November 2013

الأصحاح ٤

اختبار الملك

قبل أن يظهر الربُّ يسوع نفسَه لإسرائيل على أنه الملك الموعود كان لا بدّ أن يمر عبر فترة اختبار, وخضع لها لمدة أربعين يوماً. لقد التقى بالشيطان, الإنسان القوي المسلح, وقيّده قبل أن يبدأ خدمته العلنية ويذهب لينتزع أغراضه (أي أغراض الشيطان).

لماذا تجرّب يسوع؟ وإذ تعرض للتجربة, هل كانت هناك إمكانية لأن يُخطئ, ويعرّض بذلك كلَّ مخطط الفداء للخطر أو يبطلَه؟ هذه أسئلة غالباً ما تُطرح, وتفترض منا أن نكون قادرين على تقديم إجابات كتابية عليها.

إن كنا واضحين في تفكيرنا بالنسبة لهذا الأمر, فعلينا أن نتذكر أنه بينما كان ربنا إلهاً وإنساناً, فهو ليس شخصين, بل شخص واحد. فهو, شخصياً, الله الابن السرمدي الذي اتخذ جسداً بشرياً وحّده بلاهوته لكي يفتدي الخُطاة. ولذلك فإن له طبيعتين, الإلهية والبشرية, ولكنه يبقى شخصاً واحداً. ومن هنا فكإنسان على الأرض لم يكن يستطيع أن يتصرف بمعزلٍ عن لاهوته. أولئك الذين يقولون أنه كان يمكن أن يُخطئ ربما يجب أن يسألوا أنفسهم: "ماذا كانت لتصير النتيجة عندئذٍ؟" فأن نقول أنه كإنسان كان يمكن أن يفشل في مهمته هو اعتراف بالاقتراح التجديفي المذهل بأن طبيعته الإلهية المقدسة كان يمكن أن تنفصل عن طبيعته البشرية المدنسة وهكذا يصبح التجسد مهزلة وسخرية. ولكن إن أدركنا أنه هو الذي كان إلهاً وإنساناً معاً في شخصٍ واحد قد تعرض للتجربة, ليس ليرى إن كان سيخطئ أو يمكن أن يخطئ, بل ليبرهن أنه كان الذي بلا خطيئة, يصبح الأمر واضحاً. لقد كانت التجربة حقيقية, ولكنها كانت كلها من الخارج, كما حالة آدم في البدء. ولكن آدم كان مجرد إنسان بريء؛ في حين أن يسوع, آدم الأخير (آدم الثاني), كان الرب المنحدر من السماء الذي صار إنساناً ولم ينقطع عن الألوهية، لكي يصير أخينا الفادي (لاويين ٢٥: ٤٨). إن التجربة وموقفه منها برهنا أنه لم يكن إنساناً خاطئاً, سواء في طبيعته أو في سلوكه, ولذلك فقد أمكنه أن يأخذ القصاص عنّا وأن يحتمل لعنة الناموس المُنتَهك عن الآخرين, لأنه لم يكن تحت تلك اللعنة بنفسه. يُخبرنا الكتاب المقدس بشكل محدد أنه "لم يعرف خطيئة" (٢ كورنثوس ٥: ٢١)؛ و"لم يفعل خطيئة" (١ بطرس ٢: ٢٢)؛ و"ليس فيه خطيئة" (١ يوحنا ٣: ٥). لقد أمكنه أن يقول: "رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يوحنا ١٤: ٣٠). لم يكن هناك خائن مختبئ في داخله ليتجاوب مع صوت العدو من الخارج. لقد تجرّب مثلنا, بمعزل عن الخطيئة (عبرانيين ٤: ١٥), أي لم تكن فيه خطيئة لتُغويه. منذ لحظة ولادته كان قدوساً, وليس بريئاً وحسب (لوقا ١: ٣٥).

لقد حدثت تجربة يسوع، إن كنا نثق بالتقليد, على جبل كارنتانيا, غرب الأردن, مقابل أريحا, وهي برية وعرة جداّ ومنعزلة. وأتت التجربة بعد اعتماده مباشرة تقريباً, في بداية عام ٢٧ م, قبل عيد الفصح بقليل.

"ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ". كإنسان كامل, كان يسوع خاضعاً تماماً لمشيئة الروح. يخبرنا مرقس أن الروح قاده إلى البرية (مرقس ١: ١٢). لقد كان مُلزماً على أن يذهب, لأنه كان أمر ذلك القدوس وقد أُظهِر من بدء خدمته. إن التجربة هي اختبار فعلياً. لقد جرّبه الشيطان, وهو الشخص الشرير عدوّ الله والإنسان. وكان هو (الشيطان) أيضاً مَن اختبر آدم الأول ووجده ضعيفاً غير كفؤ. والآن لا بدّ أن يتغلّب عليه آدم الأخير, الإنسان الثاني (١ كورنثوس ١٥: ٤٥, ٤٧).

"فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَاعَ أَخِيراً". لقد صام يسوع كل فترة الاختبار- أربعين يوماً. ولم يشعر بالجوع إلى أن انقضت كل هذه الفترة كما يُقال. ومن ثم, في ساعة ضعف الطبيعة, جاء المُجرِّب, محاولاً أن يتغلّب عليه. لقد كانت الاختبارات مثلّثة الجوانب: إغواء الجسد, والنفس, والروح؛ مشتملة على رغبات الجسد, وشهوة العينين, وكبرياء الحياة, أو التباهي, أو المجد الباطل للحياة. إن ترتيب التجارب تختلف بين متى ولوقا. من الواضح أن متى يذكر النقاط الثلاث بحسب تسلسلها التاريخي, آخذاً إياها تماماً كما حدثت. أما لوقا فيعطيها ترتيباً أدبياً أخلاقياً, بما يتناسب مع ١ يوحنا ٢: ١٦. وإذاً الإغواء الأول كان الشهية, رغبة الجسد, الجسد؛ والثاني كان الطبيعة الجمالية, رغبة العينين, النفس؛ والأخير كان الطبيعة الروحية, كبرياء الحياة, أو المجد الباطل في الحياة. لقد كان الرب يسوع منيعاً أمام كل اقتراح قدّمه الشرير. وهذه كانت نفس الإغواءات من ناحية طبيعتها التي عرّض الشيطان حوّاء لها في عدن. لقد رأَتْ أن ثمارَ الشجرة كانت جَيِّدَة لِلأكْلِ (شهوة الجسد),  وَأنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ (شهوة العينيين), وَأنَّها شَهِيَّةٌ لتجعل الإنسان حكيماً (كبرياء الحياة). لقد استسلمت في كل تجربة, وعندما اشترك معها آدم في عصيان الله سقطت الخليقةُ القديمة. لقد تجرَّبا في فردوس السرور والابتهاج, البيئة الأكثر جمالاً. أما يسوع فقد تجرب في برية جافة عطشة وسط الوحوش البرية, ولكنه وقف صامداً كصخرة أمام خدع وإغواءات وتملّقات الشيطان؛ وهكذا أظهر نفسه ملكاً للبر, وبالتالي المؤهَّل ليُتوَّج ملك السلام (عبرانيين ٧: ١, ٢). ذاك الذي انتصر على العدو بعد أن جُرِّب بكل الأشكال مثلنا, ما خلا الخطيئة, هو الآن رئيس كهنتنا العظيم, ويظهر في السماء مؤيداً لنا, ومستعداً لمساعدتنا في كل ساعة ضعف أو تجربة.

"فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً". إن كل اختبار كان اعتداءً مباشر على حق شخصه الإلهي-البشري. لم يكن هناك أي شيء خطأ فطرياً في يسوع إن أشبع جوعه بتحويل الحجارة إلى خبز, ولكنه أخذ مكان الإنسان, من الاتكال على الله الآب الحيّ (يوحنا ٦: ٥٧). وبذلك, فقد سلك فقط في إطاعة لمشيئة الآب, وما كان يمكن أن يفكر بأي اقتراح يأتي من أي شخص آخر أو مصدر معارض. ما كان ليسلك, حتى ولو بهدف إشباع جوعه, استناداً إلى نصيحة العدو.

"فَأَجَابَ وَقَالَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ»". لقد قابل يسوع كل تجربة بكلمة محددة من الله- اقتباس من الكتابات المقدسة. وفي هذا المثل اقتبس تثنية ٨: ٣, حيث ذكّر موسى إسرائيل أن هناك ما هو أهم بكثير من الطعام المادي ألا وهو الغذاء الروحي الذي يوجد في كلمة الله. عندما يؤمّن الله الطعام لأولاده فإنه لا يعطيهم حجارة بدل الخبز, ولا يصنع خبزاً من الحجارة؛ ولكن عندما نخرج من اتكالنا على الآب فإننا على الأرجح سنكسر أسناننا بالخبز الحجري القاسي الذي فكّرنا أنه سيكون أفضل من ذاك الذي يأتي من الله.

"ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ". هل كان الشيطان قد فعل ذلك بالحقيقة أم أنه كان مجرد رؤيا لا نعلم, ولا يهم أن نعلم. الفكرة هي أنه حتى المقدس قد يكون مكاناً للتجربة, لأن التكبّر بالنعمة هو أحد أعظم الفخاخ التي نتعرّض لها. من ذلك المكان المرتفع رأى يسوع الحشود متجمعة في الساحات في الأسفل, وكان الشيطان على وشك أن يستخدم هذه كسبب ليُظهر قوّته.

"وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ»". لقد اقتبس الشيطانُ جزءاً فقط من مز ٩١: ١١, ١٢. ولقد حذف الجزء الأهم الأكثر صلة بالموضوع- "لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرْقِكَ". لم يكن جزءاً من الطرق المقدسة لابن الله أن يقفز بشكل استعراضي من أعلى الهيكل لكي يُذهل الجموع المتعبّدة في الأدنى وهم يرونه مُعلَّقاً في الهواء فوقهم, تحفظه أيدي الملائكة. كان هذا ليمكن أن يكون استخداماً مُتجرِّئاً للوعد. عندما يقتبس الشيطان من الكتاب المقدس, انظروا إلى النص وتأكدوا إن كان لم يحذف شيئاً حيوياً أساسياً منه, إذ أن من الممكن للمرء أن يقع في أكبر الأخطاء استناداً إلى نصٍّ من الكتاب المقدس استُخدِم خارج سياقه أو دلالته أو تم التعبير عنه جزئياً.

"قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ»". حيث يأمرُُ اللهُ, يمكن للإيمان أن يسلك بناءً على كلماته, عارفاً- كما قال أوغسطينوس- أن "أوامر الله هي تمكينات الله". ولكن أن يُعرِّض المرء نفسه للخطر بدون حاجة هو تجريب لله وهذا مخالف لمبدأ الإيمان.

"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا". هذه الأشياء تخص المسيح, وارث كل الأشياء؛ ولكن الشيطان قد اغتصب الميراث. لقد حاول أن يقدم ليسوع ما يمكن أن نسميه "اختصار" إلى سيادة العالم.

"وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي»". في الواقع, ما كان له أن يعطي شيئاً سوى بإرادة الله التي تسمح له بذلك, لأن "الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ" (دانيال ٤: ٢٥). لقد سرق الشيطانُ من آدم السلطان المُعطى له وحكم كمُغتَصب في قلوب الأشرار؛ ولكن لم يكن له حق مطلق بممالك العالم, التي عرض إعطاءها ليسوع إذا ما سجد له, وبذلك يحقق الملكوت بدون الصليب.

"حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ»". بقول آخر من أقوال الله, هُزِم العدو. لم يجادل يسوع كلمة الشيطان من ناحية سيادته على ممالك العالم. فليس بالجدال يُحرَز النصر, بل بالكلمة نفسها.

"ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ". يا له من تحقيق مجيد نتج عن التجربة! فالمهزوم, وهو الشيطان الشرير, قد ولّى هارباً؛ والرسل القديسين من بلاط السماء أتوا بسرور ليخدموا خالقهم, الذي أخذ مكان المخلوق بدافع رحمته ونعمته. عندما نفكر بالملائكة يخدمون يسوع, كما فعلوا في البرية وفي جثسيماني, ندرك كم صار إنسانياً بالفعل, وذلك في أنه, وهو الذي خلق كل تلك الكائنات المجيدة, سيخدمونه هم بأنفسهم.

إن ملك الله يجب أن يملك في البرّ. وإن بديل الخاطئ يجب أن يكون حملاً صحيحاً لا عيب فيه داخلياً أو خارجياً. ولذلك فإن الرب كإنسان يجب أن يكون خاضعاً لأكثر الاختبارات دقة وقسوة, ليُظهر أهليته للعمل العظيم الذي جاء يقوم به. لو كانت التجربة قد أظهرت إلى النور دليلاً على خطيئة فطرية أو فساد أخلاقي من أي نوع, لكانت الدليل على أن يسوع ليس هو قدوس الله, الذي يُزمِع أن يأتي بالبر الأبدي ويصنع كفّارة عن الخطية. ولكن ما من مكان أُظهر فيه كمال المسيح بشكل أكثر وضوحاً منه عندما بذل الشيطان كل جهد ليجد عيباً ما في شخصه, أو أي شكل من السعي الذاتي في قلبه. لقد اختُبر الملك وبرهن أنه تماماً كما أعلن الله الآب عند اعتماده- ذاك الذي وجد فيه كل مسرّته.

نقرأ في عبرانيين ٢: ١٨ أن ربنا يسوع "تَأَلَّمَ مُجَرَّباً". إننا نتألم ونحن نقاوم التجربة, وهكذا نُحفَظ من ارتكاب الخطيئة ضد الله (١ بطرس ٤: ١). وفي هذا نرى التضاد الكبير بين المسيح القدوس ونحن الخطأة ذوي الطبيعة التي تفرح بالإثم والشر. عندما نُولَد لله فإننا نُجعَل شركاء في الطبيعة الإلهية, وهكذا فإننا أيضاً وأيضاً نكره الإثم.

أما وقد جُرِّب الملكُ وبرهن أنه كامل في كل طرقه, فإنه دخل عندئذٍ إلى خدمته العلنية, وتشهد له الآيات العظيمة والعجائب والمعجزات, التي كان يُفترض أنها قد أوضحت لكل إسرائيل أنه كان في الحقيقة المسيّا الموعود.

"وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرِنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «أَرْضُ زَبُولُونَ وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرُ الأُرْدُنِّ جَلِيلُ الأُمَمِ- ﭐلشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ». مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ : «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ»" (الآيات ١٢- ١٧).

إن الاقتباس من أشعياء يختلف عما نجده في العهد القديم الذي بين أيدينا, لأنه مأخوذ من الترجمة السبعينية, هذه الترجمة التي كانت شائعة الاستخدام في تلك الفترة, بدلاً من النص العبريّ الأصليّ (أنظر أشعياء ٩: ١, ٢). إذ كان يسوع يجول من مكان إلى آخر كان يكرز قائلاً: "«تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ»". هذه الرسالة كانت نفسها التي نادى بها يوحنا المعمدان. "مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ", كما رأينا هو تعبير يُستخدم فقط في هذا الإنجيل. إنه يشير إلى حكم السماء على الأرض. وهذا كان أُهبة الاستعداد لو كان هناك استعداد من جهة إسرائيل ليقتبلوه. ولكن إقامته كانت تقوم على أساس توبة الشعب, وهذه لم يكن الشعب مُستعِداً لها. سوف لن يقبلوا الملك؛ وبالتالي, خسروا الملكوت, كما تُظهر التتمة. قبل أن يُستردّ ذلك الملكوت لبني إسرائيل (أعمال ١: ٦) كان الله ليُعرّف على برنامج آخر, الذي كان للوقت الراهن مُحتَجَباً عن الفهم البشريّ.

الآيات ١٨- ٢٠ تخبرنا عن دعوة أول الرسل الإثني عشر وتجاوبهم:       

"وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ".

هؤلاء الرجال, كما نعرف, كانوا قد انجذبوا إلى يسوع (يوحنا ١: ٤٠- ٤٢). والآن تركوا كل شيء ليتبعوه, رغم أنهم لا يعرفون إلا القليل عما كان ينتظرهم, من فرح أو ألم.

الآيات ٢١- ٢٢ ترينا دعوة يعقوب ويوحنا:

"ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ".

هما أيضاً, كان سيُعتبران من بين أصدقاء الملك المقرّبين, ليحملوا الشهادة لإسرائيل؛ وفيما بعد, ورغم أن يعقوب سيموت باكراً ميتة الشهداء في بداية الدهر الجديد, فإن يوحنا سيكون مُقدَّراً له أن يعمّر أكثر من كل الإثني عشر المختارين.

إن طبيعة ومجال خدمة يسوع تلخّصها لنا الآيات ٢٣- ٢٥:

"وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْبِ فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ".

أينما ذهب كان يأتي بالبركة والخلاص لأولئك الذين كانوا يطلبون رعايته وتعطفه؛ ولذلك فقد تبعه كثيرون من مكان إلى آخر, وهم يرتقبون, بلا شك, أنه في أية لحظة, سيُعلن سلطانه الملكي, ويقلب السلطة الرومانية, مُعتِقاً بني إسرائيل. ولكن قبل أن يمكن فعل ذلك سيكون هناك عمل آخر وأعظم بكثير يجب إنجازه, حتى تسوية مسألة الخطية: إذ لأجل هذا جاء إلى العالم. يجب على الملك أن يكون الأضحية قبل أن يأخذ سلطته العظيمة ويحكم. وهكذا, ورغم هتاف الحشود له لتوّهم, وإصغاء عامة الناس إليه بسرور, تابع سيره حتى سيراً على الأقدام إلى المكان الذي يُدعى الجلجثة.

الأصحاح ٥

مبادئ الملكوت

(الجزء الأول)

في ما يُدعى "العظة على الجبل", لم يكن ربنا يكرز بالإنجيل, بل كان يضع أسس مبادئ ملكوته, التي يجب أن تقود حياة جميع أولئك الذين يقرّون بأنهم تلاميذه. بمعنى آخر, هذه شريعة الملكوت؛ والتي حِفْظها يجب أن يميّز رعاياه المخلصين إذ ينتظرون اليوم الذي سيُعتَلَن فيه الملك نفسه. وهي تُدرك وجود معارضة معينة طوال الوقت لحكمه, ولكن أولئك الذين يعترفون بسلطانه مدعوون ليُظهروا نَفس الروح من الخضوع والطواعية والاتضاع التي تبدّت فيه (في الرب) خلال أيام وجوده هنا على الأرض في حالة اتضاع. إن رسالة يعقوب تتشابه جداً مع التعليم المُعطى هنا. وإنه يدعوها "ناموس الحرية الكامل" لأنه هو الذي يصبح الطبيعة الجديدة التي يقتبلها المرء عندما يُولَد من الله.

بالنسبة للإنسان الطبيعي, هذه العظة ليست طريقة للحياة, بل هي بالأحرى مصدر للإدانة؛ لأنها تضع معياراً عالياً ومقدساً جداً لا يستطيع أي إنسان غير مُخلَّص أن يبلغه ولو بأي شكل. ومن يحاول ذلك سيدرك سريعاً عجزه الكامل إذا ما كان صادقاً وذا ضمير حيّ. عليه أن يبحث عن الإنجيل في مكان آخر من الكتاب المقدس, وذاك هو العامل الفعّال لله للخلاص لجميع الذين يؤمنون (رومية ١: ١٦). إن العقول المتوقّدة الذكاء التي على الأرض قد رأت في هذه العظة على الجبل أعلى تعليم أخلاقي قد أُعطي للبشر, وأطرت على المبادئ المقدسة الواردة فيه حتى وإن كانت هذه العقول مُدرِكة لعجزها عن أن ترتقي إلى مقاييسها ولذلك فبالنسبة لغير المُخلَّصين, يصبح التعليم المُعطى هنا بالفعل, كما أحسن سي. آي. سكوفيلد القول أن: "الشريعة ارتقت إلى أعظم قوة لها". ولكن بالنسبة للمؤمن, وكما أن متطلبات الناموس المُحِقّة "تتِمُّ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية ٨: ٤), كذا فإن المبادئ الموضوعة في هذه العظة ستجد تمثيلها التطبيقي العمليّ في حياة جميع أولئك الذين يسعون ليسلكوا كما سلك المسيح. وليس لنا أن نحيل كل هذا إلى القلة اليهودية التقية المتبقية في الأيام الأخيرة أو للتلاميذ أمام الصليب, رغم أنها تنطبق تماماً على كليهما. ولكننا نتبين هنا ما "يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ" (ا تيم ٦: ٣) التي لا نجرؤ على رفض إطاعتها, لئلا نبرهن أننا كما تصف الآية التالية (١ تيم ٦: ٤): "فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئاً، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّلٌ بِمُبَاحَثَاتٍ وَمُمَاحَكَاتِ الْكَلاَمِ الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ الْحَسَدُ وَالْخِصَامُ وَالاِفْتِرَاءُ وَالظُّنُونُ الرَّدِيَّةُ". علينا أن نتذكر أننا, ورغم كوننا شعب سماوي, إلا أن علينا مسؤوليات أرضية, وهذه محددة لنا في هذه العظة التي هي الأعظم على الإطلاق والمتعلّقة بالسلوك البشري.

وإذ نضع هذا في ذهننا, دعونا ننظر أولاً إلى التطويبات التي لا نظير لها التي تُفتَتح بها هذه العظة:

"وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفَتَحَ فَاهُ وَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ. طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ. طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. ﭐِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ" (الآيات ١- ١٢).

"طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ". أولئك هم الرجال والنساء الذين يدركون حقيقة أنه ليس لديهم أصول روحية. فيعترفون بحالتهم الضالّة ويتّكلون هكذا على النعمة الإلهية.

"طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ". إن نفس الآلام التي يُدعى الناس لتجاوزها تصبح أداة بركة إذا ما عرفوا "إله كل تعزية" (٢ كور ١: ٣), الذي يشفي القلوب المنكسرة (مز ٣٤: ١٨), ويجعل أحزاننا تصبح وسيلة لنموّنا في النعمة عندما نثق بمحبته ونستريح في الإدراك بأن كل الأشياء تعمل معاً للخير لخاصّته (رومية ٨: ٢٨).

"طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ". إن العالم يُعجَب بالإنسان العدواني الميّال إلى توكيد الذات. أما يسوع المسيح فكان وديعاً متواضع القلب. أولئك الذين يشاركونه في الروح هم الذين ينتفعون من الحياة, في نهاية الأمر. فهم الذين "يرثون الأرض", لأنهم يرون في كل الطبيعة أدلة على محبة الآب وعنايته.

"طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ". هكذا جوع وعطش- ألا وهو الرغبة العميقة والجدية- تقدّم دليلاً على الحياة الجديدة. هذه الرغبات لا تُعطى للهزء بنا. إن الرضى هو النصيب الموعود لكل الذين يتوقون هكذا إلى الله, الذي به وَحده يُوجَدُ كلُّ بِرٍّ.

"طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ". لأولئك الذين يُبدون رحمة, ستمتد الرحمة. هذه هي شريعة الملكوت. وإن الإنسان الحقود القاسي الذي لا يعرف الصفح, والذي يتعامل بعدالة صارمة وحسب, سيُعَامَل بنفس الطريقة عندما يحصل الإخفاق والفشل في حياته ذاتها.

"طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ". إن النقاء هو الإخلاص في الهدف. وأنقياء القلوب هم أولئك الذين يضعون مجد الله فوق كل شيء آخر. فلهؤلاء يُعلِن نفس. فيرون وجهه عندما يتبين للآخرين تعاملاته التدبيرية فقط.

"طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ". إن النـزاع والانقسام هما أعمال الجسد (غلاطية ٥: ١٩, ٢٠). وإن إثارة الشِقاق بين الأخوة هو أحد الأشياء التي يُبغضها الله (أمثال ٦: ١٦- ١٩). إن وصيّته لنا هي أن نسعى وراء الأشياء التي تصنع السلام (رومية ١٤: ١٩). وبقيامنا بذلك فإننا نُظهر الطبيعة الإلهية, ذاك الذي هو إله السلام (رومية ١٥: ٣٣).

"طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ". هذا يُعلِن بشكل واضح أن التعاليم الموضوعة هنا مقصودة, وليست, كما أكّد البعض, أنها للحكم الألفيّ للمسيح, إذ لن يكون هناك عندئذٍ اضطهاد من أجل البر, بل سيكون لتلاميذ المسيح خلال فترة رفض العالم له, عندما سيتعرّض أتباعه لبغضاء عالم فاسد غير تقي.

"طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ". إننا جميعاً نتجنّب الاتهامات الباطلة الزائفة وننكمش إزاءها, ولكن لعلّنا نجد تعزية ونحن نتذكّر أن ربنا نفسه لم يكن مُستَثنى منها. ثمّة بركة لنا إذ نمرّ بهكذا خبرات في علاقتنا معه؛ فلا نُضطرَّ لمحاولة أن نبرّر أنفسنا, بل نترك له أن يبرّرنا بالطريقة والوقت الذي يجدهما مناسبين.

"ﭐِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا", بدلاً من فسح المجال لكآبة الروح: "لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ". إن الله يلاحظ كل ما يعاني منه شعبه على يدي أو على شفاه عالم فاجر سيّء أو أخوة كاذبين؛ وسيُعوِّض عن كل ذلك بطريقته الخاصة عندما نعاين وجهه. لقد كان أنبياؤه في كل الأزمان مدعوّين لتحمّل هكذا معاملة, ولكنه كان قد لاحظ ذلك وسيُكافئ الجميع بحسب اللطف المُحِبّ الذي في قلبه.

في المقطع التالي, الآيات ١٣- ١٦, لدينا صور مختلفة لتلاميذ المسيح, تتحدث جميعاً عن أهمية الإخلاص للثقة التي وضعها فينا.

"«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (الآيات ١٣- ١٦).

"أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ". الملح يَحفَظ من الفساد. وإن تلاميذ ربنا يُترَكون في العالم ليشهدوا ضد الإثم والخطيئة فيه وليضربوا مَثَلاً في البرّ. إن الملح الذي لا طعم له, هو كمثل المسيحيين غير المنسجمين مع أنفسهم, لا يفيد في شيء.

"أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ". لطالما سمّى يسوع نفسه هكذا وهو في هذا العالم (يوحنا ٩: ٥). خلال غيابه, ينبغي على تلاميذه أن يشهدوا له كأنوار في هذا العالم المُظلِم (فيلبي ٢: ١٥). إن النور يُظهِر الشرور المُخبَّأة في الظلام (أفسس ٥: ١٣).

"لاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ". إن من يُقر بأنه تابع للمسيح, ولكن يخفي نوره تحت المكيال- أي, يعتم شهادته بانشغاله الزائد بأمور هذه الحياة- لا يعطي انطباعاً صادقاً مفيداً لمجتمعه؛ أما من يعيش بمثابرةٍ وكلياً للمسيح فيشرق كسراج على منارة ويضيء على كل البيت.

"فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ". إن الاعتراف لوحده لا يكفي. إن الحياة يجب أن تعبر عن الله. وإذ نعيش المسيح قدام الناس, فإننا نترك مجالاً لنورنا ليشرق. وهكذا يميزون أعمالنا الحسنة ويرون فيها دليلاً على الإخلاص. وهكذا يمجدون الله بادراك واقعية عمله في نفوس أولئك المؤمنين المخلصين في شهادتهم وسلوكهم. علينا أن نتذكر ألا ندع نورنا يشرق بمجرد الاعتراف, بل على النمط الذي عاش عليه ربنا نفسه: "الحياة كانت نور الناس" (يوحنا ١: ٤). ولذلك فهي حياة مكرسة مخلصة تضيء على الآخرين.

في الآيات ١٧- ٣٠ نرى كيف أن ربنا كان يطبق وصايا الناموس, فلا يتجاهلها ولا يقلل من شأنها بأي شكل من الأشكال, بل يُظهر أن فيها معنى أعمق بكثير مما يبدو من الخارج. فإن طُبّقت على نحو صحيح, تُظهر العجز الكامل للإنسان وعدم قدرته على أن يحافظ على الوصايا المقدسة في حالته الطبيعية. دعونا نلاحظ بانتباه ما يُعلمنا إياه يسوع بخصوص ذلك:

"«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ! «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ" (الآيات ١٧- ٣٠).

