذ تقول: "شَعْبُكِ شَعْبِي". وفوق كل شيء تضع ثقتها في الله الحقيقي، فهي لا تقول فقط: "شَعْبُكِ شَعْبِي"، بل تضيف قائلة: "إِلَهُكِ إِلَهِي". فالموت نفسه لا يمكن أن يعيدها إلى ديارها، إذ تقول: "حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ". فتوحّد ذاتها كلياً مع نُعمي، في الحياة وفي الممات، ومن هنا تقول أن شعب نعمي هم شعبها وأن إله نعمي هو إلهها. ففي تلك اللحظة ليس أمام ناظرها سوى امرأة عجوز مُحطَّمة الفؤاد واختارت أن تكون معها. فكما قال أحدهم، فإن راعوث ألقت قرعتها على نعمي "مُراهنةً عليها في ساعة ترمّلها، وتغرّبها وافتقارها".

بالنسبة لإنسان العالم المتعقل الحصيف، يبدو خيار راعوث حماقة. أن تترك اليسر في موآب، والراحة في الديار، ومسقط رأسها، وأن تسلك رحلة البرية التي لا تعرف عنها شيئاً، إلى أرض لم ترها إطلاقاً، في رفقة أرملة مبتلية بالفقر، يبدو بالفعل ذروة الحماقة. ولكن ما هذه إلا بداية القصة، والنهاية لم تأتِ بعد. لا يظهر حتى الآن كيف ستكون عليه الخاتمة. إن الإيمان يمكن أن يتخذ خطوته الأولى في ظروف الفقر والضعف، ولكن في النهاية سيتبرر الإيمان، وستكون له مكافأة مشرقة، في ظروف القوة والمجد. في بداية القصة نجد راعوث متعلقة قلبياً بالأرملة الوحيدة الطاعنة في السن؛ وفي النهاية تظهر لنا كعروس لبوعز المقتدر الغني؛ وفوق ذلك فإن اسمها تتناقله الأجيال ويكون لها مكانة في سلسلة نسب الرب.

موسى، في أيامه وبكل الأفضلية أو الميزات التي كان يمكن للطبيعة أن تمنحها، وبكل مجد هذا العالم الذي كان في قبضته، صار مثالاً ساطعاً عن هكذا إيمانٍ. إذ أدار ظهره إلى مُتَع الخطيئة وكنوز مصر، مُقدّراً أن خزي المسيح هو غنىً أعظم بكثير من كنوز مصر، فإنه تخلى عن العالم وكل أمجاده ليجد نفسه في مشهد البرية في صحبةٍ مع الشعب البائس الفقير والمتألم. كم كان ذلك التصرف يبدو حماقة كلية في نظر العالم! ولكن في عصره أمكن للإيمان أن يقول حقاً: "لم يبدُ بعد كما سيكون عليه". كان على الإيمان أن ينتظر ستة عشر قرناً قبل أن يبدأ بالظهور على ما سيكون عليه؛ وعندها يُسمح لنا بأن نرى موسى ظاهراً في المجد على جبل التجلي في رِفقة ابن الإنسان، تلك الرؤيا العابرة لمجدٍ لن يزول. وعندما يدخل موسى في نهاية الأمر إلى أمجاد الملكوت  الآتي برفقة ملك الملوك، فسيتجلى عندئذ أن أمجاد هذا العالم التي رفضها (موسى) كانت صغيرة جداً بالمقارنة مع المجد الأبدي العظيم الذي سيكون قد جناهُ.

وليس الحال هكذا في أيامنا. إن طريق الإيمان قد يبدو في نظر هذا العالم طريق حماقةٍ شديدة. أن ترفض مجدَ العالم- في أن تتطابق مع الشعب الله الفقير والمحتقر، وأن تمضي إلى المسيح خارج المحلة حاملاً خزيه- قد يبدو للعقل البشري، والنظر الطبيعي، جنوناً مطبقاً. ولكن الإيمان لا يزال يجيبنا قائلاً: "لم يبدُ بعد كما سيكون عليه". والإيمان يُقدِّر أن "خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً". وسينالُ الإيمانُ مكافأته المتألقة؛ فعندما يحل يوم المجد، في نهاية الأمر، ويصبح الإيمانُ منظوراً- عندما يأتي يوم زفاف الحمل العظيم- عندها سيظهر معه قديسوه الفقراء البائسون المحتَقَرون، كالعروس، عروس الحمل.

إضافة إلى ذلك، فإن الأشياء التي ترافق الخلاص- الإيمان والمحبة والرجاء، إن وُضِعت في التنفيذ فإنها ستؤدي إلى مسرَّة القلب. هكذا كان الحال مع راعوث؛ فلم يكن عندها تقدير للبلد الذي كانت تغادره، ولم تشعر بالأسف الفارغ. بل كانت "مُشَدِّدَة عَلَى الذَّهَابِ". وهكذا صار أن "ذَهَبَتَا كِلْتَاهُمَا حَتَّى دَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ". يحسن بنا نحن أيضاً، مدفوعين بالإيمان والمحبة والرجاء، أن ننسى الأشياء التي وراءنا، وأن نتطلَّع إلى الأمور التي أمامنا، ونسعى للحصول على المكافأة التي سيُقدِّمها لنا الله في الأعالي بالمسيح يسوع.

٥.

هذا الجزء من قصة راعوث يُختتم بشكل طبيعي باقتبال النفس المُسْتَرَدة المتجددة. لقد رأينا مرارة طريق المرتد وتعقّبْنا آثار طريق الرب الكريمة السمحة في التجديد والاسترداد. وعلينا الآن أن نتعلّم أن الجواب الصحيح على استعادة الرب لنا يوجد في القبول في شعب الرب. وبعيون تتجه نحو أرض الله وشعب الله، يحثُّ القديسُ المتجددُ والنفسُ المتجددة حديثاً الخُطى إلى أن يأتي إلى بيت لحم. وحدث عندما جاؤوا إلى بيت لحم أن "الْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ بِسَبَبِهِمَا". يا للأسف! علينا أن نقرّ أن هناك قوة ضئيلة للتجديد اليوم. أليس السبب هو ضعف الشغف والمحبة عند ونحو أولئك الذين يُخفِقون. إن القديسين يخفِقون، والشر يمكن رفضه، وصانع الإثم يمكن أن يتم التعامل معه على نحو صحيح، ولكننا قلّما "نتحرّك لأجلهم"، ولذلك ضئيلةٌ هي فرصة أن يجد المرتدُّ طريقَ العودة إلى شعب الله. إن العالم ملئ بالقلوب الحزينة والمنكسرة، والقديسين التائهين، ونادراً ما تتم استعادتهم أو تجددهم، وقلّما نتأثر بما يجري لهم.

ما من شيء سيُكمل عمل التجديد في النفس مثل الشغف والمحبة في القديسين نحو تلك النفس. لقد كان الحالُ هكذا مع نعمي. الاستقبالُ المُحِب الذي تلقّتْهُ يفتحُ قلبَها ويدفعها إلى الإقرار الجميل الذي يشهد على حقيقة تجددها.

١- إنها تقرّ بأنها ومهما أخفقت، فإن الرب لم يتخلَّ عنها. وفي حديثها عن أيام تيهها تعترف بأن "الْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي". ربما نتوقف عن التعامل مع الرب، ولكنه يحبنا جداً ولا ينقطع عن التعامل معنا. وهذا أمر حسن، فكما يقول الرسول (بولس): "إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ" (عبرانيين ١٢: ٧، ٨).

٢- تعترف نعمي بأنه إن تعامل معنا الله خلال ارتدادنا، فإن تعامله معنا سيكون مراً جداً، ولذلك فقد قالت أن الله تعامل معها "بمرارة". ومن هنا يذكِّرنا الرسول بولس أيضاً بأن "كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ" (عبرانيين ١٢: ١١).

٣- وتضع نعمي كلَّ اللوم على نفسها بسبب تيهها. فتقول: "ذَهَبْتُ" (أي خرجتُ). ونقرأ في القصة أنه "ذَهَبَ رَجُلٌ.... لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ"، ولكنها لا تنطق بأية كلمة إدانة لزوجها. فلا تلوم الآخرين، ولا تبرر لنفسها.

٤- إن كانت نعمي تلقي اللوم على نفسها في تيهانها، فإنها بحقٍ تنسب فضل تجديدها للرب. فيمكنها أن تقول: لقد "أَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ". أنا خرجتُ والرب أعادني. وعلى نفس المنوال أمكن لداود أن يقول: "يردُّ نفسي" (مزمور ٢٣: ٣). لعلنا نعتقد في لحظات ثقتنا بأنفسنا وإحساسنا بأهليتنا الذاتية أننا يمكن أن نعود إلى الرب عندما نفكر بشكل جيد، ولكن ما من مرتدٍ سيعود إلى الرب ما لم يعيدُه الربُّ إليه. لقد كانت صلاة الرب لبطرس قبل أن يخفق، ونظرة الرب له عندما أخفق، قد أثّرتا على قلب بطرس وقادتاه إلى التجدد. لقد تبعه بطرس من بعيد، وأخفق، ولكن الرب هو الذي أعاده إليه.

٥- إضافةً إلى ذلك، فإن نعمي لا تقول ببساطة أن الرب أعادها بل "أعادني الرب إلى البيت". عندما يعيدُ الربُّ النفسَ، فإنه إنما يعيدُها إلى كل الدفء والمحبة التي في دائرة البيت. عندما وجد الراعي الخروف الضال، أتى به إلى بيته ذاته. فكأنه كان يقول: "لا يليق لخروفي سوى بيتي على أقل تقدير".

٦- ومع ذلك، كانت لديها تلك الفكرة المؤثّرة التي جعلتها تقر بأن الرب هو الذي "أعادها إلى الديار". لقد "أَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً". إننا لا ننجز أي تقدم روحي في الأيام التي نكون فيها بعيدين تائهين عن الرب. إن الرب يتعامل معنا فعلياً ليخلِّصَنا من الكثير من المعوقات التي تعرقل تقدُّم النفس. وكما نعمي فإن علينا أن نقر: "إنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً". وكما الحال مع جميع الذين يضلّون أو يتيهون، كان على نعمي أن تعاني. وببركة عظيمة تمت استعادتُها؛ وبالحقيقة تعود إلى ديارها، شعب الرب وأرض الرب، ولكنها لا تستعيدُ أبداً زوجها أو ابنيها. لقد ذهبوا إلى الأبد. لقد كانت تسعى إلى الراحة واليسر والخلاص من العناء والصراع؛ فلم تجد سوى الموت والخسران. لقد عادت خاوية الوفاض.

٧- ولكن إن كان الرب يعيدنا فارغين، فإنه سيرجعنا إلى مكان وفرة. فهكذا كان الحال مع نعمي، إذ أنها استُرِدَّت "فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ".

كم يعزي قلوبَنا أن نعرف أنه إن أخفقنا في مشاعرنا نحو بعضنا البعض لن يكون هناك أي إخفاق مع الرب. فما هي إلا هنيهة ونجد الربَّ يعيدُ إلى الديار خروفَه الضال البائس، وما من أحد سيكون ضالاً أو مفقوداً في نهاية الأمر. وعندها، وفي بيت المحبة الأبدي، سوف نستمتع بكامل حصاد السماء العظيم- فستكون "بداية" حصاد بركة وسرور ليس له انقضاء.

راعوث لاقوطة الحصيد

راعوث ٢

"وَعِنْدَمَا تَحْصُدُونَ حَصِيدَ أرْضِكُمْ لا تُكَمِّلْ زَوَايَا حَقْلِكَ فِي الْحَصَادِ. وَلُقَاطَ حَصِيدِكَ لا تَلْتَقِطْ. وَكَرْمَكَ لا تُعَلِّلْهُ وَنِثَارَ كَرْمِكَ لا تَلْتَقِطْ. لِلْمِسْكِينِ وَالْغَرِيبِ تَتْرُكُهُ. أنَا الرَّبُّ الَهُكُمْ".

إن كانت بدايةُ قصة راعوث تصفٍ النعمةَ التي تخلِّصُ، فإن هذا الجزء يُظهرُ النعمةَ التي تؤازر وتغذّي. إن نعمة الله لا تؤتي لنا بالخلاص وحسب، بل، وإذ تكون قد فعلتْ ذلك، فإنها تعلّمنا أن نحيا باتزان واعتدال (في المأكل والمشرب) وأن نعيش ببر وبقداسة في هذا العالم الحاضر. وإذ نأتي تحت تعليم النعمة، فإننا سنحرز تقدماً روحياً. إن هذا هو النمو في النعمة، أو النمو الروحي الذي يُصَوّرُ بشكل جذّابٍ في هذا الأصحاح.

إنها لبركةٌ حقاً للمهتدي الجديد أن يبدأ حسناً بانقطاع ٍ محدد عن العالم وقبول طريق الإيمان في رفقة شعب الله. ولكن البداية الحسنة لا تكفي. إن كان علينا أن نحفظ أنفسنا في طريق الإيمان فيجب أن يكون هناك نمو في النعمة. يقول بطرس الرسول أنه إذا أراد المسيحيون أن يتمتعوا بـ "النِّعْمَة وَالسَّلاَم"، بكثرة، فعليهم أن يتمتعوا بكل الأشياء التي تلائم الحياة والقداسة، "هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ، وذلك فقط "بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا" (٢ بطرس ١: ٢- ٤). ولذلك فإنه يختم رسالته بأن يحرض المؤمنين على أن "انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (٢ بطرس ٣: ١٨).

