November 2013

الأصحاح ١٥

الجامات السبع لغضب الله

مقدمة:

المشهدان الختاميان في الأصحاح السابق هما عن الحصاد والكرمة. ولكن كلاهما يفترض أن الرب قد أتى. السحابة البيضاء التي يجلس عليها الحاصد الإلهي تدل على حضور الله (١٤: ١٤). ثم في يوئيل، حيث الحصاد والكرمة يتحدان (٣: ١٣)، يقيم الربّ كرسي دينونته في وادي يهوشافاط (الآية ١٢). في متى ١٣: ٣٦- ٤٢ الأحداث أكثر تمايزاً ووضوحاً، ولكن كلاهما يفترضان حضور الرب الفعلي. لقد جاء ليعالج الشر على الأرض. ليس بابل، النظام الديني المنظم في معارضة مباشرة لله، هي التي تقع تحت الدينونة متمثلة بالحصاد والكرم، ولكن العالم بمجمله هو المدان والديان هو الرب نفسه، دينونة بابل تسبق الحصاد والكرمة، وفي الواقع لابد من ذلك. مصير بابل هو تحت الجام السابع (١٦: ١٩)، والأحداث المتزامنة بثلث سلسلة الأحداث نلاحظها في الأصحاح ١٤: ٨. ومن هنا، فإن مصير عبدة الوحش (الآية ٩)، وبركة الموتى الأبرار (الآية ١٣)، ودينونة الحصاد الحصيفة (الآية ١٤)، والانتقام القاسي من الكرم (الآية ١٧)، هي أحداث تجري بعد صب جامات الغضب. سكب الجام السابع يتم غضب الله، ليتبعه غضب الحمل. الجام السابع لا يُدخل الحضور الشخصي للرب في المشهد. هناك فاصل زمني، ولاشك فاصل قصير، بين نهاية دينونات الجام ومجيء الرب. في الجامات لدينا غضب الله على العالم الأثيم- على أشياء أو أشخاص محددين للدينونة. في هذه لا يظهر الرب. ولكنه يأتي بعد الجامات ليحصد الحصاد على الأرض وليطأ بانتقام معصرة الغضب، ليس فقط في أدوم (أشعياء ٦٣: ١- ٦)- مركز العدائية المرة السابقة نحو إسرائيل (مز ١٣٧: ٧)- ولكن العالم بمجمله (رؤية ١٩: ١٥؛ صفنيا ٣: ٨). الحصاد والكرمة يأتيان بعد سقوط بابل.

الأصحاحان يجب قراءتهما ودراستهما معاً. جامات الغضب هذه هي فعلياً ذكر بالتفاصيل لما ورد بشكل عام في كلمات الآية ١٨ من الأصحاح ١١. ليس هناك دينونات محددة تحت البوق السابع، بل تحت الجام السابع. انتهاء الجامات يُتم غضب الله. غضب الحمل يأتي بعد ذلك- ويُنفذ الدينونة شخصياً.

آيَة أُخْرَى: الأصحاح ١٥.

١- "ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى في السَّمَاء عَظيمَةً وَعَجيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخيرَةُ، لأَنْ بهَا أُكْملَ غَضَبُ الله".

كنا قد رأينا الـ "آية عظيمة" للمرأة، إسرائيل (١٢: ١)، ثم "آية أخرى" تلك التي للتنين (الآية ٣)، والآن لدينا "آية أخرى" يُقال أنها "عَظيمَة وَعَجيبَة". هذه العلامات الثلاث تُرى كل واحدة منها في السماء- مسكن الله والملائكة. الذي يجعل الثالثة ذات مغزى جليل، وحتى أكثر من السابقتين لها، هو، وبالتوافق مع الويل الثالثة، اكتمال غضب الله الذي يُصبُ على الوحش، المضطهد الشيطاني للمرأة. الآية الأولى تُوجه الانتباه إلى إسرائيل، والثانية إلى المحرض الحقيقي على الشر، وهو التنين، والثالثة إلى السلطة المدنية الجاحدة المتمردة، التي تجدف على الله بتأثير الشيطان وتضطهد إسرائيل.

"سَبْعَةَ مَلاَئكَة" هناك ثلاث مجموعات ملائكية معدودة: واحدة مؤلفة من أربعة (٧: ١)، وواحدة من سبعة (٨: ١٢؛ ١٦: ١) وواحدة من اثني عشر (٢١: ١٢). في بؤس الدينونة تحت الأبواق وتحت الجامات هناك مجموعتان متمايزتان من سبعة ملائكة. هؤلاء المرتبطون بالأبواق من الواضح أنهم جماعة ذات كرامة ومكانة عالية، ويتم الحديث عنهم كمثل الحديث عن أولئك "الذين يقفون أمام الله"، ويتم الإشارة إليهم على نفس باستخدام أداة التعريف: "السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةَ" (٨: ٢). ولكن ليس هكذا أن ملائكة الجامات.

"مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخيرَةُ". دينونات الختم تلتها سلسلة الأبواق، والآن ضربات الجام السبعة على وشك أن تُسكب، والتي فيها تعبير كامل عن غضب الله المكظوم والمركز. دينونات التداخل الإلهي هي الأخيرة. التركيز هو على تعبير النهائية هذا؛ ليست الجامات هي من تنهي قصة الغضب الإلهي، ولكنها تنهي دينونات الله العنائية. ضربات أخرى من الانتقام الإلهي ستحل بما لاشك فيه، ولكن هذه هي من قِبل الخروف في شخصه ولدى مجيئه (رؤيا ١٩؛ متى ٢٥: ٣١- ٤٦).

"لأَنْ بهَا أُكْملَ غَضَبُ الله". هنا نعلم السبب في أن هذه الضربات السبعة هي الأخيرة. فذلك "لأَنْ" فيها غضب الله، أي تعامل الله العنائي بادينونة مع الأشرار والعالم المرتد. في خاتم الجامات، غضب الحمل، يكون أفظع بكثير من غضب الله، ويتم التعبير عنه صراحة وعلانية في موضوعات الانتقام. "التفويض بالعمل يُعطى للمسيح حالما تنتهي خدمة أو مهمة الجامات". تعاملات الله العنائية السرية تأتي إلى نهايتها للجامات، أو لجامات الغضب، والتي يستلم بعدها الخروف شخصياً وعلانية حكم العالم. ولكن كما أن الأمم لدى مجيئه تكون متمردة ومسلحة- مرتدة وشريرة أكثر من كل البشر- فإن غضب الخروف يتقد بشدته. غضب الله ينتهي بالجامات، ليتبعه غضب الخروف.

جماعة يهوذا المستشهدة الظافرة:

٢- ٤- "وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ منْ زُجَاجٍ مُخْتَلطٍ بنَارٍ، وَالْغَالبينَ عَلَى الْوَحْش وَصُورَته وَعَلَى سمَته وَعَدَد اسْمه وَاقفينَ عَلَى الْبَحْر الزُّجَاجيّ، مَعَهُمْ قيثَارَاتُ الله، وَهُمْ يُرَتّلُونَ تَرْنيمَةَ مُوسَى عَبْد الله وَتَرْنيمَةَ الْخَرُوف قَائلينَ: «عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ هيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ يَا مَلكَ الْقدّيسينَ. مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجّدُ اسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَميعَ الأُمَم سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهرَتْ»". في الرؤيا الأبكر (الآية ١) رأينا إعلاناً جليلاً عما سيأتي على الأنظمة السياسية المنتظمة (١٦: ١٠) والدينية (الآية ١٣) التي تكون مسيطرة على الأرض آنذاك، كما مع أولئك المرتبطين معها. على هذه غضب الله وبقوة لا تقاوم يمتد فيصيب الجميع، بينما القادة المدنيون والكنسيون يُحفظون لعقاب خاص تحت غضب خروف الحمل التي سيُصب لدى مجيئه بقوة وسلطان. رؤيا الدينونة في الآية ١ تُستأنف في الآية ٥. في المقطع الاعتراضي بين رؤيتي الغضب يُدخلنا الرائي إلى مشهد عظيم وجليل من النصر والتسبيح (الآيات ٢- ٤). فظاعة الجامات (الآية ١) مناسبة أمام الله ليعبر عن فكره بشكل صريح ومذهل، تلك المتعلقة بشعبه المتألم، وذلك قبل أن يضرب العدو. إنهم يُشاهدون هنا في رؤيا اعتراضية ثانوية بعد إعلان الغضب، وقبل تنفيذه. تاريخياً انتصر الوحش (١٣: ٧) على القديسين في الضيقة العظيمة. لم يُحفظوا من قوته الوحشية. والآن نرى الحالة تنعكس. القديسون الذين استُشهدوا هم هنا المنتصرون في الأعالي، والوحش على الأرض يقع عليه انتقام الله الكامل.

بحر زجاج:

٢- "كبَحْرٍ منْ زُجَاجٍ مُخْتَلطٍ بنَارٍ". مثله في المظهر. في أول هذه الرؤى الإلهية (الأصحاح ٤) رأى الرائي بحراً من زجاج يشبه الكريستال ممتداً أمام عرش الله الأبدي دالاً على حالة ثابتة من النقاء تتأتى من المحافظة على الطابع القدسي للعرش. بحر الزجاج هو كالكريستال ويرمز إلى الهدوء  الراسخ في ذلك المشهد من النور الساطع. ولكن في الرؤيا التي أمامنا تُحذف كلمة كريستال. في توافق جميل مع الطبيعة الإلهية في المشهد المفصل مع الأصحاح ٤ سيكون افتراضياً في غير مكانه في أصحاحنا. هنا البحر "مُخْتَلط بنَار"، وفي هذا إشارة واضحة إلى الاضطهاد العنيف تحت الوحش، محنة تفوق كثيراً في عذابها كل ما سبق أن اختبره المؤمنون (مرقس ١٣: ١٩). الاضطهادات الوثنية في الأيام الأولى، والتعذيبات الدقيقة والمنتقاة بعناية تحت روما البابوية، أقل فظاعة من الضيقة العظيمة.

انتصار الجماعة الغازية التي تقف على بحر الزجاج مؤكد. الوحش ركز قوته وطاقاته ليهزم إيمان الشهداء. قد يكون هناك فارق في هذه العبارة، ولكن صحيح القول أنهم بالموت ينتصرون. في انتصار الوحش نرى انتصار القديسين. لقد كانوا "الْغَالبينَ عَلَى الْوَحْش وَصُورَته وَعَلَى سمَته وَعَدَد اسْمه". لقد كان الانتصار كاملاً مكتملاً.

٢- "وَاقفينَ عَلَى الْبَحْر الزُّجَاجيّ". وقوفهم بتناسب مع مكانتهم الجديدة كغزاة منتصرين وعباد لله؛ الشيوخ يجلسون ما عدا خلال التسبيح أو الخدمة الأخرى. بحر الزجاج هو رؤية باكرة مفرحة؛ هنا نشاهد الجماعة السعيدة والظافرة والمسبحة تقف عليه.

قيثارات:

٢- "مَعَهُمْ قيثَارَاتُ الله". قيثارات الله وليس القيثارات الإلهية. هناك جماعتان سماويتان يتم الحديث على أن لديهما قيثارات، وهي الأداة الموسيقية الوحيدة التي يذكرها سفر الرؤيا. الأولى، هي جماعة القديسين الممجدين الذين يكونون قد ارتفعوا إلى السماء لدى المجيء في الهواء (٥: ٨)؛ والمجموعة الثانية هم الشهداء تحت الوحش، وهم الجماعة الغالبة على بحر الزجاج (١٤: ٢؛ ١٥: ٢). ونستنتج أن عازفي القيثارة والمغنين في الأصحاح ١٤ و١٥ هم نفس المجموعة. ويجب أن نلاحظ على نفس المنوال أن القيثارة والنشيد مترابطان معاً في كل ذكر لها من بين الأمثلة الثلاثة. الكلمات "التي لله" تدل على أنهم يتكلون على تدبيره الإلهي فيسبحونه ويعبدونه- قيثارات الله؛ وكل ما يتعلق بالأدوات والموسيقيين تخص الله.

كل عضو في الفرقة المبتهجة هو موسيقي ماهر وكل واحد مغنٍ فرح. القيثارة والأغنية منسجمان؛ لا نشاز ولا تنافر يشوه تجانس ألحان الجند السماوي والغالب. ولا من صوت أو قلب يمكن أن يكون خارج النغمة عندما يكون قائد التسبيح هو يسوع، المخلص والرب (عب ٢: ١٢). هناك موازاة مذهلة نوعاً ما بين الجماعة الغالبة وإسرائيل القديم في يوم انعتاقهم وسرورهم. مصر، المتعدية، تصاب بالضربات؛ وإسرائيل يعبر البحر الأحمر، مخلصون ومعتقون، وينشدون على الضفة الشرقية من البحر، وهذه أول أغنية أو ترنيمة في الكتاب المقدس (خر ١٥)؛ كل هذا له نسخة روحية مطابقة له في الوحش، مستعبد قديسي الله الذي يُبتلى بسلسلة من الضربات؛ البقية التقية وراء حقد الوحش، مخلصة وغالبة، وترنم ترنيمة موسى على بحر الزجاج، آخر ترنيمة مدونة في الكتاب المقدس (رؤ ١٥).

الترنيمة:

٣- "وَهُمْ يُرَتّلُونَ تَرْنيمَةَ مُوسَى عَبْد الله وَتَرْنيمَةَ الْخَرُوف". الأغاني متناغمة. أغنية أو نشيد موسى يحتفل بتحرير الله القدير لشعبه، وبأعمال قدرته، وطرق نعمته مع ولأجل إسرائيل من بدء تاريخه إلى حين انتصارهم النهائي. النعمة والمجد يُحتفل بهما بالأغنية العظيمة التي تُغنى على الضفة الشرقية من البحر الأحمر (خر ١٥). نشيد موسى الجليل ١. ولكنه كان انعتاقاً أرضياً ورُبح بقوة على العدو المقتدر. نشيد الخروف يير إلى موضوعين رئيسيين: الأول هو ابتداء من الإثم وتبعات الخطية بدم حمل الله؛ والثاني تمجيد الخروف الذي يحمل هذا السفر شهادة عظيمة له.

نشيد الغالبين المستشهدين، وعازفي القيثارة في الأصحاح ٢، ٣، وأخوة البقية المحفوظة من اليهود على جبل صهيون (١٤: ١). ليست سامية أو مرموقة أو متسمة بالعمق كما ذلك النشيد الذي للشيوخ (الأصحاح ٥). عبادة الشيوخ أكثر عمقاً ورسوخاً، وكلا الجماعتين متشاركتان في الدعوة السماوية ٢.

مواضيع الترنيمة:

٣- "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ هيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ يَا مَلكَ الْقدّيسينَ". الكلمات الافتتاحية في النشيد "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ" ترد أيضاً في الآية ١. الارتباط، بالطبع، مختلف، ولكن لا يستطيع المرء أن يتجاهل تكرار العبارة في مشهد من الواضح أنه خاتمة لغضب الله المتجلي على الشر العلني. علامة الدينونة الختامية "عَظيمَةٌ وَعَجيبَةٌ" الآية ١، وكذلك أعمال الله (الآية ٣). وقت سكب جامات غضب الله سيكون قصيراً وجيزاً، ولكن أعمال ذات قدرة مذهلة وعجيبة ستميزها.

لابد من ملاحظة أن الأعمال تُنسب إلى يهوه، الذاتي الوجود، وذي السيادة، والمستقل بذاته؛ إيلوهيم، الخالق، إله الآلهة؛ وشاداي، القدير، المقتدر بقدرته ووسائله، القدير الذي يؤازر ويمد بأسباب الحياة، لقد عرفه إسرائيل كيهوه (خر ٦: ٣). وكإله فهو يرتبط بالخلق (تك ١). وكقدير أعلن عن نفسه إلى الآباء (تك ١٧: ١). الترتيب الذي تأتي به أسماء الله وألقابه هنا تختلف عنها في الكشف. الله، يهوه ٣، والقدير هو التسلسل التاريخي. ولكن إسرائيل الحقيقي أمام الله في الجماعة الغالبة على بحر الزجاج، ولذلك فإن ممثلي الشعب يستخدمون اللقب الإلهي الملائم أولاً. كم هو أمين الله لكلمته ولاسمه! يهوه من أيام خروج ٦ لا يزال يقف مرتبطاً بعلاقة مع إسرائيل. يهوه وإسرائيل! وبالتالي فإن الشعب لا يمكن أن يهلك، ولا يُنسى. يا لها من قوة يدل عليها هذا الدمج للألقاب الإلهية! كم هو معز للنفس تطبيقها على المؤمنين في جميع العصور! كم من خشوع نشعر به عندما نتأمل في تطبيقها على أعداء الله وعلى قديسيه!

لكن "طرق" الله أيضاً تُشكل جزءاً من الترنيمة. حنوه، ونعمته، ومحبته، وحكمته، وكل صفة سمحة ومعنوية تتجلى في تعامله مع قديسيه تمر أمام ناظري الظافرين. قداسة الله ورحمته على قديسيه تفوق الوصف. أعمال الله الواضحة الجليلة تبدت أمام أعين إسرائيل. أعمال الاقتدار هذه لم تكون لديهم معرفة عميقة بأعمال الله. لقد كانت هذه أدلة واضحة بحد نفسها للجميع. ولكن طرق الله- تعاملات تلك التي تنبع من ماهيته- كان يمكن إدراكها فقط روحياً، ومن هنا نقرأ: "عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ" (مزمور ١٠٣: ٧). ولكن طرقه هنا هي طرق دينونة، وتلك الدينونة يتم التعبير عنها بطرق متنوعة، وهي "عَادلَةٌ وَحَقٌّ". طرق الله في تعامله مع شعبه هي دائماً وأبداً عادلة وحق، ويعادلها تأديبه لأعدائه؛ وهذا موضوع نجده بشكل خاص في المقطع الذي أمامنا.

٣- "مَلكَ الْقدّيسينَ". في ترجمة أخرى تأتي "الأمم" بدل "القديسين" وهذه هي الأصح. فالمسيح هو ملك الملوك، ملك الأرض، ملك إسرائيل، ملك الأمم، ولكن لا يُقال أنه "ملكنا"، أو "ملك القديسين". المؤمنون في الدهر التدبيري الحالي لديهم سلطة ملكية ممنوحة لهم (١ كور ٤: ٨؛ ٦: ٢، ٣؛ رؤيا ١: ٦)؛ ولكن تطبيقها يكون في المستقبل. سنملك مع المسيح (٢ تيم ٢: ١٢). الأمم المتحالفة مع الأرض الرومية على وشك أن تقع تحت الدينونة، ومن هنا كان لائقاً استعمال اللقب "ملك الأمم" (انظر إرميا ١٠: ٧). ونستنتج أنه في هذا النشيد التسبيحي الله والمسيح كلاهما موضوع العبادة، الأول في عظمة كينونته ولكن في العلاقة مع إسرائيل، والأخير في طرق دينونته مع الأمميين.

٤- ثم يطرح الغالبون في نشيدهم سؤالاً كونياً: "مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجّدُ اسْمَكَ؟". التكرار المثلث الجوانب لـ "أنت" هو لثلاث أسباب، كل واحد منها يقوم على أساس شخص الله، فتفسر وجوب إذعان الجميع للتساؤل عن الخوف من الرب وتمجيد اسمه. (١) "لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ". الكلمة التي تُرجمت "قدوس" ليست الكلمة التي تُطلق عادة على الله في الإشارة إلى طبيعته المقدسة. إنها تُستخدم هنا وفي ١٦: ٥ للإشارة إليه، بينما تُستخدم للإشارة إلى البشر الذين يتمتعون بموصفات أخلاقية ذات طبيعة مقدسة. ولكن في المثالين اللذين يردان في الرؤيا تشير الكلمة إلى مجموعة المزايا في الله- التي تخوله حق العبادة الحصرية من قِبل المخلوقات. لذا فإن كلمة "قدوس" كما تُستخدم هنا تدل على كل ما في الله والذي يستوجب العبادة له وحده. في الترجمة السبعينية لدينا نفس الكلمة في "مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ" (أشعياء ٥٥: ٣). كم هو ملائم تطبيق هذه الكلمة على الرب أحياناً عندما يضل العالم وعبد الوحش، العبادة والمبايعة التي تليق بالله وحده، والتي تلائمها هذه الكلمة "قدوس". (٢) "لأَنَّ جَميعَ الأُمَم سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ". نبوءات السفر تكون عادة على الزمن الحاضر، ولكن التي أمامنا هي استثناء. فالإشارة هنا هي للمستقبل. وبنتيجة هذه الطرق من الدينونة على يد "ملك الأمم" فإن الإرادة الحديدية للشعوب تتحطم، ويتحولون من الاتكال على أساس بشري وثقة ذاتية إلى الله ويعبدونه في حضوره. سيكون هذا وقت تحقيق نصوص كتابية مثل مز ١٠٠؛ ١٤٨؛ أش ٢: ٢- ٤؛ ٥٦: ٦، ٧؛ زكريا ١٤: ١٦، ١٧، الخ. (٣) "لأَنَّ أَحْكَامَكَ ٤ قَدْ أُظْهرَتْ". إظهار بر الله الإداني يُشار إليه في الجمع "أحكام". إعلان الله لنفسه في الدينونة هو سبب قوي يستوجب أن يتمجد اسمه.

خدام تنفيذ غضب الله وقد استعدوا للإدانة:

٥- ٨- "ثُمَّ بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإذَا قَد انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة في السَّمَاء، وَخَرَجَت السَّبْعَةُ الْمَلاَئكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ منَ الْهَيْكَل، وَهُمْ مُتَسَرْبلُونَ بكَتَّانٍ نَقيٍّ وَبَهيٍّ، وَمُتَمَنْطقُونَ عنْدَ صُدُورهمْ بمَنَاطقَ منْ ذَهَبٍ. وَوَاحدٌ منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ سَبْعَةَ جَامَاتٍ منْ ذَهَبٍ، مَمْلُوَّةٍ منْ غَضَب الله الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَاناً منْ مَجْد الله وَمنْ قُدْرَته، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَملَتْ سَبْعُ ضَرَبَات السَّبْعَة الْمَلاَئكَة". الكلمات الافتتاحية في هذه الرؤيا تشكل تعبيراً تقنياً يشير إلى توقف كامل، وبدء موضوع جديد كلياً (انظر الأصحاح ٤: ١). ومن هنا فإن ضربات الجامات لا مثيل لها إجمالاً ،وتُشكل مجموعة من دينونات خاصة بحد ذاتها. هناك ناحيتان هامتان يختلفان بهما عن تأديبات الختم والبوق: العرش في "السماء" هو مصدر وسلطة هذه الأخيرة، بينما الهيكل هو المشهد الذي منه يخرج غضب الجامات. حقيقة أن الهيكل يأخذ مكان العرش يغير الحال كلياً، ويقدم مساراً من التعامل الأشد والأقصى، مسار يتدفق من ماهية الله في بره وقداسته. ومن هنا فإن الفرق الآخر المميز للجامات عن الدينونات السابقة هو أن فيها غضب الله ضد الأنظمة المنظمة للشر تنتهي أو تكتمل. "بَعْدَ هَذَا" هو صيغة تقنية تتكرر عدة مرات في سفر الرؤيا.

٥- "انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة في السَّمَاء". قد لاحظنا للتو الحقيقة الشيقة أنه في كل هذا الجزء من الرؤيا، من ١١: ١٩ إلى الأصحاح ١٩، الهيكل، وليس العرش، كما في القسم السابق من السفر، هو المصدر الذي منه يأتي الفعل على الأرض. هنا وأيضاً في ١١: ١٩ ٥ الهيكل مفتوح في السماء، مسكن الله والملائكة. ولكن في ما قبل يُرى تابوت العهد، العلامة على حضور الله باهتمام في شعبه، كما عهد وشهادة غايته ونعمته. هنا لدينا خيمة الشهادة، أو الشهادة. وهذه كانت شهادة حقاً على حقوق الله التي كانت قد أُنكرت آنذاك علانية. السابق، أي العهد، كان علامة اليقين والضمان لبني إسرائيل. والأخير، أي شهادة الدينونة، بحسب طبيعة الله على أعدائه وشعبه. الهيكل أو بيت خيمة الشهادة هو تعبير فريد، ولا يرد إلا هنا. ونفهم من كلمة "مسكن (naos)" أنه المبنى نفسه، ما يستبعد الباحة، الخ، مسكن الله حيث يُدنى إليه ويُسجد له. والآن داخل الأثاث الذهبي والطاولات الحجرية نجد الشهادة كما كانت داخل الهيكل أو البيت، وهذا يمكن الحديث عنه على أنه خيمة الشهادة وحسب (أع ٧: ٤٤). لقد كان "هَيْكَلُ خَيْمَة الشَّهَادَة".

يا له من منظر غريب أمام ناظري الرائي! من هم هناك ليس الكهنة الذين يخدمون في المقدس ولا الكاهن العظيم في قدس الأقداس، بل "السَّبْعَةُ الْمَلاَئكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ منَ الْهَيْكَل". ليس هؤلاء هم الكهنة خدام النعمة بل الملائكة خدام الدينونة. لقد فوضهم الله وجهّزهم لخدمة معينة، فخرجوا من حضرته المباشرة وهم يتمتعون بقوة كاملة تصون حقوق الله وتحفظ طبيعة إله إسرائيل في الدينونة. الهيكل في القديم كان شاهداً على النعمة، أما هنا فهو مفتوح للدينونة. شر البشر كان يستحق ذلك، وقداسة الله تتطلبه.

طبيعة العدل والبر في مهمتهم يدل عليها الكتان اللامع النقي الذي يرتدونه (قارن مع ١٩: ٨)،  بينما المناطق الذهبية عند صدورهم تمثل البر الإلهي والأمانة التي تميز سلوكهم (انظر أشعياء ١١: ٥؛ رؤيا ١: ١٣). لماذا يتمنطقون بها عند الصدر وليس عند الحقوين كما في العادة؟ لأن الغضب الذي على وشك أن يُسكب يُقاس بمدى طبيعة الله المقدسة.

٧- "وَوَاحدٌ منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ سَبْعَةَ جَامَاتٍ ٦ منْ ذَهَبٍ ٧، مَمْلُوَّةٍ منْ غَضَب الله الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ". المخلوقات الحية هم المنفذون لحكم الله الإداني. هناك ثلاثة خطوات واضحة في عمل الدينونة هذا. أولاً، يفوض الملائكة ويُجهزون في المقدس (الآية ٦). ثانياً، يتلقون بعد ذلك جامات ذهبية مليئة بغضب الله من أحد المخلوقات الحية (الآية ٧). ثالثاً، ما من خطوة في عمل الدينونة يمكن أن تُتخذ إلى أن يسمح الله بذلك أو يأمر به (١٦: ١). يا لها من طرق مدروسة وموزونة تلك التي لله في الدينونة! الله، الحي أبداً، والأبدي، هو إله الدينونة. من ذاك الذي على وشك أن يضرب الأرض ويفتقدها بغضبه الشديد؟ إنه "الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ".

لقد أظلم الهيكل بدخان من غضب الله- ليس من البخور بل الدخان الذي ملأ الهيكل. لا يمكن رؤية أي شيء وما من أحد يمكنه الدخول. غضب الله تحول إلى عمل مكثف. الشفاعة ما عادت تنفع. لا البخور ولا الدم كان يمكن أن يوقف العاصفة الآتية من الدينونة الإلهية. لقد سُلم الهيكل، ليس للعبادة أو الشفاعة بل إلى غضب الله المتقد العنيف. والدخان هنا ليس من البخور بل من النار، رمز دينونة الله التي تحرق (أش ٦: ٤؛ خروج ١٩: ١٨). كان المسكن ممتلئاً بالدخان ٨ ما يدل على أنه ما من أحد كان هناك في حاجة لأن يبحث عنه في النعمة. ما كان ليمكن أن يراه أو يجده أحد في الهيكل. العمل الإداني كان يجري آنذاك، وإلى أن أكمل الملائكة السبعة العمل المناط بهم في تنفيذ الدينونة كان الله حتى ذلك الوقت محتجباً في العتمة الكثيفة لمجده الذاتي وقدرته في انتقام عادل من الجموع الفاسدة على الأرض.


١. - نشيد موسى النبوي (تثنية ٣١: ٣٠؛ ٣٢)، إذ كان يبلغ من العمر ١٢٠ سنة، فلا يمكن إعطاء الأغنية هذا اللقب "نشيد وسى". إن المقصود بوضوح هو نشيد الخروج وليس نشيد تثنية الاشتراع وهذا يتضح من الاعتبارات التالية: الإشارات الرؤيوية إلى زوار البحر الذي يقفون عليه؛ انتصارهم الواضح على أعدائه؛ عبارة "ضربة" المألوفة للدينونات الموسوية والرؤيوية على مصر والوحش، كما أيضاً طبيعة الضربات المتشابهة في كلتيهما. هذه، إضافة إلى اعتبارات أخرى، تقدم دليلاً حصرياً على أن "نشيد موسى" هو ذاك الذي في خروج ١٥، وليس التالي في ليلة أو في عشية موته.

٢. - أغنيتهم مميزة جداًَ. نشيد موسى هو انتصار على قوة الشر بفضل دينونات الله. نشيد الخروف هو تمجيد للمسيا المرفوض، المتألم، ومثل أولئك الذين كانوا قد تألموا؛ إذ أن البقية المذبوحة وسط إسرائيل المرتد وغير الأمين هم الذين نجدهم هنا.

٣. - "وَأمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ اعْرَفْ عِنْدَهُمْ"- أي إسرائيل (خروج ٦: ٣)، يعني أنه لم يكن معروفاً كلقب يدل على علاقة عادية. بالنسبة لإسرائيل، بالطبع، كان الاسم مألوفاً أكثر، ولكن غير معروف رسمياً في علاقته الخاصة بهم كشعب.

٤. - نفس الكلمة في ١٩: ٨. فقط في نصنا تنطبق على الدينونات التي تقع على الشرير في حين أنها في أماكن أخرى من الكتاب المقدس تُستخدم للدلالة على البر أو الأحكام التي تصدر على القديسين. في حاشيةٍ على رؤيا ١٩: ٨ في إحدى ترجمات الكتاب المقدس يقول المترجم الضليع: "في اللغة العبرية جمع الأفعال التي تعبر عن صفة تُستخدم لأجل الصفة المجردة نفسها. وقد تكون هذه هي الحالة في التناظر الوظيفي هنا (أيضاً في ١٥: ٤). وكذلك الحال مع المزمور ١١: ٧ حيث نجد "البر" أو "الأحكام" في النص العبري، ولكنها فعلية وليست منسوبة.

٥. - في القسم السابق من الأصحاح ١١ الهيكل في أورشليم هو الذي يُشار إليه (الآية ١). "هيكل الله في السماء" يجب أن لا يُفهم منه على أنه هيكل حرفي. بل هنا الإشارة رمزية.

٦. - الكلمة تعني طاسات أو كؤوس؛ ومأخوذة من الآنية التي كانت تُستخدم لصب أو سكب المشروبات أمام الرب"- "محاضرات على سفر الرؤيا"- وليام كيلي.

٧. - الذهب، والنحاس، والكتّان هي رموز تشير إلى حقيقة البر. الذهب حقيقي، يمثل البر الإلهي (١: ١٢، ١٣؛ ٣: ١٨؛ ٢١: ١٨- ٢١). النحاس هو دينونة البر، أو كما قال أحدهم "البر في التعامل مع الإنسان في مسؤوليته" (١: ١٥؛ ٢: ١٨). الكتان، يُمثل أعمال البر؛ البر الإنساني (١٥: ٦؛ ١٩: ٨).

٨. - في تكريس خيمة الاجتماع لم يستطع موسى أن يدخل إلى خيمة الشهادة (خر ٤٠: ٣٤، ٣٥) وعندما تم تدشين الهيكل وخدماته (الملوك الأول ٨: ١٠، ١١) لم يستطع الكهنة أن يدخلوا. في كلا الحالتين ملأ مجد الرب المكان. ولكن هنا ليس المجد بل دخانه، أي مجد الله في الدينونة.

الأصحاح ١٦

الجامات السبع لغضب الله

الأمر من الهيكل:

١- "وَسَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً منَ الْهَيْكَل قَائلاً للسَّبْعَة الْمَلاَئكَة: «امْضُوا وَاسْكُبُوا جَامَات غَضَب الله عَلَى الأَرْض»". المصطلحات: "صوت"، "أصوات"، "صوت شديد"، "صوت عال"، و"صوت عظيم"، لكل منها دلالتها الخاصة.

الكلمة صوت تستخدم بشكل مختلف مع المسيح عنها مع الله وعن الملائكة وعن المخلوقات الحية وعن المذبح وعن العرش، الخ. بينما وردت الكلمة، أو مع من أو لما تشير في سفر الرؤيا، فهناك فهم فطن متضمن في الموضوع المطروح. تطبيقها الاستعاري كما في ٩: ١٣ ليس استثنائياً.

الجمع، أصوات، ترد ثماني مرات، مع استثناء واحد (١١: ١٥) يرتبط مباشرة مع الدينونة. إنه أحد الإمارات التحذيرية الأولية التي تشير إلى الغضب الآتي (٤: ٥؛ ٨: ٥، ١٣؛ ١٠: ٣، ٤؛ ١١: ١٩؛ ١٦: ١٨)، ويدل ضمناً على أن التعامل الإداني ليس مجرد ممارسة لسلطة استبدادية، بل يحكمه ويوجهه العقل. إذاً نسمع عن "صَوْت شديد" (١٨: ٢)، و"صوت عال" (٥: ٢)، و"صوت عظيم"، كما في نصنا (انظر أيضاً ٢١: ٣). الصفات التي تُستخدم للدلالة على طابع الصوت، والذي هو مرة أخرى حفظ دقيق  لطبيعة الإعلان.

١- يسمع الرائي "صَوْتاً عَظيماً منَ الْهَيْكَل". المقدس نفسه، قدس الأقداس في الكون، تهبُّ للعمل. المطلب بالدينونة على العالم المرتد يبدأ ليس من العرش، بل من قدس الأقداس. غضب الله يحرق بشكل عنيف متقد، وقوته مستمدة مما تتطلبه طبيعته القدوسة وضروراتها (أش ٦). الصوت الذي يُسمع في الهيكل يمكن أن يُقال عنه أنه "عظيم"، عندما يقترب الموضوع من قداسة المكان وجلالة المتحدث.

اكتمال الخدمة الموكل بها ملائكة الدينونة هؤلاء يتم بشكل رمزي باستخدام العدد ٧، هذا العدد الغالب المسيطر والسائد في سفر الرؤيا. هؤلاء يخدمون غضب الله، رغم أنهم مجهزون إلهياً ومعدون، إلا أنهم لا يمكنهم القيام بالعمل ما لم يعط الله أمراً بذلك. "امْضُوا وَاسْكُبُوا جَامَات غَضَب الله عَلَى الأَرْض". هذه الآنية ذات الإطار العريض قد مُلأت في المقدس، وليس في البخور، بل بالغضب- غضب الله العادل. الصوت الذي يأمر بتنفيذ الضربات السبع هذه (الآية ١) يعلن اكتمالها عندما تُسكب جميعاً (الآية ١٧).

١- "اسْكُبُوا" وليس "رشُّوا". يشير هذا التعبير إلى ملء الغضب الإلهي، وكل إناء يفيض، ويُعاد ملؤه بدون قيد أو مقياس بشكل متتالٍ إلى أن يفرغ كل شيء. نجد هكذا عبارة مشابهة في العهد القديم بشكل مألوف (صف ٣: ٨؛ مز ٦٩: ٢٤؛ إر ١٠: ٢٥). هذه الويلات الرؤيوية السبع تبدو وكأنها استجابة لصلاة البقية اليهودية المتألمة في المحنة الآتية. "رُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ الْعَارَ الَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ" (مز ٧٩: ١٢).

مسرح هذه الويلات هو "الأرض"، ليس الأرض الجغرافية بل النبوية. إذ أن مسار الدينونة يأخذ مجال اكتساح أكبر وأوسع من ذاك الذي تحت الأبواق (الأصحاح ٨). ليس المقصود هو الأرض الرومانية المرتدة فقط، بل العالم الآثم كله داخل مجال الرؤية النبوية، وهذا هو ما جُعل موضع انتقام الله الغاضب.

ها إننا على وشك أن نشهد هذه الافتقادات الفظيعة للغضب الإلهي بشكل متتابع تصيب المقدس، ومن الجامات، التي كُرّست للاستخدام والخدمة في الهيكل، ولكنها الآن خُصصت لأهداف الدينونة.

جام الغضب الأول:

٢- "فَمَضَى الأَوَّلُ وَسَكَبَ جَامَهُ عَلَى الأَرْض فَحَدَثَتْ دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ عَلَى النَّاس الَّذينَ بهمْ سمَةُ الْوَحْش وَالَّذينَ يَسْجُدُونَ لصُورَته". في التعداد للأبواق العظيمة كل من الملائكة السبعة يُشار إليه على أنه "ملاك ثانٍ"، "ملاك ثالث"، "ملاك رابع"، وهلم جرا (الأصحاح ٨)، ولكن ليس الحال هكذا. المدخل مختصر أكثر، الأعداد الترتيبية الأول، والثاني، الخ.، تُستخدم ببساطة، وتُحذف كلمة الملاك ١.

الويل الذي يُشار إليها هنا على أنها "دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ" تُذكرنا بالضربة السادسة على المصريين (خر ٩: ١٠)، لقد كانت هذه أول الضربات التي أصابت أشخاص من المصريين، وكانت هي الضربة التي كان السحرة أو الحكماء يتألمون منها بشدة. لقد كانت داءً كريهاً مثيراً للاشمئزاز (انظر تث ٢٩: ٢٧، ٣٥). هناك إشارتان أخريتان في العهد الجديد إلى هذه الطبيعة المؤلمة للدمامل. فتحت الجام الخامس تُذكر في اتصال مع الدينونات الأخرى (الآية ١١)، وفي لوقا ١٦: ٢٠، ٢١ نعلم أن لعازر، الذي كان يحتضر وسط الكلاب في الشارع، كانت تغطّي جسمه دمامل مؤلمة لا تُشفى أو قروح، ولكن نَفس المسكين كانت ملائكة الله تعتني بها، وقد حُمِلت نَفَسُه إلى حضن إبراهيم- المكان الموقر للبركة اليهودية.

حرفية الويلات الرؤيوية (الأصحاح ١٦) تثير الجدل والنقاش عند البعض. وطُرحت أفكار تقول أن الضربات المصرية كانت حرفية، ولذلك لا بد أن تكون هذه، بسبب التشابه العام. والآن، وإزاء الاحتجاج القوي على تحديد وحصر قدرة الله، أو التطفل على عالم سيادة الله، نقول أن الضربات في أصحاحنا هذا لا بد أن تُفهم بشكل رمزي بتوافق مع الطابع العام والتصميم الذي يتميز به هذا السفر. ما يثير الاهتمام هو القروح المعنوية التي ستسبّب ألماً ذهنياً شديداً. لا شك أن الألم الجسدي سيضيف إلى الألم الذي سيحتمله البشر، ولكن السمة الغالبة السائدة تكون تعاملاً إدانياً مع النفس والوجدان- وهذه سيكون لها تأثير كبير على الجسد. هذه تُدعى "دَمَاملُ خَبيثَةٌ وَرَديَّةٌ". الكلمة تعني حرفياً قرحاً سيئاً، ينتج عنه ألم ومرض وطابع غير سوي، يتبدى بشكل عدواني كبير. الأشخاص الذين يحملون علامة الوحش وعبّاده- أي أولئك الذين يؤيدون بشكل فعال القوة المدنية المرتدة عندئذ تحت سلطة إبليس المباشرة- هم الذين سينالون جام الغضب الأولى إنه غضب الله على الموالين للوحش وأتباعه في كل الأرض النبوية. هذه في الحقيقة دينونة فظيعة تسبق سقوط بابل (الآية ١٩)، بينما العذاب الأبدي لعبدة الوحش يتبع ذلك الحدث العظيم (١٤: ٩، ١٠). ونستنتج من هذا أن سكب الجام الأول هو نذير بالمصير المشؤوم المُعلن والذي هو الموضوع الرابع في الأصحاح ١٤ الشيق الحافل بالأحداث العظيمة واللافتة جداً.

مقارنة بين الأبواق والجامات

إضافة إلى تشابه عام مع ضربات النصر، إن الجامات والأبواق تضرب بشكل قوي. في الأربعة الأولى من كل سلسلة مجال التطبيق هو نفسه، أي الأرض، والبحر، والأنهار، والينابيع، والشمس. ولكن في الأبواق المنطقة التي ستخضع للتأثير محصورة بجزء ثالث، ألا وهو العالم الروماني. التأثيرات التي تطبق تحت وطأة الجامات مختلفة، وذات طابع أشد من تلك التي تحت الأبواق. ثم تأتي الأبواق الخامس والسادس وحتى السابع فتتوافق إلى حد كبير مع الجامات الثلاث الأخيرة. ولكن في الجامات مجال الضربات المتنوع لا يكون محصوراً على الجزء الرابع (٦: ٨) أو الجزء الثالث (الأصحاح ٨) من الأرض النبوية. أينما يوجد الشر ستقع الضربة ولن يكون هنا مهرب.