"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ". وهذا ما فعله ربنا بثلاثة أشكال: بإطاعته الكاملة بجَّلَ الناموس وجعله مكرَّماً (أشعياء ٤٢: ٢١)؛ وبموته سدّد كل المطالب ضد منتهك الناموس, وهكذا يصبح غاية الناموس للبر لجميع الذين يؤمنون (رومية ١٠: ٤)؛ وبروحه يمكّن المؤمنين من تحقيق المتطلبات العادلة للناموس (رومية ٨: ٤).

"حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ". الحرف هو الـ ( yodh )، وهو أصغر حرف في الأبجدية العبرية. والنقطة هي علامة صغيرة جداً تُشير إلى تغيير صغير في معنى حرف. إن كلمات ربنا تُشير إلى كمال الكتابات المقدسة.

"فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى". والمعنى أن, كل من يتجاهل السلطان الإلهي في مشيئة الله المعلنة بتمييع التأثير والفعالية الأخلاقية لوصاياه, كأن يجعل الناس لا يبالون بالتزاماتهم نحوه, سوف يُعتبروا بلا قيمة في ملكوته.

"إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ". كان الكتبة والفريسيون تشريعيين متطرفين وكانوا يثقون ببرهم الذاتي, ولكنهم لم يخضعوا لبر الله (رومية ١٠: ٣). إن البرَّ الذي يقبله الله هو ذو طابع أعلى من ذلك. وهذا البر الأسمى توحي به الآيات التي تلي. كان الناموس يحظّر القتل. ويُرينا يسوع أن الغضب الذي لا مبرر له هو بحدِّ ذاته انتهاك لروح الوصية.

 "لاَ تَقْتُلْ". إن القتل يحدث بنتيجة هكذا حالة فكرية. وإن استخدام الذم الرديء ضد الآخر هو إظهار للبغضاء التي تجعل الناس يقتلون, وهذا يضع المرء في خطر حتى نار الجحيم.

أن تعترف بكونك عابداً لله بينما تخطئ عن عمد ضد آخر أو تضمر حقداً ومكراً في قلبك هو أمر بغيض بالنسبة لله. فمن يأتي إلى مذبح الله ومعه تقدمة عليه أن يذهب فيصالح الأخ الذي أخطأ إليه ثم يعود فيقرب قربانه.

ولا يجب على المرء أن يسمح بروح الخصومة أن تسود بينه وبين آخر إن كان بمقدوره أن يتوصل معه إلى اتفاق وتفاهم؛ لأن الخطيئة لا تموت مع مرور الزمن, بل تزداد سوءاً مع الأيام. لطالما عانى كثيرون بشدة بسبب أمر كان يمكنهم أن يتخلصوا منه لو انتبهوا إلى هذه الكلمات.

في الآية ٢٨ أن النظرة غير الطاهرة, والنظرة الخبيثة, والنظرة الفاسقة الوقحة إلى المرأة هي في عيني الله انتهاك للوصية السابع. وفق هكذا معيار من يستطيع أن يجيب عن تهمة أمام القضاء الإلهي قائلاً: "غير مذنب"! كم هو مهم إذاً التحذير من أي انتهاك لئلا يُخذل المرء فيقع في خطيئة أعظم, والتي, إن لم يتب عنها, تأتي عليه بالدينونة الأبدية في الجحيم نفسه.

لا بد لأي شخص سليم التفكير أن يُقر بأن البر المطبوع في ذهن ربنا في هذه الخُطبة التي لا نظير لها (والتي نالت إعجاب أهل الفكر العقلانيين في كل مكان) هو معيار بعيد عن متناول الإنسان الطبيعي. فقط عندنا يولد الإنسان من جديد يستطيع أن يعيش على هذا المستوى السامي. عندما يتحدث الناس عن العظة على الجبل على أنها تُقدم تعاليم دينية كافية لهم, فإنهم إنما يظهرون مدى ضآلة فهمهم لكلمات معلمنا. إنه يصور حياةً فائقةً للطبيعة يمكن أن تُعاشَ فقط بقدرة فائقة للطبيعة- تلك القدرة التي يعطيها الروح القدس لمن يؤمن بالإنجيل.

بعد ذلك لدينا إعلان موثوق بشكل مطلق يتعلق بعلاقة الزواج. في القديم كان الله يسمح ببعض الأشياء بسبب قساوة قلب الرجال, ولكن ليس مسموحاً لتلاميذ المسيح أن يقوموا بها. فيقول: "«وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي". بمقارنة هاتين الآيتين بإعلان لاحق نجده في ١٩: ٩ من نفس هذا الإنجيل, يمكن أن نرى أن الزواج, والذي عنى به الله من البداية أن يكون طوال الحياة, قد صار ضعيفاً منحلاً بسبب خطيئة الزِنى الجسيمة من جهة الزوج أو الزوجة. فهذا يسمح للطرف البريء أن يكون حراً ليتزوج من جديد؛ ولكن كما تُشير الآية في ١ كورنثوس ٧ ،وبتأكيد, فهذا, "فقط في الرب". فمن العبث القول, كما فعل البعض, أن الزنى هنا يشير فقط إلى السلوك غير الأخلاقي قبل الزواج والذي يُكتشف فقط فيما بعد (كما في تثنية ٢٤: ١), ولكن ليس فيه إشارة إلى نفس الخطيئة المُرتكبة بعد الزواج. هذا يجعل انتهاك عهود الزواج أقل إثماً من الخطيئة الجنسية المرتكبة في حالة العزوبية. إن المعنى المقصود في هذا المقطع واضح جداً. الزوج الزاني أو الزوجة الزانية تحطم رباط الزوجية. وإن الطلاق في المحاكم يُشَرْعِن الانفصال, ولكن الطرف البريء يكون حراً أمام الله وكأنه لم يتزوج على الإطلاق.

ويتابع ربنا تبجيل وتوقير الناموس بأن يؤكد على فحواه الأكمل. ويتحدث عن الحَلف في الآيات ٣٤- ٣٧:

"وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ".

بمحاكمة الأشياء استناداً إلى هذا المعيار السامي, كم تصبح أحاديثنا تافهة عن أولئك الذين يعترفون بأنهم رعية للرب. يا لها من أحاديث لا مبالية وأقوال مأثورة حمقاء يطلق المسيحيون المعترفون لها العِنان وكأن يسوع لم يقُلْ شيئاً بخصوص هذا الموضوع.

إن الانسجام في هذا الأصحاح يمكن ملاحظته، إن اعتبرناه  جزءاً متكاملاً, يتناول استعلان النعمة في حياة تلاميذ المسيح:

"«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (الآيات ٣٨- ٤٨).

"عَيْنٌ بِعَيْنٍ". هذا هو الناموس الصرف- وهو عادل بالمطلق (خروج ٢١: ٢٤). وبالمحاكمة استناداً إلى هذا المعيار, تصبح حالة كل إنسان ميئوساً منها.

"لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ". لقد تعامل الله مع أولاده برحمة ونعمة. ولذلك فإنه يتوقع منهم أن يُظهروا نفس الرحمة نحو الآخرين.

"فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً". كان هذا فوق ما يتطلبه الناموس. عندما تسود رحمة المسيح على قلب المرء فإنه يستطيع أن يحتمل خسارة كل شيء بدون استياء.

"فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ". كانت آداب الكياسة في تلك الأيام تتطلب بشكل عادي من المرء أن يذهب ميلاً ليدل أو يرشد مسافراً تائهاً أو متأخراً. ولكن النعمة تسير الميل الثاني.

"فَلاَ تَرُدَّهُ". على تلميذ المسيح أن يكون مثل معلّمه- مستعداً للتواصل. قد لا يكون في حالة يُفترض عليه فيها أن يعطي كل ما يُطلب منه, أو أن يُقرض كل إنسانٍ كما يرغب, بل عليه أن يكون مستعداً لأن يستجيب, قدر الإمكان, لطلبات المعونة والمساعدة.

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ". كانت الكتابات المقدسة في العهد القديم تطلب بشكل واضح القسم الأول ("تُحِبُّ قَرِيبَكَ"), ولكن التقليد الرباني أضاف القسم الأخير من هذه الأقوال ("تُبْغِضُ عَدُوَّكَ"), وعلى الأرجح أنهم كانوا يستندون في ذلك إلى مقاطع كالتي في تثنية ٢٣: ٦ وبعض مزامير اللعن (مزمور ١٣٧: ٩).

"وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ". مُتَحدِّثاً بصفته المُرسَل من الآب, فإن الرب يسوع صحّح الوضع الخاطئ للربانيّين ووضع ناموسه الكامل للمحبة, حتى نحو أعداء المرء. فبمعاملتنا الحسنة لهم وصلاتنا لأجلهم, نتغلب على الشر بطريقة مسيحية. مهما كانت سيئة معاملة الآخرين لنا, علينا أن نسعى لنساعدهم. علينا أن نبارك من يلعنوننا, وأن نكون لطفاء حتى ولو أظهروا لنا البغضاء, وأن نصلّي من أجلهم حتى عندما يضطهدوننا ويسعون لأذيتنا. هذه هي رحمة الله بالتطبيق العمليّ, كما تُرى في حياة المؤمنين الخاضعين له الذي تسيّرهم روح المسيح. هل يبدو هذا معياراً عالياً لا يستطيع الإنسان الخاطئ أن يبلغه؟ إنه كذلك. ولكن الإنسان المتجدِّد يستطيع أن يفعل ما يعجز عنه الإنسان الطبيعي.

"لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". هذا يعني, طالما أننا نطيع وصايا الرب المعطاة هنا, فإننا نُظهر حقيقة أننا أولاد أبينا السماوي, الذي يمطر رحماته على الأبرار والظالمين على حدٍّ سواء وعلينا أن نسلك مثله. إنها الطبيعة الإلهية, التي يشارك كل مؤمن فيها (٢ بطرس ١: ٤), هي التي تمكنه منى أن يقارب الشخصية المرسومة في هذه الخطبة اللاذعة.

"إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟". حتى الناس الأكثر صفاقة وانغماساً في الشهوات يحبون خاصتهم, ويمكن أن يقدّروا أولئك الذين يظهرون لهم التقدير. أما أولئك الذين يتبعون الرب, فعليهم أن يحبوا كل الناس, حتى أولئك الذين, بمعارضتهم المريرة لهم, يجعلون حياتهم أتعس ما يمكن.

"وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟". إنه أمر بسيط أن يُبدي تلاميذ المسيح نفس الاهتمام بالآخرين حتى ولو كانوا مُنغمسين في دعوات وحفلات رديئة. لقد كان اليهود يبغضون العشّارين. وهؤلاء كانوا جُباة ضرائب في إسرائيل قد اشتروا مناصبهم من الحكومة الرومانية وكانوا "يُلزّمون الضرائب", مُنتزعين كل شيء ممكن من أبناء وطنهم, ومستفيدين من العائدات بعد أن يقدموا اللازم لمُخمّني الضرائب المُعيَّنين من قِبَل الدولة. ومع ذلك فإن هؤلاء كانوا يُبدون اهتماماً وتقديراً لإخوتهم.

"فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ". هذا كمالٌ بمعنى الغياب الكامل للتحيّز والمحاذاة, وبالتالي تمثّلٌ بذاك الذي لا يقبل الوجوه (أعمال ١٠: ٣٤), بل يجود بأفضاله على الأبرار والأشرار على حدٍّ سواء.

إن خيرة بركات الله هي لأولئك الذين يُظهرون نفس الروح من التبجيل له, والوداعة والحنوّ تجاه الآخرين, الذين يُرَون في كامل امتلائهم في ربنا المبارك, كما سلك على هذه الأرض في أيام حياته الجسدية (عبرانيين ٥: ٧). ومن هنا, ومن هنا فقط, فإن ذاك البعيد عن تناول الإنسان الطبيعي يتحقّق في أولئك الذين اقتبلوا حياة وطبيعة جديدتين بإيمانهم بالمسيح مُخلِّصاً لهم. ما من ظروف معاكسة يمكن أن تُقلِق صفاء أولئك الذين يعرفون الرب والذين يُقرّون بسلطانه على حياتهم.

الأصحاح ٦

مبادئ الملكوت

(الجزء الثاني)

قبل أن نتابع، لننظر بعناية نوعاً ما إلى هذا الجزء الثاني العظيم من خُطبة الرب على الجبل، سأعود لبضعة دقائق إلى بعض الأسئلة التي أشرت إليها في بداية تفحّصنا للأصحاح ٥, وذلك بسبب حقيقة أن مؤمنين جدّيين كثيرين, وفي محاولة لتحاشي صخرة الناموسية التشريعية, يتحطّمون على صخرة اللا ناموسية ١.

هناك سؤالان كثيراً ما يُطرحان. الأول هو: هل كانت العظة على الجبل موجّهة للمسيحيين؟ ما من أحد يمكن أن ندعوه مسيحياً بحقّ إلى أن يكون قد اتّحد بالمسيح بالروح القدس في الزمن التدبيري الحالي من نعمة الله (أفسس ٣: ٢). لقد دُعيَ التلاميذُ مسيحيين أولاً في أنطاكية (أعمال ١١: ٢٦)؛ ولكنهم كانوا تلاميذ, كما جميع المسيحيين كذلك. خلال خدمة ربنا على الأرض, أولئك الذين اقتبلوا كلمته صاروا تلاميذه. ولهم بسط مبادئ الملكوت الذي كان قد جاء ليُعلنه. هذه المبادئ لا تتعارض أبداً مع الإعلان الكامل المُعطى للكنيسة فيما بعد. كما ذكرتُ سابقاً, وكما أن برّ الناموس "يَتِمُّ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية ٨: ٤), كذلك فإن البر الأسمى في هذه العظة الرائعة سيميّز كل أولئك الذين يتجددون ويسود الروح القدس حياتهم.

السؤال الثاني هو: هل تُري هذه العظةُ الناسَ الطريقَ إلى الخلاص؟ لا. فلم يكن يُقصَد بها هذا. إنها تُوضح السلوك الذي يجب أن يُرى في أولئك الذين يخلصون. إن كان الناس يسعون وراء الخلاص بجهود بشرية, فعندها هذه العظة تدينهم وحسب, لأنها تضع مقياساً للبر أعلى بكثير من ناموس موسى, ومن هنا فإنها تكشف عجز الخاطئ عن بلوغه. ولكن مَن يعترف بإثمه ويتحول في الإيمان إلى المسيح ويطيع التعليم المُعطى هنا, فإنه يبني على صخرة لا يمكن أن تهتزّ.

إن تفحُّصاً متأنياً لهذا الأصحاح السادس, على ما أعتقد, سيجعل هذه الأمور أوضح بالنسبة إلى فكر وقلب كل مَن ارتبك واحتار بخصوص التطبيق الدقيق لتعليم ربنا كما يُدوَّن هنا.

في الآيات الـ ١٨ الأولى يُصرّ يسوع على الحقيقة والمصداقية في أمور الله, ويقدم لنا تعليماً هاماً بخصوص الصلاة. لنلاحظ الآن الآيات ١ إلى ٤ المتعلّقة بالصدقات وإبداء المحبة نحو الفقراء والمحتاجين.    "ﭐحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (الآيات ١- ٤).

"ﭐحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ". إنه برٌّ بمعنى تحقيق التزاماتنا نحو إخوتنا وخاصّة الذين نراهم؛ أي مدّ المعونة لحاجات البشر. وكل شيء يجب أن يُنجَز بدون تفاخر أو تباهٍ.

"إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ". عندما نسعى وراء إطراء الناس لنا ونحصل عليه فلا نحتاج لأن نتوقع مكافأة أبعد من ذلك عندما نقفُ أمام عرش دينونة المسيح.

"مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً". ما من شيء موضع مقاومة أكثر من المحبة المُعلَن عنها. إنه لأمرٌ مُذلٌّ للغاية بالنسبة لذاك الذي يتلقّاها ومؤذٍ للنفس التي تُعطيها.

"أَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ". إن عين الله على جميع أولاده, وسيثمّن بشكل صحيح كل ما يُصنَع لأجل مجده (٢ كورنثوس ١٦: ٩). أن يفعل الإنسان الخير في الخفاء, وهو يعرف أنه ينال رضا الرب وأنه يمنح السعادة للآخرين في محنتهم, لا بدّ أن يُكافَأ كفاية عند الابن الحقيقي لله, ولكن ذاك الذي يرى كل ما يُصنَع باسمه سوف لن يُخفق في أن يرى ذاك الصنيع عندما نراه كما هو.

في الآيات ٥ إلى ١٥ لدينا تعليم ربنا فيما يخص الصلاة. أن نتجاهل هذا وكأنه لا يتماشى مع الحق في زمن النعمة التدبيري الحالي لله سوف ينشأ عنه أن تُسلَب نفوسنا من أحد أعظم التعاليم الثمينة الهامة التي في كلمة الله. لنُفكّر في امتياز الجلوس عند قدمي الشفيع العظيم نفسه ونسمعه يقول لنا كيف نصلي. إنها فرصة لا تُقدَّر بثمن حقّاً علينا أن نغتنمها لا أن نمرّرها إلى تلاميذ من دهرٍ آخر. علينا أن نتذكر من جديد, وبما أننا مباركون بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع, فليس في الكتاب المقدس من تعليم أخلاقي أو روحي لا يكون من إرثنا. فلنفكر إذاً, ببعض الانتباه, في التعليم المُتضمَّن في هذا الجزء من العظة والمُتعلِّق بدنوّنا إلى الله بالصلاة.

"وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ. فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَﭐغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاتِكُمْ" (الآيات ٥- ١٥).

يتم تحذيرنا أولاً ضد الشكلية المجردة في الصلاة, ومن أن نركز  أفكارنا على ما يعتقد الناس الآخرون أنه تقوى مزعومة, ونُدعى إلى التركيز على مجد الله. إنه يطلب منا المصداقية والواقعية. هناك أناس مثلهم مثل الفريسيين (كالمحمدانيين والروميين وآخرين) يعتبرون الصلاة بحد ذاتها واجباً وتعطي درجة معينة من الأهلية والاستحقاق للإنسان. لقد كانت الصلوات الرسمية الشكلية تُتلى في الأماكن العامة, وكلما طالت الصلاة كلما اجتذبت انتباه الحاضرين. وكان هناك ميل إلى الحكم على تقوى الإنسان بحسب مدة صلواته. لقد حذر يسوع تلاميذه ضد سوء استخدام الصلاة. لم يحظر عليهم الصلاة في الأماكن العامة. في ١ تيموثاوس ٢: ٨ يتم التلميح إلى ذلك بشكل مباشر. ولكنه ندد بأن نصلي بغية أن يرانا الآخرون, أو الاشتراك في ممارسات دينية أخرى بهدف التفاخر والتباهي. بالنسبة للفرد, إن المكان المناسب للصلاة هو المُختلى, الحجرة المخفية حيث تكون وحدك مع الله, وحيث لا توجد عين بشرية تراقب أو أذن إنسان تسمع. وإن الله الذي يرى في الخفية سوف يسمع ويجيب بما يتناسب مع مشيئته.

وليس من الضروري أن "أَتْعَبْتُمُ الرَّبَّ بِكَلاَمِكُمْ" (ملا ٢: ١٧). إن التكرار الذي لا طائل تحته, وترديد عبارات جوفاء فارغة أو لا معنى لها بشكل مستمر أمر مُحظّر بشكل واضح صريح. فكم تصبح تلاوة "السبحة الوردية" متضاربة وغير لائقة على ضوء هذا النص الكتابي! إننا لا نُسمع بفضل "كَثْرَةِ كَلاَمِنا". فذاك الذي يعرف كل حاجاتنا أكثر منا أنفسنا يود أن نضعها أمامه ببساطة الأطفال, وليس كأنه سيضطر إلى تلبيتنا عند الحاجة بلجوئنا إلى الالتماس المستمر المتواصل (الآية ٨). صحيح أن ربنا يتحدث في مكان آخر عن الإلحاح في الصلاة, ولكن يجب ألا نخلط بين هذا وبين التكرار الفارغ لعبارات تقوية معينة.

في الآيات ٩- ١٣ لدينا رؤوس أقلام جميلة وموحية تسمى عامةً بـ "الصلاة الربانية". وهذا خطأ في التسمية, اللهم إلا بمعنى أنها هكذا لأن الرب هو الذي أعطانا إياها. ولكنها في الواقع "صلاة التلاميذ". فما كان يمكن ليسوع أن يصليها, لأنها تشتمل على طلب مغفرة الخطايا, بينما هو كان بلا خطيئة على الإطلاق. ولا يبدو أن هناك أي سبب وجيه للافتراض أنه قصد بها أن تُتلى مراراً وتكراراً, أو كجزء من خدمة الصلاة أو العبادة, كما تستخدم اليوم بشكل شائع. وليس هناك من ذكر لاستخدامها في الجماعات المسيحية الأولى في أعمال الرسل وليس هناك إشارة لها في الرسائل. يبدو أن الرب قد أعطاها كرؤوس أقلام أو نموذجاً للصلاة؛ فيوحي بذلك بالأسلوب الذي يجب أن نُخاطب به الله والطلبات التي تُرفع لديه. رغم أنه ليس هناك أي عبارة في هذه الصلاة تتناقض مع الإعلان الوارد لاحقاً, فمع ذلك نجدها محدودة نوعاً ما. أما وقد جاء الروح القدس ليرشدنا في ابتهالاتنا فلا يبدو أن هناك حاجة إلى التزام أو تقيد رسمي باستخدام نفس الكلمات التي لدينا هنا عندما نأتي إلى حضرة الله سواء بالصلوات العامة أو الخاصة.

دعونا نلاحظ ترتيب الطلبات:

"أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ". هذا تعبير عن التسبيح والعبادة من جهة أولئك الذين يقرون بعلاقتهم مع الله. إنهم يعرفونه كآب, وهذا ينطبق فقط على المولودين ثانية.

"لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ", تتطلع إلى المجيء الثاني للمسيح عندما سيتأسس ملكوت الله بقوة على كل هذا العالم.

"لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ". ليس هناك في الأعالي من يسعى لأن يروغ من إرادة الله. أما هنا على الأرض فالإرادة الذاتية قد أدت إلى بؤس لا حد له. عندما يتعلم الناس أن يصنعوا إرادة الله في هذا العالم كما يُسَر القديسون والملائكة بفعلها في السماء فإن العصر الذهبي سيكون قد أتى بالفعل.

"خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ". إنه تعبير عن الاتكال على الله الآب الحي من أجل حاجات كل يوم. إننا لا نستطيع أن نكون واثقين من الغد ما لم يكن الله يمدنا بحاجاتنا.

"وَﭐغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا". نعلم من الرسائل أن علينا أن نغفِرَ كما يُغفَر لنا (أفسس ٤: ٣٢؛ كولوسي ٣: ١٣). وهذا سيكون معيار مغفرتنا عندما يسيء إلينا الآخرون.

"وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ". إنه اعتراف بضعفنا الذي نُقر به؛ إنه صرخة إلى الله لكي يحفظنا من أن نُوضع في ظروف يغلبنا فيها صوت المجرب.

الجزء الأخير من الآية ١٣ لا نجده في أفضل الإصدارات المنقحة. يبدو أنه أُضيف لاحقاً بعد أن صارت هذه الصلاة مألوفةً الاستخدام في الخدمة الطقسية.

في سيادة الله كآب على أولاده تعتمد مغفرة خطايانا اليومية على موقفنا نحو أولئك الذين يُخطئون إلينا. إن رفضنا أن نغفر لإخوتنا المسيئين إلينا, فإن الله لن يمنحنا المغفرة التجديدية المحيية التي نطلبها عندما نُدرك خطيئتنا وإخفاقنا. وهذا بالطبع ليس له علاقة بتلك المغفرة الأبدية التي يتلقاها الخاطئ الذي يؤمن عندما يأتي إلى المسيح. إنها مغفرة الآب نحو الولد الذي يُخطئ, التي تأخذ بعين الاعتبار, بكل تأكيد, الموقف الذي يكون قد اتخذه الذي عثر نحو أعضاء آخرين في العائلة.

في الآيات التي تلي ذلك (١٦- ١٨) يعود الرب لما كان قد قاله قبلاً في الآيات ١- ٤.

"«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" (الآيات ١٦- ١٨).

كل خداع أو رياء يُوبَّخ بصرامة. أن تسعى لتصل على شهرة بأنك تقي من خلال سلوك سوداوي حزين هو أمر غريب كلياً عن الصراحة والمباشرة التي يجب أن تُميز دائماً وأبداً أولئك الذين يقرون بخضوعهم لذاك الذي كان بريئاً صادقاً بكل طرقه, والذي يدعو إلى صدق مطلق في سلوك تلاميذه. إنه لحري بذاك الذي يمتنع عن الطعام أو الأشياء الأخرى, لكي يتسنى له وقت أكثر مع الله, أن يسلك بسرور وفرح إذ يتمتع بشركة مع الآب.

أن الموقف الصحيح من الممتلكات الزمنية المؤقتة يتوضح في الآيات ١٩- ٢٤. فكل شيء يجب أن يكون خاضعاً لله ومُستخدماً بحسب توجيهاته.

"لاَ تَكْنـزوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنـزوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنـزكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ! لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ" (الآيات ١٩- ٢٤).

مَن كان على تواصل مع الحقائق الأبدية يمكن أن يهتم بالممتلكات الأرضية بيدٍ طليقة. إن الثروة الدنيوية سرعان ما تتلاشى وتفارق مالكها, وإذ لا يبقى لديه شيء آخر, فإنه يصير فقيراً بالفعل. أما أولئك الذين يكنـزون كنوزاً سماوية, الذين يصرفون بحسب مشيئة الله, بينما يُعتَبرون بالمصادفة فقراء في هذا العالم, فإنهم يكونون أغنياء بالإيمان؛ وعندما تنتهي الحياة هنا سيجدون كنـزاً لا يفنى محفوظاً لهم في العلاء. كلما وزّعنا لأجل بركة الآخرين, لإرشاد الرب, كلما ازدادت ثروتنا في السماء.

إن شخصياتنا مركّبة بطريقة تجعل قلوبنا تتعلّق بمكان ثرواتنا. الدنيوي لديه كل شيء هنا, ولكنه سيكون فقيراً في الأبدية. والمؤمن السماوي الفكر قد يكون فقيراً بالفعل بأغراض هذا العالم ولكن غنيّ أمام الله.

فما نحتاج إلى أن نركّز عليه, إذاً, هو أن نُبقي أبصارنا متّجهة نحو مجد الله؛ أن تتبيّن أبصارُنا إرادته لكيما نسلك فيها. إن عُدْنا أدراجنا إلى طرق إرادتنا الذاتية فإننا إنما نمضي إلى ظلمة مقيمة وسرعان ما نضلّ طريقنا. علينا أن نختار بأنفسنا أن نخدم الله أو المال- أي الغنى والثروة. لا نستطيع أن نخدم كليهما. فمحبة الواحد تطرد محبة الآخر.

إن إرادة الله أن يعيش أولاده بدون قلق أو اضطراب. وهذا يتضح في القسم الختامي من هذا الأصحاح.

"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ َلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي اليَوْمَ شَرُّهُ" (٢٥- ٣٤).

