November 2013

إنجيل متى

تفسير متى

هـ. أ. آيرونسايد

الطبعة  الأولى: سبتمبر ١٩٤٨

تمت ترجمة النص إلى العربية عن طبعة نوفمبر عام ١٩٥٥

فريق الترجمة والتعريب المحتويات

محاضرات على الذبائح اللاوية

محاضرات على الذبائح اللاوية

ذبيحة المحرقة
قربان التقدمة
ذبيحة السلامة
ذبيحة الخطية
ذبيحة الإثم

هنري آيرونسايد

تمت الترجمة إلى العربية عن الطبعة الأولى ١٩٢٩

االآيات الكتابية المستخدمة هنا هي من ترجمة سميث/فاندايك-البستاني العربية للكتاب المقدس

مقدمة بقلم المترجم

توزع المحتويات في سفر الرؤيا:

جزءان - ثلاثة تقسيمات – قسمان – مقاطع اعتراضية
النبوءة الشهيرة بـ ٧٠ أسبوعاً أو ٤٩٠ سنة:
الأوقات – الأيام – الأشهر – الأسبوع السبعون
الأشخاص الست الرئيسيون في الأزمة القادمة:
التنين العظيم – الوحش – ضد المسيح – ملك الشمال – ملك الجنوب – آخر قيصر لروسيا

توزع محتويات سفر الرؤيا
"الإعلان"- رفع الحجاب.

لقد كتب ورأى الرؤى يوحنا الحبيب في جزيرة بطمُس حوالي العام ٩٦ ميلادية.

جزءان:

نجد سفر الرؤيا مؤلفاً من جزأين متساويين متمايزين.

١- من الأصحاح ١ إلى الأصحاح ١١: ١٨، والذي فيه نرى الحالة العامة للأشياء والأحداث المرسومة نبوياً من نهاية القرن المسيحي الأول إلى بداية الحالة الأبدية. قارن: "أَتَى غَضَبُكَ وَزَمَانُ الأَمْوَاتِ لِيُدَانُوا" (١١: ١٨) مع "رَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ" (٢٠: ١٢).

٢- من الأصحاح ١١: ١٩ على الأصحاح ٢٢: ٢١، الذي نرى فيه تفاصيل مرتبطة ببني إسرائيل والعالم المسيحي في الأزمة المستقبلية الرهيبة من تاريخهم.

ثلاثة تقسيمات:

عن تقسيم النبوءة المثلث الجوانب نلاحظه في الأصحاح ١: ١٩. هذه الآية هي مفتاح تفسير وفهم السفر. إنها تحتوي على الماضي، والحاضر، والمستقبل.

١- "اكْتُبْ مَا رَأَيْتَ". هذه تُشكل رؤيا بحد ذاتها، مشتملة ضمناً على الآيات ١٠- ١٨، والتي يكون فيها المسيح وسط السَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة كموضوع مركزي. إذاً هنا نجد الماضي.

٢- "اكْتُبْ.... مَا هُوَ كَائِنٌ". هذه مشتملة في الأصحاحات ٢ و٣، والتي ننتبع فيها الكنيسة المعترفة عبر مراحل مؤقتة متتالية من تاريخها، من انحطاطها (الأصحاح ٢: ٤) وحتى رفضها (الأصحاح ٣: ١٦). وبالتالي نجد هنا الحاضر.

٣- " اكْتُبْ.... مَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا"، أو بعد هذه الأشياء. هذا الجزء يبدأ بالأصحاح ٤، ويمتد حتى الأصحاح ٢٢: ٥. وهذا بشكل جوهري هو الجزء النبوي من السفر. وبالتالي الحديث هنا يكون عن المستقبل. وهنا نجد الحديث إذاً عن الأختان، والأبواق، والجامات؛ وبابل، والزواج، والملك، الخ.، فهذه كل منها وجميعها هي في المستقبل.

اثنا عشر قسماً:

هناك اثنا عشر قسماً تتوزع عليها كل محتويات سفر الرؤيا، وهذه ستُسهل علينا دراسة السفر كثيراً إذا ما انتبهنا عليها وتمكننا منها.

١- مدخل عام، (١: ١- ٩).

٢- المسيح في المجد الإداني وسط الكنائس الآسيوية السبعة، (١: ١٠- ١٨).

٣- الكنيسة في اعترافها كشاهد لله على الأرض. انفصالها المتنامي عن المحبة والحق، (الأصحاحات ٢، ٣).

٤- القديسون السماويون المتواجدون والممجدون، بمن فيهم المشتملون في ١ تسا ٤: ١٥، ١٧؛ الأصحاحات ٤، ٥.

٥- الأختام السبعة التي يفتحها الجمل على التعاقب، الأصحاحات ٦- ٨: ١. الأصحاح السابع هو مقطع اعتراضي ذو أهمية خاصة.

٦- الأبواق السبعة تُطلق بشكل متعاقب من قِبل الملائكة، الأصحاحات ٨: ٢- ١١: ١٨. ها هنا الإمبراطورية الرومانية المنتعشة هي في طليعة هذه النبوءات الإدانية.

٧- ثلاثة مصادر (الأصحاح ١٢)، ممثلان (الأصحاح ١٣)، وسبع نتائج (الأصحاح ١٤)، الأصحاحات ١٢- ١٤.

٨- جامات غضب الله السبعة التي تنسكب على التعاقب، الأصحاحات ١٥، ١٦. التعاملات الختامية لله مع الإمبراطورية، وشعب إسرائيل، والأرض.

٩- بابل، الرمزية، في ارتباطاتها السياسية والكنسية، ودمارها الكامل، الأصحاحات ١٧، ١٨.

١٠- التسلسل التاريخي من سقوط بابل وحتى الحالة الأبدية، ابتداءً من الابتهاج في السماء، وختاماً بصورة البؤس الأبدي في بحيرة النار، الأصحاحات ١٩، ٢١: ٨.

١١- عروس الحمل في أُبهتها السيادية والألفية. تذوق للحب، والحياة والجمال إلى الأبد، الأصحاحات ٢١: ٩- ٢٢: ٥.

١٢- تحذيرات، وتهديدات، وتشجيعات، الأصحاح ١٢: ٦- ٢١.

التسلسل التاريخي الزمني:

يكشف لنا الأصحاح ٢ و٣ التاريخ الأخلاقي للكنيسة في حقباتها المتعاقبة في تاريخها، منذ نهاية القرن الميلادي المسيحي الأول، وانتهاءً برفضها النهائي. ثم نجد في الأصحاحات ٤ و٥ التسلسل للأحداث التاريخية حتى هذه اللحظة طالما أن السماء وليست الأرض مشهد الحدث، والقديسين السماويين وقد رُفعوا إلى ديارهم في الأعلى. حقيقة الاختطاف لا تُذكر في سفر الرؤيا، ولكن يُفترض أنها تكون قد حدثت في الفترة بين الأصحاح ٣ و ٤. يكشف لنا بولس موضوع الاختطاف، ويتابع يوحنا مفترضاً أنه قد حدث. ولذلك فإننا نضع اختطاف القديسين بعد دمار الكنيسة كما نرى في الأصحاح ٣ ، وقبل المجد الذي يُشهد له في الأصحاح ٤.

التاريخ على الأرض إذاً يبدأ من جديد من نهاية الأصحاح ٣، ولكنه تاريخ العالم المُرتد- شعب إسرائيل، والإمبراطورية الرومانية المرتعشة من جديد، والعالم الجديد عموماً. هذا سنجده في الأصحاحات ٦، ٨، ٩، ١١: ١٤- ١٨؛ ١٥: ٥؛ ١٦: ٢١؛ ١٩: ١١- ٢١: ٨.

مقاطع اعتراضية:

هناك ستُ مقاطع اعتراضية مميزة بارزة في السفر، وهي كما يلي:

١- الأصحاح ٧، بين الختمين السادس والسابع.

٢- الأصحاحات ١٠، ١١: ١- ١٣، بين البوقين السادس والسابع.

٣- الأصحاحات ١١: ١٩- ١٥: ١- ٤، بين إطلاق البوق السابع وسكب جامات الغضب.

٤- الأصحاحات ١٦: ١٣- ١٦، بين الجامين السادس والسابع.

٥- الأصحاحات ١٧- ١٩: ١- ١٠، بين سكب الجام السابع والمجيء الشخصي للرب بقوة ومجد.

٦- الأصحاحات ٢١: ٩- ٢٢: ١- ٥، بين وصف الحالة الأبدية والقسم الختامي من السفر. إن المقطع الاعتراضي الأطول هو الثالث والذي فيه نجد الأصول المخفية للخير والشر كما تتبين أو تتكشف لنا في الأصحاح ١٢، والعملاء والأدوات الرئيسية للشر المذكورة في الأصحاح ١٣، وما ستكون عليه نتائج من نعمة وإدانة كاملة يأتي ذكرها صراحة في الأصحاح ١٤.

ملاحظات عامة:

الجزء النبوي على نحو دقيق من سفر الرؤيا يبدأ من الأصحاح ٦ وينتهي بالآية ٥ من الأصحاح ٢٢.

إن الأحداث المرتبة تاريخياً تحت الأختام، والأبواق، والجامات، تحدث بعد الاختطاف وقبل ظهور الرب في المجد. سيكون من المستحيل أن نفهم الرؤيا أو الإعلان إن لم نرَ هذا بشكل واضح.

ما من تاريخ يمكن تحديده بالنسبة لبدء الأختام. الإمبراطورية الرومانية قد تتشكل إبان فتح الأختام الواحد تلوى الأخرى. الإمبراطورية يُعترف بها على أنها موجودة تحت الأختام. وقد يحدث تحت آلام الختم السادس (الأصحاح ٦: ١٢- ١٧) أن الإمبراطورية تبزغ من الفوضى العامة، ولكننا لا نستطيع أن نعلن ذلك بشكل مؤكد.

الأبواق الأربعة الأولى (الأصحاح ٨) تتعلق بشكل خاص بالعالم الروماني وأبواق "الويلات" الثلاثة تعلن الدينونة على التوالي على الشعب الإسرائيلي المرتد، والشعب المسيحي المرتد، وعلى العالم الأثيم. الأبواق تلي الأختام، والجامات تتبع الأبواق. دينونات الأختام تكون خفيفة نسبياً ولكنها واسعة الانتشار، ولكن باستثناء وحيد (الأصحاح ٦: ٨). تأديبات الأبواق تكون أثقل في طبيعتها؛ الأبواق الأولى محدودة أكثر في بقعتها، بينما البوقين الأخيرين فيهما دينونتين أو "ويلين".

الجماعة المستشهدة في يهوذا الذين هم على بحر زجاجي يعزفون وينشدون لافتون للنظر في الأصحاحات ١٤: ٢؛ ١٥: ٢- ٤.

الجماعة المصونة من يهوذا على جبل صهيون وحدها يمكنها أن تتعلم نشيد إخوتهم في الأعلى، الأصحاحات ١٤: ١- ٥.

الجماعة المختومة من بني إسرائيل (الأصحاح ٧) لا يُقال أنها تبزغ من الضيقة، وهي جماعة متميزة عن تلك التي نجدها في الأصحاح ١٤. الآلاف المئة والأربعة والأربعون التي نسمع عنهم في الأصحاح ٧، هم جميع بني إسرائيل، بينما المئة وأربع وأربعون ألفاً في الأصحاح ١٤ هم من يهوذا فقط.

الجزء المرتد من بني إسرائيل نراه بشكل خاص في الأصحاح ٩: ١- ١١. وهكذا فإن كل بني إسرائيل يُحاسبون بالكامل.

النبوءة الشهيرة المتعلقة بالأسابيع السبعين أو الـ ٤٥٠ سنة.
(دانيال ٩: ٢٤- ٢٧).

جماعة اليهود والمسيحيين على حد سواء يخطئان في فهم هذه النبوءة المشهورة. يكمن الخطأ في عدم فهم أو إدراك أن الأسبوع الأخير أو الأسبوع السبعين هو في المستقبل لا يزال، وأن فاصلاً زمنياً طويلاً، دام أحدها لقرابة ألفين سنة، سيفصل بين نهاية الأسبوع الـ ٦٩ وبدء الأسبوع السبعين، وأيضاً أن النبوءة تتعلق بأورشليم والشعب اليهودي. لم يكن الرسول في حاجة إلى أن يكتب عن الأزمنة والأوقات للمسيحيين من أصل أممي (١ تسالونيكي ٥: ١). النبوءة نفسها تُعلِّم بوضوح أن هناك فاصلاً زمنياً كبيراً جداً بين آخر أسبوعين.

ننتقل إلى كلمات النبوءة بشكل كامل، ونضيف تعليقاً هنا وهناك بغاية الإيضاح والتفسير.

"سَبْعُونَ أُسْبُوعاً (٤٩٠ سنة) قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ (اليهود) وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ (أورشليم) لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ (ست بركات). فَاعْلَمْ وَافْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبَنَائِهَا (نحميا ٢) إِلَى الْمَسِيحِ الرَّئِيسِ (متى ٢١) سَبْعَةُ أَسَابِيعَ (٤٩ سنة) وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعاً (٤٣٤ سنة) يَعُودُ وَيُبْنَى سُوقٌ وَخَلِيجٌ فِي ضِيقِ الأَزْمِنَةِ. وَبَعْدَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعاً (إضافة إلى السبعة) يُقْطَعُ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ وَشَعْبُ (الرومان) رَئِيسٍ آتٍ (القرن الصغير في الأصحاح ٧) يُخْرِبُ الْمَدِينَةَ (أورشليم) وَالْقُدْسَ (الهيكل) وَانْتِهَاؤُهُ بِغَمَارَةٍ وَإِلَى النِّهَايَةِ حَرْبٌ وَخِرَبٌ قُضِيَ بِهَا وَيُثَبِّتُ (الرئيس الروماني) عَهْداً مَعَ كَثِيرِينَ ("كثيرين" أي مجموعة من الناس) فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ (سبعين سنة) وَفِي وَسَطِ الأُسْبُوعِ يُبَطِّلُ (الرئيس) الذَّبِيحَةَ وَالتَّقْدِمَةَ وَعَلَى جَنَاحِ الأَرْجَاسِ (العبادة الوثنية) مُخَرَّبٌ حَتَّى يَتِمَّ وَيُصَبَّ الْمَقْضِيُّ عَلَى الْمُخَرَّب (أي المُخرِّب)".

لمن تشير النبوءة إذاً- أللمسيحيين أم لليهود؟ لاشك أنها تشير إلى هؤلاء الآخرين (اليهود). إن شعب دانيال (اليهود) ومدينته (أورشليم)- اليهود وأورشليم- هما موضوع هذه النبوءة (الآية ٢٤). في رسالة تلقاها قبل بضعة سنوات من أحد التلامذة المتميزين في الكلمة النبوية، حثَّ هذا الطالب الكاتب على أن يدرس بعناية النبوءة المعروفة المتعلقة بالسنوات السبعين، بحيث تُعتبَر كـ "مفتاح لكل النبوءة". إن الأسبوع السبعين لا يزال في المستقبل. النصف الختامي منه يتم الحديث عنه بشكل متفرق على أنه مؤلف من ٤٢ شهراً، أو ١٢٦٠ يوماً- وقت، أوقات، ونصف وقت. إنه تلك الفترة الجديدة التي يشير إليها الجزء المركزي الأوسط من الرؤيا، وهو مقطع هام وشيِّق للغاية، وبالتأكيد هناك حاجة لأن نفهم إذا ما كانت النبوءات ستُفهَم بالروح. خلال هذه الأسابيع السبعين أو الـ ٤٩٠ سنة يجري تحقيق المخطط أو البرنامج النبوي.

هل الأسابيع هي فترات من أيام أم من سنين؟ كل علماء الدراسات واللغة العبرية المؤهلين الأكّفاء يقولون أن "الأسبوع" يُشير إلى "سبعة"، سواء سبعة أيام، أو سنين، أو فئات زمنية أخرى. إنه بالبساطة "سبعون سبعة". يقول العالم تريغيلِس: "أتحفظ على كلمة "أسبوع" لأجل الملاءمة، وليس بالضرورة أن يكون سبعة أيام بالمعنى العبري للكلمة". من الواضح أنها تشير إلى أسابيع من السنين من جهة النبوءة.

في (١٠: ٢) لدينا أسابيع من الأيام؛ وفي هذا الذي أمامنا أسابيع من السنين. ولكن سؤالاً هاماً آخر يواجهنا: متى بدأت الأسابيع السبعون أو الـ ٤٩٠ سنة؟ إن الكتاب يخبرنا أنها كانت "مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبَنَائِهَا". والآن، في أسفار عزرا ونحميا لدينا عدة مراسيم أو أوامر، ولكن واحداً فقط يشير إلى بناء أورشليم، أما الأخرى فتشير إلى الهيكل. هذه الوصية الخاصة أو الأمر الخاص هو ما تشير إليه النبوءة، وسنجد تدويناً كاملاً لها في السفر التاريخي الأخير من العهد القديم- نحميا، الأصحاح ٢. هذا الأمر وُضع قيد التنفيذ في السنة العشرين من حكومة أَرْتَحْشَسْتَا الملك. وبالتالي فهنا لدينا البداية الدقيقة للسبعين أسبوعاً- العام ٤٥٥ ق.م . 1

ولذلك فإن النبوءة مقسمة على الشكل التالي:

١- سبعة أسابيع، أو ٤٩ سنة، فيها انهماك بإعادة بناء المدينة (انظر نحميا ٢)، التي دمرّها المستبد العالمي نَبُوخَذْنَصَّرَ- الرَّأْسُ مِنْ ذَهَبٍ (دانيال ٢: ٣٨)، والأسد وسط الوحوش (٧: ٤). أسفار نحميا وعزرا تعطينا تاريخ هذه الفترة، أو "ضِيقِ الأَزْمِنَةِ".

٢- اثنان وستون أسبوعاً، أو ٤٣٤ سنة، بدأت من إعادة بناء المدينة، واستعادة حكومتها الاجتماعية والكنسية، التي استمرت ٤٩ سنة، حتى الْمَسِيح الرَّئِيس. ولذلك، من أمر أَرْتَحْشَسْتَا في العام العشرين من فترة حكمه (نحميا ٢) الذي يقضي بإعادة بناء أورشليم حتى دخول الظافر للمسيح كمسيّا إلى أورشليم (متى ٢١) لدينا الفترتين السابقتين مضاعفتين؛ وفي مجموعها ٤٦٣ سنة.

٣- أسبوع، أو سبع سنين، للمستقبل. هذا الزمن الشيّق، الذي يبدأ فيه إنهاء آلام يهوذا، يبدأ بعد زوال الكنيسة، وبعد استرجاع يهوذا (أشعياء ١٨). كل النبوءة، بشكل أو بآخر، تتمركز في طابعها الأخير حول هذه الأزمة اللافتة. إنه أسبوع تجري فيه أضخم الحوادث التي عرفها العالم، من النواحي السياسية وغيرها.

٤- منتصف الأسبوع ذي السبع سنوات، أو بعد ثلاث سنوات ونصف. هذا الأسبوع الأخير يُقسم إلى قسمين متساويين. تركيز القارئ في أسفار دانيال والرؤيا يتركز على تاريخ النصف الثاني من الأسبوع. النصف الأول سيتميز بسلام عام، والآخر بالاستعداد للجيشان المريع لتجديف الشيطان وقوته وقسوته، الذي يميز النصف الأخير من الأسبوع. إن تاريخ السنوات الثلاث ونصف الأولى ليس مكتوباً، لا عند النبي العبري ولا عند كاتب سفر الرؤيا.