جام الغضب الثاني:

٣- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّاني جَامَهُ عَلَى الْبَحْر، فَصَارَ دَماً كَدَم مَيّتٍ. وَكُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ في الْبَحْر". كل الجامات تُصب على الأرض، وليس على الأرض الجغرافية، بل على الأرض النبوية (الآية ١). ولكن كلمات "الأرض" (الآية ٢) و"البحر" (الآية ٣) كلتاهما تشكلان جزءاً من العالم النبوي المشار إليه؛ بمعنى أن كلمة "الأرض" في الآية ١ هي أكبر وأوسع من "الأرض" في الآية ٢. فالأخيرة تتغاير مع البحر، وكرمز فإنها تشير إلى ذلك الجزء الخاص من الأرض النبوية آنذاك في علاقتها الخارجية مع الله، بينما البحر يرمز إلى ذلك الجزء من العالم النبوي الذي يتم التعامل معه، ليس منظماً، بل ذا طابع ثوروي- الجموع بشكل عام. من المهم أن ندرك القوة في هذه الرموز وتطبيقها بالتفصيل. أمنيتنا الكبيرة هي أن يبقى هذا الفهم في النفس وأن ندرك المبادئ المعنوية والأخلاقية والتعليم في هذا السفر. وإن شرحاً مفصلاً وشيقاً ومقدماً بشكل آسر يجب أن يخضع إلى العنصر المعنوي- ذاك الذي يتناول الضمير والعلاقة مع الله. المبادئ الأخلاقية العظيمة للحقيقة التي تسود في كل الكتابات المقدسة عُني بها أن تحكم القلب وتُسيّر الحياة.

البحر "صَارَ دَماً" ليس حقيقة مادية، كما في الضربة المصرية الأولى (خر ٧: ١٧- ٢٥)، عندما تحول نهر النيل، النهر العظيم في مصر، مع قنواته، وينابيعه، وروافده، إلى اللون الأحمر حرفياً وفعلياً. ولكن في ويل الجام البحر يصبح أحمر بشكل رمزي بمعنى الموت المعنوي. إن المسيحية، أو على الأقل ما كانت تمثله آنذاك، متروكة ومهجورة. الارتداد كبير وشامل وواسع الانتشار حتى أن الدم (الحياة، المعنوية أو المادية، كما الحال هنا) هو "كَدَم مَيّتٍ". لدينا هنا الموت بمعنى مزدوج. أولاً، الموت الروحي، كما في أفسس ٢: ٥، حتى في حالة هؤلاء الأحياء بشكل طبيعي؛ والثاني، بالارتداد، التخلي عن الاعتراف الديني- الرفض العلني لكل العلاقة الخارجية مع الله، كما في يهوذا ١٢- "مَيِّتَةٌ مُضَاعَفاً"، حتى وإن كنا نحيا جسدياً.

"كُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ في الْبَحْر". جموع الناس الذين هم ضمن حدود الأرض النبوية يُرمز إليهم بالبحر الهائج الذي لا استقرار له، بينما أولئك الذين هم في علاقة خاصة مع الله داخل العالم نفسه يُشار إليهم بالأرض الصلبة. "كُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ مَاتَتْ". كل من يكتفي بالاعتراف فقط يجعل من الإيمان والوجدان والحقيقة حطاماً، ويتخلى عن كل ذرة من اعترافه الديني. الارتداد والتحول عن الله كاملان حتى أنه لا يُترك أحد، ما عدا أولئك ذوي الإيمان الحقيقي والذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة عند الحمل.

لقد دار نقاش كثير على مدى الأيام مفاده أن الحديث هنا يجري عن موت جسدي عنيف يُشار إليه بكلمة الدم، ولكننا نعتبر أن هذا خطأ. السيف يرمز إلى الموت بالحرب أو بالعنف، وهذا غائب هنا (٦: ٨؛ ١٩: ١٥). المشهد أمامنا يمثل حالة عامة ممن الفساد والارتداد بين الشعوب وجماعات البشر ليس من حيث العلاقة مع الله فحسب بل أيضاً بارتداد علني للجميع. العالم الوثني الذي قرأنا وسمعنا عنه بكل ممارسته الفاحشة والمثيرة للاشمئزاز. أوربا البابوية احتجبت بظلمة معنوية هناك، وهذا ليس من زمن بعيد. ولكن العالم المرتد، بالتجديف الذي فيه، والقسوة، والبؤس المخيف، قد هجره الله وسُلم إلى إبليس، وله صورة مريعة في سفر الرؤيا، وبالتأكيد، وإضافة إلى ذلك، هذه الصورة ملائمة جداً. إن سمة الأزمنة تشير بشكل لا خطأ فيه إلى ذلك الاتجاه.

جام الغضب الثالث:

٤- ٧- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الثَّالثُ جَامَهُ عَلَى الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه، فَصَارَتْ دَماً. وَسَمعْتُ مَلاَكَ الْميَاه يَقُولُ: «عَادلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائنُ وَالَّذي كَانَ وَالَّذي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هَكَذَا. لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قدّيسينَ وَأَنْبيَاءَ، فَأَعْطَيْتَهُمْ دَماً ليَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!» وَسَمعْتُ آخَرَ منَ الْمَذْبَح قَائلاً: «نَعَمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ! حَقٌّ وَعَادلَةٌ هيَ أَحْكَامُكَ»". مع البوق الثالث، الذي يتجاوب معه الجام الثالث، تأتي الأنهار والينابيع تحت الدينونة. في السابق، تصبح الأَفْسَنْتِينُ (٨: ١١)؛ وهنا تتحول إلى "الدم". في السابق كل حياة الشعوب، وطابعها، ومصدر فكرها وسلوكها، تسمم أخلاقياً؛ وفي الأخير الفساد عند الشعوب هو أعمق- موت أخلاقي وابتعاد كامل عن الله هي ما نتج عنه. "الأنهار"، والحياة الطبيعية للناس والمتميزة بالمبادئ المعروفة والمقبولة من الحكم، اجتماعياً وسياسياً، أو نَفَس الحياة، إذا صح التعبير، هي أيضاً كمثل "ينابيع المياه"، مصادر الازدهار والعافية والوفرة والخير، كلها تتحول إلى دم، بشكل رمزي. ويجب أن نلفت انتباهكم من جديد أن هناك توازٍ بشكل محدد بين الأبواق والجامات. والأخير، في نفس الوقت، هو لاذع أكثر وأشد إيلاماً من السابق.

٥- "مَلاَكَ الْميَاه" يبدو لأول وهلة تعبيراً غامضاً. ولكنه يستحضر إلى ذهننا الدور الكبير الذي يحتله الملائكة في عمل الفداء وهذا ينسجم مع الأجزاء الأخرى من السفر. إن كل موضوع في سفر الرؤيا تقريباً له ملاكه. فهناك ملاك وسيط بين المسيح ويوحنا (١: ١)؛ والكنائس السبعة لكل منها ملاك أو ممثل روحي أو ممثل معنوي، وليس كائناً إلهياً (٢: ٣)؛ وملاك يتحدى الكون لأن يُفرز شخصاً واحداً مؤهلاً ليحقق مشورات الله بما يتعلق بالأرض (٥: ٢)؛ وحشد لا حصر له من الملائكة يعبدون الحمل (الآيات ١١، ١٢)؛ وملائكة يسيطرون على العناصر (٧: ١)؛ وملاك يختم خدّام الله (الآيات ٢، ٣)؛ وكل بوق وجام له ملاك يمثّله (الأصحاحات ٨؛ ١٦)؛ وملائكة هم المحاربون في الحرب السماوية (الأصحاح ١٢)؛ وملاك يعلن الإنجيل الأبدي (الأصحاح ٦)؛ وملاك يعلن سقوط بابل (الآية ٨)؛ وملاك يعلن المصير المشؤوم الفظيع لعبدة الوحش (الآية ٩)؛ وملاك يخرج من الهيكل (الآية ١٥)؛ وملاك آخر يخرج من المذبح؛ (الآية ١٨). والرياح، والنار، والهاوية، لكل منها ملاك، والمياه أيضاً لها ملائكة حارسة وملائمة. الشعوب التي يُرمز لها بالمياه (١٧: ١٥) هي شعوب تخضع لملاك، وهي جميعاً تحت يد الله المسيطرة والمهيمنة.

ملاك المياه يذعن للدينونة الإلهية. وقد يجعلنا هذا نفترض بشكل طبيعي أنه سيحتج على التعامل الإداني والعقابي في العالم الذي يرأسه. ولكن نجد على العكس أنه يبرر الله قائلاً: "عَادلٌ أَنْتَ". إن الضربة لا تتجاوز عرض شعرة بمقياس البر الحازم. ثم أبدية كينونة الله، "أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائنُ"، وعلاقته الماضية بالبشر والملائكة، والذي كان، يتم التأكيد عليها بعد ذلك. "القدوس". هذه الكلمة المعينة ترد مرتين فقط في العهد الجديد فيما يتعلق بالمسيح: المثل الآخر هو في ١٥: ٤.

في بعض الترجمات لا نجد كلمات "أَيُّهَا الرَّبُّ" بل نجد "أيها القدوس".

٦- "لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قدّيسينَ وَأَنْبيَاءَ". تُبرهن هذه الجملة بشكل حاسم الطابع الرمزي للضربة. الشعوب والأمم المرتدة يُشار إليها بـ "المياه". لقد سفكوا دم قديسين وأنبياء بخلاعة وبلا رحمة. في ١١: ١٨، يأتي ذكر الأنبياء قبل القديسين؛ أما هنا فنجد القديسين ثم الأنبياء. في المثل السابق إنها مسألة إقرار علني بالخدمة والإخلاص والأمانة، ولذلك فإن الجماعة التي تحمل مسؤولية أكثر والمتمايزة أكثر يأتي ذكرها أو؛ بينما في نصنا استشهاد كل من يتمسك بالرب، كل من يشهد له، سلباً أو إيجاباً، بحسب المبدأ في لو ١١: ٥٠، ٥١. "القديسين" هي كلمة وافية ترد في كلا العهدين، وترمز إلى المؤمنين الحقيقيين بالله. "الأنبياء" تشير إلى أولئك الذين يشهدون حقاً لله بالأيام المظلمة والشريرة.

٦- "فَأَعْطَيْتَهُمْ دَماً ليَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!" الماء هو المصدر الطبيعي للحياة والانتعاش. والخمر هو رمز فرح الأرض. أما الدم فهو شهادة الموت. في عدالة إدانية، في بر مقدس، يدين الله مضطهدي شعبه مسلّماً إياهم لشرب الدم، ليدركوا الموت في أنفسهم وضمائرهم. العقاب فظيع. شرب الدم لا يعني الموت الجسدي، بل إنه أسوأ من ذلك بكثير. العقاب فظيع لأنه عادلٌ. إنه حلقة من تذوق مبدأي للفظائع التي في بحيرة النار. "لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!". ليس فقط أن الدينونة عادلة، بل إن هؤلاء المرتدين قد استحقوا بشكل كامل مصيرهم المشؤوم. "لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ!" أن ينالوا هذا الموت ذي الطابع الإداني الذي يصيبهم، ليشربوه، وهكذا يعرفوا بشكل كامل مدى مرارته.

في ترجمة أدق تأتي العبارة "سمعت المذبح يقول"، وليس "ملاك المذبح". المذبح النحاسي هو المشار إليه هنا (٦: ٩)، مذبح الدينونة المهلكة. حياة قديسي الله وشهادتهم قُدمت كذبيحة قربانية على المذبح (هكذا نظر الله إليها)، ونفوسهم بعد الموت يُسمع صوتها من الأسفل تستصرخ الله طالبة الانتقام من الذين اضطهدوهم أولئك الذين كانوا متعطشين إلى دمائهم. يسمع الله الصرخة. فبعد ست سنوات بدا الله فيها وكأنه كان غافياً أو لا مبالياً بالمعاملة القاسية والفظيعة التي تعرض لها شعبه في كل الدهور. ولكن لا. إن طول أناة الله قد أتت الآن إلى نهايتها، وانتقام الرب الذي كان في حالة سبات ينفجر الآن. صرخة المذبح هي التبرير لغضب الله. إنه يبتهج بالسمة المقدسة والبارّة لهذه الإدانات القضائية. في السفر الأول من الكتاب المقدس (٤: ١٠) نسمع صرخة الدم لأول جماعة مستشهدة؛ والآن في السفر الأخير (١٦: ٧) نسمع صرخة المذبح الذي كان شاهداً على ذبح قديسي الله منذ هابيل حتى ذلك اليوم. إنها صرخة المذبح نفسه في وقت اقترب فيه التحقيق النهائي من الدينونة تحت الجام السابع. إنها بآن معاً مناشدة لله ودفاع عنه في دينوناته العادلة والمحقة (انظر ١٥: ٣؛ ١٩: ٢).

جام الغضب الرابع:

٨، ٩- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الرَّابعُ جَامَهُ عَلَى الشَّمْس فَأُعْطيَتْ أَنْ تُحْرقَ النَّاسَ بنَارٍ، فَاحْتَرَقَ النَّاسُ احْترَاقاً عَظيماً، وَجَدَّفُوا عَلَى اسْم الله الَّذي لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذه الضَّرَبَات، وَلَمْ يَتُوبُوا ليُعْطُوهُ مَجْداً". هناك موازاة لافتة ومذهلة بين الأبواق الأربعة الأولى والجامات الأربع الأولى. في كليهما يكون لدينا نفس الترتيب. الأقسام العظيمة من الطبيعة، رمزياً، بالطبع، تأتي تحت الدينونة، أعني بذلك الأرض، والبحر، والأنهار، والشمس. في الجامات كل العالم النبوي مشارك، بينما في الأبواق نجد أن ما هو أمامنا هو الأرض الرومانية بشكل خاص.

الافتقاد السابق للشمس بالدينونة (٨: ١٢)، أي السلطة الحاكمة السامية، التي نتج عنها عالم من الظلمة الأخلاقية الشديدة، المحصور بالعالم الروماني المنتعش. ولكن البوق الرابع، في شدته وفي مجاله بآن معاً، لا بد أن يُبهت أمام الفظائع العظيمة التي في الجام الرابع. فهناك ظلمة، وهنا ألم مبرح لا يُحتمل؛ هناك منطقة من الدينونة المحدودة، وهنا تمتد الدينونة إلى أقصى حدود العالم المسيحي؛ هناك ظروف الناس هي موضع السؤال، وأما هنا فالبشر أنفسهم في شخصهم هم الذين يعانون الألم الشديد.

٩- "احْتَرَقَ النَّاسُ احْترَاقاً عَظيماً". قوة الشمس تزداد لدرجة تسفع معها البشر أو تحرقهم بنهارها. بالطبع ليست هذه دينونة مادية تنشأ عن نجم سماوي عظيم؛ ولذلك علينا أن نسعى لأن أتأكد من المغزى المعنوي والمعنى الرمزي للعلامة أو الآية. الشمس كرمز تشير إلى الحكم السمي (انظر ٦: ١٢؛ ٨: ١٢؛ ٩: ٢؛ ١٢: ١). لذلك فإننا نفهم أن السلطة الحاكمة العظيمة على الأرض تصبح سبب الألم الشديد والفظيع الذي يصيب الناس. "احْتَرَقَ"، أو سُفِع، ستحمل معنى كبيراً بشكل طبيعي (تث ٣٢: ٢٤؛ ملا ٤: ١).

٩- ثم نُدعى لنشهد على أثر هذه الضربات الرهيبة على ضمائر البشر. هل اتضعوا وتابوا بها؟ هل انسحقوا بالروح تحت شدة التأديبات الإدانية المتزايدة والمتكررة؟ لا! لقد "جَدَّفُوا عَلَى اسْم الله". يا له من رد من قِبل البشر على غضب الله القدير الواضح المعلن! وكم صارت إرادة الإنسان سيئة وفاسدة كلياً حتى لم يعد هناك سبيل لإصلاحهاّ لو كان هناك توبة صادقة نقية فإن عاصفة غضب الله كانت ستهدأ، لأن الله "لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذه الضَّرَبَات". كل شيء كان بيده، وكان يمسك بزمام كل شيء بقوة وتماسك. الله هو مصدر هذه الإدانات والدينونات الرؤيوية. لسنا نعيش في عالم من الصدف، بل في عالم يخص الله وهو الذي يسيطر عليه ويتحكم به حتى في أدق ظروف وتفاصيل الحياة. ولكن هذه الضربات لم تؤدي إلى توبة بل إلى ازدياد تقسي البشر! لم تؤدي إلى مجد الله، بل التجديف على اسمه المبارك. في هذه الضربة الله والخليقة يظهران أمام بعضهما في تضاد قوي.

جام الغضب الخامس:

١٠، ١١- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ الْخَامسُ جَامَهُ عَلَى عَرْش الْوَحْش، فَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ مُظْلمَةً. وَكَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسنَتهمْ منَ الْوَجَع. وَجَدَّفُوا عَلَى إلَه السَّمَاء منْ أَوْجَاعهمْ وَمنْ قُرُوحهمْ، وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالهمْ". الكنائس السبع (الأصحاحان ٢ و٣)، والأختام السبعة (الأصحاحات ٦؛ ٨: ١)، الأبواق السبعة (الأصحاح ٨)، والجامات السبع (الأصحاح ١٦) كل منها مقسمة إلى مجموعتين متمايزتين. في حالة الكنائس التقسيم هو إلى ثلاثة أو أربعة أقسام؛ بينما في الفئات الأخرى يكون التجميع معكوساً، أربعة وثلاثة. العدد سبعة بحد نفسه يرمز إلى الاكتمال، والكمال الروحي. عندما يكون هناك أعداد منفصلة، مثل ١، ٢، الخ.، فإن الأجزاء المتنوعة من الكل تكون متمايزة، وعندما تُجمع إلى قسمين متساويين كل منها مؤلف من ثلاثة أو أربعة فإنها تعلن سمة خاصة ومميزة لكل مجموعة.

لدينا في الجامات السابقة التقسيمات الأربعة الكبيرة للطبيعة ممثلة بشكل رمزي، بالأرض، والبحر، والأنهار، والشمس. ولكن الآن ننتقل من عالم الطبيعة لنشهد موضوع دينونة محدد ومميز، أي مملكة الوحش، التي أُصيبت في مركزها وأساس قوتها. الوحش نفسه، أو الرأس الشخصي للإمبراطورية، هو، مع شريكه في الجريمة، ضد المسيح، قد قُدر له مصير مشؤوم فظيع (١٩: ٢٠). ولكن حتى ذلك الحين فإن السلطة السياسية والمدنية على الأرض سيؤسسها إبليس (١٣: ٤؛ ١٧: ٨) وهي في قوتها ومحورها قد جُعلت لتشعر بضربة الدينونة الإلهية. تنفيذ الملكوت، وليس التابعين فيه، يُشار إليه هنا. "العَرْش"، قوة ومجد الملكوت، يُسحق بدينونة. التحدي المتغطرس والبذيء والبعيد عن التقوى، هو: "مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟" (١٣: ٤) تتم الإجابة عليه بشكل دقيق هنا وفي ما بعد أيضاً (١٩: ١٩- ٢١).

١٠- "فَصَارَتْ مَمْلَكَتُهُ مُظْلمَةً". لا شك أنه في هذه العبارة هنا تلميح إلى خروج ١٠: ٢١- ٢٦. إلا أن الظلمة هناك كانت مادية، بينما هي هنا معنوية. من الصعب أن ندرك بأي شكل يمكن تصوره أو تخيله مدى الرعب الذي يحيط بهكذا مصير مظلم. أحد المزايا الرئيسية للبؤس الذي سيعانى منه في المثوى الأبدي من الألم، أي بحيرة النار، هي الظلمة والعتمة (مت ٢٥: ٣٠). تلك الظلمة يتم إلقاء ظل عليها هنا مع كل التبعات التي ترافقها. "كَانُوا يَعَضُّونَ عَلَى أَلْسنَتهمْ منَ الْوَجَع". "هذا هو التعبير الوحيد من نوعه الذي نجده في كلمة الله، ويشير إلى الألم المضني المبرّح والأشد قوة" ٢.

١١- تحت الألم الذي سببه الجام السابق راح الناس يجدفون على "اسم الله"؛ وهنا نجد المزيد من الشعور بالشر، فهم يجدفون على "إلَه السَّمَاء"، ليس على اسمه فقط، بل على الله نفسه.هناك ندم ومعاناة في المملكة المظلمة معنوياً. المعرفة نفسها بأن الله هو في السماء وهو خالق ومصدر تعاستهم، التي ابتُليوا فيها بالدينونة، لا تجعل القلب ينحني في توبة. لا تزال إرادة البشر غير منكسرة بعد. "وَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَالهمْ"، هذه الأعمال نفسها التي رد الله عليها بالدينونة. لقد أحبوا الظلمة وأعمال الشر. ولذلك فإن ضربات أشد وأثقل سوف تنزل عليهم.

جام الغضب السادس:

١٢- ١٦- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّادسُ جَامَهُ عَلَى النَّهْر الْكَبير الْفُرَات، فَنَشفَ مَاؤُهُ لكَيْ يُعَدَّ طَريقُ الْمُلُوك الَّذينَ منْ مَشْرق الشَّمْس. وَرَأَيْتُ منْ فَم التّنّين، وَمنْ فَم الْوَحْش، وَمنْ فَم النَّبيّ الْكَذَّاب، ثَلاَثَةَ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ شبْهَ ضَفَادعَ، فَإنَّهُمْ أَرْوَاحُ شَيَاطينَ صَانعَةٌ آيَاتٍ، تَخْرُجُ عَلَى مُلُوك الْعَالَم وَكُلّ الْمَسْكُونَة لتَجْمَعَهُمْ لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ. «هَا أَنَا آتي كَلصٍّ. طُوبَى لمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثيَابَهُ لئَلاَّ يَمْشيَ عُرْيَاناً فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ». فَجَمَعَهُمْ إلَى الْمَوْضع الَّذي يُدْعَى بالْعبْرَانيَّة «هَرْمَجَدُّونَ»".

نهر الفرات:

"النَّهْر الْكَبير الْفُرَات". هذا النهر الشهير في غرب أسيا، وله رموز كثيرة في التاريخ والنبوءة، يُذكر اسمه لأول مرة في تك ٢، ويُذكر أخيراً في رؤ ١٦: ١٢. الإشارتان النبويتان إليه يتم التعبير عنهما بنفس الكلمات (٩: ١٤؛ ١٦: ١٢). كان نهر الفرات يشكل الحد الشرقي للغزو الروماني، ويشكل الحد الغربي لفلسطين الموسعة في المستقبل. لقد كان يشكل عائقاً جغرافياً ومتراساً طبيعياً فاصلاً بين الغرب والشرق. الجام الذهبي للملاك السادس يُصب على النهر الكبير، ولذلك فإن مياهه قد جفّت. الحاجز يُزال بفعل الدينونة هذا، لكي تستطيع الأمم الشرقية أن تدفع بجيوشها بسهولة أكبير إلى أرض كنعان.

نستنتج من المشهد أمامنا أن نهر الفرات، أو جزء منه، سوف يجف حرفياً، وبلا شك بطريقة عجائبية. دينونة مشابهو نوعاً ما ستقع في الغرب (أش ١١: ١٥). نهرا النيل والفرات كلاهما يتم التعامل معهما- وهما الحدان الغربي والشرقي لأرض فلسطين. ليس هناك صعوبة في قبول ما يقوله هذا النص هنا حرفياً. المستقبل حافل بالعجائب والأحداث المذهلة، وإذا ما كان النهر يقسم الشرق عن الغرب، فللضرورة يجب إزالة هذا الحاجز ليسمح لجيوش الشقر تحت إمرة ملوكهم الخاصين بكل منهم أن يعبروا البلاد ويتجمعوا في فلسطين. سبب الدينونة الإلهية للنهر هو أن "يُعَدَّ طَريقُ الْمُلُوك الَّذينَ منْ مَشْرق الشَّمْس". هؤلاء الملوك لا يمكن أن يكونوا هم اليهود، فهذا افتراض غير منطقي. جمع الشعب الإسرائيلي سيدخل الأرض من الغرب، بينما أفرايم أو الأسباط الاثني عشر تُستعاد بشكل رئيسي من الشمال إلى الجنوب. إضافة إلى ذلك، ليس ملوك من الشرق، بل من الشرق، وشعوب من الجانب الشرقي من الفرات، هم الذين يتم الكلام عنهم.

لا نرى سبباً يستدعي أن تكون الإمبراطورية التركية هي المشار إليها باسم نهر الفرات في أي من النصين حيث يأتي ذكر النهر في العهد الجديد. لا يُشار إلى تركيا في الكتابات المقدسة على الإطلاق. ليس من حاجة إلى قول نبوي أو بصيرة لافتة للتنبؤ بسقوط معظم القوى الحاكمة السيئة والفاسدة على الأرض. تمزق أوصالها قد بدأ، وانهيارها الكامل والنهائي هو مسألة وقت، ولن يطول أمدها. سرعان ما ستأتي الأقاليم التي في الإمبراطورية العثمانية إلى الواجهة. تجمع القوى المناوئة في الأرض المقدسة هو أمر واضح في الأصحاح الذي يتناول الحكم الألفي، تك ١٤. ففي يهوذا وحولها سيجمع الله الأمم والممالك ليسكب فيهم نقمته وغضبه الشديد (صف ٣: ٨). وبلاد فارس، وأثيوبيا، وغيرها، ستكون تحت سلطة روسيا وتتبع ركب جوج، الحاكم الأخير للشعوب الروسية (حز ٣٨: ٢- ٣). واليونان يبدو أنها ستسلك بطريقة مستقلة في الأزمة الآتية (زك ٩: ١٣)، ولكن كل تلك القوى ستكون معادية سياسياً ليهوذا المستعادة (مز ٣٨؛ زك ١٢؛ ١٤). وستكون مصر خاضعة للوحش ومتحالفة معه، وهكذا سيهاجمها ملك الشمال، عدو إسرائيل السياسي الشديد العزم (دا ١١: ٢٥، ٢٩، ٤٢- ٤٤). الوحش وجوج هما قوتان متضاربتان. السياسة والهداف بينهما مختلفة جداً. الأول هو الذي سيحمي الشعب اليهودي، والأخير سيكون هو الذي سيدمرهم.

مثلث شيطاني:

ليست العوائق والحواجز الطبيعية هي فقط التي تُزال، لكي تستطيع القوى الآسيوية أن تشق طريقها وهي على استعداد لأن تأخذ نصيبها المخصص لها في الصراع والمؤامرة في الأيام الأخيرة، بل إبليس نفسه يؤمن "خدمة عالمية" ليشكل نوعاً من التحالف بين القوى المعارضة الشديدة البأس. جام الغضب السادس لا يُستهلك في الدينونة على نهر الفرات. هناك "ثَلاَثَةَ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ" يُقال عنها "أَرْوَاحُ شَيَاطينَ"، تُشبّه بضَفَادع- كريهة، قذرة، مقرفة، تنتج عن الشر المستنقعي المهلك الوبائي الافتراضي للعالم الفاسد- وهذه تنطلق في مهمتها الفظيعة. سيكون لها تأثير بالكلمة، والآية، والأعجوبة على شعوب الأرض؛ لتغويهم "لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". الله على وشك أن ينصّب ملكه على جبل صهيون (مز ٢)، لكي تتجمع كل الأرض المأهولة بالسكان لتقاوم وتهزم القصد الإلهي. إنه تجمع عالمي للقوى. مثلث الشر- الحقد والخبث المتمركز في إبليس- استخدموا في جمع وتوحيد ملوك الأرض. هذه الأرواح تخرج من فم التنين، ومن فم الوحش، ومن فم النبي الكذاب. يُعتبر الفم مصدر ووسيلة وكيل الدمار (١: ١٦؛ ٢: ١٦؛ ٩: ١٧؛ ١٩: ١٥؛ انظر أيضاً أش ١١: ٤). التنين لا يعمل فقط ليحقق مخططاته، بل إن وكيلاه الرئيسيان يُشاركان في العمل- الوحش والنبي الكذاب. السابق هو السلطة السياسية والمدنية المرتدة الواسعة في روما؛ والأخير هو الوحش الثاني الوارد ذكره في رؤيا ١١، والذي يُشار إليه هنا باسم النبي الكذاب، بسبب أكاذيبه وتأثيره الكبير على الناس. لدينا هنا دمج بين القوة الشيطانية المباشرة، وقوة الارتداد الوحشية، والتأثير الخبيث والحاقد، كلها مسخرة في هذا العمل الجهنمي (قارن مع أخبار الملوك الأول ٢٢).

هَرْمَجَدُّون:

١٦- "فَجَمَعَهُمْ إلَى الْمَوْضع الَّذي يُدْعَى بالْعبْرَانيَّة «هَرْمَجَدُّونَ»". ضمير الغائب هنا يشير إلى الله. إنه وراء كواليس المشاهد والممثلين في هذه الدينونة الجزائية وطريقة التعامل. إن الله القدير هو الذي يفعل ويعمل وذلك بهدف وبقصد الثواب والعقاب العادل، هذا التجمع الكبير للأمم، مع استخدام التنين، عدوه المعلن، ورؤساء الارتداد الكبار في الأرض الذين يحققون مقصده. بماذا يجري التجمع في ذلك المكان الذي يُدعى هَرْمَجَدُّون؟ هناك شن ملوك كنعان معركة على إسرائيل، ولكن الرب قاتل إلى جانب شعبه، وكان النصر البارز حليفه واحتفل بنو إسرائيل في هذا النصر عن طريق دَبُورَة، النبية (قض ٥: ١٩، ٢٠). والآن هناك هدف كبير واحد أمام الأمم المتجمعة ألا وهو أن يسحقوا ويهزموا شعب إسرائيل (مز ٨٣: ٣- ٨)، ولكن الله يتدخل، ويدمرهم بفعالية ويحرر خاصته، كما فعل في الأيام الأولى من زمن القضاة. الانتصار الأولي يُشار إليه هنا على أنه عربون وأمارة على الأخير. في الواقع ليس تلة مَجِدُّو فعلياً أو واديها هو مكان تجمع الأمم؛ إن محدودية هذه المنطقة تحبط أي فكرة من هذا النوع. ولكن المعنى البسيط هو أن الله سيجمع عن طريق إبليس الكثير من أمم الأرض إلى فلسطين، وهدفهم سيكون أن يقلبوا الحكم في إسرائيل ويحطموه، وأن يندفعوا بقوتهم المتحدة ضد الرب. ولكن هذا لا يؤدي إلا إلى دمار أنفسهم وهلاكهم؛ فالله يصب غضبه على الأمم المتجمعة ضده (انظر النبي يوئيل والنبي صفنيا). لقد لوحظ أن وادي يهوشافاط هو المكان الذي سيهلك فيه الله أولئك الأعداء، وهَرْمَجَدُّون هو مكان تجمع الأمم. ولكن كلا المكانين، عني به أن يمثل في المبدأ عوالم مغلقة أو معينة في الأيام الأخيرة. الجبل والوادي كلاهما يشيران إلى التجمع المستقبلي للملوك والشعوب في أرض فلسطين، وعلى الأرجح أن ذلك سيكون في جوار أورشليم. وهناك ستحسم مسألة حكم الأرض والسيادة عليها وذلك بهزيمة نكراء يتعرض لها الأمم، وتتأسس مملكة عالمية لإلهنا ومسيحه؛ وفي تأسيسها سيكون هناك نصيب لبني إسرائيل كما الأمم أيضاً في الأرض الألفية.

نظرة استذكارية:

ولكن علينا الآن أن نتمحص ثانية خطواتنا نوعاً ما. يجب أن نلاحظ أن الآية ١٦ تستمر بشكل طبيعي وتكمل في الواقع الموضوع المطروح في الآية ١١. ومن هنا المقطع بين الآية ١٥ يشكل مقطعاً اعتراضياً ذا أهمية معنوية عالية. "هَا أَنَا آتي كَلصٍّ" يتجمع ملوك وشعوب الأرض عن طريق إبليس في اللحظة التي سيأتي الرب فيها ظافراً منتصراً في مجد (١ تسا ٥: ٢). العالم كله سيكون نائماً وسط عتمة معنوية في منتصف الليل، وسيهنئ نفسه في "سَلاَم وَأَمَان"، عندما سيبرز الرب نفسه في المشهد على نحو مفاجئ وغير متوقع، كلص في الليل. هذا المظهر من المجيء لا يشكل رجاء لنا ولا يسبب لنا الخوف (الآية ٤). لسنا من الليل، ولا من الظلمة، ولذلك لا يمكن أن نُباغت هكذا. بالنسبة لنا، قبل أن ينبلج النهار، سيظهر الرب ككوكب الصُّبْح. ثم يُختتم المقطع الاعتراضي بكلمة بالغة الأهمية تحوي تعليماً مركّزاً مفيداً لنا في جميع الأزمان، ولكن بشكل خاص في لحظة ومناسبة هذه النبوءة المتعلقة باليوم الأخير. المؤمن الذي "يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثيَابَهُ" في ذلك اليوم سوف يُعلن على أنه "مبارك". ‘إنها ليست مسألة حياة أو خلاص هنا، بل مسألة سلوك. كم ستكون هناك حاجة في ذلك الوقت، كما في كل الأوقات، لأن ينظر المرء بانتباه إلى طرقه وخطواته، لئلا يُباغت من قِبل العدو فيراه ويكشف خزيه وعريه الأخلاقي.

مقارنة بين الجامة والبوق:

عند بدء ختم تعليقنا على الجام السادس يجب أن نلاحظ باختصار التشابه والتناظر بينه وبين البوق السادس. في كليهما يتم ذكر نهر الفرات. وفي كليهما أيضاً، تشارك القوى الآسيوية في الصراع. وهناك نقاط أخرى متنوعة تظهر تشابهاً بينهما يجب أن ينتبه إليها القارئ. نضيف أيضاً تعليقاً بأن الجام السادس بحد ذاته لا يمثل مشهد الصراع بين القوى المتنوعة، ولا يكشف سقوط ضحايا في كل أرجاء العالم؛ بل إنه بالأحرى يشير إلى التجمع العام للشعوب من كل أصقاع الأرض، لكي يكونوا هناك عندما يأتي الرب في قوة (رؤ ١٩). إلا أن نصوصاً كتابية أخرى تمكننا من أن نتبين التفاصيل. هناك قول أو قولين من الحقائق النبوية من الهام أن ندركها ونستوعبها. إن يهوذا، وخاصة قرب أورشليم، ستكون مكان التجمع الأخير لأمم وشعوب الأرض. معظم الأمم، وخاصة تلك التي في الشمال والشرق، ستسعى لتدمر الجماعة اليهودية. كل الشعوب ستكون متحدة بشكل أو بآخر في بغضها لله ومسيحه، جميعها ستدان وتعاقب لدى مجيء الرب بقوة (رؤ ١٩؛ أش ٦٦؛ زك ١٤).

جام الغضب السابع:

١٧- ٢١- "ثُمَّ سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّابعُ جَامَهُ عَلَى الْهَوَاء، فَخَرَجَ صَوْتٌ عَظيمٌ منْ هَيْكَل السَّمَاء منَ الْعَرْش قَائلاً: «قَدْ تَمَّ!» فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ. وَحَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ لَمْ يَحْدُثْ مثْلُهَا مُنْذُ صَارَ النَّاسُ عَلَى الأَرْض، زَلْزَلَةٌ بمقْدَارهَا عَظيمَةٌ هَكَذَا. وَصَارَت الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ، وَمُدُنُ الأُمَم سَقَطَتْ، وَبَابلُ الْعَظيمَةُ ذُكرَتْ أَمَامَ الله ليُعْطيَهَا كَأْسَ خَمْر سَخَط غَضَبه. وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ وَجبَالٌ لَمْ تُوجَدْ. وَبَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثقَل وَزْنَةٍ، نَزَلَ منَ السَّمَاء عَلَى النَّاس. فَجَدَّفَ النَّاسُ عَلَى الله منْ ضَرْبَة الْبَرَد، لأَنَّ ضَرْبَتَهُ عَظيمَةٌ جدّاً". الأحداث الموصوفة تحت الجام السابق كانت تمهيدية لسكب غضب الله النهائي على السلطة المدنية المرتدة، وعلى بابل الآثمة من حيث السمعة الكنسية والتاريخ، والفساد الديني في الأرض. لقد شهدنا للتو دينونة الله التدبيرية على "النَّهْر الْكَبير الْفُرَات"، والتجمع الكوني للأمم تحت قدرة الشيطان الكبيرة التي خرجت إلى ثَلاَثَةِ أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ شبْهَ ضَفَادعَ ٣. لقد تم تحذير العالم، "هَا أَنَا آتي كَلصٍّ"، وقد اجتمع القديسون وتشاوروا بجلال ليسيروا بأثواب غير متنجسة، ولذلك فإن الجميع كانوا على أهبة الاستعداد تحت الجام السادس. ولذلك فليس هناك المزيد من التأجيل. الجام السابع الذهبي يُسكب الآن، ويفوق في حجمه وشدته كل ما شهدناه حتى الآن منذ أن بدأ الإنسان تاريخه المؤلم خارج عدن.

١٧- "سَكَبَ الْمَلاَكُ السَّابعُ جَامَهُ عَلَى الْهَوَاء". هذه الدينونة تقع على نَفَس الحياة المعنوي للعالم. الهواء، الأساسي للحياة الطبيعية، يفتقده الله رمزياً بالدينونة. مملكة إبليس هي في الواقع مجال هذا الويل الفظيع (أف ٢: ٢)؛ ونستنتج أن "الْهَوَاء"، كما هو مستخدم في هذه النبوءة التي فيها تحقيقي للدينونة على أنظمة الشر في العالم، يشير إلى دمار كل التأثيرات المعنوية السليمة والمبادئ التي يتصرف البشر على أساسها- دمار الحياة الأخلاقية لكل المجتمعات الدينية والفردية والسياسية. إنها دينونة نافذة واسعة المجال.

١٧- الهيكل والعرش يتحدان، وذاك الذي يسكن في الأول ويجلس على الثاني يعلن بصوت عظيم أن "قَدْ تَمَّ!" لقد أتت النهاية. تفاصيل هزيمة بابل تتكشف في الأصحاحين التاليين. وهنا تُقال الحقيقة الصريحة، في أن بعض الأفراد يُحفظون. خاتمة التعامل التدبيري لله قد أتت، ولا يبقى هناك سوى الضربة الأخيرة والأكثر رعباً للدينونة التي يُنزلها الرب بشخصه لدى قدومه. غضب الله ينتهي بسكب الجام السابع، لتليه الآثار الأشد فظاعة- علانية وصراحة- غضب الحمل.

١٨- "حَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ". هذه الرموز (بشكل ثلاثي الجوانب) عن قوة مقتدرة في الدينونة ترد لأربع مرات. كلمة "أَصْوَاتٌ" تدل على تنفيذ الدينونة بشكل مباشر. الترتيب الذي ترد فيه الرموز تختلف نوعاً ما من ترجمة إلى أخرى للكتاب المقدس. ورود الكلمات في هذه الصيغة من الافتقاد الإلهي، لا شك أن له مغزى خاص في كل حالة؛ لقد جُمعت الكلمات بطريقة تثير الذعر في قلوب البشر. إضافة إلى هذه الإشارات والعلامات التي تدل على غضب الله على العالم الآثم، "حدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ"، والتي هي من النتائج الكبيرة والرهيبة التي تفوق أي شيء تم ذكره في التاريخ- "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ". سوف تكون هناك زلازل حقيقية في أماكن مختلفة متعددة (مر ١٣: ٨). ولكن الجيشان العظيم والذي ليس له نظير تحت الجام السابع ليس هو من عناصر الطبيعة، بل يرمز إلى تفتت عنيف للحكم، والانهيار الكامل لهرم السلطة من الأعلى إلى الأسفل. تحت هذه الزلازل ستترنح العروش وتسقط، وستتحطم التجيان، وتُكسر الصولجانات؛ إطار المجتمع ككل سينهار. ستكون هناك ثورة لا مثيل لها في تاريخ الجنس البشري. الحقيقة أن هذا الزلزال العنيف يتم الحديث عنه باستخدام الصيغة المألوفة، "أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ"، تميز خصوصيته وعظمته.

١٩- التأثيرات الفظيعة لهذا الزلزال العظيم العنيف يتم إيضاحها تالياً بشكل موجز ملخص. "صَارَت الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ ٤ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ". أي أن قوة روما الكبيرة والموحدة، من مركزها في المدينة ذات التلال السبع على التيبر، تتحطم إلى ثلاثة أقسام، بينما دمارها الكامل يأتي فيما بعد في الوقت الملائم. إن انهيار وتفتتم الإمبراطورية بتنظيمها السياسي والاجتماعي هو الأمر البالغ الأهمية. مؤامرة إبليس الكبيرة تتهشم وتتحطم.