عندما قال يسوع: "لاَ تَهْتَمُّوا"، لم يقصد أن على تلاميذه أن يكونوا لا مبالين أو مسرفين. بل عليهم ألا يقلقوا أو يصبحوا معوزين مكروبين أو مرتبكين محتارين في مواجهة المستقبل. إن مَن خلّصنا ويُعنى بنا إلى ذلك الحد يمكن أن نعوّل عليه ليتولّى أمر الاهتمام بنا وأن يعيلنا إلى المُنتهى. إن ربنا يُلفت انتباهنا إلى طيور السماء التي يغذّيها الآب السماوي, وإلى زنابق الحقل التي يُلبِسها الخالقُ المُحسنُ الكريمُ الجمالَ. لا يمكننا أن نـزيد قامتنا بالفكر القلق. فلماذا نفسح المجال إذاً لنهتم بكيفية تلبية متطلبات المستقبل؟ إن الله الذي يُلبس عشب الحقل قد وعد بأن يكسي أولاده. فلماذا نكون إذاً قليلي الإيمان؟

إن أمم العالم يسعون وراء هذه الأشياء الزائلة المؤقتة جاعلين من ذلك هدفاً لحياتهم. علينا ألا نحاكيهم في هذا, بل بالأحرى أن نهتم قبل كل شيء بمرضاة الله, وأن نضبط سلوكنا بما يتوافق مع مبادئ ملكوته البارّة المُحِقّة. يلخّص يسوع مسؤوليتَنا إجمالاًً عندما يقول: "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ". لا يقول: "ابحثوا عن الملكوت"، بل، بالحري، ليكن الاهتمام بملكوت الله في المقام الأول في حياتكم. إن الرسالة إذاً هي لأولئك الذين هم تلاميذ للمسيح. فلكوننا هكذا, علينا أن نحقق برّه- أي الأشياء الإلزامية المفروضة علينا كأتباع أو رعية لربنا المبارك. وعندها يكون لدينا اليقين بأن كل الرحمات المؤقتة التي يُحتَاج إليها سيقدّمها لنا.

وهكذا يُختَتم الأصحاح بالحثّ على أن نترك الغد بيد الله بينما نسعى لأن نرضيه ونسرّه اليوم. عندما يأتي الغد فإنه سيقدّم لنا كل رحمة ونعمة مهما كانت المشاكل التي علينا مواجهتها. اليوم هو مِلْكُنا فلنمجده فيه.


١. - اللا ناموسية: (Antinomianism ): نبذ الناموس زعماً بأن النعمة تُبطِله [فريق الترجمة].

الأصحاح ٧

مبادئ الملكوت

(الجزء الثالث)

إذ نتابع دراستنا للتعليم المُعطى من قِبَلِ يسوع المسيح إلى تلاميذه على الجبل، دعونا نتذكر من جديد أن الموضوع المطروح هنا، ليس الإنجيل لغير المتجددين، بل المبادئ المقدسة التي يجب أن تسود حياة أولئك الذين يقرّون بالولاء للرب يسوع والذين يعترفون به ملكاً باراً على الأرض، رغم اعتراف غير المخلّصين بالشيطان، المُغتَصِب المزيف، كرئيس لهذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١؛ ١٤: ٣٠). إن الولاء للملك الحقيقي يتطلب طاعةً لكلماته (١ تيموثاوس ٦: ٣- ٥).

إن ملكوته, من ناحية الجانب الظاهر, هو في حالة تعطيل مؤقت. لقد ذهب "إلى بلد بعيد", إلى السماء نفسها, ليأخذ ملكوته, ويعود (لوقا ١٩: ١٢). وعند مجيئه الثاني, ممالك هذا العالم, ستصبح ملكوت إلهنا ومسيحه (رؤيا ١١: ٢٥). ولكن بينما هو غائب شخصياً, رغم حضوره بالروح, وكونه غير منظور للعين البشرية, فإن كل مَن يولدون من جديد هم في ملكوت الله, ورغم أنهم وسط عالم متمرّد, فهم مسؤولون عن الإبقاء على الولاء لذاك الذي يرفضه ذلك العالم. ومن هنا فإنهم يعرفون حقيقة الملكوت, بأنه ليس طعاماً وشراباً (أي أنه لا يهتم الآن بالأمور الزائدة المؤقتة), بل برٌّ وسلامٌ وفرحٌ بالروح القدس (رومية ١٤: ١٧). إن هذا الجانب من الملكوت هو ما كان موضوع التعليم الذي كان يقدّمه ربنا لتلاميذه خلال أربعين يوماً التي انقضت بين قيامته وصعوده (أعمال ١: ٢, ٣). لقد كانت هذه الفكرة الرئيسية في رسالة الرسل, بينما كانوا يدعون الناس للإقرار بربوبية المسيح (أعمال ٢: ٣٦؛ ٢٠: ٢٥). وكان هذا هو موضوع كرازة بولس حتى النهاية (أعمال ٢٨: ٣١). إن المسيح القائم هو ربّ الجميع, وهو يمنح مغفرة الخطايا لكل الذين يؤمنون باسمه. ومن هنا, فإن أولئك الذين أُدخِلوا إلى هذا المكان الجديد أمام الله, وخلصوا بالنعمة وحسب, مدعوّون إلى الإقرار بربوبيته في كل الأشياء. إنهم يُترَكون في هذا العالم ليشهدوا له وليعرّفوا كل الذين لا يزالون ينتمون إلى هذا العالم برحمته. عليهم أن يفعلوا الخير لكل الناس. وبقيامهم بذلك, سوف يُساء فهمهم في معظم الأحيان, وسيكونون خاضعين لاضطهادات قاسية ولمعاملات انتقامية حاقدة. ولكن عليهم ألا يقابلوا الأذى بمثله, بل أن يُظهروا روح المسيح, وبهذا يغلبون الشر بالخير (رومية ١٢: ٢١), ويبرهنون أنهم مواطنون مطيعون للشريعة, ويسعون دائماً وأبداً لبركة إخوتهم البشر.

كلما تأملنا أكثر في الحقائق المبيَّنة لنا في هذا الأصحاح كلما أدركنا كم أننا مقصّرون عن أن نرتفع إلى قامة ذلك التكرّس الغيريّ للمسيح الذي يتم التركيز عليه هنا. وإذ يفتح الروح القدس قلوبنا لإدراك هذه التعاليم سنجد أنفسنا أكثر فأكثر موضع تفحّص بكلماته الجليلة. فذاك الذي يرغب بالحق في الدواخل (مز ٥١: ٦) كان يتحدث من خلال ابنه بطريقة تكشف كل الدوافع الخفية للشخص, وتجعل كل نفس صادقة تدرك كم أننا في حاجة إلى أن ننمو في النعمة وفي معرفة المسيح, لكيما نمثّله بشكل صحيح في هذا العالم حيث لا يزال مرفوضاً منبوذاً.

في الآيات الخمس الأولى من هذا القسم يكشف الرب النفاق والرياء الذي يكاد يكون غير مُدرَك, والذي ينتشر فينا جميعاً, والذي يقودنا إلى إدانة إخوتنا بشدة, في حين نُغفل أو نبرّر خطايانا وكأنها ضئيلة بسيطة. ثم يتابع فيرينا ضرورة أن نكون قائمين على أساس الصلاة إن كنا نودّ أن نتلقّى الاستجابة المتوقَّعة لطلباتنا.

إن الطرق الواسعة والضيقة تُوضَع في صورة تضاد مُفعَمة بالحيوية. فالأولى هي الطريق التي يتبعها كل مَن يتجاهل أو يجهل نعمة الله المُعلَنة في المسيح ومتطلباته من البشر؛ والأخرى هي طريق التكرّس لذاك الذي جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم ويبذل حياته فدية عن كثيرين (متى ٢٠: ٢٨). لاحظوا أن هذه هي الطريق التي تؤدي إلى الحياة, وليس فقط إلى السماء في نهاية الحياة.

"لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَبِ وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ. ﭐِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً يُعْطِيهِ حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ. فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ. ﭐُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!" (الآيات ١- ١٤).

"لاَ تَدِينُوا". إنها مسألة دوافع. هناك ظروف يُطلَب من شعب الله أن يحكم فيها أو يدين (١ كورنثوس ٥: ١٢), بمعنى التعامل مع المُذنب الذي أساء إلى المعايير الأخلاقية المسيحية, حتى ولو اضطرّوا لإقصائه من شركة الكنيسة (١ كورنثوس ٥: ٣- ٥, ١٣). ولكن علينا ألا نحاول أن نجلس في كرسي الدينونة ونحكم على الدوافع الخفية للتصرّف. إننا نُجحف بحق الآخرين بسهولة بالغة, وأحكامنا غالباً ما تكون لاذعة. ليس في مقدورنا أن نقرأ ما في القلوب أو نتبين ما في الأذهان. إن هذا حقٌّ مقصور على الله وحده. إن عصينا هذا الأمر فلن نندهش إذاً إذا ما أداننا الآخرون بنفس الطريقة.

"بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ". علينا أن ندين أنفسنا بنفس المعايير الصارمة التي ندين بها الآخرين.

"لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟". هناك سخرية دقيقة هنا وهي صارمة جداً. إن الكلمتان المُستَخدمتان هنا في هذا المقطع توضعان على طرفي نقيض. إن الكلمة التي تُرجِمت إلى "قذى" بالأصل تُشير إلى قطعة من غُصين صغير جاف أو قشّة, وهذه غالباً ما تحملها الريح فتدخل في عين الناس وتسبب لهم غشاوة في البصر ودموعاً إلى أن تُزال من العين. والكلمة التي تُرجِمت إلى "خشبة" تعني قطعة خشب كبيرة, ولكن كانت تُستَخدم في اللهجة العامية في الأحاديث اليونانية في أيام ربنا على الأرض كمرادف لشظية, والتي, ورغم كونها صغيرة في الحجم بحد ذاتها, إلا أنها تبدو كعارضة خشبية كاملة صحيحة بسبب الألم الذي تسببه. في إحدى الملاحظات التي وُجدت على برديّة في مصر قبل بضعة سنوات, يكتب شاب إلى والدته مُخبِراً إياها عن الألم الذي عاناه بسبب "خشبة" دخلت إلى إبهام يده تحت الظفر. هذا يُوضح معنى كلام ربنا. ما من أحد مُؤهّل لتوبيخ آخر عندما يكون في حياته شيءٌ أسوأ من ذاك الذي يجده في الآخر, إذ أن الخشبة أو العارضة الخشبية أكبر بكثير من القذى أو ذرّة القش.

"كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ....". حتى العالم يقول: "يا لتناسقك أيتها الجوهرة". لا يستطيع أحد أن يتوقّع أن يصحح خطأً في آخر إن كان لديه خطأ أكبر منه في حياته.

"يَا مُرَائِي". الكلمة الأصلية كان يستخدمها اليونانيون ليصفوا ممثلاً. وكانت تعني حرفياً "الوجه الثاني", لأن الممثلين في القديم كانوا يضعون أقنعة على وجوههم ليمثّلوا أدوار الشخصيات. ونتحدث عن أن الإنسان "له وجهان". إن الله يطلب صدقاً. ويصرّ ربنا على ذلك. فليس من تديّن ضحل أو فارغ يرضيه. ولا يمكننا أن نعرفه كآب لنا يحبّ أن يلبي حاجاتنا بنعمته ورحمته ما لم نكن صادقين في طلبنا لوجهه. أن نُدين الآخرين بتكبّر, بينما نحن نعيش في حالة خطيئة, هو أمر بغيض في عينيه. إن كنا نطلب معرفته بصدق وعلى استعداد لنصنع مشيئته, فإنه سيقودنا إلى الباب الضيّق- الإذعان إلى مطالب المسيح- المؤدية إلى الطريق الضيّق للتكرّس غير الأناني لله ولمنفعة أولئك الذين ماتَ المسيح من أجلهم. ذلك هو بالفعل طريق الحياة.

"وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ". إنها حماقةٌ أن نحاول تقديم أعزّ وأغلى الأشياء في الإعلان الإلهي لأناس ليست لديهم رغبة في القداسة.

"ﭐِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ". بهذه الكلمات يؤكد ربنا على أهمية الصلاة الجدّية المُلحّة, والتي هي مختلفة عن التكرار غير المبالي أو الذي بدون تفكير لكلمات محددة معينة. إننا مدعوون لأن نطلب؛ أي لنخبر الله بطلباتنا (فيلبي ٤: ٦, ٧), وإن لم نُلبّى في الحال فعلينا أن نحاول أيضاً وأيضاً بالسعي لمعرفةٍ أوضح لفكر الله بخصوص هذه المسألة, وهكذا نصلي بفكرٍ مُستَنير (أشعياء ٢٦: ٩). ثم علينا أن نقرع بإلحاح, ما يعني أن الطلب بإيمان وإخلاص هو الذي يحقق لنا مرادنا (لوقا ١١: ٥- ١٠). إن الله يستجيب فعلاً للصلاة. هذا أحد الأدلّة على الفوق طبيعية لما يسمّى عموماً بـ "الدين المُعلَن", خلافاً للفلسفة البشرية المجرّدة. إن كلمة "دين" واسعةٌ جداً حتى للمسيحية نفسها, ولكنها تُستَخدم هنا لأنها تعبير ملائم للدلالة على كل علاقة الإنسان مع الله كما عُرِفَتْ في العهدين القديم والجديد. في كل الأزمنة التدبيرية السابقة, وأيضاً في الزمن التدبيري الحالي, لقد أُعلن الله على أنه السميع والمُجيب للصلاة (مز ٦٥: ٢؛ أش ٥٦: ٧؛ مت ٢١: ١٣). إنه هو نفسه الذي يدعونا لأن نأتي إليه بطلباتنا وسُؤلنا, ويعدنا بأن يعطينا بحسب حاجتنا (فيلبي ٤: ١٩).

"كُلَّ مَنْ". عندما يتم تحقيق شروط الله, فإن استجابته لنا أكيدة- ليس بالنسبة للبعض فقط, بل بالنسبة لكل الذين يتوجّهون إليه في الصلاة بحسب مشيئته المُعلَنة. ليس صحيحاً بالضرورة أن نتلقى دائماً تماماً كما نسأل. إن الله يحتفظ لنفسه بحق أن يلبّي ما تمليه عليه حكمته. ولكنه لا يتجاهل أبداً صرخات أولاده.

"يُعْطِيهِ حَجَراً؟". إن الحجر قد يشبه رغيف الخبز من الخارج, ولكن لا يمكن أن يُؤكل, وحتى لو أمكن ذلك, فإنه لا يمكن أن يقيت أو يغذّي. إن الآباء الأرضيين يراعون حاجات أولادهم ولا يسخرون منهم عادة بتجاهل طلبهم للطعام, أو إعطائهم شيئاً لا يستطيعون أن يستخدموه عندما يطلبون القوت.

"وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟". إن الأولى (السمكة) هي للتقوية والبناء؛ والأخرى (الحية) سامة تسبب الموت. ما من أحد له قلب أب حقيقي يعطي شيئاً مؤذياً لابنه, بل يعطيه ما هو خيرٌ له.

"فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ". إن الأبوّة البشرية هي صورة ضعيفة عن قلب الله الأبوي, الذي يُسرّ بأن يعطي أولاده ما هو لخيرهم. في العائلة, يجب أن يكون الأب مثالاً عن المحبة والتدبير الحكيم الذي يميّز الآب السماوي, الذي يفرح بأن يبارك أولاده بأن يعطيهم ما سيؤول إلى منفعتهم الدائمة. والصلاة هي الوسيلة المحددة التي بها نقتبل هذه الرحمات والخيرات.

"فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ". هذه هي بالفعل القاعدة الذهبية. إنها مرتبطة بالصلاة؛ إذ ما من أحد يمكنه أن يصلي بشكل صحيح ما لم يتصف بالخيرية نحو رفقائه وإخوته (١ يوحنا ٣: ١٧- ٢٢). ليس هذا هو الإنجيل؛ إنه ثمرة الإنجيل. غالباً ما يتحدث الناس بشكل سطحي غير مُروّى فيه عن القاعدة الذهبية, وكأن الحفاظ عليها كان أمراً بسيطاً سهلاً نسبياً, وكما لو كانت تشمل كل المسيحية. وكم نسمع التأكيد أن "القاعدة الذهبية جيدة بما يكفي لي. إنها كل ما يريد المرء من الدين". ولكن مَن يستطيع, وقد دِين بهذا المقياس من الحياة الغيرية, أن يُصدر حكماً أمام محكمة الله المقدسة؟ ما هذه إلا طريقة أخرى للتأكيد على مَطلب الناموس, أن "تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". ما من أحد سوى ربنا المبارك قد عاش أبداً هكذا على نحوٍ كامل. وبالتالي, فإن القاعدة الذهبية إنما تضيف إلى دينونتنا, وتؤكد على الحاجة إلى الخلاص بالنعمة. فقط إن اقتبلْنا المسيح وسكن فينا بالروح القدس يمكننا أن نرتقي إلى هذا المستوى الرفيع والمقدس.

لطالما قال مراراً وتكراراً أولئك الذين يستخفون بالرب يسوع وتعليمه, أن القاعدة الذهبية لم تنشأ بمعناها الأصلي معه, بل تبنّاها مما علّمه الآخرون قبله. يُقال أن كنفوشيوس, الحكيم الصيني, قد أعلن هذه قبل المسيح ببضعة مئات من السنين. ولكن الفرق شاسع بين التعليم الإيجابي للرب يسوع المسيح, الذي يأمر تلاميذه بأن يصنعوا للآخرين ما يودّون من الآخرين أن يصنعوه لهم, والتعليم السلبي للمعلم كنفوشيوس الذي قال: "لا تفعلوا للآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه لكم". فالقول الأول هو إعلان للحب الإلهي؛ وأما الآخر فما هو إلا نصيحة بشرية عادية.

"وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ". هذا هو طريق الإرادة الذاتية, أو عصيان كلمة الله. فعلى هذا الطريق الواسع يوجد جميع مَن يرفضون الاعتراف بحالتهم البائسة والذين يتجاهلون مطالب المسيح. فهذا الطريق يتم الدخول إليه عبر باب واسع, لأن كل الناس يختارون هذا الطريق بشكل طبيعي.

"مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ". ليس هناك حياة حقيقية بمعزل عن معرفة المسيح (١ يوحنا ٥: ١٢). فعندما نُخضِع إرادتنا له ندخل عبر الباب الضيق ونمرّ إلى الطريق الضيّق. هذا يؤدي إلى الحياة- الحياة بكل غناها, وبكامل معناها- فنقتبلها بسرور إلى حد معيّن هنا على الأرض, ولكن نتمتع بها بكامل امتلائها في الأبدية السعيدة.

في المقطع التالي نُحذَّر من الأنبياء الكذبة الذين سيسعون لتضليل وإقصاء أولئك الذين يسعون وراء طريق الحياة.

"ﭐحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (الآيات ١٥- ٢٠).

"الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ". إن التشبيه مُذهلٌ جداً. إنه يوحي بذئب يجوس خلسة وقد وضع عليه صوف خروف ويجول حول أطراف قطيع مُنتظراً الفرصة لينقضّ على حمل أو خروف غير محترس. على نفس المنوال هو أولئك المعلّمون الذين لا تظهر تعاليمهم الكاذبة المزيفة بألوانها الحقيقية في البداية, بل يسعون لإخفاء هويتهم الحقيقية ونواياهم لكي يجتذبوا تلاميذ وراءهم (أعمال ٢٠: ٣٠). الطريق الآمن الوحيد هو أن نتمحّص كل ذلك بالكلمة نفسها, وخاصة بعقيدة المسيح, كما في رسالة يوحنا الثانية.

"مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ". هذا هو الاختبار الذي يجب أن يخضع له كل تعليم عقائدي وأولئك الذين ينشرونه. فما كان من الله سيعطي ثمراً في الحياة لمجده.

"كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً". الشجرتان توضعان على طرفي نقيض بصورة حيوية, فتصف الرجال والنساء الذي يُولدون من الله وأولئك الذين لم يتجددوا بعد. إنهم مَثلٌ من الطبيعة, عُنِيَ به تأكيد الحقيقة العظيمة على أذهاننا بأننا جميعاً كمثل الأشجار, إما أن نكون جيدين أو أردياء, وسلوكنا سيخوننا أو يدل على طبيعتنا الحقيقية. الصلاح والسوء يُستَخدمان هنا, كما في كل سفر الأمثال, بمعنى نسبي (أمثال ١٢: ٢؛ ١٣: ٢٢؛ ١٤: ١٤). وفعلياً ليس من أحد صالح إلى أن يكون قد تغيّر بالتجدد (رومية ٣: ١٢). إن شهادة الشفاه تدل على حالة القلب.

"لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً". القلب الذي في حالة تمرد على الله لا يمكن أن يثمر في الحياة بما فيه إكرامٌ له (لله), وبالمقابل فمنا مَن يخضع لإرادة الله لا يستطيع أن يستمر بالخطيئة فيجلب الخُزي لاسمه المقدس.

"كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ". رغم أن الله طويل الأناة, حتى مع الأشرار (يعقوب ٥: ٧؛ ٢ بطرس ٣: ٩), إلا أن اليوم يقترب بسرعة حيث ستقع الدينونة على كل واحد من أولئك الذين يُصرون على المُضيّ في نهجهم المتمرد غير التائب. وهذا ما كان يوحنا المعمدان أيضاً قد أعلنه (متى ٣: ١٠).

"مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ". مهما كانت الاعترافات التي يقدمها الناس, فإن الحياة هي التي تحدد (الأخيار من الأشرار) (١ تسالونيكي ١: ٥؛ ٢: ١٠). فالأخيار يبتهجون في النقاء والبر. والأشرار يُعفّرون وجوههم في تراب الخطيئة والفساد. حيث تفعل النعمة فعلها في النفس, فإن الثمار الجيدة للروح (غلاطية ٥: ٢٢, ٢٣) سوف تتجلى في الحياة. فمن كان حقاً من الله سوف يُثمر قداسةً عند مُتلقّيه.

وإذ يأتي الرب إلى نهاية خطبته العظيمة فإنه يصورُ، بطريقة فائقة الجلالة والتعبير، النتائجَ الأبدية التي تستند إلى موقفنا نحو الكلمة التي أعلنها.

"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنـزلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنـزلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!".

"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". إن الاعتراف بالشفاه وحسب لا فائدة منه إن كان القلب والحياة غير خاضعين لكلمة الله. إننا لا نخلص بأعمالنا, بل الأعمال الصالحة هي مقياس صدقنا وحقيقيتنا. مَن يُولَد من الله سيبتهج بإطاعة إرادة الآب (أفسس ٢: ٨- ١٠).

"كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟". قد يكون هناك الكثير من الخدمة التي تظهر ناجحة خارجياً أو ظاهرياً عند أناس لا يعترفون بالمسيح. ولكن في يوم استعلان الرب, سوف لن يفيد إلا الإيمان الشخصي بذاك الذي نعترف به رباً لنا.

"إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ". سوف لن يقول لأحد في ذلك اليوم: "كنتُ أعرفك في العادة, ولكني لم أعد أعرفك". كلامه إلى الضال سيكون: "إِنِّي لَمْ أَعْرِفْك قَطُّ". وعن خاصّته جميعاً سيقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا" (يوحنا ١٠: ٢٧).

"رَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ". مَن يسمع كلمات المسيح وينتبه إليها يبرهن أنه مؤمن حقيقي؛ وأنه بنى بيته على الصخرة التي هي المسيح نفسه.

"لَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ". ما من عاصفة من الظروف المناوئة, وما من هجمات من رئيس سلطان الهواء يمكن أن تنفع في تدمير البيت المؤسس على صخرة الدهور هذه.

"رَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ". مَن يسمع بأذنه الخارجية, ولا ينتبه لإطاعة الحق, هو كمثل مَن يبني على رمال تغوص.

"سَقَطَ وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً". عندنا يأتي وقت التجربة, من بنى آماله في الأبدية على أي شيء سوى المسيح نفسه سوف يُقبل إلى كارثة. لأن المسيح ربٌ, فإنه يطلب طاعة لا مثيل لها لكلمته. إنه يتحدث كملك ويضع بوضوح وإيجاز المبادئ التي سيؤسس عليها ملكوته, والتي هي مناقضة تماماً للسياسات الأنانية للحكام والأمم الأرضيين. أن نعترف به رباً ونطيع كلمته هو كمثل أن نبني بيتاً سيصمد في "بقايا دمار المادة وحطام العوالم". وأن نُخفق في الانتباه إلى صوته يعني ضياعاً زمانياً وأبدياً.

يُصوَّرُ المسيحُ في عدة نصوص كتابية على أنه الأساس الصخري الذي تُبنى عليه الكنيسة. إنه أيضاً الصخرة التي يؤسس عليها كل فرد مؤمن. من يؤمن به يبني على أساس متين (أشعياء ٢٨: ١٦؛ رومية ٩: ٣٩) لن يسقط أبداً. أن نبني آمالنا على أي شخص أو منظومة أو أي سلوك يُظن أنه أهل للتقدير, هو كأن نبني بيتاً على رمالٍ متحركة. في يوم الدينونة, كل من استندوا على أي شخص سوى المسيح وعمله المُنجز سيجدون أنفسهم ضائعين ضالين وعاجزين من أجل الأبدية.

لم تُسمع أبداً هكذا كلمات في إسرائيل. لقد كان هناك شيء ذو سطوة بالتأكيد فيها حتى أن المستمعين تأثروا بعمق, رغم أننا لا نعلم إلى أية درجة قد انتبهوا إلى الرسالة أو أبدوا ولاءً لذاك الذي أعلنها. موقفهم توجزه الآيتان الختاميتان في هذا الأصحاح:

"فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ" (الآيات ٢٨- ٢٩).

"بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ". رغم أنه كان يخاطب تلاميذه بشكل أساسي ومباشر, دنت الحشود منه لتصغي إليه, وإذ وصلت الخطبة العظيمة إلى خاتمتها الدراماتيكية انذهلوا من وضوح وعمق تعليمه.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ". كان الكتبة والمعلمون الآخرون في إسرائيل يسندون في العادة كل شيء يذكرونه إل سلطة ربانيين بارزين مرموقين كانوا قد سبقوهم. ولكن يسوع كان يتحدث بشكل مباشر فيعطي الكلمة الأخيرة والقاطعة بخصوص كل موضوع طَرَحَه. وهذا ما أذهل مستمعيه. هذه العظة كانت كمثل الفادن ١, تسبر كل ادّعاءاتهم بالبر. هل واجهوها بصدق أمام الله وأدركوا إثمهم وحاجتهم إلى مخلّص؟ لا يُقال لنا في النص, ولكن يمكن أن نكون متأكدين بأن كثيرين ذهبوا إلى بيوتهم يفكرون ملياً بالحقائق العظيمة التي بُسطت أمامهم.

عندما يعود ربنا ويُعلَن ملكوت الله بالكامل على الأرض, فإن المبادئ المُعلَن عنها في هذه العظة ستسود في كل مكان, إذ عندئذٍ سيصعد البر والتسبيح من بين كل الأمم (أشعياء ١٦: ١١). سيكون ذلك وقت تجدد الأرض (متى ١٩: ٢٨). إن الفرد عندما يتجدد (تيطس ٣: ٥), فإنه يُعطى قوة ليسلك أمام الله في القداسة والبر (١ يوحنا ٣: ٧- ١٠).

هل أقصى يسوعُ جانباً الناموسَ الأخلاقي أم انتقص من قيمته؟ لا لم يفعل. لقد أشار إلى ما كان يُقال في القديم والذي كان من مصدر إلهي وذا مصداقية وسلطان. ولكنه أضاف إليه أو فسَّره بأعمق معنى روحي له, لكي يفهم الناس تطبيقه الحقيقي. إن المبادئ الأخلاقية لا تتغير ولا تتبدل. إنها نفسها في كل زمان تدبيري. ولكن أولاد الله اليوم يُرفعون فوق الطاعة الناموسية المجردة من خلال المحبة للمسيح وتأثير الروح القدس الضابط.


١. - الفادن: (plumb-line ). أداة (مؤلفة من خيط في طرفه قطعة رصاص) يُسْبَر بها غور المياه أو تمتحن استقامة الجدار [فريق الترجمة] .

الأصحاح ٨

أعمال الملك

أما وقد استمعنا إلى تعاليم الملك وهو يُعلِن شرائع ملكوته, فإننا مدعوون الآن لنتمعن في أعماله. لعلّه يمكننا أن نفكر في هذه كأوراق اعتماد ملَكيّة، تبرهن على أنه بالحقيقة المسيا الموعود الذي كان سيأتي بالشفاء والوفرة لبني إسرائيل، فيحكم في البر والسلام (مزمور ٧٢: ٧). مكتوبٌ عن الأعجوبة الأولى التي قام بها الرب يسوع المسيح أنه بقيامه بها قد "أظهر مجده" (يوحنا ٢: ١١). كانت هذه إحدى الآيات المُذهِلة التي قام بها. وكلُّ واحدةٍ أظهرت بشكلٍ من الأشكال سرّ التجسّد، "إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩).