الأزمان والأيام والأشهر

الزمن هو سنة (للتأكد من ذلك انظر دانيال ٤: ١٦- ٣٧)؛ والأوقات، سنتين؛ تقسيم الوقت، أو نصف الوقت، يرمز إلى نصف سنة؛ الأشهر تعني ٣٠ يوماً؛ والأيام هي أيام حرفية مؤلفة كل منها من ٢٤ ساعة. هذه الفترات تشير إلى نفس الوقت، أقصد النصف الأخير من الأسبوع السبعين. إنها تغطي فترة الضيقة. وسنلاحظ أنه في رؤيا ١١: ٣ و١٢: ٦، يتم الحديث عن أيام وليس أشهر أو أوقات، والسبب هو أن الحديث يتناول قديسي الله المتألمين؛ ومن هنا فإن أيام شهادتهم وامتحانهم معدودة بعناية. الأيام هامة بالنسبة له هو الذي يعد شعر رأسنا. ولكن عندما تكون قوة وتجديف العدو الكبير لله وللحمل، وكذلك لمضطهد ذلك الجزء من يهوذا الذي يخاف الله، فإن الحديث يكون عن ملك الغرب ويمكننا أن نضيف الأمميين الظالمين أيضاً، ومن هنا تكون الفترة التي يتحدثون عنها مقتضبة وجيزة مؤلفة من ٤٢ شهراً (الأصحاحات ١٣: ٥؛ ١١: ٢). تُذكر الأيام مرتين عند الإشارة إلى قديسي الله. والأشهر تُذكر مرتين عند الحديث عن عدو شعب الله. و"الأَوْقَاتَ وَالسُّنَّةَ" (الشريعة)، وليس القديسين، هي التي تطأ إلى أيدي القرن الصغير، أو رأس الإمبراطورية الرومانية المنتعشة، "إِلَى زَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ وَنِصْفِ زَمَانٍ" (دانيال ٧: ٢٥). إنه يغضب ويخرّب في العالم الواسع للمسيحيين المعترفين، ولكن بشكل خاص في فلسطين يشعرون بيده الحديدية، ليس ضد الشعب، بل ضد ذلك الجزء من الشعب الذين يخافون الله والذين يشهدون بجرأة لله في تلك الأوقات العصيبة الرهيبة. ضد المسيح سيؤيد مزاعم الملك المتكبر المجدّف، الذي يقوّيه الشيطان الذي أُقصي من السماء إلى الأرض، والذي نقرأ عن ترحيله من هناك في (رؤيا ١٢). وفي (دانيال ٧: ٢٥)، و(رؤيا ١٣: ٥) نسمع عن نفس الشخص ونفس الفترة. استمرار الطور الأخير والشيطاني للإمبراطورية (١٧: ٨) يقتصر على ٤٢ شهراً حرفياً. ومن هنا الـ ١٢٦٠ يوماً من المعاناة، ٤٢ شهراً مؤلف كلاً منها من ٣٠ يوماً تتميز بسطوة الأمميين، ووقت، وأوقات، ونصف وقت من بؤس يهوذا ومذّلتها المتزامنة معها.

خمسة أشهر:

خمسة أشهر من التعذيب (رؤيا ٩: ٥- ١٠). دينونة الجراد تحت صوت بوق الملاك الخامس ستكون مريعة فظيعة، ورغم توكيد هنغستنبرغ على العكس، فإننا نعتقد أن الـ "خَمْسَةَ أَشْهُرٍ" من العذاب هي تلميح إلى الخراب الذي يحدثه الجراد الطبيعي والذي يستمر عادة لخمسة أشهر. إن الإشارة هي إلى فترة محددة وموجزة، ولا تزيد عن خمسة أشهر.

الساعة، اليوم، الشهر، والسنة:

الساعة، اليوم، الشهر، والسنة (رؤيا ٩: ١٥). ملائكة الدينونة مقيدون عند نهر الفرات وسيتم تحريرهم، ليس خلال الوقت المحدد، بل في تلك اللحظة المعينة. ممثلوا الشر هؤلاء كانوا سيُحررون في لحظة معينة محددة. نفس الساعة من اليوم من الشهر من السنة تُلاحَظ. إنها علامة دقيقة من الزمن.

ثلاثة أيام ونصف:

ثلاثة أيام ونصف (رؤيا ١١: ٩- ١١). الأجساد المائتة للشهود الراقدين كجثث غير مدفونة في شوارع أورشليم، والعرضة لنظرات عيون الأمميين القاسية هو مشهد يستمر لثلاثة أيام حرفية ونصف. نلاحظ أن شهادة الشهود تمتد خلال النصف الأخير من الأسبوع غير المكتمل. فعندها يُقتَلون، وبعد عرض جسدهم التشهيري لثلاثة أيام ونصف سيُمنحون قيامة عامة. الأيام النبوية عند دانيال وفي أجزاء أخرى من الرؤيا هي أيام حرفية؛ فلماذا يشكل هذا المقطع المحدد استثناءً؟ هذا مشهد خاص، يقتصر في ملامحه المميزة على أحداث تجري في أورشليم. إن الوحش هو الذي يقتل الشهود في أورشليم.

ألفان وثلاثمئة يوم:

٢٣٠٠ يوم (دانيال ٨: ١٤) هو فترة تاريخية تشير إلى تدنيس الهيكل وسحق الشعب العبراني على يد الملك السوري الشائن الذكر، أنطيوخوس أبيفانيس. ومن الواضح من الآيات ١٧ و ١٩ أنه ستكون هناك فترة تحمل رمزية في الأيام الأخيرة من سيادة الأمميين وسوء حكمهم للجماعة اليهودية المستعادة. أنطيوخوس يرمز إلى عدو اليهود المستقبلي، ملك الشمال.

ألف ومئتان وتسعون يوماً:

١٢٩٠ يوماً (دانيال ١٢: ١١). هذه الأيام تتجاوز بشهر فترة الضيقة والإعاقة المفروضة على العبادة اليهودية. تبدأ بالعلامة المعروفة جيداً والمعينة من الله (متى ٢٤: ١٥)، العبادة الوثنية، التي ستميز بدء مرحلة ختم الآلام للأزمة القادمة. هناك حاجة لشهر إضافي لإكمال دمار أعداء بني إسرائيل. لا يتكلم النبي عن بركة تتعلق بهذه الفترة، إذ أن الدينونة ليس فقط ستمحو مشهد الشر والأشرار، بل إن الناس أنفسهم يجب أن يستعدوا أخلاقياً للمد الكامل للبركة الألفية. وإن الأيام حرفية بالتأكيد.

الأَلْفِ وَالثَّلاَثِ مِئَةٍ وَالْخَمْسَةِ وَالثَّلاَثِينَ يَوْماً:

١٣٣٥يوماً (دانيال ١٢: ١٢). هنا تضاف ٤٥ يوماً إلى العدد السابق. "طُوبَى لِمَنْ يَنْتَظِرُ وَيَبْلُغُ إِلَى الأَلْفِ وَالثَّلاَثِ مِئَةٍ وَالْخَمْسَةِ وَالثَّلاَثِينَ يَوْماً". ولذلك لدينا ٧٥ يوماً حرفياً تُضاف إلى الـ ١٢٦٠ قبل ضمان البركة الكاملة لإسرائيل. يا لها من شهرين ونصف حافلين! قصة الدينونة ستنتهي. "قَذَر بَنَاتِ صِهْيَوْنَ"، غُسِلَ، واستُعيدت عبادة الهيكل في ظل الظروف الجديدة (حزقيال ٤٠)، وتطهر الشعب أخلاقياً من كل النجاسة التي في قلبهم وفي حياتهم؛ وبالتالي "طُوبَى لِمَنْ" ينتظر ويصل إلى تلك اللحظة من البركة العجيبة التي لبني إسرائيل وكل الأرض.

تأخير الأسبوع السبعين من السنوات السبع:

الفاصل الحالي من النعمة والانحطاط اليهودي الحالي متعايشان وينتهيان بانتقال القديسين السماويين، المؤلفين من الأحياء الذين تغيرت حياتهم والأموات القائمين. ثم الأسبوع الأخير، هناك حاجة إليه لإتمام القصة الكاملة للـ ٤٩٠ سنة، يبدأ بعودة الملك الروماني المرتد والشعب المرتد بعد أن يعقدوا اتفاقية متبادلة. يخالف الملك بدافع الغدر المعاهدة في منتصف الأسبوع. وتنشأ الضيقة العظيمة بكل فظائعها في الحال. ولكن يكفي. يتم إرضاء العرش (أشعياء ٤٠: ٢). وتُختتم السنوات السبع، وأما الشعب القديم، وإذ يتأدب ويخلص ويُبارك، فإنه يدخل إلى الغبطة. سوف لن تغرب شمسها ثانية، وتصبح أورشليم عرش الرب (إرميا ٣: ١٧).

ما لم يُرَ هذا الدهر التدبيري قد أخذ مكانه بين الأسبوع الـ ٦٩ والأسبوع الـ ٧٠ من النبوءة، فسيكون هناك بلا شك تخبط وتشوش. إن الفاصل بين هذين الأسبوعين يفسّر الكثير من الأمور.

الأشخاص الست الرئيسيون في الأزمة القادمة:

١- التِّمْسَاحُ الْكَبِيرُ، الحية القديمة، وإبليس، والشيطان- هذه أسماء وألقاب للفحوى المشؤوم- هي التي تقود العتمة الأخلاقية والشر في الأيام الأخيرة التي تسبق عودة الرب بقوة. تركيز الشر الشيطاني على الأرض ناتجاً عن اندلاع الحرب في السماء (رؤيا ١٢: ٧- ٩، ١٣- ١٧)، والشيطان، إذ يُطرد من هناك، يوجّه طاقاته التي لا تكل ولا تمل، ويُوظّف مصادره التي تكاد تكون غير محدودة في دمار الأرض، مالئاً إياها بالألم المضني والبؤس. في مهمته الشيطانية نجد خدامه الفاجرين يؤيدونه بمهارة، الوحش والنبي الكذاب، اللذان هما أشد الناس إثماً عندئذ على وجه الأرض، اللذان يستمدان إلهامهما من الشيطان.

٢- وحش النبوءات الرؤيوية: (الأصحاحات ١١: ٧؛ ١٢؛ ١٣: ١- ٨؛ ١٤: ٩؛ ١٦: ١٧؛ ١٩: ١٩، ٢٠؛ ٢٠: ١٠). القرن الصغير (دانيال ٧: ٧، ٨، ١١، ٢٠، ٢١، ٢٣- ٢٦). هذا القرن الصغير أو الملك هو الرئيس الشخصي للإمبراطورية المنتعشة. القرن الصغير في دانيال ٨ هو شخص مختلف. "رَئِيس آت" (دانيال ٩: ٢٦).

٣- ضد المسيح في رسائل يوحنا ٢: المسيح الدجال (يوحنا ٥: ٤٣). إنسان الخطيئة، ابن الهلاك، والشرير أو الأثيم (٢ تسالونيكي ٢). النبي الكذاب (رؤيا ١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠). وحش آخر (رؤيا ١٣: ١١- ١٧). الملك (دانيال ١١: ٣٦- ٣٩؛ أشعياء ٣٠: ٣٣). إنسان من الأرض (مزمور ١٠: ١٨). رجل الدماء والغش (مز ٥: ٦).

٤- ملك الشمال (دانيال ١١). السَّوْطُ الْجَارِفُ (أشعياء ٢٨). آشور (أشعياء ١٠؛ ١٤، ٢٥؛ ٣١: ٨). مَلِكٌ جَافِي الْوَجْهِ (دانيال ٨: ٢٣- ٢٥).

٥- ملك الجنوب: أي ملك مصر (دانيال ١١).

٦- جوج، آخر قيصر في روسيا، ورئيس تحالف الشمال الكير ضد بني إسرائيل. في الأصحاحات ٣٨ و٣٩ من نبوءة حزقيال نقرأ: جوج، وحلفاءه وجيوشه، بخزي يسقطون على جبال إسرائيل. جيوش أغراها الجشع إلى السلب والنهب في إسرائيل، ثم مركز ومخزن ثروة العالم، ولكن جزءاً سادساً يبقى، وهؤلاء يرسَلون عبر كل أراضي الشرق ليعلنوا انتقام الرب من أعداء شعبه، وليُعلموا الناس بحضور الرب وسط شعبه، إسرائيل المخلَّص، الرب هو الذي يحمي إسرائيل السعيد.

الشخصيات السابقة، ما عدا الشيطان رئيسهم، هم من أماكن مختلفة. جوج وملك الشمال يعملان معاً في اضطهاد إسرائيل، والسابق هو الأكثر تمايزاً بينهما. الوحش والنبي الكذاب متحالفان، الأول يسيطر على السلطة المدنية والأخير على السلطة الروحية للشيطان. ملك الجنوب يلعب دوراً فريداً مقارنة بدور أخيه ملك الشمال. الأشخاص الخمسة الذين يُشار إليهم هم أناس فعليون، وليسوا أنظمة، رغم أنهم قد يترأسون أنظمة، وهم لا يمثّلون أشخاصاً متعاقبين بارزين. هؤلاء الرجال الخمسة المتمايزون لديهم أدوار متنوعة محددة لهم في الصراع الآتي بين الخير والشر، النور والظلمة. عوالمهم الخاصة، سواء كان في الغرب ضد المسيح (رؤيا ١٩)، أو في الجنوب الشرقي ضد اليهود (مز ٦٣؛ زكريا ١٤)، خاضعون لكل ما يدركه دارسوا الكتب النبوية. تحديد هؤلاء المرتدين المستقبليين، وتقسيم عملهم وأفعالهم كما هو مخطط لها في البرنامج النبوي، هو أمر ضروري لكل الراغبين في فهم النبوءات بشكل واضح.


١. - "تآريخ وكرونولوجيا الكتابات المقدسة"، ص. ٤٤.

٢. - من أجل تمحيص أكمل انظر الأصحاحات ٩ و ١٣.

تفسير الرؤيا والخطوط النبوية العريضة

الأصحاح ١

مدخل، الآيات ١- ٨؛ والرؤيا المجيدة للمسيح، الآيات ٩- ٢٠

طابع هذا السفر:

في هذا السفر النبوي الوحيد في العهد الجديد والممتع بشدة يُزاح الحجاب، وينكشف المستقبل من خلال سلسلة من الرؤى الشاملة المنوعة التي يراها كاتب سفر الرؤيا. النور والظلام، الخير والشر، هي قوى أخلاقية في حالة تعارض. الله، والمسيح، والشيطان؛ الناس، مخلَّصون وغير مخلَّصِين؛ الملائكة، قديسون وساقطون، هم الفاعلون في هذا السفر المدهش ذي المخطط والهدف الواضحين. تتبدل المشاهد وتتغير، بين الآن والأبدية. السموات، والأرض، والهاوية، وبحيرة النار هي من خلفية مسرح الأحداث. أغنية المنتصر ونحيب المهزوم تظهران كلاهما بين ذاك السعيد وذاك المحزون. وفي النتيجة، الله ينتصر، وأمجاد المسيح الألفية والأبدية تسطع بروعة لا تتبدد ولا تتلاشى. ثم يأتي قول النبي العبراني أن: "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ".

السماء والأرض الجديدتان (٢٢: ١) تصبحان المساكن الأبدية والخاصة لكل القديسين والأخيار، بينما بحيرة النار (٢١: ٨) سيجتمع فيها كل من كان آثماً ومعاكساً لله.

النعمة هي الكلمة المفتاح للتواصلات الرسالية السابقة. حكومة الله العامة في تعامله مع الشر وفي تعظيم الخير هي العبء المميز في هذا السفر العميق الممتع.

الاسم:

لم يضع كُتاب الأسفار المقدس أسماءً على أسفارهم، وجميع الأسماء في الأسفار في كتبنا المقدسة، ما عدا واحداً أو اثنين، ليس للوحي الإلهي تدخل في وضعها. الاسم الذي يُطلق على سفر الرؤيا خاطئ في الواقع ومُضلل، كما نجده في الكتب المقدسة المألوفة، وحتى في مختلف اللغات والترجمات. فعنوان السفر ليس "رؤيا يوحنا" ١، بل كما ورد في النص "إعلان يسوع المسيح" (أو بترجمة أخرى: "ما كشفه يسوع المسيح") كما في (رؤيا ١: ١). سواء كانت الصفة "الإلهي" قد أُضيفت بدافع التقوى السامية المفترضة عند الكاتب ولتميّزه عن يوحنا الرسول، هي مسألة ليست بكبير أهمية. لدينا الحرية الكاملة بأن نرفض الاسم ككل. تقليد الكنيسة الذي يقول أن يوحنا الرسول هو كاتبها يعود إلى العام ١٧٠ م أو قبل ذلك بقليل. إن يوحنا كاتب الإنجيل الرابع، والرسائل الثلاثة التي يتصدرها اسمه، هو بلا شك الكاتب الملهَم بهذا السفر؛ وهناك يوصف ويُذكر بالاسم بشكل واضح صريح.

المقدمة (الآيات ١- ٣):

يحوي مدخل سفر الرؤيا على مقدمة (الآيات ١-٣)، وتحية (الآيات ٤- ٦)، وشهادة نبوية (الآية ٧)، وإعلان إلهي (الآية ٨).

١- "إعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسيح". هنا يُرى يسوع المسيح كإنسان، وليس كإله كما في يوحنا ١: ١، ٢. إن طبيعتي ربنا الإلهية والبشرية، كلتاهما كاملتين، ومتمايزتين في المهمة والفعل، ولكن لا يجب الفصل بينهما. ليس هناك سوى مخلص واحد ووسيط واحد، الذي هو إله حق وإنسان حق، وعلى هذه الحقيقة الجوهرية يستند كل نظام المسيحية. الإيمان يُصدّق ويدرك الأمر بشكل أكيد رغم عدم الإدعاء بحل كل سر الأنبياء. إن كياننا نفسه المعقّد هو سر، فكم بالأحرى كينونة ربنا المعبود.

الإعلان يتبدى في الرؤى التي يراها الرائي في جزيرة بطمس. كلمة "إعلان" تعطي وحدة للتواصلات والمكاشفات العديدة والمتنوعة، سواء كانت بكلمة أو برؤيا، المحتواة في هذا السفر. ربما هناك عدة إعلانات، ولكنها تشكل كلاً متضاماً، وهذا يخص يسوع المسيح. ليس فقط أن إعلان يسوع المسيح قد أُعطي له من قِبل الله، بل أيضاً هو الموضوع الرئيسي في هذه الإعلانات كما في كل النبوءة. أشعة المصباح النبوي موجهة نحو مجد المسيح الألفي، أياً كان حامل هذا المصباح سواء كان أشعياء العظيم أو يوحنا الحبيب.

١- "الَّذي أَعْطَاهُ إيَّاهُ اللهُ". إن الملكوت يخص المسيح بفضل كينونته، ومع ذلك، فكإنسان يقتبله من الله (لوقا ١٩: ١٥)، وسيسلّمه من جديد إلى الله (١ كور ١٥: ٢٤). ولذلك فإن الإعلان، الذي يتعلق بشكل أساسي بالملكوت، يعطيه الله هنا للمسيح كإنسان.

١- "لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". التعبير "عبيد" يُستخدم بالمعنى الدقيق والحصري في كلا العهدين (القديم والجديد). لقد كان أنبياء العهد القديم دقيقين جداً في كلامهم (عاموس ٣: ٧؛ دانيال ٩: ٦؛ الملوك الثاني ١٧: ١٣)، كما أيضاً الرسل والآخرون ذوي المكانة المرموقة في الكنيسة (فيل ١: ١؛ كول ١: ٧، انظر الأصل اليوناني). من جهة أخرى، تُستخدم الكلمة في العهد الجديد لتشمل كل المؤمنين (رومية ٦: ١٩- ٢٢). على ما نعتقد، إنها تنطبق بشكل واسع وعام ويمكن فهمه من هنا (قارن مع الأصحاحات ٢: ٢٠؛ ٧: ٣؛ ٢٢: ٣).

الموضوع، إذاً، في الإعلان (سفر الرؤيا) هو لإظهار المستقبل القريب لخدام المسيح أو عبيده. إن علاقة الخادم تختلف عن علاقة الابن (مركز)، أو الابن (علاقة)، أو الصديق (حميمية)، وهي أنسب تعبير يُستخدم في هذا السفر الذي يخاطب كل مسيحي فرد وليس فقط إلى الطبقة الرسمية حصراً.

لذلك فإن تجاهل هذا السفر أو اعتباره دراسة لا فائدة منها، أو اعتبار الرؤى فيه على أنها أحلام يقظة، أو اعتبار رموزه متعذّرة التفسير، يعني أن يجلب المرء على نفسه الضلال، وأن يُخزي الله الذي أوحى بنفسه بهذا السفر، وسلب البركة الخاصة الموعودة من النفس (الآية ٣). هذا التحذير ينطبق على كل خادم ليسوع المسيح، أي كل مسيحي.

١- "عَنْ قَريبٍ". هذه العبارة تأسر انتباهنا. قرب تحقيق الأحداث التي يتم التنبؤ عنها هنا، كما عودة الرب القريبة، نقطة الذروة في النبوات، تُنقل إلينا بكلمات دقيقة في بداية السفر وفي نهايته (الأصحاحات ١: ١؛ ٢٢: ٧، ١٢، ٢٠)، ومن هنا تأتي الصعوبة لا يمكن تذليلها ألا وهي في محاولة تفسيرها على أساس تاريخي. يمكن تطبيق نبوءات بشكل عام على أحداث ماضية وحاضرة، لأن التاريخ يعيد نفسه على الدوام. الحقائق قد تكون جديدة، ولكن المبادئ السلوكية الضمنية، كالكبرياء، وحب المال، وحب السلطة، تبقى نفسها في جميع العصور، وينتج عنها على الدوام حصاد ينتشر عبر التاريخ. ولذلك فمع إمكانية التحقيق الجزئي لنبوءات محددة في السفر، أعني الأصحاحات ٦- ٢٢: ٥، فإننا مُضطَرون إلى الاستنتاج بأن أزمة مستقبلية قصيرة الأجل ستمر تحت الأختام، والأبواق، والجامات، بعد انتقال قديسي العهد القديم والجديد إلى السماء (١ تسا ٤: ١٧). إننا نبحث عن سلسلة متتابعة من الدينونات خلال الوقت الذي يكون فيه قديسوا الماضي والحاضر في ديارهم في السماء. وقبل أن تبدأ هذه (الأصحاح ٤)، وخلال استمرارها (الأصحاح ١٢)، وبعد أن تأخذ مجراها (الأصحاح ١٩)، يُرى شعب الله السماوي في منزلهم في الأعلى.