إن المؤمنين في كورنثوس، ورغم أنهم بدأوا بداية جيدة، كانوا بطيئين في إحراز تقدم روحي. لقد كانت تعوقهم الدنيويات وحكمة هذا العالم. والغلاطيون أيضاً بدأوا بداية جيدة، إذ نجد بولس الرسول يقول لهم: "كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟" (غلاطية ٥: ٧). لقد أعاقتْهم الناموسية التي تأتّت عن اتباعهم لتعاليم خاطئة مضلّلة. ولذلك يبدو اليوم أن كثيرين يبدأون بداية جيدة ويعِدون الله بأن يكونوا مسيحيين مخلصين مكرسين، ولكن للأسف، فبعدَ برهة نجد أنهم لا يحرزونَ تقدماً كبيراً. إنهم لا ينمونَ في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. فيسقطونَ أمامَ وسائل الجذب التي في العالم ويصبحون دنيويين، أو يقعونَ تحت تأثير معلمين كذبة ويصبحون ناموسيين.

هذا الجزء من قصة راعوث سيكشفُ لنا أسرار النمو في النعمة. وفيما يلي دليلٌ على أن راعوث تُرى كحاصدة. في الآية ٢ نجدها تقول لنعمي: "دَعِينِي أَذْهَبْ إِلَى الْحَقْلِ وَأَلْتَقِطْ سَنَابِلَ". وفي الآية ٧ تقول للغلام: "دَعُونِي أَلْتَقِطْ وَأَجْمَعْ بَيْنَ الْحُزَمِ"، ومن جديد في الآية الأخيرة نعرف أنها "لاَزَمَتْ فَتَيَاتِ بُوعَزَ فِي الاِلْتِقَاطِ".

تُصوَّر راعوثُ عندئذ كحاصدة. ولكن ما هو المغزى الروحي من الحصاد؟ علينا أن نتذكر أن الأصحاح الأول ينتهي بإخبارنا بأنها كانت "في ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ". لقد وجدت نعمي وراعوث أنفسهما في وسط وفرةٍ. ولكن مهما كانت وفرة الحصاد فإنه قبل جمعه سيكون بلا فائدة من حيث إطعام الجائع. إن على الحصادين واللاقطين أن يقوموا بعملهم وإلا فإنهم سيموتون جوعاً وسطَ وفرةٍ. وبالحصاد أمَّنت راعوث حاجاتها الذاتية، وحاجات نعمي، وكانت هذه مؤونة وافرة قد وضعها بين أيديهم سيدُ الحصاد.

أفلا نرى الآن أن الحصاد الروحي يرمزُ إلى اقتبال المؤمن للبركات الروحية التي أعطاها لهُ الله بشكلٍ حق. في تاريخ إسرائيل أعطى الربُ ذلك الشعب الفرصة بأن يستقرَ في أرضٍ ذات وفرةٍ وذات امتداد شاسع، ومع ذلك فقد قال الله: "كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى". كان عليهم أن يتملكوا. وأمكنَ لبولس أيضاً أن يقول بكل ثقة أن المؤمنين يتباركون بكلِّ البركات الروحية في السماويات في المسيح، ولكن هذا ما كان يعيقهُ عن أن يُصلي لأن يكون هناك عمل خاص للروح القدس في الإنسان الداخلي، لكي يُدركَ المؤمنون ما عرض وطول وعمق وارتفاع كل هذه البركات الروحية.

لقد كان يوماً رائعاً في تاريخنا عندما دعانا الربُّ إليه، وعلِمْنا أن خطايانا كانت قد غُفرت، وخُتمنا بالروح القدس ولذلك فقد صرنا ملائمينَ لأن نصيرَ شركاء في نصيب القديسين في النور؛ ورغم أنه ما كان يمكن أن يكون هناك ملاءَمة في النمو مناسبة للمجد، ومع ذلك فإن الرسول بولس يسعى نحو النمو في المعرفة الحقة لله (كولوسي ١: ١٠). ومع ذلك، وللأسف، يا لنا من حصادين بؤساء تعساء. كم هو ضئيلٌ مدى دخولنا إلى غنى المسيح الذي لا حدَّ لهُ.

٢.

لماذا نحنُ حصادون بؤساء تعساء؟ ليس الأمر هو في أن ذلك الحصاد يتطلبُ شروطاً ليست موجودة لدينا دائماً. إن هذا يَظهرُ جلياً واضحاً عندما نلاحظ المواصفات التي جعلت راعوث حصّادةً رائعةً ممتازة.

فأولاً تميزت بروح التواضع والخضوع. إنها تقول لنعمي: "دعيني أذهب"، ومن جديد تقول للخدام: "دعوني ألتقط". لم تتصرف بشكلٍ منفصل عن الآخرين الذين كانوا أكبر منها سناً وأكثر منها خبرةً. لم تحتقر أي إرشاد أو توجيه أو استشارة. لم تُعانِ من إرادة منقسمة، تقودها لفعل ما تراهُ هي مناسباً في عينيها. أمكن لبطرس أن يقول: "كَذَلِكَ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ اخْضَعُوا لِلشُّيُوخِ، وَكُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِالتَّوَاضُعِ، لأَنَّ اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً" (١ بطرس ٥: ٥). إن الخضوع والتواضع مرتبطان معاً بروحِ الله. الإنسانُ المتعجرفُ المتكبر لا يحبُّ أن يخضع لأحد. والإرادةُ المنقسمة هي أعظمُ وأكبر عائق أمام النمو في النعمة.

ثانياً، تميزت راعوث بالكد والاجتهاد. فكما نقرأ في الآية ٧: "جَاءَتْ وَمَكَثَتْ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الآنَ. قَلِيلاً مَّا لَبِثَتْ فِي الْبَيْتِ". ومن جديد نقرأ في الآية ١٧ أنها "الْتَقَطَتْ فِي الْحَقْلِ إِلَى الْمَسَاءِ". أليسَ هناك نقصٌ كبيرٌ عند المؤمنين في الكد والاجتهاد في أمور الله؟ إننا نكدُ ونجهدُ كثيراً في أمور هذا العالم، ولكن، للأسف، أمورُ الرب تشغلُ فقط بضعة لحظات من حياتنا. هل نجتهدُ في دراسة الكلمة؟ هل نجتهدُ في الصلاة؟ قد ننشدُ أو نطلب أن لا تشغل المشقات أو المصاعب الكثير من حياتنا، ولكن السؤال لا يزالُ قائماً هو: كيف نمضي الوقت القصير المتوافر لدينا؟ في عبرانيين ٦: ١١ يحرض الكاتب (بولس الرسول) على الكد والاجتهاد ثم يضيف قائلاً: "لاَ تَكُونُوا مُتَبَاطِئِينَ بَلْ مُتَمَثِّلِينَ بِالَّذِينَ بِالإِيمَانِ وَالأَنَاةِ يَرِثُونَ الْمَوَاعِيدَ". إن كنا نرغبُ في الدخول إلى التمتع بميراثنا علينا أن نكونَ مجتهدينَ. قد نتيهُ قليلاً إذا ما أحرزنا تقدماً ضئيلاً في النفس عندما نجدُ وقتاً لنقرأ الأخبار اليومية، والأدب الخفيف في هذا العالم، ومع ذلك فإننا لا نجدُ وقتاً لنحصدَ الغنى الذي في كلمة الله المقدسة.

ثالثاً، كانت راعوث مثابرة. لم تكن مجتهدة في يوم ومتكاسلة في آخر، بل "لاَزَمَتْ فَتَيَاتِ بُوعَزَ فِي الاِلْتِقَاطِ حَتَّى انْتَهَى حَصَادُ الشَّعِيرِ وَحَصَادُ الْحِنْطَةِ". يوماً بعد يومٍ كانت تلتقط الحصيد إلى أن انتهى حَصَادُ الشَّعِيرِ وَحَصَادُ الْحِنْطَةِ. إن أهل بيريةَ لم يطرِ بولس عليهم بشكلٍ خاص لأنهم كانوا يفحصون الكلمة، بل لأنهم كانوا يفعلون ذلك كل يوم (أعمال ١٧: ١١). لعلهُ من السهل أن نجاهد أو نجتهد ليومٍ واحد، ولكن أن نجاهد يوماً بعد يوم يتطلبُ مثابرةً. "كل يوم" هي كلمةٌ صعبةٌ وتضعنا على المحك. قال الربُّ: ليحمل التلميذُ صليبَه كل يوم. إنه لأمرٌ سهلٌ نسبياً أن نبذلَ جهداً كبيراً لنقومَ بتضحيةٍ بطوليةٍ ما، ولكن أن نثابر على ذلك يوماً فيوماً متبعين المسيح هو المحك. ليسَ الإنسانُ الذي يبدأ بشكلٍ جيد هو الذي يفوزُ بالسباق بل هو الإنسانُ الذي يثابر ويستمر.

وأخيراً، نقرأ أن راعوث "خَبَطَتْ مَا الْتَقَطَتْهُ" (الآية ١٧). لا يكفي أن نلتقط الشعير والحنطة، بل يجب أن تُخبط. الحق الذي ندركه من خلال دراستنا الخاصة، أو من خدمة الآخرين، يجب أن تصبح موضوع صلاة وتأمل لنرى إذا ما كانت تساعد في النمو الروحي. إن الاكتفاء بمعرفة الحق سوف يؤدي إلى الانتفاخ. يجب أن نتمتع بها في شركة مع الرب إن أردنا أن تؤدي إلى المزيد من معرفة الرب.

ولذلك فلأجل الحصول على النمو الروحي يجب أن تكون النفس في حالة خضوع وكد واجتهاد ومثابرة وتأمل.

إضافة إلى ذلك، حالة نفس الفرد، ورغم أنها تأتي بالدرجة الأولى، إلا أنها ليست كل شيء. هناك المعونة التي نستمدها من آخرين تساعدنا على التقدم الروحي. وهذا نراه بشكلٍ مذهل واضح في الشخصيات المختلفة التي تمرُّ أمامنا في هذا الأصحاح. فنعمي، والخادمات، والحصّادون، والخادم المشرف على الحصّادين، وأخيراً بوعز الرجل المقتدر ذي الثروة، جميعهم يمرون أمامنا، ونرى في كلٍ منهم علاقة مع راعوث. بطرقٍ مختلفة يساعدونها جميعاً على أن تلتقط الحصاد، وفي ذلك نرى الطرق المختلفة التي يضعها المسيح أمامنا ليحث على النمو الروحي بالنعمة لشعبه المحبوب.

٣.

كانت نعمي تعرف بوعز منذ زمنٍ بعيد، وكانت تقدر أن تنصح وتعلم وترشد راعوث. وهكذا نجد الآن أولئك الذين ساروا مسافةً طويلة على الطريق، في علاقة مع المسيح؛ ورغم أنهم ربما أخفقوا كثيراً (مثل نعمي) فمع ذلك تأهلوا بالخبرة ليصيروا قادرين على أن يعلّموا ويرشدوا القديسين الأصغر سناً. لا تبدي نعمي موهبة إلا فيما ندر في التعليم أو الكرازة بل أولئك القديسين الطاعنين في السن، الذين نقرأ عنهم في الأصحاح الثاني من رسالة تيطس، الذين هم مثال للآخرين، "معلّمين للأمور الحسنة"، وقادرين على تقديم المشورة المحِبة للنساء الصغيرات السن. من روح هذه الآيات، نعمي، وإذ لا تجدُ صعوبات أو عراقيل في طريقها، تقول في الحال: "اذهبي يا ابنتي". إنها تشجع راعوث على هذا العمل السعيد. إضافة إلى ذلك، فلدى عودة راعوث من أعمالها تُدرك بسرورٍ تقدمها، إذ نقرأ "رَأَتْ حَمَاتُهَا مَا الْتَقَطَتْهُ" (الآية ١٨). وفوق ذلك فإنها تهتم بنفسها بتقدم راعوث، إذ تسألها: "أَيْنَ الْتَقَطْتِ الْيَوْمَ وَأَيْنَ اشْتَغَلْتِ" (الآية ١٩). أخيراً تُنير راعوث بما يخص بوعز وتقدم لها مشورة محِبة تتعلق بالتقاطها بالحصاد (الآيات ٢٠، ٢٢). لعلنا نفهم من روح سلوك نعمي ضرورة أن يُعنى القديسون الكبار بالأصغر سناً، وأن يشجعوهم، وأن ينتبهوا إلى تقدمهم الروحي، وأن يتابعوا فائدتهم الروحية، وأن يعلموهم في معرفة المسيح، وأن يرشدوهم فيما يخص التقاطهم الحصاد.

٤.