"ألا تجد صعوبة تتعلق بالمعجزات؟" سأل أحد العلماء عالِماً آخر. كان الأول من الذين يعترف بالـ "لا أدري" ١. أما صديقه فقد أتى في وقت متأخر إلى الاعتراف بإيمانه الشخصي بالرب يسوع المسيح. وكان جوابه: "ليس بعد أن عرفتُ يسوع كابن الله. فمنذ تلك اللحظة التي أُعطيتُ فيها القدرة على أن أومن به على أنه الأعجوبة الأسمى- الله وقد صار إنساناً من أجل الفداء- صار من السهل أن أقبل أيّ معجزة أخرى يخبرني الكتاب المقدس أنه أنجزها. فإذ إني أعرفه، ما عاد شيءٌ مما فعله يمكن أن يُقال أنه غير معقول".

في كل أعمال قدرته، كان يسوع المسيح إنما يُظهِر مجده الشخصي. لقد كانت الأدلة على مسيانيّته، لأنه عملها كلها، ليس فقط بملء اختياره وإرادته، كونه الإله الأبدي المُحتَجَب في الناسوت، بل كالابن المُطيع، الذي يقوده الروح القدس (أعمال ١٠: ٣٨). لقد اختار في كل الأشياء أن يكون خاضعاً للآب، وبالروح القدس عمل الآب كل أعماله تلك في ومن خلال الابن (يوحنا ٥: ١٧- ١٩). وخلال ذلك الوقت، حيث كانت "أيام جسده"، كان يسوع المسيح خادماً فعّالاً للألوهية هنا على الأرض ولأنه هكذا فلسنا في حاجة لأن نتعجب من الأعمال المقتدِرة التي كانت تميّز خدمته. لكان الأمر أكثر غرابة لو لم يكن على هذا النحو. كان سيصعب أن نتخيل أن الله، الذي نـزل إلى الأرض وأخذ ناسوتاً من جسدٍ ودم في اتحاد مع لاهوته، أمكنه أن يمرَّ عبر هذا العالم دون أن يتأثر بآلام البشر وألا يفعل شيئاً ليريحهم. لقد كان يسوع أعظم من أي شيء فعله. عندما تصرّفَ باقتدار، مُنجزاً ما ندعوه نحن بفهمنا المحدود على أنه معجزات، فقد كان إنما يفعل ذلك بشكلٍ كامل بما يتلاءم مع شخصه الإلهي-الإنساني.

إذ نتأمّل هذا الأصحاح والأصحاحات التي تليه فإننا ننصعق من حقيقة أننا نجد الآية المعجزيّة تلي الأخرى في تعاقبٍ سريع، وكلّها على حدٍّ سواء تشهد لحنوّ ومحبة يسوع وأيضاً قدرته. لقد "جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً" (أعمال ١٠: ٣٨). لا نقرأ أبداً عنه أن كان يجترح المعجزات فقط لكي يثير دهشة أولئك الذين تبعوه. كل المعجزات كانت مُوجَّهة عن قصد لتريح البشر من آلامهم ولتخدم حاجات البشرية. في الأصحاحين ٨ و٩، المرتبطين معاً بشكل وثيق، نراه يُطهّر الأبرص (٨: ١- ٤), ويشفي خادم قائد المئة (الآيات ٥- ١٣)، ويقيم حماة بطرس من سرير مرضها (الآيات ١٤, ١٥)، ويُهدّئ البحر الهائج ليُنقذَ حياة تلاميذه (الآيات ٢٣- ٢٧)، ومُعتِقاً المجنونَين في كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ (الآيات ٢٨٠ ٣٤), ومُعطياً قوة جديدة للمفلوج (٩: ١-٨), ويشفي المرأة النازفة الدم التي لمستْ ثوبه؛ ويقيم ابنة الحاكم؛ ويشفي الأعمَيين؛ ويطرد الأرواح الشريرة من الأخرس (الآيات ١٨- ٣٤)، ويُخلِّص من عِلَلٍ جسدية متنوعة ذلك الحشد المتنوع الذي كان يسعى طالباً معونته (الآيات ٣٥- ٣٨). بشكل متناثر بين رواية أعمال الرحمة هذه، لدينا تعليم هام يتعلّق بالتلمذة (٨: ١٩- ٢٢)، ودعوة متى (٩: ٩)، وتوبيخه الشديد للنفاق والرياء في الآيات ١٠ إلى ١٥، و مَثَل الثوب الجديد والزُقاق الجديدة في الآيات ١٦ و١٧.

دعونا نتمعّن أولاً في حادثة تطهير الأبرص.

"وَلَمَّا نـزلَ مِنَ الْجَبَلِ تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: «أُرِيدُ فَاطْهُرْ». وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐنْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ. بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدَّمِ الْقُرْبَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ»" (الآيات ١- ٤).

لو كان بنو إسرائيل على علاقة سليمة مع الله لما وُجِدَ مرضٌ بينهم (خروج ١٥: ٢٦). كل مريض في فلسطين كان شهادةً مُحزنة على الحالة الساقطة للشعب الأثير. أينما ذهب يسوع كان يجد رجالاً ونساءً يعانون من الأمراض من مختلف الأنواع. كلٌّ منهم كان يُجسّد صورةً لتبعات الخطيئة بشكل أو بآخر.

البَرَص يشير إلى النجاسة والاشمئزاز في الخطيئة. إنه مرضٌ بنيويٌّ، يسبب دماراً مُخيفاً لأجساد ضحاياه، كما الخطيئة تعمل بشكل مرعب في نفوس أولئك الذين هم تحت سطوتها. لم يكن الإنسان أبرصاً لأنه كان متشوِّهاً بسبب تقرّحاتٍ وقروح مؤلمة. فهذه الأشياء لم تكن إلا شهادةً على المرض الذي كان مُتفشّياً في داخله. ومع ذلك، فإن الإنسان ليس خاطئاً لأنه يخطئ: بل إنه يُخطئ لأنه خاطئ.

هنا نقرأ عن أبرص بائس فقير جاء إلى الرب يسوع وسجدَ له أو أعلن الولاء له، مُناشداً إياه أن يُخلِّصه من مرضه، ومع ذلك لم يكن واثقاً من استعداد يسوع لأن يمنحه ما يطلبه. فقال: "«يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي»". وفي الحال جاءه الجواب, إذ مدَّ يسوع يده ولمسه: "أُرِيدُ فَاطْهُرْ". وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ. وعندها طلبَ منه الرب أن يذهبَ إلى الكاهن في الهيكل وأن يقرب التقدمة التي كان موسى قد أوصى بها, كما يُدوِّن لنا (لاويين ١٤). كانت هذه لتُشكّل شهادة للكاهن عن أن الله كان يعمل في شعب إسرائيل.

الحادثة التالية المُسجَّلة هي شفاء خادم قائد المئة.

"وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ كَفْرَنَاحُومَ جَاءَ إِلَيْهِ قَائِدُ مِئَةٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «يَا سَيِّدُ غُلاَمِي مَطْرُوحٌ فِي الْبَيْتِ مَفْلُوجاً مُتَعَذِّباً جِدَّاً». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ». فَأَجَابَ قَائِدُ الْمِئَةِ وَقَال: «يَا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهَذَا: اذْهَبْ فَيَذْهَبُ وَلآخَرَ: ايتِ فَيَأْتِي وَلِعَبْدِيَ: افْعَلْ هَذَا فَيَفْعَلُ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ تَعَجَّبَ وَقَالَ لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ». ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ: «ﭐذْهَبْ وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ». فَبَرَأَ غُلاَمُهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ" (الآيات ٥- ١٣).

نجد هنا قائدَ مئةٍ روماني، ومن الواضح أنه قد جاء إلى معرفة إله إسرائيل، وكان خادمه مفلوجاً. في هذا الرجل المشلول لدينا صورة عن عجز الإنسان الخاطئ. فهكذا كانت حالة جميعنا إلى أن خلّصتْنا النعمة. لقد كُنّا سنبقى هكذا بلا حول ولا قوة لولا أن المسيح قد أفادنا بموته.

إشفاقاً على خادمه العاجز، جاء قائد المئة يطلب من يسوع أن يشفي المريض. وكان تجاوب يسوع فورياً. فقال: "«أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ»". ولكن قائد المئة اعترض بأنه لا يستحق هكذا إكرام. فقال: "قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي". لقد قال الناس عن قائد المئة: "إنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا" (لوقا ٧: ٤)؛ وأما هو فقال: "لَسْتُ مُسْتَحِقّاً"، لأنه كان يعرف قلبَه نفسه جيداً ويعرف أنه لا يستطيع ادّعاء أي استحقاق شخصي. لقد كان هذا إظهاراً منه لإيمانه الكامل بقدرة الرب. فكما أنه، وهو الضابط في الجيش الروماني، كان قادراً على أن يأمر أولئك التابعين له، هكذا كان مُتأكداً بأن يسوع كان في مقدوره أن يأمر بأن يُفارِق ذلك المرضُ خادمَه فيُطاع. هكذا ثقة تُبهجُ قلبَ يسوع. فلم يجد في إسرائيل مثل هكذا إيمان. لقد رأى في هذا استباقاً للحصاد الأُمميّ العظيم الذي كان سوف يُجمَع عما قريب، عندما سينضمُّ خُطاة مؤمنين من كل الأمم إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب فيشاركونهم في إعطاء المجد لله. ولكن الكثيرين من "بني الملكوت"- أولئك الذين كانوا من نسل إبراهيم بالتوالد الطبيعي ولكن كان يُعوزهم إيمان إبراهيم- سوف يُرفَضون وسوف يذهبون إلى الظُلمة البرّانيّة، ليُغلَقَ عليهم دون مسرّات الملكوت الذي طالما انتظروه. بالنسبة لهم سيكون هناك بكاءٌ وصرير أسنان: الأول يرمز إلى الحزن الذي سيعانونه، والآخر يرمز إلى الامتعاض الذي في قلوبهم، في إشارة إلى أنهم سيبقون غير تائبين.

وبعد ذلك يعطي الرب رسالة تطمين وتوكيد لقائد المئة طالباً منه أن يتابع سيره قُدُماً، فطالما آمنَ سيكون له ذلك. فعاد ليجدَ خادمه قد شُفيَ، لأنه "حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ" (جامعة ٨: ٤)، وها هو الملك الممسوح من الله في وسط شعب إسرائيل.

لدينا صورة اضطراب الخطيئة الذي يُشبه حُمّى في النفس، والذي يتجاوب في الحال مع لمسة شفاء المُخلِّص، وذلك في الآيات ١٤ و١٥.

"وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ".

"حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً". كان بطرس رجُلاً متزوّجاً، ويبدو أن والدة زوجته كانت تُشكِّل جزءاً من جماعة العائلة. هذه السيدة كانت قد أُصيبَت بحمّى وكانت تتقلّبُ على فراشها مُضطجعة في محنةٍ؛ ولكن عندما جاء يسوع كل شيء تبدّلَ وتغيَّر.

"فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى". كان هناك شفاءٌ في تلك اللمسة من القدرة. فتلاشى المرض أمامها، فقد كان ذاك هو ربُّ الحياة، وقامت المرأة المُعافاة في الحال وحاولت أن تُظهِر امتنانها من خلال الخدمة. "فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ". عندما يُوبّخُ يسوع حُمّى الخطية، فإن الخدمة تُصبح فرحاً وخبرةَ حياةٍ سعيدةٍ.

في كل هذه الحوادث نرى الدليل على أن ربنا يسوع هو الكافي، والذي فيه كل الموارد اللامتناهية التي تسدّ كل حاجة وكل عجزٍ. ما من شيء يُفاجئه، وليس من حاجة أعظم مما يستطيع تلبيته. لقد كانت حياته على الأرض إظهاراً لمحبته الإلهية وحنوّه، مُعطياً البشر فهماً جديداً كليّةً لصلاح الله وخيريّته وعنايته بأولاده. وما كان على الأرض فهو في المجد: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ" (عبرانيين ١٣: ٨). إنه لا يبذل قدرته دائماً بنفس الطريقة، ولكن ما من شيء يُغيّر اهتمامه واعتناءه بخاصته. لقد كانت قدرته غير محدودة. ما من حالة كانت تستعصي عليه. وخلافاً لبعض الذين أسّسوا طوائفَ دينيةٍ في محاولةٍ لإراحة الناس من الاعتلال الجسدي، فهو لم يُميّز بين الحالات التي جاءت إليه طالبة الشفاء. مهما كان المرض أو شكل الوباء، فقد كان يشفيها جميعاً. وعلى هذا الشكل أظهر قدرته الخَلْقيَّة، وعطفه وحنوّه نحو البشر.

ما من شكٍّ أنه بسبب انتقال أخباره قد تراكمت أمامه كل هذه الحالات المرضية اللافتة التي تطلبُ الشفاء إذ أن الناس جاؤوا من كل المناطق المجاورة القريبة، يطلبون انعتاقاً من أمراضهم الكثيرة. فنقرأ بعد ذلك أن:

"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا». وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعاً كَثِيرَةً حَوْلَهُ أَمَرَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْعَبْرِ" (الآيات ١٦- ١٨).

"جَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ". ما من أحدٍ تقدّمَ إليه وخاب في مطلبه. لقد كان قلبه ممتلئاً بالمحبة؛ وهكذا أعتق كل الذين جاؤوا، أياً كان مرضهم الذي يسبب لهم الألم والمعاناة.

"مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ". إن تنبّؤ أشعياء (٥٣: ٤) كان قد تحقّق حرفياً في خدمته اليومية إذ حمل أمراض وأوجاع وأسقام الناس في تعاطفه العميق. من الخطأ أن نفترض أن هذا يشير إلى عمل الصليب الذي مُسِحَ لأجله. لقد كان هنا على الأرض، وهو يجول وسط آلام البشرية، فحمل أوجاعنا، وأخذ عن الناس أمراضهم وآلامهم. ليس هناك أية فكرة يطرحها الكتاب المقدس بأن المسيح قد عمل كفّارة من أجل المرض، كما من أجل الخطية. إن المرض هو نتيجةٌ قضائية قصاصية للخطيئة وهي لا تستدعي الكفّارة. وعلى كل حال, إنه صحيحٌ أن نتيجة عمل المسيح الذي قام به عند الصليب سيُفتَدى جسد المؤمن ويتمجد عندما يعود المسيح من أجل خاصّته. "لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ" (١ كورنثوس ١٥: ٥٣). وإلى أن يحين ذلك الوقت تبقى أجسادنا خاضعة للمرض والموت كمثل أولئك الغير مُخلَّصين.

أما وقد قام بأعمال مُقتَدِرة كثيرة جداً في كفرناحوم والمناطق المجاورة، فإننا نقرأ "أعطى الأمر للمرض بأن يغادرهم". لم تكن خدمته للقلّة الأثيرة بل لجميع أولئك الموجَعين. ولذلك فقد مضى أيضاً إلى الجماعات الأخرى التي في حاجة إليه.

بينما كانوا يسيرون نحو شاطئ البحر ليأخذوا السفينة التي كانت ستحملهم إلى بلدة الجرجسيّين والعشر المدن، من الواضح أنه تحدث إلى أولئك الذين احتشدوا حوله فيما يتعلّق بموضوع التلمذة، وبنتيجة هذه الحادثة عبّرَ رجُلان عن اهتمامهما؛ أحدهما اعتذر عن اتخاذ قرار فوري باتّباع يسوع لخدمة كاملة. وعن هذين نقرأ في الآيات ١٩- ٢٢:

"فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐتْبَعْنِي وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ»".

"يَا مُعَلِّمُ أَتْبَعُكَ". إن الكاتب الذي قال هذا بشكل عفوي ارتجالي ما كان يُدرك تماماً ما يعنيه إتباعُ المعلم حقاً. لقد تأثر بالإعجاب الحماسي بيسوع، ولكن لم يكن لديه إدراك بالرفض الذي سيُعانيه.

"لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". ذاك الذي كان قد خلقَ كل الأشياء كان بلا مَسْكِن ولا مأوى في عالمه الخاص ووسط خاصته أنفسهم. أن تتبعه كان يعني أن تشاركه آلامه. ما كان يسوع ليريد لأي إنسان أن يتخذ قراراً سريعاً مُفاجئاً دون أن يحسب النفقة، لأنَّ مَن سيتبعه يجب أن يكون مُستعدّاً لأن يسير نفس الطريق من العُزلة والرفض الذي سيسلك هو نفسه فيه.

"ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". يجب ألا نفترض أن والده كان ميتاً، ولكن هذا الشاب كان يضعُ حُجَجَ الروابط الطبيعية كَعُذرٍ لئلا يتبع يسوع في الحال. أن نتحدّث عن إتّباع يسوع بشروطنا الخاصة يعني أن نخفق في إدراك أنه ربُّ الجميع وربُّ كل شيء. فهل نحن نسعى لأن نُساومه، أم أننا نُسلّم أنفسنا بدون تحفُّظ لسلطانه؟ لاحظوا جواب ربّنا لهذا الرجل.

"دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ". أي، دع أولئك الأموات روحياً يحضرون دفنَ بقايا الميّت جسدياً. إن الأمر الأعظم في الحياة هو إتّباعه.

في القسم التالي، المؤلَّف من الآيات ٢٣ إلى ٢٧، نرى قوة المسيح مُتجلِّيةً كربِّ الخليقة. فذاك الذي خلقَ الكون يُهدِّئ الرياح والأمواج. وكل الطبيعة تخضعُ لكلمته.

"وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَإِذَا اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ الأَمْوَاجُ السَّفِينَةَ وَكَانَ هُوَ نَائِماً. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!» فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟» ثُمَّ قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. فَتَعَجَّبَ النَّاسُ قَائِلِينَ: «أَيُّ إِنْسَانٍ هَذَا! فَإِنَّ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعاً تُطِيعُهُ»" (الآيات ٢٣- ٢٧).

"لَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ". هذا يعني، أنهم كانوا سيعبرون البحر إلى الجانب الشرقي, حيث كان يصحبه تلاميذه، ليذهبوا من كفرناحوم إلى كورة الجرجسيّين؛ إذ كانت كفرناحوم على الشاطئ الشمالي الغربي.

"اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ" ٢. هل كان رئيس سلطان الهواء هو الذي يسعى هكذا لأن يهلكه قبل أن تأتي ساعته؟ ما من عاصفة كان ليمكن أن تُغرِق السفينة التي كان يُبحر فيها.

رغم أن بحر الجليل ما هو إلا حوضٌ مائيٌّ صغير، ومع ذلك وبسبب مكانه العميق بين التلال المرتفعة، فقد كان خاضعاً لعواصفَ مفاجئة ذات قوة شديدة، كانت تسبب تحرّك طبقة الجو والرياح المُثقَلَة الآتية عبر الشعاب الجبليّة بسرعة هائلة. هذه العواصف كانت تتشكّل بسرعة كبيرة جداً وغالباً بدون إنذار.

"«يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!»". لقد كان هذا بدافع الخوف الذي ولَّدَه عدم الإيمان الذي قاد التلاميذ إلى أن يصرخوا هكذا. كان الإيمان ليمكّنهم من أن يستريحوا مُستندين إلى حقيقة حضورهم معه. في إنجيلٍ آخر نقرأ أن يسوع قال لتلاميذه: "«لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ»" (مرقس ٤: ٣٥). لا بدَّ أن هذا كان ليكون أساس ثقتهم. لم يطلب منهم أن يدخلوا إلى السفينة لكي يغرقوا في البحيرة، بل ليذهبوا معه إلى الجانب الآخر. لو أنهم تذكّروا هذه الكلمات فإن إيمانهم ما كان ليخزى.

"قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ". في البداية وبّخهم على عدم إيمانهم. ثم وبّخَ العناصر في الطبيعة. يخبرنا مرقس أنه أعطى أمراً مباشراً للرياح العاصفة والأمواج أن: "«اسْكُتْ. ابْكَمْ»"، كما يأمرُ المرءُ أيَّ كلبٍ غاضبٍ. وفي الحال هدأتْ عناصر الطبيعة وتوقّفت العاصفة الهوجاء. لقد عرفت الرياح والبحر صوت سيّدها عندما وبّخهم يسوع، لأن ذاك الذي كان نائماً من التعب الجسدي كان هو نفسه خالق الكون.

"أَيُّ إِنْسَانٍ هَذَا!". ومع ذلك فَهُم لم يفهموا بعد سرّ التجسّد. لقد كان هو من عمل وسطهم في قوة واقتدار لكي يفتح أذهانهم لمعرفة مَن كان بالحقيقة. وفي خشيةٍ وارتياع, نظروا إلى مُعلِّمهم بانذهال، مُتعجّبين من السلطة والقدرة التي أظهرها والتي شهدوها لتوّهم. وإذ أدركوا أنهم كانوا في حضرة ذاك الذي تُطيعه الرياح والعواصف حتى، فقد تعجّبوا إذ رأوا قدرته العجيبة وشخصه.

في كورة الجرجسيّين، حدثت سلسلة من الحوادث التي أظهرت قدرة ربنا وقوته على الأرواح الشريرة؛ ولكنها أخفقت في التأثير على الناس في ذلك الوقت، رغم أنهم فيما بعد بدّلوا موقفهم بفضل شهادة الرجل الممسوس الذي أُعتِقَ من آلاف الأرواح الشريرة التي كانت ساكنة فيه. ونقتبس الآيات من ٢٨ إلى ٣٤:

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدَّاً حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ. وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» وَكَانَ بَعِيداً مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى. فَالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ». فَقَالَ لَهُمُ: «ﭐمْضُوا». فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ. أَمَّا الرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَعَنْ أَمْرِ الْمَجْنُونَيْنِ. فَإِذَا كُلُّ الْمَدِينَةِ قَدْ خَرَجَتْ لِمُلاَقَاةِ يَسُوعَ. وَلَمَّا أَبْصَرُوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ".

"اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ". وحده متى يذكر ممسوسَين. أما مرقس ٥: ٢ ولوقا ٨: ٢٧ فيتحدثان عن واحد فقط. بالطبع ليس من تناقضٍ هنا. كان هناك هذان الاثنان التعيسان العاثري الحظ، والذي كان الرب يسوع قد حرّرهما من اللعنة الفظيعة التي كانت تفصلهما عن المجتمع وتجعلهما ينـزويان في القبور، ولكن كان أحدهما قد مرَّ بخبرة كانت مميزة بشكل خاص وأثّرَ شفاؤُه بشكل كبير على الجرجسيين، كما يسمّيهم متى.

"«مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟»". بينما هناك سرٌّ غامضٌ كبير يتعلّق بالمسّ بالأرواح الشريرة، من الواضح أن هذه كانت أرواح ساقطة واقعة تحت سلطان وسطوة الشيطان. لم تكن قد قُيِّدَتْ بعد في الجحيم، ولكنها كانت قادرة على أن تسيطر على الرجال والنساء لتُهلكهم. لقد عرفوا يسوع في الحال وأدركوا أنه الديّان الذي سيطلق الحكم الأخير عليهم. ومن هنا انكمشوا وتراجعوا مُرتعبين.

هل المسّ الشيطاني ممكن اليوم؟ بلا شكّ هو أمرٌ ممكن. هناك حالات كثيرة موثقة عن هذه البلوى المريعة يرويها خُدَّامٌ للمسيح قد احتكّوا مع هذه الحالات شخصياً. وعلى كل حال، فإن هذه الحالات كانت حقيقية في العالم الوثني حيث كان الشيطان يتمتع بسطوة كبيرة. ولكن عندما يأتي الإنجيل، فإن قوى الجحيم تحتشد لتحارب رسالة الصليب. هناك حالات كثيرة من طرد الأرواح الشريرة، والانعتاق الكامل لأولئك الذين كانوا خاضعين لسطوتهم.

"قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى". هذه البهائم النّجسة لم تكن تُعتبر مناسبة للطعام، بحسب الناموس الموسويّ (لاويين ١١: ٧). ولكن كان هناك يهود منحطّون متدنّيوا المستوى يُعنَون بها من أجل بيعها للأمميين. لقد صارت هذه مهنة ذلك الابن الضال (لوقا ١٥: ١٥). بحسب الناموس، هكذا مهنة كانت غير شرعية تماماً ومخالفة للناموس وسط بني إسرائيل.

"«إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ»". يبدو أن ذلك الروح الشرير كان يسعى للدخول إلى جسدٍ ما بشكلٍ ما. وإذ كانوا سيُطرَدون من البشر الذين يسكنون فيهم، فقد طلبوا أن يُسمَح لهم بأن يتملّكوا أجساد الخنازير النجسة.

"وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ". لقد كانت دينونة في محلّها تُلقَى على مالكي الخنازير الفاسدين، عندما تُدمَّر السلع التي يتاجرون بها. ليس من الضروري أن نفسّر الحادثة بحدّ نفسها، ولا دور الأرواح الشريرة التي كانت فيها. ما تؤكّد عليه الرسالة هو القدرة الهائلة عند البشر لصنع الشر. ألفي خنـزير (مرقس ٥: ١٣) ما كنت كافية لتحوي الأرواح الشريرة التي كانت قد وَجَدت مكان إقامة في رَجُلَين رديئَين مُنحَطَّين.

"أَمَّا الرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ". لقد سارع مربّوا الخنازير في انذهال ورعب راجعين إلى بلدتهم، حيث رووا الأنباء الغريبة التي حدثت لهم، مستندين إلى تحرر الممسوسَين المجنونَين وهلاك الخنازير.

"طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ". إذ غضبوا بسبب الخسارة المالية، وبدافع الخوف من تأثيرات سيئة أخرى قد تصيبهم إذا ما جاء الرب يسوع لمعرفة المزيد من شرّهم وإثمهم، فإن الجرجسيين طلبوا إليه أن يغادرهم في الحال. لقد كان أمراً يدعو إلى الإشفاق أن يرفضوا ذاك الذي كان سيأتيهم ببركةٍ لا حدَّ لها، ولكن بالنسبة للجرجسيين كانت خنازيرهم ذات قيمة أعظم بكثير من نفوس الناس.

لا يذكر متى أن واحداً من الذين شُفيوا من الأرواح الشريرة قد طلبَ من يسوع أن يبقى معه؛ ولكن الرب كان لديه مُخطّط آخر له: لقد كان يريد له أن يشهدَ لأصدقائه في دياره عن قوة المسيح المُقتدِرة، التي حررته. ذلك امتياز ومسؤولية تُلقى على كاهل كل الذين يخلصون. إن عرفنا الرب يسوع مُخلِّصاً لنا، فهل نحن نشهد له بإخلاص للآخرين، لكيما يختبروا هم أيضاً خلاصه؟ يعطينا مرقس ولوقا معلومات تتعلّق بذلك الممسوس الذي صار تلميذاً ليسوع، ويخبرانِنا عن الطريقة التي نشر فيها ذلك الرجل النبأ السار عن البَرَكة التي أفاضها المسيح عليه. لقد حمل الرسالة إلى كل أرجاء العشر المدن، على الجانب الشرقي من بحر الجليل. عندما رجع يسوع إلى تلك المنطقة بعد برهةٍ من الزمن استقبله الناس بترحيب، وهذا كان يتناقض مع الموقف الذي واجهوه به سابقاً (مرقس ٦: ٥٣- ٥٦).

إذ نتأمّل في المعجزات العديدة المتنوعة المُدوَّنة في هذا الأصحاح تنتعش قلوبنا وتتحرك نحو العبادة والتسبيح في حين نتأمّل في محبة يسوع للبشرية البائسة المُبتلية. ونتذكّر أن الله هو الذي يتكلّم ويسلك من خلال ابنه على الدوام. إن الله يجد مسرّته في خدمة المحتاجين من خلائقه، وفي تحريرهم من الظروف المُكربة الموجعة التي تملأ نفوسهم بالخوف، وأن يحررهم من استعباد الشيطان، بأي شكل من الأشكال. وبما أن يسوع هو الله مُتجلّياً في الجسد، فإن أعماله هي أعمال الله، وتُظهِر أبداً العناية الإلهية نحو البشر وموقف الله منهم. علينا أن نتعلَّم أن نثق به بشكلٍ أكمل، وإذ نفعل ذلك، فإننا سنعرف بالخبرة العمليّة كم هو حقيقي وصادقٌ ومُؤكَّدٌ اهتمامُه بأولئك الذين يثقون بمحبّته ويتّكلون على إعماله لقدرته. يسوع هو التعبير الدقيق عن الشخص الإلهي (عبرانيين ١: ٣)، وفي أعمال نعمته نرى قلب الله ينكشف أمامنا.