لذا فأقرب تطبيق إلى زمننا هو أساس تفسيرنا. إن كانت الكتابات النبوية ككل وبتفصيل يجب أن تُفسر بشكل رصين وكامل، فإن علينا أن نطرح الخطأ السائد الضار في أن يكون التاريخ هو مفسّرها. نعلم أن الموحي بكل الكتاب المقدس هو الروح القدس: "يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ" (يوحنا ١٦: ٣). إن التحقيق الكامل والدقيق للجزء النبوي الموجود في الرؤيا هو في المستقبل؛ ولا يمكن أن يُرى على أنه تحقق. لنأخذ مثلاً واحداً على الأقل، الوحش أو إمبراطورية روما. تظهر لنا النبوءة أن السلطة اللاتينية في الطور الأخير من تاريخها، قبل دمارها، وفي حالة لم تظهر عليها بعد. يتم تمثيلها كقوة عظيمة مُجدّفة ومُضطَهدة للمؤمنين موزّعة على عشرة ممالك تابعة لحكم ملوك تابعين خانعين خاضعين لرئيس أو رأس قوي، وجميعهم يحكمون في خضوع إرادي إلى سيدهم الأعلى والأسمى (الأصحاحات ١٣، ١٧)، وفي تحالف مع يهوذا المرتدة في فلسطين. لم تظهر روما بهذا الشكل الجديد لا أثناء الحكم الملكي ولا بعده- مما يجعلنا نعتقد أن تحقيق النبوءة سيكون في المستقبل؛ إضافة إلى ذلك، فإن روما دمرت الجماعة اليهودية بدلاً من أن تسعى لتصونها وتحفظها. ولم تكن يهوذا مرتدة عندما كانت روما في مرحلة السيطرة.

١- يجب أن نلاحظ أن الوسيط في التواصلات بين المسيح ويوحنا هو ملاك لا اسم له، وما من شك هو كائن روحي ذو شأن كبير من طبقة الملائكة السماويين- "مَلاَكَهُ". كم يختلف هذا عن طابع ونمط فكر الرب غير المكشوف خلال إقامته على الأرض. فعندها علم يوحنا إرادة الرب وهو متكئ على صدر المعلّم. والآن كل شيء بعيد وأسراري غامض نوعاً ما، ولكنه في توافق دقيق مع طابع هذه الاتصالات. الله هنا لا يُنظر إليه على أنه "أبانا"، بل يتم تأكيد علاقة المسيح مع أبيه لخمس مرات (١: ٦؛ ٢: ٢٧؛ ٣: ٥، ٢١؛ ١٤: ١). لدينا مثل واحد فقط مدون عن ربنا، عندما كان على الأرض، موجهاً خطابه نحو أبيه باستخدام التعبير "إلهي" (متى ٢٧: ٤٦)، ولكن في هذا السفر نسمعه يقول بآن معاً "أبي"، و"إلهي"، الأولى كابن، والأخيرة كإنسان. كشف أمجاد وألقاب معينة للملك لا يضعف أبداً الحقيقة المباركة المتعلقة بعلاقة المسيح الحميمة بالله كابن وكإنسان.

ترتيب نقل الإعلان، هو من الله إلى المسيح، ثم عن طريق ملاك المسيح، أياً كان، إلى يوحنا، ومن ثم إلينا، أي إلى كل خدام أو عبيد المسيح.

١- "لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا". التلميذ الحبيب يكتب دائماً بضمير الغائب في الأسفار الأربعة التي كتبها. وهنا يكتب بضمير المتكلم، ذاكراً اسمه ثلاث مرات في الجزء الافتتاحي (١: ١، ٤، ٩) ومرتين في الجزء الختامي من السفر (٢١: ٢؛ ٢٢: ٨).

٢- "كَلِمَةِ اللهِ وَمِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح". هذه تشكل حاصل جمع الرؤى التي رآها يوحنا الرائي. إن حذفنا الواو الثانية هنا تصبح الآية "بِكُلِّ مَا رَآهُ" وتشكل تصديقاً موجزاً على كلمة الله وشهادة يسوع المسيح. الطرف الثالث في النص هو في الحقيقة موجز لسابقيه. "كَلِمَةِ اللهِ" مقتصرة على التواصلات المحتواة في هذا السفر، بينما "شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح" هي ذات طابع نبوي (انظر ١٩: ١٠). "كلمة الله" في الأناجيل هي واحدة بالنعمة، بينما "شَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيح" تحمل في ذاتها إعلان اسم وشخص الآب. ولكن بما أن الرؤيا يتناول بشكل رئيسي حكم الله العام، فإن كلمتي "كلمة" و"شهادة" تشيران بشكل خاص إلى عرض السلطان الإلهي والحكم على الأرض. إننا نعتبر كلمة الله على أنها هي التي تأتي إلينا بشكل مباشر أو عن طريق وسيط، وشهادة يسوع المسيح يعلنها بنفسه، أو عن طريق ملاكه.

٣- في هذه الآية، التي تكمل البداية، نجد منح البركة، "طُوبَى"، تفيض على القارئ، وعلى السامعين، وعلى أولئك الذين يحفظون هذه الاتصالات التي أُوحي بها شفهياً. حقيقة أن البركة تتكرر عند الختام (٢٢: ٧)، والتلميح بالدينونة على من يتلاعب بكل سفر النبوءة هذا أو بجزء منه (١٨، ١٩)، تُضفي طابعاً مهيباً بشكل غير اعتيادي على هذا الجزء من الكتاب المقدس الذي تعرض للإهمال حتى الآن. ما من أحد يستطيع أن يقرأه أو يسمعه مقروءاً ولا يتبارك، وما من أحد يجرؤ على احتقاره دون أن يتعرض للعقاب. عن الله أمين دائماً لكلمته، سواء كانت في البركة الممنوحة أو بحكم الدينونة الصادر.

إن المباركة الإلهية، "طوبى"، ترد سبع مرات (١: ٣؛ ١٤: ١٣؛ ١٦: ١٥؛ ١٩: ٩؛ ٢٠: ٦؛ ٢٢: ٧، ١٤).

٣- "الَّذي يَقْرَأُ" تشير على الأرجح إلى القارئ العام للكتاب المقدس في الاجتماعات، وما من شك أن حث بولس لتيموثاس على القراءة، "اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ" (١ تيموثاوس ٤: ١٣)، يدل على نفس الممارسة الجيدة القديمة، والتي نخشى أن نهملها للأسف. كل قارئ لسفر الرؤيا سواء لوحده أم مع الآخرين، يجب أن يكون مطمئناً إذ أنه ينال بركة الرب. المجامع اليهودية، التي كانت تقر بها الشريعة اليهودية كلما اجتمع عشرة أشخاص ليشكلوا معاً جماعة، كان لها جزءاً متناغماً لخدمتها في القراءة العامة والجماعية لكلمة الله والحض والنصح (لوقا ٤: ١٦- ٢٠؛ أعمال ١٣: ١٤، ٢٧؛ ١٥: ٢١). "الذينَ يَسْمَعُونَ" تشير إلى الجماعة الحاضرة في هذه المناسبات ومناسبات أخرى عندما كانت النبوة تُقرأ. من أجل فهم قوة العبارة "يَحْفَظُونَ مَا هُوَ (تلك الأشياء)" ، انظر يوحنا ١٤: ٢١- ٢٤.

٣- "لأَنَّ الْوَقْتَ قَريبٌ". النبوة تبطل الزمن، وكل الظروف الطارئة بل وحتى المخالفة، وتضع الأمر موضع التنفيذ. أما فعالية الإرادة الإلهية فلا تحتاج إلى راحة ولا تعرفه، ولكن بالنسبة إلى عقولنا العادمة الصبر بشكل طبيعي، والتي تتعب وتنزعج من الشر، يبدو لنا أحياناً كما لو أن الله قد أطلق العنان في الحكم وتوقف عن التدخل في قضايا الناس. ولكن الحال ليس هكذا. فالزمان، والتدابير، والبشر وأعمالهم هي كلها في يديه وتحت تحكمه لوحده. إنه رفض قدير وضليع ومعلّم. "اقْتَرَبَتِ الأَيَّامُ"، و"كَلاَمُ كُلِّ رُؤْيَا". إن تأجيل الله المطوّل الذي دام حوالي ٢٠٠٠ سنة قد تبين أنه فرصة غنية للنعمة في العالم. في هذه الأثناء يكون الإيمان على ثقة بأن يد الله، وإن كانت غير منظورة، فإنها تعمل وفق مخطط للخير (رومية ٨: ٢٩) وهذه ستؤدي إلى المجد الأبدي الغاية الحقيقية للجميع.

التحية المقدسة (الآيات ٤- ٦):

رأينا مقدمة مختصرة ولكنها في غاية الأهمية. والآن لدينا تحية مقدسة. الأولى تعلّم والأخيرة تبهج.

٤- "يُوحَنَّا، إلَى السَّبْع الْكَنَائس الَّتي في أَسيَّا". ما يُطلق عليه اسم أَسيَّا هنا هو ليس تلك القارة القديمة والغامضة بالإجمال، ولا حتى أسيا الصغرى، ولكن ذلك الجزء من أسيا الصغرى على الضفة الغربية أو الشاطئ الغربي من البحر حيث كانت أفسس عاصمة مشهورة، بروقنصلية أسيا. في هذه البقعة الجغرافية المحدودة كان يجب امتحان هذه الكنيسة المعترفة، وتوصف ملامحها البارزة في التاريخ بأنها واضحة كالنهار، حيث تمثلها تلك الكنائس الأسيوية السبع التي اختيرت لأجل هذا الهدف بشكل خاص. وقد أُغفلت كنائس أخرى هامة في نفس المنطقة، بينما هذه السبع، وهذه وحدها فقط، يُذكر اسمها، وبالترتيب الذي سيتبعه المسافر إذا ما أراد أن يزورها بشكل طبيعي. إن الكنائس السبع المختارة تشكل رمزاً للكنيسة في عالميتها خلال فترات متعاقبة من تاريخها، كما أيضاً في أي لحظة إلى حين حصول رفضها الأخير كشاهد غير أمين للمسيح (٣: ١٦).

لماذا سبع كنائس؟ هذا العدد يتكرر حدوثه أكثر من أي عدد آخر. هناك سبعة أعياد للرب (لاويين ٢٣)؛ سبع أمثال للملكوت (متى ١٣)؛ سبعة كنائس؛ سبع أختام، وسبع أبواق، وسبع جامات نلاحظها في الرؤيا. في كل من الأمثلة السابقة هناك تقسيم واضح إلى ثلاثة وأربعة. ما هو مقدس يعبر عنه باستخدام العدد ٣، والعنصر البشري يدخل ضمن العدد ٤. وهي معاً تعبر عن الكمال. ومن هنا فإن الكنيسة المعترفة، باعتبارها حامل النور الإلهي على الأرض، تعتبر هنا كاملة على الدوام من لحظة انحطاطها (٢: ٤) حتى نكران المسيح لها الأخير والعام (٣: ١٦). في مكانتها والمسؤولية الملقاة عليها يتم تحذيرها بشكل جدي ومهيب. الدينونة التي تهدد بها؛ أي الرفض التام المطلق، تنطبق على الجسد المندمج فقط. المؤمنون مراراً وتكراراً يُطمأنون إلى سلامتهم وبركتهم. جماعة غالبة من المؤمنين الحقيقيين نميزها في كل من الكنائس الست الأولى. إن الرقم "سبعة" في سفر الرؤيا حافل بالمعاني.

يذكر يوحنا هنا اسمه بشكل صريح. ليس هناك تأكيد على رسوليته. وليس هناك نفخ أبواق تلفت الانتباه إلى تلك النبوءات العظيمة. بل هناك وقار هادئ يلائم التعريف بالأشخاص والكشف عن أولئك الذين أحنوا ركبة قلوبهم بعشرات الآلاف.

ثم لدينا الثالوث الإلهي كل في أقنومه الخاص، يتحدون في رسالة نعمة وسلام، وذلك قبل سماع صوت دمدمة العاصفة القادمة. ما من ختم يُكسر، وما من بوق يُنفخ فيه، وما من جام يُسكب حتى يتم ضمان المؤمنين بشكل إلهي بطريقة تضمن لهم القوة والبركة من الله. الله لنا في البركة، وفي حفظ مجده كل الأيام وفي كل الظروف، وهو حصننا المنيع.

إعصار الدينونة الإلهية لم يستطع أن يقلب سهول سدوم حتى انعتق لوط (تك ١٩). وما كان نطق الحكم بدمار أريحا في بحيرة النار ليحدث حتى خلصت راحاب (يشوع ٦). ولكن في هذه التحية الإلهية، وفي المكان الذي تحتله، لدينا أكثر من ضمانة بالحفظ من الدينونة الإلهية. لا تأتي التحية بين الدينونة المهدد بها وتنفيذها، بل حتى قبل إعلانها، والطابع الحقيقة للأشياء في الكنيسة، والعالم وإسرائيل تظهر إلى العيان، وقديسوا الله يُطمأنون إلى الاهتمام العميق الذي يوليه الله بهم.

٤- البركة العامة والمطلوبة للمفتدين هي ذات "نعْمَة وَسَلاَم". ما من شيء أو شخص يمكن أن يسلبهم إياه، لأن الله نفسه يعطيها ويحفظها. النعمة هي مصدر كل بركة وسلام وبر وسعادة أمام الله. في التحيات الرسولية تسبق النعمة دائماً السلام؛ بينما في الرسائل الفردية كتلك التي لتيموثاوس، وتيطس، الخ، فإن "الرحمة" تضاف عموماً، إذ أن هذه تأخذ بالحسبان حاجة وظروف الشخص.

إن التحية، وإضافة إلى أنها ملائمة لتولّد وتقوي الثقة بالله إزاء الدينونة الوشيكة، هي أيضاً مهيمنة في طابعها. إنها ليست علاقة آب وأولاد، ولا علاقة إله بأبناء، بل علاقة الرب بقديسين؛ ولذلك، ففي تسمية أقانيم الثالوث، يختلف الترتيب عن ذاك الذي نجده في متى ٢٨: ١٩- فهناك آب، وابن، وروح قدس؛ أما هنا فلدينا الرب، والروح، ويسوع المسيح. وإن بولس مرة واحدة فقط في ختام إحدى رسائله (٢ كور ١٣: ١٤) يحيي القديسين باسم الأقانيم الثلاثة؛ وهنا يفعل يوحنا ذلك في بداية سفره.

٤- اسم الرب يهوه المخيف والمقدس يشير إلى ذاك الكائن بحد ذاته وذا الوجود الغير منبثق. بالنسبة إلى إسرائيل كان الاسم قد فُسّر على أنه يعني "اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ" (خروج ٣: ١٤)؛ وبالنسبة إلى الأمميين على أنه "الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي ٢" (رؤيا ١: ٤؛ ٤: ٨). إنه اسم لفظ الجلالة الذي لا يُنطق به، والذي كان بنو إسرائيل معتادين عليه تماماً منذ بدء تاريخهم (خروج ٦: ٣). إنه اسم الله الذي لا يُنسى المحفور في ذاكرتهم، حتى لأجيال لم تُولد بعد. "الْكَائِنِ" تدل على كيان مستقل غير متبدل. "الَّذِي كَانَ" تشير إلى علاقة الرب مع الماضي. "لَّذِي يَأْتِي" تظهر ارتباطه بالمستقبل. إن علاقة الله في الكون في اتساعها وعظمتها، كما أيضاً في دقائقها الصغيرة، هي حقيقة منعشة عظيمة.

في ٤: ٨ ينقلب ترتيب الجمل: "الَّذِي كَانَ" تأتي قبل "الَّذِي يَأْتِي". وفي الأصحاح ٤ تأمل في حكم كل الأرض، وليس فقط إسرائيل، ومن هنا فإن الكائنات الحية تقول أولاً: "الَّذِي كَانَ". إنها مسألة وقت؛ بينما في الأصحاح ١ نجد أن أبدية كينونة الرب تقدّم أولاً بالكلمات "الْكَائِنِ". ولذلك أيضاً، يُشار إليها ضمناً في تبدل الجملة "الَّذِي كَانَ" بالمعنى أن أعمال الرب الماضية ذات القدرة هي ضمان وتأكيد على أن الوجود الأبدي الأزلي لله وقدرته الكلية ليست صفات ساكنة في الكيان الإلهي، بل تُستخدم في كل الأجيال وتحت كل الظروف.

٤- ثم يأتي ذكر اسم "الروح القدس"، ولكن لا يُنظر إليه هنا في وحدة كينونته كـ "رُوحٌ وَاحِدٌ" (أفسس ٤: ٤). إن وفرة وكمال قدرته وتنوع فعاليته يتم التعبير عنها في العبارة "السَّبْعَة الأَرْوَاح"، للدلالة على كمال فعاليته الروحية (قارن مع أشعياء ١١: ٢؛ رؤيا ٣: ١؛ ٤: ٥؛ ٥: ٦). يقول: "أَمَامَ عَرْشه"، لأن الفكرة الأساسية في الرؤيا هي الحكم العام للأرض. في تاريخ المسيحية لأول ثلاثين سنة الحقبة الرسولية، يُشاهد الروح وهو يعمل بقوة ونشاط ونعمة مع الأفراد، كما يروي لنا سفر أعمال الرسل بشكل كامل؛ بينما في الرسائل، حضور الروح القدس وعمله في الكنيسة هو الحقيقة الأساسية التي يتم الكشف عنها. ولكن هنا، كما نوّهنا للتو، الروح القدس يعمل بسطوة وهيمنة من السماء على الأرض.

طابع النفوذ للسفر يعود إلى ذكر الروح القدس قبل المسيح. لو كانت مسألة نعمة، بسيطة وصافية، لكان وجب ذكرُ المسيح قبل الروح، بعد الآب الذي أُرسِل من قِبَله (١ يوحنا ٤: ١٤) وقبل الروح القدس لأنه أُرسِل من قِبل الابن (يوحنا ١٥: ٢٦).

٥- "يَسُوعَ الْمَسيح" يأتي ذكره ثانياً، متحداً مع الرب والروح في تحية موجهة إلى القديسين. في دمج الاسم واللقب يتم الإعلان عن وحدة ناسوت ومجد المسيح (أعمال ٢: ٣٦). "يسوع" مؤلفة من مقطعين لفظيين، يعني "الله يخلّص" (متى ١: ٢١). لقد كان اسماً قد أُعطي له قبل مولده، وهو يصف تماماً شخصه وعمله. إنه اسم يفوق كل اسم، اسم أعلى وأرقى من كل الأسماء، ذاك هو اسم يسوع (فيل ٢: ٩- ١١). يتكرر هذا الاسم حوالي ٦٠٠ مرة في العهد الجديد، ولا تُحدده صفة ٣. ولم يحدث أبداً أن خاطب أحدٌ الربَّ مباشرةً باسم يسوع سوى الشياطين. يرد الاسم "يسوع" في الرؤيا تسعة مرات، ويرد مُرفقاً بالمسيح ثلاث مرات. إن كلمتي "المسيح" (في اليونانية) و"المسيَّا" (في العبرية) كلاهما يعنيان الممسوح كما يرد في المزمور ٢ وغيره.

وهكذا لدينا الله بعظمة كينونته، والروح بكامل قدرته، ويسوع المسيح ببشريته المقدسة وقد تمجد الآن، يتحدون في مباركة القديسين الذين هم على وشك أن تُكشف لهم المشورات النبوية لله المتعلقة بالأرض.

بعد ذلك يتم ذكر صفات محددة مميزة لا تنفصل عن اسم يسوع؛ أمجاد اكتسبها كإنسان، وله الحق فيها. هناك ثلاثة ألقاب تُطلق عليه: الأول يشير إلى علاقة محددة مع الله؛ والثاني يشير إلى ارتباط خاص مع كل الأموات، المخلصين والضالين؛ بينما اللقب الثالث يلفت انتباهنا إلى سيادته على سلطات الأرض الحاكمة.

١- "الشَّاهد الأَمين". إن حياة ربنا كلها من المذود إلى الصليب موجودة ضمنياً في هذا اللقب الشامل. إن صفة "الأمين" هي في تغاير واضح مع كل الشهود السابقين لله. طريق الشهادة البشرية مغطى بالركام والدمار. المسيح وحده اجتاز عبر الأرض في طريقه القفر المنعزل المتعب في تكرس ثابت لله، دون انقطاع أو ضعف بل بكل تكرس مقدس لله. "لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ ٤ لِلْحَقِّ" (يوحنا ١٨: ٣٧).