١٩- "مُدُنُ الأُمَم سَقَطَتْ". قواعد ومراكز التجارة الأممية- العالم السياسي في معزل عن أرض روما وخارجها- يصيبه الدمار العام، الذي يتجاوز كل التمازجات والاندماجات البشرية. منذ بناء بابل (تك ١١: ١- ١٩) حتى اليوم والساعة التي يُسكب فيها الجام السابع يكون الهدف هو ما أحرزه البشر في الحضارة، والدين، والحكم الاجتماعي والسياسي، والفت، والعلم والأدب، سيكون هو الهدف. وهنا نشهد دينونة على كل ما بناه البشر هنا وهناك في هذه الحياة، منذ أيام قايين (تك ٣)، عندما كان نظام العالم بدون الله قد دُشّن، ومن بابل (تك ١١)، عندما اتحد البشر، متدينين ومدنيين، وقاموا بإنشائه. يا لها من ضربة قاصمة لكبرياء وطموح الإنسان!

سقوط بابل:

١٩- ولكن الموضوع الرئيسي للدينونة تم فصله وإبرازه بشكل واضح الآن. إنه موضوع أبغض ما يكون إلى الله. "بَابلُ الْعَظيمَةُ ٥ ذُكرَتْ أَمَامَ الله ليُعْطيَهَا كَأْسَ خَمْر سَخَط غَضَبه". بابل هي اسم وكلمة ذات مغزى مشؤوم. إنها التطور المحطم لكل العناصر المضادة للمسيح، لكل ما هو ضد الله. إنها التركيز على الدين البشري المجرد. المدينة والبرج اللذان بناهما الناس في أرْضِ شِنْعَار- الأول الذي كان قبلاً مركزاً مدنياً، والذي صار فيما بعد مركزاً دينياً مبتعداً عن الله في الأيام التي تتحقق فيها أوج عظمة الرؤيا. البابوية ليست بابل. بنقائها وبساطتها، بل هي جزء منها. بابل الآثمة فاقت كل شيء، ولهذا السبب فإن الدينونة متناسبة مع خطيئتها. لا شك أن بابل الملغزة هي التي يُشار إليها هنا، وليس مدينة الفرات الكبير التي قُدر لها الهلاك الأبدي (إر ٥١: ٦٢- ٦٤). إنها الكنيسة الزائفة، فساد الأرض، أم أو مصدر كل رداءة دينية. اسم المسيح نفسه الذي تحمله، والإدعاء بأنها جسده وعروسه، يكثّف ويزيد إثمها. لقبها، "بَابلُ الْعَظيمَةُ"، يشير إلى تسلّمها السلطة الدينية بشكل كبير، غضب الله ينسكب بقوة على الزيف والتقليد الفظيع لما كان يجب أن يمثله في النعمة والقداسة والشهادة للحق.

تفاصيل دينونة بابل، وعلاقتها مع السلطة المدنية المرتدة، وتفاصيل أخرى كثيرة تتبين في الفصلين التاليين؛ بينما هلاكها النهائي، الذي يُحتفل به في السماء بألحان انتصار حافلة بالسعادة والفرح، هي موضوع الآيات الأربعة الأولى من الأصحاح ١٩.

٢٠- "وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ وَجبَالٌ لَمْ تُوجَدْ" ٦. تلك هي الاهتمامات والحكومات المنفصلة والمنعزلة، كالجزر التي تنفصل عن البر، تغمرها النكبة العالمية؛ بينما كراسي السلطة والاستقرار، كالجبال، تتلاشى. الدمار في كل مكان، ويصيب كل شيء، مهما بدا ثابتاً أو راسخاً أو صامداً. كل ما لم يؤسسه الله يجب أن يتحول إلى حطام، وهكذا تكون نتائج الزلزال العظيم.

٢١- ولكن، إضافة إلى ذلك، الرعب العام يتركز بإعصار الدينونة الإلهية، التي تنزل على الناس بقوة فتاكة محطمة لا تقاوم، عاصفة من الغضب الإلهي، قوية لدرجة أن العالم الآثم نفسه سيُضطر للاعتراف بأنه من السماء: "بَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثقَل وَزْنَةٍ" ٧. لقد أعلمنا هذا السفر، مراراً وتكراراً، عن عاصفة برد منفصلة، ومع عناصر مدمرة أخرى (١١: ١٩؛ ٨: ٧) ولكن هذه تفوق في ثقلها وكثافتها العواصف البرَدية السابقة. كما أن البرَد ينزل من السماء، وهو حاد، مفاجئ، وكارثي في تأثيره، كذلك تكون الدينونة هنا. إن طبيعتها لا تُفسّر، ولكن شدتها ومصدرها هما من السماء وهذه حقائق لا شك فيها تقدمها لنا النبوءة.

هل أوج عمل الدينونة الإلهية أدى إلى التوبة؟ هل انكسرت إرادة الإنسان وتفتت قلبه تحت يد الله القديرة؟ لا! الإنسان لا يتغير، ما لم يحوّله روح قدس الله بنعمته الكبيرة، ويهديه ويخلّصه. التأثير المعنوي لهذه الدينونة يتم التعبير عنه بأوضح كلمات وهي "جَدَّفَ النَّاسُ عَلَى الله"- وليس مجّدوه، كما قد نتوقع بشكل طبيعي- ذلك "لأَنَّ ضَرْبَتَهُ عَظيمَةٌ جدّاً". كم هو حليمٌ الله! وكم هو سيء الطبع المخلوق!


١. - يقول بنغل، معلّقاً على حذف كلمة الملاك في هذه الجامات، قائلاً بشكل موجز: "الجامات تقوم بعمل موجز قصير الأجل".

٢. - القس و. م. رامسي، "محاضرات على سفر الرؤيا"، ص. ٣٦٤.

٣. - الصفاقة والنجاسة صفتان تميزان الضفادع. هذه المخلوقات القذرة، التي كانت تتوالد من المياه والبرك الآسنة في مصر، كانت ذميمة بشكل خاص بالنسبة للمصريين النظيفين. قصر الملك وكوخ الفلاح كلاهما ابتُليا على حد سواء بالزواحف الكريهة، التي كان صوت نقيقها يزيد من بؤس حالتهم (خر ٨: ٣- ١٤). الضفادع والأفاعي كان القدماء يصنفونها كتعبير عما هو كريه ومقزز أخلاقياً. كان الكتاب والشعراء الإغريق يعتبرون أن الضفادع هم سكان البحيرة الجهنمية أو نهر الجحيم.

٤. - هي روما (١٧: ١٨) التي تم خلع الملك عن العرش فيها بعد أن كانت تسيطر بهيمنة كبيرة على ملوك الأرض. روما، التي كانت وقتها الهيئة السياسية والمدنية الأضخم على الأرض، هي "الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ". تمثل روما النظام المدني آنذاك، وتمثل بابل النظام الديني في تلك الفترة؛ وكلاهما أنشأه الشيطان.

٥. - توصف أورشليم الحرفية بشكل موسع في أشعياء ٦٠؛ وأورشليم السرية هي موضوع الرؤيا ٢٠: ٩- ٢٢؛ ٥. بابل الحرفية توصف بشكل كامل في إرميا ٥١؛ وبابل السرية تشغل الأصحاحين ١٧ و ١٨ من سفر الرؤيا. وعلى جميع الأصعدة فإن بابل هي النقيض للسابقة، في كلا طابعها التاريخي والروحي.

٦. - تحت الختم السادس، تهرب الجبال والجزر من مكانها (٦: ١٤)، وفي هذا إشارة إلى الدينونة على أشدها التي يدل عليها اختفاء تلك الجبال والجزر الكامل لدرجة أنها "لم توجد".

٧. - الوزنة اليهودية كانت تعادل ١٢٥ رطلاً. بينما الوزنة عند المصريين والإغريق كانت حوالي ٨٦ رطلاً. والنص يتحدث عن أن حبة البرد كانت تزن وزنة بحسب المقاييس اليهودية، وهذا ما يشير إلى طابع الافتقاد القوي الغامر المحطِّم.

الأصحاح ١٧

بابل والوحش

سقوط بابل:

رأينا سقوط بابل يُعلن عنه وهو الحدث الثالث من سلسلة الأحداث التي يكشف عنها الأصحاح ١٤. تحت الجام السابع تتم دينونة ذلك النظام الآثم. بمعنى آخر، رؤيا ١٤: ٨ يتزامن مع ١٦: ١٩، ومن هنا فإن الأحداث الرابع والخامس والسادس والسابع في الأصحاح ١٤ تحدث بعد سكب الجام السابع. وهذا الأمر هام لفهم الأجزاء المختلفة والرؤى المختلفة من سفر الرؤيا. ثم نجد الحديث عن طابع بابل، وعلاقتها مع الوحش وملوك الأرض عموماً، وتفاصيل عن إدانتها تنكشف في الأصحاحين التاليين (١٧ و١٨). لا يجب الافتراض بأن مادة هذه الأصحاحات تابعة للجام السابع. السرد ليس مترابطاً منطقياً. تحتل بابل مكانة مرموقة في التاريخ، وتوصف بشكل كبير في الكتاب المقدس على أنها عدو الله ومستعبدة لشعبه. إنها تُفرز بشكل خاص للدينونة، ومن هنا الحاجة على إظهار طابعها، وعلاقاتها، ونهايتها. لماذا ستتمايز بابل دون سواها كموضع لانتقام الرب؟ بأية وسيلة وعن طريق من سيتم تنفيذ دينونتها؟ الأصحاحان ١٧ و١٨ يجيبان على هذه الأسئلة وأسئلة أخرى تخطر على بال القارئ بشكل طبيعي. ولذا فإن الأصحاحات ١٤: ٨؛ ١٦: ٩؛ ١٧- ١٩: ٤ تتوافق معاً، ويجب قراءتها على أنها قصة واحدة.

يُقسم الأصحاح بشكل طبيعي إلى جزأين. يصف الأول الزانية العظيمة كما يراها الرائي في الرؤيا (الآيات ١- ٦). والثاني (الآيات ٧- ١٨) أكثر أهمية وتفصيلاً، إذ يقدم خلاصة وافية رائعة عن تاريخ الوحش المستقبلي، في علاقته مع الزانية ومع خروف الحمل كليهما. أن تكون روما هي المقصودة أمر أكيد نستشفه من الآية ١٨. هذا الجزء من النبوءة يجب أن يُدرس بعناية وبروح صلاة عند جميع دارسي الكتابات النبوية.

زانية الشيطان وعروس الحمل:

من كل الجهات نجد هاتين المرأتين على تضاد كامل. الزانية خاضعة للشيطان. والعروس خاضعة للمسيح. وأحد ملائكة الجامات يُظهر كلتيهما للرائي المتعجب. البرية ١ (١٧: ٣) وجَبَلٍ عَظيمٍ عَالٍ (٢١: ١٠) هي نقاط المراقبة. بابل العظيمة تطلع من الأرض؛ أصلها التاريخي بشري (تك ١١: ١- ٩)، وتطور يومها الأخير شيطاني، كما يتبدى لنا من سفر الرؤيا. أورشليم الجيدة تنزل من السماء، عالمها الأصلي، ومن الله، مصدر بركتها. الشيطان يزين الأولى (١٧: ٤)؛ والله يزخرف الأخرى (١٩: ١٨). الدمار الأبدي هو نصيب الزانية؛ والمجد الأبدي هو النصيب السعيد للعروس.

وصف الزانية الكبيرة

(الآيات ١- ٦):

المرأة والوحش:

١- الرائي يرى أولاً الزانية الكبيرة تجلس على "الْميَاه ٢ الْكَثيرَة" (انظر إرميا ٥١: ١٣).

في تفسير الرؤيا (الآيات ٧- ١٨) نعلم من تكون هذه المياه: "الْميَاهُ الَّتي رَأَيْتَ حَيْثُ الزَّانيَةُ جَالسَةٌ هيَ شُعُوبٌ وَجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وَأَلْسنَةٌ". إدخال كلمة "الكثيرة" إلى الصيغة الاعتيادية يعبر عن العالمية التي تميز الطابع المتغاير الخواص والعناصر لهؤلاء الأتباع الخاضعين لسيطرتها. "الزَّانيَة الْعَظيمَة الْجَالسَة عَلَى الْميَاه الْكَثيرَة". إنها تحكم وتسيطر على الأمم دينياً، كما يفعل الوحش سياسياً. اتباعها عمل عالمي تقريباً. وهي نفسها نظام ديني واسع. المرأة والوحش يمثلان أفكاراً واضحةً. الأولى هي نظام ديني؛ والأخير هو السلطة المدنية؛ فساد الحق يميز بابل. الإرادة الذاتية الوقحة والمعارضة العلنية لله هي ملامح مميزة للوحش. الفساد والإرادة الذاتية كانت قيد العمل منذ عصور باكرة، وفي الحقيقة كانتا الشرين الأكبرين مطلقي السراح وسط الجنس البشري في الفترة التي سبقت الطوفان (تك ٦: ١١). وهنا نشهد التطور الأعلى للجرائم نفسها. الفساد نحو الله؛ والعنف نحو البشر. السابق متجسد ومتمركز في المرأة، والتي هي فاسقة، إذ توصف بأنها زانية وأم الزواني؛ الوحش شرير علانية ويمارس قوة متوحشة، يسحق كل مناوئيه بقسوة، وفي النهاية يخرج في قوة عسكرية لينظم صفوف بكل وقاحة ضد المسيح وجيشه السماوي (رؤ ١٩: ١٩).

يدمر الوحش أولاً المرأة، ثم ينتفخ بالانتصار ويسكر بالسلطة بجنون ويقود جيشه ضد الخروف وجنده المقاتل. مبادئ بابل كانت فاعلة منذ أزمان بعيدة، ولكن أوج تطورها سيكون في المستقبل. إنها ليست النظام البابوي وحده، بل الأحزاب والجماعات التي تحمل اسم المسيح في نظام واسع شرير. مزايا البابوية في القرون الوسطى تتم مشاهدتها بشكل واضح من خلال الزانية في سفر الرؤيا. "الزَّانيَة الْعَظيمَة" ليست فقط النسخة المزيفة الشيطانية للكنيسة الحقيقية، بل هي تعبير مركز لكل حركة ضد المسيح وطائفة تكون قيد الوجود آنذاك، متوحدة ويتحكم بها الشيطان. إدعاءات الزانية تؤيدها القوى العسكرية وهيبة الإمبراطورية المرتدة، بينما يمتد تأثيرها إلى كل أرجاء العالم المعروف.

هذا النظام الهائل من الزنى الروحي هو بلا شك تحفة الشيطان وأضخم شر تحت الشمس.

الزَّانيَة الْعَظيمَة:

٢- هذه إذاً بابل العظيمة: "الَّتي زَنَى مَعَهَا مُلُوكُ الأَرْض، وَسَكرَ سُكَّانُ الأَرْض منْ خَمْر زنَاهَا". هذا في المستقبل، روما السعي إلى تذكر أحداث ماضية تتعلق بطابع وأفعال البابوية في الأزمنة المظلمة في العصور الوسطى. الزانية تشكل أولاً تحالفاً آثماً مع ملوك الأرض، أي القادة السياسيون العظماء في العالم المسيحي، ثم تثمل بخمر زناها. "سُكَّانُ الأَرْض" أي المرتدون المسيحيون. شر أولئك الذين كانوا يوماً مسيحيين معترفين يبلغ ذروتهم آنذاك. يتركون المسيح، ويهملون النداء السماوي والمسيحية، ويستسلمون إلى المسرات القصيرة الأجل التي في كأس خمر الزانية. إنه ليروعنا التفكير في مهنة وطبيعة ومصير سُكَّانُ الأَرْض هؤلاء، فهم تميزوا بفساد أخلاقي واعتُبر أنهم أسوأ الناس على وجه الأرض.

الزنى الروحي:

الزنى- "زَنَتَا بِأَصْنَامِهِمَا" (حزقيال ٢٣: ٣٧)- هي خطيئة معينة كان يرتكبها إسرائيل القديم على اعتباره عروساً للرب ٣ (إرميا ٣: ١٤؛ أشعياء ٥٤: ١). ولذلك فقد طُلّقت ٤. ولكن في هدف ونعمة الرب سيستعيد إسرائيل وضعه في علاقته المباركة السابقة والتي لن يفقدها من جديد أبداً ما دامت الشمس والقمر. الزنى، أو التواصل المحرم والاتصال مع العالم المرتد الآثم، هو الاتهام الفظيع ضد بابل- المرأة الفاسدة والفاسقة التي توقع في شركها ومسرتها القصيرة الأجل كل من يقع تحت تأثيرها- ملوكاً وشعباً، من ذوي المقام العالي أو العادي. التألق المغري والعرض العهري لهذه المرأة المتروكة يؤثر على كل الطبقات، ويدمر أخلاقياً أولئك الذين تلقي عليهم سلاسلها الذهبية ويشربون من كأسها. كل فكرة صحيحة وحقيقية عن المسيح تتلاشى حيث يتم اقتبال تملق المرأة ومغازلتها.

الوحش الذي تجلس عليه المرأة:

٣- "فَرَأَيْتُ امْرَأَةً جَالسَةً عَلَى وَحْشٍ قرْمزيٍّ مَمْلُوءٍ أَسْمَاءَ تَجْديفٍ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ". الوحش، إن لم يكن الشخص الأكثر بروزاً في الرؤيا، هو على الأقل الجزء المتمم من النبوة. تبعية الوحش من الزانية يعبر عنها الرائي بقوله: "رَأَيْتُ امْرَأَةً جَالسَةً عَلَى وَحْشٍ قرْمزيٍّ". يدل الحدث على الخضوع الكامل والكلي للسلطة المدنية. حكم وسيادة المرأة على القوى المرتدة والإمبراطورية الواسعة منظر فريد من نوعه. المرأة، ليس فقط تجلس على أو بجانب الأمم والشعوب المشتملين في المنطقة النبوية (الآية ١)، بل هي تحكم الوحش أيضاً، الذي يكون آنذاك مسيطراً على السلطة المدنية والسياسية على الأرض (الآية ٣).

المشهد في الرؤيا حيث تُشاهد هذه الرؤيا الغريبة هو في صحراء، مكان عزلة وانعزال كلي. يا له من تضاد مذهل مع صورة المرأة والوحش! الروعة الفائقة لكليهما تجتذب القلب وتسكر مشاعر الجميع، ما عدا بقية متألمة لا ترى في هذه الأبهة الفارغة سوى صحراء، لأن الله لا يكون موجوداً هناك. فليست سوى بريق كبير يلمع، مشهد فخم يسبق الانهيار والدمار النهائي.

ولكن من هو الوحش القرمزي الذي تجلس عليه المرأة، والذي منه تستمد قوتها المادية، ومن خلاله تنفذ أوامرها؟ إنه الحكومة السياسية للعالم، بمجدها وعظمتها، هي المشار إليها باللون القرمزي ٥. لا شك أنها قوة روما العالمية هي التي يُشار إليها هنا، وقد انتعشت في أبهة وفخامة وعظمة، وسيطر عليها الشيطان. يُذكر الوحش أولاً في سفر الرؤيا في الأصحاح ١١، ويتم تقديمه على نحو مفاجئ في التاريخ كموضوع معروف ومفهوم.

٣- "مَمْلُوءٍ أَسْمَاءَ تَجْديفٍ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ". في ١٣: ١، الرؤوس السبعة، أو سلطة الحكم الكاملة للإمبراطورية، عليها "أسماء تجديف". وهنا الوحش نفسه يُقال بأنه "مَمْلُوء أَسْمَاءَ تَجْديفٍ" (١٧: ٣). ليس فقط أن السلطة التنفيذية في الإمبراطورية قد ارتبطت بتعابير عديدة متنوعة ذات طابع تجديفي، بل الإمبراطورية نفسها، بكل أجزائها، قد صارت فاسدة بالكلية؛ وصفات الوقاحة والتجديف تميزها طوال الوقت. "أَسْمَاءَ تَجْديف" تشير إلى أشكال عديدة ومتنوعة من التمرد والإرادة الذاتية ضد الله.

٣- "لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ". الإشارة الأسبق إلى الـ "سبعة رؤوس" على الوحش هناك تشير إلى اكتمال السلطة الإدارية (١٣: ١)، ولكن هنا، وكما رأينا في التفسير (١٧: ١٠)، الرؤوس تمثل أشكالاً متعاقبة من الحكم. القرون تمثل شخصيات ملكية (الآية ١٢). في ١٢: ٣ التنين له سبعة رؤوس وعشرة قرون؛ الرؤوس هي المتوجة. في ١٣: ١ الوحش له عشرة قرون وسبع رؤوس، والقرون هي المتوجة هنا. ولكن في أصحاحنا، لا الرؤوس ولا القرون متوجة. الشخصيات الملكية التي نراها في الرؤيا لم تكن تتمتع بوقار ملكي كامل؛ ولذلك، ففي تفسير الملاك للقرون العشرة للوحش، نقرأ: "وَالْعَشَرَةُ الْقُرُونُ الَّتي رَأَيْتَ هيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ لَمْ يَأْخُذُوا مُلْكاً بَعْدُ، لَكنَّهُمْ يَأْخُذُونَ سُلْطَانَهُمْ كَمُلُوكٍ سَاعَةً وَاحدَةً مَعَ الْوَحْش" (الآية ١٢) أي أنهم يحكمون بسلطة ملكية في اتحاد مع الوحش، القرن الصغير في دانيال ٧: ٨، ٢٠ كونه سيدهم.

المرأة في مجدها:

٤- "وَالْمَرْأَةُ كَانَتْ مُتَسَرْبلَةً بأُرْجُوانٍ وَقرْمزٍ، وَمُتَحَلّيَةً بذَهَبٍ وَحجَارَةٍ كَريمَةٍ وَلُؤْلُؤٍ". أما وقد رأينا الحالة مع الوحش، فننتقل لمشاهدة الكنيسة في المرأة، ولسطوتها لفترة على السلطة المدنية. إنها تركب الوحش، وتتحكم به لأجل أغراضها الأنانية الذاتية. ولكنها أشد خطراً بكثير من الاثنين. الوحش يجدف علانية ويضطهد القديسين الذين يقفون آنذاك مدافعين عن حقوق الله. المرأة مغوية وجذابة، وقد جمعت إلى نفسها ثقل وروعة القاعات، والقصور، وباختصار، المجد المبهرج للعالم، فتجلس كملكة، وتنال بفنونها وتملقاتها المغرية قلب العالم المسيحي. ويكون الله معزولاً في فكر البشر.

الثوب، الأرجواني والقرمزي، هو الذي يميز بشكل خاص الباباوات والكاردينالات. زخاريفها المذهبة والحجارة الكريمة واللآلئ هي من بين الرموز الرئيسية التي تشير إلى الكبرياء والمجد الباباويين. الفضة لا تُذكر هنا. في خدمات الكنيسة الباباوية استُبدلت الفضة بالذهب. ونقطة التشابه بين بابل والكنيسة الرومية هي أن المرأة ترتدي تتزين ببهرجة العالم وحليه. لقد أسلمت نفسها إلى كل ما يعتبره العالم الأعلى والأسمى والأكثر قيمة من ناحية الممتلكات والثروة المادية؛ وهذا هو مسعى العالم وهو تكديس وتجميع الثروات.

٤- "وَمَعَهَا كَأْسٌ منْ ذَهَبٍ في يَدهَا مَمْلُوَّةٌ رَجَاسَاتٍ وَنَجَاسَات زنَاهَا". بابل كنظام يغمرها بهاء وفخامة ومجد خارجي فتجتذب القلب الطبيعي وخيال الإنسان، وتحيره وتذهله. ولكن الأسوأ هو أنها تحمل بيدها كأساً من ذهب. يا له من إغواء! الكأس من ذهب، ولكن محتوياتها تكشف أسفل درجات الانحطاط والإثم الذي غاصت إليها. الوحش القرمزي، لون التنين (١٢: ٣)، كان مليئاً بالأسماء، أو عبارات التجديف، وهكذا فإن كأس المرأة هنا "مَمْلُوَّةٌ رَجَاسَاتٍ وَنَجَاسَات زنَاهَا". هذين الشرين، الزنى والفساد، يميزان الطور الأخير من الكنيسة المعترفة على الأرض. "رَجَاسَات" تشير إلى الوثنية (٢ مل ٢٣: ١٣؛ أش ٤٤: ١٩، حز ١٦: ٣٦)، و"نَجَاسَات" تدل على الفساد الفظيع الكبير (٢: ٢١؛ ٩: ٢١). الصنمية وأسوأ أشكال الشر تميز المرأة. كأسها مملوء بشرور فظيعة. وقد وصلت إلى القمة. هذه الأشياء يسعى إليها العالم الوثني، أما العالم المسيحي، والذي هو الآن مشهد من النور النعمة والحق، سيصبح المستنبت والمصدر لكل ما هو فاحش وفاسد دينياً وبشكل فظيع. ومع ذلك يرسم هذا الأصحاح بكلمات ورموز واضحة مستقبلة هذه الأراضي. الروح القدس يسكن الآن في الكنيسة المعترفة، ولكن عندئذ سيكسكن الشيطان فيها، بحضوره وبأعماله الفظيعة. نشكر الله لأجل شهادة يسوع الأكيدة بأن الكنيسة التي يبنيها منيعة (متى ١٦: ١٨)، ونصرها النهائي مضمون بالتأكيد (أف ٥: ٢٧).

بابل كأم:

٥- "وَعَلَى جبْهَتهَا اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «سرٌّ. بَابلُ الْعَظيمَةُ أُمُّ الزَّوَاني وَرَجَاسَات الأَرْض»". الطابع المخزي لبابل يتم إظهاره تالياً. اسمها محمول علانية وبشكل يتعذر محوه على جبهتها، وهكذا يقرأه الجميع ويفهم الطبيعة الحقيقية لهذا النظام الفظيع- وهو صورة زائفة عن الكنيسة الحقيقية. اسمها مركب. فأولاً، "سر". الاستخدام العام للكلمة في العهد الجديد يمثل ما يتم الإعلان عنه الآن، وما كان سراً حتى الآن (مت ١٣؛ أف ٥: ٣٢، الخ). الكنيسة تابعة للمسيح؛ والمرأة لا تتبع أحداً. إنها تغتصب مكان المسيح من السيادة على الأمم. هي سر حقاً. كان يجب أن تخلص لله وللحقيقة، ولكنها تُشاهد الآن كتجسيد للخطأ، وكل ما هو شر وإثم. ثانياً، "بابل العظيمة". إنه نظام ضخم من الشر الروحي. فهي عظيمة وسيئة كما كانت بابل، التي استعبدت شعب الله القديم، وهي في غاية السوء حتى أن مصيرها المشؤوم محتوم بالتأكيد (إر ٥١: ٦٤)، ومع ذلك فإنها تفوق كثيراً نظيرتها الروحية، بابل العظيمة في سفر الرؤيا. الأولى كانت آثمة، ولكن الأخيرة أشد منها إثماً. في بابل العظيمة مشهد تجمعاً في نظام واسع واحد لكل الشرور التي كانت تحطم الكنيسة في العصور الماضية. وها هي الذروة. الشرور التي أثرت على العالم المسيحي هي التي يتم التركيز عليها هنا. الأيام الأخيرة من الكنيسة على الأرض هي أشدها سوءاً. المسيحية هي نتاج مشترك عن الألوهية، ولكن العالم المسيحي يُرى هنا على أنه أسوأ ما في الأرض. في الحقيقة، تُعطى المرأة لقب "بابل العظيمة". ذاك الذي كان يجب أن يُعتب خزياً لها نجدها تتبجح به. ثالثاً، "أُمُّ الزَّوَاني وَرَجَاسَات الأَرْض". نسلها كثير العدد. هي أم، ومصدر كل نظام ديني يحكم العالم. الوثنية الدينية في كل صيغة وشكل، كل شرك وموضوع مضلل؛ باختصار ، الأنظمة، والأشياء، والعقائد، والمواد التي يستخدمها الشيطان ليحيد البشر عن الله نجد مصدرها هنا- بابل العظيمة. الملامح الأخلاقية لبابل هي نفسها على الدوام- لا تتبدل عبر كل العصور. نراها هنا في أسوأ أحوالها لأنه في آخر ساعاتها، هي أم لكل ما هو كريه أخلاقياً. هذا إذاً هو الطابع العلني الذي تحمله المرأة كما في الأيام القديمة حيث كانت تُمارس في أماكن محددة أن تحمل الزواني أسماء وسمعة الشر على جباههم. إن أخفق المعجبون بالمرأة في رؤية شخصيتها الحقيقية بسبب سكرهم ببهرجتها وعظمته وأبهتها الظاهرة فإن الروحيين لا يفعلون ذلك.

الْمَرْأَةَ السَكْرَى من الدَم وتعجُّب الرائي:

٦- "وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ سَكْرَى منْ دَم الْقدّيسينَ وَمنْ دَم شُهَدَاء يَسُوعَ. فَتَعَجَّبْتُ لَمَّا رَأَيْتُهَا تَعَجُّباً عَظيماً". يمكن أن نتفهم سبب كراهية القوى الوثنية لأتباع وشهود يسوع، ولكن أن تكون المرأة، التي هي الكنيسة في تلك الأيام والأوقات، هي نفسها تهرق دم قديسي الله، هو في الواقع مسألة تثير عجب الرائي. هي التي استنبطت وسائل القسوة الجهنمية في العصور الوسطى. والسلطة المدنية هي أداة بيد المرأة. المحرض الحقيقي، القوة وراء السلطة المدنية، هو الزانية. في طرف تنورتها الدم الذي سُفك بإسراف على مر العصور جميعاً. ترث بابل إثم كل سلطة دينية مضطهدة سابقة (مت ٢٣: ٣٥). لم تحكم على الماضي أبداً. تاريخها أسود بما فيه الكفاية وملطخ بالدم في كل صفحة منه، دم أولئك الأعزاء على الله والمسيح. يتعجب الرائي من المنظر المريع. تُرى الكنيسة هنا على أنها الأشر على وجه الأرض. وإلى هذا يؤول مصير الكنيسة المعترفة. لا شيء يفوقها فخامة وأبهة وعظمة ووثنية وفحشاً وقسوةً. "تَعَجَّبْتُ لَمَّا رَأَيْتُهَا تَعَجُّباً عَظيماً" (الآية ٢)، والمرأة نفسها سكرى من الدم. وهذان أيضاً، أي المرتدين والمرأة، هما آنذاك أسوأ من على وجه الأرض، وعلى كليهما يقع غضب الله ونقمته في لهيب نار لا يمكن إطفائها.

كشف سرّ المرأة والوحش

(الآيات ٧- ١٨)

٧- "ثُمَّ قَالَ لي الْمَلاَكُ: «لمَاذَا تَعَجَّبْتَ؟ أَنَا أَقُولُ لَكَ سرَّ الْمَرْأَة وَالْوَحْش الْحَامل لَهَا، الَّذي لَهُ السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ وَالْعَشَرَةُ الْقُرُونُ". رأينا سر المسيح والكنيسة (أفسس ٥)، والآن سيشرح الملاك للرائي، ومن خلاله لنا، سر المرأة والوحش.

الوحش: أربعة أطوار من تاريخه:

٨- "الْوَحْشُ الَّذي رَأَيْتَ، كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، وَهُوَ عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ منَ الْهَاويَة وَيَمْضيَ إلَى الْهَلاَك. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض الَّذينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً في سفْر الْحَيَاة مُنْذُ تَأْسيس الْعَالَم، حينَمَا يَرَوْنَ الْوَحْشَ أَنَّهُ كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، مَعَ أَنَّهُ كَائنٌ". نجد هنا تاريخ أعظم امبراطورية شهدها العالم وقد صدرت بحقها أربعة أحكام جازمة موجزة. اثنان منها هما للمستقبل. المرأة والوحش متمايزان. الأولى هي السلطة الكنسية؛ والأخيرة هي السلطة المدنية. كلتاهما تبدوان شريرتان ومرتدتان. تبدو المرأة في الرؤيا في ذروة ازدهارها، مغرورة، مغوية، وقاتلة. هي في قمة الكبرياء والقوة التي تسبق سقوطها. ونرى الوحش على وشك أن يدخل إلى الطور الثالث من تاريخه-  خارجاً من الهاوية. هذه الملامح التي هي أفظع ما يكون تضاف إلى نهوضه البشري وتاريخه- يخرجه الشيطان من محبس الشياطين، من الظلمة والشر في ذلك العالم حيث سيادته مطلقة.

يتحول الملاك عن المرأة نحو الوحش عندما يتم تفسير الرؤيا. ويتوقف يوحنا عن التعجب أمام فظاعة الصورة.

(١) الإمبراطورية القديمة تُرى في الرؤيا إذ "كَانَت"؛ أي كانت موجودة في حالتها الإمبراطورية بعهد يوحنا، وذلك حتى دمارها عام ٤٧٦ م.

(٢) "وَلَيْسَ الآنَ". أي ليس لها وجود سياسي حالي. الممالك التي شكلتها تبقى بالطبع، ولكن الإمبراطورية لا تعود موجودة. أوربا الحديثة، باهتماماتها المتضاربة،  والغيرة بينها، والممالك المنفصلة، هي نتيجة الانهيار الكامل لإمبراطورية قيصر التي كانت يوماً ما غير منقسمة. الجزء الغربي من الإمبراطورية، والذي يسقط أخيراً، هو الأشد إثماً على الإطلاق، لأنه العالم الذي كان يفترض أن يشع فيه النور المسيحي والنعمة. هذان الطوران من الإمبراطورية مسألتان بسيطتان في التاريخ، ولكن الملامح المتبقية نبوية، وكُتبت فقط على صفحات السفر المقدس. الله يرفع الحجاب، ونرى، بعد انقضاء عدة قرون، الإمبراطورية التي كانت يوماً محط دهشة الناس- مصدر انذهال العالم المسيحي المرتد.

(٣) "عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ منَ الْهَاويَة". الشيطان سيُنعش الإمبراطورية، ثم يطبعها بشخصيته. الجنس البشري للوحش يجب أن نميزه عن الانتعاش الشيطاني وسط الأسبوع النبوي السبعين في عهد طرد الشيطان من السماء (الأصحاح ١٢). الرائي يراه في رؤيا في ليلة انتعاشه. "عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ". الهاوية تنتج هذا المسخ الآثم- الوحش. السماء تنفتح فتعطي الكنيسة- عروس الخروف.

(٤) "وَيَمْضيَ إلَى الْهَلاَك". هذا هو الطور الأخير من السلطة الأممية. لقد ظهرت روما إلى الوجود عام ٧٥٣ ق. م ومرت عبر تجارب كثيرة، ونجت من عواصف سياسية عديدة، إلى أن وصلت إلى ذروة مجدها في عهد المسيح. ارتباطها بالمسيح ويهوذا هي الأزمة الكبرى في تاريخ الإمبراطورية. الوحش من خلال ممثله صلب الرب بعد إعلانه ببراءته ثلاث مرات. وبالتالي فإن دم الناس أُريق بعدد كبير حتى أن ملايين تعرضوا للذبح الفظيع كما يسجل التاريخ، في حين أن البقية البائسة قد بيعت بأعداد هائلة وغرقت سوق العبيد بتجارة البشر، ولم يكن يوجد هناك من يشتري، فتفرقوا في كل أرجاء العالم. يتذكر الله هذه الأعمال. وقد أتت ساعة الانتقام. الوحش قُدر أن يكون مصيره إلى بحيرة النار. والدمار النهائي يلحق بإمبراطورية قيصر التي كانت يوماً ما مقتدرة.

عودة الظهور الشيطاني للإمبراطورية:

عندما تعود الإمبراطورية إلى الظهور بشكلها الأخير والشيطاني ستكون موضوع تعجب علني، ما عدا بالنسبة إلى المفديين. يا لها من حالة من الأشياء قد وصلنا إليها! الشيطان يخرج من ظلمة الحفرة صدفة يكيفها ويتحكم بها وتكون ظاهرياً مثل الإمبراطورية، ومع ذلك فهي ذات ملامح شيطانية. سيتساءل الناس عندئذ ويسجدون لكلا الشيطان وأداوته البشرية (١٣: ٤، ١٢). النخبة لهم أسماء مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم. كل تلك الأزمنة المستقبلية كانت في فكر الله وقد تدبر لها ببصيرته. هذا السفر هو نفسه كما في ١٣: ٨، فهناك فقط نعلم أن السفر يتعلق بالخروف المذبوح. نقرأ عن سفر حياة آخر في ٣: ٥؛ ولكن هناك السفر هو سفر المسيحيين المعترفين، صادقين وكاذبين، لأن بعض الأسماء ستكون قد مُسحت وأخرى باقية. ولكن في أصحاحنا، السفر، أو سجل الحياة، هو حقيقة واقعية، ومن هنا فما من اسم يصيبه لطخ. كل ما هو ضمن العالم المسيحي العريض سيُنقل إلى حالة تعجب عند عودة ظهور هذه الظاهرة المذهلة- الجميع ما خلا المختارين. ولهؤلاء ستنكشف حقيقة الوحش.

سرُّ الوحشِ:

٩- ١٣- "هُنَا الذّهْنُ الَّذي لَهُ حكْمَةٌ! السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ هيَ سَبْعَةُ جبَالٍ عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ جَالسَةً. وَسَبْعَةُ مُلُوكٍ: خَمْسَةٌ سَقَطُوا، وَوَاحدٌ مَوْجُودٌ، وَالآخَرُ لَمْ يَأْت بَعْدُ. وَمَتَى أَتَى يَنْبَغي أَنْ يَبْقَى قَليلاً. وَالْوَحْشُ الَّذي كَانَ وَلَيْسَ الآنَ فَهُوَ ثَامنٌ، وَهُوَ منَ السَّبْعَة، وَيَمْضي إلَى الْهَلاَك. وَالْعَشَرَةُ الْقُرُونُ الَّتي رَأَيْتَ هيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ لَمْ يَأْخُذُوا مُلْكاً بَعْدُ، لَكنَّهُمْ يَأْخُذُونَ سُلْطَانَهُمْ كَمُلُوكٍ سَاعَةً وَاحدَةً مَعَ الْوَحْش. هَؤُلاَء لَهُمْ رَأْيٌ وَاحدٌ، وَيُعْطُونَ الْوَحْشَ قُدْرَتَهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ". هذه النبوءات شغلت فكر الناس أكثر ما يكون من الإعلان الكتابي وكان فيها مجال كبير للتحزير. وبالتأكيد فإن هذه الأمور المتعلقة بالمستقبل تتطلب رزانة في الفكر. ففي مجال النبوءة المختصة بالمستقبل تُصبح قدرة  البشر على تعلّم الفهم ضعيفة. إن الحكمة البشرية التي تستمد حقائق ومبادئ من الماضي أو الحاضر تصبح عاجزة هنا. المستقبل ينكشف فقط في الكتاب المقدس. وأعظم أخطاء التفسير للنبوءات قد ارتُكبت هنا، وليس على يد الجموع الجاهلة، بل الناس المتعلّمين. إننا نتكل كلياً على تعليم الكتاب المقدس في أية معرفة نمتلكها حول الأحداث المستقبلية. الله وحده هو الذي يستطيع أن يكشف المستقبل (أشعياء ٤١: ٢١- ٢٣). ومن هنا تأتي قوة الكلمات التمهيدية: "هُنَا الذّهْنُ الَّذي لَهُ حكْمَةٌ". الحكمة الحقيقية تقف على عتبة التساؤل النبوي، وتسأل بوقار: "ما هو المكتوب؟ ٦" وهذا هو أساس الفهم. لمزيد من التفسير للرؤيا يتم توجيه الحكيم هنا. الملامح الأساسية للوحش الذي كان يحمل المرأة هي رؤوسه السبعة وقرونه العشرة (الآيات ٣، ٧)، وهذه تشكل جزءاً رئيسياً من التفسير. يأتي ذكر الرؤوس أولاً. وهناك تطبيق مضاعف للرمز "سبعة رؤوس".

روما والبابوية:

(١) "السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ هيَ سَبْعَةُ جبَالٍ عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ جَالسَةً". روما، المدينة ذات الهضاب السبعة هي التي يُشار إليها هان على أنها كرسي ومركز سلطة المرأة المركزية وتأثيرها. إنها المكان الذي تموضعت فيه البابوية وانتعشت، بشكل أو بآخر، لأكثر من ٥٠٠ سنة. البابوية تتعافى الآن ببطء من الجراح التي أصيبت بها؛ أولاً في القرن السادس عشر، ومن ثم في وقتنا المعاصر الذي صارت فيه سلطتها مؤقتة. حيويتها مثيرة للانتباه. طاقاتها متمركزة الآن على استعادة أمم أوربا إلى حظيرتها. اهتداء انكلترا مشروع مذهل، وحدث يمكن توقعه خلال زمن وجيز- هكذا تفكر وتقول البابوية. أن تجتمع شعوب أوربا المعاصرة المستنيرة في نهاية الأمر تحت سلطان المرأة يبدو أمراً حقيقياً واضحاً من هذا الأصحاح، وإن كان حدثاً محزناً ومؤلماً .عمل الإصلاح العظيم بنتائجه العامة والخارجية يتلاشى، بينما قبول مبادئ روما وممارساتها هو الذي يسود على نحو مطرد. التقدم الماكر والمثابر للبابوية في جوانب الحياة- السياسية، والاجتماعية، والدينية- هو عامل تحذيري في الوضع الحالي. البروتستانتية ككل لا مبالية على نحو فظيع. النداء في الصراع القديم أن "لا للبابوية" ما عاد يستطيع إيقاظ الشعب. إنه نائم. رواد النقد الأعلى في نقدهم الشكوكي الملحد والهدّام قوّضوا الإيمان بالكتابات المقدسة؛ بينما محاولات المسيحيين الحقيقيين في إزالة سيل الأخطاء البابوية يتوازى مع تعدد الطوائف الناشئ عن استحالة القيام بعمل موحد إضافة إلى اللامبالاة المتنامية لما هو من الله.