١. اللاّأدْرِيّ:(agnostic ): من يعتقد بأن وجود الله وطبيعته وأصل الكون أمورٌ لا سبيل إلى معرفتها [فريق الترجمة].

٢. في الأصل "عاصفة هوجاء" [فريق الترجمة].

الأصحاح ٩

الملك يتابع إظهار قدرته ونعمته

لدينا أوراق اعتماد الملك وقد قُدِّمت خلال هذا الأصحاح والذي سبقه كما لاحظنا لتوّنا. لقد شهدتْ أعمال قدرته وصادقت على مزاعمه المسيانية. كل عجائبه كان قد قام بها، ليس لتمجيد نفسه، ولا ليجعل الناس يحيّونه قائلين: "«إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!»" (أعمال ٨: ٩)، بل لكي يخفّفَ ويسكّن آلام وأمراض البشرية التي تعاني. لقد تُنُبِّئَ قبل زمنٍ طويل أن ملك الله الممسوح سيفتح عيني العميان، ويفتح أُذني الصم، ويجعل العُرج يقفزون كالأيّل، ولسان الأبكم يغني (أشعياء ٣٥: ٥، ٦). وكل هذه عملها الرب يسوع، وأكثر، مُقدِّماً خدمة للناس المحتاجين بدافع المحبة الكبيرة التي يفيض بها قلبه. ذكّر بطرس كورنيليوس بـ "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨). إننا نرى هذا الاهتمام بالإنسانية المبتلية متبدّياً في هذا الأصحاح. ومع ذلك علينا أن نتذكر أن هذه الخدمة كانت محصورة، مع بعض الاستثناءات الضئيلة جداً، على الخراف الضالة من بيت إسرائيل (متى ١٠: ٦) كشهادة للشعب المختار على أن ملكهم الذي انتظروه طويلاً كان في وسطهم (صفنيا ٣: ١٥). ولكن رغم أنهم شهدوا عدة براهين على سلطته الإلهية، فإن قادة الشعب كانوا يصرّون بشكل ثابت راسخ على مقاومة مزاعمه والازدراء بشهادته (يوحنا ٧: ٤٨) رغم أن عامة الناس كانوا يصغون إليه بسرور (مرقس ١٢: ٣٧)، ولكن حتى وسط هؤلاء كان هناك كثيرون ممن يؤمنون ولكن بطريقة سطحية لأنهم رأوا المعجزات التي كان قد اجترحها (يوحنا ٢: ٢٣). يجب أن يكون الإيمان بالمسيح نفسه، وليس بالآيات أو العجائب التي عملها. أن ترى فيه معلِّماً عظيما ونبياً أو صانع معجزات ليس نفس الأمر كما لو اقتبلته مخلِّصاً واعترفتَ به رباً على حياتك. إن الأحداث المدوَّنة هنا وفي الأصحاح السابق لا تأتي مرتبة بحسب التسلسل الزمني، بل هي مُجمَّعة بحسب معناها أو مغزاها لتكون شهادات تبرهن على أن يسوع المسيح هو المسيا. وعلى الأرجح أنها حدثت في السنة الثانية من خدمته العلنيّة.

مع بدء الأصحاح نرى ربنا، وقد رفضه الجرجسيون، يعود إلى الجليل، حيث سرعان ما يأتي إليه بعض الأصدقاء بمفلوج ليشفيه. يخبرنا مرقس ولوقا أن هذا حدث في منـزل وليس في الريف المفتوح؛ وأن الأربعة الذين ساعدوا المريض، وإذ وجدوا أنه من غير الممكن أن يشقوا طريقهم وسط الحشد المتجمهر أمام الباب، صعدوا إلى السطح، ونقبوا فتحةً في القرميد أو أزاحوا القش من السقف، وأنـزلوا المفلوج بالحبال إلى عند قدمي يسوع.

نعلم هنا أن:

"فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَاجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ. وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحاً عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هَذَا يُجَدِّفُ!» فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ فَقَالَ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» - حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللَّهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَاناً مِثْلَ هَذَا" (الآيات ١- ٨).

لدى عودته إلى الشاطئ الشمالي الغربي من بحر الجليل دخل يسوع إلى بيتٍ في كفرناحوم حيث جرتْ هذه الحادثة.

"فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ". من الواضح أنه ليس فقط المفلوج بل أيضاً أصدقاءه الذين أتوا به كان لديهم كل الثقة بأن يسوع سيمنحه الشفاء بناءً على طلبهم. فتجاوب في الحال، ولكن بطريقة لم يتوقعوها، إذ قال: "«ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ»". وهكذا لبّى الحاجة الأعظم أولاً.

بالنسبة لبعض من الكتبة الذين كانوا على مقربة، كان هذا أسوأ أنواع التجديف. فهاهنا إنسان ينسب لنفسه امتيازاً إلهياً. فما من أحد سوى الله يمكنه أن يغفر الخطايا. فمن يكون يسوع هذا الذي يتجرّأ على استخدام هكذا لغة؟

لقد عرف أفكارهم ووبّخهم بسؤاله لهم: "أَيُّمَا أَيْسَرُ أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟". بالنسبة لهم كان كلا الأمرين مستحيلاً.

إن الناس ميالون أبداً إلى اعتبار الأمراض الجسدية أشد أهمية بكثير من الإثم في قلوبهم، ولذلك فهم مهتمون بالحصول على صحة جسدية والحفاظ عليها أكثر بكثير من أن يكونوا مستقيمين أمام الله. ولكن ربنا وضع الثقل على حالة النفس. لقد كان يريد أن يدرك البشر فساد قلوبهم (متى ١٥: ١٩) وحاجتهم إلى الانعتاق من الإثم والذنوب وسطوة الخطية (يوحنا ٨: ٣٤)، فهكذا يدخلون إلى حياة الشركة مع الله ويكونون على يقين من نيل حظوة أبدية لديه (يوحنا ١٤: ٢٣). بالنسبة له كان المريض جسدياً هو شهادة على حقيقة الخطية الكائنة في العالم، وما كان راضياً على أن يعالج النتيجة، بل كان يسعى للبحث عن السبب دائماً وأبداً.

ولكن لكي يعلموا أن ابن الإنسان كانت له القدرة على الأرض ليغفر الخطايا، فقد التفتَ إلى المفلوج وأمره أن ينهض، وأن يحمل سريره ويمشي. وبينما كان مُنتقدي الرب ينظرون في عجبٍ وذهول، هبَّ الذي كان عاجزاً قبلاً على قدميه وسار خارجاً وذهب إلى بيته، مُعافى ومفغور الخطايا. ابتهج الحشد المجتمع ومجّدوا الله على هكذا إظهارٍ لنعمته وقدرته. وهذا ما كان يسوع يرجوه. لقد كان يسرّه أن يقدّم الناس الكرامة والإجلال للآب، الذي كان يعمل في ومن خلال ابنه.

في القسم التالي نقرأ عن رجل آخر انضم إلى الجماعة المختارة من التلاميذ الذين كانوا يرافقون يسوع- هذه الجماعة التي كانت تشمل فيما بينها على بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا الذين كانوا قد انضموا إليها للتو.

"وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ. فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»" (الآيات ٩- ١٣).

"رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي»". إن متى، الذي يُدعى لاويّ أيضاً (مرقس ٢: ١٤)، كان جابي ضرائب في مرفأ كفرناحوم. من الواضح أنه كان قد رأى وسمع الرب يسوع قبلاً. والآن آن الأوان لاتّخاذ قرار. وفي إطاعةٍ منه لدعوة المخلّص، رتّب مباشرة لأن ينهي عمله، ويصبح تلميذاً للمسيح لخدمة كاملة. وبإرشاد الله، صار كاتباً لهذا الإنجيل.

"وَبَيْنَمَا هُوَ (يسوع) مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ". كان هذا بيت متى، الذي أقام وليمة عشاءٍ وداعية لرفقائه السابقين قبل أن ينطلق في هذه المهنة الجديدة التي اختارها. وإلى هذا العشاء دُعي الرب يسوع المسيح وتلاميذه.

"«لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟»". لا يستطيع الناموسي أبداً أن يفهم نعمة الله نحو الضالّين تماماً وغير المُستَحقِّين. إذ كانوا معتادين على التفكير بأن الله يُؤثر البشر ذوي الاستحقاق, فقد صُدِموا إذ رأوا يسوع المسيح يعاشر الخطاة.

"لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى". لقد استخدم ربنا مثلاً توضيحياً كان يمكن لأي شخصٍ أن يفهمه في ردّه على الاعتراض الصادر عن هؤلاء المنتقدين من أصحاب البر الذاتي. إن المرضى هم الذين يحتاجون إلى طبيب، وكان هو الطبيب العظيم الذي أتى ليخدم نفوس المرضى بالخطيئة.

"إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً". لقد لفتَ يسوع انتباه هؤلاء الناموسيين مباشرة إلى إعلان كان الرب قد أعطاه عبر هوشع (٦: ٦). إن الرب ليهتمَّ برؤية الرحمة تمتد إلى المحتاجين أكثر من اقتباله للذبائح والقرابين. وهكذا جاء يسوع "لا ليدعو الأبرار"- أي، أولئك الذين يُفتَرض أنهم ليسوا في حاجة إلى الرحمة- بل كانت خدمته موجهَّة إلى الخطاة الذين دعاهم إلى التوبة.

في الآيات الأربع التالية نأتي إلى تمييز كبير بين مبدأ الناموس الذي يُقال لنا في غير مكان أنه ساد إلى أن جاء يوحنا المعمدان (لوقا ١٦: ١٦) والنعمة والحقّ اللذين جاءا بيسوع المسيح (يوحنا ١: ١٧).

"حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ. لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلاَ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَنْشَقَّ الزِّقَاقُ فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً»" (الآيات ١٤: ١٧).

"حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا" بسؤالٍ حول الصوم. من الواضح أ، كثيرين من الذين كانوا قد تعمّدوا على يد يوحنا لم يسلّموا أنفسهم ليسوع بل كانوا ينتظرون دليلاً أوضح على أنه كان المسيا الموعود. لقد انـزعجوا واضطربوا لأن التقشف الذي علَّمَ به يوحنا، والذي كان يُعتبر موضع تقدير من قِبَل الفريسيين، لم يكن تلاميذ يسوع يمارسونه.

وردّاً عليهم أوضح أنه طالما كان معه بشخصه فما من حاجة للصوم؛ ولكن في ذلك اليوم الآتي (والذي ما كانوا قد فهموه بعد) عندما سيُرفَع من بينهم، سيكون الصوم أمراً حسناً واجباً. إن حضور العريس يدعو إلى الغبطة والسرور. وغيابه سيجعل نفوس أتباعه تشعر بالحاجة إلى نكران الذات.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ". لم يكن قد أتى ليضيف شيئاً إلى التدبير الناموسي بل ليبطله ويضع مكانه تدبيراً جديداً بالكلية. فمحاولة الدمج بين مبدأي الناموس والنعمة سيلغي المعنى الحقيقي لكليهما (أنظر رومية ١١: ١٦).

إن خمر النعمة الجديد لم يكن ليُسكَب في زقاق الناموسية العتيقة. فهكذا محاولة ستُتلف كليهما. وإنه لأمر بالغ الأهمية أن ندرك هذا، إذ أننا نرى في العالم المسيحي اليوم الكثير من معلّمي الناموس الذين، كما يقول بولس عنهم، ليس لديهم فهم لما يؤكدون عليه عندما يحاولون فرض المبادئ الناموسية على أولئك المُخلَّصين بالنعمة (١ تيموثاوس ١: ٥- ٧).

وفي الآيات ١٨ إلى ٢٦ نجد أعجوبتين محبوكتين معاً بشكل متمازج. يُقصَد بكليهما إظهار قدرة وحنوّ الملك الذي كان وسط بني إسرائيل رغم أن الغالبية العُظمى لم تكن تعرفه أو تعترف به.

"وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهَذَا إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: «إِنَّ ابْنَتِي الآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا». فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ. وَإِذَا امْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ لأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: «إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ». فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا فَقَالَ: «ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ». فَشُفِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ وَنَظَرَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ قَالَ لَهُمْ: «تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ. فَخَرَجَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا" (الآيات ١٨- ٢٦).

"إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ". اسم هذا الرجل كان يَايِرُسُ (مرقس ٥: ٢٢). لقد كان رئيساً لمجمع محلّي في كفرناحوم. من الواضح أنه كان يؤمن بمزاعم يسوع المسيح ولذلك طلب منه أن يأتي لمساعدته، لأن ابنته الصغيرة كانت، كما يقول، قد "ماتت الآن"؛ أي كانت مريضة جداً حتى أنه أدرك أنها كانت عند حافة الموت، ما لم تتدخّل العناية الإلهية.

"فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ". بدافع محبته الحانية، انطلق المخلّص في الحال إلى منـزل هذا الرئيس، ونعلم من النص أنه "تَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ".

"وَإِذَا امْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ".

"إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ". لقد كانت على ثقة بأنها إذا لمست يسوع على هذا النحو فإنها سوف تُشفَى في الحال.

"«ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ»".

لقد أدرك الربُّ إيمانَها وأعطاها اليقين أنه بسبب ذلك فإن كل ما تطلبه يُجابُ لها. لقد اعتُبرت مثالاً يُحتذى.

"جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ". في خلال هذه الأثناء، كانت الصبية، ولا بد، قد تجاوزت كل أمل بالنجاة والشفاء. لقد فارقت الحياةُ جسدَها، وبدت هذه الزيارة من يسوع وكأنها بلا جدوى. وكانت الإعدادات قد تمت من أجل دفنها، وكان الندّابون المأجورون قد بدأوا يقومون بدورهم في النحيب والعويل. إلا أن مجيء الرب يسوع المسيح كان ليغير كلَّ هذا، لأنه يعطي دهن فرح عوض الحزن (أشعياء ٦١: ٣).

"الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ". هل كانت الصبية في حالة غيبوبة وحسب أم كانت ميتة فعلاً (عندما وصل الرب)؟ الإجماع في الرأي عند معظم الدارسين المسيحيين هو أن هذا كان رقاد الموت، ولكن حقيقة أن اللغة اليونانية تستخدم هنا كلمة تعني "نوم" مختلفة عنها في مقاطع أخرى حيث يكون فيها المعنيان نوم وموت مترادفان, قد قادت البعض إلى استنتاج أنها كانت فقط في حالة حياة معلقة. مهما يكن من أمر, لقد كانت ميتة وما من قدرة بشرية يمكن أن تفيد في حالتها.

"أَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ". في مكان آخر نسمع أنه أمرها بحنو أن تنهض, وما أن أمسك بيدها حتى استجابت وعادت إلى الحياة, وأُعطِيَت طعاماً (مرقس ٥: ٤١- ٤٣؛ لوقا ٨: ٥٤, ٥٥).

"فَخَرَجَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا". انتشر الخبر من شخص إلى آخر, وتحدث الناس بانذهال عن هذا الحادث العجيب الذي جرى. لقد كان شهادة على قدرة يسوع المسيح, النبي العظيم الذي قام في الأرض.

وهناك حادثتان مدونتان في المقطع الذي يلي ذلك يُظهِران مسيانية يسوع, ولكن هذه الأعمال, وبدلاً من أن تُقنِع الفريسيين القساة ذوي البر الذاتي, فإنها أعطتهم الفرصة لاتهام يسوع بالتجديف واعتبار أنه كان متحالفاً مع بعلزبول رئيس الشياطين.

"وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولاَنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ». وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هَذَا؟» قَالاَ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: «ﭐنْظُرَا لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!» وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا. وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ قَائِلِينَ: «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هَذَا فِي إِسْرَائِيلَ!» أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»" (الآيات ٢٧- ٣٤).

إذ عرفَ الأعميان أنه ابن داود الموعود، التمسا منه الرحمة على ذلك الأساس.

ولكي يختبرَ إيمانهما سألهما يسوع: "«أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هَذَا؟»". وعند ردّهما بالإيجاب، لمس أعينهما وقال: "«بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا»".

وفي الحال نظرا إليه بعينين رأتا وجهه المبارك: وزال العمى عنهما. وندرك كم كان استعدادهما كبيراً ليُذيعا في كل الأرجاء خبر ما حدث وشهرة ذاك الذي أعمل قدرة عظيمة فيهما. ولكنه أمرهما أن "«ﭐنْظُرَا لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!»". لم يكن ليرغب أن يُعرَف فقط كصانع معجزات.

لقد كانا في غاية الحماسة والفرح حتى لم يستطيعا أن يتمالكا أنفسهما, بل ذهبا في كل أرجاء المنطقة وأذاعا خبر ما فعل يسوع لهما.

لعلنا نتساءل لماذا أمرهما يسوع ألا يفعلا ذلك. لا بد أن السبب هو أنه كان يرغب أن يتبع الناس رسالته لا أن يتأثروا بأعماله. لقد كان, وهو على الأرض هنا, وكما نعلم من عبرانيين ١: ٣, الصورة المعبرة عن الشخص الإلهي: أي التعبير الدقيق عن شخص الله. إن الحنو الذي أظهره للجنس البشري المحزون المكتئب كشف قلب الله الذي ينظر إلى الآلام والمعاناة التي أتت بها الخطيئة إلى العالم. أينما ذهب الرب كان ينبري لإعتاق الناس من هذه الأدلة على الحقد الشيطاني. لقد شهدت معجزاته على حقيقة لاهوته ودلت على مسيانيته. إن الإيمان بالمعجزات لا يخلّص أحداً, على كل حال. ولكن الإيمان بذاك الذي قام بها كان في ذلك الحين, كما اليوم, هو وسيلة الخلاص من الخطيئة والتحرر من آثارها.

في الأعجوبة الأخرى نرى تجلياً آخر لسلطان يسوع على الشياطين. دعونا نتذكر أنه في الإنجيل حيث يكون هناك شياطين, بصيغة الجمع, فهي بالتأكيد ودائماً أرواح شريرة.

جيء إلى يسوع برجلٍ ممسوس بشيطان أبكم, أو شيطان كان يسيطر على قدرات النطق عند هذا البائس المسكين فيجعله عاجزاً عن الكلام. فأخرج يسوع الشيطان في الحال, ولفرحة ومسرة أصدقائه, ولدهشة الجموع, فإن ذاك الذي كان أبكم قد نطق. فصرخ الناس: "«لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هَذَا فِي إِسْرَائِيلَ!»".

ولكن قادة الدين المتعجرفين المتكبرين, وقد ألحوا على مقاومة ورفض أي دليل مهما يكن على أن يسوع هو المسيا, أعلنوا قائلين: "«بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»".

في هذه الأثناء لم يوبخ أولئك المجدفين بل تابع سيره بهدوء مكملاً خدمته العظيمة, كما يخبرنا المقطع الختامي من هذا الأصحاح:

"وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنـزعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ»" (الآيات ٣٥- ٣٨).

هذه المدن والقرى التي دخل إليها يسوع كانت كلها في الجليل (الآية ٣٥). مع تلاميذه, انتقل من بلدة إلى أخرى, معلّماً بالمجامع, مبشراً بإنجيل الملكوت, كما يُقال لنا هنا, ويشفي كل أنواع الأمراض. هذا التعبير "بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ" هو في غاية الأهمية. لقد كان إعلان البشرى الحسنة بأن الله كان على وشك أن يؤسس ملكوته في هذا العالم. لقد كان الملكوت قد قدمه الله لبني إسرائيل ولكن فقط بشرط توبتهم وقبولهم للملك. وكما نعلم, فقد أخفقوا في ذلك, فأُخِذَ الملكوت منهم وأُعطِيَ إلى آخرين كانوا على استعدا لتحقيق متطلباته الصحيحة المحقة. هناك فارق, بالطبع، بين "بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ" و"إنجيل نعمة الله"؛ ومع ذلك فلا يجب أن نفرّق بينهما على أنهما إنجيلين مختلفين, إذ نعلم بشكل واضح من غلاطية ١: ٩ أن الكرازة بأي إنجيل آخر يختلف عن الذي كان يبشّر به بولس في كل أرجاء العالم كان يعني أن يستجلبَ المرء على نفسه اللعنة من الله. إن الإنجيل هو رسالة الله المتعلقة بابنه. إنه يأخذ مظاهر مختلفة في أزمان مختلفة, ولكنه كله إنجيل المسيح. في متى, كما رأينا, يُصوَّرُ المسيحُ كملك: أي أن التركيز هو على ملوكيته أكثر منه على عمله الفدائي, ومع ذلك فإن هذا الجاني الأخير ليس مُهملاً, كما سنرى في أصحاح لاحق؛ وفي الواقع، في بداية هذا الإنجيل، كان إعلان الملائكة أن يسوع سوف "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى ١: ٢١). ولذلك, فإن الجوانب المختلفة من الإنجيل يجب أن تُميَّز ولكن دون أن يُخلط بينها أو تُشوَّش. إنها تتعلق جميعاً بتصوير مسيح الله على أنه العلاج الوحيد لحاجة العالم العظيمة.

لقد تأثر قلب ربنا المبارك وهو يرى الجموع التي ليس في إسرائيل من يقودها على نحو صحيح. لقد كانوا كغنم لا راعي لهم إلى أن جاء هو, الراعي الصالح, ليُطعِمها ويقوتها ويُعنى بها.

إنه يُلفِت انتباه تلاميذه إلى حقول الحصاد العظيمة الممتلئة بالنفوس الثمينة التي تحتاج إلى معرفة الحق المتعلق به. وإلى هذه الحقول كان عليهم أن يمضوا ويحصدوا. إنه يطلب منهم أن يصلّوا إلى رب الحصاد أن يرسل فعلة ليجمعوا القمح الذي نضح. لنقرأ ما قاله الرب عند بئر سيخار بنفس الفحوى فنفهم شيئاً من الاهتمام العميق الذي كان لدى يسوع بخلاص الضالين رجالاً ونساءً. في يوحنا ٤: ٣٥- ٣٧، يقول: "أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ".

إن هذه الكلمات تدخل إلى أعماق قلوبنا. إنه يريدنا أن نذهب إلى الحقول: اذهبوا وازرعوا واحصدوا وصلّوا لعل آخرين كثيرين يهبون ليقوموا بالعمل العظيم في تبشير العالم.

الأصحاح ١٠

رسل الملك

لكي نفهم بشكل صحيح دعوة وتفويض الإثني عشر قبل صلب ربنا, نحتاج لأن نضع في أذهاننا أن الرب يسوع المسيح كان يقدم نفسه لإسرائيل كملك موعود لهم. لقد كان الله يتعامل معهم كشعب, مُعطياً إياهم فرصة كاملة للإقرار بمطالب ابنه. لقد اخْتِيرَ الإثنا عشر كرسل له إلى الشعب على هذا النحو, وكانت خدمتهم, كمثل خدمته, موجهة بشكل رئيسي إلى "خِرَاف ِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (الآيات ٥, ٦).

لقد كان الإثنا عشر تلاميذَ قبل أن يصبحوا رسلاً. أي أنهم كانوا تلاميذ يتعلمون في مدرسة المسيح قبل أن فُوِّضوا كرسل وبُعِثوا كرسل للملك, ليُعلِنوا أن الملكوت السماوي الذي طال انتظاره قد اقترب. ويُعطى التفويض لهم في هذا الأصحاح العاشر. وهو يختلف كثيراً عن ذاك الذي يُعطى لهم في ختام هذا الإنجيل, بعد أن يكون الملك قد رُفِضَ, وعندما كان على وشك أن يرجع إلى الآب. هذا التفويض الباكر كان له علاقة بخدمتهم لبني إسرائيل فقط. أما الأخير فقد كان لكل الأمم.

كرسل للملك إلى الشعب المختار, كان عليهم أن يذهبوا معتمدين على الرعية المخلصة للملك لتؤمن لهم الضيافة والاستقبال ولتؤيدهم في سبيله؛ ومن هنا فقد كان عليهم أن يذهبوا بدون كيس نقود أو حقيبة أو أي زاد آخر, كما يفعل من يذهب في رحلة طويلة. فإن قُبِلوا بسلام, يتوجب عليهم أن يكرزوا بإنجيل الملكوت وأن يشفوا المرضى, معززين بقوة الرب. وإن رُفِضوا, كان عليهم أن يُعلِنوا أن دينونة على وشك أن تقع, وأن يتابعوا سيرهم إلى بلدات وقرى أخرى. لقد حذرهم الرب يسوع مسبقاً من المعاملة السيئة التي كانت في انتظارهم في بعض الأماكن, ولكنه أعلن لهم أن الآب السماوي سيحرسهم. بعد الصليب تغير كل هذا, وأخذوا تفويضاً ليذهبوا إلى كل العالم وأن يتلمذوا جميع الأمم. هذا التفويض لم يُلْغَ أبداً, وهو فاعلٌ اليوم, رغم أنه لم يكن قد نُفِّذَ بشكل كامل. إن لم نرَ هذا الفارق فإننا سنتشوش على الأرجح, لأن تعليمات مخالفة تماماً نجدها في الأناجيل تتعلق بمسؤولية الرسل في كل حادثة. صحيح أن الغالبية العظمى من بني إسرائيل لم يكن لديهم استعداد قلبي لأن يتجاوبوا مع الرسالة, ولكن الظروف كانت مختلفة تماماً. كان الله قد رأى مسبقاً الرفض الذي سيلاقيه ابنُه, وكان موته الكفاري هو أساس المخطط الإلهي لبركة العالم, ولكن هذا لم يُقلل من مسؤولية بني إسرائيل, كما أعلن بطرس فيما بعد (أعمال ٢: ٢٣). لقد كان ملائماً أن يُقدَّمَ عرض الملكوت أولاً لبني إسرائيل, لأنهم كانوا أبناء الملكوت بسبب الولادة الطبيعية. فلهم كانت الوعود قد أُعطِيَت؛ وكانوا يترقبون منذ قرون مجيء الملك واستعلان سيادته على كل الأرض, ويكون إسرائيل شعبه المختار, الذين منهم ستأتي البركة إلى كل العالم (أشعياء ٦٠: ١- ١٦). وعندما رفضوا أن يُطيعوا الرسالة التي أعطاها لهم الرب ورسله, أُخِذَ الملكوت منهم وأُعطيَ لشعب آخر (متى ٢١: ٤٣).

"ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هَذِهِ: الأَََوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. فِيلُبُّسُ وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُو ا بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَاف ِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. ﭐِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا. لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ. «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ" (الآيات ١- ١٥).

كانت دعوة الرسل هي العمل الأولي في خدمة جديدة وأكثر اتساعاً. لقد كان يسوع يدربهم لبعض الوقت, وعُرِفوا كتلاميذ له وسط الشعب. والآن فوضهم لأن يذهبوا اثنين اثنين ليعلنوا في كل أرجاء إسرائيل أن ملكوت السموات قد اقترب.

"ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً". هؤلاء الإثني عشر كانوا معه منذ فترة من الزمن. والآن فرزهم عن الآخرين من أتباعه, مُعيِّناً إياهم رسلاً رسميين له. في الآية ٢ يوصفون, ولأول مرة, على أنهم "رسل"؛ أي "مُرسلين" أو "مُفوَضين". وفي الآيات ٢- ٤ تُعطى أسماؤهم. لقد كان يسوع قد وجدهم في مسالك متنوعة في الحياة, ودعاهم ليكونوا رفقاءَه استعداداً للعمل العظيم الذي كان سيُوكِله إليهم. وقد أثبت الجميع, باستثناء يوحنا الإسخريوطي, إخلاصهم للثقة التي منحهم إياها.

"إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا". يجب أولاً أن يُقدَّمَ الملكُ إلى إسرائيل ويُعرضُ الملكوت عليهم. فقبل رفضهم لكليهما, لم يكن الإنجيل قد امتد إلى كل العالم وكل الأمم (متى ٢٨: ١٩؛ مرقس ١٦: ١٥؛ لوقا ٢٤: ٤٦, ٤٧؛ أعمال ١: ٨).

"بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَاف ِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ". لقد كان ينبغي على الإثني عشر أن يسعوا وراء هؤلاء, مُعطين لبني إسرائيل الفرصة للتوبة عن خطاياهم واقتبال ملكهم, وهكذا يكونون مستعدين لدخول ملكوته.

"وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا". إن الرسالة التي كانوا سيحملونها أو الإعلان الذي كانوا سينقلونه كان موجزه أن "قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ". فهذا الملكوت كان الشعب قد انتظره طويلاً. وها هو الآن يُقدَّمُ لهم ليقبلوه أو يرفضوه.

"مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا". لقد كانت قوى معجزية تُمنح لرسل الملك للمصادقة على ما يزعمونه. ولكن ما كان عليهم أن يُسيئوا استخدام الأشياء لأجل غناهم الشخصي. كان عليهم أن يُعطوا مما أُعطِيَ لهم, دون أن يطلبوا مقابل لأنفسهم.

"لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ". لقد أرسل الرب الاثني عشر بدون ذهب أو فضة لنفقاتهم, وبدون رداء إضافي يرتدونه. لقد كانوا رسل الملك وممثليه, وقد ذهبوا إلى خاصته, ولذلك فقد كان لهم الحق بأن يتوقعوا بأن يُعنى بهم المخلصون من بني إسرائيل الذين كانوا ينتظرون الملك. وإذ كانوا يذهبون من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى فقد كانوا يستعلمون في كل مكان عمن كان مُستحقاً: أي عمن كان يُعتبر رجل تقوى وحياة بارة ينتظر افتداء إسرائيل. فإن رُفِضوا كان عليهم أن يتابعوا سيرهم وأن ينفضوا الغبار عن نعالهم كشهادة ضد ذلك البيت. فمن اقتبلهم كان سيجد بركة. وأولئك الذين رفضوهم سينالون دينونة- دينونة شديدة لدرجة أن تلك التي وقعت على سدوم وعمورة ستكون ضئيلة مقارنة بها. كان ذلك بسبب أن النور يزيد المسؤولية. لقد كانوا يتمتعون بامتيازات لم يعرفها سكان المدن من الناس البسطاء العاديين, ولذلك فقد كانت عقوبتهم أشد إذا ما رفضوا اقتبال الملك وأهانوا رسله.

يبدو واضحاً أن كلمات الرب المتعلّقة بالبلايا والمآسي التي كان سيواجهها هؤلاء الرسل تذهب إلى ما وراء ما اختبروه خلال الفترة القصيرة من شهادتهم في الجليل، وكان يُقصَد بها إعدادهم لما سيُدعَون لمواجهته، بعد صلب المسيح وقيامته، عندما سيتابعون الشهادة أولاً لبني إسرائيل ومن ثم للأمميين. من جهة أخرى علينا أن نتذكر أن الكتاب المقدس يشير إلى شهادة مستقبلية لبني إسرائيل من خلال مجموعة من المؤمنين اليهود المُخلصين الأتقياء، الحكماء الذين تحدث عنهم دانيال ١٢، في فترة الضيقة بين اختطاف الكنيسة واستعلان ابن الإنسان في مجيئه الثاني. فخلال تلك الساعة الحالكة من سيطرة ضد المسيح ستكون هذه الآيات دليلاً وتعزية للشهود الذين سينطلقون عندها ليعلنوا عودة الملك الذي كان مرفوضاً يوماً.

"«هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ. وَلَكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ وَالأَبُ وَلَدَهُ وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلَكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ. وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (الآيات ١٦- ٢٣).

"هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ". إن يسوع لا يريد لأتباعه أن يعيشوا في الوهم فيما يتعلّق بتمثيله وسط شعب كان في الماضي قد قتل أنبياءَه وقاوم مُطالباتهم له بالعودة إلى الرب. كان التلاميذ سينطلقون لمواجهة أعداء كارهين لهم كانوا سيتوقعون منهم أن يكونوا أصدقاء ودودين. ففي هكذا ظروف كم هم في حاجة إلى الحكمة التي تنحدر من العلاء.

عندما يُقبَض عليهم ويُدعَون أمام المحاكم المدنية أو الكنسية عليهم ألا يكونوا قلقين أو مرتبكين أو محتارين في طريقة الدفاع عن أنفسهم، لأنهم يُعطَون "في تلك الساعة" ما يقولونه بروح الآب الناطق فيهم. إن تعبير "روح الآب" غير اعتيادي، ولا يدل بالضرورة على الحقيقة الكاملة بسُكْنى المُعزّي، الذي ما كان سيأتي حتى يتمجَّد يسوع. ولذلك، فإن الرب يستخدم هذا التعبير الغامض نوعاً ما، الذي سيبقى قابلاً للتطبيق عندما سيأتي الدهر التدبيري للروح القدس.

كان عليهم أن يكونوا مستعدّين لتحمّل سوء الفهم من العائلة والعداوة من الأسرة هذه التي ستنشأ عن إيمانهم بالمسيح وإخلاصهم له. إن مقاومة العالم لملكهم الحق ستكون على تلك الدرجة من الشدّة والمرارة حتى أن أولئك المخلصين له سيلاقون البغضاء من كل الناس من أجل اسمه، وهكذا عليهم أن يتوقعوا المعاناة والألم والاضطهاد هذه التي ستُنحّي جانباً النفوس ذات الإيمان السطحي وغير الصادق؛ وأما الذي يتحمّل إلى النهاية فالخلاص مضمون له. هذا لا يعني أننا نخلص بولائنا أو تكرّسنا الشخصي. كل شيء هو بالنعمة. ولكن حيث يكون هناك عمل حقيقي لله في النفس يكون هناك حفظٌ أخير، سواء في أيام الضيقة العظيمة التي ستأتي مستقبلاً أو في هذا العصر الحالي الشرير.

ومع ذلك فإن تلميذ المسيح يجب ألا يتسبب لنفسه بالاضطهاد أو يعرّض نفسه بدون داعٍ وبطريقة طائشة متهورة للمخاطر. فإن اضطُهِدَ في مدينة ما, عليه أن يهرب إلى أخرى، كما فعل بولس بعد سنين عندما ترك تسالونيكي وذهب إلى بيرية بسبب الاضطهاد، وهرب فيما بعد من بيرية إلى كورنثوس وأثينة عندما حرّض اليهودُ شعبَ بيرية عليه.

الجملة الأخيرة في هذا الجزء من فحوى المهمّة التي يُوكلهم بها الرب، كما لاحظنا، يصعب تطبيقها ما لم نرَ، في ساعة الضيقة المستقبلية، وجودَ جماعة مُحتَرمة من الشهود يسلكون وفق هذه المهمة. إن الدعوى موجَّهة إلى الكنيسة مرحلياً للوقت الحالي. وعندما يكتمل عمل الله الخاص هذا ستُنقَل إلى السماء, وستُستَأنفُ الشهادة للملكوت التي انقطعت.

في الآيات ٢٤ إلى ٣٩ يُخبرنا الرب عن عناية الآب بكل الذين ارتضوا أن يتطابقوا معه في يوم رفضهِ.

"«لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَلاَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ.يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ وَالْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ! فَلاَ تَخَافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ. فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا" (الآيات ٢٤- ٣٩).

"لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ". إن التلميذ مُتَعلّم. وهذا يفترضُ تواضعاً. فكخُدّام وتلاميذ للمسيح تقع عليه مسؤولية إطاعة كلمته. فلماذا سيتوقعون إذاً معاملةً أفضل من تلك التي تلقاها معلّمُهم.

"لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ". بحسب الفكر اليهودي, بَعْلَزَبُولَ (وعلى الأرجح أنها كلمة فلسطينية) كان رئيس الشياطين. كان هناك أناس أطلقوا على يسوع هذا الاسم مجدفين.

"لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ". هذه نقطة مهمة جداً. كل الدوافع والأعمال المخفية ستأتي إلى النور في ذلك اليوم الذي سيُدين فيه الله أسرار الناس (رومية ٢: ١٦).

"نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ". ما تعلموه من يسوع بالسر, في تلك الساعات من الشركة الرائعة مع رئيس المعلمين, كان عليهم أن يُعلنوه بجرأة في الأماكن العامة.

"وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا". إن موت الجسد لا ينجم عنه موت الروح. فبعد أن يموت الجسد تستمر النفس بالحياة حتى تتحد من جديد بالجسد في القيامة, وفي حالة غير التائب, تُلقى في الجحيم. في الكتاب المقدس تأتي العبارتان "فانٍ", و"خالد" مرتبطتين بالجسد (رومية ٨: ١١؛ ا كورنثوس ١٥: ٥٣). ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن النفس التي تحيا بعد الجسد تموت؛ وهذا هو ما يُقصد به عندما يتحدث الناس عن خلود النفس. إن كلمات ربنا, في الآية ٢٨, واضحة ومحددة في هذا الخصوص. فهناك في الإنسان ما لا يستطيع المرض أن يؤثر عليه, وما لا يستطيع سلاح القاتل أن يُهلكه. ما من إنسان يستطيع أن يقتل النفس. وإن الله سيتعامل مع نفس الإنسان ببره الذاتي غير المحدود.

"أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ". لقد كان الفلس عملة ضئيلة القيمة؛ ومع ذلك فقد عصفوران يُباعان في الأسواق بهذا المبلغ. لقد كانت العصافير تستخدم كطعام لأفقر الناس. ومع ذلك فإن الله كان ينتبه إلى سقوط أي عصفور.

"فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ". ما من شيء ولو كان تافهاً يمكن ألا يلاحظه الله, وإن عنايته تمتد إلى أدق تفاصيل حياتنا.

"أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ". إن الله يُعنى بجميع مخلوقاته, ولكن الإنسان له مكانة خاصة في قلبه, ويقدِّره أكثر من كل الكائنات الحية الأخرى.

"مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ". يدعي المسيح سلطة مطلقة على حياتنا. علينا أن نعترف به علانية أمام الآخرين, وسيعترف بأسمائنا التافهة في يوم ظهورنا أمام الله.

"أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً". إن كنا نرفض أن نعترف بالمسيح الآن كمخلّص ورب, فإنه سينكرنا في يوم الدينونة.

"مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَماً بَلْ سَيْفاً". تبدو هذه العبارة غريبة عما جاء في رسالة الملائكة عند مولده (لوقا ٢: ١٤). ولكنه كان قد رأى مسبقاً الرفض الذي سيلاقيه وعرف أن الصراع بين الخير والشر سيستمر حتى رجوعه. وعلى خدامه أن يكونوا مستعدين لأن يحاربوا الإثم بشجاعة.

"لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ". إن مطالب المسيح أسمى من كل الآخرين. يجب على تلاميذه أن يكونوا مستعدين لمواجهة المعارضة حتى داخل منازلهم أنفسهم وحتى من قِبَل أقرب أقربائهم.

"أَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ". كان هذا صحيحاً ليس فقط بنتيجة إرسالية الإثني عشر في ذلك اليوم, بل كان يتحقق منذ ذلك الحين وللأسف طوال الأيام وعلى مدى قرون.

"فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي". لو كان يسوع أقل من الله, فكم ستغدو هذه الأقوال التي نراها هنا مستحيلة! إنه يطلب المكانة الأسمى في قلوبنا. علينا أن نؤثِرَ محبتنا له على محبتنا للأب أو الأم أو الأخت أو الأخ.

"يَتْبَعُنِي". أن نحمل الصليب يعني أن نُقِرَّ بتطابقنا معه ذاك المرفوض المنبوذ. الإنسان الذي كان يحمل صليبه هو إنسان مكرس للموت. وإننا مدعوون لأن نموت كل يوم (١ كورنثوس ١٥: ٣١) لكي يتمجد هو فينا.

"َمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا". أن نحيا من أجل الذات هو إخفاق في إدراك الهدف من وراء خلقِنا. ولكن إن تخلينا عن كل ما يعتبره أناسُ هذا العالم قيِّماً, من أجل اسمه, فإننا نربح الأبدية. في موضع آخر قال الرب يسوع المسيح: " إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير"ٍ (يوحنا ١٢: ٢٤). تشكل هذه الكلمات تعليقاً يثير الإعجاب حول تعليمه المتعلق بربح وخسارة حياة المرء. إنَّ حبة الحنطة إن بقيتْ ولم تُزرع فهي ضائعة مهدورة. وأما ما يُفقَدْ بالغرس فإنه يبقى إلى الحصاد التالي.

إن المكافأة الأكيدة التي تنتظر كل الذين يقبَلونَ رسلَ المسيح ويساعدونه في شهادتهم, يتم الحديث عنها في الآيات التالية:

"مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً بِاسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ وَمَنْ يَقْبَلُ بَارّاً بِاسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَارٍّ يَأْخُذُ وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ»" (الآيات  ٤٠- ٤٢).

إنه لأمر يغبِّط القلبَ أن نلاحظ كيف يُطابق الرب نفسه كلياً مع ممثليه ومندوبيه؛ ومن هنا فإن قبول أحد الذين يرسلهم هو قبولٌ لهم بالذات, والعكس بالعكس. أن نُرحبَ بنبي على أنه يتحدث باسم الله يعني أن نشارك في مكافأة النبي, ونفس المبدأ صحيح فيما يتعلق بقبول الإنسان البار. إن ما نفعله للخادم يقدِّره المعلّم أو السيد. فحتى كأس ماء بارد يُعطى لأحد إخوة المسيح الصغار سوف لن يمر دون مكافأة. إنه يعتبر أنَّ كل ما يُصنع لأجلهم يُصنع له. من يعرف هذا الرب الكريم أفلن يخدمه بسرور قلبٍ؟

إن الطاعة هي محك التكرس والإخلاص. فإن كنا نحب ربنا حقاً فإننا سنسرُّ بأن نقدِّم له كُليَّتنا وكل ما نملك لأجل خدمته. لقد عَهِدَ إلينا نحن المُخلَّصين برسالة إنجيله. ولكن هذا لا يعني أننا جميعاً مدعوون لأن نكون كارزين مُبشرين أو مُرسَلين, بل يُطلب إلينا أن نعترف به أمام الناس لكي ينجذب الآخرون إليه كما حدث معنا. وسنجد الحياة في قمة غناها وأفضل أحوالها إذا ما لبيّنا دعوته مهما كان الثمن. إن حياةً مبذولة لمجده هي حياةٌ باقية مُخلّصةٌ. والحياة المكرسة لخدمة الخطيئة أو الذات هي حياة مهدورة ضائعة. ما من تضحية نقدمها تُعتبر كبيرة أمام ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا.

الأصحاح ١١

نعمة الملك

مع استمرار ربنا في خدمته الكريمة السمحة صار واضحاً بشكل متزايد أن الغالبية العظمى الساحقة من إسرائيل، قادةً وشعباً عموماً، لم يكونوا على استعداد لتقبّل رسالته والإقرار به على أنه الممسوح المُرسَل من الله ليحررهم من العبودية، ليس فقط للسلطة الرومانية بل أيضاً للخطيئة والشيطان. في هذا الأصحاح نسمع يسوع يُعلن ويلات على نفس المدن التي أجرى فيها معظم أعماله المقتدرة. سيبدو من غير المعقول لنا، إن لم نعرف شيئاً عن قساوة قلوبنا إلى أن تُخضعها النعمة الإلهية، أن الناس أمكنهم أن يقاوموا هكذا دليل واضح بيِّن عن مسيانية الرب يسوع. فقط عندما يسجد الناس في توبة أمام الله ينكشف المسيح للنفس. غالباً ما يُقال أن نفس الشمس التي تُذيب الشمعَ تُقسِّي الصلصالَ. وكذلك الحال مع كرازة الإنجيل: البعض يتجاوبون معه بعرفان وامتنان ويتمتعون ببركاته؛ وآخرون يديرون ظهورهم له في عدم إيمان، وهكذا يتحجرون في خطاياهم. يقول بولس: "لِهَؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولَئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ" (٢ كورنثوس ٢: ١٦). كانت هكذا هي الحال عندما كان رئيس كل الكارزين هنا. فكان هناك أولئك الذين هم في وسط الفقراء والمنحطين والخطاة خارجياً، قد تلقوا الرسالة بشغف ووجدوا الحياة والشفاء. ولكن المتدينين المتكبرين من ذوي البر الذاتي، الذين لم يشعروا بحاجة إلى نعمة الله، رفضوا الرسالة والرسول، بل حتى أعلنوا مجدفين أن الرب نفسه كان أداة في يد بعلزبول، رئيس الشياطين.

بعد تفويضه للإثني عشر وإرساله لهم ليكرزوا بإنجيل الملكوت، غادر يسوع ليمضي وحده كارزاً في مدن أخرى. فنقرأ:

"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلاَمِيذِهِ الاِثْنَيْ عَشَرَ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدُنِهِمْ" (الآية ١).

بعد أن غادر التلاميذ، جاء اثنان من تلاميذ يوحنا المعدمان ليسألوا الرب فيما إذا كان هو الآتي فعلاً أم أنهم سينتظرون آخر. فأجاب الرب يسوع بأن أظهر قدرته على المرض والشياطين، واستغل الفرصة ليطري على يوحنا ورسالته.

"أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ». وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هَذَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ الْمُلُوكِ. لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (الآيات ٢- ١٥).

لسنا في حاجة لأن نتحزر فيما إذا كانت الشكوك قد دخلت إلى ذهن سابقه يوحنا، أو فيما إذا كان أرسل تلاميذه ببساطة إلى الرب يسوع المسيح سائلين إياه فيما إذا كان هو المُزمَع أن يأتي لكيما يتعزز إيمانهم. كان يوحنا في السجن في هذا الوقت بسبب إخلاصه (لله) بتوبيخه هيرودس على شرِّه إذ أخذ خليلة له هيروديا، زوجة أخيه فيلبس. لقد انتهت أيام شهرة يوحنا. بينما كان قد أصابه الوهن والضعف في قلعة مكاريوس المظلمة الكئيبة (إذا صحَّ ما جاء في التقليد) فلعله تساءل نوعاً ما إذا ما كان قد أساء فهم الشهادة المتعلقة بيسوع. وربما بسبب الحاجة إلى طمأنة بعض تلاميذه القلقين، أرسل اثنين من تلاميذه إلى يسوع إذا ما كان هو حقاً "المُزمَع أن يأتي" أو أن يوحنا كان يجب أن ينادي بآخر.

إجابة على هذه الأسئلة ذكَّرهم يسوع بأن كل أوراق اعتماده كملك قد أُظهِرت بقوة واقتدار. إن المعجزات العظيمة التي قام بها صادقت على أقواله: فالعمي كانوا يبصرون، والعرج يسيرون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون؛ وحتى الأموات كانوا يُقامون. فهل من علامات أعظم يجب البحث عنها؟ للفقراء أُعلِنَ خبر الملكوت السار. ولكن كان ذاك وقت امتحان. لم يكن هناك موكب أبهة عظيم في الظاهر أو استعراض كمثل ذاك الذي يرافق بشكل طبيعي مجيء ملك. ولذلك فإن الإيمان بالله وبكلمته كان أمراً مهماً. "طُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ". لقد كان الأمر يتطلب إيماناً حقيقياً لترى في يسوع الناصري الوديع والمتواضع الابن الملكي لداود الذي قُدِّر له أن يحكم كل الشعوب بعصا برٍّ من حديد.

بعد رحيل تلاميذ يوحنا، استغل يسوع الفرصة ليتحدث بمديح عن المعمدان وشهادته. ما الذي شدَّ الجموع إليه؟ لم يكن ذلك بسبب أي استعراض أو فخامة أو عظمة خارجية. فيوحنا لم يظهر في ثياب جميلة فخمة أو أية ملابس أخرى باهظة الثمن كما نجد عند الحاشية الملكي في القصور. لقد جاء، على شِبه إيليا، في ثياب فقيرة، ويقتات على أبسط الأطعمة. ومع ذلك فما من إنسان ولدته امرأة حتى ذلك الوقت كان أعظم منه لأنه أُعطِيَ له أن يعرِّفَ عن مسيا إسرائيل. ولكن، ورغم عظمته، فإن أصغر وأفقر عضو في ملكوت السموات أعظم منه بكثير. إذ رغم أن يوحنا قد أشار إلى الباب المفتوح، فإنه لم يُعطَ له أن يدخل إلى الحالة الجديدة للأشياء التي يفترضها الملكوت. لقد ختم عهداً؛ وافتتح يسوع عهداً آخر. "جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا". بفضل الإيمان حقق نبوءة ملاخي بأن إيليا كان سيأتي قبل يوم الرب العظيم والمخيف.

إذ قال ذلك, استأنف يسوع مُعلِناً: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". إنه ليسهل جداً أن نسمع بأذننا الخارجية ولكن أن نُخفق في اقتبال الحقيقة في القلب.

بعد ذلك يورد الرب وفي تغاير حيوي الفارق بين خدمة يوحنا وخدمته، ولكن يُظهِر أن التجاوب كان ضئيلاً جداً على كليهما.

"«وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هَذَا الْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا! لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا»" (الآيات ١٦- ١٩).

"أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ". يشبِّه يسوع الناس الذين أتت إليهم الرسالة بأطفال غير مسؤولين لم يختبروا أسعد أو أتعس لحظات في الحياة، بل كان لديهم مجرد إدراك بسيط لكليهما.

"زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا!". كان الأمر سيان سواء كانت المناسبةُ زفافاً أم جنازةً. فلم يؤثر صوت الإنجيل السعيد ولا الدعوة المهيبة في حث الغالبية العظمى من الناس إلى التوبة.

"جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ". كان يوحنا زاهداً، رجل البرية، الذي أنكر على نفسه كل وسائل الراحة العادية. ولكنهم قالوا أنه كان فيه شيطان.

"هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ". كان يسوع رجل الشعب. كان يتحرك بحرية وسطهم ويشاركهم في ولائمهم. ولكن أُنسه ولطفه نفسه أُسيءَ تفسيره. فاتهمومه بأنه يشبع رغباته وشهواته.

في المقطع المؤلف من الآيات ٢٠ إلى ٢٤ يوبّخ يسوع المدن التي استمتعت بالامتيازات العظيمة بينما كانت الغالبية الساحقة من شعبها مُصرَّة على الجحود والنكران. ولعلنا نندهش من مدى جحود ورفض التوبة وقسوة قلب المقيمين في تلك المدن التي كان يسوع قد قام فيها بالكثير من الأعمال المقتدرة، ولكن هل كان قدومنا أبداً أكثر استعداداً منهم لاقتبال الحق؟

"حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ" (الآيات ٢٠- ٢٤).

"لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ". إن المدن نفسها التي كان لها أعظم امتياز بأن سمعت كلمته ورأت أعمال قدرته، رفضت أن تغير موقفها اللامبالي، واستمرت هكذا في خطاياها.

"وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا". هذه المدن كانت متموضعة قرب الطرف الشمالي من بحر الجليل، الأولى إلى الغرب قليلاً، والأخرى على الشاطئ. بالكاد يمكن التعرف على كُورَزِينُ اليوم؛ وإن بَيْتَ صَيْدَا قرية صغيرة فقيرة جداً.

"إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً". هذه كانت مدن فينيقية، مشهورة بفسادها وشرها، وكانت قد دُمِّرت قبل قرون. ولكن شعوبها كانت لا تزال تنتظر يوم الدينونة. لاحظ أنه ستكون هناك درجات من القصاص بحسب مقياس النور الذي تم تلقّيه أو رفضه.

"وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ". من حيث الامتياز، كانت كَفْرَنَاحُومَ مباركة أكثر من أي مدينة أخرى في الجليل، لأن الرب اختارها "مدينة له" وفيها أجرى أعمالاً معجزية أكثر من أي مكان آخر. وبهذا المعنى فإنها ارتفعت وتمجدت. إلا أنه حُكِم عليها بالدمار الكامل، لأنها لم تعرف زمن افتقادها.

"إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ". كانت صيدون قد صارت مرادفاً للخطايا الأشد شراً وفساداً وشذوذاً. ولكن شعب كفرناحوم كانوا أكثر ذنباً، لأنه جاءهم نورٌ أعظم وكانت لهم امتيازات أفضل، ومع ذلك فقد ثابروا بعناد على خطاياهم.

يا لها من راحة للفكر نشعر بها عندما نأتي إلى الآيات الختامية من هذا الأصحاح! رغم رفض الكثيرين ممن تعطف قلبه عليهم في إشفاق وحنوّ، فإن ربنا لم "ينـزعج"، كما لو كان في محلّنا، بسبب البرودة بل وحتى المعاملة السيئة التي رفض بها الشعب العاق محبته ونعمته. لقد قبل كل شيء من يد أبيه، وتابع تقديم الانعتاق والبركة لكل الذين يأتون إليه.

"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (الآيات ٢٥- ٣٠).

"أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ". في نفس الوقت الذي كان فيه ربنا يعاني مرارة لا مبالاة الإنسان ومقاومته له، فإنه يلتفت إلى الله الآب في عبادة وتسبيح، مُبتهجاً بأنه رغم أن العظماء في إسرائيل قد رفضوه، فإن المتواضعين قد اقتبلوا كلماته.

"نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ". إنها لغة تدل على إذعان كامل لإرادة الآب. فمثل الإنسان التابع على الأرض، كان مُعيَّناً بالكلية لكل ما كان الآب قد تنبأ به.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ". إن سر التجسد، الله والإنسان في شخص واحد، أمر لا يُفسَّر وهو يفوق الفهم البشري. ولكن الآب سيكون معروفاً عند "مَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". إن أبوة الله، التي لا تعرفها الحكمة البشرية، قد كشفها الابن. لقد جعل الله معروفاً بالنسبة لأولئك الذي يقتبلون كلماته، كآب لكل المفتدين.

"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". بالتأكيد ما من أحد سوى الله نفسه متجلّياً بالجسد يحق له أن يستخدم هكذا لغة. ما كان لأفضل إنسان عرفته الأرض أن يستطيع القيام بهكذا تصريح. كل الآخرين الذين ينطقون كما يوجههم روح الله يحولون  انتباه الناس عنهم ويوجهونه إلى المسيح لأجل راحة الضمير وسلام الفكر. يسوع وحده أمكنه أن يقول: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". لقد برهن ألوهيته مرات لا تُحصى من خلال قدرته على تحقيق هذا الوعد.

"اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ". كل الذين يخضعون له بحق يجدون راحة القلب وسط هموم الحياة وهم يتعلمون منه، ذاك الوديع والمتواضع. النير مخصص ليكبح الإرادة وليُخضع الإنسان ويجعله في حالة إذعان. إن من يستبدل عبء الخطيئة الثقيل بنير الخضوع للرب المجيد يجد أنها لبركة أن يخدم هكذا معلّم عظيم صالح.

"لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ". الكثيرون ينكمشون ويتراجعون عن الخضوع لنيره، خوفاً من أن يتطلب هذا تضحيات أعظم مما هم مستعدون للقيام به. ولكن جميع الذين يعترفون بسلطان ويدمجون إرادتهم بإرادته يجدون أنهم يدخلون إلى راحة لم يعرفها المُتعَبون والثقيلوا الأحمال في هذا العالم أبداً.

الراحتان: إن الراحة التي يقدمها الرب يسوع مجاناً لكل الذين يأتون إليه هي راحة الضمير فيما يتعلق بمسألة الخطية. إن النفس المحزونة، المحترقة بالإحساس بالذنب، تأتي إليه وتجد سلاماً عندما تؤمن به كحامل عظيم للخطايا. الراحة الثانية هي راحة القلب، إن الظروف المعاكسة قد تنشأ لتُنذِر وتملأ القلب بالخوف والقلق، ولكن من يحمل نير المسيح ويتعلّم منه يستطيع أن يكون هادئاً وسط العاصفة. إنه يجد راحة تامة إذ يأتمنه على كل الأشياء واثقاً بأنه هو الذي يُسكِّن الأمواج العاتية وهو رب كل العناصر. هاتان الراحتان هما نفسهما جانبا السلام اللذان يتم الحديث عنهما في الرسائل. راحة الضمير مرادفةٌ لذلك السلام مع الله الذي هو نصيب جميع الذين يتبررون بالإيمان (رومية ٥: ١). راحة النفس هي نفسها سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ (فيلمون ٤: ٦، ٧)، ويستمتع بها كل الذين يتعلمون أن يسلموا كل شيء للرب.