٢- "الْبكْر منَ الأَمْوَات". المسيح هو بآن معاً "باكورة" و"بكر" الأموات. الأول يدل صراحة على أنه الأول في الزمن في ذلك الحصاد القادم لأولئك الذين يرقدون (١ كور ١٥: ٢٠- ٢٣). واللقب الثاني يدل على أنه الأول في المكانة بين جميع أولئك الذين سينهضون من بين الأموات. "البكر" هو تعبير عن السيادة والسمو، والجلال الفائق، وليس من حيث الزمن أو التسلسل التاريخي الكرونولوجي (مز ٨٩: ٢٧). وأياً كان الزمان أو المكان أو الطريقة التي دخل فيها المسيح إلى العالم، فهو بالضرورة يأخذ المكان الأول بفضل ماهيته. لعله يمكننا أن نعلق هنا بالقول أن التغير الذي ستخضع له أجساد المؤمنين الأحياء لدى مجيء المسيح يرادف إقامة الأموات الراقدين. فكلاهما سيكونان مثل المسيح معنوياً (١ يوحنا ٣: ٢)، وجسدياً (فيلبي ٣: ٢١).

٣- "رَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ". الملك المتكبر في الغرب، الإمبراطور المتعجرف في الشرق، كل منهما له سيد. المسيح "أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ". ممالك العالم هي له من حقه ويجب على الجميع أن ينحنوا أمامه. هو "رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ". إنه رب كل من يمارس سلطة، وملك على كل من يحكمون. لم يفرض سلطانه بعد. حقوقه السيادية المطلقة لا تزال في حالة توقف مطلق عن الفعل. ولكنها ستظهر بقوة عندما يأتي زمن الآب، والحكم الكوني العام يصير في يده. كل صولجان ملكي يرتجف أمامه، وهو يحطم عروش السلطات المناوئة له. ثم يُوضع كبرياء الإنسان، وتتلاشى أُبهته وعظمته في التراب.

لذلك لدينا، في هذه الألقاب، برج من القوة يصل إلى المسيحيين والكنيسة. يمكننا أن نرى ذاك الذي في السماء الآن، الذي وطأ طريق الإيمان والطاعة دونما توانٍ أو تلكؤ (عب ١٢: ١، ٢)؛ ذاك الذي صرع الموت، والذي كانت له القدرة عليه؛ ذاك الذي غلب وهو الآن في نصره العظيم؛ ذاك أيضاً هو رب وسيد على كل ملوك الأرض الحاكمة. ولكن الآن تنتقل التحية على نحو مفاجئ إلى تسبيحة شكر أو ذكصولوجيا.

٦- منح البركة السابقة، المدمجة مع علاقة الروح بالمسيح كإنسان، تثير في الحال قلب المفتدين. تتحرك المشاعر، وتلاوة ألقاب المسيح يُقابلها نشيد الابتهاج: "الَّذي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا منْ خَطَايَانَا بدَمه". لقد امتلك قلوبنا بمحبته التي لا تتبدل، ونقّى ضمائرنا بدمه الثمين. في هذا السفر، الذي يكشف تفتّت سلطة الشر المقسّاة إلى ذرات التي هي في مناصب عالية، كم ينعشنا أن نعرف، قبل إعلان الدينونات الآتية، أو رؤية وسماع الانتقام الإلهي الذي أُنذر به (٤: ٥؛ ٨: ٥)، أن كل الجماعة المفدية على الأرض يمكن أن تنشد بانتصار نشيد محبة المسيح الحاضرة واللا متبدلة وأنشودة دمه الثمين الذي حرّرها إلى الأبد من خطاياها.

ولكن أفكار الأنشودة ليست مستهلكة. إن كرامتنا العالية سنحتفل بها تالياً، وتُنسب إليه هو الذي نثق بمحبته ودمه ونجد فيهما راحتنا. "جَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ". قد نستدل من التعبير "جَعَلَنَا مُلُوكاً"، أن علينا أن نكون خاضعين كأتباع، ولكن ليست الفكرة هكذا. السلطان يُعطى للقديسين السماويين، وعلى درجة أقل لقديسي الألفية من اليهود على الأرض. الطابع الذي سنحكم فيه فيما بعد هو كـ "كهنة". والمقصود بذلك هو اتحاد الوقار الملوكي بالنعمة الكهنوتية. توضح الآية في زكريا ٦: ١٣ هذا المركز أو المهمة بشكل دقيق: "يَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ". ولكننا سنحكم مع المسيح؛ ولذلك فطابع حكمه جزئياً يحدد طبيعة دورنا في الحكم. وسنضمن حكماً باراً وسمحاً يمتد لألف سنة في العالم في الدهر الآتي. دعونا لا ننسى مكانتنا السامية العالية، ولا نغوص إلى الأسفل في الممارسة. إن التذكار الدائم لهذا سيُضفي وقاراً على شخصنا ويحفظنا من روح حب المال الذي في هذا الدهر (١ كور ٦: ٢، ٣).

٦- "لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَد الآبدينَ. آمينَ". إن شكل النسبة هو نفسه تقريباً كما في ١ بطرس ٥: ١، ما خلا أن الرسول اليهودي يؤكد أن المجد والسيادة هما للمسيح؛ بينما يصرّح يوحنا عن الرغبة لدى المفتدي في أن يكون له وباستحقاق ذلك المجد المرئي والسيادة الواسعة التي أنبأ عنها النبي، والتي رآها الرائي، والتي أنشدها الشعراء؛ وليس هذا فقط خلال الحقبة الألفية، بل على مر كل العصور أو فترات زمنية محددة تمتد إلى الأبدية. إن كلمة "آمين" الواردة مرتين في المقطعين كصلاة ليست من أصل النص بل هي إضافة توكيد جليل للحقيقة المعلنة.

في مسار الإعلانات المتعاقبة الواردة في هذا السفر، ومع ازدياد عمق طابعها، تزداد الذوكصولوجيا كمالاً. وهي هنا مضاعفة الجوانب؛ بينما مثلثة الجوانب في ٤: ١١؛ ومربعة الجوانب في ٥: ١٣؛ وذات سبعة جوانب في ٧: ١٢.

شهادتنا النبوية (الآية ٧):

٧- "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ". المجيء الثاني لربنا هو أمر جوهري في الشهادة والمسيحية، ولا حاجة للتأكيد على ذلك أكثر من الآن، خاصة على وضوء ملاحظتنا أن الكنيسة والعالم كليهما على وشك أن يدخلا إلى آخر أطوارهما من الإثم المتراكم قبل أن تتم معالجتهما بإدانة شديدة قاسية. ولكن من الضروري والأساسي أن نميز بين المرحلتين المتمايزتين التي سيكون عليهما المجيء. هناك مجموعة من المقاطع، مقتصرة على العهد الجديد، تشير بشكل مباشر لمجيء الرب لأجل قديسيه، كما في يوحنا ١٤: ٣؛ فيلبي ٣: ٢٠؛ ١ تسالونيكي ٤: ١٥- ١٧؛ و١ كورنثوس ١٥: ٢٣. ولكن هناك مجموعة أخرى من النصوص، مشتركة في كلا العهدين، تعلّم بوضوح عن مجيء المسيح مع قديسيه، مثل يهوذا ١٤؛ زكريا ١٤: ٥؛ كولوسي ٣: ٤؛ ورؤيا ١٩: ١١- ١٤. بينما هذان الجانبان من نفس مجيء ربنا يتم التأكيد عليهما بشكل مضطرد للفت انتباه المسيحيين بشكل جدي عليهما، وخاصة مع التأكيد على الإيمان عند مختاري الله، مع ذلك فإن الجزء الثاني أو المرحلة الثانية من المجيء هي التي يُشار إليها هنا. المرحلة الأولى، أي ارتفاع جميع القديسين عند نزول الرب إلى الهواء (١ تسالونيكي ٤: ١٧) ستسبق بالضرورة المرحلة الأخيرة، أي مجيء الرب مع قديسيه (يهوذا ١٤) وملائكته (متى ٢٥: ٣١).

الشهادة الرؤيوية أن "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ" تتلاءم مع تلك الواردة على لسان النبي العبري القائل: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ" (دانيال ٧: ١٣)؛ وأيضاً مع القول النبوي على لسان ربنا في بستان الزيتون أن: "وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ" (متى ٢٤: ٣٠). إن كل ذلك يشير إلى نفس الزمن ونفس الحدث. ظهور ابن الإنسان سيكون في جلال لم يسبق له مثيل ول تره عين من قبل لدرجة أنه سيبعث الرعب في قلب كل من سيكون على الأرض ما عدا شعبه.

أنبياء العهد القديم، وكل بطريقته، وبحسب مواصفاته الشخصية، ولكنهم جميعاً تحت الإرشاد المباشر للروح القدس، قد ركّزوا على هذين الأمرين النبويين العظيمين: الدينونة والمجد.

قبل فجر بركة الأمميين مباشرة، ستغلّفهم ظلمة أخلاقية هائلة لا تقل عنها عند اليهود (أشعياء ٦٠: ٢)؛ وبدلاً من ترحيب مخلص لذاك الآتي، سنجد الأمم مجتمعة في تمرد واسع ومسلّح، إما في الغرب ضد الحمل (رؤيا ١٩: ١٩)، أو في الشرق ضد أورشليم (زكريا ١٤: ٢). ولذا فيجب تطهير الأرض من الشر والأشرار قبل أن يخطو الرب خطواته المقدسة لكي تنبض الأرض بفرح يتجاوز ما اختبروه في اللحظة المقتضبة التي عاشوها بلا خطيئة في تكوين ٢. إنه جانب الدينونة في مجيء الرب الذي يشير إليه رائي بطمس في الآية ٧.

لم يقل المسيح في أي مكان أنه سيجيء على الغيوم ليجمع خاصته. بل على العكس، هم يصعدون في السحب (١ تسا ٤: ١٧). تلك هي العربات الملكية المؤمنة لنقلنا من الأرض إلى لقاء الرب. سحابة العهد كانت الرمز المعروف لحضور الرب يهوه مع شعبه (خروج ١٣: ٢١؛ ٤٠: ٣٤- ٣٨؛ لوقا ٩: ٣٥). ولكن لاحظوا، لا يُقال فقط أن المسيح سيأتي في السحاب (مرقس ١٣: ٢٦)، بل معهم (رؤيا ١: ٧)، وعليهم (متى ٢٤: ٣٠). السحب التي تصاحب قدمه هي رموز جلالته (مز ١٨: ٩- ١٢). إنه يجلس عليها كما على عرشه (متى ٢٤: ٣٠). ونحن نُختطف إلى الغيوم (١ تسا ٤: ١٧). لقد صعد في سحابة (أعمال ١: ٩). وسيأتي في سحابة (لوقا ٢: ٢٧). هذه الفروقات الدقيقة في غاية الأهمية.

وإذاً، نحن هنا نوجَّه إلى نقطة نهاية كل النبوءة- منح البركة لليهود، وللكنيسة، وللعالم. أول وآخر شهادة في السفر هي حول مجيء الرب (١: ٧؛ ٢٢: ٢٠)، ويمكننا أن نلاحظ أيضاً أن الكلمة "سريعاً" التي تنطبق على المجيء نجدها وحدها في هذه النبوءة العظيمة.

إن مجيء الرب لتحطيم قوة الشر المتجلية على الأرض، وليبعثر القوى المتحالفة المنتظمة تحت قيادة الشيطان، وليحطّم إلى ذرات كل قوة معادية، سيكون حدثاً ذا طابع عام شامل وساحق ومن هنا جاءت العبارة: "سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ". يا له من منظر سيكون في السموات! الرب النازل مع تيجان كثيرة على رأسه، مرتدياً علامات الملكية، والقديسين والملائكة ينفخون في بوقه، السحب حوله وتحته، سيظهر عندئذ بطريقة تتلاءم مع جلاله وعظمته.

٧- ولكن بينما يجب قبول العبارة التي تقول: "سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ"، حرفياً- إلا أن هناك حاجة إلى الانتباه إلى أنه ستظهر جماعة وسط الجنس البشري آنذاك ستكون في تمرد مفتوح ضد الله ومسيحه (مزمور ٢)، وهم أولئك "الَّذِينَ طَعَنُوهُ". إن الحربة الأممية التي طعنت جنب المخلّص هي واقع دوّنه وحده "التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" (يوحنا ١٩: ٣٣- ٣٧). إن ممثل روما في عظمتها الإمبراطورية وهو الضعيف والمتمرد، لطّخ سمعتها المتبجحة بعدل يتعذر تغييره بأن أمر بأن يُجلد بالسياط سجينه المهيب الجليل الذي أعلن براءته لثلاث مرات وأن يُصلَب. ولكن اليهود تصرفوا بشكل أسوأ من ذلك بكثير عندما طالبوا بصوت عالٍ بموته، موت مسيّا الذي كانوا ينتظرونه، وتحريض الحاكم التعيس بأن يعلن الحكم النهائي الأخير بموته. أولادهم، الذين ورثوا إثمهم، والذين يرفضون دم المسيح المهراق كجواب من الله على خطيئتهم، سيرون ذاك الذي طعنوه، بينما يرينا زكريا ١٢: ١٠ كيف أن النعمة ستستخدمه. الجماعة المحددة المُشار إليها بأنهم "الَّذِينَ طَعَنُوهُ" هم اليهود.

٧- "يَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". إن نعمته كانت تتبدى بشكل واضح جلي وعلى نحو رائع في الأرض ووسط الشعب. فالنواح كان مقتصراً على سبطين في الأرض فقط، يهوذا وبنيامين؛ وليس على الأسباط العشر على تخوم فلسطين قبل دخولها (حزقيال ٢٠)، وهذا النواح سيصيب الأمميين أيضاً. "جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". إن هذه العبارة تدل على أن الأمميين معنيين أيضاً بالأمر. ونعلم من متى ٢٤: ٣٠ أن مجيء ابن الإنسان سيرافقه نواح وألم.

٧- التأكيد المضاعف: "نَعَمْ آمِينَ". هو ختم الروح على هذه الشهادة النبوية الصارمة. إن "نعم" يونانية، و"آمين" عبرية. وبالتالي فكلمة الرب ستكون هي نفسها للأمميين واليهود على حد سواء.

إعلان إلهي (الآية ٨):

٨- "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". إن إعلان هذه الألقاب الإلهية يشكل خاتمة ملائمة للمدخل. وقار المتكلم وطبيعة ما يقول تتطلب انتباهاً شديداً. نحن لا نسمع هنا صوت المسيح الإنسان، بل الله نفسه هو المتكلم. إنه يعلن ألقابه وأمجاده. "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ"- أي أول حرف وآخر حرف في اللغة- وهذا يعلن صراحة علاقته مع الخليقة. إن الله هو المصدر، وهو البداية لكل الحق المعلن، وكل الوعود المعطاة، وكل الشهادات الملقاة على عاتق الناس. بهذا المعنى إنه الـ "ألِف". ولكنه النهاية أيضاً. ومجده هو الهدف. وكل شيء يجد جواباً فيه. مسيرنا، واختبارنا يقبع بين هاتين النقطتين. الله الألف والله الياء. نحوه كما النهاية كل شيء يتحرك. الخيوط على أيدينا مقطوعة؛ وفي يديه لا تنقطع أبداً. وسط ظروف الإخفاق والفشل، ووسط حطام الكنيسة وفشل شهادتها عبر العصور، يبقى صوت الله يعلو فوق كل ضجة ونزاع. بدء كل شهادة هي في الله، والنهاية أيضاً تتمركز فيه. هو بدأ بالألف وهو ينهي الياء.

بعد ذلك يعرفنا يوحنا على العظمة الإلهية للمتكلم، والذي ما هو إلا الله الرب إله العهد القديم (تكوين ٢، الخ).

من هو الله الرب؟ يهوه إيلوهيم، إله البشر وإسرائيل، الذي سُرّ أن يقيم علاقة أخلاقية مع كليهما، يتكلم مرة أخرى من السماء. يا للهدوء الذي يأتي إلى النفس وسط عجلة الحياة! ها هو صوت الله السرمدي، وفي الحال يتوقف الهمس في الداخل والضجة في الخارج. في الكلمات التفسيرية التوضيحية التي تلي ذلك، "الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي"، نجد طبيعة كينونته الجوهرية والباقية إلى الأبد كما قال الرب. إن هذه العبارات تُفسر معنى الاسم يهوه. والشخص الثالث في النص، "الَّذِي يَأْتِي"، سيبدو وكأنه يقوم بمجيء فعلي في الظاهر، ولكن ليس الحال هكذا. إن قوة الكل هي في تقديم كائن أبدي يكون، وليس مجرد وجود أبدي، بل علاقة إيجابية مع الماضي والمستقبل.

كم هي ملائمة هذه الخاتمة التي تأتي بعد لقب الله على أنه "القادر"، لقب كان بمثابة صخرة من القوة لشعبه المبتلي بالأوجاع والأحزان في كل العصور. "القادر" ليس فقط شهادة على القدرة الكلية، بل تشير إلى الله القدير الذي لديه "موارد المساندة والمؤازرة"، وسنجد في سير هذا السفر أن ظروف شعب الله تجعل الكثيرين يتعلقون بهذا الاسم القوي؛ ومن هنا نفهم كثرة وروده في الرؤيا، بينما نجده مرة واحدة فقط في العهد الجديد (٢ كور ٦: ١٨)، ثم كاقتباس مأخوذ عن أشعياء. إن اسم "القدير" يُستخدم بشكل منفرد، أو مع بقية السماء، ويرد حوالي ٦٠ مرة، نصفها في سفر أيوب. الله "القدير" هو لقب مليء بالقوة والتعزية. إنه قدير في مؤازرته لشعبه، وفي نفس الوقت وعلى نفس الدرجة قدير في إدانة أعداءه.

الرؤيا المجيدة للمسيح (الآيات ٩- ٢٠):

٩- "أَنَا يُوحَنَّا أَخُوكُمْ وَشَريكُكُمْ في الضّيقَة وَفي مَلَكُوت يَسُوعَ الْمَسيح وَصَبْره". دانيال، وأكثر من كل الأنبياء العبرانيين، يتناول مواضيع نراها في معظمها ضمن الرؤى التي يراها يوحنا. هناك عدة نقاط تشابه بين الاثنين. ولذلك فإن النبي والرائي كلاهما يكشف طبع الحامل الأخير للقوة المدنية الإمبراطورية لروما؛ كلاهما يكشف الطور الأخير للإمبراطورية المستعادة، وأيضاً مصيرها النهائي الفظيع (قارن الأصحاح ٧ من دانيال مع الأصحاح ١٧ من الرؤيا).

"أنا يوحنا" تذكّرنا بـ "أنا دانيال" (٧: ١٥، الخ). لم يأخذ يوحنا عن دانيال أسلوب الإعلان، بل كان أسلوبه مستقلاً يعبّر فيه عن إدراكه الهادئ والواعي لوقار ورهبة طابع الرؤى التي يوشك على إعلانها.

بعد ذلك يعلن يوحنا عن شركة عامة في الحياة والألم مع شعب الله المتوجع بشدة. لعل فترتي الاستشهاد تحت حكم نيرون ودوميتيانوس كانتا الأشد قسوة بين الاضطهادات الوثنية للمسيحية، والتي دامت، مع فترات هدوء تتخللها، حوالي ٢٥٠ سنة. بحسب البعض، عانى يوحنا من الاضطهاد على عهد نيرون؛ والبعض يعتبر أنه اضطُهد خلال فترة حكم دوميتيانوس. لا يهم أي تقليد هو الأصح ٥. ولكن الجدير بالملاحظة هو أن يوحنا لا يتكلم هنا كـرسول ولا كشيخ، بل كـ "أَخ للقديسين و شَريك لهم في الضّيقَة وَفي مَلَكُوت يَسُوعَ الْمَسيح وَصَبْره".

إن "الضّيقَة" تشير إلى ضيقة معينة من المحنة، وليس فقط إلى الصعوبات العادية في الحياة المسيحية. وهناك ثلاث فترات من المعاناة الحاسمة الشديدة: (١) تحت حكم روما الوثنية؛ (٢) تحت الحكم البابوي خلال فترة العصور الوسطة المظلمة؛ (٣) خلال فترة الاضطهاد المفصلية للقوى المدنية المستقبلي والسلطات الكنسية (رؤيا ٦ و ١٣).

ويأتي الحديث بعد ذلك عن "الصَبْر" الذي يتشارك فيه يوحنا عموماً مع أولئك الذين يكتب إليهم. هناك أربعة جوانب متمايزة يتم فيها تصوير الملكوت في الكتاب المقدس: (١) من ناحية المسئولية كما صور لليهود، وقد رُفِضَ الملك (متى ١- ١٢)؛ (٢) في السر وسط الأمميين كما نرى في متى ١٣؛ (٣) في الضيقة كما نجد بالتفصيل في القسم المركزي من الرؤيا؛ (٤) في السلطة والقوة عند مجيء الرب في المجد (متى ٢٥: ٣١)، وهذا أعظم وأكبر موضوع تناوله الأنبياء في القديم.