إن الفتيات الخادمات يساعدن أيضاً في عمل التقاط الحصاد السار هذا. نجدهن أمامنا في الآيات ٨، ٢٢ و ٢٣. إنهن الأصحاب اللواتي ترافقهن راعوث خلالَ عملها في التقاط الحصاد. أفلا يرمزون، صورياً، لتلك الرفقة السعيدة والشركة بين شعب الله الذين يساعدون جداً في الحث على النمو الروحي؟

يحذِّر بوعز راعوث قائلاً لها: "لاَ تَذْهَبِي لِتَلْتَقِطِي فِي حَقْلِ آخَرَ، وَأَيْضاً لاَ تَبْرَحِي مِنْ هَهُنَا، بَلْ هُنَا لاَزِمِي فَتَيَاتِي". هناكَ حقولٌ أخرى وفتياتٌ أخريات، ولكنهم غرباء بالنسبة لبوعز. سواء كنا حديثي الإيمان أم متقدمين في، يجدرُ بنا أن ننتبه إلى التحذير الذي يقدمهُ بوعز. ذلك لأن العالم يشكّلُ حقل جذبٍ ويمكن أن يقدم رفقة سارة في بعض الأحيان، ولكن حقول العالم الجميلة وصحبة العالم الفارغة التي لا طائل تحتها ليست من المسيح. في أيام الرسل لم يقدم العالم لهم سوى سجن، ولكن عندما أُطلق سراحهم ذهبوا إلى "رفقاءهم". بدافع الضرورة يجب علينا أن نتواصل مع أناس في العالم من خلال علاقات العمل وقضايا هذه الحياة، ولكن ليست هذه هي الحلقة التي نستمتعُ فيها بالصحبة الجميلة ونحرزُ تقدماً روحياً. هذا وحده يمكن أن نجدهُ في "جماعتنا الخاصة"، ألا وهي الصحبة مع شعب الرب. في أيام المسيحية الأولى، علاقة الصحبة والشركة بين الله وشعبه التي لا تنفصم نتجَ عنها "قوة عظيمة" و"نعمة كبيرة". في عبرانيين ١٠ يحضّنا بولس الرسول قائلاً: "لْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضاً لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ، بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَبِالأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ يَقْرُبُ". ليس القديسون هم مصدر الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ بل رفقة القديسين بالتأكيد هي التي تشجعُ على الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ. إن يوم دينونة هذا العالم يقترب، ولذلك فيحسن بنا أن نتشاركَ مع جماعة هذا العالم قليلاً، وأن نجد نصيبنا السعيد مع "فتيات بوعز"، أولئك الناس غير المنجسين الذين حافظوا على بياض ردائهم. وكلما اقترب النهار كلما دنونا أكثر من بعضنا البعض.

٥.

اللاقطون أيضاً يتشاركون في الخدمة مع راعوث. يمرون أمامنا في الآيات ٤، ٥- ٧، ٩ و ٢١. أولئك كانوا خدام لبوعز ويظهرون لنا بشكلٍ حيوي السمات التي يجب أن تميز خدام الرب الذين يكرسون أنفسهم للخدمة في مساعدة شعب الله.

إن الحاجة الضرورية الأولى بالنسبة لكل خادم للرب هو حضور الرب. ولذلك نجد أن بوعز يُحيّي اللاقطين عنده بالتحية الجميلة "الرَّبُّ مَعَكُمْ" (الآية ٤). وبنفس الروح نقرأ في الإنجيل: "وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ" (مرقس ١٦: ٢٠).

ثانياً، حتى تُنجز خدمة بوعز بشكلٍ فعّال يجب أن يكون هناك خضوع للخادم المشرف على اللاقطين. لسنا في حاجة فقط إلى الرب ليكون معنا، بل أيضاً لسيادة الروح القدس، الأقنوم الإلهي الذي يمثلهُ سبقياً الخادمُ الغفلُ الاسم (الآية ٥).

ثالثاً، اللاقطون يمضون أولاً وتتبعهم راعوث، وهكذا أمكنها القول: "دَعُونِي أَلْتَقِطْ وَأَجْمَعْ بَيْنَ الْحُزَمِ وَرَاءَ الْحَصَّادِينَ". يميز الكتاب المقدس أن هناك في وسط شعب الله من يقود الناسَ روحياً، أولئك الذين نقلوا إلينا كلمة الله والذين يشكِّلون مثالاً في الإيمان علينا نتبعهُ. فهؤلاء علينا أن نُطيع ولهؤلاء يجب أن نخضع، لأنهم يسهرون على أنفسنا (عبرانيين ١٣: ٧، ١٧).

رابعاً، هؤلاء الشبان- خدام بوعز- يستخرجون الماء من الآبار. لقد كان امتيازاً لراعوث أن تشربَ الماء ولكن مسؤولية استخراج الماء كانت تقع على الشبان. ليس الكل مدعوين أو مؤهلين ليستخرجوا ماءً من آبار الله العميقة، ولكن يمكن للجميع أن يشربوا من الماء عندما يوضعوا في آنيةٍ تلائمُ كفايتهم. إن الماء في البئر ليس في متناول الكثيرين؛ أما الماء في الآنية فمتاحٌ للجميع. ومن هنا كان الأمرُ لراعوث أن "اذْهَبِي إِلَى الآنِيَةِ وَاشْرَبِي". كانَ على تيموثاوس أن "يتأمل في هذه الأمور" لكي ينشغل بها كلياً. بالتأكيد كان هذا استخراج الماء من البئر. ولكن "فائدته" كانت في "إظهاره للجميع". كان هذا الماء في الآنية المتاح للجميع (١ تيموثاوس ٤: ١٥).

خامساً، لكي يكون اللاقطون مؤهلين لخدمتهم فإنهم يتلقون تعليمات محددة خاصة من معلمهم. "أَمَرَ بُوعَزُ غِلْمَانَهُ: «دَعُوهَا تَلْتَقِطْ بَيْنَ الْحُزَمِ أَيْضاً وَلاَ تُؤْذُوهَا. وَأَنْسِلُوا أَيْضاً لَهَا مِنَ الْحُزَمِ وَدَعُوهَا تَلْتَقِطْ وَلاَ تَنْتَهِرُوهَا»" (الآيات ١٥- ١٦). إن الحاجة الخاصة للأفراد تستدعي تعليمات وتوجيهات وإرشادات خاصة من الرب. يجب أن يكون الخادمُ قريباً جداً من المعلم أو السيد، خلال سير عمل الخدمة، لكي يعرف كيف يُلقي حفنة خاصة، لأجل حاجة خاصة، دون "توبيخ" وبدون "تأديب". إن الرب في هذه، كما في كل الأشياء الأخرى، هو مثلنا الأعلى الكامل. في يوم القيامة، عندما يبعثُ برسالة إلى بطرس بقوله: "اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ..." أما كانَ يُطلق بكمالٍ لا متناهٍ "حفنة قصدٍ" لخروفٍ ضالٍ بائس، بدون "توبيخ" وبدون "تأديب" (مرقس ١٦: ٧).

وأخيراً، جهدُ عمل اللاقطين سيُنهي الحصاد، إذ يأمرُ بوعز راعوث أن تلازم غلمانهُ، إلى أن "يكمِّلوا جميع حصادي" (الآية ٢١). وكما كان الحال مع خدام بوعز سيكون مع خدام الرب، إذ أن الرسول لجأ إلى الرجاء المجيد الموضوع أمامنا ليحثَّ الخدام في خدمتهم. "إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ" (١ كورنثوس ١٥: ٥٨).

٦.

خادمُ بوعز، المشرف على اللاقطين، لهُ مكانته أيضاً ودوره في تقدم راعوث في عملية التقاط الحصاد. إنه غُفل الاسم وقلّما يُرى ومع ذلك فهو خلف كواليس كل شيء، لصالح بوعز، فيتحكم بكل لاقطٍ وحاصدٍ في حقل بوعز. إضافة إلى ذلك، فإنه يوصلُ راعوث إلى اتصال مع بوعز، ويتحدث مع بوعز بشأن راعوث. إن الخادم أيضاً على توافقٍ كاملٍ مع فكر بوعز. إنه يطيعُ بوعز في الحق، ولكنهُ لا ينبس ببنت شفه بخصوص انتقاص قدرها، ويتوقع أن يوافقَ بوعز على تشجيع راعوث على الالتقاط في حقول بوعز. إنه يمثّل بالتأكيد أقنوم الروح القدس العظيم ذاك الذي جاء من قِبَل المسيح الممجد باسم المسيح ليُظهر اهتمامات المسيح. إنه ذاك الذي لا يتحدث من تلقاء ذاته، غير المنظور في العالم، ولكنهُ يسودُ ويتحكم بخدام الرب، وبعمله المجيد في النفوس يأتي بهم إلى المسيح. إنه ذاك الذي جاء إلى الأرض مُرسلاً من المسيح، والذي يفكرُ ويتصرفُ بتوافقٍ كاملٍ مع فكر وقلب الآب والابن.

٧.

نقول في نهاية الأمر أن بوعز يمثل المسيح من جهتين: أولاً في مجد شخصه وعمله، وثانياً في تعامله السمح معنا فرداً فرداً.

يتم تعريف بوعز شخصياً على أنهُ "ذو قرابة" و "رجلاً مقتدراً ذي ثروةٍ". إن كلمة "قريب" التي تُستخدم كثيراً في سفر راعوث، تُترجم في مكان آخر بكلمة "فادي" هذه الكلمة التي تُعطي الأهمية الحقيقية لخدمة القريب. فالقريب كان له الحق والقدرة على أن يفتدي أخاه وأرثَ أخيه، إذا ما وقعا في أيدي غريب.

بالسقوط فقدَ الإنسانُ كل حقٍ بإرثٍ أرضي، وصار نفسهُ تحتَ سلطان العدو، وكخاطئ أثيم مذنب صارَ عرضةً للموت والدينونة. ليس له قدرة على أن يفتدي نفسه أو أن يفتدي الأرض من سطوة الخطيئة والموت أو الشيطان. إنهُ في حاجة إلى فادٍ، شخصٍ لديه الحق والقوة أيضاً على الفداء. المسيح هو الفادي العظيم، الذي كان بوعز مجرد رمزٍ له. إنه يفتدي شعبهُ بدفع الثمن وبقوة. الثمن الذي دفعهُ كان دمهُ نفسه لأجلنا، "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ". إضافة إلى أنه افتدانا بقوةٍ، إذ لم يكن فقط بدمه المسفوك، بل أيضاً بالقيامة، فإنه أبطل قوة الموت والقبر. وإذ أننا قد افتُدينا بالدم، فإننا نترقب أن نُفتدى بالقوة، في تلك اللحظة عندما يُحرر كل هذه الأجساد الفانية من أي أثرٍ للفناء بتحويل أجساد مذلتنا، مُشكلاً إيانا على هيئة جسد مجده بحسب الأعمال التي بها يقدر أن يُخضع كل الأشياء لهُ. وأخيراً سيكون لنا الميراث- الممتلكات الباهظة الثمن التي اشتراها- والتي سيفتديها من سلطان الخطيئة والموت والشيطان، والتي سنتمتع بالشركة بها مع المسيح لمديح مجده (أفسس ١: ١٤).

٨.

إضافة إلى ذلك، لدينا في بوعز، ليس فقط إعلان مسبق عن أمجاد فادينا العظيم، بل كشفٌ جميل للطرق الرائعة التي يتعامل بها الرب معنا كأفراد. إنه امتياز لنا، ليس فقط في أن نعرف الحق عن شخصه وعمله، بل أيضاً أن نختبر تعاملاته الكريمة الرائعة التي يقودنا بها إلى معرفة نفسه. لو أن كل المؤمنين يسعون لعلاقة أكثر تحديداً مع المسيح سرياً- تاريخ علاقةٍ لا يمكنهم أن يقولوا الكثير عنها للآخرين- بل تكون معروفة للمسيح فقط وللنفس التي لا يتدخلُ فيها أي غريب.

لدينا ظل عن هذه التعاملات الشخصية مع النفس من خلال الطرق السمحة التي يتعامل بها بوعز الثري مع راعوث الغريبة.

هذه الطرق تتميز بالنعمة والحق، مستحضرة أمامنا ذاك الذي جاء بالنعمة والحق. في ضعفنا قد نظهر النعمة على حساب الحق، أو نحافظ على الحق على حساب النعمة. مع المسيح هناك هذا التعبير اللا متناهي عن النعمة مع المحافظة الكاملة على الحق.

بنعمة مؤثرة يضع بوعز كل ثرواته تحت تصرف الغريبة التي من يوآب- تلك التي، بحسب حرفية الناموس، ما كان يحق لها أن تدخل إلى جماعة الرب حتى الجيل العاشر (تثنية ٢٣: ٣). إن حقوله، وخادماته، وغلمانه، وآباره، وشعيره، كلها تحت تصرف راعوث. إن لها الحق بأن تبقى في حقوله، وتلازم فتياته، وتلتقط وراء غلمانه، وتشرب من بئره. إنه لا يقول شيئاً عن أصلها عن كونها غريبة أو عن فقرها. ولا يلومها ولو بكلمةٍ على الماضي، ولا يوجه أية تهديدات لها بخصوص المستقبل، ولا يلزمها بأي شيء حالياً، بل يقدم كل شيء لها بإنعام لا حدود له. وهكذا الحالُ من نواحٍ كثيرةٍ في تعامل المسيح مع الخطاة أمثالنا. إن النعمة تضع أفضل عطايا السماء في متناول المرأة عند بئر سيخار؛ النعمةُ أمرت سمك البحر من أجل رجل مليء بالخطيئة مثل بطرس؛ والنعمة تفتح فردوس الله للص المحتضر. وهكذا باركتنا النعمةُ بكل غنى المسيح الذي لا حد لهُ بدون أن نقدم مالاً أو ثمناً.

وبما أنَّنا نعرف جيداً غنى النعمة فلا يجب أن نعتّم لمعان الحقيقة. أجل، إن النعمة هي التي تستدعي الحق. ليسَ من داعٍ لأن يذكّر بوعز هذه الغريبة بأصلها الوضيع. فهي نفسها تقر بالحقيقة، ولكنَّ نعمة بوعز هي التي تستجرُّ الإقرار. تقعُ راعوث على وجهها أمام بوعز، فتمحو نفسها في إدراكٍ منها لعظمة الشخص الذي تحظر أمامه، ذاك الذي تدين له بكل بركة. ومن هنا جاءَ سؤالها: "كَيْفَ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ". إذ أنها لا تجد في ذاتها ما تستحقُّ عليه هذا الإنعام. وفي طبيعتها لا تجدُ أيَّ حق لها على بوعز، إذ تقر قائلة: "أنا غريبةٌ". وحدها في حضرة نعمة بوعز تُعطيه مكانته الحقيقية وتأخذ مكانها الحقيقي، وبذلك تُذكّرنا بأمثلة أخرى ساطعة عن طرق النعمة والحق في أيام ربنا.