التاريخ السياسي للوحش:

(٢) "وَسَبْعَةُ مُلُوكٍ"، أي رؤوس أو أشكال من الحكم المدني والسياسي. الإشارة المحلية إلى روما في الآية ٩ لا شك فيها. ومع ذلك فهناك تفسير إضافي توضيحي. الرؤوس السبعة للوحش تُمثل سبعة أشكال متعاقبة من الحكم ابتداءً من صعود الإمبراطورية العالمية الرابعة، مروراً بكل تاريخها وصولاً إلى نهايتها.

١٠- "خَمْسَةٌ سَقَطُوا". هؤلاء ملوك وحكام ومستبدين وأعضاء مجلس عُشاريّ ومدافعون عن حقوق العامّة ومصالحها.

١٠- "وَوَاحدٌ مَوْجُودٌ". هذا هو السادس، أو الشكل الإمبراطوري من الحكم الذي أسسه يوليوس قيصر، والذي خلاله نُفي يوحنا إلى جزيرة بطمس في عهد دوميتيان. أشكال السلطة السابقة ما عادت موجودة. الإمبراطور الأول، يوليوس، امتص السلطة مغطاة بالأسماء القديمة التي بها حُكمت روما، وبدأ النسل الإمبراطوري الطويل الذي صار واضحاً في العام ٤٧٦ ميلادية.

١٠- "وَالآخَرُ لَمْ يَأْت بَعْدُ". وهكذا بين انحلال الإمبراطورية وعودة ظهورها الشيطاني المستقبلي مرت عدة قرون. "وَمَتَى أَتَى يَنْبَغي أَنْ يَبْقَى قَليلاً". هذا هو الرأس السابع. إنه صعود الإمبراطورية الساقطة تحت ظروف وأحوال جديدة نجد صورة عنها في ١٣: ١. عندما سيأتي الوحش بعد ذلك إلى المشهد سيتميز بسلطة مكتملة وإدارية من نوع تجديفي وسيتألف من عشرة ممالك، لكل منها ملك خاص بها، ولكنها جميعاً تبقى خاضعة للرئيس الأممي الكبير الذي سيسيطر على الإمبراطورية ويمسك الجميع بقبصة من حديد. وهذا الوقت القصير من استمرار هذا الشكل الخاص من الحكم يوضحه القول "يَبْقَى قَليلاً" ما يدل على أن فترة هذه الحالة الشاذة من الأمور في ظل الإمبراطورية المنتعشة سيليها ما هو أسوأ.

١١- "وَالْوَحْشُ الَّذي كَانَ وَلَيْسَ الآنَ فَهُوَ ثَامنٌ، وَهُوَ منَ السَّبْعَة". الاتحاد الضخم في روما يُنظر إليه هنا بملامحه الأساسية كما كانت حالته دائماً. إنه "الثامن". لدينا هنا تقدم على الانتعاش التاريخي للوحش (١٣: ١). لأن السنوات الثلاث والنصف التي تسبق مجيء الرب بقوة ومجد سيكون الشيطان مسيطراً فيها على الوحش ومتحكماً به. لقد أنعشه من الهاوية. إن الوحش في حالته الأخيرة والأسوأ يخرج من الهاوية متمايزاً عن خروجه في البداية (دا ٧: ١)، ومختلفاً عن انتعاشه البشري المستقبلي (رؤيا ١٣: ١). ومن هنا فإنه يمثل صورة متكاملة بحد ذاتها، ولذا يُقال أنه "الثامن". طابعه الشيطاني وقد أنعشه الشيطان يدل عليه استخدام العدد الترتيبي. لدينا عودة الظهور البشري للإمبراطورية في الأصحاح ١٣ وانتعاشها الجهنمي في الأصحاح ١٧.

١١- "وَهُوَ منَ السَّبْعَة". ستكون هناك ملامح معينة تختص بالوحش في المرحلتين الأخيرتين من تاريخه. على الأرجح أن تستمر هيئة السلطة تحت الرأس السابع. وفي جوانب أخرى، إن الممسك الأخير بالسلطة الأممية ستطؤه أقدام من سبقه. ولذلك فسوف يكون "منَ السَّبْعَة" والثامن كشخصية متمايزة. لعله يمكننا القول هنا أن الوحش واحكمه الشخصي مترابطان حيوياً جداً لدرجة أن الحديث يكون عن كليهما بذات العبارات؛ ومن هنا فإن الوحش يهلك ويُلقى، بشخص رئيسه الكبير الأخير، إلى بحيرة النار. الحاكم المطلق الأخير يطبع شخصيته على الإمبراطورية. ويمكن اعتبارهما منفصلين كما في دانيال ٧، أو متطابقين كما في أصحاحنا.

١١- "وَيَمْضي إلَى الْهَلاَك"، أو إلى جهنم. هذا يتحقق مع بدء الحكم الألفي، ويوصف صورياً في ١٩: ١٧- ٢١. طيور السماء تُدعى إلى "عشاء الله العظيم". إنهم يُدعون ليتغذوا ويأكلوا لدى الله العظيم والقدير في الأرض. الرئيسان العظيمان، الرأسان اللذان يتمتعان بسلطة مدنية ودينية، يُحفظان على قيد الحياة إلى بحيرة النار؛ أتباعهما وجيوشهما تهلك وإلى الأبد. الرؤوس الخمسة الأولى تسقط تباعاً. ثم يأتي السادس إلى نهاية عنيفة؛ السابع مندمج بالثامن، ويخضع لدينونة لم يسجل التاريخ أفظع منها. هذا الرأس متطابق مع الوحش نفسه، وبما أنه يهلك فإن الوحش لابد أن يمضي إلى هلاك كامل (قارن مع دا ٧: ١١).

أما وقد رأينا تفسير "الرؤوس السبعة"، يخبرنا السفر الآن عن "العشرة قرون" (الآية ١٢). هذه القرون تشير إلى أشخاص ملكيين. كلمة "قرن" تشير إلى القوة بالمطلق (الآية ٦؛ مراثي ٢: ٣)؛ ولكن بالشكل الذي استُخدمت فيه هنا تشير إلى الملوك. لذا فإن العشرة قرون تمثل شخصيات ملكية متمايزة أو ممالكهم. قال أحدهم باختصار: "الممالك العشرة ستكون متعاصرة في تمايز عن الرؤوس السبع التي كانت متعاقبة". ولكن الممالك العشرة التي كانت موجودة في المنطقة فعلياً تُرى هنا على أنها ستستلم السلطة مع الوحش. انظر أيضاً الآية ١٦، ففي ترجمة أدق، لدينا القول القرون العشرة "والوحش" وليس القرون العشرة "على الوحش". فهذه لا توجد كممالك أو دول مستقلة منفصلة. هناك عشرة ممالك ولكنها متداخلة في وجودها مع فترة حكم الوحش. إنهم "يَأْخُذُونَ سُلْطَانَهُمْ كَمُلُوكٍ سَاعَةً وَاحدَةً مَعَ الْوَحْش". عندما يعود الوحش للظهور في التاريخ سيفعل ذلك من خلال عشرة ممالك. لقد اختفى عام ٤٧٦ م، ولكن سيرجع للظهور مرة أخرى بشكل غير معروف حتى الآن في التاريخ. الإمبراطورية المنتعشة ستتكون من ١٠ ممالك لكل منها رئيس. فترة حكم هؤلاء الملوك تقاس بفترة حكم الوحش. ولكن هذه الممالك، ليست فقط موجودة خلال الزمن الذي يلعب فيه الوحش دوراًَ فظيعاً، بل هي أيضاً خاضعة له. فيضعون أنفسهم برحابة صدر في حالة خضوع مطلق للوحش. "هَؤُلاَء لَهُمْ رَأْيٌ وَاحدٌ، وَيُعْطُونَ الْوَحْشَ قُدْرَتَهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ". الوحش والقرون متعاصرة، ولكن الأخيرة تخضع لإرادة الأول. عندما انهارت الإمبراطورية، نشأت ممالك منفصلة- وهذه حقيقة تاريخية- ولكن نبوءتنا تتطلب وجود الوحش والممالك العشرة، والتي تخضع للوحش.

الحرب مع الخروف:

١٤- "هَؤُلاَء سَيُحَاربُونَ الْخَرُوفَ، وَالْخَرُوفُ يَغْلبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَاب وَمَلكُ الْمُلُوك، وَالَّذينَ مَعَهُ مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمنُونَ»". ها هنا نعرف عن العمل الأخير والعلني للوحش وحلفائه. الصراع نفسه يتم وصفه بالتفصيل في الأصحاح ١٩: ١٩- ٢١. الملاك هنا يخبرنا بما يجري ببساطة ويخبرنا عن عدة أحداث متداخلة ضمناً. لم يتم شن الحرب بعد، ولكنها متوقعة. ونشوبها أمر لا شك فيه على الإطلاق. "الْخَرُوفُ يَغْلبُهُمْ". والغلبة مضمونة ومؤكدة حتى قبل بدء الحرب، لأن الخروف رَبُّ الأَرْبَاب وَمَلكُ الْمُلُوك. إنه سامٍ عالي المقام. وله كل السلطان على السماء والأرض (متى ٢٨: ١٨). فيا لحماقة وجنون البشر والحكومات الذين يدخلون في حرب مع حمل الله الذي سيمسك زمام سلطان عرش الرب علانية. وكم هو مؤثر ذلك الاتحاد المبارك بين الخروف والملك القدير- والذي فيه يجتمع الحنان والقوة (٥: ٥، ٦).

١٤- "وَالَّذينَ مَعَهُ". المحاربون المقاتلون، وجند السماء، كل المفديين عندئذ في السماء. ستكون هناك جماعات أخرى من الأشخاص المخلّصين في السماء، إضافة إلى الكنيسة (عب ١٢: ٢٣). الجماعة الكاملة من القديسين السماويين يرافقون ربهم خلال السماء المفتوحة، ونزولاً لتحطيم المعارضة المتحدة لحقوق الخروف. لرؤية المزيد من الحديث عن التجمع العالمي للقديسين السماويين انظر يهوذا ١٤؛ زكريا ١٤: ٥؛ رؤيا ١٩: ١٤. في فجر عودة الرب الظافرة "كل الملائكة القديسين" سيتفاخرون بانتصاره (متى ٢٥: ٣١؛ عبرانيين ١: ٦). ولكن "الَّذينَ مَعَهُ" هم القديسون فقط. الملائكة لهم دورهم في الحرب في السماء (رؤيا ١٢: ٧). ولكن القديسين وحدهم يشكلون جيش الخروف المهاجم.

أولئك الذين يشتركون في هذا الصراع والذين يخدمون تحت إمرة هذا القائد المعروف يتم الحديث عنهم فرادة وجماعة على أنهم "مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمنُونَ". مدعوون في الزمن (٢ تيم ١: ٩)؛ مختارون في الأبدية (أف ١: ٤)؛ وبرهنوا إيمانهم في كل حالة تتعلق بالحياة، وحتى في الموت (متى ٢٥: ٢١- ٢٣؛ رؤيا ٢: ١٠). هذه الألقاب مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمنُونَ تنطبق فقط وحصرياً على القديسين.

تفسير المياه:

١٥- "الْميَاهُ الَّتي رَأَيْتَ حَيْثُ الزَّانيَةُ جَالسَةٌ هيَ شُعُوبٌ وَجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وَأَلْسنَةٌ". المرأة تجلس على الوحش( الآية ٣). الزانية تجلس على المياه أو بجانب مياه كثيرة (الآية ١). إذا وضعنا تفسير هذه "المياه الكثيرة" أمامنا نستطيع أن نفهم أكثر التأثير المباشر والكوني الذي تمارسه الكنيسة التي تكون مرتدة آنذاك. الشعوب والأمم، منظمة أو غيرها، وخاصة خارج حدود العالم الروماني الموجود، وقع في شرك إغراءات الزانية وأسيراً لها. فتجلس متوجة في عظمة، ومزينة بترف بأمجاد العالم، ولكن بدون مشاعر المحبة من أتباعها المضللين. هناك عرض، ولكن ليس حقيقة؛ ليس هناك من قلب مكرس للمسيح، كما يُفترض في عروسه. تعاظمها الذاتي، والهلاك الروحي للملايين الضالين الذين نالوا استحسانها وامتدحوا ابتسامتها، هو هدفها الوحيد. تطلعها الرئيسي هو نحو الذهب (١٨: ١٢)؛ ولا تهمها نفوس الناس (الآية ١٣). التقسيمات الأربعة للعائلة البشرية تُستخدم لإظهار التأثير البعيد المدى للمرأة (٧: ٩؛ ١١: ٩).

دمار الزانية:

١٦- ١٧- "وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْقُرُونُ الَّتي رَأَيْتَ عَلَى الْوَحْش فَهَؤُلاَء سَيُبْغضُونَ الزَّانيَةَ، وَسَيَجْعَلُونَهَا خَربَةً وَعُرْيَانَةً، وَيَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَيُحْرقُونَهَا بالنَّار. لأَنَّ اللهَ وَضَعَ في قُلُوبهمْ أَنْ يَصْنَعُوا رَأْيَهُ، وَأَنْ يَصْنَعُوا رَأْياً وَاحداً، وَيُعْطُوا الْوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أَقْوَالُ الله". في ترجمة أخرى "الْعَشَرَةُ الْقُرُونُ والْوَحْش". الممالك العشرة المتحدة مع الوحش في بغضها للزانية. يا للتغيير! من الواضح أن الوحش والملوك المتحالفين يتواجدون بعد دمار بابل، وهكذا هو الحال، أي الوحش والقرون، وهم الأدوات البشرية التي تحقق إنزال غضب الرب على ذلك النظام الآثم والمرتد. السلطة المدنية تُحفظ للدمار على يد الرب شخصياً وعند مجيئه بقوة (الأصحاح ١٩). القرون العشرة تساهم من خلال اشتراكها مع الوحش في كراهية الزانية. جميعهم اتحدوا في تأييد إدعاءات ومزاعم المرأة، والآن جميعهم على حد سواء متفقون على إهلاكها ودمارها.

مجد العالم وقوته ليست سوى حلم عابر زائل. كل ما لا يقوم على الله يذوي ويتلاشى ويهلك. لقد انهارت بابل وهي في قمة كبريائها وعظمتها وذروة مجدها. ودمارها كان كاملاً ونهائياً. وكجزاء عادل شركاؤها في الجريمة يصبحون الأدوات الحقيقية الفعالة في انهيارها السياسي وتجريدها من السلطة على الأمم.

يبدو أن هناك تدرج في العقوبة التي ينزلها الله بالزانية. فأولاً تلاقي البغضاء؛ وهذا يشير إلى الاشمئزاز والاحتقار الذي نظر به إليها حلفاؤها ومؤيدوها الأخيرون. وثانياً، يَجْعَلُونَهَا خَربَةً؛ فتجرد من ثروتها وتتبدد كلياً (١٨: ١٩). وثالثاً، تصبح عُرْيَانَةً؛ إذ تُنزع عنها أثواب الأُرْجُوان وَالقرْمز، وتظهر أمام الجميع بشخصيتها الحقيقية كامرأة مخزية متروكة مهجورة (حز ٢٣: ٢٩؛ رؤيا ٣: ١٨)، وعُريها الأخلاقي وخزيها يبدو واضحاً للجميع. ورابعاً، "يَأْكُلُونَ لَحْمَهَا"، وهناك مغزى من حقيقة أن كلمة لحمها تأتي في صيغة الجمع؛ فوفرة ثروتها وكل ما كانت تتفاخر به من أمجاد أمام ناظري المعجبين الأخيرين بها، قد تحول إلى عداوة مريرة (قارن مع يعقوب ٥: ٣؛ مز ٢٧: ٢؛ ميخا ٣: ٢، ٣). وخامساً، "يُحْرقُونَهَا بالنَّار"؛ أي تتعرض للدمار الاجتماعي والسياسي الكامل. العنصر الأساسي في دمار بابل الحرفية كان الماء (إرميا ٥١). المدينة الأسرارية التي تحمل ذلك الاسم "سوف يحْرقُونَهَا بالنَّار" (١٨: ٨). بابل وبابل كلتاهما مصيرهما الدمار الأبدي. الأولى سقطت؛ والثانية ستليها بالتأكيد. فليس لجرحها شفاء.

اتحاد القوى في الفكر والفعل:

القوى التي تدمر بابل تصب جام انتقامها على النظام الآثم الذي طالما استعبدها. ولكن هنا يُكشف النقاب عن حقيقة الأمور، ونجد أن كل ما فكروا فيه إنما كان تنفيذاً لإرادة الله. كان الله قد قرر دمار أسوأ نظام على وجه الأرض، وجعل من الوحش والملوك التابعين له أدواة لتنفيذ مأربه. "اللهَ وَضَعَ في قُلُوبهمْ أَنْ يَصْنَعُوا رَأْيَهُ" لاحظ التمييز بين "قُلُوبهمْ" و"رَأْيَهُ". إنهم يشاركون في عملية الدمار وبدون معرفة منهم يحققون هدف الله. قلب وفكر القوى المدمرة يتحدان. إنهم منجذبون بكل قلوبهم إلى ذلك العمل، والذي لا يدركون أنهم به إنما يحققون المشيئة الإلهية بعزم وطيب. ويبدو أن هذه هي الفكرة التي يُقدمها لنا هذا النص.

١٧- إضافة إلى ذلك، فإن الملوك العشرة "يَصْنَعُون رَأْياً وَاحداً، وَيُعْطُون الْوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أَقْوَالُ الله". هناك خضوع كامل مطلق للوحش. مع عجزهم على الحفاظ على ممالك منفصلة مستقلة، يضع الملوك العشرة أنفسهم طوعياً وممالكهم تحت حكم الوحش، ومن ذلك الآن فصاعداً يصبح هو سيدهم، ولا يسمح لهم إلا بظل ملكية. السلطة الحقيقية هي في يدي الوحش (١٣: ٢، ٧). ما يُنسب إلى الملوك في الآية ١٣ من أصحاحنا يُعزى إلى الله على أنه مصدره في الآية ١٧. كل حركات القوى في أوربا هي في الأزمة المستقبلية تحقيق لـ "أَقْوَال الله" النبوية. ونضيف أيضاً أن الخضوع الكامل للملوك العشرة للوحش، كما نرى في الآية ١٣، هي حالة تلي دمار بابل. لقد أعطوا سلطتهم سابقاً إلى المرأة، والآن انتقلت إلى الوحش. فترة حكم الوحش في الأزمة العظيمة الأخيرة تحدد المدة التي كان فيها القرون العشرة أو الملوك يمارسون سلطتهم بشكل مطلق (الآية ١٢) ٧. ولكن ذلك يصف حالة سابقة وتالية لسقوط بابل، بينما الاستعباد البغيض للسلطات إلى الوحش هو سابق وتالٍ للدمار الكلي للنظام الروماني.

الله يعمل بشكل غير منظور، وهو يتدخل في أصغر دقائق الحياة السياسية. رجل الدولة الداهية، والدبلوماسي الذكي، ليسا سوى عامل في يد الله وهما لا يعلمان بذلك. الإرادة الذاتية والدوافع في السياسة تؤثر على الفعل، ولكن الله يعمل بشكل مطرد نحو غاية واحدة، أي أن يظهر الأمجاد السماوية والأرضية لابنه. ولذا، فإن الملوك ورجال الدولة وبدلاً من أن يقاوموا هدف الله يحققونه بدون أن يعلموا. الله يهتم، ولكنه وراء كواليس الأحداث البشرية. أعمال الملوك العشر في المستقبل بما يتعلق ببابل والوحش، أي السلطات الدينية والمدنية- ليست فقط تحت سيطرة الله المباشرة، بل جميعها تُساهم في تحقيق أقواله.

روما، كرسي ومركز سلطة المرأة:

١٨- "وَالْمَرْأَةُ الَّتي رَأَيْتَ هيَ الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ الَّتي لَهَا مُلْكٌ عَلَى مُلُوك الأَرْض". لا يمكن فصل البابوية عن روما. وبابل في المستقبل هي التطور النهائي للنظام البابوي، وتجد موطئاً لها بشكل طبيعي في روما التي أسستها. وهناك يتم تعليم العقائد الأكثر تجديفاً، وهناك أيضاً الادعاءات بأنهم فوق البشر. سيكون هناك تطور في الأخطاء البابوية في فترة الارتداد الآتية. ولذا فإن روما هي المدينة المشار إليها هنا. المرأة هي المدينة، ليس روما فعلياً، بل النظام الذي وجد مقراً له في روما، الكنيسة الرومانية أو النظام الرومي، وكيل الشيطان في الفساد الديني (١٦: ١٩)، ومنذ ذلك الحين وإلى دمارها تمارس تأثيرها المهلك المميت على شعوب العالم المسيحي. الآية الأخيرة من هذا الأصحاح الشيق جداً يظهر حقيقة بسيطة ولكنها أيضاً في غاية الأهمية.

نورد هنا الحقائق والمواضيع التي تم عرضها في هذا الأصحاح من أجل المزيد من الفائدة للقراء.

مراجعة للأصحاح:

الغاية من هذا الجزء من الدراسة والفصل التالي هو إضافة مراجعة كاملة للتعليقات التي أوردناها سابقاً عن بابل (١٤: ٨؛ ١٦: ١٩). في ما يلي وصف كامل ومفصل عن طابعها ومصيرها. ولكن هناك موضوع آخر من الدينونة إلى جانب تلك التي ببابل. فالوحش، السلطة المدنية المرتدة، تشغل مكاناً ليس بقليل في هذه النبوة. الموضوعان الرئيسيان إذاً هما بابل، النظام الديني؛ والوحش، السلطة المدنية المرتدة؛ والأول يشغل أكبر مساحة. موضوع الوحش، الذي يكون بارزاً في مكان آخر (الأصحاح ١٣)، يعتبر هنا ثانوياً بالنسبة إلى بابل، الزانية.

يُقسم الأصحاح إلى جزأين: الأول، رؤيا يراها الرائي (الآيات ١- ٦)؛ والثاني، تفسير الرؤيا على يد أحد ملائكة الجامات (الآيات ٧- ١٨). ولعله يمكننا القول هنا أن التفسير يمضي بعيداً أكثر مما نرى في الرؤيا. والمبدأ نفسه نجده في دانيال ٢ ومتى ١٣. يضيف التفسير تعليماً لذاك الذي يوجد في حلم، أو رؤية، أو مثل. رأى الرائي أولاً الزانية العظيمة وقد آن أوان دينونتها (الآية ١). وتُدعى "بابل العظيمة" بسبب التشوش الفظيع والواسع الانتشار الذي تُمثله. إنها أيضاً "الزانية العظيمة" بسبب النظام المخيف من النفاق والشهوات المسيطر على نفوس وأجساد البشر. طابع الفسق والزنى عندها، الأخلاقي بالطبع، يُشار إليه بالكلمة "زانية". وتُدعى امرأة لأنها بذلك توحي بمعنى الخضوع (١ كور ١١: ٣). تزعم أنها تابعة للمسيح، كما هي الكنيسة وكما تُسر بأن تكون (أف ٥: ٢٣- ٢٥). ولكن في حالة المرأة، ادعاءاتها جوفاء وزائفة. إنها لا تبالي أبداً بالمسيح، ولن تسجد ولن تخضع لقيادته أو تعترف بسلطانه.

إنها تجلس على "مياه" أو بجانبها (الآية ١). وهذه المياه تشير إلى جموع الجنس البشري الكبيرة (الآية ١٥) والتي سحرتها المرأة وأخذت بها إلى دمار أبدي.

ثم يتم تعريفنا بملوك وسكان الأرض في علاقة كل منهم مع الزانية (الآية ٢). ويبدو هذا الارتباط حميمياً أكثر مما توحي به الآية ١. فهناك يكون التأثير عالمياً؛ أما هنا فنجد تواصلاً مباشراً مع الزانية. ونستنتج أيضاً أن العالم بمجمله هو في الآية الأولى من الأصحاح، أما في الثانية فالإشارة إلى العالم المسيحي فقط. "مُلُوك الأَرْض" ليسوا فقط أنفسهم "عَشَرَةُ مُلُوك" الوارد ذكرهم في الآية ١٢؛ فهؤلاء اللاحقين هم ملوك الإمبراطورية الرومانية، بينما السابقين يشيرون إلى رؤساء وقادة العالم المسيحي بشكل عام.

بعد ذلك نرى المرأة تجلس على "وَحْشٍ قرْمزيٍّ". وهذا هو نفس الوحش ونفس السلطة اللذان يتم الحديث عنهما في الأصحاح ١٣. إمبراطورية روما القديمة، والتي كانت قد زالت منذ عدة قرون، تُشاهد هنا في عالم النبوءة مغطاة بمجد وحكم العالم، كما يدل عليها اللون القرمزي. المرأة أيضاً متسربلة بالقرمز، والتنين له نفس اللون (١٢: ٣). يا لضخامة خُيلاء ومجد هذا العالم الذي يسعى الكل وراءه! السلطة الإمبراطورية تابعة للمرأة. والوحش، الذي يعهد إليه التنين بسلطة عالمية، هو مجرد خادم وأداة في يد المرأة. السلطة المدنية تؤيد إدعاءاتها المتكبرة المتعجرفة.

ولكن الوحش يُوصف أيضاً بأنه "مَمْلُوء أَسْمَاءَ تَجْديف". الخداع، والفساد، والعنف، والكبرياء وشرور مخزية من كل الأنواع نجدها في بابل الكنسية- الزانية. التجديف ونكران الله العلني والمسيح يُدان بها الوحش. أسماء التجديف على رؤوس الوحش (١٣: ١) تدل على طابع سلطة تنفيذية أو حاكمة، والتي بها يدان هذا الوحش، ولكن من الواضح أن لدينا هنا الجسم السياسي برمته- رؤساء وشعب، يتميزون بالتجديف. ما عادت هناك مخافة الله. والإمبراطورية بكل أجزائها منغمسة كلياً في هذا الإثم الأكثر فظاعة.

ثم نسمع أن الوحش له "سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ"، وتتكرر هذه عدة مرات. ذكر الوحش في الأصحاح ١٣: ١ هو بعبارات مشابهة لتلك المستخدمة في وصف التنين في الأصحاح ١٢: ٣. في حالة التنين، الرؤوس، وليس القرون، هي المتوجة؛ وفي الحديث عن الوحش، نجد أن القرون هي المتوجة، بينما الرؤوس تحمل أسماء أو عبارات التجديف العلنية؛ في الأصحاح ١ لا نجد أياً من الرؤوس أو القرون متوجة (الآية ٣). فهكذا إذاً الطابع العام والوصف للوحش، المؤيد الرئيسي للنظام الديني الزائف والفاسد الذي يسيطر على الإمبراطورية والذي يمد تأثيره إلى كل أرجاء العالم المسيحي. يبدو غريباً، للوهلة الأولى، أن الوحش- الذي مُنح هكذا مقدار كبير من السلطة الليبرالية وقد أخذ هذه السلطة من الشيطان (١٣: ٤- ٧)- نجده عبداً طائعاً عند أقدام المرأة، ولكن روعتها المذهلة وتأثيرها الإغوائي هما مثل حبال حريرية تربط الرئيس الواسع السلطة للإمبراطورية إلى مسند قدم عرشها.

أما وقد شاهدنا الوحش أمامنا، ننتقل من جديد لنرى المرأة أمامنا، متدثرةً ومزينة بكل ما يعتبره العالم بأعلى قيمة (الآية ٤). تُمسك كأساً ذهبياً بيدها؛ كان يجب أن تُمسك ذلك الكأس بيد الرب. الكأس "مَمْلُوَّةٌ رَجَاسَاتٍ وَنَجَاسَات زنَاهَا" ٨. كل من يشرب من كأسها، وملايين يفعلون ذلك، يتعرضون للهلاك أخلاقياً ومعنوياً. ثم نجد مطبوعاً على جبهتها اسمها وطابعها. تحمل على ملامحها الكهنوتية الاسم "سرّ"، أي سرّ التعدّي بالتأكيد. الجزء الثاني من الاسم، "بَابلُ الْعَظيمَةُ"، يشير إلى الفوضى والدمار الذي أحدثته المرأة. لقد ملأت العالم المسيحي بشرور لا تعد ولا تحصى وتسببت في فوضى وشواش ميئوس منه. الجزء الثالث من السام أو اللقب للمرأة قد يكون الأسوأ: "أُمُّ الزَّوَاني وَرَجَاسَات الأَرْض". كل نظام يحاكي طرق ويقلد تصرفات المرأة، فيتشرب عقائدها ويتبنى الليتورجيا الخاصة بها، ويقتبس من الكنيسة الرومية أو يتبنى شيئاً منها، فهو الآن أو عندئذ، يُعتبر من ذريتها. إنها أم، بالطبع، لكل نظام ديني شرير فاسد. ولكنها نظام دموي، كما أنه فاسق أخلاقياً. "وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ سَكْرَى منْ دَم الْقدّيسينَ وَمنْ دَم شُهَدَاء يَسُوعَ" (الآية ٦). روما البابوية فاقت كثيراً روما الوثنية في قسوتها وسفكها للدماء؛ وإضافة إلى ذلك، فهي أشد منها ذنباً لأنها تعرف أفضل منها. لقد كانت تقر بأنها عروس المسيح، ومع ذلك فقتلت عن عمد أولئك الذين افتداهم دم الحمل؛ لاشك أن الكنيسة الرومية كانت تعتقد أنها بقتل القديسين كانت تخدم الله (يوحنا ١٦: ٢)، ولكن هذا يظهر الضلال الفظيع الذي أدى إلى دمارها إدانة لها في ما بعد. تعجب الرائي لم يكن بسبب اضطهاد الوحش (١٣: ٧)، بل لأن المرأة، التي يُفترض أن تكون عروس المسيح، ورغم أنها ليست هي بل الوحش، هي من قتل القديسين. ففي الواقع المرأة هي التي كانت السلطة  وراء الوحش.

بعد ذلك، وفي الجزء الثاني من الأصحاح نجد شرحاً لـ "سرَّ الْمَرْأَة وَالْوَحْش الْحَامل لَهَا". إنه سر مزدوج- المرأة والوحش؛ محاكاة لسر العهد الجديد "المتعلق بالمسيح والكنيسة". في السر الذي في أصحاحنا يأتي ذكر المرأة أولاً، وفي رسالة أفسس يأتي ذكر المسيح أولاً، وهذا صواب.

سر الوحش يتم شرحه أولاً وإظهاره من خلال أربع حالات (الآية ٨). فقد "كَانَ". فالوحش وُجد كإمبراطورية موحدة واسعة الأرجاء تحت حكم سلسلة طويلة من أباطرة متعاقبين. و"لَيْسَ الآنَ" إذ ليس له وجود سياسي حالي؛ بالطبع تبقى البلدان والأقانيم التي كانت في الماضي داخل الإمبراطورية، ولكن الإمبراطورية على هذا النحو أتت إلى نهاية مخزية، عام ٤٧٦ م. الإمبراطورية القديمة ذات السمعة الواسعة الأرجاء والامتداد ما عادت موجودة لقرون عديدة. "عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ منَ الْهَاويَة". إن صعوده التاريخي ومع ذلك المستقبلي من البحر (١٣: ١) ليس هو موضوعنا هنا؛ صعوده من الهاوية يشير إلى الفترة الزمنية التي وصلنا إليها والتي يتناولها الأصحاح في الحديث. سفر الرؤيا يظهر تاريخ النصف أسبوع النبوي الأخير فقط. "وَيَمْضيَ إلَى الْهَلاَك". هذا هو المصير النهائي والأبدي للوحش (١٩: ٢٠)- أن يُلقى في بحيرة النار حياً مع تابعه في الجريمة النبي الكذاب؛ وسيدهما الشيطان سينضم إليهما في نفس المصير من البؤس لألف سنة في ما بعد (٢٠: ١٠). صعود الوحش هو سبب التعجب عند الجميع ما خلا المختارين (الآية ٨). يتعجب العالم الأثيم والمضلل مرتين، وفي كلتا المرتين من عودة ظهور الوحش على ساحة التاريخ (١٣: ٣؛ ١٧: ٨).

"السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ هيَ سَبْعَةُ جبَالٍ"، وهذه تشير إلى التلال التي تقع عليها روما. المرأة تجلس على الوحش، وعلى الجبال السبعة، أي مدينة روما ذات التلال السبعة. روما متناسجة جداً مع حياة ونمو البابوية لدرجة أن فصلهما يعني إصابة النظام الرومي بضربة قوية لا يمكن أن يُشفى منها.

ولكن أيضاً الرؤوس السبعة ترمز إلى الأشكال المتعددة والمتعاقبة من الحكم الذي رآها في "المدينة الأبدية". الرؤوس هم "سبعة ملوك" الذين سقط منهم خمسة. الرؤوس الخمسة الساقطة هم الممالك المتعاقبة في مصر وأشور وبابل والإغريق وفارس؛ آخرون يعتبرون أن الإشارة هنا هي للأباطرة الخمسة الأوائل في روما، أي أغسطس، طيبايوس، كاليغولا، كلاوديوس، وميرون. لا يمكن أن تكون الفرضية الأولى صحيحة، لأن الوحش، أي الإمبراطورية الرومانية- التي تجعلها إدانة المسيح وتشتت يهوذا آثمة بشكل فظيع، هو الذي أمامنا في النبوءة. والنظرية الثانية أيضاً لا يمكن أن تكون صحيحة، لأن الرؤوس هي أشكال مختلفة من الحكم. لعله كانت هناك أسباب معينة تجعل هؤلاء الأباطرة يدعون "قرون"، ولكن لا يمكن أن يدعوا "رؤوس". كل منهم يمثل رأساً أو شكلاً من الحكم، أي الإمبراطوري. بعد ذكر الأطوار الخمسة الساقطة من الحكم المدني والسياسي يستأنف الرائي فيقول، "وَاحدٌ مَوْجُودٌ". وهذا هو الشكل الإمبراطوري من الحكم الذي كان يوجد في أيام يوحنا- الرأس السادس.  ولكن هناك أحد آخر "لَمْ يَأْت بَعْدُ"- السابع. استمراره هو لفترة وجيزة فقط، كما أن الطور الثامن أو الأخير للإمبراطورية هو النقطة ذات الأهمية. رجل الشيطان والملك هو الثامن، لقد خرج من الهاوية. ولذلك فهو كائن متمايز، ويُطلق عليه اللقب أو التسمية "الثامن"، ومع ذلك فهو "منَ السَّبْعَة" (الآية ١١)، إذ أن نفس طابع الحكم تحت الرأس السابع سيستمر. الأشكال الخارجية من الحكم سوف تخضع لبعض التغيير تحت الطوريين الأخيرين من الإمبراطورية اللذان يصعدان من الهاوية. ولكن دينونة الله الأكيدة تباغت السلطة الآثمة والمرتدة. "يَمْضي إلَى الْهَلاَك" وهذه تتكرر مرتين (الآيات ٨، ١١).

ثم نجد شرحاً لقرون الوحش العشرة (الآية ١٢). هذه القرون هم ملوك، يأتون ضمن مجال الفعل فقط في نفس الوقت مع الوحش وطالما هو موجود؛ فترة وجوده وحكمه تحدد فترة وجودهم. يجب على فكر وهدف هؤلاء الملوك جميعاً أن يذعن كلياً إلى إرادة وخدمة الوحش (الآية ١٣). ثم تأتي الحرب ضد الحمل. الوحش والملوك والجيوش المتحالفين معه من جهة هم ضد الحمل في اقتداره كرب وملك ٩، والذي يفوقهم قوة، وإلى جانبه جيوشه من الطرف الآخر (الآية ١٤). إنها الحرب نفسها، والصراع نفسه، الذي يتم وصفه بشكل كبير موسع مفصل في ١٩: ١١- ٢١. في أصحاحنا هذا (١٧) آخر عمل للوحش والملوك التابعين له متوقع، ولكن لم يحدث بعد. أحداث أخرى تجري بين سرد ما يتعلق بالصراع الوشيك (الأصحاح ١٧) وتحققه الفعلي في التاريخ (الأصحاح ١٩).

المياه التي يراها الرائي (الآية ١) ترمز إلى "شُعُوبٌ وَجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وَأَلْسنَةٌ" (الآية ١٥). ثمة تأثير معنوي كبير جداً يمتد إلى ما وراء حدود الأرض النبوية. جموع البشر، منتظمة أم لا، تأتي تحت تأثير الزانية. "الْميَاه الْكَثيرَة" (الآية ١) تلفت انتباهنا إلى أتباع الزانية الكثيري العدد.

القرون العشرة، أو الملوك، يُرون الآن وقد تأهبوا لحالة من النشاط والفعالية غير المعتادة. وهم، مع الوحش، انقلبوا على المرأة، التي كانوا إلى جانبها حتى الآن، ودمروها. إنهم يسحقونها ويحولونها إلى حالة من الخراب والدمار ويستولون على ثروتها. أوربا، أو الجزء الغربي منها في نهاية الأمر، تبقى جانباً لفترة من الوقت إذ تكون قد تأثرت بالمظهر المذهل والخادع للمرأة، ولكنهم يحطمون القيود في نهاية الأمر ويضعون حداً للمرأة. إنهم يتصرفون بدافع مشاعر الانتقام، ولكن، يتبين في النهاية، أنهم إنما يحققون إرادة الله (الآية ١٧). الملوك العشرة صاروا الآن أحرار ليُسلموا سلطتهم متحدين مع الوحش، وذلك يمكنه من أن يحتل لوحده العالم ومجال النبوءة إلى أن يُدمره الرب. هذا يستمر "حَتَّى تُكْمَلَ أَقْوَالُ الله". وفي كل ذلك يكون الملوك العشرة هم الفاعلون البارزون في الأحداث. ثم نجد النظام الرومي، والذي يفوق عدده المئتي مليون نفس في شركة لا ترضي الله، متطابقاً مع روما المدينة نفسها (الآية ١٨). الآية عبارة عن قول صريح بسيط حول حقيقة مشهورة ومعروفة.

في ختام هذه المراجعة نلفت الانتباه إلى التضاد بين زانية الشيطان وعروس الخروف. الأولى تشغل الأصحاحين ١٧ و ١٨؛ والأخيرة هي الموضوع الرئيسي في الأصحاحات التي تليها. المرأة والمدينة هما في كلا الجزأين، ولكنهما متضادتان بحدة.

الجانب الدنيوي والمدني الصرف من المرأة، تتم معالجته بشكل خاص في الأصحاح التالي. النظام التي تمثله بابل هو دمج بين الكبرياء الدنيوي والإدعاء الديني. الاتحاد مع العالم، والذي هو أمر بغيض لله، هو الدعارة التي تمارسها المرأة. يقول أحدهم في تعليق على هذا الأصحاح: "في هذا الأصحاح يُروِّع الرائي ما يتأمله من بهاء المرأة وإثمها، بينما يصف في الأصحاح ١٨ تفجع العالم على مصيرها بكلمات تدل على سمو وشفقة ورثاء".


١. غير مطروقة وليس فيها موارد- الفقر الروحي.

٢. إدخال أداة التعريف هنا أمر لافت. وقد كان مقصوداً وضعها. إن أداة لتعريف تشير إلى مواضيع ذات اهتمام كبير في سفر الرؤيا. وهي تظهر التحديد والأهمية للموضوع الذي يتحدث عنه الرائي. ومن هنا نرى "السماء"، و"قوس قزح"، و"الرعود السبعة" (الأصحاح ١٠)، و"الوحش" (١١: ٧)، و"جناحي النسر الكبير" (١٢: ١٤)، الخ.

٣. زوجة الملك هي أورشليم (مز ٤٥: ٩). وعروس وزوجة الحمل هي الكنيسة (رؤيا ١٩: ٧؛ ٢١: ٩). زوجة الرب هي إسرائيل (أرميا ٣: ١٣). أم الابن الذكر هي إسرائيل، وللحديث بشكل أدق، هي يهوذا (رؤيا ١٢: ١؛ رومية ٩: ٥).

٤. المرأة المطلقة ما كان يمكن أن تعود عذراء من جديد؛ ومن هنا فإن الكنيسة وليس إسرائيل هي عروس الحمل (انظر ٢ كور ١١: ٢؛ أف ٥: ٣٢).

٥. الألوان الثلاثة في بوابة باحة خيمة الاجتماع، في باب الخيمة، وفي الحجاب الذي يقسم المقدس عن قدس الأقداس كانت زرقاء، وأرجوانية، وقرمزية. الأول يشير إلى المسيح بشخصه السماوي؛ والثاني إلى آلامه على الأرض، والثالث إلى تسلمه مقاليد الحكم ومجد الأرض في ذلك اليوم الآتي.

٦. يقول واربارتن: "عن الأجزاء المعتمة من الرؤيا، هناك نوعان: نوع يمكن فهمه من خلال الدراسة المتأنية لذوي المواهب المتميزة، والآخر سيبقى دائماً في ظل عرش الله، ولن يستطيع أحد أن يدخل إليه أو يتطرق إليه". التاريخ مفتوح أمام الإنسان الطبيعي. أما النبوءة فلا يمكن فهمها إلا بالحكمة الروحية.