"الصبر" أو التحمل، الذي يأتي تالياً، لأن الشر لا يزال يسود غير ممتحن في العالم وفي الكنيسة. الطلبة أن "ليأتِ ملكوتُك"، التي تصعد يومياً من قلب وشفاه الآلاف، لا تزال غير مستجابة بعد. الضيقة هي الطريق المحدد المقرر إلى الملكوت. حياة البعض تتميز بالألم والمعاناة التي لا تنقطع، وبالنسبة لآخرين، هي حياة حافلة بالخدمة الفعالة.، بينما بالنسبة للأغلبية هي حياة روتينية مملة متعبة مليئة بالأعباء والواجبات اليومية. ومن هنا الحاجة إلى الصبر عند جميع من يستمرون في صنع مشيئة الله. كآبة وعزلة بطمس كانت تستدعي الكثير من "الصبر"، هذه الميزة التي يجب أن يتمتع بها كل خادم حقيقي لله (٢ كور ٦: ٤). الضغط يستمر على المؤمنين القديسين إلى أن ينبلج الصباح، عندما سيظهر الله الله صراحة وعلانية لينصر أولئك الذين يتمسكون بالإيمان باسمه المبارك في ظروف ضعفهم هذه.

إلا أننا لا نتشارك فقط مع هذا الرسول المبجل والطاعن في السن في هذه الأمور الثلاثة، أعني "الضيقة" و"الملكوت" و"الصبر" ٦، بل إن الرب نفسه يشارك فيها، وهو يظهر فيها متميزاً بشكل واضح. هذه الأشياء هي "في يسوع". إن ذكر هذا الاسم الذي هو أعذب اسم على الإطلاق تسمعه آذان المؤمنين وقلوبهم طافح بالعزاء والسلوان للقديسين المتألمين.

الجزيرة المسماة بطمس:

٩- "كُنْتُ في الْجَزيرَة الَّتي تُدْعَى بَطْمُسَ منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل شَهَادَة يَسُوعَ الْمَسيح". المكان الذي نُفي يوحنا إليه كان مجهولاً تقريباً حتى بالاسم. وهكذا نعرف أنه كان "جَزيرَة"، وأنها تُدعى "بَطْمُسَ".وهذه الجزيرة موحشة وكئيبة في بحر إيجة، وتقع على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى، وتبلغ حوالي ١٥ ميلاً في محيطها. كانت تُعرف في العصور الوسطى باسم "بالموسو" وتُعرف الآن باسم "باتينو". يبلغ عدد سكانها حالياً حوالي ٤٠٠٠ نسمة، وهم من المسيحيين اليونانيين. في هذه الجزيرة يوجد مكتبة قيّمة جداً لا نستطيع استخدامها يشرف عليها رهبان جاهلون كسالى. يقول تيشندورف، هذا العالم الكتابي الذي لا يكل ولا يمل: "يحيط الصمت تلك الجزيرة الصغيرة أمامي عند الشفق في الصباح. هنا وهناك تكسر شجرة زيتون رتابة اليباب الصخري. والبحر كان لا يزال ساكناً سكون القبر. رقدت بطمس فيه كالقديس الميت. يوحنا- تلك هي فكرة الجزيرة. الجزيرة تنتمي إليه؛ إنها مقدسه. الصخور تتحدث عنه، وهو يعيش في كل قلب". يا للموقع الجغرافي الرائع! لقد كان يوحنا في بطمس، في مركز حالة النبوءة. أورشليم تقع في الجنوب، وروما خلف الرائي في الغرب، وبابل إلى الشرق، وأرض ماجوج (روسيا) إلى الشمال، بينما على الشاطئ أمامه تقبع الكنائس الأسيوية السبعة، وهو على وشك أن يروي تاريخها.

سمو حالته الروحية والأخلاقية رغم ظروفه يتبدى من خلال قوله ببساطة: "كُنْتُ في الْجَزيرَة الَّتي تُدْعَى بَطْمُسَ". لا تأتي على لسانه أي كلمة توبيخ أو تذمر أو شكوى. القبض عليه، ومحاكمته، والإجراءات التي ترد ذلك أمام الإمبراطور دومتيانوس مرّت في صمت مطبق.

إن التقليد، ورغم عدم موثوقيته، أورد لنا قصصاً ممتعة عن شخصية يوحنا الأسطورية ومدى تمسكه بالحق مثله في ذلك مثل الرسل الأخرين المميزين كبطرس وبولس ٧.

لقد استخدم الله غيظ الإمبراطور المتكبر لمدح اسمه. لقد كانت الظروف هي أنسب ما يمكن لإدخال يوحنا إلى رؤى الله تلك، وإحداها صورت انهيار عظمة روما الإمبراطورية، وانتعاشها المستقبلي، وقدرها المشؤوم (١٧: ٨؛ ١٩: ٢٠)، بينما كانت في ذروة مجدها كسيدة على العالم لا قدرة لأحد أن يتحداها.

إن السلطة التي أعطت الموافقة القانونية على صلب ربنا هي نفسها قد وصمت "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" بصفة المجرم. والسبب الحقيقي هنا أو الإثم الذي ارتكبه يوحنا هو تماماً "كَلمَة الله وَشَهَادَة يَسُوعَ". هذه ستجلب على صاحبها عداوة العالم.

إن يوحنا، ورغم ضعف ثقافته (أعمال ٤: ١٣)، وتكلمه باللغة العامية البسيطة التي لأهل الجليل، راح يكرز بجرأة وأمانة ويعلّم في الأماكن العامة والخاصة بكلمة الله. لم يكن الرسل قد تعلموا فن تشذيب الحقائق لتناسب أذواق الناس المتنوعة. جزئياً، وإذ جُعلت كلمة الله معروفة بملئها وتماميتها، وأقوال الله دخلت إلى الضمائر، ازدادت عداوة العالم لهم ودخلت إلى حيز الفعل.

٩- "شَهَادَة يَسُوعَ" هنا بشكل خاص تعتبر من حيث الوجه النبوي فيها. إن ميلاد ملك اليهود أيقظ الغيرة القاسية عند هيرودس، وأثار أورشليم حتى مخ عظامها (متى ٢). الشهادة ليسوع كملك حق كانت جريمة ما كانت لتتحملها أو تتساهل فيها شرائع روما ولا عظمتها الإمبراطورية، ولذلك فإن روما صلبت بطرس وقطعت رأس بولس ونفت يوحنا.

١٠- "كُنْتُ في الرُّوح في يَوْم الرَّبّ". كل المسيحيين هم "في المسيح"، خلافاً لحالتهم الأولى عندما كانوا "في آدم"، وهم جميعاً "في الروح" خلافاً لحالتهم الماضية عندما كانوا "في الجسد". ما من مسيحي يمكن أن يوجد من جديد في "آدم" أو في "الجسد"، فكلاهما يصفان حالة ماضية. ففي الماضي كنا في نسل رأسه "آدم"، أي في حالة ساقطة. ولكن صرنا في الروح (رومية ٨)، كما الحال مع كل مسيحي بلا شك. ولكن يوحنا يتكلم بلهجة تدل على حزم وجزم وعلى قوة إيمان وعلى خضوع مطلق للروح. ما عاد يوحنا في ظروف حياته العادية اليومية بل في حالة أخرى من الكينونة. إن غياب أداة التعريف في كلمة "الروح"، لا يعني أن الروح القدس ليس هو المقصود. ليست الإشارة هنا إلى الروح القدس كأقنوم، ولا إلى روحنا، بل إن حذف أداة التعريف في العبارة يجعلها تشير إلى حالة معينة مميزة، حالة تؤكد على حضور الروح القدس وفيها تكون الروح الإنسانية وكل الكيان الداخلي في حالة انهماك بها (قارن حزقيال ١١: ٢٤ مع ٢ كور ١٢: ٢، ٣). إن بولس، وهو في حالة البحران التي كان فيها، لم يُسمح له آنذاك، ولا في ما بعد، بأن يُدون ما رأى وسمع. أما يوحنا، فعلى العكس، يُؤمر بأن يكتب عما يرى ويسمع.

نفس الصيغة من الكلمات نجدها في مدخل الرؤى التالية اللاحقة المدونة في الأصحاحات ٤ و٥، الخ. مشهد حالة النشوة الروحية في الأصحاح ١ هو على الأرض، بينما الذي في الأصحاح ٤ هو السماء.

كل محتويات سفر الروؤيا نقله الله ليوحنا في رؤى في أعظم يوم من الأسبوع، "يَوْم الرَّبّ". الرؤى الثمانية المفصلة في زكريا رآها الكاتب في ليلة واحدة (الأصحاح ١: ٨- ٦). ورؤى دانيال أيضاً رآها في الليل (الأصحاح ٧).

"يَوْم الرَّبّ":

١٠- "يَوْم الرَّبّ" ترد هذه العبارة مرة واحدة في الكتاب المقدس، ثم تصبح تسمية عامة تشير إلى اليوم الخامس بالمسيحيين الذي فيه يستريحون ويعبدون الله. والمقصود بذلك هو اليوم الأول من الأسبوع بكل تأكيد بدلالة الاعتبارات التالية: أولاً، الفرق في التعبير المستخدم في الأصل عن ذاك المستخدم في عبارة "يَوْم الرَّبّ"، كما نراها في ١ كور ٥: ٥؛ ٢ كور ١: ١٤؛ ١ تسا ٥: ٢. ثانياً، طبيعة الرؤيا الأولى (الآيات ١٢: ٢٠)، والتي فيها تطبيق حاضر. يسوع الممجد وسط الكنائس ليس له مكان ولا مغزى في فترة الدينونة القادمة، التي يتم الحديث عنها في كلا العهدين القديم والجديد على أنها "يَوْم الرَّبّ"، والتي يعتمد عليها إقصاء الكنيسة جانباً كشاهد عام لله على الأرض. لهذه الأسباب وغيرها نفهم زمن تطبيق العبارة "يَوْم الرَّبّ" التي هي موضع الجدال.

هناك حقيقتان تتركان بصمة على طابع اليوم الأول من الأسبوع، قيامة الرب من الأموات (يوحنا ٢٠) وتأسيس الكنيسة في العنصرة (لاويين ٢٣: ١٦، أعمال ٢). ولذلك فإن "يوم الرب" ليس يوماً عادياً، وليس "عشاء الرب" وليمة عادية. كلا الـ "يوم" والـ "عشاء" له معنى مميز خاص به. الطابع المقدس في "اليوم" و"العشاء" يجب أن يُصان بالكامل. إن يد المفسد الوقحة ستسلبنا هذا الإرث الخاص الثمين الذي يرمز إلى كنيسة قيامته وموته.

١٠- "سَمعْتُ وَرَائي صَوْتاً عَظيماً كَصَوْت بُوقٍ". وضعية الرائي لها مغزى. ظهره إلى الكنيسة ووجهه نحو الملكوت. الدمار الكنسي الذي تنبأ عنه بولس (أعمال ٢٠: ٢٨- ٣٢؛ رومية ١١؛ ٢ تيموثاوس ٣) قد حدث للتو. العنصر الجدلي في كتابات يوحنا موجه بشكل رئيسي ضد سيرِنثوس (التي كانت معاصرة للرسول) وآخرين، الذين بدأوا حملة صليبية شيطانية قوية ضد المسيحية. الهرطقات الغنوصية، والمبادئ والتعاليم التي شجبها بولس في رسائله إلى أهل كورنثوس وإلى كولوسي، كانت قد تطورت وتنامت بشكل كبير في أيام يوحنا، وفي القرن الثاني صارت لها مدارس مميزة، وهي جميعها في معارضة مفتوحة علانية وفظيعة ضد شخص ربنا يسوع المسيح. إضافة إلى هذه المخاطر الكنسية كان هناك السلطة التي تضطهد المسيحيين في العالم. لا عجب، إذاً، أن نظرة ذلك الشخص المبجل والكهل كانت متجهة إلى الأمام إلى مجد وقوة الملكوت عندما سيتبرر البار والخاطئ يُعاقب. ولكن الرب لم يكن قد انتهى من الكنيسة، وإن كان يوحنا قد أدار ظهره لها. كان عليه أن يسمع ويرى، ولذلك توجب عليه أن يلتفت وأن يكون مشهوراً لكل ما كان حاضراً للرب.

"الصَوْت العَظيم كَصَوْت البُوق" سيعلن أن مسألة ذات اهتمام عام ستُنقل، مسألة كانت تهم الكنيسة كلها، علاوة على ذلك، الرؤيا التي دُعي يوحنا ليشاهدها وراءه هي مدخل إلى كل سلسلة المكاشفات التالية، مشدداً بذلك على بدء هذه الإعلانات. كم هو جميل أن تكون أول رؤية مقدمة لناظري الرائي الجذل السابح في عالم آخر هي المسيح في الجسد، ومع ذلك فهو أيضاً في قوة وجلال وسط الكنائس.

الكنائس السبع:

١١- الألقاب الإلهية: "أَنَا هُوَ الأَلفُ وَالْيَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخرُ". هذه العبارة يجب رفضها لأن يوحنا لم يكتبها. اللقب الأول مُقحم على الأرجح من الآية ٨، واللقب الثاني من الآية ١٧، هذا بالإضافة إلى أن المتكلم لا يُعلن عنه، ولا يُعلن عن ألقابه إلى أن يلتفت يوحنا نحوه. "الْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذي تَكَلَّمَ مَعي".

١١- "الَّذي تَرَاهُ اكْتُبْ في كتَابٍ وَأَرْسلْ إلَى السَّبْع الْكَنَائس الَّتي في أَسيَّا: إلَى أَفَسُسَ، وَإلَى سميرْنَا، وَإلَى بَرْغَامُسَ، وَإلَى ثَيَاتيرَا، وَإلَى سَارْدسَ، وَإلَى فيلاَدَلْفيَا، وَإلَى لاَوُدكيَّةَ". كانت هناك جماعات وكنائس أخرى ذات أهمية في أسيا بالإضافة إلى هذه السبع المحددة. ولكن روح قدس الله كانت لديه غاية معينة جعلته يختار هذه الكنائس المعينة، ومن هنا تأتي أداة التعريف: "السَّبْع الْكَنَائس". كما وإن الترتيب التي وردت فيه الأسماء جدير بالملاحظة. في تفسيره للرؤيا، يكتب هنغستينبيرغ قائلاً: "أَفَسُسَ، وسميرْنَا، وَبَرْغَامُسَ يجب أن يكونوا معاً، وأن يُفصلوا عن البقية. لأن هذه المدن الثلاث، وهذه وحدها فقط، كانت تتنافس من أجل الحصول على الأولية في أسيا". في الخطابات المنفصلة إلى الكنائس (الأصحاح ٢ و٣). هناك تقسيم لافت واضح إلى ثلاثة وأربعة. وهذه هي الدعوة: "مَنْ لَهُ أُذُن"، تتكرر سبع مرات، ترد في الخطابات إلى الكنائس الثلاث الأولى قبل كلمة إلى الغالب أو من يغلب (٢: ٧، ١١، ١٧)؛ بينما في الرسائل الأربعة الأخيرة الدعوة لأن "يسمع" تأتي بعد الوعد للغالب (٢: ٢٩؛ ٣: ٦، ١٣، ٢٢). الكنائس أو الجماعات تُسمى بشكل منفصل. استقلالية كل واحد منا مؤكدة بشكل كامل، والمسؤولية الملقاة على كل منها تجاه المسيح يتم التعليم عنها بشكل متميز واضح. إن الوحدة الحيوية للكنيسة كـ "جسد واحد"، والاتكال المتبادل بين أعضائها، هي حقائق يعلّمها بولس حصرياً. في الأصحاحات الثلاث الأولى من الرؤيا يُنظر إلى الكنيسة من سفر الرؤيا، من جهة أخرى، من خلال مهمتها العامة على الأرض في أنها حاملة نور الله والشاهد له. لابد أن "السبع الكنائس" تظهر مواصفات محددة معينة تطبع طابع الكنيسة الكونية في مراحل متعاقبة من تاريخها، بينما هذه الملامح نفسها مجتمعة تميز الكنيسة في كل أرجاء الأرض في أي وقت، في ذلك الحين والآن.

اثنتان منهما، سميرنا وفيلادلفيا، تُمتدحان بدون أن تُوجه لهما أي كلمة توبيخ. الألم ميز الأولى، والضعف الأخيرة. مزيج من المديح واللوم تتقاسمها كنائس أفسس، وبرغامس، وثياتيرا، وساردس. أما لاودكية فهي الأسوأ بين "السبع". حالتها ميؤوس منها، كلها لوم دون كلمة إطراء. في ثياتيرا بقية تقية لأول مرة يتم تمييزها.

(١) أفسس

إن العاصمة الشهيرة لأسيا في الرؤيا، "نور أسيا" كانت الكرسي الرئيسي ومركز العبادة الوثنية. لقد كانت حضن قوة الشيطان، ومنها انتشرت العبادة الوثنية إلى كل أرجاء العالم المعروف (أعمال ١٩). الأصنام الفضية الصغيرة التي تمثل الإلهة ديانا كان يشتريها الغرباء بإقبال شديد، ويضعونها في الهياكل والبيوت للعبادة؛ بينما الهيكل الهائل للإلهة، المزخرف بثروة أسيا، كان يعتبر أحد العجائب السبعة في الدنيا. صارت أفسس عالم صراع عنيف بين قوى النور والظلمة. أكيلا وبريسكيلا التقيين عملا جاهدين لبعض الوقت في هذه المدينة عابدة الأوثان؛ وقبلهم اثنا عشر تلميذ من تلاميذ يوحنا كانوا قد ساعدوا إلى حد ما كفي اختراق الظلمة، ولكن جهودهم كانت ضعيفة على ما يبدو بسبب حالتهم الناقصة (أعمال ١٩)؛ ثم أتى أبولس البليغ فأعطى قوة دافعة أكثر إلى العمل. ولكن يبدو أن بولس هو الذي حطم قوة الظلمة وأثار غضب أتباع عبادة الأوثان والمؤمنين بالخرافات، غذ رأوا كل نظام العبادة خاصتهم كمثل دَاجُونَ العهد القديم، يرتجف أمام حقائق المعرِّية للنفس في المسيحية؛ وأخيراً، يوحنا الحبيب، بعد مغادرته دياره في أورشليم، اتخذ مسكناً له في أفسس، ولثلاثين سنة جعل منها مركز عمله الكرازي للمسيح. إن قضى مجد أفسس، وتلك المدينة الوثنية التي كانت فخورة يوماً صارت قرية بائسة تُعرف اليوم باسم أياسالوك.

(٢) سميرنا

تقع سميرنا على بعد أربعين ميلاً شمال أفسس، وهي إحدى أعظم وأهم المدن في الإمبراطورية التركية؛ عدد سكانها يبلغ تقريباً حوالي ٢٠٠ ألف نسمة. قديماً كانت منافسة لأفسس، من بعض الجوانب. موقعها الطبيعي والتجاري، وثروتها وتجارتها، وروعة وفخامة الأبنية فيها جعلتها تُدعى "الجميلة". لم تكن تختلف كثيراً في عاداتها الوثنية عن أفسس. لا يأتي ذكر سميرنا في سفر أعمال الرسل، ولا في رسائل بولس، وليس لدينا وسيلة نتحقق فيها بشكل قاطع من كيفية أو زمان دخول الإنجيل إليها. القوانين الإمبراطورية الصارمة ضد المسيحية كانت تُفرض بشكل قاسٍ صارم في سميرنا، وخاصة وسط اليهود والوثنيين متجمعين متحدين، الذين ضغطوا على أيدي السلطات المحلية ليضعوا مراسيم الاضطهاد قيد التنفيذ. بوليكاربوس، صديق يوحنا، قُتل هنا، كما يُقال، وهو في التسعين من العمر، وذلك عام ١٦٨ م، وكان هذا آخر تلميذ اهتدى شخصياً على يد الرسول يوحنا. إن الاضطهاد العنيف الذي شُن في أسيا الصغرى كان مركزه في سميرنا. ولا شك يُشار إليه في الخطاب المطوّل الموجّه إلى تلك الكنيسة (رؤيا ٢: ٨- ١١).