إن أعلمت النعمة الخاطئة البائس بالعطية المجانية في الماء الحي الذي يفيض إلى حياةٍ أبدية، فإنها أيضاً تسترعي انتباههُ إلى الحق الذي فيها. كلمة يسوع تلك: "اذهبي وادعي رجلك" كانت تدلُّ على الحقيقة إذ يُخبرها بكل الأشياء التي فعلتها، وتلك الكلمة الأخرى "وتعالي إلى هنا"، كانت فيها نعمةٌ تُرحب بها بكل المحبة التي في قلب الله. لقد كشفت لها الحقيقةُ رداءة قلبها، ولكن النعمة كشفت لها قلباً يعرفُ كل الأشياء التي فعلتها ومع ذلك أمكن أن يحبها وأن يرحب بمجيئها إليه.

وهذا حدث في مناسبة أخرى، مع امرأة أخرى- تلك المرأة التي كانت غريبة مثل راعوث، المرأة الكنعانية- فمعها نرى عرض نفس طرق النعمة والحق. لقد كان التلاميذ ليحافظون على الحق على حساب النعمة. فقد قالوا: "أقصها بعيداً". ولكن الرب لا يفعل هذا، بل إنه لن يستغني عن النعمة على حساب الحق. ولذلك فإنه يتعامل معها بطريقة جعلت الحق يخرج من شفتيها، إذ تأتي إلى الإقرار قائلةً: "«نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا»". إنها تقر بالحقيقة بأنها مجرد كلب، ولكنها ترى النعمة في الرب الذي لن ينكر عليها الفتات الذي يقدم للكلاب. النعمة في الرب تقودها للإقرار بحقيقة ذاتها. فتنال مكافأة الإيمان، إذ أن الرب، الذي يسرُّ بهكذا رد على نعمته، يقول لها: "«يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ»" (متى ١٥: ٢١- ٢٨).

مباركة بالفعل تلك اللحظة من تاريخ حياتنا، عندما نكون وحدنا في حضرة الرب فندرك رداءة قلوبنا في حضور نعمة قلبه. فنتعزى في هكذا لحظات إذ نعرف أنه مهما كنا أردياء، فإن ثمة نعمة في قلبه تمحو كل ذلك.

فهذا ما جعل بوعز يعزّي قلب راعوث. فقد كانت قد أقرت بالحقيقة أن: "أَنَا غَرِيبَةٌ"، وكأن بوعز يقول لها أنه ليس من داعٍ لأن تخبريني شيئاً عنك، لأني أعرف كل شيء: "إِنَّنِي قَدْ أُخْبِرْتُ بِكُلِّ مَا فَعَلْتِ" (الآية ١١). ليس من بقايا خوف في فكرها في أن ينكشف يوم ما شيء من ماضيها يجعل بوعز يسترد عطايا النعمة. ومن هنا تنطلق الكلمات عفوية على شفتيها أن: "قَدْ عَزَّيْتَنِي، وَطَيَّبْتَ قَلْبَ جَارِيَتِكَ". ما من شيء يلمس الفؤاد على هذا النحو، فيكسب القلب، أو يعزيه، كمثلِ أن ندرك في حضرة الرب أنه يعرف كل شيء ومع ذلك يُحبنا.

٩.

على كل حال، هذا لا يختم هذا الجزء من قصة راعوث. لقد تبدت النعمة في بوعز، وأقرت راعوث بالحق، وهذا ما أتى بالسلام إلى الوجدان والمسرة إلى القلب بالفعل، ولكن ليس هذا كل شيء. إن بوعز ليس مكتفٍ بمنح التعزية إلى راعوث وتركها بقلبٍ ممتلىءٍ بالامتنان. وحتى لو كان هذا يرضي قلبها فإنه لن يرضي قلبه. إن كانت لا تتوقع بركات أكثر، فإنه كان لديه المزيد ليمنحه لها. ما كان بوعز ليقنع بدون صحبة تلك التي تحدث إلى قلبها. ولذلك قال: "تعالي إلى هنا". إذا تمعنا أكثر، ألا نجد أن الرب يتعامل معنا هكذا؟ إن كان يزيل مخاوفنا، ويتحدث إلى قلوبنا، ويمتلك مشاعرنا، فذلك لكي نكون في صحبة معه. إن المحبة لا ترتضي إلا برفقة المحبوب. ولهذه الغاية مات لكي نحيا معه بالكلية سواء كنا مستيقظين أم نائمين. فطوبى لنا إذا سمعنا وانتبهنا إلى دعوته الكريمة قائلاً: "تعالوا إليَّ".

وهذا ما حدث مع راعوث التي جالست جماعة من الناس ما كانت تعرفهم قبلاً. ولكن إذ "جلست قرب الحصادين" فإنها فعلت ذلك في صحبة بوعز، إذ نقرأ أنه: "ناولها فريكاً". طوبى لنا إذا جلسنا في رفقة شعب الله مدركين لحضور الرب نفسه. عندها بالفعل سنقتات من شعير الأرض. ومثلنا مثل راعوث سوف "نكتفي" و"نحتفظ بالبعض" (الآية ١٤). في حضوره تتغذى نفوسنا، وتشبع قلوبنا، وذلك القلب المكتفي سيجد امتلاءً فيعطي آخرين.

راعوث العروس

راعوث ٣ و راعوث ٤

"الرب إلهك في وسطك جبار يخلص. يبتهج بك فرحاً. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنم" (صفنيا ٣: ١٧).

الالتقاط، كما رأينا، هو الموضوع الأهم في الأصحاح الثاني. وما تبقى هو موضوع الأصحاحين الأخيرين. في الآية الافتتاحية من الأصحاح ٣، العبارة المستخدمة بما يخص راعوث هي: "يَا ابْنَتِي أَلاَ أَلْتَمِسُ لَكِ رَاحَةً لِيَكُونَ لَكِ خَيْرٌ". في الآية الختامية تستخدمُ بما يخص بوعز: "لأَنَّ الرَّجُلَ لاَ يَهْدَأُ حَتَّى يُتَمِّمَ الأَمْرَ الْيَوْمَ".

ما من شك أن هناك تقدم تدريجي في الحقائق المقدمة في الأصحاحات الأربع في سفر راعوث.

في راعوث ١، تمثل راعوث الإيمان، والمحبة والطاقة المكرسة لنفسٍ حديثة الاهتداء.

في راعوث ٢، تقدم راعوث صورة عن النمو في النعمة التي بها يحرز المؤمن نمواً روحياً.

في راعوث ٣، تسعى راعوث لراحة القلب التي وحدها تأتي بالرضا والإشباع إلى المؤمن.

في راعوث ٤، تجد راعوث الراحة مضمونة، وتصور الطريقة التي يتم الوصول بها إلى راحة الله بالنسبة للمسيح والمؤمن.

١.

الالتقاط في حقول بوعز، وتلقي البركات من يد بوعز، رغم أنه أمر سار وصحيح وحق، سوف لن يؤتي بالراحة والرضا الكاملين للقلب سواء لبوعز أو لراعوث. ما من شيء سيأتي بالراحة إلى القلب سوى الحصول على المحبوب. ولذلك ففي الأصحاح ٣ تسعى راعوث لتكسب بوعز، ويعمل بوعز لامتلاك راعوث. لا يمكن إرضاء الحب بدون تقدمات وهدايا، مهما كانت ثمينة؛ فيجب أن يكون هناك من يُعطي.

في تعاملته السابقة، أظهر بوعز نعمة وكرماً عجيبين مدهشين لراعوث. لقد وضع حقوله تحت تصرفها، إضافة إلى شعيره، وفتياته، وفتيانه. لقد أعطاها ماءً من بئره، وفريكاً من مائدته، وحفنات من المقاصد. ولكن كل هذه البركات لم تكن لترضي قلبها. لقد نالت ثقتها واجتذبت عواطفها. ولكن عندما تتحرك المشاعر فإنه ما من شيء يرضي القلب سوى تملك المحبوب. وهذا يصح على حد سواء في العلاقات الإلهية أو البشرية. إن النعمة والعطايا التي أضرم بها بوعز عواطف راعوث سوف لن تكون كافية لإرضاء هذه العواطف. بل تملك المبارك مانح الربكة وليس البركات هو ما يشبع القلب.

تلك هي طرق تعامل الرب مع المؤمنين. إنه يتعامل معنا لكي نرى أنه أعظم من كل البركات التي يمنحها. يا لسعادتنا عندما نعلم أن البركات بحد ذاتها لا ترضي. المسيح وحده يمكن أن يشبع القلب.

ألم يكن هذا هو الدرس الكبير الذي كان على بطرس أن يتعلمه في لوقا ٥؟ لقد منح الرب نعمة كبيرة مؤقتةً لبطرس. لقد أعطاه أكبر صيد من السمك على الإطلاق. لقد كانت بركة تفوق قدرة الاستيعاب في الشباك والقوارب، ومع ذلك ففي تلك العطية نفسها أظهر الرب لبطرس أنه أعظم من درجة تقدير بطرس للبركات التي منحه إياها؛ إذ في الحال نقرأ أنه "ترك كل شيء وتبعه". ماذا؟ ترك السمك الذي أعطاه الرب إياه؟ أجل، ترك كل شيء- الشباك، والقوارب، والسمك- وتبعه. إن كان يحق لبطرس أن يحتفظ بأي سمك اصطاده، فإنه ذاك الصيد من السمك الذي أعطاه الرب إياه. ولكنه ترك كل البركات ليتبع المبارِك.

هكذا الحال مع مؤمن متواضع آخر، مريم المجدلية. لقد كانت قد صارت كلياً تحت سيطرة الشيطان، إذ أن الرب كان قد أخرج منا سبع شياطين. لقد تباركت كثيراً ولكن المبارِك ربح قلبها. ولذلك، فعند القبر الفارغ، وإذ مضى التلاميذ إلى منازلهم، وقفت مريم خارجاً عند القبر تبكي. لم تكن البركات كافية لمريم؛ ما كانت لتجد راحة في هذا العالم بدون المسيح. معه كانت سعيدةً، وبدونه كانت بائسة.

على نفس المنوال، تعامل الرب مع الرجل الذي كان يوماً مجدفاً على المسيح ومضطهداً لقديسيه. وصلته النعمة وباركته بشكل جعل المسيح بالنسبة له أعظم من كل البركات التي أمكن للمسيح أن يعطيها. ورغبته نجد تعبيراً عنها في كلماته: "لأعْرِفَهُ" وأيضاً "لأربح المسيح". إنه لا يكتفي بأن يعرف كل البركات التي أعطاه المسيح الحق في امتلاكها؛ لابد له أن يعرف مانح البركات. إنه لا يقنع بأن ينال السماء في النهاية، بل يجب أن يربح ذاك الذي ضمن له السماء.

للأسف! كم نحن بطيئون عن معرفة أن المسيح، والمسيح وحده، هو الذي يستطيع أن يشبع رغبة قلبنا. أحياناً ننشد الراحة في بركاتنا الروحية. وتتوجه جهودنا لنبقي في نفوسنا على ألق فرح الاهتداء والتجدد، والغبطة بالبركات التي تلقيناها. ولكن في فرح الخلاص، كل هذه الجهود محكوم عليها بالفشل. فلا يمكننا، ولا يريد الله، أن نتمتع بالبركات بمعزل عن مانح البركة. كل بركة تلقيناها هي في المسيح، ويمكن أن نتمتع بها فقط في رفقة المسيح.

آخرون ينشدون الرضا في مجال خدمةٍ مزدحمة. ليتنا ننشغل جميعاً بخدمة الرب. ولكن إن ترافقت بسعينا لإيجاد الراحة، فإننا سنجد، مثل مَرْثَا، أننا انصرفنا عنه وحسب ولم نجد الراحة. إن الخدمة جيدة ولكنها لا تشبع القلب.

يسعى آخرون أيضاً وراء رضاً عابر في الأمور الباطلة في هذا العالم الزائل، فلا يجدون إلا أننا كلما أحطنا أنفسنا بأمور الأرض كلما ازدادت همومنا بدل أن نجد راحة القلب. ويصدق قول النبي: "قوموا واذهبوا لأنه ليست هذه هي الراحة. من أجل نجاسة تهلك والهلاك شديد" (ميخا ٢: ١٠). ومن جديد نقول أن المسيح وحده يمكن أن يرضي القلب.

وهكذا علينا أن نقر بأننا نحن المسيحيين لا نعرف إلا القليل عن رضا القلب الحقيقي. كل مسيحي حقيقي مُخلّص بالفعل، ولكن شتان ما بين أن نخلص وأن نحصل على رضا القلب. بما أننا نخلص بعمل المسيح فيمكننا أن نحصل على الرضا فقط في شخص المسيح. ونشعر بالراحة والرضا على مقدار تمتعنا بصحبة المسيح. الرضا الكامل والكلي سنعرفه فقط عندما يأتي ذلك اليوم العظيم على حسب القول "لأن عرس الحمل قد جاء، وامرأته هيأت نفسها" (رؤ ١٩: ٧). بطريقة غامضة، تأتي هذه الحقيقة العظيمة أمامنا في الجزء الختامي من قصة راعوث الجميلة. لقد أظهر لنا الأصحاحان الأولان بالصورة كيف تتيقظ فينا محبة المسيح. والأصحاحان الأخيران سيخبراننا كيف يتم إرضاء الحب.