٧. "يَأْخُذُونَ سُلْطَانَهُمْ كَمُلُوكٍ سَاعَةً وَاحدَةً مَعَ الْوَحْش" يعني في الحال وفي نفس الوقت؛ أي أن القرون والوحش يتواجدان معاً، سواء كان الزمن محدوداً أم مطولاً.

٨. إن صور القديمة، وليس بابل، هي الذي تُتهم بالزنى؛ هذا يُظهر في الحال طبيعة الشر كما يُنظر إليه أخلاقياً.

٩. في الأصحاح ١٩: ١٦نجد أن الترتيب في الألقاب معكوس. وهناك نجد ملك الملوك ورب الأرباب، بينما هنا رب الأرباب وملك الملوك.

الأصحاح ١٨

سقوط بابل: تفجّع على الأرض؛ ونصر في السماء

الملاك وصرخته:

١، ٢- "ثُمَّ بَعْدَ هَذَا رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ نَازلاً منَ السَّمَاء، لَهُ سُلْطَانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنَارَت الأَرْضُ منْ بَهَائه. وَصَرَخَ بشدَّةٍ بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلاً: سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ الْعَظيمَةُ". رغم أن موضوع بابل يُستأنف في هذا الأصحاح، مع ذلك فإنه يشكل إعلاناً متمايزاً وتابعاً محتوىً في الرؤيا. عبارة "بَعْدَ هَذَا" (٤: ١؛ ٧: ١، ٩) يوحي ببداية جديدة، ويقدم مجموعة جديدة من الظروف؛ يفيد أيضاً في لفت انتباهنا إلى وحدة متمايزة في الموضوع أو المواضيع التي يتم التقديم لها على هذا الشكل. من وجهة النظر هذه يصبح الأصحاح شيقاًَ. بابل بالطبع هي في مقدمة كلا الأصحاحين ١٧ و ١٨، ويمكننا إضافة الآيات الثلاثة الأولى من الأصحاح التالي. هنا الوحش لا يسمى أبداً،  ولا الملوك العشرة الذين يكونون فعالين في دمار بابل. في هذا الأصحاح يختفي العوامل البشرية، ويُنسب دمار ذلك النظام المريع من الفساد إلى الله. بابل، ليس كامرأة في علاقتها مع الوحش ولا كزانية في علاقتها مع العالم المسيحي، تُذكر في هذه الرؤيا- وتكون متمايزة كما في الأصحاح السابق. سقوط بابل (١٦: ١٧) في علاقتها المدنية لا يفرغ دينونة الله على ذلك النظام الشرير المنظم (١٨: ٤، آخر جملة). بل في هذا في وقت آخر.

١- "مَلاَكاً آخَرَ"، في تضاد مع ملائكة الجامات (١٧: ١؛ ٢١: ٩). "نَازلاً منَ السَّمَاء" تدل على الطابع الإلهي للعمل، والاهتمام العميق هناك بطابع ومصير بابل. "سُلْطَانٌ عَظيمٌ". هناك أوامر ومراسيم وسط الجند الملائكي. البعض متمايزون أكثر من غيرهم في الخدمة وفي المكانة. جميعهم يتميزون بالاقتدار (٢ تسا ١: ٧؛ ٢ بط ٢: ١١)، ولكن مُنح البعض قدرة خاصة ليسلك من أجل الله في ظروف معينة؛ وآخرون أيضاً لديهم سلطة محدودة ضمن منطقة محدودة، ولكن السلطة الكونية لا تُنسب أبداً إلى ملاك. الرب يسوع المسيح كإنسان وابن هو الوريث المعين لكل الأشياء (متى ٢٨: ١٨؛ ١١: ٢٧؛ عب ١: ٢). كخالق، ادعاؤه بالسيادة العالمية لا شك فيه، وهي سيادة مطلقة ومستقلة (كول ١: ١٦)، تقوم على أساس حقوق ومجد شخصه كإله.

الملاك في نصنا لَهُ "سُلْطَانٌ عَظيمٌ" وعلى الأرجح أنه الملاك الذي عُهدت إليه دينونة بابل. ها هو هنا يعلن سقوطها، ولكن كتنفيذ لتعاملات أكثر وأشد فظاعة. الملاك لديه سلطة واسعة مفوضة إليه تمكنه من أن يتعامل كلياً مع الموضوع الذي بين يديه، أعني به النظام الديني الأكثر شراً على الأرض. "اسْتَنَارَت الأَرْضُ منْ بَهَائه". هذه شهادة على أن الله هو في المشهد، وأنه هو الذي يتصرف بدينونة. سقوط بابل كان حدثاً علنياً- دخان احتراقها (الآية ١٨) قد سوّد السماوات معلناً هذا للبعيد والقريب، ولكن الأرض استنارت، ليس بانعكاس الشمس، بل بمجد الملاك النازل، وشهدت بحقيقة أنه مهما كان الوكلاء أو العاملون، فإن الله، هو القاضي العادل، الذي يدين بابل. على الأرجح أن الملاك المشار إليه هنا هو ليس سوى المسيح، وهو نفسه في الأصحاح ٨: ٣ و١٠: ١. المسيح، الكاهن الملاك، العامل لمصلحة البقية المؤمنة به والتي تعاني (الأصحاح ٨). المسيح، الفادي الملاك، يأخذ ميراثها (الأصحاح ١٠). المسيح، المنتقم الملاك عن شعبه، ينتقم من بابل (الأصحاح ١٨).

٢- "صَرَخَ بشدَّةٍ بصَوْتٍ عَظيم". هذه صفة تتفوق فيها الملائكة (مز ١٠٣: ٢٠). صرخة الملاك كانت إعلان ترحيب لسقوط بابل، لم تكن متوقعة، ولكن حدثت فعلاً. "سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ الْعَظيمَةُ". سقوط ذلك النظام المقتدر، والذي كان مداناً بالتزييف والخيانة ضد المسيح، لا يزال يحمل اسمه الذي يُعلن هنا علانية. هذا كان قد نُفذ في الأصحاح الماضي على يد قوى غربية. فهناك رأينا الوحش، الذي فُوضت إليه القوة أو السلطة المدنية ١، فيصير بفترة من الزمن عبداً طائعاً للمرأة. إنها تجلس عليه في الكبرياء، ما يبعث على التعجب والاستغراب للجميع، ما عدا أولئك الذين انفتحت أعينهم بالنعمة ليروا طبيعتها الحقيقية. ولكن القوة التي مع الوحش، وليس مع المرأة، لا تستقر بسبب الكبت والغضب تحت سيطرتها المتشددة. ثروتها أيضاً يشتهيها بشراهية القوى المدنية والمرتدة. الممالك العشرة والوحش، كل القوة المادية للإمبراطورية، يتحدون لأجل دمارها. وفي هدفهم الانتقامي هذا من أسوأ نظام شرير والأكثر اضطهاداً لا تغيب الشمس أبداً عن اتحاد الملوك العشرة الذين يكونون أشد فعالية منهم، أي القرن الصغير الذي يرد ذكره في دانيال ٧. تُجرد المرأة من ممتلكاتها وثروتها التي تذهب منها فتتضخم بها كنوز رؤساء الإمبراطورية العظام. المرأة، أو النظام الذي تمثله، ينهار إلى أخفض دركات الخزي، وتصبح موضع ازدراء وسخرية حتى عند أولئك الذين كانوا يطلبون رضاها وودها. تقع أمامنا كحطام. السلطة المدنية المرتدة تنتصر عليها بقوتها الوحشية؛ ثم يستسلم الملوك العشر وممالكهم لإرادة الوحش القاسية التي لا ترحم. وبينما كانت الأمور في حالة سيئة تحت المرأة تصير الحالة أسوأ بكثير تحت إرادة الوحش الملهم من الشيطان.

إعلان الملاك القدير:

٢، ٣- بَابل "صَارَتْ مَسْكَناً لشَيَاطينَ، وَمَحْرَساً لكُلّ رُوحٍ نَجسٍ، وَمَحْرَساً لكُلّ طَائرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأَنَّهُ منْ خَمْر غَضَب زنَاهَا قَدْ شَربَ جَميعُ الأُمَم، وَمُلُوكُ الأَرْض زَنُوا مَعَهَا، وَتُجَّارُ الأَرْض اسْتَغْنُوا منْ وَفْرَة نَعيمهَا". هذه هي حالة بابل بعد سقوطها السياسي. لقد أُطيح بها، ولم تُدمر. وهذا الأمر الأخير المفاجئ. سوف "تَحْتَرقُ بالنَّار" (الآية ٨) وهذا يلي الاحتراق الوارد ذكره في الأصحاح السابق (الآية ١٦).

"صارت". إن بابل وقد خسرت مكانتها العامة السيادية، وتقطعت إلى أشلاء على يد نفس القوى التي شكلت يوماً قوتها، يتقلص حجمها إلى حالة دمار وخراب توصف بلغة لا مثيل لقوة كلماتها. من الواضح أن الوصف مستمد من أشعياء ١٣: ٢١، ٢٢ والذي فيه أنبأ أعظم الأنبياء العبرانيين عن سقوط بابل، التي كانت يوماًَ خليلة العالم المتكبرة، والتي انحط قدرها الآن دون سائر المدن؛ هنا لدينا النظير ال

أخلاقي. وهذا إذاً ما "صارت" عليه عروس المسيح. هناك ثلاثة أجزاء في الوصف تتناول حالة الرعب الفظيعة.

(١) "مَسْكَناً لشَيَاطينَ". مسكنهم المناسب هو الهاوية (لوقا ٨: ٣١). لا نعرف من هؤلاء الشياطين، سواء كانوا ملائكة ساقطين أم أرواح أناس هالكين، أم جماعة من كائنات بائسة هالكة من تلقاء نفسها، والذين من المؤكد أن يلاقوا عذاباً مستقبلياً أليماً. يا لها من فكرة مذهلة أن الهاوية في العالم السفلي وعروس المسيح المعترفة على الأرض، يجب أن يُنظر إلى كليهما كمسكن للشياطين! يمكننا بسهولة أن نفهم أن تكون الهاوية مسكن للشيطان، ولكن العجيب أن تكون الكنيسة المعترفة معهم أيضاً.

(٢) "مَحْرَساً لكُلّ رُوحٍ نَجسٍ". يؤسس الشيطان قواه الروحية في النظام الكنسي المدمر. يجعل منه حصناً أو قلعةً والتي هي قوة العالم، وإلى هناك تذهب النجاسة والقذارة وتحتشد في الفجوة. وهناك الصرخة الكئيبة تُسمع، ويُرتكب العمل الشرير، "كلّ رُوحٍ نَجسٍ" يتجمع إلى بابل المدمرة كمركز له.

(٣) "مَحْرَساً لكُلّ طَائرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ". نستنتج أن الشياطين والأرواح النجسة المشار إليها في هذا النص هي كائنات شخصياً. الطيور النجسة، والطيور المفترسة، وطيور الظلام، ترمز إلى وكلاء الشيطان العديدين والمتنوعين (متى ١٣: ٤، ٣٢؛ إر ٥: ٢٧؛ وخاصة أشعياء ٣٤: ١١- ١٥)، وهؤلاء بالطبع لهم طبيعة مؤذية ومهلة للغاية. ولذلك فإن بابل، الغارقة في الفساد، هي شيء بغيض في نظر الله.

الاتهامات الكبيرة ضد بابل:

يتم ذكر الاتهامات التي على أساسها تقع دينونة الله على بابل. وهذه هي:

(١) "لأَنَّهُ منْ خَمْر غَضَب زنَاهَا قَدْ شَربَ جَميعُ الأُمَم". شعوب الأرض النبوي قد ثملوا من كأسها الذهبي التي تُسكر. لقد أغوت الشعوب وحرفتهم عن ولائهم لله والمسيح، وتملكت على عواطف جموع الجنس البشري. شعوب العالم المسيحي، والمنطقة الجغرافية الأوسع، أسرتهم روعة وفخامة خدماتها، وطقوسها الرفيعة المزخرفة، والعرض العام لثيابها البهية الجميلة وقبعتها، وهذا كله أسّر على الفكر الجاهل والخيال المطلق العنان لسكان مدننا، وبلداتنا، وقرانا. أضف إلى ذلك، الشروط السهلة التي تقدمها لنيل الخلاص لأتباعها ومناصريها، ومن جهة أخرى التهديد بأنه ما من خلاص خارج نطاق الشركة معها، فلا عجب أن نرى الأمم قد ثملوا بها أو خبلوا من نظام يقدم هكذا منافع، بينما يعلو عن الجميع الدينونات الحقيقية التي تستحقها بسبب حالتها الحقيقية أمام الله. في الفترة التي نتأمل فيها ونراها في هذا الأصحاح سيكون الكتاب المقدس قد أُزيح من الاستعمال على الملأ، وأيضاً من ضمير الجموع حتى عند الناس المتدينين. ولذلك فإنهم سيقعون فريسة سهلة أمام إغواءات بابل.

(٢) لأن "مُلُوكُ الأَرْض زَنُوا مَعَهَا". الرؤساء في الممالك العشرة شخصية التي تشكل المنطقة الإقليمية التي تمتد عليها الإمبراطورية، عندما ينتعشون يجب تمييزهم عن ملوك الأرض. الأوائل هم الذين يدمرون ويحرقون المرأة (١٧: ١٦)؛ فينقلبون إلى كراهيتها. ولكن ليس الملوك هكذا، أو الرؤساء في العلام المسيحي، فهم يندبون حظها ومصيرها (١٨: ٩)؛ وهم، وليس ملوك الغرب العشرة، فئة معينة ومحدودة العدد، يرتكبون الزنى مع بابل. حب الظهور، الذي تتبجح به الكنيسة الرومية، تروق للحواس والجدال، وأمام هذا الإله ستنحني الشعوب، ولكن ملوك الأرض أو القادة، هم أشد إثماً وأشد اقتصاداً، إذ ينتفعون من مركزهم؛ إنهم يسلمون أنفسهم إلى تملقات المرأة. الكنيسة تعتنق العالم بكل ما أمكنها الحصول عليه من أعداد وثروات، والعالم يسر بذلك بالمقابل، أفلم تعد بفتح السماء لكل الذين يأتون إليها ويجزلون العطاء؟ مفاتيح القديس بطرس تتدلى أمام الملوك والشعب، وكذلك كرسي "وكيل المسيح" (على الأرض) و"الأسقف العالمي" الذي سيتمجد إلى مستوى أخلاقي رفيع يفوق ذاك النجاح والازدهار في القرون الثلاثة التي اشتهرت فيها روما بالتعجرف والكبرياء، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

(٣) "تُجَّارُ الأَرْض اسْتَغْنُوا منْ وَفْرَة نَعيمهَا". لقد كان هناك على الدوام عديد من فئات الشعب الذين يلزمون أنفسهم بالدين بقدر ما يستطيعون أن يكسبوا، مستخدمين الكنيسة كوسيلة للمنفعة المؤقتة. بابل ستكون طعماً مغرياً لكل من كان على هذا الخلق. وفرة غناها وترفها ستجتذب "تُجَّار الأَرْض". الذين سيغتنون بذلك. ولكن سرعان ما سيتبدل المشهد، وهؤلاء التجار أنفسهم سيبكون وينتحبون على الدمار الذي منه اغتنوا.

دعوة إلى الانفصال:

٤، ٥- "ثُمَّ سَمعْتُ صَوْتاً آخَرَ منَ السَّمَاء قَائلاً: «اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي لئَلاَّ تَشْتَركُوا في خَطَايَاهَا، وَلئَلاَّ تَأْخُذُوا منْ ضَرَبَاتهَا. لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحقَت السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". ملاك ينزل من السماء (الآية ١) وصوت يُسمع في السماء (الآية ٤)، يعبر عن سلوكيات مختلفة. الأخير هو تعبير عن فكر الله، الذي فيه يظهر الانسجام بكل ما في السماء.

٤- الدعوة، "اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي" ٢، تنطبق بالتأكيد في جميع الأزمان، وليست بفصل معين. ولكن التحذير له قوته الخاصة بعد انهيار بابل من عظمتها الشديدة السابقة (الأصحاح ١٧) وقبل مصيرها النهائي المشؤوم (الأصحاح ١٨). الدعوة فيها أمر. بابل كنظام لا يمكن أن يعيد صياغة نفسه على أسس روحية، ومن هنا فليس هناك سوى طريق واحد مفتوح أمام المخلصين المؤمنين- ألا وهو من خلال الانفصال عن كل من يحمل اسم المسيح بشكل مزيف. ما من شك أن بابل سيوجد فيها بعض المؤمنين الحقيقيين، حتى في أسوأ حالاتها وأكثرها فساداً، وعلى الأرجح أنهم سينجون من الاضطهاد والموت. هؤلاء المناصرون يجب أن يقوموا بعملية انفصال أو انقطاع عن بابل، وإلا سيكون مشاركين في الويلات التي ستتعرض لها ٣.

٤- الدعوة تستند على أساسين: (١) "لئَلاَّ تَشْتَركُوا في خَطَايَاهَا". إذ بالبقاء فيها سيصبحون شركاء في خطاياها. (٢) "لئَلاَّ تَأْخُذُوا منْ ضَرَبَاتهَا". التحذير هنا هو على أساس التبعات- القضائية والحكمية. الضمان الأبدي لا يمكن أن يتعرض للخطر بالتهديد الإلهي. الذنب والعقاب من جميع الباقين في بابل يتم التنبؤ عنه هنا. الله على وشك أن يسحق كل النظام الكنسي المرتد بدمار كامل لا سبيل إلى معالجته، وبسبب صب جام الغضب النهائي، نجد هنا العبارة "ضربات"، ويُسمع الصوت الأخير المنادي أن: "اخْرُجُوا منْهَا يَا شَعْبي". فنستنتج بشكل طبيعي أن خروج القديسين من بابل يتم قبل أن تقع الضربة الأخيرة، والتي ستحطمها إلى ركام. وكما قال أحدهم: "تأتي الدينونة الكاملة بعد أن يخرج شعب الله منها".

٥- وما ستكون وسيلة هذه الدينونة الرهيبة؟ لماذا هذا التعامل الفظيع من قِبل الإنسان والله؟ "لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحقَت السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". وعن الاتحاد البابلي الأول بعيداً عن الله نقرأ: "قَالُوا هَلُمَّ نَبْنِ لانْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجا رَاسُهُ بِالسَّمَاءِ" (تكوين ١١: ٤). سيبنون ضريحاً من الحجارة يبقى إلى الأبد بدافع حماقتهم. ولكن هنا تتراكم الخطايا لتصل إلى "السماء"، ضريح خزيها لو عرفت بذلك. يا لها من صورة مذهلة نجدها هنا، برج بابل، ليس من حجارة بل من خطايا؛ ليس فقط خطيئة على الأرض تستدعي الدينونة، بل خطايا متفاقمة تسير عن غضب، وهي عديدة، وفيها من القحة والفحشاء ما ينفر السماء ٤. "تَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا". الدينونة، الصارمة والقاسية، يجب أن تجري مجراها.

المكافأة العادلة:

٦- "جَازُوهَا كَمَا هيَ أَيْضاً جَازَتْكُمْ، وَضَاعفُوا لَهَا ضعْفاً نَظيرَ أَعْمَالهَا. في الْكَأْس الَّتي مَزَجَتْ فيهَا امْزُجُوا لَهَا ضعْفاً". الآية السابقة موجهة مباشرة إلى شعب الله، ولكن في التي أمامنا هي موجهة للقديسين. فعندئذ، كما الآن، من المؤكد مبدأ أن الله يسلك بعدالة جزائية. إنها عبارة تشير إلى المبدأ الذي يتصرف الله وفقه مع الشعوب، مثل متى ٧: ٢ والذي يظهر انطباقه على الأفراد. لقد كان الناموس الذي ليطلب أن "عين بعين"، ولكن الانتقام هنا يطلب ما يتجاوز ذلك- المعيار مضاعف.

الكبرياء قبل الدمار:

٧، ٨- "بقَدْر مَا مَجَّدَتْ نَفْسَهَا وَتَنَعَّمَتْ، بقَدْر ذَلكَ أَعْطُوهَا عَذَاباً وَحُزْناً. لأَنَّهَا تَقُولُ في قَلْبهَا: أَنَا جَالسَةٌ مَلكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حُزْناً. منْ أَجْل ذَلكَ في يَوْمٍ وَاحدٍ سَتَأْتي ضَرَبَاتُهَا: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحْتَرقُ بالنَّار، لأَنَّ الرَّبَّ الإلَهَ الَّذي يَدينُهَا قَويٌّ". مبدأ الإدانة الجزائية نراه تالياً في الجزء الأول من الآية ٧، ليس فيما يتعلق بما فعلته بابل (الآية ٦)، بل بسبب ماهيتها بحد ذاتها. أما وقد خُفضت من مكانتها العالمية على يد ملوك العالم الروماني فإنها تبقى محافظة على تكبرها. روحها المعنوية تبقى عالية. وخيلائها مؤكد رغم حقيقة أنها تجلس في تراب أو رماد بهائها السابق وأن نهايتها هي قريبة. ملوك الأرض يبكون وينوحون عليها، ولكنهم لا يستطيعون مساعدتها. تبجحها في داخلها لا يزال؛ وتقول في قلبها: "أَنَا جَالسَةٌ مَلكَةً". انهيارها العلني قد حدث للتو، ومن هنا فإن تأكيد حالتها الملكية سيكون لا معنى له إن قالت "لَسْتُ أَرْمَلَةً". هل تتوقع أن ثرواتها ستُسترد؟ وأنها ستقوم من جديد وترتقي العرش؟ "لَنْ أَرَى حُزْناً"، وهذا بينما السحب تصبح أخفض والإشارات الوشيكة تنذر بدينونتها الفورية والأخيرة على يد الله. الدمار الكامل هو المغزى من وراء الكلمات التي تقول: "تَحْتَرقُ بالنَّار". هذا يتجاوز المشهد التاريخي في الأصحاح ١٧: ١٦. فالنار هنا تجلب النهاية الجميلة لبابل. الله القدير هو ديان بابل ٥.

الحزن على بابل:

٩، ١٠- الندب والنحيب على بابل تقوم به كل الفئات، لأن الجميع تأثروا بذلك. المعنى العام لكل المقطع بسيط جداً لدرجة أنه لا حاجة من تفسير تفصيلي. المواد في التجارة المحددة والتي تتاجر بها بابل يبلغ عددها ٢٨ مادة. أول واحدة منها أو في القائمة هي الذهب، والأخيرة هي الأرواح. دمار بابل سيؤثر بشكل خطير على كل التجارة والحياة الاجتماعية في العالم وعلى هذا الأساس سيحزن على دينونتها أولئك الذين تشاركوا في ثروتها واستفادوا من التعامل معها.

٩، ١٠- "مُلُوكُ الأَرْض" يقودون النحيب العام. لقد كانت تربطهم بها علاقة حميمة، ولذلك فإنهم يشعرون بخسارتها أكثر من غيرهم. هؤلاء الملوك، أو الرؤساء، لا ينبغي الخلط بينهم وبين الملوك العشرة الذي يكرهون المرأة. النحيب السابق عليها، ولا يمنع سقوطها، بينما الأخيرون هم المحركون الرئيسيون في انهيارها السياسي (١٧: ١٦). ملوك الأرض أو، بكلمات أخرى، القادة المميزون في العالم المسيح، وبمعزل عن الملوك العشر في الإمبراطورية الرومانية، هم في حالة خوف. إذ يقفون بعيدين يشهدون على الاحتراق الفظيع لذلك النظام المقتدر من الشر الذين كانوا متطابقون معه للغاية، والذي فيه عاشوا وقصفوا وتمتعوا بالترف والرفاهية. إنهم يرتجفون ويخافون من فظاعة وفجائية الدينونة، "لأَنَّهُ في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُك".

١١- ١٣- "تُجَّارُ الأَرْض". الحزن على بابل، ليس بسبب محبتهم لهذا النظام بل ببساطة لأن تجارتهم وثروتهم قد انهارت. بابل، وإضافة إلى طابعها الديني، تُرى هنا على أنها مركز الاهتمامات التجارية الواسعة. طابع التنوع في التجارة- والذي يتعامل مع منتجات كل البلدان- يظهر تأثير بابل الواسع الأرجاء، وكيف تجتذب ثروات العالم إلى نفسها مركزياً. فكروا في هذا الاتحاد العملاق بين التجارة الدينية والمدنية، من بين البضائع الأخرى، والمتاجرة بأجساد وأرواح البشر (الآية ١٣)- والتي تُذكر في نهاية القائمة. في تعداد أنواع التجارة التي تتعاطى بها بابل نجد أنها مجرد مستودع للعالم أو سوق تجاري عالمي يحوي كل ما هو منحط وقليل القيمة. هناك سبعة أقسام يتم تصنيف البضائع المتنوعة إليها: (١) بَضَائعَ منَ الذَّهَب وَالْفضَّة وَالْحَجَر الْكَريم وَاللُّؤْلُؤ. (٢) ثياب فاخرة كَالْبَزّ وَالأُرْجُوان وَالْحَرير وَالْقرْمز. (٣) أثاث فخم، مثل كُلَّ عُودٍ ثينيٍّ وَكُلَّ إنَاءٍ منَ الْعَاج وَكُلَّ إنَاءٍ منْ أَثْمَن الْخَشَب وَالنُّحَاس وَالْحَديد وَالْمَرْمَر. (٤) عطور باهظة الثمن: "قرْفَةً وَبَخُوراً وَطيباً وَلُبَاناً". (٥) مواد غذائية وافرة: "خَمْراً وَزَيْتاً وَسَميذاً وَحنْطَةً وَبَهَائمَ وَغَنَماً". (٦) مستلزمات مواكب النصر الفاخرة: "خَيْلاً، وَمَرْكَبَاتٍ". (٧) وسائل نقل عادية: "أَجْسَاداً، وَنُفُوسَ النَّاس".

تفجع التجار يقاطعه حادثة تُروى في الآية ١٤، ولحن الحزن والنواح يُستأنف في الآية ١٥. الدمار الكامل لتجارة بابل، التي كانت تقيد ملكها وفلاحيها بأنانية، تتركها كحطام السفينة. كل موردها تتلاشى؛ لقد سُلبت كلياً من كل وسائلها السابقة في الانغماس الذاتي؛ مصادر مسرتها جفّت؛ وفي الواقع كل ما كان يخدم كبريائها، وكل شيء أساسي لوجودها، يتلاشى بضربة غير متوقعة ومفاجئة من يد الله. ونجد الصوت يخاطبها مباشرة من السماء (الآية ١٤).

١٥- ١٧- ثم يُستأنف اللحن، ولكن على نطاق أوسع. التجار عموماً، وهؤلاء هم "الَّذينَ اسْتَغْنُوا منْهَا"، يلجأون إلى الندب الذي تعبر عنه كلمات مشابهة لتلك التي يقولها الملوك (الآية ١٠). ولكن هناك فارق وحيد، يمكن ملاحظته. الملوك في نحيبهم يقولون: "في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ"، بينما التجار يقولون: "في سَاعَةٍ وَاحدَةٍ خَربَ غنىً". بجمع العبارتين معاً نستنتج أن دينونة بابل تشتمل على دمار ازدهارها المؤقت وأيضاً أن ضربة انتقام يد القدير مفاجئة وغير متوقعة.

١٧- ١٩- كُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الْجَمَاعَة في السُّفُن، وَالْمَلاَّحُونَ وَجَميعُ عُمَّال الْبَحْر. يعانون على حد سواء مع أولئك الذين سبق وذُكرت أسماؤهم. يتم تذكر عظمة وغنى بابل القديمة وتُندب من خلال اللحن الحزين الصادر عن البحر (انظر حزقيال ٢٧).

دينونة بابل تشمل أيضاً الملوك والتجار وعما البحر ومختلف الطبقات الذين اغتنوا من خلال تواصلهم معها. ويخافون من عذابها.

السماء تبتهج:

٢٠- سمعنا الصوت من السماء أولاً في الآية ٤، وأخيراً في الآية ٢٠. وفي هذه الأخيرة تُدعى السماء لتبتهج. إن كان هناك ندب ونحيب على الأرض فهناك ابتهاج في السماء. المكان والسكان يتحدان في نشيد انتصار. هناك ثلاث فئات: القديسون، والرسل، والأنبياء (الآية ٢٠). القديسون هو تعبير عام ويشتمل على المؤمنين في كلا العهدين القديم والجديد؛ والرسل هم الذين كانوا في العصر المسيحي (أف ٤: ١١)، وأيضاً "الاثني عشر"؛ والأنبياء هم أنبياء العهد القديم. الثلاثة جميعاً هم في السماء، وهناك يبتهجون. "الرَّبَّ قَدْ دَانَهَا دَيْنُونَتَكُمْ". أي أن دينونة عادلة وقعت على بابل على يد القديسين والرسل والأنبياء- لأن الجميع عانوا على يديها- والآن يُنفذها الله بنفسه.

الدمار الكامل وخراب بابل الأبدي:

٢١- ٢٤- "وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحدٌ قَويٌّ حَجَراً كَرَحىً عَظيمَةً، وَرَمَاهُ في الْبَحْر قَائلاً: «هَكَذَا بدَفْعٍ سَتُرْمَى بَابلُ الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ في مَا بَعْدُ»". العمل ذو مغزى وهام ونبوي، وكذلك مهيب. هناك وصف درامي قديم مشابه يشير إلى انهيار بابل القديمة نجده في إرميا ٥١: ٦٠- ٦٤؛ هناك سَرَايَا كان الفاعل؛ وهنا ملاك مقتدر. المدينتان الحرفية والسرية كلتاهما كان يجب أن تُدمرا بشكل كامل ومفاجئ وبعنف. الأصحاحان، إرميا ٥١ ورؤيا ١٨، يجب دراستهما بتأنٍ ومقارنتهما معاً. ثم يأتي في الآيات ٢٢ و٢٣ وصف جميل ومؤثر يتم التعبير عنه بطريقة شعرية ٦، عن خرابها الكلي. يا له من دمار كامل. بابل الحزينة الكئيبة الصامتة تقف خارج الضريح الذي يُمثل انتقام الله الكامل. لقد كان الشر متوجاً وسط أولئك الذين يعترفون بأنهم يحملون اسم المسيح؛ ولكن أخيراً، وعندما ملأت كأس إثمها بالكامل، يقف الله بغضبه الشديد، وسخطه المتقد، فتسقط بابل دون أن تعود لها قائمة من بعد. دمارها أمر لا سبيل إلى تفاديه. وينتهي الأصحاح بتكرار الطابع الدموي للنظام (انظر ١٧: ٦؛ ١٨: ٢٤).


١. - أخذ نبوخذنصر تعيينه كرئيس عن العالم بالسلطة المدنية مباشرة من الله (دا ٢: ٣٧، ٣٨)، والسلطات المتعاقبة توالت إلى المشهد بعناية الله، ولكن في حالتهم لم يُمنحوا قوة أو سلطة مباشرة. في الأيام الأخيرة من الإمبراطورية الرابعة يمنح الشيطان سلطته وقوته (رؤيا ١٣: ٢). يا له من تضاد بين الإمبراطوريتين- الأولى والرابعة. الله أسس الأولى والشيطان يؤسس الرابعة.

٢. - قارن مع إرميا ٥١: ٦؛ أش ٤٨: ٢٠.

٣. - هذه الويلات هي الموت، والنحيب، والمجاعة (الآية ٨).

٤. - انظر عزرا ٩: ٦؛ وأيضاً إر ٥١: ٩؛ هناك بابل الحرفية؛ وهنا بابل السرية، والتي هي نسخة مطابقة للأخرى.

٥. - نقتبس من أحدهم القول: "روما تعني القوي. ولكن قوتها فارغة. قوي هو الرب الذي يدينها".

٦. - قارن مع إرميا ٢٥: ١٠.

الأصحاح ١٩

عُرْسَ الْحمل ودينونة الأمم المتمردة

السموات تبتهج بدينونة بابل:

١- ٤- "وَبَعْدَ هَذَا سَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً منْ جَمْعٍ كَثيرٍ في السَّمَاء قَائلاً: «هَلّلُويَا! الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ للرَّبّ إلَهنَا، لأَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادلَةٌ، إذْ قَدْ دَانَ الزَّانيَةَ الْعَظيمَةَ الَّتي أَفْسَدَت الأَرْضَ بزنَاهَا، وَانْتَقَمَ لدَم عَبيده منْ يَدهَا». وَقَالُوا ثَانيَةً: «هَلّلُويَا! وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَخَرَّ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ، وَسَجَدُوا للَّه الْجَالس عَلَى الْعَرْش قَائلينَ: «آمينَ. هَلّلُويَا»". "بَعْدَ هَذَا". رأينا الرؤيتين المنفصلتين عن بابل حيث تنكشف لنا طابعها وإثمها وعلاقاتها مع الإمبراطورية والعالم المسيحي، ودينونتها الفظيعة التي تقع عليها. الأصحاحين ١٧ و١٨ يسجل كل منهما رؤية متمايزة، تقدم لنا حقاً تفاصيل المكان التاريخي الذي كانت بابل تحتله في الأصحاحات ١٤: ٨؛ ١٦: ٩. في الرؤيا كل شيء يقدم إلى فكر الرائي. المشاهد تتبدل وتتغير، وتمر بتعاقب أمام عيني فكره. ليس هناك ماض ولا مستقبل، بل كل شيء في الحاضر. ولكن هناك نصوص كتابية أخرى تمكننا من أن نوزع الرؤى المتنوعة وأجزائها المنفصلة إضافة إلى التسلسل الزمني في التاريخ أو النبوءة في كل حالة.

من الواضح أنه مع بقاء بابل غير مدانة لا يمكن للعروس الحقيقية أن تحضر وتظهر بجمالها وأردية تتويجها. إنها محتجبة في السماء إلى أن يتم تدمير مغتصب العرش على الأرض ويُزال من الوجود. الزانية والعروس لا يمكن أن يوجدا بوقت واحد. "بَعْدَ هَذَا"، صيغة رؤيوية (٤: ١؛ ١٨: ١)، تشير إلى السقوط (الأصحاح ١٧) والدمار الكامل لبابل (الأصحاح ١٨). الحادث نفسه يُرى بشكل مختلف في السماء وعلى الأرض. على الأرض يُسمع لحن الآلام الحزين. في السماء نسمع أنشودة نصر وتسبيح. ما يؤدي إلى النحيب العام والندب على الأرض يستدعي الابتهاج الكامل في السماء. صرخة الانتصار تتبع فوراً دمار بابل. وجودها على الأرض كان قد تبين أنه العائق الرئيسي أمام إظهار مجد الله، إضافة إلى أنه كان يشكل إساءة إلى السماء. وأما الآن، ومع تمايز بابل قد صار هناك متسع من المكان، وصار الطريق مفتوحاً للرب الإله ليعترف به الجميع أمام عرشه، وليأخذ الخروف عروسه- وهذان موضوعا التسبيح العظيمين.

١- الدعوة إلى الابتهاج (١٨: ٢٠) ينادي بها هنا الجند السماوي. "سَمعْتُ صَوْتاً عَظيماً". من هم هؤلاء الجمع الكثير الذين يعلنون بفرح وبصوت عالٍ انتصار الله بعد إدانته بابل؟ نقرأ عن مجموعة أممية أخرى تُدعى "جَمْع كَثير" في ٧: ٩، ولكن كما رأينا، هؤلاء على الأرض، بينما الجماعة التي أمامنا هي في السماء. ولا يمكن أن يكون هذا الـ "جَمْع الكَثير" في نصنا هم الملائكة، بل مع الشيوخ الأربع والعشرين، الممثلين السريين للمفديين المنتقلين لدى مجيء المسيح في الهواء (١ تسا ٤: ١٧). الجماعات المستشهدة المتنوعة، أي أولئك الذين في الأزمة الآتية، يُرون متمايزين عن الشيوخ. ومن هنا، فإننا نستنتج أن الـ "جَمْع الكَثير" هم جميع القديسين الذين يكونون آنذاك في السماء.

١- "هَلّلُويَا"، هذا ما يقولون. هذه الكلمة العبرية الجميلة ترد ٤ مرات في احتفالات التسبيح هذه (الآيات ١، ٣، ٤، ٦)، ولكن لا تأتي في أي مكان آخر من العهد الجديد. غنها كلمة ترد مراراً وتكراراً في سفر المزامير. إنها بداية وخاتمة كل مزمور من المزامير الخمس الأخيرة- المزامير التي تشكل ككل وفي طابعها الموحد تعبيراً عن التسبيح الألفي لإسرائيل. الهللويا تعني: "سبحوا الرب، أو هللوا لله".

١- "الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ للرَّبّ إلَهنَا" . أداة التعريف قبل كل اسم من هذه الأسماء الثلاثة يدلنا على أن هذا له تطبيق ومعنى خاص. أولى المفردات يدل على الانعتاق، والثانية على مجد الله المعنوي في الدينونة، والثالثة على اقتداره الذي يتبدى في تنفيذ الدينونة على الزانية. التسبيح هو لـ "للرَّبّ إلَهنَا". الملائكة في مكانهم وحالتهم يقولون: "إلَهنَا" (٧: ١٢). ولكن هنا، إنها لغة جماعة مفدية وسماوية، وليست كلمات ملائكة.

٢- أساس انتصارهم يبرز بعد ذلك، فالسبب هو "أَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادلَةٌ". في ١٥: ٣ يغني عازفو القيثارة على بحر الزجاج قائلين: "عَادلَةٌ وَحَقٌّ هيَ طُرُقُكَ"؛ بينما في ١٦: ٧ يخرج الصوت من المذبح قائلاً: "حَقٌّ وَعَادلَةٌ هيَ أَحْكَامُكَ". في الأولى الحديث هو عن طرق الله؛ وفي الأخيرة، كما في نصنا، الحديث هو عن دينونة الله على أعدائه. إنها حقيقة أساسية في الكتاب المقدس، ويجب الحفاظ عليها بشدة، وهي أن تعاملات الله جميعها مع خلائقه، سواء كانوا في نعمة أم في دينونة، تتميز بالحق والعدل. والآن هذه المواصفات الأساسية الجوهرية في الكينونة الإلهية قد عُرضت من خلال إدانة "الزَّانيَةَ الْعَظيمَةَ"، والتي تُذكر خطيئتاها العظيمتان من جديد ولآخر مرة في أنها "الَّتي أَفْسَدَت الأَرْضَ بزنَاهَا"، أي أفسدت أخلاقياً ودمرت العالم برمته، حيث كان الحق معروفاً والله معبوداً، "انْتَقَمَ لدَم عَبيده منْ يَدهَا". صرخة جماعة الشهداء، منذ هابيل وحتى النهاية، تنادي بالدينونة ويُسمع صوتها، والله عادلة أحكامه فيصب سخطه على ذلك النظام من الزنى والدماء التي لطالما كانت لعنة على الأرض.

وللمرة الثانية، وبما يدل على عظمة الانتصار، يقولون: "هَلّلُويَا". أو مسبح أنت يا رب. "وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إلَى أَبَد الآبدينَ. كرمز مذهل ومؤثر يدل على نهائية وأبدية الدينونة التي ينفذها الله. مصير بابل السرية المشؤوم هو شاهد أبدي على الدينونة العادلة لله (قارن مع أش ٣٤: ١٠).

ولكن حجم التسبيح يدوي صداه في أرجاء قبة السماء. الشيوخ، الممثلين عن القديسين المفديين والمتوجين، والمخلوقات الحية رموز حكم الله في الخلق، "خرُّوا وسجدوا لله". يا لها من عبادة مستحقة راسخة! وكم هي ملائمة للحدث! فالله، وليس المسيح، هو موضوع هذه العبادة. الله هو الذي أدان بابل، ودمن هنا فهو الذي يستحق العبادة والسجود. إضافة على ذلك، لن يأخذ المسيح حتى ذلك الوقت حكم الأرض، الله هو ديان بابل. المسيح هو ديان الوحش؛ وهذه الدينونة هي حدث سيلي ذاك السابق، وهو أول عمل علني سيقوم به المسيح القادم (الآيات ١١- ٢١). الشيوخ والأحياء يقولون: "آمينَ. هَلّلُويَا". يضعون إقرارهم بحقيقة ما أعلن، وهم أنفسهم ينضمون على موكب النصر ويبتهجون به مع الجميع في السماء، هذا النصر الذي معه جاء الهلاك الأبدي للزانية. في ٥: ٨ يأخذ الأحياء الأسبقية على الشيوخ؛ هنا الشيوخ يُذكرون أولاً إذ يكونون مرتبطين بشكل مباشر أكثر في دينونة الزانية.