(٣) برغامس

تقع إلى الشمال أكثر. هذه المدينة التجارة فيها ضعيفة أو معدومة، ولكنها كانت مشهورة بالتعليم والتهذيب والعلم فيها وخاصة الطب. سلسلة طويلة متتالية من الملوك جعلوا برغامس، أو برغامُم، كما يسميها اليونانيون، مقر سكنهم الملكي. كانت مشهورة بالمكتبة فيها، التي تأتي بالدرجة الثانية بعد الإسكندرية، والتي كانت تحوي حوالي ٢٠٠ ألف كتاباً متراصاً. وهنا كان ينتشر فن صناعة جلود الحيوانات وإعداده لكي يُكتب عليه، ومن هنا انحدرت كلمة البرشمان أو الرق. وهكذا تم تداول اسم هذه المدينة المشؤومة المصير روحياً (رؤيا ٢: ١٢- ١٧) في العصور المسيحية، وبالتأكيد فإن الكثير من المخطوطات الرقية (برغامينا) القيِّمة قد أُعدّت في برغامس. كانت عبادة أرتيمس تميز أفسس. وكان ديونيسوس هو الإله المميز في سميرنا. كانت هاتان المدينتان شريرتين، ولكن برغامس كانت متفوقة في الشر وكذلك في العبادة الوثنية. النعوت أو الألقاب، "عرش الشيطان" و"حيث يسكن الشيطان" (رؤيا ٢: ١٣)، لابد أنها خير مثال على ذلك وأنها كانت تنطبق محلياً على برغامس. ما كان يُحتفل به أكثر في هيكل أسكولابيوس هو الأفعى المرتوية، والتي كان وراءها "إبليس، تلك الحية القديمة". الطب، ذلك العلم النبيل، كان قد تطابق مع عبادة الشيطان، الذي اغتصب مكان، ووظائف، وألقاب المسيح. الأسماء، "رقيب" و"مخلّص" صارت تنطبق على أسكولابيوس، والشفاءات التي كانت تحدث كانت تُنسب إلى هذا الإله المختار. باختصار كانوا يستبدلون المسيح بالشيطان.

(٤) ثياتيرا

تقع إلى الجنوب الشرقي من برغامس. "الطريق من ثياتيرا إلى برغامس... هو من أجمل الطرق في العالم". المدن الثلاث التي ذُكرت سابقاً كانت أكثر شهرة من ثياتيرا بكثير. وبشكل غير مباشر، كانت تربط نفسها مع عمل بولس الكرازي في أوربا. فأول المهتدين على يده كانت امرأة من ثياتيرا تعمل في بيع الأرجوان الذي كانت تشتهر به مدينتها (أعمال ١٦: ١٤). وإن النقوش، التي لا تزال قيد الوجود، تُظهر أن نقابة عمّال الصباغة كانوا يشكلون أكبر وأهم حرفة في المدينة، وحتى هذا اليوم القماش القرمزي المتألق المصبوغ هناك يُستخدم بشكل واسع في كل أرجاء أسيا وأوربا، وترسل كمية كبيرة منه أسبوعياً إلى سميرنا. ثياتيرا حالياً بلدة مزدهرة بعدد سكان يبلغ حوالي ٢٠ ألف نسمة.

(٥) ساردس

تقع على بعد ٢٧ ميلاً على خط مستقيم من ثياتيرا. كانت ساردس في الماضي مدينة مترفة ومتكبرة، وعاصمة مملكة ليديا. هذه المدينة التي كانت ملكية يوماً ما، ورغم بسالة سكانها، سقطت أمام البطل الغازي، كورش. ومع سقوط المدينة انتهت مملكة ليديا إلى غير رجعة. الاسم الحالي للعاصمة هو سارد. يا له من تعليق على العظمة البشرية نجده في المدينة المنحطة الآن والتي كانت مترفة وحكيمة ومقتدرة باسم كريسس: "راعيان أو ثلاثة كانوا يسكنون في كوخ، إضافة إلى تركي وخادمين له، في زمن زيارة السيد أروندِل عام ١٨٢٦. وفي عام ١٨٥٠ لم يكن هناك أي إنسان يسكن في ساردِس تلك التي كانت يوماًَ عظيمة ومزدحمة بالسكان" ٨.

(٦) فيلادلفيا

تستمد فيلادلفيا اسمها من مؤسسها، أتالوس فيلادلفوس، ملك برغامس، وتقع على بعد ٢٥ ميلاً إلى جنوب ساردس. اسمها الحالي، "الله شهر"، ("مدينة الله")، ذو مغزى، رغم أن الأتراك لا ينظرون إلى المدينة بأي درجة من تبجيل أو وقار. البلدة الحالية كبيرة، وتحوي حوالي ١٥ ألف نسمة، نسبة كبيرة منهم هي من اليونانيين المسيحيين. بقايا الأزمنة المسيحية الأولى عديدة جداً هناك أكثر من أي مدينة أخرى في أسيا يذكرها يوحنا؛ البقايا لا تقل عن ٢٥ كنيسة، بينما أعمدة المرمر العديدة، تذكرنا بالإشارة الواردة في الرؤيا (٣: ١٢) والتي نرجّح أنها تشير إلى هذه الأعمدة. خلو رسالة يوحنا إلى ملاكها من اللوم (٣: ٧- ١٣) جدير بالانتباه في ما يتعلق بحقيقة أنها استمر ت أطول من أي مدينة من المدن السبع المذكورة. يقول جيبون الشكوكي: "من بين المستعمرات والكنائس اليونانية في أسيا، لا تزال فيلادلفيا قائمة؛ عموداً وسط الأنقاض، مثالاً ممتعاً على أن طرق الشرف والكرامة والسلامة يمكن أن تكون نفسها أحياناً".

(٧) لاَوُدِكِيَّةَ

كانت تقع على بعد ٤٠ ميلاً شرق أفسس، وقد اشتقت اسمها من لاَوُدِس، زوجة انتيوخوس الثاني، الملك. لقد كانت مدينة في غاية الثراء، لدرجة أنه حتى عندما أصابها زلزال في عهد نيرو ٦٢ م، سرعان ما استعادت ماضيها وسابق عهدها، ومن مصادرها الخاصة، استعادت مجدها الأصلي، وكانت في زمن الرؤيا مدينة فخمة. كانت الكنيسة قد أُصيبت بـ "حُمى الذهب"، "لأَنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ وَقَد اسْتَغْنَيْتُ" (رؤيا ٣: ١٧). الكبرياء، والثراء، والترف، والرضى الذاتي، كان يميز الحياة العامة لسكان تلك المدينة، ومن الواضح أن ذلك طبع شخصية الكنيسة أيضاً. كبرياء لاَوُدِكِيَّةَ قُهر، وثروتها تبعثرت بين الغرباء، وعظمتها اندثرت إلى التراب. الموقع الذي كان يوماً مدينة مترفة قد صار مشهداً من الدمار الكلّي والخراب ٩.

التطبيق:

إن تطبيقاً خاصاً، ولكن ليس حصرياً، للأصحاحات الثلاثة الأولى على الكنائس الأسيوية المذكورة بالاسم يجب أن يُعترف به. ومن هنا، فإن يوحنا يسلّم على "الْمجامع السَّبْع الَّتي في أَسيَّا" (الآية ٤)؛ إنه يراهم سواسياً أمام ناظريه في الآية ١١؛ في حين تُرسل رسالة خاصة إلى كل واحدة من "السبع" كنائس (الأصحاح ٢ و٣). ولكن رغم أن التطبيق المباشر على الكنائس الأسيوية السبع لا شك فيه، إلا أنه من الواضح أيضاً أنها كانت تمثل الكنيسة جمعاء، ليس فقط في كل زمن، بل أيضاً في مراحل متعاقبة من تاريخها. بعد الأصحاح الثالث نجد تلميحاً وإشارة إلى هذه الكنائس السبع. "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس"، هذه تكرر سبع مرات وتعلن تطبيقاً مباشراً لهذه الخطابات على كل سامع مفرد، وأيضاً على كل جماعة من المؤمنين المعترفين على الأرض في أي زمن. تطبيق اليوم الحالي هو ذو قيمة بالغة وفائدة.

طُرحت أسئلة كثيرة تتعلق بقدرة يوحنا، وهو سجين، على أن يكتب ويتواصل مع الكنائس. نعلم أن الرؤيا كُتب ككل في بطمس، وبالإضافة إلى ذلك أن الكنائس السبع كان لكل منها رسائل خاصة بها أُرسلت لها من ذلك المكان. لا نرى سبباً للافتراض الذي وضعه البعض بأن الرؤى قد رآها يوحنا في بطمس، ولكن كتبها في ما بعد في أفسس بعد إطلاق سراحه من المنفى وذلك خلال حكم نيرفا. إن المظاهر الفائقة الطبيعة تميز جزءاً كبيراً من السفر، ومن هنا تختفي الصعوبات كمثل رقائق الثلج التي تذوب.

سبع مناير من ذهب:

١٢- "فَالْتَفَتُّ لأَنْظُرَ الصَّوْتَ الَّذي تَكَلَّمَ مَعي. وَلَمَّا الْتَفَتُّ رَأَيْتُ سَبْعَ مَنَايرَ منْ ذَهَبٍ". بالتفات الرائي لرؤية صاحب الصوت الذي يتحدث إليه، لابد أنه اتجه نحو الشرق، وهذا مشهد شيّق. ما رآه أول شيء هو "سبع مناير من ذهب". نفهم من الآية ٢٠ مغزى كل ذلك: "الْمَنَايرُ السَّبْعُ هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". القيمة العددية للرقم سبعة تشير إلى ما هو كامل. والذهب، المعدن الأكثر ثمناً، يرمز إلى البر الإلهي. تأسيس وتكوين الكنيسة، سواء نُظر إليه من ناحية العلاقة مع المسيح كجسده، أو العلاقة مع الله كبيته، هو عرض للبر الإلهي في شخص الله. ولا يمكن أن يكون غير ذلك. في الرمز "سبع مناير من ذهب" لدينا الكنيسة في اكتمالها وكمالها على الأرض، كما في فكر الله، وفي مركزها العلني كشاهد لله. إنها ليست ما صارت عليه الكنيسة، بل كما يُنظر إليها وهي في الأصل وبطابعها كما أسّسها هو نفسه. بينما الكنيسة بمجملها هي نصب أعيننا إلا أنه يُنظر إليها هنا من خلال كنائس منفصلة متفرقة.

المناير الذهبية السبع كانت تدل بشكل واضح على الشمعدان الذهبي الذي تتفرع منه سبع شُعب والذي كان يوضع في الجهة الجنوبية من الجزء الخارجي من المقدس في العهد القديم. هنا المناير نجدها في الشرق. هناك، المناير السبع كان لها ساق واحدة وحامل واحد، وكانت كل منارة تلقي بضوئها الساطع على العمود أو الساق المزخرفين بشكل جميل، فتشكف جمالها خلال ساعات ظلمة الليل (خروج ٢٥: ٣١- ٤٠؛ عدد ٨: ٢- ٤)، ولذلك ففقط في الحضور الإلهي يتم التعبير بشكل كامل عن الأمجاد الأخلاقية ليسوع، ابن الله الحبيب. كل منارة هنا موضوعة على قاعدتها الخاصة. إنها تمثل كنائس منفصلة ومستقلة، كل واحدة منها في مكانها مسؤولة عن إلقاء حزمة الضوء الخاصة بها خلال الظلام. إنها مسؤولية جدّية وحاسمة لكل جماعة معترفة من القديسين أن تكون في مكانها الخاص كشاهد لله، وما هو صحيح بالنسبة للكنائس المحلية يصح أيضاً على الكنيسة الكونية. المناير الأسيوية السبع كانت قد سقطت منذ زمن بعيد بناءً على التهديد الإلهي (٢: ٥)، ودينونة مماثلة، ورغم التعبير عنها برمز آخر مختلف، هي على وشك أن تصيب الكنيسة المعترفة ككل (رومية ١١: ٢٢). أين هي المناير الذهبية اليوم؟ هذا سؤال مهيب علينا جميعاً أن نبحث عن إجابة لها.

رؤيته للمسيح (الآيات ١٣- ١٦):

أول ما يسترعي انتباه الرائي هو المناير الذهبية السبع، وليس فقط الشمعدانات أو حوامل الشموع ١٠. ولكن ما قيمة الكنيسة بمعزل عن المسيح؟ إن المجد المميز في هذه الرؤيا الافتتاحية هو ليس في الكنائس في موقفها الإلهي على الأرض، بل في عظمة وجلال ذاك الذي تكرّم بأن يكون في وسطها. من هو ذاك؟ إنه "شبْهُ ابْن إنْسَانٍ". إن حذف أداة التعريف في الأصل، كما الحال في دانيال ٧: ١٣، جدير بالانتباه. النبي والرائي كلاهما رأيا ابن الإنسان بلا شك، ولكن الذي كان يميزه حتى يحمل ذلك الاسم أو اللقب هو الفكرة من وراء حذف أداة التعريف، علماً أن ابن الإنسان ليس معروفاً كثيراً؛ ولكن يراه في السماء النبي العبري، وعلى الأرض الرائي المسيحي، في صفات مجيدة تخصه وحده هو الذي يحمل ذلك اللقب. إنها صفة مميزة، وليست شخصية.

١٣- "ابْن الإنْسَان" هو لقب يستخدمه حزقيال حوالي ١٠٠ مرة، ومرة في دانيال (٨: ١٧)، النبي العبري الوحيد الذي تكلم عنه. الرب وحده في الأناجيل يستخدم هذا اللقب للإشارة إلى نفسه، حوالي ٧٠ مرة. يوحنا ١٢: ٣٤ هو استثناء وحيد على ما يبدو. اللقب يعبر عن مجال أوسع من السلطان والمجد أكثر من ذاك الذي لملك إسرائيل (قارن مز ٢ و٨). كابن لله يقيم الميت، روحياً (يوحنا ٥: ٢٥) وجسدياً (الآية ٢٨). وكابن الإنسان يدين (الآية ٢٢)، وأيضاً يُنفّذ إدانته (الآية ٢٧). إنه لقب ذو صدى خاص عند الرب.

١٣- "مُتَسَرْبلاً بثَوْبٍ إلَى الرّجْلَيْن". أي إلى رجلي أو قدمي الممجّد، ولكنه ليس خفيضاً بما يكفي لتغطيتهما (الآية ١٥). وليس هناك تحديد لمادة أو لون الرداء الذي يرتديه. هناك إشارة واضحة إلى الإيفود، الرداء الجليل لرئيس الكهنة ١١. ولكن الرداء الطويل الفضفاض ليس مزوداً بطوق عند الحقوين (لوقا ١٢: ٣٥) ولا مشدوداً إلى الجانبين (يوحنا ١٣: ٤) كما تتطلب الخدمة الفعالة، بل إن الإشارة هنا هي إلى "الدينونة الكهنوتية المُبجَّلة".

١٣- "مُتَمَنْطقاً عنْدَ ثَدْيَيْه بمنْطَقَةٍ منْ ذَهَبٍ". المواد التي كانت موجودة في منطقة رئيس الكهنة هي "الذهب" و"الكتّان" وألوان هذا الأخير كانت "اسمانجوني وقرمز وبوص مبروم" (خروج ٢٨: ٨)، وفي هذا دلالة على اتحاد البر الإلهي والبشري في يسوع رئيس كهنتنا العظيم، بينما تمثّل الألوان طبيعته الإلهية (الأزرق)، والآلام (الأرجواني)، والمجد (القرمزي). ولكن المنطقة هنا هي بأكملها من الذهب الخالص، البر الإلهي. الحزام الذي على الصدر بدل الحقوين (دانيال ١٠: ٥) يشير إلى الاسترخاء الهادئ. المنطقة بحد ذاتها ترمز إلى البر والأمانة والإخلاص، هذه الصفات الذي تميز بها الرب على الدوام في كل طرقه (أشعياء ١١: ٥). ملائكة الدينونة (رؤيا ١٥: ٦)، كمثل ربنا، متمنطقة بمنطقة من ذهب عند الثديين. الترتيب العادي هو أن يكون الحزام عند الحقوين، ولكنه ليس هكذا هنا، فالمنطقة عند الثديين تشير إلى أن تلك الدينونة يجب أن تُنفَّذ بحسب كينونة الله في طبيعته.

١٤- "رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ أَبْيَضَان كَالصُّوف الأَبْيَض كَالثَّلْج". "قديم الأيام" (دانيال ٧: ٩) يوصَف على نحو مشابه. هناك مواصفات مشتركة في كل من ابن الإنسان وقديم الأيام. هما شخصان متمايزان، ومع ذلك متطابقان جداً في الفعل والشخصية حتى يعسر علينا أن نميز بينهما في أغلب الأحيان. إن التطابق بين يسوع ويهوه، بين الإنسان المتعب (يوحنا ٤: ٦) مع الخالق الذي لا يكل ولا يعيا (أشعياء ٤٠: ٢٨) هو موضوع مثير للاهتمام جداً. إن الحكمة الإلهية في النقاء المطلق تبدو، بشكل أساسي، الفكرة المقصودة من الرؤية المبهرة للرأس والشعر. في المقطع عند دانيال، لا تُذكر رؤية الرأس. وأما هنا فالرأس مكشوف. الحديث هو عن صفات شخصية وليس عن أمجاد رسمية أو نسبية، تلك التي نجدها في الآية ١٦.

١٤- "عَيْنَاهُ كَلَهيب نَارٍ"، دينونة متقدة شديدة، تمتد وتكشف الشر بكل عريه، ومهما كان مغطى. من أو ما الذي يستطيع أن ينجو من هذه النظرة الثاقبة المتفحصة في تينك العينين الملتهبتين كالنار؟

١٥- "رجْلاَهُ شبْهُ النُّحَاس النَّقيّ، كَأَنَّهُمَا مَحْميَّتَان في أَتُونٍ". في هذا إشارة إلى القوة القاهرة المريعة التي لا يمكن ثنيها في الدينونة القضائية (قارن مع ١٠: ١).

١٥- "صَوْتُهُ كَصَوْت ميَاهٍ كَثيرَةٍ" (قارن مع حزقيال ٤٣: ٢). إن جلال وفخامة صوته تفوق زئير شلالات كثيرة شديدة قوية. "من أصوات مياه كثيرة من غمار أمواج البحر الرب في العلى أقدر" (مزمور ٩٣: ٤). إن علامة سيادته المطلقة وسمو قدرته هي فوق كل أمواج المشاعر البشرية، وفوق ظروف العالم المحطَّم والكنيسة المدمَّرة، وهذه تجعل "صوته كأصوات مياه كثيرة". لقد كان صوته- يقول الله- أقوى بعشرة أضعاف، وهذا جعل النظام من الشواش والفوضى، وأظهر النور من الظلمة، واستخرج الحياة من الموت (تكوين ١). صوته هو الذي أسكت بحر الجليل الغاضب، وانتهر الرياح العاصفة والأمواج فهدأت كطفل نائم (متى ٨: ٢٣- ٢٧).

١٦- "مَعَهُ في يَده الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكبَ". الكواكب هي الملائكة أو ممثلي الكنائس (الآية ٢٠). "الكواكب" كرمز هي تعبير أولاً عن الكثرة التي لا عدَّ لها (تكوين ١٥: ٥)؛ وثانياً، أشخاص مقتدرين يتمتعون بسلطان عظيم، في الحياة المدنية والكنسية (دانيال ٨: ١٠؛ رؤيا ٦: ١٣؛ ١٢: ٤)؛ وثالثاً، تشير إلى السلطات التي تأتي في الدرجة الثانية أو الأقل شأناً بشكل عام (تكوين ٣٧: ٩؛ رؤيا ١٢: ١). إن كل سلطة كنسية، وكل خدمة وكل حكم روحي في كل جماعة مكتسبة أو مستمدة من المسيح. إن قدرتهم الكافية الوافية على أن يعطي أو يمنع، يحفظ أو يؤازر كل خادم حقيقي لله هي الفكرة الأساسية من الكواكب هنا التي هي معه في يده اليمنى. عند السؤال عن الضمان الأبدي للمؤمنين، يُقال بأنهم في يده (يد المسيح)، وفي يد الآب، وليس من قوة يمكن أن تقتلعهم منها (يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩). ولكن لا يُقال بأنهم في "يده اليمنى"، كما الحال هنا. إن الحكام الروحيين- لا نقول الرسميين، إذ ليس جميعهم معينين في كنيسة الله- تراهم وتحفظهم وتؤازرهم يمين ابن الإنسان. "يَده الْيُمْنَى" تدل على سلطته المطلقة السامية وكرامته الفائقة (مز ١١٠: ١؛ أفسس ١: ٢٠؛ رؤيا ٥: ١، ٧). يا لها من مسؤولية، رغم فخامة المركز، تقع على عاتق كل مسؤول في الكنيسة. تشير دانيال ١٢: ٣ إلى فئة مستقبلية من الخدام أو الحكام اليهود. ويشير يهوذا ١٣ إلى فئة من المرتدين المسيحيين.

إن مسؤولية الكوكب ودوره هو أن يشع ويشرق. خلال ليل غياب ربنا، تكون المجامع هي حاملة نور الله خلال العتمة، وهي جميعاً نور العالم. ولكن ينبغي على كل حاكم أو مرشد مسيحي أن ينير ضمن المجال المحدد له. وكلما زادت الظلمة ازدادت الحاجة إلى أن يشرقوا وأن يعكسوا نور السماوات على الظلمة المحيطة التي ما فتئت تزداد.