٢.

دعونا أولاً نلاحظ التعليمات التي تتلقاها راعوث من نعمي (الآيات ١- ٥). تتعلم راعوث سر الراحة لكي يكون ملائماً لها. تُشاركها نعمي الأفكار حول بوعز في البداية فتخبرها عمن يكون، وعن عمله. فتقول: "أَلَيْسَ بُوعَزُ ذَا قَرَابَةٍ لَنَا" أي: "هو قريبٌ لنا ولنا دالة أو حقٌ عليه". ويمكننا القول أن المسيح هو لنا، ألم يُصبح جسداً ويسكن بيننا، ومات من أجلنا، وإذ قامَ دعانا إخوة له؟ فيمكنه أن يقول لمريم: "اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ".

إضافة إلى ذلك، تُخبر نُعمي راعوث عما يجب أن تفعله: "اعْلَمِي الْمَكَانَ الَّذِي يَضْطَجِعُ فِيهِ". وإن قلنا هكذا، خلال الليل الطويل المعتم، فإن قريبنا، بوعز الخاص بنا، يضطجعُ عارياً. إن الرب يسوع ليس منشغلاً بالعصافة اليوم. سيتعاملُ بدينونة مع القش في يومٍ آتٍ. ولكن في هذه اللحظة هو منشغلٌ بخاصته، "إنهُ يستلقي عارياً". بمعنى آخر إنهُ يقدِّس الكنيسة، من حيث أنَّه يجعل الكنيسة بدون لطخة أو عيب أو شيء من هذا. الرب في الأعالي منشغلٌ بخاصتهِ من ناحية اليوم الذي سيأتي.

وإذ ذكّرت راعوث بحقها على بوعز، تبدأ نعمي بتعليمها حول الحالة الملائمة لرفقة بوعز. إذ ندرك أننا من عائلة المسيح وأننا ننتمي إليه وأنه لنا سنرغب بصحبته بالتأكيد. الإدراك الواعي لحضوره، على كل حال، يتطلب حالة ملائمة للنفس نجد سماتها في تعليمات نعمي إلى راعوث عندما تقول: "اغْتَسِلِي وَتَدَهَّنِي وَالْبَسِي ثِيَابَكِ".

الحاجة الأولى هي أن "اغتسلي"- أي أن ننقل فكرنا إلى غسل الأرجل في يوحنا ١٣. على يوحنا أن يغسل قدميه أولاً قبل أن يستطيع أن يتكئ على صدر يسوع. غسل الأرجل يجب أن يأتي قبل راحة القلب. كان على الرب أن يقول لبطرس: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". إن لنا نصيباً فيه من خلال عمله، ولكن لكي يكون لنا نصيب معهُ لنتمتع بالشركة معهُ في المكان الذي مضى إليه، علينا أن نغسل أقدامنا، هذا الأمر الذي قلما ننتبه إليه. إننا نسمح لآثار النجاسة في العالم أن تدخل إلى داخلنا وأن تجعلنا نتعلقُ بالدنيويات الأرضية. إهمال غسل الأرجل يجعل النجاسة تزداد حتى تصبح عقولنا معوقة جداً، ومشاعرنا تُصبح متبلدة صماء فتصبح شركتنا مع المسيح نادرة أو معدومة. لننتبه إلى كلمات الرب التحذيرية: "إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ". ما كان يكفي لراعوث أن تقبل تعليمات الغسل؛ كان عليها أن تطبقها. هكذا أيضاً، الأمر الحسن الجميل في يوحنا ١٣ ليس في معرفة الحق بل في ممارسته.

وأكثر من ذلك: وإذ اغتسلت، على راعوث أن تدهن نفسها. فلا يكفي تطهير الفكر من الملوثات النجسة، بل نحتاج إلى أن نتذكر نصيحة الرسول التحذيرية: "كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ - إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هَذِهِ افْتَكِرُوا" (فيلبي ٤: ٨). الغسل أمر سلبي؛ إنه يزيل النجاسة. والدهن إيجابي، فهو يترك عطراً عذب الرائحة. لسنا في حاجة فقط لأن نطهر أفكارنا وعواطفنا من الملوثات، بل أن نجعلها تنشغلُ بأمور المسيح لكي يبقى حولنا عطِرُ المسيح الملائم لرفقة المسيح.

بعد الدهن، تقول نُعمي: "الْبَسِي ثِيَابَكِ". ألا يرمز هذا إلى الثِيَاب البُوص التي لبر القديسين العملي؟ إن كانت الآية ٨ من فيلبي ٤ تتحدث عن الدهن، أفلا تُعطينا الآية التالية الرد على اللباس- البر العملي؟ يقول الرسول هناك: "مَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهَذَا افْعَلُوا". إن الكلمة المفتاح في فيلبي ٤: ٨ هي "افْتَكِرُوا"؛ والكلمة المفتاح في الآية ٩ هي "افْعَلُوا". لو كان لدينا أدنى أحساس بمحبة المسيح أفما كنا لنشتهي برغبة أشد صحبته وإدراك حضوره؟ إن هكذا رغبات ستقودنا إلى ممارسة عملية أكثر فتصبح أفكارنا وعواطفنا، كلماتنا وطرقنا، في منأى عن التأثيرات النجسة، وهكذا ننشغل بما يلائم المسيح.

أما وقد صارت راعوث ملائمة لتكون في حضرة بوعز، فإن سلوكها سيكون واضحاً. فعليها أن تضطجع عند قدمي بوعز وأن تصغي إلى كلماته، كما قالت لها نُعمي: "وَهُوَ يُخْبِرُكِ بِمَا تَعْمَلِينَ". ألا ينقلنا هذا بالفكر إلى ذلك المشهد الجميل في بين عنيا الذي يصفه لوقا ١٠، حيث نقرأ أن مريم "جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ". أليست هذه هي الحاجة الأعظم اليوم! في تسارع وعجلة سير الحياة قلما نجدُ وقتاً ننفرد فيه مع الرب لنسمع كلامه. ومع ذلك يقول الرب أن ذلك هو الأمر الوحيد الذي نحنُ في حاجة إليه، إذ "الْحَاجَة إِلَى وَاحِدٍ". لعلنا نسمع صوت الرب من خلال نُعمي، ونجيب مثل راعوث أن "كُلَّ مَا قُلْتِ أَصْنَعُ". وهكذا "مغتسلين"، و"ممسوحين"، ولابسين، يمكننا أن نجلس في حضرة الرب و نسمع كلامه.

٣.

أما وقد وصلنا إلى اللحظة التي نجد راعوث فيها عند قدمي بوعز فإن القصة لا تلبث وبشكل طبيعي أن تتناول بوعز أكثر. إنه يعمل لإرضاء الرغبات التي نشأت عن حبه ونعمته، ولكنه أيضاً سيعملُ لإشباع رغبات قلبه. هذا كله يستحضر أمامنا السر الأعمق للمسيح ورغباته بخصوص كنيسته. ما من شيء سيرضي قلبه سوى أن يكون قديسوه معه ومثله. محبتهُ تستدعي أن يكون محبوبوه معه. إننا ذاهبون إلى السماء لأن المحبة تريدنا أن نكون هناك. ما كان ليرضي الأب أن يزيل الأسمال البالية عن الابن الضال المبذر وأن يسد حاجاته: كان لا بد له أن يجعله في صحبته الخاصة الملائمة لحضوره، بالحلة الأولى، والحذاء في قدميه، والخاتم في يده. وما كان ليرضي المسيح أن يحررنا من الدينونة وينقينا من خطايانا، بل كان لا بد أن نكون معه ومثله.

فلهذه الغاية جمعَ النفوس حوله وهو يجتاز في هذا العالم، إذ عندما دعا الإثني عشر كان ذلك بالدرجة الأولى لكي يكونوا "معه" (مرقس ٣: ١٤).

ولأجل هذا صلى الرب عندما قال: "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا".

ولأجل هذا ماتَ، "حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا نَحْيَا جَمِيعاً مَعَهُ" (١ تس ٥: ١٠).

ولهذه الغاية يخدم شعبه الآن، فيغسل أقدامنا لكي نكون في شركة معه. وهذا القصد هو نصب عينيه عندما يسمح لأحد قديسيه أن يرقد أو يغادر أو يكون "مع المسيح".

وعندما يأتي الرب في نهاية الأمر في السحاب ليدعونا إلى ديارنا، فذلك لكي يستقبلنا إليه حيث يكون لكي نكون معه أيضاً، "مع الرب إلى الأبد".

وعندئذ ندرك أن تلك هي الحقيقة المباركة التي نتعلمها عند قدميه. ليس فقط أننا نريده، بل أنه يريدنا أيضاً. فلا عجب أننا نريده، ولكن العجب الأكبر أنه يريدنا. لقد تعلمت مريم عند قدميه أنه يستطيع أن يعوضنا لقاء كل خدمتنا ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنا. "أَنَا لِحَبِيبِي وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ"، هي أعظم وأمجد حقيقة نتعلمها عند قدميه. وهكذا تخبرنا راعوث بنفس الحقيقة إذ عند قدمي بوعز عرفت، ليس فقط أنها تتوق إلى بوعز، بل أنه هو أيضاً يتوق إليها. وإذ عرفت ذلك، أمكنها أن "تجلس" وتنتظر أن يتمم بوعز الأمر (الآية ٨).

٤.

إنها ذات مغزى كبير الطريقة التي يضمن بها بوعز الراحة والرضا لقلبه ولقلب راعوث. فهناك ما يفعله مع راعوث، يليه العمل الذي يفعله لأجل راعوث. في الأصحاح ٢ يمتلك عواطفها؛ وفي الأصحاح ٣ يعطيها الجرأة المقبولة لتُشبعَ العواطفَ التي كسبها.

أولاً، وإذ رفضت الآخرين جميعاً وتبعت بوعز، هي متأكدة من البركة، "إنكِ مباركة" (الآية ١٠). وثانياً، يُزيل كل أثرٍ للخوف من قلبها، قائلاً: "لا تخافي" (الآية ١١). ثم تكون متيقنةً أنه سيتم التغلب على كل عائق أمام تحقيق كل مقصده (الآيات ١٢، ١٣). في هذه الأثناء يؤمن لها وبغنى كل ما تحتاج إليه. فيعطيها ستة من الشعير. عندما طلبت بركتها الخاصة حصلت على إيفة شعير (٢: ١٧). وعندما ناشدت بوعز نفسه تحصل على "ستة من الشعير". ولكن لا تزال تبقى "ستة" فقط وليس سبعة، العدد الكامل. ما من كمية من الشعير يمكن أن تعطيه رضاً كامل.

هكذا يتعامل الربُ مع خاصته اليوم. أفلا توجد بركةٌ خاصة بأولئك الذين تعلموا السر العظيم في أن الرب يريدنا لنفسه؟ ألا يزيل هذا كل خوف، ويعطينا جرأة مقدسة، ويطمئن قلوبنا إلى أنه ما من عائق يمكن أن يقف أمام طريق تحقيق هدفه لأجلنا؟ في هذه الأثناء، إنه يسد كل عوز لدينا ويمكّننا هكذا، مثل راعوث، من أن "نمكث" في المعرفة بأنه لن يستريح إلى أن ينهي ما قد بدأ به. "الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (فيلبي ١: ٦).

٥.

في الأصحاح الأخير نعرف كيف سعى بوعز من أجل راعوث. في هذا العمل لم يكن لراعوث أي نصيب. يبدو بوعز لوحده في المشهد عندما يصعد "إلى الباب" (الآية ١). عند الباب كانت تُقام العدالة. لأن العدل يجب أن يُجرى قبل أن يمكن لراعوث أن تتبارك، أو أن يتحقق هدف بوعز. عند الباب يُسوي بوعز ويحل كل القضايا التي يمكن أن تنشأ. يتم استدعاء عشرة شهود. يُطلب إليهم أن يجلسوا، ولا يكون لهم دور سوى الشهادة على عجز القريب الأول، ولكن، وفي نفس الوقت، يشهدون بأن مطالبه قد تم الاعتراف بها وتحقيقها. ألا يصور لنا هذا المشهد صورة العمل القدير لفادينا العظيم الذي "صعد إلى الباب وحده"، ألا وهو مكان الدينونة؟ وهناك، على الصليب، قام بتسوية كل المسائل بين المؤمن والله. وهناك أيضاً أظهر بشكل تام عدم مُلاءمة أو كفاية الناموس ليحلَّ قضيتَنا، في حين تم الإقرار والاعتراف بالمطالب العادلة لها.

وهكذا زال كل عائق، وجاء يوم الزفاف، عندما أخذ بوعز راعوث امرأة له. "فَقَالَ جَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ فِي الْبَابِ وَالشُّيُوخُ: نَحْنُ شُهُودٌ". إنهم يشهدون على البركة لراعوث، ولكن ينسبون القوة والقدرة والشهرة لبوعز؛ إذ يقولون لبوعز: "اصْنَعْ بِبَأْسٍ فِي أَفْرَاتَةَ وَكُنْ ذَا اسْمٍ فِي بَيْتِ لَحْمٍ" (الآية ١١).