العرش يتكلم:

٥- "وَخَرَجَ منَ الْعَرْش صَوْتٌ قَائلاً: «سَبّحُوا لإلَهنَا يَا جَميعَ عَبيده، الْخَائفيه، الصّغَار وَالْكبَار»". في رؤيا سابقة رأينا صرخة المذبح (١٦: ٧)؛ وهنا العرش نفسه يتكلم. في بعض المشاهد الماضية، حيث جسد القديسين والشهود والمتألمين كانت أمامنا، كان المذبح يأتي إلى الظهور، ولكن ها هنا دينونة مباشرة على الشر في الأرض، لأن الله على عرشه، كما أن المسيح على وشك أن يجلس على عرشه أيضاً. العرش نفسه يتكلم (رمزياً بالطبع)؛ وهكذا فمن مركز ومصدر الحكم- ورعب الأشرار، وفرح القديسين- تصدر صرخته ينادي بأن يُسبحوا الله. كل من يخدم الله وكل من يخافه، صغاراً وكباراً، مدعوون للانضمام إلى النشيد البهج، والذي يشكل ارتياحاً وعزاءً بعد الصورة القاتمة التي تمثل الأرض. ها هنا التسميات واسعة بشكل يدل على اشتمال كل من في السماء- الملائكة، والخدام، وكل مفديين. ليست دعوة إلى الجماعة غير المستعدة. الجميع مستعدون، ولكن ها هنا سبب جديد للفرح، أساس جديد للتسبيح. فعُرْسَ الْحمل على وشك أن يُعلن.

عُرْسَ الْحمل:

٦- ١٠- "وَسَمعْتُ كَصَوْت جَمْعٍ كَثيرٍ، وَكَصَوْت ميَاهٍ كَثيرَةٍ، وَكَصَوْت رُعُودٍ شَديدَةٍ قَائلَةً: «هَلّلُويَا! فَإنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ. لنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطه الْمَجْدَ، لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا. وَأُعْطيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزّاً نَقيّاً بَهيّاً، لأَنَّ الْبَزَّ هُوَ تَبَرُّرَاتُ الْقدّيسينَ». وَقَالَ ليَ: «اكْتُبْ: طُوبَى للْمَدْعُوّينَ إلَى عَشَاء عُرْس الْحَمَل». وَقَالَ: «هَذه هيَ أَقْوَالُ الله الصَّادقَةُ». فَخَرَرْتُ أَمَامَ رجْلَيْه لأَسْجُدَ لَهُ، فَقَالَ ليَ: «انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! أَنَا عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إخْوَتكَ الَّذينَ عنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ. اسْجُدْ للَّه. فَإنَّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هيَ رُوحُ النُّبُوَّة»". هذا المقطع هام جداً. وفيه موضوعان رئيسيان: الله بجلاء يستلم زمام سلطته الملكية، والحمل يأخذ عروسه- كنيسة العهد الجديد. لم تأت الساعة بعد لنصل إلى الرب يسوع المسيح، الذي لم يتألم أحد مثله، ليرتقي عرشه. بل الجميع يستعدون لذلك الحدث العظيم. يا لها من لحظة مباركة ستئن إليها الخليقة وتنتظر، والتي ترجوها الكنيسة وتصلي لأجلها، والتي يتوق إليها أسباط إسرائيل القلقين المتعبين بترقب ولهفة! الناصري هو الملك الممسوح من الله. ولكن لابد من أن يحدث حدثان بالضرورة قبل أن يشغل المسيح عرش العالم: بابل يجب أن تُدان على الأرض، وعرس الخروف يُحتفل به في السماء. لقد رأينا الأولى؛ والآن نحن على وشك أن نشهد الأخرى.

الهَلّلُويَا العظيمة:

نداء العرش (الآية ٥) يلاقيه تجاوب فوري وعظيم. التسبيح عالٍ، وعميق، وممتلئ، ويتميز بالقوة والجلال والعظيمة. "الجَمْع الكَثير" (الآية ٦) هنا يشمل على الأرجح كل المفديين في السماء، ما عدا العروس. إن كانت هذه كذلك، كما نفهم من دراسة متأنية بكل مقطع، فإن "الجَمْع الكَثير" سيكون جماعة أكبر وأشمل من تلك المذكورة في الآية ١. في المقطع السابق (الآية ١) "الجَمْع الكَثير" لا يتميز عن الشيوخ، ممثلي المفديين في الأزمنة الماضية الحاضرة؛ بينما في الأخيرة (الآية ٦) "الجَمْع الكَثير" هو كشكل واحد جماعة مستقلة عن العروس (الآية ٧). الصوت الذي يسمعه الرائي يشبه صوت "ميَاهٍ كَثيرَةٍ" و"رُعُودٍ شَديدَةٍ"، أي الجلال والقوة مجتمعان . أما وقد سمعنا الدعوات من العرش، تبدأ الجوقة العظيمة بأداء اللحن بصوت من الجلالة والقوة، وليس أصوات، لأن فكر السماء واحد. إننا نسمع الآن ما يقع على نفس الرائي المفعمة بالابتهاج؛ إنهم ينشدون الهللويا الأخيرة. ليس المسيح هو موضوع التسبيح الآن، بل الله على العرش في عمل مقدس وعادل. الألقاب التي يعبدونه فيها تجمع تجليات الله المتنوعة لشعب العهد القديم. وبشكل منفصل يمثلون علاقات وأمجاداً متميزة؛ عندما يجتمعون يشكلون درجاً من القوة؛ عندما يُرون متحدين فيه فإن الفخامة والعظمة بالإجمال تفوق الوصف ويعجز اللسان عن التكلم عنه. لقد تحدثنا للتو عن معنى وقوة هذه الألقاب المتنوعة في قسم سابق من تفسيرنا لهذا السفر.

نستنتج أن هذه هي اللحظة التي تم توقع حدوثها في ١١: ١٥. ها قد أتى الملكوت وتم تسلم السلطة الملكية. هذا أول موضوع تسبيح عظيم من قِبل الجند السماوي. يا له من ارتياح للخليقة، التي كانت مثقلة بستة آلاف سنة من الخطيئة والألم! ولكن قبل إعلان الموضوع الثاني، دعوة المفديين إلى العبادة، نقرأ "لنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطه الْمَجْدَ".

في إعلان الله على عرشه كرب وقدير الكيان كله يسجد أمامه. الروح تخشى، ولكن ليس في خوف، بل في إيمان عميق وراسخ وأكيد بأنه حق وأمر ملائم خلال تأملنا به في عظمة كينونته.

ولكن في الموضوع الذي أمامنا نجد المشاعر قد تأثرت بعمق والقلب تحرك بكل خلجاته. ومن هنا الدعوة التمهيدية للابتهاج وإعطاء المجد لله لأن "عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا".

العرس:

٧- هذا الحدث الهام والعظيم هو ذروة الفرح للمسيح كإنسان. ليس الحديث عن عرس العروس بل عن عرس الخروف. الحديث هو بشكل خاص عن سعادته هو وليس سعادتنا. العرس، الذي لا تُذكر تفاصيله، يجري في السماء، وفي ليلة عودة الرب بقوة، أو ظهوره، بعد بضعة سنوات على الأقل التي تلي الاختطاف (١ تسا ٤؛ يو ١٤: ٣). العرس هو السر المكشوف في أفسس ٥: ٣٢. والعروس هي الكنيسة وليس إسرائيل ولا البقية التائبة منهم. إسرائيل كان في الأرض عروس الرب (إرميا ٣: ١٤- ٢٠؛ أشعياء ٥٤: ١)، ولكن تطلقت بسبب إثمها. ولذلك فإن على إسرائيل أن يرجع إلى رضى الرب. ولكن العروس المطلقة لا يمكن أن تكون عذراء من جديد، والتي يقترن بها الرب هي عذراء وليس عروس مطلقة (لاويين ٢١: ١٤؛ قارن الآية ١٣ بالآية في ٢ كور ١١: ٢). إضافة إلى ذلك، إن إسرائيل قد نال بركة على الأرض؛ أما زفاف الخروف فيكون في السماء، وهي المكان الملائم للكنيسة. الطابع السماوي الحصري للمشهد يمنع احتمال انطباق ذلك على إسرائيل.

مما تتشكل العروس؟ نجيب بلا تردد بأنها مؤلفة من جميع القديسين الذين يشتمل عليهم هذان العهدان، أي العنصرة (أع ٢)، والانتقال (١ تسا ٤: ١٧). هذان الحادثان يميزان بدء ونهاية الإقامة المؤقتة للكنيسة على الأرض.

الشيوخ الأربع والعشرون، الممثلون السريون عن المفديين الذين يُشاهدون في السماء حالاً بعد الانتقال (الأصحاح ٤)، يُذكرون لآخر مرة في الآية ٤ من أصحاحنا. نستنتج أنه آن الأوان الآن لرؤية الكنيسة، جسد المسيح، بشكل واضح متمايز لأول مرة.

ينقسم الشيوخ وتأخذ العروس والمدعوون مكانهم في الجماعة في السماء. حتى الآن كان لديهم مكان واحد. هناك بركات خاصة للقديسين في هذا الدهر التدبيري (مت ١١: ١١؛ عب ١١: ٤٠)، وهناك بركات أخرى عامة لكل المؤمنين. والآن مسار الرؤى الرؤيوية (٤- ١٩: ٤) وليس من فوارق أو تمايزات من أي نوع بين الشيوخ. التعبير" شيوخ" يختفي عندما تأخذ الجماعات المتنوعة من القديسين مكانها المخصص في علاقتها مع الخروف. الكنيسة هي العروس. الكنيسة باقية خالدة لأنها مؤسسة على مجد ووقار المسيح ابن الله (مت ١٦: ١٨). وجسده أيضاً هو الأقرب له (أف ١: ٢٣)، كما أن العروس هي أعز شيء على قلبه وعينيه. لقد أحب الكنيسة بمحبة لا تتبدل ولا تتغير وحتى الموت لا يقهرها، محبة فعالة على الدوام لا تعرف توقفاً، على أن يقدمها لنفسه في المجد (أف ٥: ٢٥- ٢٧). لقد قاومت الكنيسة عواصف عديدة، وكانت تتوق إلى عريسها السماوي سواء كان الجو عاصفاً أم صحواً، وكانت في علاقة مع الروح القدس على الأرض وغالباً ما كانت تصرخ إليه، وهو كوكب الصبح المنير أن "تعال" (رؤيا ٢٢: ١٦، ١٧). ونحن الذين كانت لنا مكانة في بيت الآب، بحسب يوحنا ١٤: ٣، على وشك أن نظهر في الملكوت كعروس وامرأة الخروف. يا لها من لحظة سعيدة! مجده وسروه يفوق الوصف . زيت السعادة ينسكب على رأسه أكثر مما على رأسنا (عب ١: ٩). ومكانتنا أو بركتنا وسعادتنا كامنة في سعادته. "عُرْسَ الْخَرُوف قَدْ جَاءَ". وعندها ذاك الذي مات سيرى نتيجة عذاب نفسه ويرضى.

امرأة الخروف تهيء نفسها:

٧- "امْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". في هذا السياق، لا تكون كلمة "عروس" مناسبة. هناك نوعان من الملاءمة، والكنيسة هي موضوع كليهما. أولاً، الله في ممارسته لنعمته المطلقة يجعل المرء مؤهلاً للمجد الإلهي، كما نقرأ: "شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ" (كولوسي ١: ١٢). وثانياً، على المؤمنين أن يهيئوا أنفسهم قبل أن يدخلوا إلى مجدهم الأبدي. فقصة الأرض يجب أن تجري من جديد في حضور ذاك الذي هو نور. حياتنا يجب مراجعتها في مقدس المسيح (٢ كور ٥: ١٠). نور العرش سيلقي على كل دقائق حياتنا، فيكشف ما خفي منها ويظهر حقيقة التصرف والكلام والخدمة. ألغاز الحياة سوف تُشرح، والمشاكل العالقة تُحل، والأخطاء وسوء الفهم يُصحح. ها، وغيره، هو من نتاج وضع كرسي دينونة المسيح إلى القديسين السماويين، وسيسبق العرس. "امْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". نور العرش قد قام بعمله المبارك، ويجلب التاريخ بمجمله إلى انفراجه النهائي على الأرض. ما الذي سيكون عليه الحال إن تذكرنا ونحن في المجد حادثة ما كانت مؤلمة وشعرنا أنا لم تتم تسويتها؟ سوف لن نستطيع أن نتساهل مع المسألة. ولكن كل شيء سيظهر عند كرسي الدينونة كمسألة بين كل قديس والله. لن يكون هناك كشف علني لشيء أمام الآخرين. ولن يُفهم من هذا أنه يدل على دينونة جزائية. فكل شيء قد تمت تسويته على الصليب. سنظهر أمام مقدس المسيح متوجين وممجدين، "نُقَامُ فِي مَجْدٍ" (١ كور ١٥: ٤٣)، ليشرق نور العرش على الماضي. ويا لرحمة الله العظيمة. فعندها سنمر من المقدس بنوره الساطع إلى الحضور المحبوب للخروف كعروس وامرأة له إلى الأبد.

ثياب العرس:

٨- "وَأُعْطيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزّاً نَقيّاً بَهيّاً، لأَنَّ الْبَزَّ هُوَ تَبَرُّرَاتُ الْقدّيسينَ". لقد أُلبست الزانية ثياباً جميلة، ولكن الأُبهة والروعة والحلي ادعت أنها حق لها. أما مع العروس فالأمر مختلف؛ لقد أُلبست بفعل النعمة. "أُعْطيَتْ". لا شك أن هناك مكافآت للخدمة التي تُقدم، كما يقول متى ٢٥: ١٤- ٢٣ بشكل واضح. "اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ" (عبرانيين ٦: ١٠). ولكن وإن نسينا نحن فإنه هو لا ينسى.

هناك جانب آخر من هذه المسألة يجب أن نضعها دائماً في أذهاننا، أعني جلال الله. إن له الحق في أن يعطي أو أن يسحب أو أن يأخذ. كثيرون من خدام الله البارزين حولوا الحياة الحقيقية والخدمة الصالحة إلى حطام لتجاهلهم الحقيقة العظيمة التي تحفظ التوازن- وهي أن الله سيد مطلق. مثل الوزنات في متى ٢٥ يرينا نعمة الله في المكافآت؛ بينما مثل رب البيت في الأصحاح ٢٠ من نفس الإنجيل هو إظهار لجلال وسيادة الله في إعطائه الجميع على حد سواء بصرف النظر عن كدحهم أو طول فترة خدمتهم.

رداء الكتان النقي الذي يرتديه ملائكة الجامات (١٥: ٦) تعبر عن طابع البر في مهمتهم، والتي هي من الدينونة . الكتان الناعم، النقي اللماع، للعروس هو برها، أو "أعمال البر" التي قامت بها على الأرض ولكنها لا تدعي أي أهلية أو استقطاب، لأن أعمال البر هذه قد ترتبت بروح قدس الله فيها. فيما بعد نجد العروس مغطاة بمجد الله (٢١: ١١)؛ هنا برها الذاتي، ليس بر الله، هو موضوع الحديث. الألوان المبهرجة التي ترتديها الزانية تمثل تناقضاً حاداً مع الكتان النقي، الأبيض، واللماع الذي للعروس. ثيابها تدل على شخصيتها العملية. يمكنها أن تدخل الآن إلى فرح الرفقة الأبدية والاتحاد مع أقرب طبيعة (تلك التي للزوجة) مع زوجها، الخروف. أعمالها على الأرض تُثمن بقيمتها الحقيقية في السماء. إنها متدثرة بها، أو كما يقول نصنا: "هَيَّأَتْ نَفْسَهَا". فتنتقل من المقدس إلى العرس، ومن هناك إلى الملكوت.

المدعوون إلى عشاء العرس:

٩- "«اكْتُبْ: طُوبَى للْمَدْعُوّينَ إلَى عَشَاء عُرْس الْحَمَل»". العروس والمدعوون متمايزون بشكل واصح. العروس لها علاقة مباشرة أكثر مع الخروف. العروس تتزوج من العريس، بينما المدعوون يتناولون طعام العشاء وحسب.

الملاك مخاطباً الرائي، يقول: "اكتب". وهذا الأمر يتكرر كثيراً خلال سير أحداث الرؤى، مظهراً أهمية وخصوصية الشركة. "طُوبَى" لأولئك الذين يُدعون إلى وليمة العشاء. هذا لا يُقال عن العروس. بركتها، والتي هي من أعلى طبقة وطابع، يتم التعبير عنها بكلمات بسيطة كعروس وامرأة. يا لها من فرحة لا توصف تأتينا من هذه الكلمات! ولكن المدعوين يُعلنون مطوبين. من هم هؤلاء؟ الجواب، إنهم أصدقاء العريس. وبما أنهم أصدقاء العريس، فإنهم يستمتعون بأعلى وأعز ميزة من ميزات البركة مما لو كانوا فقط أصدقاء العروس. يخبرنا يوحنا المعمدان بطريقة معبرة جداً عن أنه صديق العريس (يو ٣: ٢٩). لقد استُشهد المعمدان قبل تأسيس الكنيسة، ومن هنا فإنه يبدو وكأنه أكثر بركة وإكراماً من المدعوين إلى وليمة العرس. قديسو العهد القديم يشكلون جماعة كبيرة تدعى مدعوين، كل واحد منهم هو صديق للعريس، ويبتهج بحضوره وبسماع صوته. الشهداء في سفر الرؤيا لا يقومون إلا بعد العرس، ومن هنا لا يمكن عدهم من بين المدعوين. الملائكة يكونون مشاهدين للمشهد، أما الضيوف فليسوا كذلك. الملائكة لا يجري الحديث عنهم كما الحديث عن هؤلاء. وإن الوليمة تُدعى عشاء، ولعلها في تضاد مع عشاء الدينونة التالي (الآية ١٧). الأول مترابط مع الخروف وفرحته؛ أما الأخير فهو مرتبط مع الله والدينونة التي سيُنزلها على غير الأتقياء عن طريق الخروف وقديسيه السماويين.

اليقين:

٩- هذه المكاشفات الإلهية، سواء نطق بها الملاك أو رآها يوحنا بالرؤيا، قد أُضيف  إليها كل ثقل وسلطان الله نفسه. "هَذه هيَ أَقْوَالُ الله الصَّادقَةُ". أساس إيماننا هو ليس التحزير، بل اليقين بأن الله قد قال ذلك. فالحقائق التي يصادق عليها الله هكذا هي تلك التي نجدها في الآيات التسعة الأولى من الأصحاح. اليقين المطلق له أهمية بالغة وأساسية في هذه الأيام حيث يتذوق الكثيرون وجهات النظر المتعلقة بالإيمان بالإعلان الإلهي بروح ضيقة متعصبة. في الماضي تكلم الله بالأنبياء؛ وفي العهد الجديد تكلم الله بابنه (عب ١: ١، ٢). ولذلك فكم هو مبارك هذا التأكيد على هذه الحقائق العظيمة والمفرحة للقلب من الله نفسه!

العبيد مع الملائكة والقديسين:

١٠- من الواضح أن الرائي قد تأثر جداً بهذه الطبيعة السامية للمكاشفات المعطاة له؛ وعلى الأرجح أيضاً أن الملاك الذي ظهر له بالرؤيا كان موضوعاً مجيداً يثير الانذهال للعين الإنسانية. "فَخَرَرْتُ أَمَامَ رجْلَيْه لأَسْجُدَ لَهُ"، وليس "عند قدميه" كما يأتي في بعض الترجمات. إن الملائكة غيورين على مجد وحقوق الله. قد يُقدم الإجلال إلى مخلوق بمكانة عالية، ولكن العبارة أو السجود هي للخالق وحده. موقف يوحنا لا يلبث الملاك أن يطلب منه أن يراجعه. "انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ". فعبادة حتى أعلى مخلوقات الله مكانة هو صنمية. الملائكة والقديسون كلاهما يسجدون لله وللمسيح، كما يشهد هذا السفر بوفرة. بمناسبة ثانية وتالية (٢٢: ٨، ٩) كان يوحنا على وشك أن يفعل ذلك، ومن جديد منعه الملاك.

١٠- "أَنَا عَبْدٌ مَعَكَ" . الملاك والرسول كانا كلاهما خادمان، بل بالأحرى عبيد. وكما العبد مرتبط طوال حياته بخدمة سيده، كذلك فإن الملائكة والقديسين مقيدون بخدمة أبدية لله المبارك، وهؤلاء خدام مسرورون وراغبون بهذه العبودية. كل المخلوقات عقلة لها هذا الموقف. في حالة الملائكة أساس العبادة يرتكز على خلق الله لهم ومكانتهم؛ وفي حالة القديسين فالأساس هو أنهم اشتُريوا وافتُديوا (١ كور ٦: ١٩، ٢٠). بما أن المقطع توقف عند تصريح الملاك بأنه خادم وعبد، مع الرسول فهذا يفرض أن تكون أعلى سلطة في الكنيسة لها هذه النظرة. ولكن الملائكة الذين يُسرون بالخدمة هم أيضاً شركاء إخوة يوحنا في امتلاك أو الحفاظ على "شَهَادَة يَسُوع". شهادة يسوع في الرؤيا هي الطابع النبوي، في إشارة إلى تمتعه بالسلطة في الحكم المتبدية في الملكوت (انظر ١: ٢). هذا المقطع، والذي لا حاجة لأن يكون مربكاً للدارسين، إن قُرئ في ترابط مع ١٧، حيث تتردد نفس الكلمات، تختفي الصعوبة المرتبطة به. البقية التقية من يهوذا في الأزمة الآتية "عنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوعَ"، وبالطبع لن نخفق، نحن والرائي، في فهم طبيعة تلك الشهادة، النبوية في ظروفهم. إنهم يتوقون ويتطلعون ويُصلّون لكي يتدخل الله مباشرة وعلانية من أجلهم. حضور المسيا، وقدومه من أجل انعتاقهم، هو غاية رجائهم. الخطاب المباشر من الملاك إلى يوحنا ينتهي بالإعلان بالسلطان أن "اسْجُدْ للَّه"، هذه الحقبة الدائمة للسماء والأرض، للملائكة والبشر.

السماء مفتوحة:

(الآيات ١١- ٢١):

مدخل:

١١- ١٦- "ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالسُ عَلَيْه يُدْعَى أَميناً وَصَادقاً، وَبالْعَدْل يَحْكُمُ وَيُحَاربُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهيب نَارٍ، وَعَلَى رَأْسه تيجَانٌ كَثيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرفُهُ إلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبلٌ بثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلمَةَ الله». وَالأَجْنَادُ الَّذينَ في السَّمَاء كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بيضٍ، لاَبسينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقيّاً. وَمنْ فَمه يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لكَيْ يَضْربَ به الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْر سَخَط وَغَضَب الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبه وَعَلَى فَخْذه اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلكُ الْمُلُوك وَرَبُّ الأَرْبَاب»". الجزء المتبقي من الأصحاح الذي أعطيناه العنوان الرئيسي "السماء مفتوحة" ينقسم بشكل طبيعي إلى ثلاثة أقسام: (١) الملك المقتدر وجيوشه المنتصرة (الآيات ١١- ١٦)؛ (٢) الدعوة إلى الطيور الجارحة النهمة الجائعة لأن تقتات على المذبوحين، وأن تشارك في "عَشَاء الإلَه الْعَظيم" (الآيات ١٧، ١٨). (٣) الانهيار الكامل ودمار الجيش المقاوم، القادة الذين قُدر لهم أن يُلقوا أحياء إلى بحيرة النار مع ذبح أتباعهم (الآيات ١٩- ٢١).

المشهد الخاص أمامنا (الآيات ١١- ١٦) هو أحد المشاهد التي تثير الاهتمام الفائق. لقد رأينا عدة ظهورات متنوعة للمسيح، فالسفر كله تقريباً هو حول، بينما نحن جميعاً "انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ" (١ كور ١٠: ١١). ولكن الرؤيا الحالية في طابعها ونتائجها الفائقة ليس لها مثيل. إنها فريدة من نوعها. لا نجد الحمل هنا على عرشه كما في الأصحاح ٥، بل كملك محارب العظيم في انتصاراته، والذي يتمتع بقوة غازية كاسحة. أمام المسيح، كما نجد هنا، تذوي وتتلاشى قوات الأرض وترتاع أجرأ القلوب المقتدرة؛ ولكن هذه الصورة تسر القديسين، لأنهم يعرفونها. فالملك والقاضي الديان هو صديقهم الأبدي.

السموات مفتوحة، وباب مفتوح في السماء:

١١- "رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً". هذا السفر مليء بالأحداث السماوية. المشاهد في السماء كما يراها الرائي عديدة ومتنوعة تُسمع أصواته، وتُغنى الأغاني، ويُرى الملائكة والقديسون الممجدون، والشيوخ والأحياء ينحنون في سجود، وعروش وتيجان وأثواب وقيثارات وأسفار وأكثر، كلها تخبر عن سعادة سكان السماء وحركتهم اللتان لا تتوقفان. رأينا نظرات إلى السماء، ولكن السماء نفسها مفتوحة هو مشهد عظيم جليل لا يُقاوم. في بداية القسم السماوي من السفر (الأصحاح ٤) نقرأ "نَظَرْتُ وَإِذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي السَّمَاءِ" (الأصحاح ٤). وكم كانت عظيمة دهشة الرائي وهو يرى، وبالطبع في رؤيا، السماء نفسها مفتوحة، وليس فقط باباً يسمح له بالدخول. هذا الحدث متوافق مع الأبهة والعظمة وموكب الانتصار في السماء. باب مفتوح كان في السماء ليعبر الرائي من خلاله. السماء كانت مفتوحة وذلك ليخرج منها الجنود السماويون. نقرأ أربع مرات في العهد الجديد عن السماء المفتوحة (متى ٣: ١٦؛ يوحنا ١: ٥١؛ أع ٧: ٥٦؛ رؤيا ١٩: ١١)، وفي كل مناسبة نجد ارتباطاً مع المسيح. اثنان من هذه الأمثلة هي في الماضي واثنان في المستقبل. مجده المعنوي في إذلاله استدعى ذلك. مجده المستعلن في الأعلى تطلب ذلك. لأورشليم المقدسة تُرى في رؤيا لاحقة وهي نازلة من السماء (٢١: ٩)، ولكن لا يُقال أن السماء مفتوحة عندئذ للخروج؛ فهي تُفتح لمرة، وهذه كافية.

وصف للغازي وجيشه المنتصر:

١١- أول جزء من الوصف لما يراه الرائي هو "فَرَسٌ أَبْيَضُ"، رمز القوة المنتصرة. الفارس الذي يقود الفرس ويسيطر عليه يحمل اسماً سرياً يُدعى "أَميناً وَصَادقاً". هناك آخرون يمكن أن يوصفوا بهذه الصفات، ولكن المسيح وحده هو الوحيد الذي يمكن أن يُشار إليه هكذا بدون مواصفات. فهو في شخصه وطرقه التجسيد الكامل المثالي لهذه المواصفات. هو أمين لأجل إنجازه كل وعود وكل تهديد، في حين أن كل كلمة وفعل يحمل طابع الحقيقة المطلقة.

١١- "بالْعَدْل يَحْكُمُ وَيُحَاربُ". يأتي إلى تثبيت مصير العالم لألف سنة. ليس هو المحارب القدير فحسب، بل هو يحكم العالم وأيضاً يغزوه. الله "أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١). اليوم الموعود على وشك أن يبدأ، والإنسان معين أمامنا وهو قائد جند السماء. ليست هذه حرباً جائرة؛ ليست حرباً تُشن بدافع الرغبة في الغزو، ولا غايتها توسيع رقعة المملكة. الحكم يُحدد قبل شن الحرب، لأن كل ما يجري يتم بهدف معين مقصود. الحرب والمسائل المتعلقة بها توجه بحكمة. البر صفة مميزة له كديان ومحارب.

١٢- "وَعَيْنَاهُ لَهيب نَارٍ". في (١: ١٤) و (٢: ١٨) يُقال عن المسيح أن "عَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ". ولكن هنا تم حذف "كـ" من المقارنة. "عَيْنَاهُ لَهيب نَارٍ". هذا هو الله العالم بكل شيء الذي يراقب الجميع ويسبر أغوار كل شر مخفي، والدينونات التي ينفذها تدل على صفاته، كما رأينا في التعليقات السابقة، بينما في نصنا نجد أنها قيد التطبيق. والحدث هنا أشد كثافة.

١٢- "عَلَى رَأْسه تيجَانٌ كَثيرَةٌ". الأكاليل والتيجان متمايزة. القديسون في السماء لهم أكاليل (٤: ٤، ١٠)، ما يدل على الوقار الملكي، ولكن على رأس المسيح هناك تيجان تدل على سلطته المطلقة والسامية. التنين له تيجان على رؤوسه السبعة (١٢: ٣)، والوحش له تيجان على قرونه العشرة (١٣: ١). ولذلك فإن التنين والوحش كلاهما يمارسان سلطة عظيمة. وليس هناك سوى شخص واحد مؤتمن على تطبيق سلطة مطلقة وسطوة، وذلك هو ابن الإنسان (مز ٩: ٨). هناك سبعة تيجان على التنين، وعشرة على الوحش؛ ولكن نعلم أن "تيجَانٌ كَثيرَةٌ" على رأس المسيح الفاتح ما يدل على أن كل شكل ونوع من الحكم قد اكتسبها لنفسه.

١٢- "لَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرفُهُ إلاَّ هُوَ". هناك أسماء إلهية معينة، مثل الله، يهوه، يسوع، المسيح، الرب، الخ، وهي تعبر بقوة عن الكيان الإلهي في علاقة محددة مع مخلوقاته. ولكن الاسم هنا ليس مذكوراً. فالمسيح- الذي كان وسيكون دائماً- ما من اسم يمكن أن يعبر عنه. الابن في ملء طبيعته الإلهية يمكنه وحده أن يُعرف من قِبل الآب (متى ١١: ٢٧). المسيح يعرف في نفسه من يكون وماهيته وما كان عليه.

١٣- "وَهُوَ مُتَسَرْبلٌ بثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بدَمٍ". هذا الرمز المذهل والمؤثر يعلن انتقامه بتعامل جزائي مع جنود أوربا المرتدة الذين خرجوا ليشنوا معركة مع الخروف. في أشعياء ٦٣: ١- ٤ نشهد العودة الظافرة من أرض أدوم، ومن عاصمتها بُصْرَةَ، حيث يكون الرب قلبه مليء بالنقمة ومرتدياً ثياباً مخضبة بدم أعدائه، ولكن هنا يُرى رداؤه مَغْمُوساً بدَمٍ قبل أن يدخل في الصراع، علامة أكيدة على أن انتقامه العادل يأخذ مجراه حتى النهاية على أولئك الأعداء المجتمعين تحت غامرة رئيسيهما العظيمين، الوحش والنبي الكذاب.

١٣- "يُدْعَى اسْمُهُ «كَلمَةَ الله»". من الكتاب الثمانية لأسفار العهد الجديد، يوحنا وحده هو الذي يطلق هذا اللقب على المسيح. بما أنه الكلمة فهو يمثل ويعبر عن الله في كينونته، وشخصه، وأعماله. إنه "كَلِمَةِ الْحَيَاةِ" (١ يوحنا ١: ١)، كائناً كذلك في شخصه وطرقه. إنه يُدعى "كَلمَةَ الله" وهي خير تعبير عنه في دينونته. وبما أنه الكلمة فإن له وجود شخصي مستقل وأبدي (يوحنا ١: ١، ٢)؛ وبما أنه الكلمة فهو خالق كل الأشياء (الآية ٣). إنه الذي يعلن عن الله ويكشف عنه، وهو الذي يجعله معروفاً. كلماتنا يجب أن تكون تعبيراً دقيقاً عما نحن؛ وكلمات المسيح كانت التعبير الدقيق لما هو عليه أبداً (يو ٨: ٢٥). بما أنه الكلمة فهو يظهر الله في طبيعته الجوهرية كنور ومحبة ولكونه "اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ" فإنه يعلن عن الآب. لا يمكن الفصل بينهما، لأن القلب يتوق إلى علاقة معروفة وسارة. الله هو أبانا.

اللقب المستخدم هنا ليسوع له معنى خاص في هذا السياق. الله هنا هو الذي يُرى وقد انبرى للعمل. طبيعته الذاتية تتطلب كينونة اولئك الذين حاولوا بجنون على الأرض أن يعيقوا هدفه في أن يضع ابنه ملكاً على جبل صهيون ويضع يديه على سدة حكم الأرض. المسيح، "كَلمَةَ الله"، هو التعبير المطلق عن الله في مشهد الدينونة التي على وشك أن تجري.

الجيوش المنتصرة:

١٤- "الأَجْنَادُ" في السماء تتبع قائدها الشهير المعروف والذي يركب على "خَيْلٍ بيضٍ" لأن انتصاره هو انتصار لهم، وظفره ظفر لهم. في هذه الجيوش تمثل القديسين السماويين، أولئك الذين في زمن العهد القديم وأولئك يشملون العروس. كل واحد منهم يرتدي ثوباً يدل على بره الشخصي، والذي يدل على صراع شخصي هنا وجهد مبذول بفعل الصواب، والحفاظ على حقوق الله وسط عالم معاكس ومعارض لله وللمسيح. ثياب العروس (الآية ٨) هي نفسها ثياب كل واحد من الجنود (الآية ١٤). الجيوش في السماء التي تتبع المسيح في انتصار والذين يملأون موكبه ليسوا ملائكة، بل قديسين. يا له من مشهد عسكري يُصور أمامنا هنا! هؤلاء الجيوش من القديسين في السماء يتبعون قائدهم. هو يمضي أولاً، ورؤساء الجنود المنتصرين يتبعونه. لدينا هنا تحقيق نبوءة حَنُوكَ، التي كان قد نُطق بها قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، ولكنها الوحيدة المدونة في رسالة يهوذا. "هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ" (يهوذا ١٤). يكتب زكريا (١٤: ٥) عن نفس المجيء، ولكن لغاية تحطيم القوى المناوئة لليهود، بينما سفر الرؤيا يكشف موضوع أول دينونة للأمم المناوئة للخروف. الملائكة أيضاًَ يتبعون الموكب ويحتفلون بانتصار الرب (متى ١٦: ٢٧؛ ٢٥: ٣١؛ عب ١: ٦). قوة الانتصار (خَيْل بيض) تُطلق في اليوم التعبير عن غضب الخروف وتعبر عنه بشكل فظيع. الحديث عن جيوش السماء التي تتبع المسيح في مسار حربه العادلة هي إدخال على الوصف العام للمسيح الذي يُستأنف الآن. الحرب نفسها تُذكر ببساطة (الآية ١٩)، ولكن الوصف الشخصي للقائد العظيم لخلاصنا يتم بإسهاب. إننا نبتهج بسماعه يتحدث وبسماعهم يتحدثون عنه.

المسيح في عمله الإداني:

١٥- بعد ذلك نسمع عن السلاح الدفاعي الوحيد الذي يستخدمه الجنود السماويون، ألا وهو "سَيْفٌ مَاضٍ". ليس لدى الجيوش أسلحة، وليسوا في حاجة إليها، لأن المعركة هي معركة الرب. "منْ فَمه يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لكَيْ يَضْربَ به الأُمَمَ". الإشارة هنا هي إلى أشعياء ١١: ٤. فهو يتكلم كما فعل في البستان عندما سقط أعداؤه إلى الأرض (يوحنا ١٨: ٥، ٦). كلمته في الحال تضرب وتذبح. قوتها لا يمكن مقاومتها. ليس من سلاح دنيوي هنا، بل قوة مدمرة أشد فظاعة في تأثيرها من أي سلاح آخر أياً كان شكله ومهما كانت مهارات البشر التي صنعته- فالحديث هو عن كلمة الرب المنطوقة.

١٥- "وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ". من الواضح أن المزمور الثاني كان أمام الكاتب في وصفه المجيد لقدرة الله العظيمة. الحكم القاسي والصارم المطبق هنا على الشعوب المتمردة تدل عليها عبارة عصا من حديد. "هُوَ سَيَرْعَاهُمْ"، أي سيحكمهم (١٢: ٥). إن تواجدنا معه خلال حكمه للعالم (مز ١٤٩: ٦- ٩)، وإدانة أعدائه، لا تتعارض أبداً مع الحقيقة الموضوعة في أصحاحنا هذا، "هُوَ سَيَرْعَاهُمْ بعَصاً منْ حَديدٍ". هذا عمله، وقد مُنح بقوة وكاملة وافرة للقيام بذلك. الإرادة المتصلبة عند الأمم يجب تحطيمها وتحويل قوتهم إلى ذرات.

١٥- "وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْر سَخَط وَغَضَب الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". ليس هذا رمز الحصاد حيث يُفصل الأخيار عن الأشرار، بل الكرم الذي هو الانتقام القاسي من الشر والشر الديني الذي تطور إلى تجديف (١٤: ١٧- ٢٠). هناك ثلاثة رموز للدينونة في الآية ١٥من أصحاحنا هذا. (١) سيف ماضٍ للدلالة على العقوبة الجزائية الفورية وعلى الأرجح الموت. (٢) عصا من حديد للدلالة على حكومة متصلبة عادلة. (٣) معصرة الغضب التي ستصيب الأشد إثماً بينهم. وهذا الأخير هو تعبير يدل على أقصى الغضب. الله القدير انبرى إلى الفعل. يقول: "الانتقام لي". ومن جديد الضمير الشخصي يجعل الدينونة تبدو كأنها عمل الرب وحده. "قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ" (أش ٦٣: ٣).

١٦- هذا الوصف المطول يُختتم بالتأكيد العظيم على مجده. "وَلَهُ عَلَى ثَوْبه وَعَلَى فَخْذه اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلكُ الْمُلُوك وَرَبُّ الأَرْبَاب»" . رداؤه، شخصيته الخارجية وطريقه كما يراها الآخرون تحمل اللقب المعبر عن السطوة الكونية. بدل السيف على فخذه (مز ٤٥: ٣)، يُذكر هنا أن الاسم مكتوب عليه. السيف في فمه؛ والاسم على الفخذ. وهنا لابد للمرء أن يبحث بشكل طبيعي عن السيف الذي يدل على مكانة المسيح البارزة كملك على كل الذين يحكمون والذي يفوقهم في القدرة على الحكم. في الأصحاح ١٧: ١٤ الألقاب نفسها تُطبق على الرب؛ ولكن هناك تُتلى بترتيب معكوس: "رَبُّ الأَرْبَاب" تسبق "ملك الملوك". ما من قلم يعدل إذا أراد الكتابة عن الشخص المجيد للرب. في تفسير الرموز والعبارات الحرفية لابد من العناية، ولكن ليس من صعوبة كبيرة في ذلك. في إدراكنا للظروف، وللمناسبة، ولسبب الرب نفهم كل شيء؛ تلك الشعوب الواقعية على الأرض نجدها في تمرد مسلح مفتوح جريء ضد سلطة الله، سواء مُورست معنوياً أو بالحكم؛ إضافة إلى ذلك، فإن الأمم على الأرض والقديسون الذين يخرجون من السماء هم جيوش بكل معنى الكلمة،  وهناك أهداف وغايات ومشاريع تُقاومهم. الأفكار السابقة يمكن أن تساعد المرء على كشف الأشياء الغامضة وغير المؤكدة ومعرفة ما هو حقيقي وعلى وشك أن يحدث، وعن دورنا في ما سيجري.

عشاء الإله العظيم:

١٧، ١٨- رأينا وليمة العرس المبهجة للخروف؛ ولدينا هنا عشاء الرب العظيم. النعت "عظيم" مرتبط مع العشاء وليس وصفاً لله.

١٧- "رَأَيْتُ مَلاَكاً وَاحداً وَاقفاً في الشَّمْس". يقف في المركز، أو بالحري مركز السلطة الحاكمة. إنه يقف حيث يمكن أن يراه الجميع، وحيث يستطيع أن يعاين كل مشهد الصراع. العشاء الذي يدعو إليه الطيور الجارحة يأتي بعد المعركة. ولكن الطيور تدعى إلى التجمع في الرؤيا قبل القتال. العشاء العظيم هو للأموات. الملوك والقادة العسكريون والرجال المقتدرون والخيول وراكبيها، أحراراً وعبيد، صغاراً وكبار، يقبعون في صمت الموت، وأجسادهم فريسة لطيور السماء. يتكلم المسيح، وفي الحال تصيب الدينونة القوات المعادية المعارضة المتجمعة. ونكرر من جديد أن هذا المشهد حقيقي وهو من أشد المشاهد الحرفية فظاعة. نشوب الحرب أمر متوقع، ونتيجتها معلنة. هؤلاء المذبوحون ينهضون لملاقاة الرب مرة أخرى، ليس على ظهر الخيل بقوة فاتحة ظافرة، بل على العرش حيث تأتي الإدانة مباشرة بعد الدينونة (٢٠: ١١- ١٥). قيامتهم تحدث بعد ألف سنة من عقابهم على الأرض.

١٨- نقرأ خمس مرات عن "لحوم" كطعام لطيور السماء. ويا لها من نهاية مخزية لأوربا ذات الكبرياء والأبهة والقوة والفروسية! النسر، والصقر، والطيور الجارحة الأخرى التي تقتات على العظماء والمقتدرين الذين تم الاحتفاظ بأسمائهم في صفحات تاريخ هذا الزمن (قارن مع حز ٣٩: ٤، ١٧- ٢٠). "جَميعُ الطُّيُور شَبعَتْ منْ لُحُومهمْ" (الآية ٢١)، يأكلون بنهم حتى التخمة. يا له من ذبح فظيع! وكم هو هائل عدد المذبوحين!