١٦- "سَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْن يَخْرُجُ منْ فَمه". يتم تنفيذ الدينونة الإلهية بمجرد قوة كلمته، وهذا لا يمكن تفاديه- لأن السيف ذو الحدين هو قوة ذلك الشخص. لم نقرأ أبداً عن ربنا يضع يده شخصياً على أعدائه. إنه يتلكم، فيُنجز الأمر. كلمته الشخصية هي النقطة هنا، كما الكلمة المكتوبة في رسالة العبرانيين في ٤: ١٢. غير الأتقياء في الكنيسة هم أول المهددين بالدينونة على يده، وهذا لا يمكنهم تفاديه ما لم يتوبوا (رؤيا ٢: ١٦). في بدء الحكم الألفي نشهد أحد أكثر المشاهد المحزنة على الأرض، الأمم محتشدة في الغرب، الخ. تحت قيادة زعمائها في تحد صريح لحمل الله (رؤيا ١٩: ١٩- ٢١). سيف المنتصر القدير، قوة كلمته التي لا يمكن مقاومتها، تجد أعداءهم، وقتل الجيوش الكونية المحتشدة من الأمميين يمجد بره "في انتقامه" من أولئك الذين يرفضون الاعتراف بصولجانه.

١٦- "وَجْهُهُ كَالشَّمْس وَهيَ تُضيءُ في قُوَّتهَا". في أحد الأيام بصق الناس على وجهه وهو الطويل الأناة (متى ٢٦: ٦٧)، والآن هو في مجد إلهي، أشد سطوعاً بكثير، وأكثر تألقاً من الشمس المدارية في وسط النهار، يبدو هنا في وجه الرب. "الشَّمْس وَهيَ تُضيءُ في قُوَّتهَا"، بحيث تعجز أي عين عن النظر إليها، وفي هذا تصوير مسبق للمجد الرفيع ليسوع، ابن الإنسان. لعله يمكننا أن نلاحظ أن المسيح يتم الحديث عنه كنور للعالم (يوحنا ٨: ١٢)، وكشمس بر إسرائيل (ملاخي ٤: ٢)، وككوكب الصبح المنير للكنيسة (رؤيا ٢٢: ١٦). يرسم هنغستينبيرغ صورة فيها تضاد بين مجد الشمس ومجد الكواكب (١ كور ١٥: ٤١)، مطبّقاً الدرس على المجد الفائق للمسيح (الشمس)، على ذاك الذي لخدامه (الكواكب). إن الكواكب هي مجرد عاكسة للضوء. ليس لها نور من تلقاء ذاتها. في قصة الخلق البسيطة وأيضاً التي لا مثيل لها (تكوين ١) الأجرام المميزة للنهار والليل يتعين مكانها بحسب علاقتها مع هذه الأرض، ثم تضاف بدون أهمية كبيرة، "الكواكب أيضاً" (الآية ١٦). ألا ليت كل خادم يضع هذه الصورة في قلبه. أليس في هذا درس لكل خادم؟ ما نحن سوى أشخاص ذوي قيمة تافهة لو لم نكن ممسوكين بيمين المسيح. إن ارتباط الخادم بالرب وحده يمنحه الكرامة.

يا لها من رؤيا مجيدة للمسيح تلك التي نجدها هنا والمختلفة كلياً عن مسيح الأناجيل. فهناك، صفاته هي الحنو والقداسة والمحبة؛ أما هنا، فيُرى متدثراً ثوب الجلال والقوة. هناك كان رجل أوجاع، وأما هنا فالألوهية ممتزجة كقديم الأيام مع إنسانيته كابن الإنسان. بالطبع كان يتمتع بالطبيعة الإلهية على الدوام، وكان دائماً هو الله، ولكن على الأرض كان قد حجب مجده السرمدي، أو كما يقول بولس: "أخلى نفسه" (فيل ٢: ٧). هنا يُشرق مجده وسط الكنائس، ويا لها من قوة وعزاء لقلب كل مؤمن حقيقي، ويا له من رعب لكل من يعارضه.

الضعف البشري والعزاء الإلهي (الآيات ١٧، ١٨).

١٧- "لَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عنْدَ رجْلَيْه كَمَيّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائلاً لي: «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إلَى أَبَد الآبدينَ. وَلي مَفَاتيحُ الْهَاويَة وَالْمَوْت".

تأثير الرؤيا المجيدة للمسيح كانت ومقوية ومشجعة. يوحنا نفسه الذي كان قد اتكأ برأسه على صدر المعلّم (يوحنا ١٣: ٢٣)، وسبق بطرس إلى القبر (يوحنا ٢٠: ٤)، وقدّم العبادة للرب قائماً من الأموات (متى ٢٨: ١٧)، وشاهد بنظرة منذهلة صعود الرب (أعمال ١: ٩، ١٠)، يخرّ الآن على قدميه كالميت. عندما تجلى المسيح على الجبل المقدس أثار الخوف عند الرسل الثلاثة المأثورين لديه (متى ١٧: ٦، ٧). أشعياء، الذي جَذِلَ فرحاً بالمستقبل المجيد أكثر من كل الأنبياء العبرانيين، ركع على ركبتيه في حضرة مجد المسيح؛ بينما السيرافيم غطوا أوجههم وأقدامهم، إذ أن المجد كان ساطعاً جداً لدرجة يعجزون معها على أن ينظروا، والمكان مقدس جداً لدرجة يعجزون معها عن أن يطأوا عليه (قارن أشعياء ٦ مع يوحنا ١٢: ٤١). وحزقيال وقع على وجهه أمام نفس المجد (١: ٢٨)، وفعل دانيال نفس الأمر لعدة مرات (٨: ١٧، ١٨؛ ١٠: ٧- ١٠). ولكن المسيح يُرى هنا، ليس في منطقة مجده الأصلية، موطن قصره الملوكي في السموات، بل وسط الكنائس في عرض كامل لسمات تدل على السلطان والقدرة والجلال. إننا نرى هنا ابن الإنسان المتجسد ممجداً. ومن هنا، وإزاء هذا الإظهار للمسيح، فإن تأثير ذلك كان أكثر من أي وقت مضى. لقد وقع يوحنا على وجهه كالميت. على الأرجح أن التلميذ الذي كان محبوباً ومُحِباً أكثر هو يوحنا، ولكن ماذا تفيد حتى أقوى المشاعر البشرية إزاء نور مجد يسوع الغامر، ابن الإنسان. مع ذلك فإن الضعف البشري تقابله تعزية إلهية. المخلّص الممجد ورئيس الكهنة "تأثر بمشاعر ضعفنا". نعمته وحنوه تعادلان جلاله وعظمته.

١٧- "وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ"، يقول الرائي. إنها يد القوة. على الجبل، لمسة يد يسوع وصوته بددا في الحال مخاوف التلاميذ (متى ١٧: ٦، ٧). وهنا، أيضاً، يد وصوت الممجّد تعيد التلميذ من حالة الخدر التي تشابه الموت. لقد كانت أكثر من لمسة، فقد "وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ". كم كانت ضغطة تلك اليد بقدرتها التي تعطي الحياة وقوتها ستثير وتفرح ذلك "التلميذ الذي أحبه يسوع"، وهو يسوع نفسه في الزمان وفي الأبدية، في الأرض وفي السماء.

١٧- "لاَ تَخَفْ". هكذا قال المخلص الممجد كلمته المطمئنة التي رافقت وضع يمينه عليه. لقد كان في حاجة إليهما كلتيهما: كلمة "لاَ تَخَفْ"، لطالما تتردد على الأرض وسط سكانها الخائفين وظروفها، ومن جديد تخترق أذن ذلك التلميذ لأن يسوع لا يتبدل ولا يتغير. لقد تغيرت ظروفه تماماً، ولكن القلب الذي كان ينبض في الجليل هو نفسه الذي يخفق بمحبة متناهية الحنان نحو خاصته.

١٧- "أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخرُ". هذا لقب إلهي بالأساس. يستخدمه يهوه ثلاث مرات حصرياً ليدل على نفسه في نبوءة أشعياء (٤١: ٤؛ ٤٤: ٦؛ ٤٨: ١٢)، وعلى نفس المنوال يستخدمه المسيح ثلاث مرات في هذا السفر (١: ١٧؛ ٢: ٨؛ ٢٢: ١٣). انطلاق هذا اللقب الخاص بالله على ابن الإنسان هو دليل مطلق على ألوهيته. الأزلي الكائن بذاته، مع كل ما يلازم بالضرورة سيادته المطلقة هو المشار إليه هنا. فكونه "الأول"، يعني أنه قبل الجميع وفوق الجميع ومنه الكل ينبثق. ولكونه "الآخرُ"، فهو بعد الجميع، وفيه تتمركز كل الأشياء. إنه منبع وخلاصة الخلق الكوني. فما المبرر للخوف إذاً؟ بالتأمل الهادئ في هذا اللقب الجليل الرائع، الذي أعلنه وحمله يسوع الناصري الممجد في السموات، يتلاشى الخوف كالضباب أمام الشمس التي تشرق. هي ذي صخرة قوة للأقدام المتعبة ولأعباء الحياة الأشد ثقلاً.

١٨- "الْحَيُّ" هو اللقب أو الاسم الإلهي التالي. لقد كان، ولا يزال، وسيبقى، مصدر الحياة. إنه الحيُّ المستقل عن كل الخلائق. إن تجسد الرب لم يُنشِئ حياة، بل أظهر ما كان موجوداً قبلاً (١ يوحنا ١: ٢). "الحيُّ، بشكل خاص، كان الاسم أو اللقب الذي استخدمه العبرانيون ليميزوا الإله الحقيقي عن جميع الآلهة الزائفة". الحياة الأبدية للمؤمنين، الوجود الأبدي لغير المؤمنين، وخلود الملائكة لها جميعاً مصدرها في المسيح، "الحيُّ". ما تنبأت به الكتابات المقدسة في العهدين القديم والجديد عن الله (إرميا ١٠: ١٠؛ ١ تيموثاوس ٣: ١٥) ينطبق تماماً على المسيح.

١٨- "صِرتُ مَيْتاً". وحتى كإنسان، أجرة الخطيئة، لا تطاله أو تصيبه. إلا أنه وبنعمته ورحمته ومن أجلنا "صار ميتاً" طواعية، وليس ميتاً فحسب، بل ميتاً حقاً وحقيقة. لقد بذل حياته (لأجلنا). يكتب متى أن يسوع " أسلم الروح" (متى ٢٧: ٥٠)؛ ومرقس يقول: "أسلم الروح" (مرقس ١٥: ٣٧)؛ وفي لوقا: أودع روحه في يدي أبيه و"أسلم الروح" (لوقا ٢٣: ٤٦)؛ ويوحنا يقول أنه نكس رأسه و"أسلم الروح" (يوحنا ١٩: ٣٠). الجلال الأدبي في عبارة "صِرتُ مَيْتاً"، نراه يتقوى ويتجمل عندما نتأمل في المجد الإلهي للمتكلم. فهو، "الأَوَّلُ وَالآخرُ"، تنازل من مجد الوجود السرمدي الأزلي الأبدي ليصير إنساناً، عاش حياةً أرضيةً لبضع سنوات فوق الثلاثين؛ وذاك "الْحَيُّ"، الذي هو حياة وخالق كل مخلوق ذكي، انحدر إلى الموت لكيما يبطل بذلك قدرة الموت والشرير ويعتق أسرى الموت (عبرانيين ٢: ١٤، ١٥). هذا النصر على الموت كامل مكتمل. لقد تقطعت رُبط الموت. "لقد مزَّق الرباطات". والملائكة، ورغم أنهم لم يظهروا عند الصليب، كانوا شهوداً، خارج وداخل القبر على حد سواء، على انتصار المسيح على الموت (متى ٢٨: ٢- ٧؛ يوحنا ٢٠: ١١- ١٣). وإن انتقالنا إلى السماوات سيعلنه إطلاق نفير البوق، "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (١ كورنثوس ١٥: ٥٥).

١٨- "هَا أَنَا حَيٌّ إلَى أَبَد الآبدينَ". الانتصار على الموت يسترعي انتباهنا إلى حقيقة أنه يحيا إلى الأبد، وأنه لن يموت أبداً من بعد. لقد خرج من نطاق الموت، ويعلن لقديسيه وللكنيسة ولأجل تقويتهم إلى الأبد وتعزيتهم بأنه سيحيا ولن يموت. إن كلمة "آمين" الواردة في كتبنا المقدسة ليست من النص الأصلي ويرفضها النقاد.

١٨- يأتي بعد ذلك الاستنتاج الملائم لهذا الإعلان العظيم عن اتحاد المجد الإلهي والبشري: "وَلي مَفَاتيحُ الْمَوْت والْهَاويَة". في نسخ الكتاب المقدس التي بين أيدينا يأتي الترتيب بالعكس: الْهَاويَة ثم الْمَوْت. ولكن هذا خطأ وهو يخالف الترتيب العام الذي ترد فيه هذه الكلمات في أماكن أخرى من هذا السفر (٦: ٨؛ ٢٠: ١٣، ١٤). الموت يصيب الجسد؛ والهاوية تطال الروح. لقد خضع الرب للأول (الموت) ودخل إلى الآخر (الهاوية). إن الهاوية ترمز إلى ما لا يُرى. جرت محاولة لتحديد مكان الهاوية. ولكن هذا أمر مستحيل. إذ أنها حالة أكثر منها مكان، وتشير إلى تلك الحالة التي يتواجد فيها الجميع، الأخيار والأشرار، بعد الموت وقبل القيامة. بالنسبة للمؤمنين، الهاوية هي أن نكون مع المسيح؛ وبالنسبة لغير المؤمنين، الهاوية هي أن يكونوا في عذاب. ولذلك فإن الرب و الرجل الغني ذهبا كلاهما إلى الهاوية (أعمال ٢: ٢٧؛ لوقا ١٦: ٢٣). خرج المسيح منها؛ والغني سيفعل ذلك عندما يُقام للدينونة الأبدية. الهاوية كحالة توجد بين الموت والقيامة. الكلمة بحد ذاتها لا تشير لا إلى بركة ولا إلى تعاسة. الحالة هي بركة مدركة للمؤمنين وبؤس مدرك لغير المؤمنين ١٢.

إن "المفاتيح" تشير إلى سيادة المسيح الكاملة على أجساد وأرواح الجميع. والحق بأن "يفتح" و"يغلق" تشير إلى سلطته الكاملة المطلقة على الموت وعلى الهاوية، السجّانان الشخصيان على الموتى، ويمارس يسوع هذا الحق لمسرته الجليلة. ما عاد لإبليس أو الشيطان الآن قدرة الموت أو سلطة الموت (عب ٢: ١٤). لأن قوة "المفتاح" هي رمز للسلطة التي لا يمكن مقاومتها. انظر أشعياء ٢٢: ٢٢؛ متى ١٦: ١٩.

تقسيم ثلاثي الأجزاء للسفر. تكرار الأمر بالكتابة:

١٩- "فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائنٌ، وَمَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا".

يجب أن نلاحظ أنه بين الأمر الأول بالكتابة (الآية ١١) والأمر الثاني (الآية ١٩)، لدينا الظهور المجيد للمسيح وترائيه ليوحنا الرائي برؤيا (الآيات ١٢- ١٦)، وهذا ما كان عليه أن يُدوِّنَه. إن البدء بـ "فـ" في "فاكتب" أو "لذا اكتب"، أمر لافت وهام هنا، لأن من يأمر بالكتابة يظهر أنه ذو وقار وكرامة كبيرين. إن العظمة الإلهية، ممتزجة بالحنو البشري عند الرب، قد فعلت عملها الأخلاقي القدير في نفس يوحنا؛ ومن هنا يأتي إدخال كلمة "لذا" أو "فـ" بشكل يظهر ارتباط الأمر بالعزاء الإلهي، وهذا يتبدى في آيتين هما الأجمل في سفر الرؤيا (الآيات ١٧ و١٨).

الأقسام الثلاث الكبرى:

إن التقسيمات الكبرى للسفر مكتوبة هنا لتعليم كنيسة الله. "مَا رَأَيْتَ" تشير إلى رؤيا المسيح التي تمت للتو (الآيات ١٢- ١٦). وعبارة "مَا هُوَ كَائنٌ" تشير إلى الملامح العديدة المتعاقبة الواسعة الانتشار للكنيسة المعترفة، ولعلاقة المسيح بها، إلى حين رفضها النهائي، الذي لم يتم بعد (الأصحاحات ٢ و٣). "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". هذا الجزء الثالث يشير إلى العالم واليهود، وأيضاً الكنيسة المرتدة الفاسدة، أي التي سوف "يتقيأها" الله من فمه، التي سيتكلم الله عنها في هذا الجزء النبوي من الرؤيا (٤- ٢٢: ٥).

ما من شيء ساهم أكثر في إلقاء الشك على الدراسات النبوية من المبدأ الخاطئ الذي كان يُعتمد لفهم هذا السفر. وفي ما يلي مفتاح التفسير معلق على الباب. فخذوه واستخدموه وادخلوا إلى التفسير. هناك بساطة وتماسك وتناغم في تقسيم المحتويات الرئيسية للسفر إلى ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. لا يمكنك أن تلتقط أحداثاً من المستقبل، أو الجزء الثالث، وتضعها في الجزء الثاني. فكل قسم فيه مجموعة الأحداث الخاصة به، فإن نقلتها من مكان إلى آخر فإنك إنما تلوي وتحرف الكتاب المقدس. فتح الأختام، ونفخ الأبواق، وسكب الجامات، هي، إضافة إلى أحداث نبوية أخرى عديدة، تقع في الجزء الثالث، أي متضمَّنة في الزمن المفترض في الأصحاحات ٤- ٢٢: ٥، وهذا يفترض نهاية فترة الإقامة المؤقتة للكنيسة على الأرض.

الأقسام لا تتداخل مع بعضها. القسم الأول هو رؤيا كاملة متكاملة بحد ذاتها. والثاني متميز كما الأول والثالث. الأطوار المتعاقبة في تاريخ الكنيسة، والمتابعة من نهاية القرن الأول، هي سرد كامل وشامل بحد نفسها. القسم الثالث فيه خطوط نبوية واضحة جداً لا يمكن تطبيق تفاصيلها أو مبادئها على الحاضر. "مَا هُوَ كَائنٌ" تسير في مجراها. الكنيسة لم تتميز أو يُقر بأنها لله بعد، وتاريخها رتبه بحسب التسلسل الزمني الذي أوحى به الروح القدس في الأصحاحين ٢ و٣، وليس له علاقة باليهود والأمميين الذين تنطبق عليهم الأختام والأبواق والجامات. أدخل هذه الآن فتجعل كنيسة الحاضر عرضة للدينونة الشرعية، التي ليست هي هكذا تماماً في الواقع. إنها الرفض الكريه للكنيسة المعترفة (٣: ١٦) التي تنهي تاريخها كشاهد عام لله على الأرض، وتدخلنا إلى المشهد النبوي للأيام الأخيرة. تملأ الكنيسة الفراغ بين قطع العلاقة مع إسرائيل والعودة إلى التعامل الإلهي مع الشعب القديم. تاريخ الكنيسة يشكّل باختصار "مَا هُوَ كَائنٌ"، بينما الأزمة النبوية ما هي إلا بضعة سنوات من الفترة التي يغطّيها "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". يميز التاريخ القسم الثاني النبوءة هي الملامح المميزة للقسم الثالث. وتاريخ الكنيسة لحوالي ١٩ قرناً يصوّر بشكل تصويري فعال في الأصحاحين ٢ و٣.

في ما يتعلق بالأحداث السياسية الكبيرة التي ستجري نجد كشفاً عنها في الأصحاحات ٦- ١٩. السلطة المدنية المرتدة، ومملكة يهوذا المتمردة الآثمة، والزانية- فساد الأرض- هي الموضع الخاص لتعاملات الله العنائية في الدينونة. كان هناك سعي للتمييز بين النبوءة "المحققة"، و"غير المحققة". كل النبوءة متمركزة في خاتمة الأسبوع السبعين من دانيال (الأصحاح ٩: ٢٥- ٢٧)، رغم أنها قد تكون قد بدأت قبل قرون. دمار أورشليم على يد الأمميين تنبأ عنه الرب قبل ٣٧ سنة قبل استيلاء تيطس (لوقا ٢١)، وتبلغ الذروة في نقطة التجمع الكبير ذاك لكل النبوءة، مجيء ابنا الإنسان (الآية ٢٧). ولذلك فما من نبوءة كان فيها تحقيق كامل. الخيوط المقطوعة في النبوءة تبدأ من جديد مع إسرائيل بعد ختام مرحلة الكنيسة. مبادئ الارتداد المستقبلي موجودة بشكل فعال؛ والظروف تفعل فعلها، وقد تكون بعض الأسباب الرئيسية للأزمة النبوية الحية حالياً والحاضرة للفعل عندما يبدأ الشيطان بلعب دوره الفظيع. ولكن طالما أن الكنيسة تُعطى اعتباراً خاصاً ويُعترف بها على أنها لله فإن التحقيق الكامل للشر يُعوّق. الروح القدس في الكنيسة هو المحك الرئيسي لاندلاعات الشر الفظيعة، أي نكران السلطة الإلهية بمجملها (٢ تسا ٢: ٧، ٨). الأشياء التي ضمن "مَا هُوَ كَائنٌ" يجب أن تنتهي بالضرورة قبل أي حدث نبوي يقع ضمن "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". إن ما هو حاضر يمنع تطويق ما هو من المستقبل ما خلا السلطة الأخلاقية الحاضرة.