هذه الخاتمة السعيدة لقصة راعوث تُلقي ظلاً واضحاً على ذلك اليوم العظيم الذي تُزَف فيه الكنيسةُ إلى المسيح، والذي إليه نتطلع- اليوم الذي نقرأ عنه بأن "عُرْسَ الْحَمَلِ قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". كما ينظر النبي يوحنا إلى هذه الرؤيا العظيمة يسمعُ من جديد وكأنه تسبيح "الشعب الذي في الباب والشيوخ"، رغم أن التسبيح قد ارتفع الآن فصار ترنيمة عظيمة عن القدرة اللا متناهية، إذ سمع يوحنا صوت حشدٍ عظيمٍ، ومعه صوت مياه كثيرةٍ، وصوت رعودٍ رهيبةٍ، تقول هللويا: إذ أن الرب، إلهنا القدير، قد اتخذ مجلسه بقدرةٍ ملكية. فلْنُسَرَّ ونبتهجَ ونقدم له الكرامة والإجلال.

يوم زفاف الحمل سيكون الجواب على عمل الفداء. المجدُ هو مكافأة الصليب. في ذلك اليوم ستتبارك العروس بشكلٍ لا متناهٍ، ولكن الحمل سيكتسب قوة وكرامة. سيكون له كل المجد، وأكثر من ذلك، ففي ذلك اليوم العظيم، سيرى الرب يسوع ثمر الكدح في نفسه وسيرضى. نحن أيضاً سنُعاين وجهه في البرِ وسنرضى عندما نستيقظ على شبهه.

يا ليوم الوعد العجيب،
العريسُ والعروسُ،
يترائيان في المجد إلى الأبد،
والحبُ سيُشبع.

الخطاب ١

الكلمة الأزلي

"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يوحنا ١: ١- ٥).

عند البدء بدراسة أي من الأناجيل، من المُستحسن أن نطرح السؤال التالي ونحاول إيجاد إجابة عليه: لماذا تُوجَدُ أربعةُ أناجيل ولماذا تبدو مختلفةً عن بعضها؟ لا بد أن إلهنا كان في مقدوره بالتأكيد أن يوحي لأحد خدامه بأن يكتب تدويناً متواصلاً عما فعله وقاله يسوع. الناس يكتبون كتباً على هذا النحو، ولكن الآب لم يرتَضِ ذلك. بل بالعكس، أعطانا أربعة تدوينات متمايزة، وحاول الناس منذ القرن الثاني للحقبة المسيحية أن يحيكوا من هذه الأربعة كتاباً واحداًً، كمثل ذاك الذي يسمى "توافق الأناجيل" أو "اتفاق البشيرين". ولكنهم دائماً وأبداً كانوا يجدون صعوبة في ذلك، بسبب جهلهم بالتسلسل الزمني الكرونولوجي للأحداث وبأمور أخرى كثيرة تتعلق بالأزمنة والعادات والتقاليد التي كانت سائدة عندما كان يسوع هنا على الأرض. هذه التدوينات كل منها مستقلٌ ومتكاملٌ بحد ذاته. لقد أوحى بها الله، وحتى لو بدا في بعض الأحيان تعارض في الشهادة بينها، إذ أن سبب ذلك يعود إلى نقص معرفتنا بالحقائق.

في إنجيل متى ليس لدينا أية صعوبة في رؤية أن الهدف البارز للروح القدس كان تصوير الرب يسوع على أنه المسيا والملك الموعود. لذلك فإننا أحياناً نسمّي إنجيل متى بالإنجيل العبراني. أود دائماً أن أحترس من هذا التعبير، على كل حال، بسبب سوء استخدامه في بعض الأحيان. لا نقصد بذلك أنه لم تكن فيه رسالة إلى المسيحيين. ولا نقصد أنه يمكننا أن نتحمّل الاستغناء عنه، ولكن نقصد أنه الإنجيل الذي كان الله قد حدَّده بشكل خاص ليصوِّرَ حياة الرب يسوع المسيح بطريقة تروق للفكر اليهودي، وخاصة لليهودي المهتم بعهده القديم. ليت اليهود كانوا أكثر ألفةً مع كتابهم المقدس. لو كانوا كذلك، لكان أسهل علينا بكثير أن نكرز بالمسيح لهم. لسوء الحظ، عبر العصور والقرون، اهتم اليهود بشكل كبير بالتلمود أكثر من الكتاب المقدس الذي تصعب على أذهانهم مقاربته. ولكن متّى يفترض مسبقاً معرفة قرّائه بالعهد القديم، ولذلك فطوال الوقت نجد مثل هكذا عبارات: "لكي يتمّ"، "كما كُتِبَ"، الخ. ويقدم لنا الحادثة تلو الأخرى في حياة المسيح التي كانت تحقيقاً مباشراً لنبوءة العهد القديم. يصورُ متى يسوعَ كمسيا إسرائيل، ورسالته البارزة هي: "هوذا ملككم".

من جهة أخرى، يبدو مرقس وكأنه يكتب من وجهة نظر مختلفة. فهو يصور يسوع على أنه النبي الخادم العظيم، والذي يعمل، في هذا العالم، مشيئة الله. يعود ذلك إلى حقيقة أنه ليس في كتابه (إنجيله) سلسلة نسب. فسلاسل النسب في متى وفي لوقا، ولكن ليس لدينا أي شكل من أشكال سلاسل النسب في مرقس. لماذا؟ ذلك لأنكم تعلمون، عندما تعلنون عن حاجتكم إلى خادم ليعمل لديكم، فإنكم لا تقولون: "دعني أسألك: ما هي سلسلة نسبك؟ هل أنتَ سليل شخصية مشهورة ما؟" لا. وليس: "من كان والدك؟"، بل: "ما الذي تستطيع أن تفعله؟" وهكذا ففي إنجيل مرقس لدينا الرب المبارك وقد تم إضفاء هذه الصفة أو المهمة عليه منذ البداية. فيقول: "هوذا خادمي/عبدي" ١ .

عندما نأتي إلى إنجيل لوقا، نرى الرب يسوع يُصوَّرُ كإنسانٍ كامل- الإنسان الوحيد الكامل الذي سار على هذه الأرض. ولذلك تجدون الرب يسوع يدخل في كل أنواع وأشكال الظروف. وفي مناسبات عديدة ترونه جالساً إلى المائدة. لا أعرف كيف يمكن وصف أي إنسان أفضل منه عندما يكون على مائدة الطعام. إن أردتم أن ترسموا إنساناً في الخارج (خارج منزله)، يكفي أن تُجلسوه إلى مائدة طعام جيدة وتجعلوه يبدأ بالتحدث. لقد قرأتُ الكثير من السير الذاتية عن مارتن لوثر، ولكني لم أعرفْه حتى قرأتُ كتاب "أحاديث لوثر على المائدة". وعلى نفس المنوال نجد أن الكثير من إنجيل لوقا قد كُتِبَ استناداً إلى "أحاديث المائدة" لربنا يسوع المسيح. إنه يقول: "هوذا الإنسان"- الوسيط الوحيد بين الله والإنسان، "الإنسان يسوع المسيح".

والآن عندما نتحول إلى إنجيل يوحنا، نرى السموات مفتوحة والابن السرمدي ينزل من الأعلى، آخذاً مكانه في رحم العذراء- الله والإنسان في أقنوم واحد مبارك مجيد- الابن السرمدي متجلياً في الجسد. يقول يوحنا: "هوذا إلهكم". وإنجيلُه كُتِبَ لتأسيس وترسيخ حقيقة لاهوت وألوهية ربنا يسوع المسيح. في الأصحاحات الـ ١٢ الأولى لدينا الابن الإلهي مُقَدَّماً إلى العالم، وفي الشخصيةِ التي كانت لتروق للناس في عالم الخطاة. سنلاحظ هذه الميزات المتنوعة ونحن نمضي في دراستنا هذه لإنجيل يوحنا.

بدءاً من الأصحاح ١٣ فصاعداً حتى النهاية، لدينا استعلان ربنا يسوع كابن، لشعبه الحبيب الذي يخصه، على أنه الذي يحفظ أقدامَهم بعيداً عن النجاسة. هذا كشفٌ مذهل ورائع لتأييده ومدافعته والحقيقة المجيدة عن اعتنائه بشعبه خلال هذا الدهر. ثم لدينا الوعد بمجيئه ثانية بالمجد في نهاية الدهر ومجيء المعزّي، الذي سيرشد الناس إلى كل الحق.

إنجيل يوحنا، إذاً، يشدّد ويركّز على ألوهية ربنا المبارك. إنه يصوره على أنه الكلمة السرمدي الذي صار بالنعمة جسداً لفدائنا. ما مِن سلسلة نسب بشرية في إنجيل يوحنا، على خلاف إنجيل متى ولوقا، ولكن يعود بنا يوحنا مباشرة إلى الأزلية الماضية. "في البدء" هنا تسبق زمنياً العبارة التي ترد في (تكوين ١: ١). هناك- في التكوين- بدء الخلق، ولكن هنا نجد إشارة إلى زمن بعيد قبل بدء الخلق حيث نجد الابن في حضن الآب. عندما راح كل شيء له بداية يبدأ بالتكوّن، كان الكلمة. لاحظوا سبعة أشياء نراها أمامنا ونحن نقرأ إنجيل يوحنا:

١- أزلية كينونة ربنا: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ".

٢- شخصيته المتميزة: "الْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ".

٣- لاهوته الحقيقي: "كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ".

٤- علاقته التي لا تحوّل فيها: "هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ".

٥- مجده الخلقي الكامل: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ".

٦- قدرته على إعطاء الحياة: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ".

٧- تجسده: "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً".

لنتابع هذه النقاط السبع بحسن انتباه. أولاً نلاحظ أزلية كينونته. وهنا تنتفي التوحيدية مهما كان نوعها. الكلمة لم يكن له بداية أبداً. الابن هو أزلي كما الآب. إن علّمْنا خلاف ذلك، فإننا بذلك ننكر أسس إيماننا نفسها. ما كان يمكن أن تكون له بداية، لأنه هو نفسه البداية والنهاية (رؤيا ٢٢: ١٣).

ولكن هذا لا يعني فقط أنه كان أزلياً في الألوهية. فالكتب تلفت الأنظار بشدة وعلى نفس الدرجة إلى أقنوميته المتمايزة. وهذا نجده ضمنياً في العبارة: "الْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ". ويخبرنا الكتاب عن الحكمة، في أمثال ٨: ٢٧: "لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا". ومن جديد في الآية ٣٠: "كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً". الحكمة الأزلية والكلمة الأزلي هما واحد وهما نفسهما. طوال العصور الماضية كان المسيح أقنوماً متمايزاً في الألوهية. وكانت هناك شركة بين الآب والابن.

ولكن هذا لا يعني انتقاصاً أو دونية من جهة الابن. فقد كان فيه ملء اللاهوت: "كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". فتماماً كما كان الآب هو الله والروح القدس هو الله، كذا كان الكلمة هو الله. ولا يمكن زيادة شيء على ذلك.

الآية التالية تبدو وكأنها تكرار: "هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ". إلا أنها في الحقيقة تضيف إلى ما جاء قبلها. إنها تخبرنا عن شخصانيته غير المتبدلة. فقد كان هو نفسه منذ الأزل؛ أي أنه كان الابن الأزلي. لم يصبح الابنَ عندما وُلِدَ في العالم، بل "إنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ" (١ يوحنا ٤: ١٤). فهو لم يصبح الابنَ بعد أن أُرسِلَ، بل كان الابنَ منذ البدء.

ويُنسبُ الخلْقُ لكل أقنوم من أقانيم الألوهية (الله). وهنا بشكل خاص يقول الكتاب: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ". وفي مكان آخر نقرأ: "الصَّانِعَ السَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ" (مز ١٣٦: ٥). إيلوهيم ٢ ، الله المثلث الأقانيم الواحد في الجوهر، خلق السموات والأرض. الآب خطط، والكلمة كان الوكيل، والروح القدس كان المنفّذ للمشورات الإلهية، وكما أن الكلمة هو من أوجد الخليقة الأولى، كذا فإنه هو نفسه "بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ" (رؤيا ٣: ١٤). وهذا لا يعني أنه كان أول مخلوق خلقه الله، بل أنه هو من يوجد خليقة الله، أي الخليقة الجديدة التي ينتمي إليها كل المؤمنين.

بدونه ليس من حياة. هو نبع الحياة، وهذه تشتمل على الحياة الطبيعية والروحية. كل الحياة الطبيعية تأتي منه، ومن ناحية الحياة الروحية فمكتوبٌ: "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥: ١٢). تلك الحياة تبدّت بكل كمالها وتمامها فيه كإنسان على الأرض. "الْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ". وبينما كان يجول في هذا العالم، كان يلقي النور على كل إنسان، مُظهراً الأشياء كما يراها الله.

هذا يأتي بنا إلى النقطة السابعة، ألا وهي تجسده. "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". "صار" هنا من الأفضل قراءتها "صُيّرَ" أي "جُعِلَ". ففي الحقيقة هو لم "يُصنع أو يُخلَق" أبداً، بل بنعمته واتضاعه صار جسداً لكي يكشف الآبَ للإنسان وليفتديه إلى الله.

إنجيل يوحنا مكرسٌ لهذا الغرض المضاعف. إذ نتابع صفحاته المقدسة نرى الكلمة الأزلي، وقد صار جسداً، يجول وسط الناس، ممجداً الآب في كل طرقه الكاملة، وكاشفاً فكر الله على نحو كامل، وفي نهاية الأمر مقدماً ذاته على الصليب لكي يصالح الناس مع الله ويفتديهم ويشارك الله في المجد إلى الأبد.