هزيمة كاملة للوحش والملوك والجيوش المتحالفون معه:

١٩- ٢١ – "وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْض وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمعينَ ليَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الْجَالس عَلَى الْفَرَس وَمَعَ جُنْده. فَقُبضَ عَلَى الْوَحْش وَالنَّبيّ الْكَذَّاب مَعَهُ، الصَّانعُ قُدَّامَهُ الآيَات الَّتي بهَا أَضَلَّ الَّذينَ قَبلُوا سمَةَ الْوَحْش وَالَّذينَ سَجَدُوا لصُورَته. وَطُرحَ الاثْنَان حَيَّيْن إلَى بُحَيْرَة النَّار الْمُتَّقدَة بالْكبْريت. وَالْبَاقُونَ قُتلُوا بسَيْف الْجَالس عَلَى الْفَرَس الْخَارج منْ فَمه، وَجَميعُ الطُّيُور شَبعَتْ منْ لُحُومهمْ". إننا على وشك أن نشاهد الاتحاد الأعظم والأضخم بين الملوك والشعوب التي رأيناها على الأرض. "الوحش" يُذكر أولاً على أنه مركز وروح الحكم. كل القوة والمصادر المادية للإمبراطورية المنتعشة المقتدرة نجدها مشتملة في العبارة "الوحش". ثم نجد ذكر "مُلُوكَ الأَرْض"، وهم أنفسهم الملوك الذين انتحبوا على دمار بابل. السلطات السياسية والاجتماعية للعالم المسيحي تتحد مع الوحش في هذه الحرب البربرية . ثم نسمع عن "أَجْنَادَهُمْ"، أي جيوش أو جنود الوحش والملوك.

جميعهم "مُجْتَمعينَ". هذا يفترض أن هذا التجمع الذي يكاد يكون كونياً من القوى يقوم إنسان بترتيبه. ولكن ما كان ليمكن لقيصر أو لنابليون أن يأتي بهذه المجموعة الواسعة المتحدة من القوى، لأجل هدف كمثل هذا الذي نسمع عنه هنا. الشيطان هو وراء الحركة. في ١٦: ١٣، ١٤، ١٦ لدينا الحجاب يُرفع وتتكشف الطبيعة الحقيقية له. ثلاثة  أرواح نجسة، شيطانية في مصدرها وطابعها، تُمنح قوة عجائبية. "تَخْرُجُ عَلَى مُلُوك الْعَالَم وَكُلّ الْمَسْكُونَة لتَجْمَعَهُمْ لقتَال ذَلكَ الْيَوْم الْعَظيم، يَوْم الله الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْءٍ". ومكان التجمع أيضاً يُذكر، ألا وهو "هَرْمَجَدُّونَ" (١٦: ١٦). بعد أن نقرأ عن القوى التي تجتمع معاً في مواجهة الرب، والمكان الذي يجتمعون فيه، يأتي الحديث عن الحقيقة الواضحة ولكن المذهلة لأن جنود الأرض يتجمعون "ليَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الْجَالس عَلَى الْفَرَس وَمَعَ جُنْده". هل في التاريخ ما يوازي هذا؟ شعوب أوربا، وحتى المنطقة الأوسع، المستنيرة والمتمسحنة، قد ضللهم الشيطان لدرجة كبيرة حتى أنهم دخلوا القائمة مع "ملك الملوك ورب الأرباب". يا للحماقة! يا للجنون! السيادة المطلقة للأرض هي الهدف في ذلك اليوم، ويُحدد مصيرها مرة واحدة وللأبد للمعركة الوشيكة الحدوث. كراهيتهم واضحة تجاه الجالس على الفرس الأبيض، الخروف والملك، حيث اللقب الأول يدل على التضحية، والأخير على الملوكية الفخمة؛ فسواء ذُبح الخروف أو ملك الملك، العالم المسيحي سيبغضه. ثم تأتي المقاومة والمعارضة عند أولئك الذين هم خاصته. يصنعون "حَرْباً مع جُنْده". لدينا هنا التضاد بين "جندهم" و"جنده"، المكون من أتباعه المدعوين والمختارين والمخلصين. جيش واحد له فكر واحد وهدف واحد مع قائدهم البارز الشهير. ليس من تفاصيل تُعطى، لأنه قد لا يحدث صراع حقيقي هنا. النتيجة وحدها تُعلن؛ الذبح الفظيع الذي تم توقعه للتو (الآيات ١٧، ١٨).

٢٠- "فَقُبضَ عَلَى الْوَحْش". الرئيس الشخصي للإمبراطورية تظهر لنا حقيقة شخصه. الإمبراطورية ورئيسها الحاكم كانوا فعلاً مقاصد وأهداف الجميع. يمكن، بالطبع، تمييزهم كما في دانيال ٧، ولكن هنا، وفي مكان آخر في الرؤيا، الوحش ورئيسه الإمبراطوري العظيم الأخير، مرتبطان بشكل حيوي مع حتى أن الأول يهلك في الدمار الأبدي لرئيسه. الوحش. وحيداً في بحيرة النار- هو إنسان بالطبع ويتم الحديث عنه على أنه "الْوَحْش"- الاسم المعتاد للإمبراطورية.

٢٠- "وَالنَّبيّ الْكَذَّاب مَعَهُ". هذا هو ضد المسيح، تجسيد الامتداد الديني. تابعه، الوحش، هو الرئيس الأممي المتميز والذي يمنحه الشيطان سلطة سياسية تكاد تكون بلا حدود. لثلاث مرات يُستخدم اللقب "النَّبيّ الْكَذَّاب" للإشارة إلى ضد المسيح في وصف لتعاليمه الزائفة المضللة في يهوذا والعالم المسيحي عموماً . "مَعَهُ"، أي الوحش، ما يدل على أنهما كانا يتعاونان معاً. الوحش يؤمن القوة، والنبي الكذاب يؤمن المشورة. والأخير هو الأنشط بينهما.

٢٠- "الصَّانعُ قُدَّامَهُ الآيَات" أي قدام الوحش، الآيَات الَّتي بهَا أَضَلَّ الَّذينَ قَبلُوا سمَةَ الْوَحْش وَالَّذينَ سَجَدُوا لصُورَته. لقد خدعهم بآيات معجزية اجترحها، ومحاولته الكبيرة هي أن يجعل العالم برمته يسجد للوحش، الذي يفوقه بالقوة والسلطة المؤقتة، رغم أنه أدنى منهم في المكر والتأثير الشيطاني المهلك المميت. العمل الشيطاني لـ "النبي الكذاب"، والذي كان عمله الخاص لكونه مساعد الوحش، هو الموضوع الرئيسي في الأصحاح ١٣: ١١- ١٧، فهناك نجد اللقب "وحش آخر" بينما هنا "النبي الكذاب"، وكلاهما هما لنفس الشخص.

المصير المشؤوم الأبدي:

٢٠- "طُرحَ الاثْنَان حَيَّيْن إلَى بُحَيْرَة النَّار الْمُتَّقدَة بالْكبْريت". من يستطيع أن يصف بالكلمات هكذا مصير مشؤوم فظيع؟ حرفياً، وفعلياً، هذه هي العقوبة المقررة مسبقاً على كلا الشخصين، أحدهما يهودي، والآخر أممي، ولكن لعل كليهما على الأرض في هذه اللحظة! هذان الرجلان لا يُقتلان، كما يحدث مع أتباعهما المضللين. الموت الجسدي، في شخصهما، لن يعرفاه، ولكن ستقبض عليهما يد الكلي القدرة، وتعاقبهما على جرائهما، ويلقيان فوراً إلى بحيرة النار- التي هي تجمع لعذابات لا يمكن النطق بها. لا يسيران، ولا يُدفعان إلى مصيرهما المخيف، بل يلقيان حيين إلى بحيرة النار، كما تلقي شيئاً تافهاً. بعد ألف سنة ينضم الشيطان إليهما في نفس المكان الفظيع، كما يكشف لنا الأصحاح التالي. بحيرة النار لا تهدأ ولا تنطفئ. النار والكبريت يشيران إلى عذاب لا يمكن وصفه (أش ٣٠: ٣٣). بحيرة من نار، وليس من ماء، هي المستقر الأبدي حيث يُعاقب الشيطان والضالون من البشر والملائكة الساقطون. إنه مكان، وليس حالة. وهذه العبارة الدالة عليها تشير إلى كل ما هو قاتم وفيه عذاب، وربما يكون أول ذكر لها هنا. وعلى الأرجح أن أول نزلاء إلى البحيرة هم هذان الاثنان.

٢١- "وَالْبَاقُونَ قُتلُوا بسَيْف الْجَالس عَلَى الْفَرَس الْخَارج منْ فَمه". كبرياء أوربا وجيوشها يقبعان في صمت الموت، ويُقتلان، ولكن ليس بسيف حرفي مادي. صوت غضب ملك الملوك سيضرب أرتال متراصة، وفجأة يحرمها من قائديها العظيمين، ثم يأتي الموت، النصيب المريع للجيش المرتد والمتمرد. إنها قصة فظيعة تُروى لنا باختصار. حنوك وإيليا اختُطفا إلى السماء دون أن يريا الموت. الوحش والنبي الكذاب (أسماؤهم غير مذكورة) يُلقيان إلى بحيرة النار دون أن يموتا. لقد كان الذبح فظيعاً حتى أن طيور السماء تأكل حتى تُخنق من لحوم الأموات. المصير النهائي لعباد ومناصري الوحش نرى حديثاً عنه في الأصحاحات ١٤: ٩- ١١؛ ٢٠: ١١- ١٥.


١. يرى القس و. ف. ويلكنسون في كتابه "الأسماء الشخصية في الكتاب المقدس" أن اسم الرب أو "يهوه" كما أعلنه الله لموسى يعني "الكائن" (خر ٣: ١٤).

٢. في أجزاء متنوعة من سفر الرؤيا رمز المياه والرعود نراهما بشكل منفصل، ولكن في ١٤: ٢ نجدهما معاً. المياه لها مغزى مزدوج. الأول، عندما تكون في حالة حركة فهي تدل على فكرة الجلال والعظمة؛ وعندما تكون ساكنة فإن المعنى الرمزي لها هو الأمم والشعوب.

٣. تقديم الكنيسة في مجد لنفسه (أفسس ٥: ٢٧) هي مسألة خاصة، وتسبق الحدث العام، عرس الخروف. وهذه نتيجة طبيعية للأخرى.

٤. في حالة الملائكة وأيضاً في حالة العروس اللباس هو من الكتان؛ ولكن في هذه الأخيرة نجد أيضاً "كتان ناعم".

٥. الخدام والعبيد متمايزون عن بعضهما. انظر رؤيا ٢: ٢٠؛ متى ٢٢: ١٣؛ ومن أجل الأخيرة انظر رومية ٦: ٢٠؛ رؤيا ١: ١.

٦. "الرسل الأوائل" (١ كور ١٢: ٢٨؛ أف ٤: ١١؛ رؤ ٢١: ١٤؛ متى ١٩: ٢٢).

٧. "إنه علنياً ورسمياً و فعلياً ملك الملوك ورب الأرباب" – "خلاصة أسفار الكتاب المقدس" ، المجلد ٥، ص. ٦٣٥.

٨. الملوك العشرة خضعوا للوحش (١٧: ١٧). وهم فعالون في هذه الحرب، إذ نقرأ: "هَؤُلاَء سَيُحَاربُونَ الْخَرُوفَ" (١٧: ١٤)، ولكنهم لا يُذكرون بشكل محدد في هذا السرد الكامل والمفصل عن الحرب، فهويتهم تضيع، لنقل، في تلك التي للوحش.

٩. انظر الأصحاحات ١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠.

الأصحاح ٢٢

رؤيا ختامية (الآيات ١- ٥ وشهادات (الآيات ٦- ٢١)

نهر وشجرة الحياة:

١، ٢- "وَأَرَاني نَهْراً صَافياً منْ مَاء حَيَاةٍ لاَمعاً كَبَلُّورٍ خَارجاً منْ عَرْش الله وَالْخَرُوف. في وَسَط سُوقهَا وَعَلَى النَّهْر منْ هُنَا وَمنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ تَصْنَعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ الشَّجَرَة لشفَاء الأُمَم". العرش هو الموضوع البارز في هذه الرؤيا الختامية. إنه حكم الله الألفي العلني، الذي يتكلم عنه كل المقطع (الآيات ١- ٥)، والذي نجد رمزاً له في العرش. الجزء السابق (٢١: ٩- ٢٧)، كانت بدايته مشابهة لهذا الذي أمامنا؛ كان هناك عروس (الآية ٩)؛ وهنا نهر الحياة. وهكذا فالجزء بأكمله، من الآية ٩ في الأصحاح السابق حتى الآية ٥ من أصحاحنا، يتألف من رؤيتين متمايزتين ولكن مترابطتين؛ قارن بين بداية المقطعين: "هَلُمَّ فَأُريَكَ الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوف" و"أَرَاني نَهْراً صَافياً منْ مَاء حَيَاةٍ".

إذ نرى كيف أن الله يضع ختمه وطابعه وتوقيعه على الإعلان الأسبق، ويُثْبت صحةَ العهدين وأنهما نفس الشيء، فمن الشيّق أن نلاحظ أن الإشارة في الكلمات الافتتاحية للأصحاح السابق إلى "السَّمَاءَ الأُولَى" و"الأَرْضَ الأُولَى" مرتبط بالضرورة بالأصحاح الأول من سفر التكوين؛ إذ نجد أن افتتاحية الأصحاح السابق من الرؤيا والتي تتناول نهر وشجرة الحياة ترتبط بالأصحاح ٢ من سفر التكوين. وهكذا يربط موسى ويوحنا الفراغ بين ١٦ قرناً، ويؤديان شهادة على وحدة الكتاب المقدس.

١- "نَهْراً صَافياً منْ مَاءِ حَيَاةٍ" ما يدل على ملء الحياة والبركة (مز ٣٦: ٨). "إنه رمز جميل عن الحياة بما فيها من سرور ونقاء ونشاط وامتلاء". ليس نهراً موحلاً أو عكراً، بل شفافاً ساطعاً (كما حال كل شيء في المدينة المقدسة) وصافٍ كالكريستال النقي. نهر السعادة يتدفق إلى الأبد عبر المدينة السماوية. فرح العروس لا انتهاء له ولا تناقُص فيه؛ بل إنه يغزر ويزداد مع تدفق النهر وازدياد عمقه خلال المسير. الإشارة إلى تكوين ٢ أمر لاشك فيه. "وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ" (تكوين ٢: ١٠). ولكن النهر في المدينة السماوية لا يتفرع إلى "أرْبَعَةَ رُؤُوسٍ"، كما في نهر عدن؛ ولا إلى الشرق والغرب، كما المياه الحية في زكريا (١٤: ٨). إنه نهر واحد يتدفق عبر المدينة في كل أرجاءها؛ سعادة واحدة مشتركة للجميع، كما أنه ليس هناك سوى شجرة حياة واحدة، وليس شجرتين كما في الفردوس الأرضي (تك ٢: ٩). يذكر موسى أولاً شجرة الحياة. ويشير يوحنا أولاً إلى نهر الحياة.

١- "خَارجاً منْ عَرْش الله وَالْخَرُوف". نجد الله والخروف هنا مشتركين في حكم العالم. الأول القدير وذو الجلال، مع نعمة وحلم الآخر، يضمنان حكماً ذا طابع تبتهج به الكنيسة، وفي ظله تسكن الأمم في سلام. إنه عرش واحد. الله سامٍ متعالٍ، والخروف يدير قوة وسلطة العرش. فهذا هو إذاً المصدر الذي يتدفق منه نهر النعمة.

أورشليم الأرضية هي نسخة عن أورشليم العلوية. كلاهما موطئ عرش الحكم. وكلاهما تحويان مياهاً حية وأشجار ثمار وشفاء. في أورشليم الأرضية الألفية يخرج الماء الحيّ من تحت الهيكل (حز ٤٧: ١)؛ بينما في المدينة السماوية يتدفق النهر من العرش.

٢- بعد ذلك، وفي منتصف الشارع، على طريق عام عريض، يتدفق النهر، وعلى كل جانب منه شجرة الحياة. ما من إنسان، سواء كان بريئاً أم آثماً، كان ليأكل من شجرة الحياة في عدن، ولا نقول الفردوس. الشيروبيم والسيف الملتهب وقفا حائلين دون الوصول إلى شجرة الحياة في عدن (تكوين ٣: ٢٤)، وحسن ما حدث، لأنه إن أكل إنسانٌ خاطئ من ثمرها لكان سيعيش إلى الأبد حياةً بائسة في هذا العالم. ولكن في مدينة الذهب والمجد، "طريق الحياة مفتوح"، وليس من يعيقه لا شيروبيم ولا السيف. الشجرتان الرمزيتان في عدن كانتا شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر.  الأولى هي أول وآخر ما يُذكر في الكتابات المقدسة. الحياة في الأولى والمسؤولية في الثانية هي مبدأ ومغزى كل من الشجرتين.

٢- "تَصْنَعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً". هوذا آخر مثال عن استخدام العدد ١٢ للإشارة إلى الحكم والإدارة. القديسون في المدينة السماوية يأكلون من ثمارها- وهي غزيرة الإنتاج ووافرة لدرجة أنها تعطي الثمر شهرياً- بينما الأوراق تفيد في الشفاء والبركة للأمم. الأمم الألفية تعتمد على المدينة فوق لأجل النور والحكم والشفاء. وكل هذا له نظير له في الأصحاح (حزقيال ٤٧: ١٢) اللافت: "وَيَكُونُ ثَمَرُهُ لِلأَكْلِ وَوَرَقُهُ لِلدَّوَاءِ". المشهد في الأعلى (رؤيا ٢٢) والمشهد في الأسفل (حزقيال ٤٧) كلاهما ألفيان، وهما متزامنان متواقتان، ولكن بركة الأول تفوق بلا حدود الأخير. شجرة الحياة تمد بأسباب الحياة؛ ونهر الحياة يمنح السعادة.

إعلانات عظيمة مهيبة:

٣- ٥- "وَلاَ تَكُونُ لَعْنَةٌ مَا في مَا بَعْدُ. وَعَرْشُ الله وَالْخَرُوفُ يَكُونُ فيهَا، وَعَبيدُهُ يَخْدمُونَهُ. وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جبَاههمْ. وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إلَى سرَاجٍ أَوْ نُور شَمْسٍ، لأَنَّ الرَّبَّ الإلَهَ يُنيرُ عَلَيْهمْ، وَهُمْ سَيَمْلكُونَ إلَى أَبَد الآبدين".

عند دخول الخطيئة إلى العالم، لُعِنت الحية، مصدر الخطيئة (تكوين ٣: ١٤)، والأرض أيضاً (الآية ١٧). وقايين، الذي أضاف إلى خطيئة أبيه، وأكملها، إن صح القول، لُعِنَ أيضاً (تكوين ٤: ١١). كل من هم تحت أعمال الناموس هم تحت اللعنة (غلاطية ٣: ١٠). ولكن في أورشليم السماوية لا تعود هناك لعنة مع الموكب المرافق لها من الأمراض والتعاسة. لا يمكن للخطيئة ولا لتأثيراتها التعيسة أن تدخل إلى مدينة الله المقدسة التي يحيط بها مجده ١.

من جديد نجد إعلانوحدة الله والخروف- وحدة تُمارَس في الحكم وفي الفعل- "عَرْشُ الله وَالْخَرُوفُ"، تتكرر مرتين (الآيات ١، ٣). ولكنها في وسط الكنيسة نفسها، إذ نقرأ أن العرش "يَكُونُ فيهَا". وهكذا فإن العرش هو قوة وحافظ المدينة.

٣- "وَعَبيدُهُ يَخْدمُونَهُ". الله والخروف متحدان جداً في الفكر والفعل لدرجة أننا نجد استخدام الضمير الشخصي هنا. فالله يعتلن في الخروف؛ وسنخدمه. وخدمتنا ستكون بلا توقف وبلا تعب أو ضجر أو طاقة ذاوية. سنخدمه بفرح وحرية ومحبة نقية لا عيب فيها ولا فكر ناموسي. فكم تختلف طبيعة الخدمة. وكم من فرح يناله من يدخل الحياة الأبدية في خدمته.

٤- "وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ". ذلك الوجه الذي بصقوا عليه يوماً يشع الآن بمجد الله. أفضل خمر للملكوت يصب. سوف نرى وجهه.

٤- "وَاسْمُهُ عَلَى جبَاههمْ".هذا يعني أننا سنكون من خاصته علانية وصراحة، وعلى مقدار ما يمثل الاسم الشخص سنكون كشبهه معنوياً ونعبر للجميع عمّن هو وعمّا هو ٢.

٥- "لاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ". هذه العبارة تتكرر شفهياً في ٢١: ٢٥ ولكن بشكل ثانوي، ولعل هذا هو السبب في أن بوابات المدينة السماوية مفتوحة دائماً. ولكن العبارة هنا لا تستند إلى أي شيء بل هي إعلان مستقل بحد ذاته. لن يكون هناك ليل أو ظلمة. إنه يوم أبدي. لا حاجة إلى أي مصباح صنعي أو مصدر إضاءة مخلوق كالشمس. المدينة لا تعتمد على إنارة هذا العالم. وليست في حاجة إليها لأَنَّ "الرَّبَّ الإلَهَ يُنيرُ عَلَيْهمْ". سيتنعم القديسون في المجد بنور ودفء نور الله المباشر نفسه.

٥- "وَهُمْ سَيَمْلكُونَ إلَى أَبَد الآبدينَ". هذا يشمل العهد الألفي والأبدي. القديسون فوق لن يكفوا عن الحكم. طالما أن المسيح على العرش ويضع التاج على رأسه، فهذا يحدد فترة حكم القديسين، إذ أننا "سَنمْلِكُ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية ٥: ١٧). هذه السمة للحكم أبدية بالضرورة، وهي مستقلة تماماً عن أي تغير اقتصادي أو غيره. الملكوت الذي هو في يد الله (١ كور ١٥: ٢٤) مؤسس على الأرض لفترة محددة، ولإظهار منجزات مشورات الله. فترة الحكم الألفي تأتي بين تاريخ العالم كما هو موجود حالياً والحالة الأبدية. إنه الملكوت في تلك الفترة التي يستريح فيها الرب، ولكن حكمه على كل المخلوقات لا يتوقف؛ طالما أن هناك ملائكة وأناس- مخلوقات الله- تكون الحاجة ماسة إلى حكومة. العرش أبدي، وعروش وتيجان القديسين أيضاً أبدية. ومن هنا نفهم العبارة "سَيَمْلكُونَ إلَى أَبَد الآبدينَ" بما يشير إلى الحكم الأبدي للقديسين السماويين. خدمتنا وسيادتنا هي إلى أبد الآبدين، أو إلى الأبد.

يا لها من خاتمة ظافرة مجيدة لهذا القسم من السفر! يا لها من إعلانات كاملة عظيمة ومهيبة، وكم هي حقيقية! ستتحول سريعاً إلى واقع خلال خبرتنا السعيدة.

ليهبنا الله النعمة لنسلك بما يليق به، وبهذه الحقائق والأمجاد النبوية لكيما تتحقق عاجلاً.

شهادات ختامية

الملاك يصادق على النبوة:

٦، ٧- "ثُمَّ قَالَ لي: «هَذه الأَقْوَالُ أَمينَةٌ وَصَادقَةٌ. وَالرَّبُّ إلَهُ الأَنْبيَاء الْقدّيسينَ أَرْسَلَ مَلاَكَهُ ليُريَ عَبيدَهُ مَا يَنْبَغي أَنْ يَكُونَ سَريعاً». «هَا أَنَا آتي سَريعاً. طُوبَى لمَنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ نُبُوَّة هَذَا الْكتَاب»". لدينا عدة تأكيدات جليلة تتعلق بأمانة وصدق الله في أقواله وطرقه: بالقديسين (١٥: ٣؛ ١٦: ٢)؛ وبالمذبح (١٦: ٧)؛ وبالله نفسه (٢١: ٥)؛ وهنا عن طريق ملاك ٣. هذه الرؤى النبوية تتطلب منا أن ننظر إليها فرادى وجماعةً باعتبار شديد، ليس بسبب تأثيرها علينا، بل بسبب مجد معلّمنا وبركة العالم التي تدل عليها مصداقية وحقيقة هذه المكاشفات الإلهية المتعلقة بالمستقبل (انظر دانيال ٨: ٢٦).

الرب إلهنا، هو "إلَهُ الأَنْبيَاء". مشاعر وآمال وخبرات أنبياء العهد القديم المتنوعة كان يوجهها ويتحكم بها الله الرب. لقد كان معهم، كما هو معنا. وهذه الوحدة في الفعل المعنوي تربطنا مع أنبياء القديم في مسيرة وإدراك للآمال المنكشفة لهم آنذاك ولنا الآن. ثم في الكلمات التي تلي ذلك نقرأ: "أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ" (رؤيا ١: ١) وهذا مرتبط مع نهاية السفر. لقد أبدى الكاتب الإلهي للسفر أقصى عناية لكي تصل هذه الإعلانات، التي ستكون عن قريب، إلى الخدام والعبيد. إنه يعتمد على اهتمامهم. إن يقين مجيء الرب السريع وقرب حدوث هذه الأحداث العديدة التي يتم التنبؤ عنها، سيقود بالتأكيد إلى دراسة متأنية حصيفة حافلة بالصلاة لهذا السفر، الوحيد الموجه بشكل خاص إلى خدام الله.

آتي سَريعاً:

٧- "وهَا أَنَا آتي سَريعاً". التكرار المطرد لحرف العطف (الواو) لا يجب أن يُنظر إليه بالضرورة على أنه يربط ما سبق بالموضوع الذي يتناوله الآن. حرف العطف يأتي هذا في معظم الأمثلة ليس للربط بما قبله بل كبداية جديدة للجملة.

"وهَا أَنَا آتي سَريعاً". هوذا صوت المسيح الذي نسمعه. ليس إعلان عن حدث نبوي، بل هو قول للرب نفسه وذو سلطان. إن الرب يعلن مجيئه لثلاث مرات وفي أماكن مختلفة (الآيات ٧، ١٢، ٢٠). وفي كل حالة تأتي الكلمة "سريعاً" للدلالة على مدى قرب أو وشوك تحقيق هذا الرجاء المبارك.

" طُوبَى":

٧- "مَنْ يَحْفَظُ (يحفظ وليس يحفظون كما في ١: ٣) أَقْوَالَ نُبُوَّة هَذَا الْكتَاب" مطوبٌ ومباركٌ هو. وهكذا البركة في البداية تتكرر في النهاية، ولكنها تكون فردية هنا. نهاية السفر فيها تحقيق للبركة الموعودة. قارن "أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ" (١: ٣) مع "أَقْوَالَ نُبُوَّة هَذَا الْكتَاب ٤" (٢٢: ٧). حفظ هذه الأقوال يعني تثمينها وتقييمها والتصرف وفقها.

عبادة الملائكة محظورة. الله وحده له العبادة:

٨، ٩- "وَأَنَا يُوحَنَّا الَّذي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هَذَا. وَحينَ سَمعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أَمَامَ رجْلَي الْمَلاَك الَّذي كَانَ يُريني هَذَا. فَقَالَ ليَ: «انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! لأَنّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إخْوَتكَ الأَنْبيَاء، وَالَّذينَ يَحْفَظُونَ أَقْوَالَ هَذَا الْكتَاب. اسْجُدْ للَّه»". اسم يوحنا يتكرر خمس مرات (١: ١، ٤، ٩؛ ٢١: ٢؛ ٢٢: ٨)، ثلاث مرات في البداية ومرتين قرب نهاية السفر. وبين هاتان، الضمائر الشخصية تشير إلى الرائي وهي كثيرة الاستخدام. من الحماقة الشك أو التساؤل حول من يكون يوحنا كاتب سفر الرؤيا. ليس هناك سوى يوحنا واحد ٥. وغريزياً يميل قلب المسيحي إلى الاعتقاد أنه يوحنا الرسول، التلميذ الذي كان يسوع يحبه. ليس من شك في أن يوحنا هو الوحيد الذي كُشفت له هذه الرؤى. ولا شك أن يوحنا هو كاتب هذا السفر.

الكلمات الرائعة التي تُسمع والرؤى العظيمة التي تُكشف، إضافة إلى مجد ووقار المتكلم، عظمت الملاك في عيني يوحنا حتى كاد يقر له بالحق بأن يسجد له. ولكن أعظم مخلوقات الله وأسماها هم أنفسهم يعبدون الله ويسجدون له. ما من ملاك، مهما علت مكانته، يستطيع أن يرفض السجود لله. "وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ" (عب ١: ٦). سقط يوحنا على قدمي الملاك ليسجد له، ولكن الملاك صحح له الموقف لأن الملائكة غيورون على صيانة حقوق الله والمسيح. فالملاك، وحتى في أسمى الدرجات، يأخذ مكانة خادم مع يوحنا، ومع الأنبياء، ومع أولئك "الَّذينَ يَحْفَظُونَ أَقْوَالَ هَذَا الْكتَاب". هذه هي ثاني مناسبة يخفق فيها أحد أكثر البشر وخدام الله تميزاً في حضرة تلك المشاهد المجيدة (١٩: ١٠). "اسْجُدْ للَّه" يقول الملاك بحزم. عبادة المخلوق هي خطيئة ضد الله، وإهانة لجلال رب الجنود.

ختام خطاب الملاك ليوحنا:

١٠، ١١- "وَقَالَ لي: «لاَ تَخْتمْ عَلَى أَقْوَال نُبُوَّة هَذَا الْكتَاب، لأَنَّ الْوَقْتَ قَريبٌ. مَنْ يَظْلمْ فَلْيَظْلمْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ نَجسٌ فَلْيَتَنَجَّسْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ بَارٌّ فَلْيَتَبَرَّرْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ مُقَدَّسٌ فَلْيَتَقَدَّسْ بَعْدُ»". الأمر المعطى هنا لا يشير إلى أي نبوءة معروفة، بل إلى كل النبوات المحتواة في هذا السفر. هناك تضاد متعمد مع الأمر المعطى لدانيال: "أَخْفِ الْكَلاَمَ وَاخْتِمِ السِّفْرَ إِلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ" (دانيال ١٢: ٤). ففي الرؤيا يقول: "لاَ تَخْتمْ عَلَى أَقْوَال" بينما يقول لدانيال: "اخْتِمِ السِّفْرَ". وسبب هذا الطلب لدانيال هو أن وقت النهاية بعيد. أما مع يوحنا فما كان يجب ختم الأقوال لأن الوقت قريب. عودة الرب الفورية كانت بلا شك متوقعة من قِبل المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى. منذ إعلان الرجاء صار يُعتبر وقت النهاية وشيكاً وقريباً وكأنه في متناول اليد. نحن نعيش في وقت النهاية ولذلك فإن النبوءة تبقى مفتوحة. ما كان قد خُتم مفتوح الآن أمام ناظرينا ولأجل أن نستفيد ونتعلم.

ثم تظهر لنا الآية ١١ الحالة الدائمة وهي ثبات الحالة عند مجيء المسيح. هناك جماعتان سيئتان مقابل جماعتين جيدتين. الظالمون جماعة تتناقض مع الأبرار، والنجسون في تضاد مع المقدسين. العادات تُرسخ الشخصية، والشخصية تحدد المصير. كل واحد يسلك حسب حقيقة طبيعته؛ والجميع يتفقون على هذا الرأي. الموت، أو مجيء المسيح، يُثبت الشخصية والمصير. فالأشرار يبقون أشرار، ويستمرون في زيادة شرهم. والأبرار يبقون أبراراً ويمارسون البرّ. في الأبدية تتحد الخطيئة بالمعاناة، كما تتحد القداسة بالسعادة. وحتى في بحيرة النار الهالكون من البشر والملائكة يتصرفون بحسب طبيعتهم؛ فتستمر الخطيئة والألم دونما توقف.

المتكلم الإلهي:

١٢، ١٣- "«وَهَا أَنَا آتي سَريعاً وَأُجْرَتي مَعي لأُجَازيَ كُلَّ وَاحدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ. أَنَا الأَلفُ وَالْيَاءُ، الْبدَايَةُ وَالنّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخرُ»". من جديد يعلن المتحدث الإلهي يقين وقرب عودته، ليس فقط لتشجيع القديسين الذين ينتظرونه ويترقبونه (الآية ٧)، بل مع مكافآت، متعددة ومتنوعة، يمنحها بحسب نوع ومقدار وطبيعة الخدمة المؤداة. حتى أدنى خدمة ستنال مكافأتها بما يلائم على يد الرب نفسه عندما يأتي وليس في الهواء من أجلنا (١تسا ٤: ١٧)، بل إلى الملكوت معنا. الملكوت ليس بيت الآب الذي ننتقل إليه في البداية (يوحنا ١٤: ٢، ٣)، بل هو المجال والنطاق الذي فيه تُمنح المكافآت بحسب خدمة كل شخص وأمانته.

بعد ذلك يأتي إعلان الألقاب الإلهية. فمع قرب انتهاء السفر، وكما في البداية، نجد نفس الألقاب العظيمة يتكلم المسيح عنها. ما من أحد آخر يستطيع ادعاءها سواه (قارن مع الأصحاحات ١: ٨؛ ٢١: ٦؛ ١: ١٧).

أساس حق البركة للمدينة:

١٤، ١٥- "طُوبَى للَّذينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَة الْحَيَاة وَيَدْخُلُوا منَ الأَبْوَاب إلَى الْمَدينَة، لأَنَّ خَارجاً الْكلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَان، وَكُلَّ مَنْ يُحبُّ وَيَصْنَعُ كَذباً". يأتي هنا القول: "طُوبَى للَّذينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ". ولكن معظم النقاد يعتبر أن الترجمة الأخرى أن "طُوبَى للَّذينَ يُطهّرون ثيابهم" لأن تطبيق الوصايا ليس بالأساس لنيل الحياة الأبدية. فهي عطية مجانية من الله لكل الذين يؤمنون (يوحنا ٥: ٢٤). انظر أيضاً رؤيا ٧: ١٤ حيث يُستخدم نفس التعبير تقريباًَ. في كلتا الحالتين ثياب المفديين يمكن تطهيرها فقط بدم الخروف. نلاحظ أن الجماعات التي يُحظّر عليها دخول المدينة قد سبقتها ال التعريف. ليس غير الأتقياء بشكل عام، بل جماعات محددة معينة من البشر هم المعنيين. ونلاحظ أن القائمة هنا هي نفسها الواردة في ٢١: ٨. فهنا نعلم أن الأشخاص الذين يُمنعون من دخول المدينة المقدسة- مدينة الذهب- هم نفس الأشخاص الذين يخبرنا الأصحاح السابق (الأصحاح ٢٢: ١٥) أنهم في بحيرة النار؛ وهذا ما يخبرنا به أيضاً (٢١: ٨). ففي كلا القائمتين نعرف أن ارتكاب خطية معينة ضد الله، وضد الآخرين، هي الصفة المميزة لهؤلاء الخطأة الذين يتم تعدادهم.

يسوع في وقار شخصه؛ يسوع في علاقته مع إسرائيل والكنيسة:

١٦، ١٧- "«أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكي لأَشْهَدَ لَكُمْ بهَذه الأُمُور عَن الْكَنَائس. أَنَا أَصْلُ وَذُرّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْح الْمُنيرُ». وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَن: «تَعَالَ». وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ». وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْت. وَمَنْ يُردْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً". يثير إعجابنا استعمال يسوع للضمير "أنا" هنا عند ختام الإعلانات العديدة المتعلقة بالنعمة والمجد والدينونة والتي يبرز فيها شخصه العظيم. ها قد انتهى الإعلان وما تبقى سوى إضافة اللمسات الختامية على هذا السفر اللافت. ومن غير يسوع، الذي بدأه، يجدر به أن ينهيه؟ وسيط التواصل بين يسوع ويوحنا هو ملاك (قارن مع ١: ١). "هَذه الأُمُور" كان يجب إعلانها في الكنائس. ما هي هذه الأمور؟ إنها كل محتويات هذا السفر؛ ولا يمكن حذف شيء منها.

"أَنَا أَصْلُ وَذُرّيَّةُ دَاوُدَ". وهذه الـ "أنا" هنا توكيدية حازمة. فهنا يؤكد على علاقته بإسرائيل كملك. لكونه إله فهو "أَصْلُ دَاوُدَ"، ولكونه إنسان فهو "ذُرّيَّةُ دَاوُدَ". إنه رب داود وابن داود. تاج إسرائيل على رأسه بفضل ماهيته وشخصه وبفضل الوعد والنبوءة. لقد وُلد ملكاً على اليهود (متى ٢: ٢). ومات ملكاً على اليهود (متى ٢٧: ٣٧). وسيحكم كملك على اليهود (زكريا ٩: ٩).

إلا أنه يضيف أن نصيبنا الخاص، الذي يربطنا بنفسه بعلاقة محببة وخاصة، هي أنه "كَوْكَبُ الصُّبْح الْمُنيرُ". قبل أن يدنو اليوم الألفي، وقبل أن تنهي الدينونات التي تسبقه العالم النبوي، وأيضاً قبل أن ترفع أمجاد الملكوت الأرض نحو السماء، يظهر يسوع ككوكب الصبح المنير لعروسه. ولكونه شمس البر فإنه يشرق على إسرائيل بروعة الظهيرة (ملاخي ٤: ٢)، ولكن هذا سيلي مجيئه من أجلنا. النجم أو الكوكب هو في الصباح الباكر، ويسبق شروق الشمس على الأقل بسبع سنوات.

إعلانه، ليس عن مجده، بل عن نفسه، ولكونه عريس العروس، يُحرك في الحال عواطف المحبة لديها. ينتعش قلبها. لقد أشعل يسوع النار في نفسها وهذه لا يمكن أن تنطفئ. فهي تسمعه قائلاً: "أنا كَوْكَبُ الصُّبْح الْمُنيرُ". إنه صوت حبيبها، ولا يلبث النداء أن يجد صداه بالتجاوب في أن "الرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَن: «تَعَالَ»". أول جملتين في الآية ١٧ هما الجواب على آخر جملة في الآية ١٦. لدينا ليس فقط تجاوب الروح، بل العروس أيضاً تنضم إلى الروح. وليس الروح في العروس، بل كلاهما يتحدان في مناداته أن "تعال". ثم يُدعى كل مستمع للانضمام إلى هذا الفرح، "تعال". هذا هو اليوم الذي تنطلق فيه صرخة منتصف الليل: "ها هو العريس"، وهو يوم النعمة، يوم رحمة الله الطويل الأناة. ولذا تنطلق الآن الدعوة إلى كل نفس عطشى. هل من متعب أو خائب؟ ها هنا كلمة تسد حاجات الجميع: "مَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ". فها نجد كلمة توجه إلى كل نفس راغبة على الأرض، فما من أحد منسي: "مَنْ يُردْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً".

تحذير مهيب:

١٨، ١٩- "لأَنّي أَشْهَدُ لكُلّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُوَّة هَذَا الْكتَاب: إنْ كَانَ أَحَدٌ يَزيدُ عَلَى هَذَا يَزيدُ اللهُ عَلَيْه الضَّرَبَات الْمَكْتُوبَةَ في هَذَا الْكتَاب. وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذفُ منْ أَقْوَال كتَاب هَذه النُّبُوَّة يَحْذفُ اللهُ نَصيبَهُ منْ سفْر الْحَيَاة، وَمنَ الْمَدينَة الْمُقَدَّسَة، وَمنَ الْمَكْتُوب في هَذَا الْكتَاب". لابد من الانتباه بمهابة إلى هذا التحذير كلما قرأنا هذه الكلمات أو سمعناها. إنه تحذير جدي صارم يوجهه الرب. إنه ينبه إلى الخطيئة الفظيعة، والتبعات المهلكة التي تتعرض لها كل نفس تضيف أو تنقص من هذا السفر الموحى به شفهياً. التلاعب بكلمات النبوءة في هذا السفر يعني الوقوع تحت ضربة إلهية. الويلات في السفر، وهي عديدة ومتنوعة، ستصيب وبعدل كل من يضيف على كلماته. وكل من ينقص من كلمات النبوءة سينقص من نصيبه من شجرة الحياة ومن المدينة المقدسة. وهكذا فإن الله يصون السفر الذي يفوق كل الأسفار الأخرى في القانون المقدس والذي يتعرض أكثر من غيره للإهمال والازدراء.

رسالة الرب الأخيرة إلى الكنيسة:

٢٠- "يَقُولُ الشَّاهدُ بهَذَا: «نَعَمْ! أَنَا آتي سَريعاً». آمينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ". في المقطع السابق، يتكلم الرب بصيغة المفرد "أنا". وهنا نجد تحول إلى المفرد الغائب. ولكن في كلتا الرسالتين المسيح هو الذي يشهد. "هَذه الأُمُور" تعني كل ما هو في سفر الرؤيا. ولذا فإن كل محتويات هذا السفر يشهد لها الرب نفسه.