الأصحاح ١٢

نكران سلطة الملك

الأحداث المدونة في هذا الأصحاح تأتي بنا إلى ختام هذا القسم الأول الكبير من الإنجيل، حيث تم  عرض أو تقديم الملك والملكوت لبني إسرائيل. هنا نجد قادة الشعب يرفضون يسوع عن عمد وينسبون أعمال قدرته لبعلزبول تحديداً. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي استخدموها ليفسروا فيها المعجزات العظيمة التي قام بها يسوع مع رفضهم لأن يروا فيها أوراق اعتماده كونه الملك الموعود.

في الآيات الثمانية الأولى لدينا تدوين لحادثة تعليمية وممتعة للغاية. فهنا يُعلن يسوع أنه رب السبت، ولهذا يُصادق من جديد على إدراكه لألوهيته؛ لأن السبت كان شهادة الرب (يهوه) على قدرته الخلْقية (خروج ٢٠: ١٠، ١١) وتحرير إسرائيل من العبودية في مصر (تثنية ٥: ١٤، ١٥). لقد كان "سبت الرب" بشكل واضح مميز. إن رب العهد القديم هو يسوع العهد الجديد، وهو رب السبت، ورب كل شيء آخر.

"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: «هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللَّهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟ أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَهُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً" (الآيات ١- ٨).

"ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ". بينما كانوا يسيرون بهدوء في الريف، مر يسوع وتلاميذه عبر حقل حنطة؛ ونعلم هنا أن التلاميذ، وإذ كانوا جياعاً، راحوا يقطفون سنابل القمح ليأكلوها. وكان هذا يتناسب مع قواعد حفظ الناموس وتدبيره، إذ في تثنية ٢٣: ٢٥ نقرأ: "إِذَا دَخَلتَ زَرْعَ صَاحِبِكَ فَاقْطِفْ سَنَابِل بِيَدِكَ وَلكِنْ مِنْجَلاً لا تَرْفَعْ عَلى زَرْعِ صَاحِبِكَ". هذه الحادثة جرت في يوم السبت، ووجد فيها الفريسيون مناسبة للانتقاد فقالوا: "هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ". لم يكن في ناموس موسى ما يُحظر القيام بذلك، ولكن في تقاليد الشيوخ كانت هناك نواميس عديدة وتشريعات كثيرة قد أُضيفت حتى جعلت من المستحيل تقريباً على الإنسان العادي أن يعرف إذا ما كان ينتهك إحداها أم لا. ومن بين هذه القوانين كان حظر التقاط الثمر أو الحبوب من أي نوع في يوم السبت، أو حتى فركها باليد كما كان التلاميذ يفعلون والذي بدا بالنسبة لهؤلاء الفريسيين على أنه تعدٍّ على ما كانوا يعتبرونه مقدساً.

لقد دافع الرب عن أتباعه، بأن أوضح أن سد حاجة الإنسان تهم الله أكثر من إطاعة تقييدات وتشريعات ناموسية. فأورد على سبيل المثال حالة داود ورجاله عندما كانوا جائعين،  وسألوا رئيس الكهنة إن أمكن أن يُسمح لهم لأكل خبز التقدمة الذي كان يُؤخذ عن المائدة المقدسة أمام الرب. في الظروف العادية، لم يكن يحق لأحد أن يأكل من هذا الخبز إلا الكهنة أنفسهم. ولكن عندما رُفِضَ ملكُ الله الممسوح ووقع أتباعُه في حاجة، فإن حاجتهم صارت أعلى من أي حظر ناموسي.

وذكَّر الرب أيضاً منتقديه بأن الكهنة في الهيكل كانوا يعملون في يوم السبت، ولذلك فلعله يمكن القول أنهم انتهكوا الناموس أيضاً، ولكنهم كانوا بلا لوم في قيامهم بذلك.

ثم أضاف الإعلان المميز اللافت أن: "إِنَّ هَهُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ". كم كان فهمهم ضئيلاً لكلماته. كل ما في ذلك الهيكل، والذي كان قد ترتب بحسب كلمة الله، كان يدل عليه وعلى عمله الفدائي؛ ولكن رغم أنه جاء شخصياً إلى ما دعاه بنفسه بيت أبيه، فقد أخفقوا في أن يُدرِكوا أنه هو ذاك الذي كان يسير بينهم. لم تكن كلماته مجرد تعبير عن ألوهيته فحسب، بل كان يجب أن يفهم الفريسيون منها أن الإنسان نفسه يعني الله أكثر من أي بناء مهما كان مقدساً؛ أو أوامر ونواهي، مهما كانت مُشَرْعَنة جيداً. لو أنهم فكروا بكلمات النبي هوشع (٦: ٦)، "إ نِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً وَمَعْرِفَةَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ"، لكانوا قد فهموا ذلك ولما كانوا قد أدانوا التلاميذ على قيامهم بذلك العمل الذي هو بريء تماماً بحد ذاته.

إن توكيد يسوع اللافت، كما يرد في الآية ٨، يُفهم منه على الأقل أنه كان يُعلِن أنه الله المتجسد. لقد قال: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً". ما من إنسان بشري وحسب كان لِيُمكن أن يكون لديه الحق بأن يستخدم هكذا لغة. ولكن ذاك الذي وقف في وسطهم ذلك اليوم كان هو الشخص الذي تُشير إليه كل السبوت الناموسية، وأنه صاحب السلطان المطلق عليها.

عندما نتأمل القسم التالي نجد ربنا يتصرف من جديد بعكس تبجحات أعدائه بخصوص السبت.

"ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ فَسَأَلُوهُ قَائِلين: «هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟» لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ فَإِنْ سَقَطَ هَذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ فَالإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذاً يَحِلُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي السُّبُوتِ!» ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَلَمَّا خَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ" (الآيات ٩- ١٤).

وبينما هو داخل إلى مجمعٍ في قرية رأى يسوع رجلاً بيد يابسة. فطُرِح سؤال اختباري بين أولئك الذين كانوا يتجمعون هناك، تاركين له أن يُجيب عليه. فسألوه: "هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟". فأحال السؤال عليهم. إن قالوا "لا"، فهذا سيدل على أنهم لا مبالين أبداً بآلام البشر؛ وإن ردوا بالإيجاب فإنهم إنما يُدينون أنفسهم؛ ولذلك فقد تمنعوا عن الإجابة. (انظر مرقس ٣: ٤؛ لوقا ٦: ٩).

ثم سألهم سؤالاً آخر- سيرافق الكثيرين منهم إلى منازلهم: "أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ فَإِنْ سَقَطَ هَذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟". لعل كثيرين منهم كانوا قد فعلوا هذا الأمر نفسه في مناسبات عديدة. كانت الخراف تشكل بالنسبة لهم الممتلكات، والممتلكات يجب أن يُعنى بها حتى في يوم السبت.

وبدون انتظار للجواب، ردَّ يسوع على أسئلتهم بأن أوضح أن الإنسان أفضل بكثير من الخروف، وإنه ليتوافق مع الناموس دائماً أن يفعل الإنسان خيراً في أيام السبت. ولذلك، فقد التفت نحو الرجل الذي كان ينظر إليه مترقباً، وأمره أن يمد يده. وفي ثانية دخلت حياة جديدة إلى ذلك العضو اليابس، وشُفِيَت اليد وعادت صحيحة مثل الأخرى. قد يعتقد المرء أنه لا بدَّ لهذا أن يُقنع حتى أشد الفريسيين إجحافاً وإنكاراً بأن مَلِكَ الله كان في وسطهم؛ ولكنهم، وبدلاً من ذلك، كانوا متعصبين جداً لدرجة أنهم خرجوا وعقدوا اجتماع تشاور بينهم متآمرين ضده، وسيسعون لتدبير طريقة ما يُهلِكونه بها.

لقد كان يسوع يعرف ما في أذهانهم، ولذلك انسحب من بينهم ومضى إلى مكان آخر.

"فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً. وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: «هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ" (الآيات ١٥- ٢١).

تبعت يسوعَ جماهيرُ غفيرة من عامة الشعب. كثيرون منهم كانوا مرضى، ويُقالُ لنا هنا أنه قد شفاهم جميعاً. ولكنه أوصاهم ألا يُذيعوا أنباء قدرته المذهلة العجيبة. فهو لم يأتِ، كما نَوَّهْنا في فصل سابق، لكي يُثير دهشة في أذهان الناس بقدرته على صنع المعجزات؛ بل جاء ليُظهِر تلك الوداعة والتواضع اللذين كان أشعياء النبي قد تنبأ بأنهما سيتجليان في المسيا عندما يظهر. إن الاقتباس المستخدم في الآيات ٨- ٢١ هو من أشعياء ٤٢: ١- ٤.

بعد هذه الحوادث نجد ربنا يُظهِر من جديد سلطته على الشياطين.

"حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ حَتَّى إِنَّ الأَعْمَى الأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ. فَبُهِتَ كُلُّ الْجُمُوعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟» أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ. فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَانَ فَقَدِ انْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذَلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللَّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (الآيات ٢٢- ٣٠).

هنا نصل إلى أزمة تتعلق بتقديم الملك نفسه لإسرائيل. كان قد أعطاهم دليلاً تلو الآخر على مسيانيته، ولكن أولئك الذين كان يجب أن يكونوا أول من يعترف به ويعرفه كانوا مصممين على ألا يفعلوا ذلك. وها الآن يُظهر مرة أخرى سيادته على العلم غير المنظور بطرده شيطاناً كان قد جعل الإنسان الذي يسكنه أعمى وأخرس بآن معاً. عندما طرد يسوع الروح الشرير تكلم الرجل وأبصر أيضاً. وانذهلت الحشود التي كانت متجمهرة حول الرب وهتفت: "«أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟»". لقد رأوا في الأعجوبة دليلاً على أن يسوع كان من سلسلة نسب داود وقد جاء ليفتدي إسرائيل؛ ولكن الفريسيين أسكتوهم بقولهم: "«هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ»". كانت هذه هي المرة الثانية التي يتهمونه هكذا. كان من الواضح الآن أنه لم يكن هناك احتمال لأن يتوبوا: فهؤلاء القادة الدينيين كانوا عازمين على إهلاك ذاك الذي أعلنه الناس لتوهم على أنه "ابن داود". أما يسوع، وقد عرف بأفكارهم ولم يكن في حاجة لأن يخبره أحد عما كان في أذهانهم، فقد التفت إليهم وقال: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ". إن الشيطان الآن هو رأس مملكة شرٍ عظيمة. ومن هنا قصد الرب أن يقول أنه إن كان شيطانٌ يطردُ شيطاناً، فهذا يعني أنه منقسمٌ على ذاته. فيطرح السؤال: "فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟". كان بين الحشود بعضٌ من أقارب التلاميذ الذين كان الرب قد أعطاهم قوة لإخراج الشياطين. ولذلك سأل يسوع: "إِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟". ما كانوا يريدون أن يُقال عن هؤلاء (أي عن التلاميذ) ما قيل عنهم، ولكنهم أنفسهم أوضحوا أن يسوع إما أنه كان يُظهِر قدرة الله الكبيرة، أو يخدع الناس بتأثير شيطاني. وكان عليهم أن يحددوا أي الأمرين يجب أن يصدقوا. فدعاهم إلى الاعتراف بحقيقة الأمور بقوله: "إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللَّهِ (وبالطبع كان يفعل ذلك) أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ!". لقد كان هذا ما يريدهم أن يفهموه: الملك كان هناك ومجموعة تلاميذه الصغيرة كانت رعاياه المُعتَرف بهم؛ ولذلك فإن الملكوت بحالته الجنينية كان فعلياً في وسطهم. فهل سيقتبلونه، أم سيرفضون نعمة الدخول إليه؟

ما من أحد كان ليمكن أن يدخل إلى بيت رجل قوي وينهب أغراضه ما لم يكن قادراً على أن يتغلب على صاحب البيت. كان يسوع قد قابل القويَّ، ألا وهو الشيطان، في البرية وتغلب عليه. ومنذ ذلك الحين راح يجول في كل أرجاء إسرائيل ينهب أغراضه وممتلكاته. والآن جاء الوقت الذي يجب فيه على أولئك الذين سمعوه أن يتخذوا موقفاً محدداً: فيجب أن يكونوا له أو ضده؛ والحياد غير مقبول. أولئك الذين لم يكونوا معه، الذين لم يعلنوا أنهم إلى جانبه، كانوا فعلياً ضده؛ لأن كل الذين لا يتجمعون حوله سيتفرقون في أرجاء الأرض.

في الآيتين التاليتين لدينا مسألة أزعجت عدداً كبيراً من الناس، رغم أنها، إن فُهِمَت بشكل صحيح، ينبغي ألا تُزعِج سوى أولئك الذين كانوا مصممين على رفض شهادة الروح القدس فيما يتعلق بشخص الرب يسوع المسيح.

"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي" (الآيات ٣١- ٣٢).

لقد كانت هذه خطيئة تشريعية يمكن الإعفاء عنها، ولعله يمكننا القول بأنها لا يمكن أن يرتكبُها الناس اليوم، على الأقل بنفس الطريقة تماماً. لقد كان يسوع قد جاء بقوة الروح القدس، مُقدِماً نفسه لبني إسرائيل كملك شرعي عليهم. وإن أعمال قدرته، كما رأينا، قد صادقت على شهادته. الطريقة الوحيدة التي أمكن للناس أن يرفضوا الإقرار بنعمته ومع ذلك الاعتراف بقدرته كانت أن ينسبوا كل أعماله المقتدرة إلى الشيطان. أولئك الذين فعلوا ذلك قدموا دليلاً على أنهم كانوا قد خطِئوا للغاية حتى تقسَّت ضمائرُهم كما بحديد مُحمى. لقد تجاوزوا حد الإصلاح، إن أمكنني أن أستخدم الاستعارة المعروفة؛ ليس بأن الله ما كان ليكون رحيماً معهم إذا ما تابوا، بل لأنهم كانوا مصرين بعناد على خطيئتهم لدرجة أنه لم يكن هناك أية بارقة أمل عن أية رغبة لهم في التوبة. لو أنهم جدفوا على ابن الإنسان فقط، لكان يسوع قد قال أن ذلك سيُغفر لهم؛ ولكنه أضاف بجلالٍ قائلاً: "مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي". لم يكن في ذلك يُلَمِّح، كما يقول لنا الكاثوليك الروميين، إلى أن هناك مغفرة للبعض في عالم آخر، رغم أنهم يغادرون هذا العالم والخطيئة لا تزال في أرواحهم؛ بل إن الرب كان يتحدث عن عصرين: العصر الذي كان على وشك أن يُختَم، والدهر الآتي، والذي هو على الأرجح الحكم الألفي. لقد كان الدهر الحالي مخفياً عنهم في ذلك الوقت في ذهن الله، ومع ذلك فيمكن للمرء أن يطبق هذه الكلمات على هذا الدهر أيضاً، لأن أولئك الذين يرفضون متعمدين شهادة الروح القدس عن المسيح لا يمكن أن يُغفَر لهم لا في زمن اليهود ولا في هذا الدهر أو أي دهر آتٍ.

إن نفوساً عديدة كثيرة عذبوا أنفسهم أو عذبهم الشيطان بالفكرة المريعة بأنهم مذنبون بالخطيئة التي توصف هنا؛ بينما هم في أعماق قلوبهم يُقرون بشكل كامل بألوهية الرب يسوع وليس لديهم أية فكرة بأن ينسبوا إلى الشيطان تلك القدرة التي كانت تعمل فيه.

في القسم التالي يستخدم يسوع أشد لهجة مدونة عنه، وذلك في مخاطبته للقادة المتدينين المرائين الذين كانوا مصممين على رفضه مهما كلَّف الأمر.

"اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً لأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ. يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنـز الصَّالِحِ فِي الْقَلْبِ يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنـز الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ الدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ" (الآيات ٣٣- ٣٧).

إنه يدعوا إلى تمييز واضح فاصل بين الشر والخير. كل شجرة تُعرَف من ثمارها. حياته الحافلة بالقداسة كانت الشهادة على صدق ما يقول. وحياتهم الشريرة كانت الدليل على قلوبهم الفاسدة.

"يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي!". لقد كانوا أولاد الحية، وأظهروا طبيعة تلك الحية القديمة، التي هي الشيطان، من خلال موقفهم نحو مسيح الله. فمن فيض قلوبهم كانت أفواههم تتكلم.

وهكذا فإن كلماتنا تشير إلى حالة إنساننا الداخلي: فالإنسان الصالح، الذي يصير صالح النعمة، يُخرِج من كنـز قلبه كلماتٍ صالحة؛ والإنسان الشرير بالفطرة يُظهِر شره بكلمات تخرج من شفتيه. في يوم الدينونة سيحاسب الله الناس بحسب ما تكلموا به. وسيُقدم حساب عن كل كلمة، وبهذه الكلمات سيُعتبرون إما مُبررين أو مُدانين.

زادَ عددٌ من الكتبة والفريسيين الطينَ بلةً بمجيئهم إلى الرب وطلبهم آية منه، هذه التي رفض أن يُعطيها. ولفت انتباههم إلى الأحداث الماضية التي كانت ستزيد من دينونتهم في ذلك اليوم الذي سيقدمون فيه حساباً لله.

"حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلين: «يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». فَأَجَابَ وقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ. رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هَهُنَا!" (الآيات ٣٨- ٤٢).

ربما يفكر المرء بأن احترام الكتبة والفريسيين لأنفسهم سيمنعهم من طلب آية أخرى بعد أن رأوا الكثير منها ورفضوها كلها. ورداً على مطلبهم أجاب يسوع أن ذلك الجيل الذي كان يطلب آية جيل شرير وفاسق. ولهكذا جيل لا يجب أن تُعطى أية آية سوى آية النبي يونان. وأشار يسوع إلى قيامته من بين الأموات التي كانت ستحدث عما قريب، والتي نعلم أنها لم تُفلِح في إقناع هؤلاء الناس بالحماقة والشر الذي في نهجهم.

مهما قال البعض، فإن يسوع لم تكن لديه أية شكوك في موثوقية أو صحة ما ورد في سفر يونان، وهو الإله المتجسد، الذي كان يعرف كل الأشياء. يقول أن يوحنا كان في بطن الحوت لثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، وبهذا يصير علامة أو آية عن ابن الإنسان الذي سيبقى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ في بطن الأرض- أي في القبر. إضافة إلى ذلك، صادق ربنا على توبة نينوى. لقد أعلن أن هؤلاء الناس سيقومون في يوم الدينونة مع ذلك الجيل الشرير الذي رفض شهادته وسيدينونه لأنهم تابوا بفضل كرازة يونان، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ كان أمامهم.

واستخدم أيضاً شاهداً آخر من العهد القديم، وهو ملكة سبأ، التي يدعوها مَلِكَة التَّيْمَنِ (أو الجنوب). لقد جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، لأنها علمت أنه كان يستطيع أن يكشف لها الأمور القيمة المتعلقة باسم الرب، التي كانت نفسُها تتوق لفهمها. لم تُبالِ بالرحلة الطويلة التي تبلغ حوالي ألفَ ميل في سعيها لأن تسمع حكمة سليمان. أما هؤلاء الناكرون للحق فلم يتأثروا، رغم أن رب سليمان نفسه كان في وسطهم. وعندما سيقفون في نهاية المطاف مرتجفين في خطاياهم أمام منصة محكمة الله، فإن ملكة التيمن ستظهر لتوبخهم بقسوة بسبب رفضهم المتعمد للنور؛ بينما هي تبعت الومضة من أقصى أقاصي الأرض لكي يكون لها ذلك النور إلى الأبد.

ثم لدينا مثلٌ لافتٌ يدل على جحود وعدم إيمان شعب إسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل.

"إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذَلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهَذَا الْجِيلِ الشَّرِّيرِ" (الآيات ٤٣- ٤٥).

إن الروح النجس الذي يُصوَّرُ هنا هو روح الوثنية أو الصنمية التي طُرِدت من وسط الشعب اليهودي كنتيجة للسبي إلى بابل. منذ عودتهم من بابل كانوا كمثل بيت فارغ مكنوس ومُزيَّن. لقد تحرروا من الوثنية؛ ولكن من جهة أخرى، لم يقتبلوا الرب نفسه ليسكن في وسطهم. وفي يوم ما آتٍ، هذه الروح الشريرة للوثنية ستأخذ معها سبعة أرواح أخرى أكثر شراً منها، وسيدخلون ويسكنون في الشعب المرتد العاق. وهذا سيؤدي إلى الاعتراف بضد المسيح، كملك شرعي عليهم معتبرين أنه المسيا، وهكذا ستكون حالتهم الأخيرة أسوأ بكثير من الأولى. فالجيل الشرير الذي رفض يسوع سيكون واضحاً ظاهراً في ساعة الضيقة تلك.

مع ختام الأصحاح نرى أم وإخوة الرب يقتربون بينما كان يتكلم إلى الناس. ويظهر رسول من قِبلهم يخبره بقدومهم، ولنلاحظ جوابه:

"وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِل لَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟» ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي" (الآيات ٤٦- ٥٠).

لا نستطيع أن نقول أن والدته أخفقت في فهم سر ابنها، ولكننا نعرف أن إخوته لم يؤمنوا به إلا بعد قيامته. لقد قاطعوه وهو يُعلِّم بإرسال أحدهم إليه ليُعلِن وجودهم، ومن الواضح أنهم كانوا يريدون منه بذلك أن يتوقف عن التعليم وأن يأتي إليهم. ولكنه مد يده نحو أولئك الذين كانوا على استعداد ليتعلموا من كلماته، وقال لهم: "هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي". وأضاف أن كل الذين كانوا يفعلون إرادة الآب في السماء كانوا إخوته وأخواته وأمه. لقد كان في هذا إنكار لكل الروابط بحسب الجسد. لقد كانت القطيعة مع إسرائيل قد اكتملت عملياً: لقد كان يتطلع نحو نظام جديد كلياً للأشياء.

الأصحاح ١٣

أسرار الملكوت

يقدّمُ لنا هذا الأصحاح إعلاناً جديداً عن تقديم حق الملكوت. لقد رأينا في الفصل السابق كيف أن قادة الشعب في إسرائيل قد تجاوزوا الخط الأحمر، ورفضوا الملكوت المقدَّم برفضهم المتعمد لتصديق جميع أوراق اعتماد الملك. لقد نسبوا قوته وقدرته (التي ما كانوا يستطيعون إنكارها) إلى بعلزبول، وهكذا ارتكبوا خطيئة ضد الروح القدس لا يمكن أن تُغتفر، سواء في هذا الدهر أم في الدهر الآتي. وهذا ما أدى في نهاية الأمر إلى تنحية إسرائيل في الوقت الراهن، ودخول نظام جديد للأشياء كان الله قد تنبأ عنه منذ الأزل، ولكن ما كان قد أُعلِن حتى ذلك الوقت. واشتمل هذا بامتلائه على إعلان سر الكنيسة كجسد واحد مدعو ليتشكل من اليهود والأمميين، هذا السر الذي ما كان قد كُشِفَ بعد. ولكن تمهيداً لذلك تكلم يسوع عن أسرار أخرى كانت قد بقيت مخفية منذ تأسيس العالم، ألا وهي أسرار ملكوت السموات.

من هذه النقطة فصاعداً، في إنجيل متى، المصطلح "ملكوت السموات" يشير بشكل محدد، ليس إلى التأسيس النهائي لملكوت الله على كل الأرض، بل إلى الشكل الأسراري، أو بالأحرى الروحي الذي سيتجلى فيه ذلك الملكوت بعد أن يكون الملك نفسه قد عاد إلى السماء، وحتى مجيئه الثاني بالقوة والمجد ليستأصل من ملكوته كل الآثام ويُهلِك كل من يصنع الإثم.

ولدينا رؤؤس أقلام أو مخطط عن هذا في الأصحاح الحالي. ففي هذه الأمثال يُبين ربنا الحالة التي رأى فيها الملكوت على الأرض بنتيجة رفضه. كان هذا كله معروفاً مسبقاً لدى الله وكان التدبير قد أُُعِدَّ له. فالمسيح، وقد رفضه قادة الشعب في إسرائيل، صار كفارةً عن الخطية بموته الكفاري على الصليب (أعمال ٢: ٢٣؛ ١ يوحنا ٤: ١٠)، ومن ثم، وكإنسان مرفوض، ترك هذا العلام، وصعد إلى السماء حيث يجلس ممجداً إلى يمين الله. إن ملكوت الأنبياء معطل أم ومعلق إلى حين عودته الموعودة ليقيم خيمة داود المتهدمة (أعمال ١٥: ١٦)؛ ولكن خلال فترة غيابه شخصياً، أتى الروح القدس بشكل جديد كمعزي، ليمكِّن خدَّامه من أن يكرزوا بالكلمة بقوة إقناع شديدة (يوحنا ١٦: ٧- ١١). حيث يُبشر بالإنجيل تكون بذرة الملكوت (لوقا ٨: ١١). وبنتيجة ذلك فإننا في العالم اليوم جسداً (مجموعة) ضخمة من الناس الذين يُقرِّون بالرب يسوع على أنه ملكهم الشرعي، ويقدمون له الولاء. وهناك ملايين يكرمونه بشفاههم ويعترفون ظاهرياً بسلطانه عليهم، رغم أن قلوبهم بعيدةً عنه. هؤلاء جميعاً يشكلون الملكوت بشكله الروحي الأسراري (الآية ١١).

لقد كان الملكوت الذي وعد الأنبياء به إسرائيل يعتمد على اقتبال الشعب المختار للملك. وبرفضهم له خسروا فرصتهم، ولذلك فقد أُخذ الملكوت منهم (متى ٢١: ٤٣). عندما يعودون إلى الرب، سيظهر في المجد، وسيتحقق كل ما كُتِبَ عن الملكوت. خلال هذه الفترة، وبينما تُعلن كلمة الملكوت، ستنشأ مجموعة مختلطة تقرُّ باعترافها بسلطان الرب يسوع. وهذه تشكل الملكوت في شكله الروحي الأسراري. إن مجاله أوسع من الكنيسة، إذ أن الكنيسة تشمل المعترفين الحقيقيين والمزيفين. والفصل بين المجموعتين سيحدث في نهاية الدهر، بعد أن يتأسس ملكوت ابن الإنسان على كل الأرض.

يمكن تحديد الأمثال السبعة كما يلي:

١- بذرة الملكوت مغروسة في الأرض ونتائجها.

٢- التزييف الشيطاني: الزؤام وسط القمح.

٣- الملكوت في كنيسة عظيمة عالمية النطاق تشتمل على الأخيار والأشرار أيضاً.

٤- الكنيسة الزائفة تُقحم خمير التعاليم الفاسدة في طعام شعب الله.

٥- إسرائيل، كنـز الله، مقصياً في العالم ومتلاشياً بين الأمم في الدهر الحاضر.

٦- الكنيسة اللؤلؤة التي أخلى الرب نفسه من أجلها (٢ كورنثوس ٨: ٩).

٧- حالة الأشياء في نهاية الدهر.

إذ نضع رؤوس الأقلام هذه في أذهاننا دعونا نتفحص كل مثل على حدة. لاحظوا أن السلسلة مقسمة إلى أربعة أمثال تكلم بها الرب في الهواء الطلق قرب الشاطئ وثلاثة أمثال أعطاها الرب للتلاميذ وحدهم بعد أن دخلوا إلى البيت.

"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَالْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى الشَّاطِئِ. فَكَلَّمَهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: «هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلَكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع" (الآيات ١- ٩).