من المعروف جيداً أن كلمة "الكلمة" هنا هي الترجمة للكلمة اليونانية "لوغوس" (logos ). وكانت هذه الكلمة مصطلحاً معروفاً عند أهل الفكر في الفترة التي ظهر فيها ربنا على الأرض. فقد كانت كتابات أفلاطون منتشرة في كل أرجاء العالم الذي كان يتكلم اليونانية. لقد تحدث عن عدة أسرار، ولكنه كشف عن الرجاء بأنه يوماً سيأتي الـ "كلمة" ("اللوغوس") من الله الذي سيوضح كل شيء. ربما كانت هذه الفكرة في ذهن يوحنا عندما كتب هذا الإنجيل، فبتوجيه من الروح القدس، خطَّ بقلمه هذه الجمل الرائعة التي يبدأ بها إنجيله. لكأنما الله يقول: إن "الكلمة" قد نُطِقَ بها الآن. في المسيح تكشّفَ كُلُّ فكر الله. فمن يسمعه يسمع الله، إذ "فيه خُبِّئت كلُّ كنوز الحكمة والمعرفة".

إذ نُجيلُ النظر خلال الأصحاح، نلاحظ بقلوب متعبّدة مليئة بالعجب الألقابَ العديدة والمتنوعة والعبارات المستخدمة لوصفه. فهو "المسيح"، "الممسوح"، "مسيا إسرائيل". ويشير إليه يوحنا المعمدان على أنه "حمل الله"، "حامل الخطايا"، وهو أيضاً يعلن عنه "ابن الله". ويعترف التلاميذ به كـ "معلّم". وفيلبس متأكد أنه وَجَدَ في يسوع الناصري، ابن يوسف، كما فُهِمَ في تلك الحقبة من الزمان، ذاكَ الذي "كَتَبَ عنه موسى في الناموس والأنبياء". وعَرَفَ فيه نثنائيلُ "ابنَ الله"، وأقرَّ به على أنه "مَلِكَ إسرائيل". ويسوع نفسه يستخدم العبارة التي سيشيع استخدامها على شفتيه "ابن الإنسان"، ويرينا أن ابن الإنسان هذا هو مثل "سلّم يعقوب"، صلة الوصل بين الأرض والسماء، والذي كان يصعد عليه الملائكة وينزلون.

إذ نمر على هذا الإنجيل نراه يصوّر المسيحَ بكل طريقة أمكن للروح القدس أن يصوره فيها ويمكن للفكر البشري، منوّراً بالنعمة الإلهية، أن يفهمها.


١. في الترجمة البروتستانتية (سميث-فاندايك/البستاني): "هوذا فتاي".

٢. إيلوهيم/إلوهيم (Elohim ): اسم عبري بالأصل، وهو أحد أسماء الله في العهد القديم، وهو في صيغة جمع. ونلاحظ أن هذا الاسم لله يُستخدم كثيراً في سفر التكوين وفي المزامير. ويدل هذا الاسم على صفة الله كالخالق العظيم، وعلى علاقته منذ القدم مع جميع شعوب العالم من أمم ويهود [فريق الترجمة].

الخطاب ٢

خدمة يوحنا المعمدان والتجسد

"كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ. وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (يوحنا ١: ٦- ١٤).

لقد رأينا لتونا أن يسوع هو الكلمة الأزلي المتحد مع الآب منذ بدء الماضي السحيق. بمعنى أنه عندما كان كل شيء قد بدأ يأتي إلى الوجود كان الرب يسوع هناك. فهو لم يبدأ، بل كان. لقد كان الكلمة. لقد كان مع الله. وكان هو الله. وكان ابناً من البدء مع الله. إنه لم يتعرض لأي تغيير في شخصيته على الإطلاق. لقد كان الابن منذ الأزل، بل حتى كان الابن قبل كل الخليقة. "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". هل مسَّ هذا الكلام قلوبَنا؟ هل ندرك أن ذاك الذي عُلِّقَ على الصليب كان هو نفسه خالق الأرض؟ أعتقد أن الناس غالباً ما يسيئون فهم ذبيحته القربانية التي قام بها لأنهم لا يعون من كان ذاك الذي صنعها. الدكتور و. بي. ماككي، في كتابه "النعمة والحق"، يخبرنا كيف أنه في إحدى المناسبات، وبعد كرازته بالكلمة وإعلانه للحق، جاءت سيدة إليه وقالت له: "لا أستطيع أن أقبل ذلك". فسألها الدكتور ماككي: "ما الذي لا تستطيعين قبوله؟" فقالت: "ذاك الذي تخبرنا عنه، أن الله سمح لإنسان بريء بأن يموت من أجل أناس خطاة آثمين مذنبين. فذلك لم يكن فيه عدل. إذ ليس من العدل أن يخلص الخطاة المدانون بهذه الطريقة". فقال لها: "يا سيدتي، لقد أسأْتِ فهم كل معنى الإنجيل. ليس الإنجيلُ هو أن إنساناً بريئاً مات عن أناسٍ آثمين. فالإعلان الأول في الإنجيل هو أن الله قد صار إنساناً. ذاك الذي خَطِئَ الإنسانُ إليه قد صار إنساناً بالنعمة الإلهية لكسي يموت عن خطيئة خلائقه. وعلى الصليب لا نرى إنساناً بريئاً يموت عن آثمين؛ بل إننا نرى الله المُساء إليه يقدّم نفسَه متخذاً عليه بشريتنا، لكي تُمحى ذنوبُ وآثامُ خلائقه". "ولكن هل هذا عادلٌ؟" سألت المرأة. فأجاب: "يا سيدتي. إنها المحبة. إنها المحبة غير المحدودة التي دفعته لأن يقدم ذاتَه عنا". ذلك هو التعليم الواضح في إنجيل يوحنا. فذاك الذي مات على الصليب كان خالقَ كل الأشياء وكان هو الذي أُسيءَ غليه وارتُكبت الخطيئةُ ضدّه من قِبَلِ المخلوق، ومع ذلك فعندما لم يستطع الإنسان أن يجد أية طريقة ليتبرر أو لينجو من الدينونة، جاء (الرب يسوع) بالنعمة ليعتِقَ أولئك الذين يؤمنون به.

والآن في الآية ٦ ندخل إلى قصة التجسد. فيلفتُ يوحنا (الإنجيلي) انتباهنا إلى سابقه (سابق المسيح: يوحنا المعمدان). "كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا". كم كان هذا صحيحاً طوال قرون! عندما كان الله يرسل أناساً لينقلوا الإنجيلَ إلى الشعب الضال، كم من رجلٍ بينهم حمل اسم "جون" وفي العربية "يوحنا"! فلدينا في الكتاب المقدس يوحنا المعمدان، ويوحنا الرسول، ويوحنا مرقس. ومنذ ذلك الحين ظهر العديد من الأشخاص الذين يحملون اسم يوحنا والذين دعاهم الله ليعلنوا كلمته. عندما نصل إلى أيام الإصلاح نجد لدينا جون نوكس وجون كالفن، ولاحقاً في عصر النهضة العظيم في القرن الثامن عشر لدينا جون ويسلي المُرسَل من الله ليكرز بالإنجيل لأولئك الذين لم يعرفوا شيئاً البتة عن يقين الخلاص. أعتقد أن أحد أسباب كثرة عدد الأشخاص الذين يحملون اسم جون (يوحنا) هو أن هذا الاسم يروق لشعب الله. وأنتم تعلمون ما معنى اسم "جون". فهو يدل على "نعمة الرب وتحننه". لقد جاء يوحنا ليعدَّ الطريق أمام الآتي ألا وهو الرب يسوع المسيح. لقد كان يتمتع بمكانة مرموقة فريدة في شهادة الكتب. ونقرأ: "كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا" (لوقا ١٦: ١٦). وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، ملكوت النعمة والحق. كان يوحنا آخر الأنبياء، وكان أول بشير في الدهر التدبيري الجديد. ويقول الرب يسوع عنه أنه لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ. بأي معنى كان يوحنا أعظم إنسان تلده امرأة؟ ذلك لأنه أُعطِيَ له، ليس فقط أن يتنبأ، بل أيضاً أن يرحب بالمسيح ويستقبله- وأن يعمّدَه كعلامة على تطابق المسيح مع أولئك الذين جاء ليموت عنهم. ولأنه عمّد المسيح وكان هو من أعلن عن حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم، فقد احتل يوحنا أعلى مكانة بين الأنبياء. فلم يحظَ أيٌّ منهم بالامتياز الذي حظيَ به يوحنا. ومع ذلك يقول يسوع: "وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" (متى ١١: ١١). ما الذي يقصده بذلك؟ لقد أُعطيَ ليوحنا أن يدعو الناس إلى التوبة لتأسيس ملكوت الله هنا على الأرض. لقد فتح الباب للآخرين، ولكن لم يُسمَح له نفسه بأن يدخل، ومع ذلك، فقد كانت له مكانة مرموقة جداً في علاقته مع الرب يسوع المسيح. "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ" (يوحنا ٣: ٢٩). لقد كان يوحنا صديقَ العريس وفرح بمجيء الرب يسوع المسيح. لقد ابتهج للعمل المجيد الذي كان سينجزه والعظمة التي ستكون نصيبَه. فقال: "لستُ المسيا، أنا مجرد صديق للعريس". يا له من امتياز رائع كان يتمتع به! ولم يكن هناك خادم لله أكثر اتضاعاً وأقل رفعة من يوحنا المعمدان. عندما سألوه عن هويته، لم يرفّع أو يمجّد نفسه أبداً. عندما كان أي شخص يطلب أوراق اعتماده كان يقول: "أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ". لا يمكنك أن ترى الصوتَ، بل يمكنك أن تسمعه فقط. لم يُرِدْ يوحنا أن ينشغلوا به. لقد كانت مسرّته ببساطة هي في أن يُعلّي ويمجّد ذاك الذي كان هو بشيراً له، وبهذا يصبح يوحنا مثالاً وقدوة لكل خادم لله. إننا جميعاً ميالون إلى أن نريد جعل الناس ينشغلون بنا. إننا نرغب في أن نحتل فكر الناس، وننزعج، بعض الشيء، إذا ما أساء الناس فهمنا أو تحدثوا إلينا أو معنا بدون لطف. ولكن كل هذه الأفكار كانت بعيدة جداً عن ذهن يوحنا. لم يكن مهتماً بنفسه بل فقط في أن يكون المسيحُ وحدُه ممجداً. والرسول بولس كان أحد أولئك الذين دخلوا في تلك الروح. كان اهتمامه الوحيد هو أن يتعظّم المسيحُ، إما بالحياة أو بالموت؛ وكان هذا هو هدف يوحنا المعمدان الخاص- "إنسانٌ مرسَلُ من الله".

إنه لأمرٌ عظيم عندما ينظر الله إلى إنسان ويقول له: "أريدك أن تذهب في مهمة من أجلي". إني على يقين تام بأنه وضع يدَه عليَّ عندما كنتُ في الرابعة عشر من العمر. وقال لي: "لقد خلّصْتُ نفسَكَ؛ أريدك أن تمضي لتكرز بإنجيلي". يا لها من فرحة غمرتْني، لخمسين سنة، بحلوها ومرّها، إذ كنتُ أُعلن ذلك النبأ السار! تمضي على الإنسان أحياناً عدة سنوات قبل أن يضع الله يده عليه. شاول الطرسوسي كان رجلاً ناضجاً، فوق الثلاثين من العمر، عندما ظهر له ربُّنا المبارَك على طريق دمشق وقال له: "لقد ظهرْتُ لك لأجل هذا الهدف، وهو أن أجعلك رسولاً وشاهداً. وسأخلّصك من الشعب ومن الأمميين، الذين أرسلك الآن إليهم".

وجاء إلى بطرس عندما كان رجلاً يعمل في الصيد. وقال له: "يا بطرس، اترك السمك خلفك، وسأجعلك صياداً للناس". وجاء إلى متى عندما كان جالساً إلى مقعد الجباية. قال أحدهم أن متى كان هو ذلك الرجل الذي علّم بطرس أن يحلف. فمتى كان جابي ضرائب عند الرومان، وكان يهودياً، فكان يضع ضرائب ثقيلةً على شعبه نفسه، وكل مرة كان بطرس يأتي حاملاً ذلك الحمل من الأسماك، كان متى يذهب إليه ويقول له: "هاتِ ٢٠ بالمئة من هذه الأسماك". وأستطيع أن أتخيل بطرس ومتى يتجادلان حول النسبة التي كانت من نصيب الحكومة، وأجد بطرس يلعن ويسبّ ويشتم بسبب الابتزازات التي يتعرض لها بسبب جابي الضرائب هذا. ولكن الرب جاء إلى متى الجابي، وقال له: "اتبعني"، فترك متى متعة الجباية دون رجعة، وتم اختياره ليكتبَ الإنجيل الأول.

إني أتساءك إن كان من بين قراء هذه الأسطر من يشعر أن الله يتحدث إليه؟ في سكون ساعات الليل قد تسمعون صوتاً يقول: "أريدُك خادماً لي، مرسَلاً من أجلي. أريدك أن تعمل من أجلي بطريقة خاصة". هل تقول: "هائنذا يا رب؛ أرسلْني"؟ لا تخافوا أن تسلّموا حياتكم له. يوماً ما سيقول الناس عنكم: "كان هناك رجل (أو امرأة) مُرسَل من الله". لقد كان هذا صحيحاً بالنسبة ليوحنا، وهو سينال مكافأته لتلبيته النداء عندما يقف عند كرسي الدينونة أمام المسيح.