"نَعَمْ! أَنَا آتي سَريعاً". هذه هي الرسالة الأخيرة الموجهة إلى الكنيسة. إنها آخر كلمة من السماء إلى أن يأتي. كان العهد القديم قد اختُتم بإعلان مجيئه. والعهد الجديد يُختتم بالإشارة إلى نفس الحدث العظيم. ولكن بينما المجيء سيكون في الهواء (١ تسا ٤) كما عودته إلى جبل الزيتون (زكريا ١٤)، إلا أن الرابط مختلف تماماً. النعمة والدينونة سيميزان هذين المجيئين كل على حدا، أو بالأحرى إلى مرحلتي المجيء الواحد. العهد القديم يُختتم بلعنة. والعهد الجديد يُختتم بمنح البركة والنعمة. قارن بين آخر آيتين في السفرين.

"نعم" هي تأكيد، وتأكيد مطلق، على الحقيقة التي يقولها الرب، "أَنَا آتي سَريعاً". هي ذي آخر كلمة نُطق بها. ما برح صامتاً حوالي ألفي سنة حتى الآن. ولكن الحدث الذي تصلي لأجله الكنيسة وترجوه هو على وشك أن يتحقق. مجيء الرب وشيك قريب. لقد مر وقت فيه تعب وانتظار ومعاناة، ولكن مجيئه، أو حضوره، سيحول عتمة الليل إلى فرح وسعادة أبدية. ظلال الزمن تمر، ويوم الأبدية آتٍ، حيث لا دموع ولا ظلام. فاصبروا أيها المتعبون. ها إن الفرج يأتي في الصباح. إننا نترقبه هو، وليس تحقيق النبوءة. هل مجيئه حقيقة في نفوسنا؟ هل يؤثر على حياتنا، ويصوغ سلوكنا، ويمنحنا الحماس ونحن نسلك في طريق الحياة؟

صوت تجاوب الكنيسة:

٢٠- يجيب يوحنا، بصفته ممثل عن الكنيسة، على إعلان الرب. لا شك أن كلماته كانت تعبيراً عن رغبته الذاتية. فالرائي الطاعن في السن قد شاهد رؤى؛ وكان المتفرج والممثل في مشاهد جليلة مهيبة، ولكن لدى الجميع ثقة بتحقق هذه الحقيقة العظيمة: العودة الشخصية للرب. هذا أعلنه ذاك الآتي شخصياً، فابتهج قلب الرسول العجوز. وبتحريك الروح القدس الحاضر دائماً وأبداً لم يعبر عن مشاعره الذاتية فحسب بل نطق بلسان الكنيسة جمعاء قائلاً: "آمينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوع". في بداية السفر استخدم يوحنا القول: "نَعَمْ آمِينَ" (١: ٧)، وهما صيغتا تأكيد باللغة اليونانية والعبرية معاً. وهنا نجد أنه يفصلهما. الرب يؤكد مجيئه الذي لا شك فيه، "نَعَمْ! أَنَا آتي". والكنيسة تبتهج بيقين كلمته وتقول: "آمينَ. تَعَالَ". هل تخفق هذه الكلمة؟ مستحيل. هل سيفي الرب وعده بالمجيء لشعبه؟ بالتأكيد. وسوف يأتي "سَريعاً". قد يبدو أنه سيأتي بعد زمن طويل. ولكن بحسب تقدير الله إن الرب ليس سوى على بعد يومين (٢ بطرس ٣: ٨). "لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ". الاضطهاد والآلام الذي سيعاني منها الشعب، والخطايا والأحزان التي ستبتلي بها الأرض، التخبط والعجز والحيرة التي ستعاني منها الكنيسة المعترفة تنادي طالبةً محرراً ومخلصاً. وسرعان ما سيأتي يسوع المسيح نفسه. وإننا ننتظر هذا الآتي باهتمام. من أجلنا مات، ومن أجلنا يحيا، ومن أجلنا يأتي. وها إن كنيسة الله تهتف باتقاد أن "آمينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ".

بركة ختامية:

٢١- "نعْمَةُ رَبّنَا يَسُوعَ الْمَسيح مَعَ جَميع القديسين". هذه هي القراءة الأفضل والتي تبناها الجميع تقريباً. وهذه تتلاءم مع قلب المسيح. فرضاه يستقر على "جَميع القديسين". الأقوياء والضعفاء، الآباء والأبناء، جميعهم متساوون في نعمته. بغض النظر عن طرق شعبه، نعمته تقع على الجميع من خلال السحب وشروق الشمس، في الليل وفي النهار، في جميع الأوقات والظروف، ونعمته الثابتة الراسخة تؤيدهم وتقويهم. إنها نعمة من البداية إلى النهاية، من العجز والانهيار إلى التجدد الكامل.

وهكذا نأتي إلى ختام التعليق على هذا السفر الرائع الذي كان مصدر بركة وفائدة شخصية. وإننا على يقين أنه عندما يأتي سيجد أناساً مستعدين لاستقباله وتحيته.

"يَقُولُ الشَّاهدُ بهَذَا: «نَعَمْ! أَنَا آتي سَريعاً». آمينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ".


١. من جديد نرى فكرة انعدام اللعنة في زكريا ١٤: ١١ ما يشير إلى زوال اللعنة من أورشليم الأرضية.

٢. "اسْمُهُ عَلَى جبَاههمْ"- وفي هذا انعكاس كامل عنه (١ يوحنا ٣: ٢؛ قارن مع ١٣: ١٦). "رموز سفر الرؤيا باختصار"- ص ٢١.

٣. شهادة الملاك ليست على عظمة ومجد الإعلانات، بل على موثوقيتها وصدقيتها. من اللافت جداً أن هذا السفر قيم جداً خاصة بسبب حقيقيته.

٤. الكتاب، أو السفر أي كل سفر الرؤيا، وهذا يتكرر سبع مرات في الجزء الأخير الختامي (انظر الآيات ٧، ٩، ١٠، ومرتين في ١٨، ومرتين في ١٩). الإعلان يكتمل من ناحيتي الوعود والتهديدات. ولا إضافة على ذلك.

٥. يقول هلنغنفيلد: "لو كان هذا اليوحنا مجهولاً، واختفى اسمه من التاريخ، ولم يبقى له أثر، لما كان باستطاعته أن يوجه أوامر باسم المسيح والروح القدس إلى السبع الكنائس".

فهرس بأهم المفردات الواردة في سفر الرؤيا

يُدعون Are termed
دنيء، خسيس abject
طرده dislodgment
حُبل بها conceived
بطريقة تدبيرية من الله providentially
خالية Destitute
حديث / خطبة Discourse
حشو في الكلام Pleonasm
إعالتها / ازدهارها nourished
القوت nourishment
تشتت Dispersion
متقاربة Contiguous events
أقصد Viz..
مرسوم Sketched
مشهد Prospect / spectacle
استدلالي Circumstantially
بداية Threshold
حكم / نفوذ sway
الابن الذكر Man-child
الأحمق Fond
سلطان / صولجان Scepters
شديد الشحوب Lurid
نسل Seed
ماكرة Subtle
مهلك Malignant
طغيان / استبداد Despotism
محرّض Instigator
شرك Snare
نطاق Compass
ورع Devout
بالغ، بارز Preeminent
متعطش للدم Blood thirsty
تدابير Provisions
فترة فاصلة Parenthesis
لاحقة / تالية Subsequent
أُمّي Maternal
الألم Anguish
موضوع Object
مانحاً Imparting
شعار Badge
عصبة Fillet
طاغية Despotic
لقب Appellation
رمز / رمزي Emblem / Emblematic
فعلي Virtual
قسوته النهمة Insatiable cruelty
يحقق Compass
ماكرة Subtle attempt
نائب Vicegerent
مشد / مشاهد Spectacle / Spectactor
أُحبطت Frustrated
متطابق Identify
نظير Counterpart
لب Kernel
فضائل Merits
شذا Fragrance
فعالية Efficacy
التجديف Blasphemy
عصا Rod
قصبة Reed
مجرى Stream
جزائي Retributive
مركبات Chariot
خصم Antagonist
تابع / خاضع Subordinate
قبل أن Ere
هاوية Pit
حملات Expeditions
هجومية Offensive
ضلال / تضليل Delusion
ضربات Plagues
دمار Devastation
مقدمة Forefront
دقيق Minute
كامنة Couched
محفورة Graven
مشيئة Fiat
تكرس لله Appropriation
مثل موسى Moses-like
سحابة جنائزية Funeral pall
يُقال أنها Stated to be
كل الزمن الآتي All time to come
على مرأى كامل In full view
يرى / يرون Behold it
شخص رفيع المقام Dignitary
أبداً / كلا nay
مرتزقة Mercenary
مهلك / مدمر Malignant
خداع Deceiving
أبدي Perpetual
قاسية Relentless
الاختتامية Closing
نفحات Blast
مضطرب Seething
يشجب / يُندد بـ Denounce
المكرسين له Devoted
متراس Bulwark
يغري Lure
عجلة Haste
مشهد Scene
سباعية Septenary
الإيحاء / مشورات Oracle / oracles
مهيب August
شارة Badge
تردد صدى Echo
نبرات Accent
طول أناة Long-suffering
عوائق / قيود Checks
أنباء Tidings
يستأنف Recommence
بشكل واضح / جلّي Unmistakably

الأصحاح ١

سلسلة نسب الملك وولادته

"كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ". يبدأ متى إنجيله بذكر سلسلسة نسب ربنا من إبراهيم إلى يوسف. ولكن هذه لم تكن سلالة الدم. لقد كانت السلالة الملكية, وحملت معها الحقوق بالعرش. فكابنٍ لإبراهيم, ربنا هو النسل الموعود الذي ستتبارك به كل أمم الأرض (تكوين ٢٢: ١٨). وكابنٍ لداود, هو الملك الذي سيملك بالبر على عرش داود (أشعياء ٩: ٦, ٧). إن تحدره الحقيقي من داود كان من خلال أمه, مريم, التي كانت ابنة هالي ١, ولكن تزوجت من يوسف قبل أن يُولَدَ ابنُها القدوس, وهكذا تُعطيه حقاً شرعياً كاملاً بالعرش, رغم أن اللعنة التي على يَكُنْيَا (إرميا ٢٢: ٣٠) لن تحول دون تملّكه له لكون كان فعلياً ابن يوسف.

لسنا في حاجة لأن نقتبس كل سلسلة النسب هنا لأن الطالب المجتهد يمكن أن يُشير إليها بيسر. نلاحظ الآية ١٧: "فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً ومن دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً". هذه الآية تلخّص كل سلسلة النسب, فتقسمها إلى ثلاث مجموعات يتألف كل منها من أربعة عشر جيلاً. لكي يفعل ذلك, فقد حذف أسماءً محددة، وفي المرحلة الأخيرة ينبغي اعتبار اسم مريم هو الجيل ١٤, ما لم نعتبر, كما اقترح البعض, أن ولادة يسوع هو الجيل ١٣ والمجيء الثاني للمسيح هو الجيل ١٤.

لفت آخرون الانتباه إلى وجود أسماء خمس نساء في اللائحة, وهذه ما كان لأي مؤرخ يهودي أن يرغب في الاعتراف بها بشكل طبيعي. وهؤلاء هن: ثامار, التي يدون الأصحاح ٣٨ من سفر التكوين قصتها المخزية؛ وراحاب المومس, الأممية, والتي صارت زوجةً لأمير إسرائيلي رغم أنها امرأة ذات شخصية شريرة؛ وراعوث المؤابية, والتي هي أيضاً غريبة من وسط أممي, دخلت هذه السلالة الملكية فقط من خلال زواجها حسب العادات من بوعز, أقرب أقرباء زوجها السابق المتوفي؛ وبتشبع, التي تُذكر تحديداً على أنها المرأة "التي لأوريا", ما يُذكّرنا بفشل داود المريع؛ وأخيراً, وأحلى الجميع مريم العذراء الناصري, المرأة التي لطالما حاول اليهود غير المؤمنين أن يطعنوا باسمها الجميل, لأنها صارت أُمَّ يسوع بشكل خارجٍ عن الترتيب الطبيعي.

يا لها من قائمة أسماء! لكي تُخبرنا عن النعمة التي في قلب الله الذي, في سيادته, اختار أن يُدخل هؤلاء النساء الخمس إلى سلالة الوعد. إن اسم تامار غير العفيفة, وراحاب, وبتشبع, تُخبرنا عن الرحمة التي تصل إلى أكثر الناس إثماً وفساد خُلقٍ. وإن اسم راعوث الملكي والمكرس, والذي هو غريب مع ذلك, يُشير إلى النعمة الفاعلة رغم الحظر المفروض على الموآبيين (تثنية ٢٣: ٣-٦). وعندما نفكر باسم مريم الأم العذراء فإننا نعبد الله الذي أعطانا ابنه القدوس والمبارك من خلالها كأداة بشرية.

نأتي الآن لنتمعن في ولادة الملك, التي نقرأ عنها في الآيات ١٨ إلى ٢٥:

"أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً. وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هَذِهِ الأُمُورِ إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا). فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ".

"قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا". إن الكتاب المقدس واضحٌ بخصوص الولادة العُذرية ليسوع. كانت والدته, مريم, مخطوبة ليوسف, ولكنها لم تكن قد تزوجت بعد به عندما علم أنها كانت ستصير أماً من خلال تدخل مباشر من الروح القدس بمعزلٍ تماماً عن التوالد الطبيعي. "أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً". لو لم تكن مريم عذراء, فإن العقوبة في مثل حالتها, بحسب الناموس, كانت الموت. لقد فكّر يوسف بأن ينقذها من هذا. "لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ". إن السر العظيم للتجسد قد كشفه الملاك ليوسف. "وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ". إن "يسوع" هو الإسم في اليونانية, ويقابله "يشوع" في العبرية, والإسم يعني "يهوه المخلّص". "وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ". هذه عبارة مميزة في هذا الإنجيل, تُستخدم غالباً لأن الهدف أو الفكرة الرئيسية عند الكاتب المُلهَم هي أن يُظهر أن يسوع هو المسيا الموعود في الأنبياء. "وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ .... اَللَّهُ مَعَنَا". لقد تنبأ أشعياء بهذا قبل حوالي سبعة قرون من تحقيقه. الإسم المُعطى هو إعلان عن الإتحاد الأسراري الغامض بين اللاهوت والناسوت في ابن العذراء (أشعياء ٧: ١٤). "أَخَذَ امْرَأَتَهُ". لقد تزوج بها رغم حالتها, لكي تأخذ مكانها في إسرائيل كامرأة متزوجة قبل أن تصبح أمّاً. "وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ". إطاعةً منه لأدقّ التفاصيل, بتسمية الطفل "يسوع"، برهن يوسف على حقيقية إيمانه.

إن الاسم "يسوع" كما أشرنا سابقاً, هو المقابل العربي للكلمة اليونانية ( Iesous ) والتي هي المرادف للكلمة العبرية ( Joshua ) - "خلاص الرب" (خلاص يهوه). حمل كثيرون هذا الإسم (العبري) قبل مجيء المخلّص إلى هذا العالم, ولكن هذا الإسم ما كان شائعاً بالشكل اليوناني. ونقرأ عن "يَسُوعُ الْمَدْعُوُّ يُسْطُسَ" في كولوسي ٤: ١١. ولكن طوال كل القرون ومنذ تجسد, وموت, وقيامة ربنا المبارك, برز ذلك الإسم متميزاً عن أي إسمٍ آخر. بالنسبة للمسيحيين, إنه اسم فوق كل اسم تجثو له كل ركبة. وإذ اتخذ هذا الاسم هنا على الأرض, فإنه (الرب) سيحفظ هذا الاسم "يسوع" إلى كل الأجيال الآتية. إن الآيتين الساطعتين اللتين أعلنتا مجيئه المستقبلي (أعمال ١: ١٠, ١١) تحدثتا عنه على أنه "يَسُوعَ هَذَا" (أي يسوع نفسه). وفي رؤيا ٢٢: ١٦ يقول: "أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهَذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ". وتجاوباً مع رسالته الأخيرة من السماء, أجاب الرائي (يوحنا): "«نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً». آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ" (رؤيا ٢٢: ٢٠). ولكن هذا الاسم سنعرفه طوال حياة أبدية سعيدة, إضافة إلى أننا نعرفه هنا على الأرض على أنه هو مخلّصنا نفسه, يسوع, الذي افتدانا لله بدمه.


١. أعتقد أن هذا خطأ في الطباعة وليس خطأ عند هنري أيرونسايد. فهالي هو اسم والد يوسف (لوقا ٣: ٢٣), أما مريم العذراء فهي ابنة يواكيم وحنة [فريق الترجمة].  

الأصحاح ٢

حفظ الملك

لقد تم التنبؤ عن المسيا بأنه سيأتي بالبركة للأمم وأيضاً لإسرائيل. إن سمعان الشيخ لخّص هذه الوعود عندما أعلن أن يسوع يجب أن يكون "نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا ٢: ٣٢). إن الحادث المذكور أمامنا هو علامة أو دلالة على ذلك.

هناك أفكار وأساطير غير كتابية ارتبطت مع زيارة هؤلاء الحكماء الثلاثة (المجوس) القادمين من المشرق. خلافاً للصور التي نراها عموماً, فهم لا يُدعَون ملوكاً, بل مجوس, أي حكماء, الذين كرّسوا أنفسهم لدراسة المعارف القديمة. ولا شك أنهم كانوا على معرفة نوعاً ما ببعض النبوءات المحددة, مثل التي لبلعام على الأرجح (الذي كان من الشرق) ولدانيال, الذي كان سفره قد كُتِب جزئياً بالعبرية والجزء الآخر باللغات الكلدانية. علينا أن نتذكر أيضاً أن كل العهد القديم كان قد تُرجم إلى اليونانية منذ حوالي مئتي سنة, وهذه الترجمة, المعروفة باسم الترجمة السبعينية ( LXX ), كانت مُتاحة للدارسين في كل أرجاء العالم وكانت موضع دراسة, ولا شك, من قِبَل كثير من الطلاب الأمميين للمعارف الدينية المقدسة. ليس لنا الحق بأن نقول أنه كان هناك فقط ثلاثة من المجوس. لعلّ هذا تم الاستدلال عليه من خلال التقدمات الثلاث التي ذُكِرت (٢: ١١). وعلى الأرجح أيضاً أن محاولة رؤية زيارة هؤلاء كتحقيق للمزمور ٧٢: ١٠ هي وراء الفكرة بأنهم كانوا ملوكاً مشرقيين. ولكن المزمور ٧٢ من المفترض أن يتحقق في المجيء الثاني للمسيح.

نقرأ:

"وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاء الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ». حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: «ﭐذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ». فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (الآيات ١- ١٢).

إن الظروف المرتبطة بميلاد ربنا في بيت لحم, مدينة داود, نجدها في تفاصيل كبيرة عند لوقا. يكتفي متى بالقول أنه وُلِد في تلك المدينة في أيام هيرودس الملك. وهذا يعطينا تأريخاً لميلاد المسيح على أنه قبل التدوين المقبول عموماً بعدة سنوات. فقد وُلِد قبل الميلاد بأربع سنوات على الأقل. هذا السؤال, على كل حال, هو أحد الأسئلة التي قدّم لها المؤرخون الكثير من الأفكار والدراسة, ونظراً لأنهم لا يزالون مختلفين في تحديد التاريخ الدقيق بالضبط, فلا حاجة لنا لأن نناقشه هنا.

لقد علِم الرجال الحكماء (المجوس) بميلاد الملك الموعود عن طريق الإعلان الإلهي, ما لم يكونوا قد حسبوا زمن النبوءة العظيمة التي في دانيال ٩, ولذلك شعروا أنه كان حاضراً في إسرائيل. وإذ أرشدهم نجم, فإنهم جاؤوا يستعلمون عن المكان الذي يمكن أن يوجد فيه. كان سؤالهم: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟" وكانوا في غاية الذهول من موقف ذلك البائس الطاعن في السن الذي كان يتربع على العرش في ذلك الزمان- أحد أكثر الملوك شراً الذين حكموا البلاد. لقد دعا إلى اجتماع مع رؤساء الكهنة والكتبة, واستعلم منهم عن جواب لتساؤل الزوار المشرقيين. وبدون تردد دلّوه على النبوءة الواردة في ميخا ٥: ٢ حيث اقتبسوا من الترجمة السبعينية فقرؤوا: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ". لقد كانوا يعرفون الكتاب المقدس؛ ومع ذلك فإن الأحداث التي تلت برهنت أنهم كانوا على غير استعداد ليرحبوا بذلك الذي كانت الكتابات المقدسة تتحدث عنه.

أما هيرودس, وقد اعتزم في قلبه أن يُهلك الملك الطفل- إن كان قد ظهر فعلياً للتو- فقد تباحث مع المجوس عن زمن ظهور النجم الغامض للمرة الأولى؛ ثم طلب إليهم أن يذهبوا إلى بيت لحم, وإذا ما وجدوا الطفل, أن يعودوا إليه ويخبروه, لكيما يذهب هو أيضاً فيقدم الاحترام والإكرام له. وفي الواقع, كانت نيته العكس تماماً.

وإذ يقودهم النجم الذي عادوا يرونه من جديد وهم يغادرون أورشليم, لم يجدوا أية صعوبة في تحديد مكان البيت الذي كانت العائلة المقدسة تقيم فيه آنذاك. من الواضح أنه من الخطأ الافتراض أن مريم ويوسف مع الطفل كانوا لا يزالون في الإسطبل حيث وجدهم الرعاة. لقد كانوا الآن في مسكن أكثر ملاءمة. ولا شك أن أسابيع أو حتى أشهر كانت قد انقضت على ولادة يسوع.

وإذ رآه المجوس سجدوا له وقدموا له هداياهم التي كانوا قد انتقوها بعناية: الذهب, الذي يدل على الطبيعة الإلهية والبرّ؛ واللبان, الذي يُوحي بعطر كمال حياته البشرية؛ والمر, الذي يشير مُقدَّماً إلى موته الكفّاري. لقد راودت مريم أفكار كثيرة وهي ترى هؤلاء الحكماء المشرقيين يقدمون الإكرام والإجلال لابنها القدوس. لا يُذكَر يوسف هنا. ولعلّه لم يكن موجوداً خلال أولئك الغرباء. "إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ" أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَف الحكماء الثلاثة فِي طَرِيقٍ أُخْرَى.

منذ بداية طفولته، كان الطفل القدوس المسيح يسوع بطريقة خاصة تحت حماية الله، لأنه, ولو كان الله متجلّياً في الجسد, فإنه لم يكن معفياً من الآلام البشرية. لقد كانت الملائكة ترعاه وتحفظه منذ سنيه الأولى كحرس سماويين. لقد أعلنوا ولادته, تماماً كما تنبأ جبرائيل بتجسده, وكان الله قد أرسلهم ليفسّروا سر حالة مريم ليوسف؛ ومن ثم أعطوه تعليمات بخصوص كل خطوة كان عليه أن يتخذها لحماية مهمته المقدسة من انتقام هيرودس والآخرين الذين قد يَسعون لقتله قبل أن يحين الزمن المحدد. لقد خُلِقت الملائكة بالكلمة الأزلي, الابن, الذي صار إنساناً في ملء الزمان لأجل خلاصنا. لقد كانت مسرتهم أن يعلنوا مجيئه إلى العالم وأن يحرسوه وأن يخدموه في حياة الاتّضاع والخزي هنا على الأرض. لدى مغادرة المجوس كان الملاك هو الذي تحدث إلى يوسف في الحلم (وهذا يذكّرنا بحد ذاته بالطريقة التي كان الله يكشف بها غالباً عن إرادته للناس, كما في أيوب ٣٣: ١٤- ١٧). لقد أُمِر يوسف أن "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ", حيث سيبقى هناك حتى تأتيه تعليمات أخرى, وذلك من أجل حماية الطفل من غضب هيرودس الذي كان عازماً على ألا يسمح لأحد بأن يعيش ممن يمكن أن ينازعوه على حقوق عائلته في سيادة العرش.

بناءً على أمر الملاك "قَامَ (يوسف) وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ". وكان على الله أن يؤمّن ملجأً هناك حيث ينمو الطفل القدوس في سلام وأمان. وبقيت العائلة, مع يوسف, في مصر إلى أن جاء خبر بأن هيرودس قد مات, "لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي»". هذه الكلمات كان قد قالها الرب على لسان هوشع (١١: ١) وكانت تشير بالأصل إلى إسرائيل كشعب. والآن كانت لتتحقق للمرة الثانية في ذاك الذي جاء ليفتدي إسرائيل. لقد نـزل, كما عائلة يعقوب, إلى مصر وأُخرِج منها في الوقت الذي شاءه الله.

إن رد فعل هيرودس على رفض الحكماء (المجوس) العودة إليه بخبر كان رهيباً. ففي حمأة غضبه وحنقه, أمر بذبح كل الأطفال الأبرياء بعمر سنتين وما دون, الذين كانوا في بيت لحم, آملاً بذلك أن يُهلك ذاك الذي وُلِد ليكون ملك اليهود.

"حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ". و"إرميا" هي ترجمة للكلمة اليونانية ( Jeremiah ). النبوءة المُشار إليها توجد في ٣١: ١٥: "«صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا»". بالأساس, هذه الكلمات يبدو أنها تشير إلى محنة الأمهات في اليهودية عندما سيُؤخذ أولادهم إلى السبي. ولكن المقطع يناسب أكثر وعلى نحو أكمل أن يعبر عن حزن أولئك الأمهات في بيت لحم اللواتي ذُبح أطفالُهن الرّضّع بلا رحمة. غالباً ما نجد في الكتاب المقدس هكذا تطبيقات ذات وجهين.

"فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ". ففي الوقت المحدد المعين جاءت كلمة إلى يوسف في حلم كما في السابق عبر زائر إلهي قائلة: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ". لقد كانت الطريق سالكةً الآن أمام الطفل يسوع وأمه ليعودوا إلى أرضهم. فقد مات هيرودس, والآن سيكون عليه أن يقدّم حساباً أمام الله عن حياة الجريمة والقسوة التي عاشها. فقام يوسف, و"أَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ". إن طاعة يوسف لكل رسالة من الملاك لافتة للانتباه وجديرة بالثناء. فقد كان يُذعن, وبدون طرح أسئلة, وفي الحال، لكل أمر كان يُعطى له، بهذه الطريقة الفائقة الطبيعة. لا نعرف إلا القليل عن حياة وخبرة هذا الرجل, الذي كان قد اختير ليكون الأب المربّي ليسوع, ولكن من هذا القليل الذي نعرفه ندرك أنه كان مطيعاً جداً لكلمة الرب. إنه يعطينا مثالاً ثميناً قيّماً أعظم ما يمكن عن الطاعة المطلقة لمشيئة الله, حتى تحت وطأة أشد الظروف صعوبة وتعقيداً وإرباكاً.

"وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ". كان هيرودس قد قتل معظم ذريته أنفسهم, ولكن أرخيلاوس سُمح له بالعيش, وكان يرغب بإعطاء المُلك له. لقد كان يوسف يخشى أن يكون هذا فاسداً شريراً كمثل أبيه الأثيم الرديء؛ ولذلك فقد تردد أن يضع عائلته الصغيرة تحت سلطة ورحمة ذلك الملك. ولكن الله، ومن جديد، وجّهه إلى الطريق السليم، إذ ظهر له في حلم وحذّره من الاستقرار في اليهودية, وحثّه على أن يعيش مُتنحّياً في "نَوَاحِي الْجَلِيلِ", "وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ". من إنجيل لوقا نعلم أن مريم كانت تعيش في الناصرة عندما ظهر لها الملاك جبرائيل لأول مرة (لوقا ١: ٢٦). وكان يوسف أيضاً يعيش هناك, ومن هذه المدينة انطلق كلاهما في الرحلة إلى بيت لحم, حيث وُلد يسوع (لوقا ٢: ٤). لذلك فقد رجعوا إلى بلدتهم الأم السابقة, وهناك نما يسوع وترعرع من الطفولة إلى الرجولية. وبسب إقامته هناك فقد دُعي ناصرياً, هذا الاسم الذي كان وثيق الصلة مع الكلمة العبرية ( Netzer ) , والتي تعني "غصن" كما في زكريا ٦: ١٢, ونصوص كتابية أخرى. من ناحية أخرى قد تعني الكلمة أيضاً "المفروز" أو المنذور, كما في العدد ٦: ٢, لأن يسوع كان المنذور الحقيقي, المفروز لله منذ ولادته. من الواضح أن مدينة الناصرة أخذت اسمها من الكلمة ( Netzer ) , وعلى الأرجح بسبب نوع خاص من الأشجار أو البراعم التي كانت توجد في تلك المنطقة. ومن هنا, فقد كان يسهل ربط اسم "الناصرة" بالنبوءات المتعلقة بيسوع,  غصن أو برعم الرب (أشعياء ٤: ٢), وغصن من أصل داود (أشعياء ١١: ١).  ولكن بما أن هذا الاسم قد أُطلق على يسوع من قِبَل أعدائه, فقد كان تعبيراً يدل على التوبيخ والتحقير- أما المسيحيون الأوائل, فقد تبنّوا هذا المصطلح بيسر وافتخروا به (أعمال ٢٤: ٥).

الأصحاح ٣

السابق، ومسح الملك

قال ربنا أنه ما من امرأة على وجه الأرض قد أنجبت من هو أعظم من يوحنا المعمدان. وكانت عظمته تتجلّى, ليس فقط في طباعه الشخصية- رغم أنه يبرز كشخص متميز في تكرّسه لله, وإخلاصه للمبادئ وموقفه الثابت الذي لا يتزعزع ضد الإثم وفاعليه حتى عند ذوي المناصب العالية (متى ١٤: ٤)- بل في الواقع في أن الله قد اختاره ليذيع نبأ مجيء المسيح, مسيّا إسرائيل وفادي العالم (يوحنا ١: ٢٩- ٣١), ورسميّاً ليفتح له باب الحظيرة (يوحنا ١٠: ٢-٣) بتعميده والاعتراف به ممسوحاً من الله. إن الزمن لا يمكن أبداً أن يُعتّم أو يُخفت لمعانه كسابقٍ للمسيح, الذي سُمِح له أن يرى ويعرف ذاك الذي تنبأ عنه- هذا الامتياز الذي لم يحظَ به جميع الأنبياء السابقين.

إن لوقا يعطي تاريخ بدء خدمة يوحنا على أنه كان في السنة الخامسة عشر من سلطة طيباريوس قيصر, الذي تؤكد معظم المصادر الموثوقة أنه كان في عام ٢٦ م. لقد كرز في وادي الأردن, وفي أرض اليهودية. وكانت رسالته الخاصة هي أن يدعو شعب إسرائيل إلى التوبة. لقد "جاء... في طريق البرّ", ليؤكد مطالب الله القدوس والعادل من مخلوقاته وليؤكد أيضاً على أن الخاطئ الذي يدين نفسه فقط هو المؤهل لحضور الرب. هكذا خدمة نحن في حاجة ماسّة إليها اليوم حيث أن الناس قد فقدوا, ولدرجة كبيرة, الحس بإثمية الخطيئة. فعبثاً نكرز بإنجيل نعمة الله لأناس ليس لديهم إدراك لحاجتهم إلى تلك النعمة. ففقط عندما تستيقظ النفس لترى نجاستها ودنسها في عيني الله القدوس, عندها تصرخ قائلة: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ".

"وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ". إن برية اليهودية هي المنطقة الواقعة في شرق وجنوب أورشليم, وتشتمل على وادي الأردن الأدنى, والجانب الغربي من البحر الميت.

رسالة يوحنا كانت دعوة إلى إدانة الذات. لقد حثّ الناس على أن يقفوا إلى جانب الله ضد أنفسهم. "فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». وَيُوحَنَّا هَذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنّ وَﭐعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ".

في أشعياء ٤٠، نجد النبوءة التي تحققت في يوحنا المعمدان. لقد كانت رسالته: "أعدوا طريق الرب". لقد كان إسرائيل ينتظر بترقب، ولقرون، المسيا، ولكنهم ما كانوا مستعدين لاقتباله: فكانوا في حاجة إلى ذلك الإعداد للقلب الذي يأتي من مواجهة المرأة بصدق لخطاياه أمام الله.

إن ملابس يوحنا وطعامه يُذكران هنا. فعلى مثال إيليا, ظهر بملابس البرية وكان يعيش على طعام البرية. لقد كان رجل الأماكن المفتوحة الواسعة, والذي أضاف أسلوب حياته إلى قوة كلماته. يدور نقاش عند البعض فيما إذا كان يقتات فعلاً على الجراد أم أن هذه الكلمة قد استُخدمت للإشارة إلى قرون الخرنوب التي في شجرة الجراد. ولكن نظراً إلى أن الجراد يُؤكل اليوم وكان يُستَخدم كطعام (مثل القريدس المُجفَّف) منذ زمن سحيق, فيبدو أن يوحنا كان على الأرجح يستخدمه في طعامه. وفي إحدى المناسبات لفت يسوع الانتباه إلى اعتدال وتقشّف يوحنا المعمدان (متى ١١: ١٨؛ لوقا ٧: ٣٣).

وإذ كان يوحنا يعلن الحاجة إلى التوبة, جاء مستمعوه إليه من كل أرجاء الأرض, "وَﭐعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ". المعمودية بحدّ ذاتها لم تكن عملية استحقاق. لقد كان المقصود بها أن تدلّ على أن الشخص المُعتَمِد أقرّ بصحرائه الذاتية على أنها دينونة بسبب خطاياه. وبذلك فإنهم كانوا يدينون أنفسهم ويسوّغون لله (لوقا ٧: ٢٩). من الواضح أن يوحنا لم يقل أن معموديته كانت تحرّرهم من خطاياهم, وهذا نراه من كرازته المدوَّنة في يوحنا ١: ٢٩. لقد دلَّ الناس إلى يسوع على أنه الوحيد الذي به يمكنهم أن ينالوا الصفح عن الخطايا.

عندما جاء معلّموا الدين المتعجرفون, الذين لم يُبدوا أية دلالة على التوبة, مع البقيّة, يطلبون المعمودية, وبّخهم يوحنا بصرامة قائلاً: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟". لقد استخدم هذه اللغة القوية بسبب نفاق أولئك الشكليين المتدينين, الذين, بِشَرِّهم المخفي, كانوا يعلنون أنفسهم أولاداً للشيطان. كان الفريسيون يُعتَبرون الفريق المتزمّت في إسرائيل بينما الصدوقيين كانوا يُعتَبرون الجماعة الهرطوقية (أعمال ٢٣: ٨)؛ ولكنهما كلاهما كانا يستندان على برّهم المُتَخيَّل المزعوم ولذلك فما كانوا يرون حاجة للتوبة (رومية ١٠: ٣). لقد كان يوحنا يطالب هؤلاء بأن يقدموا ثماراً تليق بالتوبة قبل أن يمنحهم طقس المعمودية. في حين أن الأعمال الصالحة ليست لها قيمة في الحصول على الخلاص بمشَقَّة, فإن التائب الحقيقي يُبدي من خلال حياة جديدة صدق اعترافه وذلك بالتحوّل إلى الله والابتعاد عن خطاياه.

معلّموا الدين هؤلاء كانوا على استعداد لأن يجيبوا بسخط بأنهم كانوا أبناء إبراهيم, ولذلك ما كانوا يحتاجون إلى التوبة. وكان يوحنا يعرف ما يدور في خلدِهم فقال: "لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ". لقد كان أمراً شائعاً عند المغالين في الدين غير الروحانيين أن يستندوا إلى تقوى آبائهم وأجدادهم وأن يفتخروا بها. ولكن ما لم يكن لدينا نفس الإيمان الذي كان لديهم, فإن افتخارنا يكون فارغاً بلا طائل. فالله الذي خلق الإنسان من تراب الأرض كان ليستطيع أن يقيم أولاداً مؤمنين من الحجارة لو شاء ذلك. وأضاف: "وَﭐلآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ". كثيراً ما تُوضَع الفأس على ثمار الشجرة في أيامنا. ولكن المشكلة هي في الجذر. يجب أن يكون هناك إنسان جديد إن أردنا ثماراً لله. أن نضع الفأس على أصل الشجرة يدل على الدينونة الكاملة للإنسان الطبيعي ويُوحي بالحاجة الماسّة للولادة الجديدة.

"أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ". إن الرمز الخارجي الظاهري كان فقط لأولئك الذين يعترفون بتوبة صادقة نحو الله, والذين يلتجئون إليه طالبين رحمته لأنهم خُطاة بائسين عاجزين. عندما سيأتي المسيح سيُعمِّد بـ (أو في) الروح القدس والنار.

"ﭐلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التبن فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ". القمح هم أبناء الملكوت (متى ١٣: ٣٨). إنهم أولئك الذين سيعتمدون بالروح القدس. والتبن هم فاعلي الإثم الذين سيعتمدون بنار الدينونة. ما من شيء يمكن أن يؤكد ألوهية ربنا أكثر من إعلان يوحنا المتعلّق به وبمعموديته المضاعفة الجوانب. تخيّلوا مخلوقاً يعمِّد بالروح القدس. وحده القدوس هو الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك. وفي العنصرة يُعلن بطرس بدون تردد أنه (أي المسيح) هو الذي أرسل الروح (أعمال ٢: ٣٣). فهو الذي سيرسل الخُطاة غير التائبين إلى نار العقاب الأبدي (متى ٢٥: ٤١). لا يجب أن نخلط هذا مع الكفاية التطهيرية للروح القدس, ولا مع الألسنة التي "كأنها لهيب نار" التي ظهرت في يوم الخمسين. "وَأَمَّا التبن فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ". هذه وُضعت في تضادّ مباشر مع "يَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ" (الآية ١٢).

"حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ". لقد آن الأوان أخيراً لإعلان الملك؛ وظهر يسوع وسط الحشد وخطا مُتقدِّماً لينال الطقس الذي خضع له الكثيرون من الخُطاة المعترفين. ذاك الذي كان سيأخذ مكان الخاطئ جاء ليعتمد على يد يوحنا, لكي يتطابق بذلك مع الخطاة الذين كان سيبذل حياته من أجلهم. "وَلَكِن يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!»". فبالنسبة للمعمدان, بدا من غير المعقول أن مَن كان بلا خطيئة سيخضع لمعمودية التوبة لغفران الخطايا. لقد شعر أنه هو بنفسه من كان بحاجة بالأحرى لأن يعتمد على يد يسوع. "فأجاب يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «ﭐسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ". لكأن يسوع كان يقول: "أرغبُ أن أخضع لهذه كعربون ودلالة على أني أتيت لأحقق كل مطالب عرش الله المُحقَّة بالنيابة عن الخطاة". لقد كان تكرُّس الرب العالمي لعمل الصليب الذي لأجله جاء إلى هذا العالم. إنه لتفسير ضحل بالفعل أن تُعتبر عملية المعمودية تحقيق للبرّ. بمعنى آخر, لم يعتمد يسوع لأنه أراد أن يعطينا مثالاً صالحاً, بل بالحري لكي يطابق نفسه مع الخطاة على أنه الذي سيحمل المسؤولية بنفسه لإرضاء كل مَطلب عادل عن أولئك الذين أقرّوا بأنهم استحقوا اللعنة بعدل لأنهم انتهكوا الناموس, وهكذا لا يكون لهم بر في أنفسهم. لقد كانوا كمثل المدينين الذين يقدّمون الكمبيالات لله. ويسوع ظهَّر تلك الكمبيالات ضامناً الدفع بالكامل- تلك التسوية قد تمَّت على الصليب.

في الآيتين التاليتين نعلم كيف أن الله عبّر عن تأييده للابن بطريقة لافتة: "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ فَرَأَى رُوحَ اللَّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»". وفي الحال بعد تكريس الرب نفسه علنياً, "انفتحت السماء" فوقه, وظهر تجلٍّ مرئيٍّ منظور على مسح الروح القدس له لأجل العمل العظيم الذي جاء ليتعهَّد بالقيام به لمجد الله وخلاص العالم الضالّ الساقط. إلى هذا يشير بطرس, كما يُدوِّن لنا سفر الأعمال ١٠: ٣٨, والذي يتحدث عنه يسوع في يوحنا ٦: ٢٧. لقد مُسِح كنبيّ, وكاهن, وملك, ومسحه نفس الروح لأنه قدّوس الله, الذي يستطيع وحده أن يسدّ حاجة عالم محتضر.

هنا, في إنجيل متى, يُلفَت انتباهنا بشكل خاص إلى مسحه كملك. وبينما مرقس يؤكد على منصبه النبويّ, ويوحنا يصوره على أنه رئيس كهنتنا العظيم, ولكن هذا كان بعد إنجاز العمل الذي أوكله الآب له.

"وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»". لقد أعلن الآب بالصوت رضاه عن ابنه. فذاك الذي قدَّم نفسه لله بالمعمودية ليصير ذبيحة خطيئة كان بذلك قد شُهِد له على أنه ذاك الذي بلا خطيئة, لأن ذبيحة الخطيّة يجب أن تكون قُدس أقداس (لاويين ٦: ٢٥). فلم تكن فيه لطخة خطيئة, ولا شرٌّ فطريّ كما لدى جميع أبناء آدم الساقطين. لقد أمكنه أن يقول: "لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ" (يوحنا ٨: ٢٩). لقد وجد الآب مسرّته أبداً في التأمل بكمال ابنه. وإنه ليريدنا أن نُسرَّ به أيضاً.

Pages