إن المثل الأول من هذه السلسة السباعية لا يتم الحديث عنه على أنه شبه للملكوت، كما في حالة الأمثال الستة الأخرى. بل إن الرب عندما شرح المثل لتلاميذه قال أنه قد أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، ولذلك فقد طابق تحديداً زرع الكلمة بنشر الملكوت، بشكله الأسراري أو الروحي، في العالم. في الآية ١، تصرّفُ الرب، "خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ"، يبدو قطعياً. وهذا بحد ذاته يبدو وكأنه يشير إلى قطع العلاقة مع إسرائيل التي أشرنا إليها لتونا.

تجمَّع حشد كبير حوله، وهذا ما دفعه باتجاه المياه. فدخل إلى سفينةٍ، هي قارب صيد بطرس على الأرجح، التي يخبرنا لوقا أنها استُخدِمت مرة لهذه الغاية (لوقا ٥: ٣)؛ ومن هذه السفينة التي استخدمها كمنبر، خاطب يسوع الجموع الواقفين على الشاطئ. التلال في تلك البقعة المحددة كانت ترتفع بلطفٍ من الشاطئ، مشكلةً بذلك ميداناً طبيعياً في الهواء الطلق أو شبه مسرح، حيث أمكن للصوت أن ينتقل بسهولة إلى الحشود الكبيرة الواقفة على الشاطئ أو الجالسة على سفح التلة.

"هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ". الزارع في المثل الأول كان الرب يسوع نفسه. لقد كان ينتقل من مكان إلى آخر زارعاً بذرة كلمة الله. لا بد أن يكون مصدر تشجيع لجميع الذين يقومون بنفس العمل المبارك أنه عندما كان الواعظ الإلهي نفسه يخدم الكلمة كانت نسبة الذين تُثمِرُ الكلمة في قلوبهم تبلغ ٢٥%؛ وحتى في ذلك الحين كانت هناك درجات مختلفة في مقدار إثمار هؤلاء.

في الآيات ٤ إلى ٧ نقرأ عن التربة غير المخصبة التي وقع عليها الزرع- الطريق حيث التهمت طيور السماء الزرع حالما بُذِرَ. ثم الأرض المحجرة التي بدت لأول وهلة وكأنها ستأتي بثمار لأن الزرع بدأ يأخذ جذوراً، وطلعت البراعم الخضراء التي سرعان ما أحرقتها الشمس، لخيبة أمل الزارع. وبذار أخرى سقطت وسط الأشواك، التي سرعان ما خنقت الأغصان الغضة الطرية، فلم تأتِ بثمارٍ أبداً.

ذاك الذي وقع في الأرض الجيدة أطلع جذوراً، وأينع، وأعطى ثمراً: بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ. كان هذا هو المثل. لأول وهلة لم يُعطِ الرب تفسيراً تطبيقياً له، بل ترك للسامعين أن يزنوا كلماته وهو يقول: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَع".

عندا سنحت الفرصة بعد انصراف الجموع، جاء التلاميذ إلى يسوع طالبين تفسيراً للمثل. وهذا ما أعطاهم إياه.

"فَتَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟» فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ. فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ. مِنْ أَجْلِ هَذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ القَائِلَة: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ. لأَنَّ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ. وَلَكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَاراً كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا. «فَاسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ الزَّارِعِ: كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هَذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَﭐلْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ. وَﭐلْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَهَمُّ هَذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ" (الآيات ١٠- ٢٣).

من أجل أولئك الذين يؤمنون به ويثمنون كلماته كان الرب مستعداً دائماً لأن يفسر ويشرح أي شيء بدا صعب الفهم عليهم. رداً على سؤالهم: "«لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟»"، أجاب يسوع في الحال وقال: "قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ". الكلمة "أسرار" كما تُستَخدم هنا لا تعني بالضرورة شيئاً غامضاً, وبالتالي شيئاً يصعب فهمه، بل بالحري أسرارٌ تُكشَف فقط للأعضاء. لقد كان الرب على الدوام مستعداً ليقتبل ويأتمن الساعين الجادّين وراء الحقيقة. لقد استعمل أسلوب الأمثال لهدف مزدوج. فقد كان يرغب بأن يختبر مستمعيه، إن كانوا يرغبون حقاً في أن يعرفوا فكر الله أم لا، وأيضاً ليزخرف أحاديث. فحيث كان لدى الناس إيمان واقتبلوا شهادته إلى درجة معينة فقد كان مستعداً لأن يعطيهم المزيد؛ ولكن حيث لم يكن هناك إيمان حقيقي برسالته فإنهم كانوا سيرتبكون بأسلوب الأمثال الذي يستخدمه في التعليم أكثر مما لو تكلم بلغة بسيطة واضحة. ماحك البعض في ذلك، مُفترضين أن أسلوب الأمثال كان قد استخدمه الرب يسوع عن نية متعمّدة في أن يعمي عيني ويغلق أذني أولئك الذين كانوا يصغون إلى كلماته. ولكن الواقع أن العكس هو الصحيح. فأولئك الذين كانوا تواقين لمعرفة الحق كانوا سيأتون إليه كالتلاميذ، طالبين استفساراً وشرحاً لما هو وراء فهمهم وإدراكهم. أما أولئك غير المهتمين وغير المُبالين فكانوا سيتنحّون جانباً بدون اكتراث وتزداد لا مبالاتهم، بسبب عدم فهم معنى أمثلته التوضيحية. لقد اقتبس يسوع من نبوءة أشعياء (٦: ٩، ١٠) والتي تم التنبوء فيها عن نفس الطريقة. فلم تكن رغبة الله أبداً أن يقسي قلب أي أحد أو أن يغلق عيني أي أحد تجاه الحقيقة، بل إنه المبدأ الذي يسري في كل كلمة الله وذلك بأن الحقيقة إما أن تُلين أو تُقسّي. الشمس نفسها التي تلين الشمعَ تقسي الصلصال؛ وكذا نفس رسالة الإنجيل التي تخترق القلوب الصادقة وتقود إلى التوبة، تقسي قلوب الأشرار وتثبتهم في طريق عصيانهم.

لقد أعلن يسوع بركة على التلاميذ، لأنه كانت لديهم أعين للنظر وآذان للسمع. لقد كانت لهم مكانة وامتياز خاص. طوال القرون التي مضت أنبياء عديدون ورجال أبرار كانوا يتطلعون بالإيمان إلى مجيء المسيا، ولطالما تاقوا لأن يعاينوا ما كان أتباع يسوع آنذاك يرون ويسمعون من تعليم كذاك الذي كان يعطيه، ولكن لم يُتَح لهم ذلك. ثم شرع الرب بتفسير المثل. "كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلاَ يَفْهَمُ فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ". هذا تفسير الزرع المتبعثر على الطريق الذي إنما تأكله طيور السماء. لاحظوا أن الرسالة تُدعى بشكل واضح "كلمة الملكوت"، فتوضح أنه بزرع الكلمة يشق الملكوت طريقه خلال العالم. وإن الشيطان وزبانيته منشغلون جداً وأبداً في محاولة إبطال تأثير الكرازة بالإنجيل. إن هدفهم الشرير هو أن يملأوا قلوب وأذهان المستمعين بالتحامل والمعارضة غير المعقولة لكيلا يزنوا أو يقدروا الرسالة كما تأتي من شفاه الكارز الواعظ؛ ولذلك فليس من تجاوب حسن من أي نوع. إن الكلمة التي تُسمَع بالأذن الخارجية فقط سرعان ما تُنسى.

في تغاير حيوي تصويري مع هؤلاء اللامبالين لدينا بعد ذلك المُستمعين في الأرض المحجَّرة. فهؤلاء يمثلون أولئك الناس الذين على استعداد دائم لأن يتأثروا بأي نوع من الدعاية الدينية، فيُصغوا إلى إعلانات الإنجيل وإيضاحاته بدون اقتناع عميق أو دليل على التوبة. إنهم يقرّون بالإيمان بالكلمة، ويقتبلونها ظاهرياً بفرح، ولكن بما أنه ليس لديهم عمق في أنفسهم، بل مجرد اعتراف فارغ وحسب، فإنهم سرعان ما يسقطون، وخاصة عندما يجدون أن طريق الحياة المسيحية ينشأ عنها ضيقة واضطهاد.

المستمعون ذووا الأرضية المحجرة هم أولئك الذين يظهرون في البداية وكأنهم يقبلون الرسالة، ولكنهم لم يحسبوا فعلياً تكلفة الإيمان بالمسيح. فتُعوزهم البساطة في الرؤية، ولديهم ازدواج في الذهنية، وهم منشغلون بهموم هذا العالم والسعي وراء الغنى؛ فالمسؤوليات المؤقتة المتعلقة بهذه الأشياء تخنق الكلمة، ولذلك فلا يُؤتون بثمر.

بتضاد مع هؤلاء جميعاً، لدينا المستمعين ذوي الأرض الخصبة، حيث التربة قد جُهِّزت بشفرة محراث الإيمان الراسخ؛ والكلمة التي تقع في القلب الصادق يتم تلقّيها بإيمان، وتُفهم الرسالة كما يكشفها الروح القدس. والنتيجة هي أن النفس تُولد ثانية، والحياة تصبح مثمرة لله. وعلى كل حال، فهناك درجات من الإثمار. فليس الجميع يُظهرون نفس البرهان على التكرس والإخلاص للمسيح ونفس الدرجة من إدراك الحق؛ ولذلك فإن الرب يتحدث عن أولئك الذين يثمر بعضهم مئة ضعف، وآخرون ستين، وآخرون ثلاثين ضعفاً فقط.

المثل الثاني قد تكلم به الرب تحديداً ليكون تشبيهاً لملكوت السماء. ما أشرنا إليه لتونا واضح جداً هنا: ملكوت السماء ليس السماء نفسها، ولا هو، كما اعتيد على فهم هذا الجزء من إنجيل متى، مؤسَّس على الملكوت المجيد الآتي لإلهنا ومسيحه عندما سيخضع كل العالم ليسوع كملك. إنه يدل على حالة مختلطة من الأشياء، كما ساد في العالم المسيحي منذ بدء الدهر الحالي.

الأشواك، والتي هي أولاد الشرير، ممتزجة مع القمح، الذين هم أولاد الله.

"قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً. فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى الْحَصَادِ وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي" (الآيات ٢٤- ٣٠).

هذا المثل يتم تفسيره وشرحه مرة أخرى في هذا الفصل. ما نحتاج إليه الآن هو أن نلاحظ حقيقة أن الرب كان يرسم حالة الأشياء عندما سيكون المعترفون والمؤمنون الحقيقيون متواجدين معاً. الفرق الكبير بين الاثنين هو أن أولئك المؤمنين الحقيقيين يؤتون بثمار؛ في حين أن الآخرين هم بلا ثمر، بل حتى أنهم ضارون أكثر منهم نافعون. إن الزؤان نفسه هو في الواقع سام وليس صالحاً للأكل. يقول يسوع: "جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً". ذلك العدو، كما نعرف، هو الشيطان. ولكن عندما جاء خُدَّام الناظر يسألونه إذا كان ينبغي أن يقتلعوا الزؤان، كان الجواب بالنفي. ليس قبل زمان الحصاد يكون الفصل الكبير.

المثل الثالث هو عن حبة الخردل:

"قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا". (الآيات ٣١- ٢٣).

ليس علينا أن نفهم من كلمات ربنا أن حبة الخردل هي الأكثر صغراً من جميع بذار مملكة النبات، بل إنها الأصغر حجماً بين بذار أعشاب الحقل؛ ومع ذلك عندما تنمو تصبح أعظم وأكبر البقوليات، فتعلو فوق كل الباقين، وهكذا تشكل ملجأً. ليس في التدوين الذي لدينا تفسيرٌ للمثل، بل إنه يسهل فهمه على ضوء الكتابات المقدسة الأخرى. إنه يتحدث عن تطور ملكوت السموات إلى سيادة عظيمة فوق العالم. هكذا سطوة كانت تُشبَّه غالباً بأشجار ضخمة ذات أغصان منتشرة ممتدة، كما في حالة بابل (دانيال ٤)؛ وآشور (حزقيال ٣١: ٣)، والسلطات الأخرى المشابهة. وهكذا فالتي بدأت كحقل حنطة تنامت، بمرور القرون، إلى شجرة خردل. كنيسة الله المعترفة صارت قوة يُحسب لها حساب بين الأمم، ولكن أغصانها أوت كل أنواع المعترفين الكاذبين والمعلمين الأشرار. طيور السماء تمثل حشود الأشرار، وهؤلاء يلتجئون إلى أغصان شجرة الخردل. إنها صورة في غاية الحيوية عما تحول إليه العالم المسيحي على مر القرون عندما بدت الكنيسة الزائفة وكأنها ستسيطر على العالم.

مثلٌ آخرٌ تكلم به الرب وهو جالس عند شاطئ البحر. وذلك عن الخميرة المُخبّأة في الدقيق. لعل هذا المثل هو أكثر التعاليم التي تعرضت لسوء الفهم والتي أوردها الرب. لقد قال: "«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ»". الفكرة العامة السائدة بين المسيحيين هي أن المرأة هنا تمثل الكنيسة؛ والأكيال الثلاثة تمثل العالم؛ والخميرة الإنجيلَ: وهذه هي النتيجة التي سيؤول إليها العالم في نهاية الأمر. ما من شيء يمكن أن يكون مناقضاً لكلمة الله أكثر من هذه الفكرة. إنه لمن المحزن، بعد انقضاء حوالي عشرين قرناً من الكرازة بالإنجيل، أن عدد غير المؤمنين في العالم اليوم هو أكثر منه نسبياً عندما فوَّض المسيح التلاميذ بأن يهبوا ليبشروا الأمم. ليس من مكان يؤكد لنا فيه الكتاب المقدس بأن نتوقع رؤية عالم مهتدٍ قبل مجيء ربنا يسوع المسيح ثانية. لكي يفهم المرء هذا المثل، عليه أن يستفسر عن معنى الخميرة. في كل كلمة الله، تُستخدم الخميرة دائماً بمعنى شرير. في القديم كان على شعب إسرائيل أن يضعوا كل الخمير خارج منازلهم خلال موسم الفصح، ويشرح الرسول بولس ذلك عندما يقول: " لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقّ" (١ كورنثوس ٥: ٧، ٨). فالخميرة، إذاً، تدل على المكر والشر، وعلى المسيحي أن يُخرج هذه من حياته. لقد حذَّر الرب يسوع تلاميذه من خمير الفريسيين الذي هو النفاق والبر الذاتي؛ وخمير الصدوقيين الذي هو العقيدة الزائفة والمادية؛ وخمير هيرودس، الذي هو الدنيوية والفساد السياسي. في سفر اللاويين (الأصحاح ٢) لدينا قربان التقدمة، والذي ليس فيه خميرة. هذا يمثل ناسوت ربنا يسوع المسيح الذي كان بلا خطيئة على الإطلاق. في المثل، تُخبِّئ المرأة سراً الخميرة في قربان التقدمة. وإن ثلاثة أكيال الدقيق لا تمثل العالم بالتأكيد، بل حقيقة الله المتعلقة بابنه. ليست المرأة هي الكنيسة بل هي الكنيسة الزائفة- تلك المرأة، إيزابل، التي نقرأ عنها في رؤيا ٢: ٢٠، التي تقول أنها نبية، وتعلّم عبيد الله مبادئ منحرفة تُخرّب الإيمان. أليس هذا هو بالضبط ما كان يحدث خلال الألفيتين الماضيتين من تاريخ الكنيسة؟ لقد بدأ "سر الإثم" بالعمل خلال أيام الرسل، وانتشر طوال القرون حتى اليوم الحاضر، إذ نجد عملياً أنه ليس من عقيدة عظيمة في الكتاب المقدس لم يحرّفها المعلمون الكذبة.

وبهذا المثل الرابع يُنهي الرب ما يمكن أن ندعوه خدمته الجهرية بتلك المناسبة. لقد كشف عن أسرار كان الله قد حجبها أو تركها مخفية حتى ذلك الوقت، كما أعلن عنها نبوياً في المزمور ٧٨: ٢.

" هَذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (الآيات ٣٤- ٣٥).

وإذ صرف الجموع المتجمهرين أمام الباب، دخل يسوع إلى البيت، وتبعه تلاميذه. في هذا المكان المنعزل، تكلم بثلاثة أمثال أخرى, كما فسّر مثل الحنطة والزؤان أيضاً.

"حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وَﭐلْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. وَﭐلْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ. فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هَذَا الْعَالَمِ: يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (الآيات ٣٦- ٤٣).

جاء إليه التلاميذ مرة ثانية يسألونه عن مزيد من التفسير والشرح. فسألوه عن زؤان الحقل. فأوضح لهم أنه هو نفسه كان زارع الزرع الجيد؛ وأن الحقل هو العالم. من المهم أن نتذكر ذلك بسبب ما سيلي. ليس الحقل هو الكنيسة، بل هو ذلك العالم الذي ستجتمع الكنيسة خارجه في نهاية الأمر. "قال يسوع: "الزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ". لدينا هنا نتيجة الزرع: فأولئك الذين يؤمنون برسالة الإنجيل هم القمح؛ وأولئك الذين يقبلون تعاليم الشيطان هم الزؤان، لأن العدو الذي زرع الزرع الشرير السيِّئ هو الشيطان نفسه. لطالما كان منشغلاً بزرع الزؤان أينما وضع خدام الله البذر الجيد. ولكن ليس لخدام الله أن يحاولوا إتلاف الزؤان خلال هذا الدهر. إن فهمنا محدود للغاية. وقد نرتكب الخطيئة القاتلة التي ارتكبتها روما باستئصالها الصالح لكي تهلك الطالح. ففي نهاية الدهر- والتي ليست هي نهاية العالم في فكر الله بل نهاية الدهر الحالي- سوف "يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ". لاحظوا أن ابن الإنسان يرسل ملائكته. يا له من دليل قاطع على ألوهيته هنا! إنه بآن معاً ابن الله وابن الإنسان في أقنوم واحد مبارك معبود. الملائكة له، وينفّذون أوامره.

ثم لنلاحظ الحالة المختلطة التي تسود في الملكوت حتى نهاية الدهر. الملائكة يطردون من ملكوته كل الأشياء التي تسبب الفعل الشائن. سيكون هناك معترفون كاذبون مختلطون مع حقيقيين في الحقل- أي في العالم، من الآن وإلى انقضاء الدهر. "حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ". هذا هو الجانب السماوي من الملكوت الذي سيجمع فيه الرب خاصته في ذلك اليوم. ومن جديد تأتي الدعوة أن "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ".

لنربط معاً الأمثال الثلاثة التي أعطاها الرب داخل البيت.

" «أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ كَنـزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَى ذَلِكَ الْحَقْلَ. أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا. أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي الْبَحْرِ وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. فَلَمَّا امْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى الشَّاطِئِ وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ: يَخْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ الأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ الأَبْرَارِ وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ»" (الآيات ٤٤- ٥٠).

في المثل الخامس، ليس الكنـز هو الخاطئ الذي يسعى وراء المسيح بل الرب المبارك نفسه الذي جاء من السماء إلى الأرض ليجد ذاك الذي له قيمة لا تُقدَّر بالنسبة له: وتحديداً، شعبه الخاص إسرائيل. لكي يفتدي إسرائيل لنفسه، مات على الصليب، ولكنهم ما كانوا على استعدادٍ بعد ليقتبلوه ملكاً لهم، كما كان الكنـز مُخبَّأً في الحقل، وسيبقى مُحتجَباً إلى أن يعود.

في القديم، كان إسرائيل مميزاً ككنـز الله الخاص (خروج ١٩: ٥). والرب نفسه يمثله ذاك الرجل الذي وجد هذا الكنـز وخبَّأه. وعلى الجلجثة باع كل ما كان يملك واشترى الحقل، الذي هو العالم (الآية ٣٨). في الوقت الحالي يبقى الكنـز مُخبَّأً. وعندما يعود إسرائيل إلى الرب، فإنهم سيتجلّون ككنـز خاص للرب (ملاخي ٣: ١٧)، ومن خلالهم ستأتي بركة إلى الأمميين جميعاً.

" مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" يُشبَّهُ بعدئذٍ بـ "إِنْسَان تَاجِر يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً" . من جديد مَن يطلب (اللآلئ) هو المسيح، الذي نـزل من عرش المجد إلى هذا العالم الفقير البائس، سعياً وراء اللآلئ ليزين تاجه إلى الأبد.

" لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ". تلك هي الكنيسة، التي هي ذات قيمة عظيمة في عينيه، والتي بذل نفسه لأجلها. وعند الصليب "بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا". فهناك أفقر نفسه حرفياً ليشتري الكنيسة كلؤلؤة مُختارة خاصة به (أفسس ٥: ٢٥؛ ٢ كورنثوس ٨: ٩). يعتقد كثيرون أن الخلاص هو اللؤلؤة وأن الخاطئ هو التاجر، ولكن هذا عكس كامل لرسالة الإنجيل.

" يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ شَبَكَةً". إنها حرفياً شبكة للصيد. هذا يرمز إلى العمل الحالي للكنيسة المعترفة عندما يتجمع عدد هائل من المُخلَّصين والضالين من مياه الأمم (رؤيا ١٧: ١٥)، ويُحصَون بين المُعترفين بالإيمان بالمسيح.

" جَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً". عندما تمتلئ شبكة الصيد فإنها تُسحَبُ إلى الشاطئ، وتُفصَل الأسماك الجيدة عن الرديئة.

" هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ". ليس الحديث عن نهاية العالم، بل اكتمال دهر النعمة الحالي الذي سيسبق مباشرة إعلان دهر الملكوت في استعلانه الكامل.

" الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ". التعبير الأخير يُظهر أن الدينونة لا تُنتج توبة بالضرورة. عندما يحدث الفصل النهائي سيُطرح المعترفون الكذبة في دينونة، ستؤدي إلى البكاء بسبب معاناتهم، ولكن إلى صرير الأسنان بسبب بغضهم لله ومسيحه (مزمور ٣٥: ١٦؛ مراثي إرميا ٢: ١٦).

أما وقد رسم هذا المنظر الشامل المنوع اللافت، الذي يغطي كل الدهر الحالي، ويصل حتى إلى فترة الضيقة، مُظهراً اكتماله عند المجيء الثاني للرب، فقد سأل يسوع تلاميذه إلى أي درجة قد فهموه حقاً.

" قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَفَهِمْتُمْ هَذَا كُلَّهُ؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنـزهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ». وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَمْثَالَ انْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ" (الآيات ٥١- ٥٣).

رغم أنهم قد أعلنوا أنهم فهموا هذه الأشياء فمن الواضح أنهم لم يدخلوا إليها إلا بشكل ضعيف. ولكن أساساً أو أرضية قد وُضِعت في قلوبهم وأذهانهم أمكنهم أن يبنوا عليها بعد أيام. ولذلك فقد شبّههم الرب بكتبة يتعلمون فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، الذين سيستطيعون في أيام قادمة أن يُخرجوا من كنوزهم أشياء جديدة وعتيقة. وبهذا ختم يسوع تلك الفترة المعينة من خدمته وعاد إلى الناصرة.

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا: «مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ كُلُّهَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ». وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (الآيات ٥٤- ٥٨).

" مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟". حتى في وطنه- أي، كما يقول لوقا، في مدينة الناصرة (لوقا ٤: ١٦- ٢٤)، كان هناك بضعة فقط تجاوبوا مع رسالة الملكوت. لقد سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته بانذهال، ولكن أخفقوا في أن يدركوا أنه المسيا.

"أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟". إن الجواب هو لا. لقد كان ابن الله الأزلي، المولود من عذراء، ولكن تربى بعناية ورعاية يوسف، الذي منه تعلَّم مهنة النجارة.

"فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ كُلُّهَا؟". لقد ارتبكوا واحتاروا. لقد كان يسوع مختلفاً عن الآخرين من أبناء بلدته. حكمته وقدرته كان يتعذر تعليلها من وجهة نظر بشرية مجردة. فبدون تدريب مدرسي، كان أكثر عمقاً ورسوخاً من الكتبة.

"فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ". أي كانوا يتعثرون باتضاعه وينـزعجون عندما يلمّح إلى أن ألفتهم معه في الأيام الماضية، عندما عرفوه كحرفيٍّ بسيط، قد أعمت عيونهم عن حقيقة أنه كان الناطق بلسان الله.

"لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ". حتى الله نفسه يقيده عدم إيمان الإنسان. ذاك الْقَادِرُ " أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ" (أفسس ٣: ٢٠)، قد تعوقه في عمله المعارضةُ المتأتيةُ من القلب المتحجر وعدم الإيمان.

إن الحقيقة العظيمة التي يوضحها هذا الفصل من حياة ربنا على الأرض هي أن الجحود من جهة، أو الإيمان من جهة أخرى، لا يعتمدان على الصعوبات الفكرية أو المجادلات المنطقية. إن سر كليهما هو حالة الوجدان. عندما يكون المرء عازماً على المضي بعكس ما يعرف أنه صواب، فإنه سيستمر في الجحود ويرفض الخضوع لسلطان الرب يسوع المسيح. وعندما يتوب المرء عن خطاياه ويسعى صادقاً للتحرر منها فلن يجد صعوبة في الإيمان بالكلمة التي أعطاها الله لابنه (١ يوحنا ٥: ١١). ولعله يمكننا القول، ودون الخوف من الوقوع في تناقض، أنه إن كان المرء يعترف بوجود صعوبات فكرية في الإيمان بالكتاب المقدس، فإن سبب ذلك هو أنه يعيش في خطيئة ما يدينها الكتاب المقدس، والتي ليس لديه رغبة بأن ينعتق منها، بل إنه مصمم على الاستمرار فيها. إن الخطيئة غير المُدانة هي سبب نقص الإيمان بشهادة الله.

يحسن بنا أن نؤكد على بعض الأفكار التي طرحناها لتونا إذ نأتي إلى ختام دراسة هذا الأصحاح. فدعونا أولاً نلاحظ الفرق بين ملكوت الله وملكوت السموات. إن ملكوت الله يسود على الجميع (مز ١٠٣: ١٩؛ ٢٢: ٢٨) وهو من جيلٍ إلى جيل (دانيال ٤: ٣). هذا يُدعى في العهد الجديد "ملكوت الله". هذا التعبير لا نجده أبداً في الوحي الأسبق. إنه يتّخذُ أشكالاً مختلفة في أزمنة مختلفة. خلال الدهر الحالي يُوصَف في متى، وفي متى فقط، بأنه "ملكوت السموات". فيُرى الملك مرفوضاً من قِبَل البشر وقد عاد إلى السماء، والتي منها يُرشد قديسيه على الأرض، الذين يذهبون ويبشرون بكلمة الملكوت، وبهذا يجعلون عدداً هائلاً من الناس يعترفون به، ظاهرياً على الأقل، على أنه ملكهم الشرعي على الأرض. عندما يعود سيجمع كل ملكوته ويطرد منهم كل من لم يكن صادقاً مخلصاً. فأولئك المؤمنون الحقيقيون سيكون لهم دور في السماء أو في الأرض في ملكوت ابن الإنسان، الذي سيكون الجانب المُتَّخذ من ملكوت الله في الدهر الألفيّ.

غالباً ما يتحدث الناس عن "بناء الملكوت". وهذا تعبيرٌ شائع الاستخدام، ولكن لا أساس له في الكتاب المقدس. لقد فُوِّضْنا أن نكرز بالإنجيل إلى كل مخلوق، وعندما يؤمن البشر بالرسالة فإنهم يصبحون أعضاء في الكنيسة، جسد المسيح. وبما أنهم هكذا فإنهم يكونون في ملكوت السماء أيضاً، ولكن هدفنا الأساسي هو أن نجعلهم يعترفون بيسوع مخلِّصاً ورباً.

ما من أحد يمكن أن يدخل ملكوت الله في الواقع إلا بالولادة الجديدة. ولكن كثيرين يعترفون بالولاء للملك الغائب الذي لم يُخضِعوا قلوبهم له أبداً. فهؤلاء هم في مجال الملكوت، ولكنهم ليسوا فيه حقاً. فلنكن مُتيقّنين من حقيقة إيماننا واعترافنا.

Pages