ها قد جاء يوحنا ليشهد. وهذا ما ينبغي على كل خادم أن يفعله أو أن يكونه- شاهداً. الشاهد لا يقول الأشياء التي يفكر بها، بل الأشياء التي يعرفها. لقد جاء للشهادة- ليشهد للنور. هل يحتاج النور إلى شاهد؟ نعم، في عالمٍ مظلمٍ كهذا، حيث الناس عميان. إنهم لا يستطيعون أن يروا، وهم في حاجة إلى شاهد على حقيقة أن النور قد جاء. لقد عرف يوحنا أن العالم كان أعمى وجاء ليخبر الناسَ عن النور، والأمر الرائع كان هذا: عندما كان الناس يَقْبَلون رسالَته ويؤمنون بها، كانوا يتخلّصون من العمى الذي كانوا مُبتَلين به ويصيرون قادرين على أن يروا. لقد رأوا المسيح، النور، "الذي يؤمن به كل الناس".

من كان النور؟ ربنا يسوع المسيح نفسه. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ". وإذ أننا في هذه النقطة، فدعوني أُلفتُ انتباهَكم إلى ترجمة مختلفة قليلاً لهذه الآية. فهنا نقرأ: "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ". هناك أنوار زائفةٌ كثيرة للغاية. هناك أنوار كاذبة يتبعها الناس إلى الهلاك. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ". ما معنى ذلك؟ هل يعطي المسيح نوراً روحياً لكل إنسان يأتي إلى العالم؟ نعم، جزئياً. إنه يعطينا النور من خلال ضمائرنا، ومع ذلك، فإني أعتقد أن هناك أكثر من هذا المعنى في النص. أعتقد أنه على النحو التالي: "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ". فهو ليس النور الذي في الإنسان بل نوراً يشرق على الإنسان. أعني بذلك أن الرب يسوع المسيح قد جاء إلى عالم ممزوج بالشر- مكونٍ من بشر خطاة يلفّون الخطيئة كلقمة صغيرة حلوة تحت ألسنتهم. لقد جاء وكان الإنسان الوحيد القدوس الذي سار على هذه الأرض، وقد جال بين الناس، فظهر الناسُ على النقيض منه. لقد ألقى نوراً على كل إنسان.

إني أتساءل إذا ما كان هناك أحدٌ بين قرّائي يقول في نفسه: "لستُ في حاجة إلى هذا الإنجيل. فما أنا بخاطئ كبير. لم أقتلْ أحداً، لم أسرق. وأنا لا ألعن ولا أشتم ولا أحلف. ولستُ بخاطئ". مهلاً لحظة، يا صديقي! هلا تأتي وتقف بجانب الرب يسوع المسيح؟ فهناك تجد إنساناً كاملاً. كيف تقارن حياتك بحياته؟ كيف تقارن حياتك الروحية، وكلماتك، وطريقة نظرك إلى الأشياء به؟ آهٍ. عندما نقف جنباً إلى جنب معه، فإنه يلقي نوراً علينا، وذلك النور يُظهر كل نقائصنا الروحية والأخلاقية. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ".

لقد أُعطيَ الناموس لشعب واحد. يُسمّي عاموسُ (الناموسَ) بالفادن الذي به يتم الكشف على الالتواءات والاعوجاجات والانحناءات. إن في ذهنه صورة بناء جدار، ينظر المرء إليه ويقول: "ذلك الجدار ليس مستقيماً". فيستاء البنّاء من هذا، ولكن عندما يأخذ فادناً ويلقي به إزاء الجدار، فإنه يُظهر الخللَ الذي فيه.

ها هنا إنسانُ يدّعي أنه كامل ويقول الله: "اختبروه بناموسي وستجدون أنه معوجّ". يقول الكتاب المقدس أنه إن حفظ إنسانٌ كل الناموس وأَثِمَ في واحدة فإنه سيكون مداناً ومذنباً بالجميع. ولكن يسوع حقّق كل الوصايا وكل المطاليب؛ لقد سدّ كل مطلبٍ. "ليس فيه خطيئة". "لم يعرف الخطية". "لم يرتكب خطيئة". هكذا ينبغي أن يكون الإنسان لأجل الله. عندما تأخذ مكانك إلى جانبه، ففي الحال تظهر نقائصَكَ وعيوبك. إنه يلقي نوراً عليك. "هذا هو النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ". حسناً، هل جاء فقط ليكشفَ خطيئتي؟ هل جاء فقط ليظهرَ نقائصي وعيوبي؟ لا، في الواقع. إنه يجعلني أرى حاجتي، ولكنه يفعل ذلك فقط لكي يكشف لي ذاتَه ويقدّمَ نفسَه مخلصاً لي.

"كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ". ما كان أحدٌ من أبناء قريته يتخيل أن الله نفسه كان لينزل ويسكن في وسطهم.

لك أن تتخيل كيف كانت قرية الناصرة حيث عاش يسوع ١. لقد كانت فقيرة ومريعة. ونما يسوع وسط كل تلك الظروف البائسة كمثل زهرة سوسن بيضاء نقية تطلع من مياه موحلة ملوثة في قاع بحيرة. يسوع النقي، يسوع القدوس. لقد كان في العالم وهو خالق كل الأشياء ولم يعرفه العالم. لقد صنع طاولاتهم وكراسيهم وقام بنجارة وتركيب أبواب ونوافذ بيوتهم، ولم يعرف أحدٌ على الإطلاق أنه كان الله بذاته يسير في وسطهم، إلى أن مضى بعد ذلك إلى الصليب ومات عن خطايانا، ووضعوه في القبر، وفي صباح اليوم الثالث مزّق رباطات الموت وقام منتصراً ظافراً. ولن يتعرض للهوان من بعد. إنه رأس الخليقة الجديدة- أولئك الذين وثقوا به وهم متحدون معه في حياة القيامة.

"إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". عبارة "إلى خاصته" الأولى تأتي في المحيّر، وأما الثانية فشخصية. ولعله يمكننا قراءة النص كما يلي: "إِلَى أموره الخاصة جَاءَ وَشعبُه الخاص لَمْ يقْبَلْهُ". نعم لقد جاء إلى عالمه الخاص. لقد خلق هذا العالم. وجاء إلى العالم الذي صنعتْه يداه. جاء إلى دياره، إلى مدينته، أورشليم. جاء إلى هيكله- "في هيكلك، كل شيء يخبر بمجد الله"، كما يقول داود. لقد جاء إلى ما يخصه من أشياء، ولكن شعبه من اليهود، الشعب الذي طالما كان ينتظره كما يُفترض، وكل تلك المئات من السنين، لم يعترفوا به ولم يقتبلوه. هل اقتَبَلْتَه يا صديقي؟ كان هناك أناسٌ سمعوه يتكلّم وفتحوا قلوبَهم له. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". لدينا بين أيدينا كل الحقيقة عن طريق الخلاص، إن كنا مهتمين. لقد أرسل الله الرب يسوع أميراً ومخلصاً، وعندما نقتبله فإننا نصبح خاصته. هل تتساءل: "كيف أنتفع من نعمته المخلِّصة؟" لديك الجواب: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". أن تقبله يعني أن تؤمن به وأن تفتح قلبَك له. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". هل تُصعّب عليك أمراً هو أسهل ما يكون؟ لقد استخدم الله كلمات في غاية الوضوح. فيسوع يقول: "تعالوا إلي وأنا أريحكم". آمنوا بي، فتكون لكم حياة أبدية. التفتوا إلي فتخلصون. اقبلوني فأجعلكم خاصتي. لكي نقبله يكفي أن نفتح له باب القلب على مصراعيه فيدخل. "هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤيا ٣: ٢٠).

هناك ترنيمة إنجيلية جميلة تقول: "عليك أن تفتح الباب". نعم عليك أنت أن تفتح الباب. سوف لن يقتحم يسوع الباب. فهلا تفتح له الباب؟ هلا تدعه يدخل؟ في هذه اللحظة يمكنكم أن تحني رأسك، وتفتح قلبك وتقول: "أريدك أن تدخل وأن تكون رباً على حياتي". أفلا تقبله؟ "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". هل ترى؟ ليس الناسُ أبناءً لله بالولادة الطبيعية. قال الرب يسوع لمجموعة معينة من الناس في أيامه: "أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ" (يوحنا ٨: ٤٤). ويقول الرسول عن أولئك الذين يخلصون: "كنتم في وقت ما أَبْنَاءَ الْغَضَبِ". إننا مولودون بجسد خاطئ. ولكي نصير أولاداً لله علينا أن نتجدد. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". أن نقبله يعني أن نؤمن باسمه، وأن نثق بكلمته. إنها مسألة إيمان به. لا تحاول أن تجعل من الإيمان سراً عظيماً. الإيمان هو ببساطة أن تؤمن، أن تقول آمين لما يقوله الله. نحن نقبل شهادة الناس. ويأتي إنسانٌ إلينا ممن نثق بهم. ونصدّق كل ما يقوله لنا. إننا نقبل شهادة الناس. حسناً، لقد أعطانا الله شهادته التي تتعلق بابنه. فهل تقبل شهادته في قلبك؟ هل تجرؤ على اعتبار الله كاذباً برفضك أن تصدّق الشهادة التي قدّمها والمتعلقة بابنه؟

لاحظ ما يُقال عن أولئك الذين يؤمنون باسمه: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". هنالك طرقٌ ثلاثة لا تستطيع بها أن تصبح ابناً لله:

الأولى: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ". وهذا يعني أنه حتى لو كان والداك من أفضل المسيحيين على وجه الأرض، فإنهما لا يستطيعان أن يمنحاك حياة مقدسة.لا يمكنهما أن ينقلا طبيعتهما الجديدة إليك. الله وحده هو الذي يستطيع أن يفعل ذلك. إنك لست ابناً لله بالدم.

الثانية: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ". لا يمكنك أن "تجعل" نفسَك مسيحياً بإرادتك الذاتية ببساطة: "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ" (رومية ٩: ١٦). ها هنا إنسان يقول: "حسناً. ليس لدي وظيفة، ولذلك سأصبح جندياً". ويجد أن عليه أن يمتلك بذلة نظامية، ولذلك يذهب إلى محل تجهيز الألبسة ويشتري البذلة وينزل إلى الشارع وهو يرتديها ويتخيل أنه جندي. لعلنا نسأل: "كيف أصبحتَ جندياً؟"، "لقد ارتديتُ بذلةً وهائنذا جندي". فهل يجعل هذا منه جندياً؟ قطعاً لا. إذ يجب تطويعه أو تجنيده. ما من إنسان يمكن أن يصير مسيحياً بمجرد أن يقول: "من الآن وصاعداً، أنا مسيحي". فهذا لا يجعلك مسيحياً. عليك أن تأتي إلى الله كخاطئ وتقبل المسيح. وهو سيجعلك مسيحياً. وسيعطيك حياة جديدة. وليس فقط بمحاولة أن تكون أفضل، بل بالسماح لله بأن يجعلك خليقة جديدة.

الثالثة: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ". ما من أحد على الأرض في مقدوره أن يجعلك مسيحياً. يظن الناس أن القس أو الكاهن يمكن أن يصنع مسيحيين بتعميدهم أو عن طريق الأسرار. ولكن هذا لا يخلّصك. "يجب أن تولد ثانيةً". "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ". الله وحده هو الذي يخلق تلك الحياة الجديدة في نفس كل مؤمن بابنه المبارك.

والآن الآية الأخيرة في هذا القسم: "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". ليست هذه الترجمة الأفضل للعبارة. ففي الواقع، وكما نوّهْنا للتو، فإن الكلمة لم يُصنع شيء منها. الكلمة صار جسداً. لنربط هذا بأول آية في الإنجيل: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ"، "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". ذاك الذي كان متحداً مع الآب منذ البدء قد صار إنساناً. وهذا يعني أنه اتخذ بشريتنا، جسداً ونفساً وروحاً. لقد صار إنساناً، ومع ذلك فهو الله، "وَحَلَّ بَيْنَنَا". الكلمة "حلَّ" أو "سكن" هنا يمكن ترجمتها "أقام مسكنه" بيننا. كان الله في العهد القديم يقيم في خيمة العهد في البرية. والآن تجلى في ابنه. "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَجعل مسكنه بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ"، وهو المجد الإلهي المشرق. لقد عاش يوحنا الإنجيلي معه، وسار معه، وصلى معه. لقد رأى في حياة الرب يسوع المقدسة "مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً".

هذه الكلمات كتبها شخصٌ عرف يسوع عملياً طوال حياته. وكانت تربطه به بعض أواصر القربى، و لا بد أنه عرفه عندما كان ينمو ويكبر هناك في الناصرة. يخبرنا أحد أوائل المؤرّخين في الكنيسة أن يوحنا كان مراهقاً عندما دعاه المسيح ليصير صياداً للناس. ولقد أمضى حوالي ثلاث سنوات ونصف في صداقة حميمة مع يسوع، وكان هو من اتّكأ على صدر يسوع ليلة العشاء السري. على الأرجح أنه كان في التسعين من العمر عندما كتب هذا السفر، وإذ عاد بذاكرته إلى ماضي الأيام نجده يقول: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". وهذا الوحي يشاركنا به وهو يسطّر هذه الأصحاحات الرائعة.


١. قمنا بتصرف في النص في هذا الموضع لأن ما يسرده الكاتب هنا لا يفيد القارئ بشيء ولا يمت لواقع قرائنا حالياً بأية صلة. [فريق الترجمة].

Pages