سرّ الْكَوَاكب والمناير:

٢٠- "سرُّ السَّبْعَة الْكَوَاكب الَّتي رَأَيْتَ عَلَى يَميني، وَالسَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة: السَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ هيَ مَلاَئكَةُ السَّبْع الْكَنَائس، وَالْمَنَايرُ السَّبْعُ الَّتي رَأَيْتَهَا هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". كلمة "سرّ" وحدها تُستخدم في العهد الجديد وترمز إلى ما هو سري أو خفي إلى أن يُعلن في وقت معين وعندها لا يعود سراً. ولكن هناك حقائق معينة حتى بعد الإعلان عنها يبقى الحديث عنها على أنها أسرار، لأنه ما من أحد سوى الذين يعلّمهم الله يمكنهم أن يفهموها أو يعرفوها. ومن هنا فإن أسرار ملكوت الله (متى ١٣)، مغلّفة بالأمثال، واضحة كضوء الشمس للتلاميذ، بينما مُظلمة كمنتصف الليل لغير المؤمنين (الآيات ١١، ١٣). لنأخذ مثلاً آخر. جهور حلم العالم المسيحي بعالم متحسن وقابل للتحسن، هم يحرّفون فعلياً كلمة "خميرة" التي تشير إلى الشر (١ كور ٥: ٨؛ غلا ٥: ٩؛ مت ١٦: ٦)، للإشارة إلى المعنى المضاد له، الخير. إن الهيئات العديدة العلمية والثقافية والدينية يتم الحديث عنها على أنها "خميرة"، ستعمل بمرور الوقت على التجديد الروحي والأخلاقي في العالم. ومع ذلك فإن الكتاب المقدس يتحدث عن هذه على أنها بلا شك: "سِرَّ الإِثْمِ الآنَ يَعْمَلُ". ليس "سرّ الخير"، بل "سِرَّ الإِثْمِ". عمل الشر السري لا يزال آخذاً في النضوج و"ابن الخطيئة" يظهر- تطوره العلني وتعابير الحياة- بالنسبة للمؤمنين حقائق معروفة جيداً وراسخة، بينما الجمع، الذين يحملون الاسم المسيحي شكلياً، يسخرون منهم. "السر" إذاً يدل على ما بقي سراً أو مخفياً، وفقط أولئك الذين لهم فكر المسيح يفهمونه.

في الآية ١٦ يقول: "في يَده الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكبَ" وفي الآية ٢٠ يقول: "السَّبْعَة الْكَوَاكب عَلَى يَميني". الفكرة هي أن الآية الأولى تشير إلى ضمانهم وبركتهم، بينما الأخيرة فيها إعلان عام عن المسيح: فهو يرفعهم.

ولكن لماذا تشير الكواكب إلى الملائكة؟ في التعليق على الآية ١٦ رأينا أن الكواكب تمثّل الحكام الروحيين للكنيسة، وهم أشخاص بارزون مسؤولون عن الشهادة لله في ظلمة الليل الحاضر من تاريخ الكنيسة. ولكن أفكاراً إضافة تم اقتراحها من ناحية الكواكب باعتبارهم ملائكة. كلمة "ملاك" بحد ذاتها لا تشير إلى طبيعة، بل إلى منصب أو وظيفة؛ إنها ترمز إلى الرسول. السياق والمعنى الخاص للكلمة يمكنهما وحدهما أن يحددا تطبيق معنى الكلمة على الأشخاص أو على الكائنات الروحية. في لوقا ٧: ٢٤؛ ٩: ٥٢؛ ٢ كور ١٢: ٧؛ يعقوب ٢: ٢٥، الكلمة "ملاك"، أو الجمع منها، يُستخدم للإشارة إلى أولئك الذين يُرسلون في رسائل من مختلف الأنواع. الخدمة هو الميزة الأعظم في جماعة الكائنات الروحية التي تُدعى "ملائكة" (مز ١٠٣: ٢٠، ٢١؛ عب ١: ١٣، ١٤).

ولكن هناك معنى آخر تستخدم فيه كلمة ملاك، أعني بها تحديداً "ممثل أو مندوب". لذا في متى ١٨: ١٠يقول: "انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات". فكلمة "ملائكة" في هذه الحالة لا يمكن أن تعني "رسلاً" بل ترمز إلى أولئك الذين في السماء الذين يمثّلون الصغار الذين يخصون الله. فـ "التمثيل" هو الفكرة. "إنه ملاكه" (أعمال ١٢: ١٥).

٢٠- "الْكَوَاكبُ هيَ مَلاَئكَة". هؤلاء، ليس فقط يشهدون لله في الكنيسة كما تفعل الكواكب في السموات الخاصة بالأرض، بل إنهم ملائكة أيضاً، أو رسلاً من الله إلى الكنائس ومن الكنائس إلى الله، وفوق ذلك، يمثّلون الكنائس المنفصلة في حالتها، وتجاربها، وإخفاقاتها، وحالتها العامة أمام الله. ملاك الكنيسة هو "الممثل الرمزي للتجمع الذي نرى فيه أولئك المسؤولين جميعاً". ومن هنا فمن ناحية المركز الكامل الذي يشغله الكواكب لدينا فكرة ذات ثلاث جوانب مندمجة مع بعضها: الحاكم الروحي، قناة التواصل الإلهية والبشرية، والتمثيل الأخلاقي أمام الله. "السَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة" ترمز إلى أن الكنيسة كاملة روحياً أمام الله، أي أن الغاية الأساسية منها وموقفها هو بحسب طبيعة الله، وأن رسالتها هي أن تشرق بنوره.

٢٠- "الْمَنَايرُ السَّبْعُ هيَ السَّبْعُ الْكَنَائس". لا يمكن أن يكون هناك أي شك في ذهن القارئ الحريص المتأني للأصحاحات الثلاثة الأولى من الرؤيا في أن تكون هذه الكنائس السبع التي في آسيا ككل تمثّل الكنيسة العالمية العامة، وفي نفس الوقت يرى الجماعات الكنسية المنفصلة والمستقلة بذاتها على أنها مستقرة ومستندة على أساس خاص بها وأنها مؤهلة كل منها لوحدها لتكون للرب ليمشي في الوسط. إنه في وسطهم للتوبيخ، وللتصحيح والتقويم، وللتشجيع. كل عمل في الكنيسة من قبل شخص رفيع المستوى وعالي المكانة يشهد له الرب الذي لا ينعس ولا ينام أبداً. إن عجرفة الكثيرين من "الإكليروس" من جهة، وديمقراطية "الشعب أو العلمانيين" من جهة أخرى، تدمّر الكنيسة بسرعة في الظاهر ولذلك فنادراً ما تظهر للعالم السمة الحقيقية للكنيسة. نشكر الله على أن ما يبنيه المسيح حصين (متى ١٦: ١٨) ومحبوب (أفسس ٥).


١. - يتم الحديث أحياناً عن هذا السفر أو الإشارة إليه على أنه "رؤى". ولكن الإعلانات المحتواة في السفر هي واحدة، وقد نُقلت إلى الكاتب في رؤيا واحدة في يوم واحد، كما نقرأ في (١: ١٠): "كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ". ووحدة كل السفر يمكن التعبير عنها بالعبارة "إعلان".

٢. - لقد كان الوثنيون يستعيرون من اليهود (الطقوس والمعتقدات وأساليب العبادة). وحقائق العهد القديم تكمن حقاً في جذور ما هو صالح في المعتقدات القديمة أو الميثولوجيا عند الوثنيين. ومن هنا نجد واضحاً أن المبدأ العقائدي لديهم في "جوبيتر كان، وجوبيتر يكون، وجوبيتر سيكون" مقتبس عن التفسير الكتابي لأسماء إله إسرائيل، وخاصة "اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ".

٣. - إننا نستنكر بشدة ذلك الاستخدام غير الموقّر (وبالتأكيد غير المتعمد) لذاك الاسم الأغلى على قلبي وأذن المؤمن. هناك عبارات كثيرة مثل "عزيزي يسوع" وغيرها فيها إساءة ضد ذاك الذي هو ربنا ومعلِّمنا. إن لقب الجلالة، "رب" يُستخدم لأكثر من ألف مرة بدلاً من "يسوع". أما هذا الاسم، فحين يُستخدم مدمجاً مع أسماء وألقاب إلهية أخرى، يكون الحال مختلفاً (انظر يوحنا ١٣: ١٣، ١٤).

٤. - الكلمة "يشهد/ شاهد"، في صيغة الاسم أو الفعل، نجدها أكثر من ٧٢ مرة في الكتابات المنسوبة ليوحنا. إنها كلمة مميزة له بشكل كبير جداً.

٥. - يُقال أن فترة كتابة "الإعلان" أو سفر الرؤيا كانت في حوالي العام ٩٦، خلال عهد دوميتيانوس. ولكن البعض يرجع تاريخ الكتابة إلى فترة أبكر: في العام ٤١- ٤٥ م، في حكم كلاوديوس، أو خلال الأعوام ٥٤- ٦٨ خلال حكم نيرون. مهما يكن من أمر إن أقدم تاريخ ليس محتملاً.

٦. - إن الكلمات الثلاث: "الضيقة" و"الملكوت" و"الصبر"، مترابطة مع بعضها بشكل متلاصق قوي، إذ أتت وراء بعضها بعد ترويسة واحدة يسبقها أداة تعريف واحدة في اللغة اليونانية.

٧. - في كتابه "مدخل إلى الكتابات اليوحناوية" (Nisbet ‎& Co )، يناقش غلوغ (Gloag ) هذه الروايات الأسطورية بروح هادئة ومبجّلة. لا بد من وجود بعض الأساس من الحقيقة في بعض تلك الروايات.

٨. - قاموس "Imperial Bible Dictionary "، كلمة ساردِس "Sardis ".

٩. - إن إشارة بولس إلى كنيسة لاودكية (كولوسي ٢: ١؛ ٤: ١٣- ١٦) تقدم مثالاً مناسباً للدلالة على المحبة المسيحية والاهتمام بالقديسين غير المعروفين شخصياً. وإن الآية التي تقول: "ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرأ ايضا في كنيسة اللاودكيين، والتي من لاودكية تقرأونها انتم أيضاً" (الآية ١٦) تشير على الأرجح إلى الرسالة إلى أهل أفسس، التي كانت تُتناقَل بين الجماعات. ومن حقيقة عدم وجود تحيات لأشخاص أفراد ومن طبيعة الرسالة عموماً، يمكننا أن نعتبر على الأرجح أن الرسالة إلى أهل أفسس كانت رسالة متناقَلة، وفي ذلك الوقت كانت قد وصلت إلى لاودكية. من المؤكد أن الرسالة إلى أهل كولوسي قصد بها الرسول بولس أن تُقرأ على كنيسة لاودكية. فالحقائق المحتواة في هذه الرسائل هي أنسب ما يكون لإنقاذ المسيحيين في لاودكية من مخاطر الهلاك التي تحدق بهم. إن الصليب في رسالة رومية وغلاطية كان الحقيقة المحرِّرة الملائمة للقرن السادس عشر. ومجد المسيح السماوي في رسائل أفسس وكولوسي هو الحقيقة العظيمة والمحرِّرة للقرن العشرين.

١٠. - "السراج" مختلف عن "المنارة"، أو لنقل "السراج" مختلف عن "حامل السراج أو الشموع". السراج هو الذي يعطي النور (لوقا ٨: ١٦؛ ١١: ٣٥، ٣٦؛ متى ٥: ١٥). هناك أهمية كبيرة تُعطى لـ "حامل الشموع" أو الشمعدان في المقدس في العهد القديم، كما في الزخرف البسيط فيه، الذي يعلوه نور الروح القدس السُباعي الفروع، الذي يرمز إلى جمالات يسوع بالنسبة للعابدين داخل المقدس.

١١. - إن الكلمة الواردة في خروج ٢٨: ٣١ في الترجمة السبعينية هي نفسها كلمة "إيفود" الواردة في رؤيا ١: ١٣ المترجمة هنا بـ "ثَوْب". ومن هنا نستنتج أن الكاتب يقصد استخدام الكلمة من حيث ارتباطها بالكهنوت.

١٢. - القارئ الذي يرغب في دراسة هذا الموضوع وما شابهه يمكنه أن يحصل على كتاب "حقائق ونظريات عن الحالة المستقبلية"، للمؤلف ف. و. غرانت. يتضمن هذا العمل كشفاً موسعاً للأخطاء الحالية والواسعة الانتشار حول القضايا المتعلقة بالمصير الأبدي للجنس البشري.

الأصحاح ٢

تاريخ الكنيسة من فترة انحطاطها إلى فترة رفضها

ملاحظات حول الخطابات الموجهة إلى الكنائس:

تشير جميع الرؤى الموجودة في سفر الرؤيا إلى المستقبل، ما خلا الأولى أو الافتتاحية، التي لها تطبيق في الوقت الحاضر الحالي. في هذه تتم الشهادة للمسيح وهو في مجده كابن الإنسان وسط الكنائس السبعة (١: ١٢- ١٦). ولكن هل تجاوبت هذه الكنائس في وضعها الفعلي مع المهمة التي خصصها لها الروح القدس لتكون "مناير ذهبية"، وفي الحفاظ على الطابع المقدس لذاك الممجد في وسطهم؟ للأسف، لا. إن الميزات التي اتصفت بها الكنيسة في فجر ميلادها من حيث القداسة والحق والتكرس والترفع عن الدنيويات والقوة والوحدة قد صارت غائبة الآن في غروب أيامها. فقد شعّت لفترة وجيزة كمناير ذهبية ساطعة، ولكنها الآن بالكاد تظهر بصيص نور. الخيانة العلانية الصريحة، التي أخفت نفسها يوماً في قاعة المحاضرات، وبهو العلوم، وفي كرسي البروفسور قد تقيم الآن بحجرية وعلانية في الكنيسة، في منبر الوعظ، وفي قاعة المقدسات ١..

أفسس المسرح القديم

في هذه الرسائل والخطابات، التي استدعتها حالة الكنائس، يتكشف واضحاً موضوع الانحطاط، ومفارقة القلب للمسيح (٢: ٤). وبنتيجة المشاعر الفاترة، فإن التوق إلى عودته شخصياً من السماء آخذة في التضاؤل (متى ٢٤: ٤٨)، ولذلك فإن الباب مفتوح للعدو ليدخل. تاريخ الكنيسة الخارجي كما يوصف هنا قد تم تأكيده بإسهاب في الروايات المعاصرة. في الماضي كان باب الكنيسة مدعم بمزلاج ومغلق عليه بقوة ضد دخول الشر والشيطان؛ أما الآن فعرش الشيطان وسكناه هما في الكنيسة نفسها (٢: ١٣، ٢٠: ٢٤). العتمة الأخلاقية سرعان ما تستقر في هذه الأراضي الممسحنة، ولسنا بعيدين عن أيامه الأخيرة، إذ تتنصل المسيحية من واجباتها. عندما يتخلى المسيح عن الكنيسة كإناء نور خاص له وشهادة له تصبح الكنيسة عرضة بشكل خاص للدينونة الإلهية.

في الصورة المصغرة لتاريخ الكنيسة كما تصور في هذه الأصحاحات ليس هناك تفاصيل كثيرة، بل نمو لأشكال عامة من الشر. هناك فكرة وحيدة رائدة تبقى ثابتة أمام ناظرينا، ألا وهي علاقة المسيح بحالة الأشياء، مقدماً نفسه لكل جماعة بطابع يناسب حالتها.

مؤرخ "أزمنة الأمم" هو دانيال. ومؤرخ الكنيسة هو يوحنا. الأول جاء لأجل نقل تعليم خاص لشعب دانيال، أي اليهود. أما الأخير فلمنفعة كنيسة الله. التطبيق في هذه الخطابات والرسائل يمتد إلى كل الكنيسة وكل من له أذنان للسمع. المنفعة الروحية المستمدة من الدراسة الجدية والقلبية لهذه الرسائل إلى الكنائس المعينة بالاسم هائلة، وكانت دائماً وأبداً مفيدة للقراء المصلين.

في هذه الرسائل هناك مبدأ يُقدم يحدد حالة الكنيسة الفعلية في أي وقت. تاريخ الكنيسة وتجربتها يأتي بين إعلان موقفها الأصلي في بركة الله الكاملة، ومصيرها النهائي المتعلق بالمسيح في المجد. والآن ماضيها ومستقبلها هو المبدأ الذي تُدان عليه حالياً. يا للتغاير الكائن بين ما كانت عليه الكنيسة وما هي عليه الآن! كم يختلف عنها ذلك المجد الساطع الذي ينتظرها! في الرسائل إلى الكنائس الثلاثة الأولى، تُدعى هذه الكنائس إلى التوبة "من أين سقطت"، بينما في الرسائل إلى الكنائس الأربعة الأخيرة هناك عودة إلى الحالة الأصلية تعتبر مستحيلة، وينشأ الأمل بمجيء الرب، الذي لا يُشار إليه مباشرة في الرسائل الكنسية السابقة.

الرياء والخيلاء في الكنيسة وابتعادها عن محبتها الأولى ميزت خاتمة الحقبة الرسولية- أفسس (٢: ١- ٧). ثم تلتها حقبة الشهداء، التي تودي بنا إلى خاتمة الاضطهاد العاشر والأخير، تحت حكم ديوكليتيانوس- سميرنا (٢: ٨- ١١). تناقص الروحانية وتزايد الاهتمامات الدنيوية سارا جنباً إلى جنب منذ ارتقاء قسطنطين للعرش ومناصرته علناً للمسيحية وصولاً للقرن السابع عشر- برغامس (٢: ١٢- ١٧). إن فترة الكنيسة البابوية التي هي تحفة الشيطان على الأرض، تشهد عليها انتحال السلطة العالمية الكونية والاضطهاد القاسي لقديسي الله. عهد حكمها الشرير يغطي فترة "العصور الوسطى"، الميزات الأخلاقية التي تميزها في حالتها المظلمة. إن البابوية تفسد كل ما تلمسه- ثياتيرا (٢: ١٨- ٢٩). كان الإصلاح هو تدخل من الله بالنعمة والقدرة لشل السلطة البابوية، وليدخل إلى أوربا النور الذي ظل يُشع في أوربا لمدة ٣٠٠ سنة. إن البروتستانتية، بتفرعاتها وجمودها، تظهر بوضوح كم كان يعوزها مثال الله عن الكنيسة والمسيحية- ساردس (٣: ١- ٦). إصلاح آخر، متساوق مع عمل الله، ميز بداية القرن الماضي- فيلادلفيا (٣: ٧- ١٣). الحالة الحاضرة العامة للكنيسة المعترفة التي تتميز بالفتور هي أكثر أمر بغيض ومغث أمكن وصفه على الإطلاق. ولعله يمكن أن نسم هذا الطور الأخير من تاريخ الكنيسة في عشية دينونة فترة الإلحاد- بأنها حالة كنيسة لاودكيا (٣: ١٤- ٢٢).

لاحظوا أن تاريخ الكنائس الثلاثة الأولى مترابط منطقياً، بينما تاريخ الكنائس الأربعة الباقية متداخل، ثم يسير بانسجام عملياً إلى النهاية، إلى مجيء الرب. أمر آخر جدير بالانتباه، ونختم هذه المجموعة من الملاحظات. العنصر الإلهي، الذي يُرمز إليه العدد ثلاثة، هو الفكرة المسيطرة في أول مجموعة من الكنائس، بينما العنصر البشري يدخل بشكل كبير وأكثر في المجموعة الثانية التي يدل عليها العدد أربعة.

خطاب الروح القدس لكنيسة أفسس

(الأصحاح ٢: ١- ٧)

١-"اُكْتُبْ إلَى مَلاَك كَنيسَة أَفَسُسَ". إننا نجد نفس الصيغة من الكلمات تتكرر في مقدمة كل رسالة موجّهة على الكنائس السبع. في ٢: ١ نقرأ "كَنيسَة أَفَسُسَ"، وفي ٣: ١٤ نقرأ "كنيسة اللاَّوُدكيّينَ"، ولكن في ترجمات أخرى، نقرأ صيغة أفضل وأصح وهي "كَنيسَة أَفَسُسَ" و"كنيسة لاودُكية". الكنائس في هذه المدن كانت مؤلفة من المسيحيين المعترفين، وليس من السكان الوثنيين، كل رسالة من الرسائل موجهة على "ملاك" الكنيسة. وفي هذه الرسائل لدينا صوت الروح  القدس إلى الكنائس (الآية ٧، الخ)، وصوت الرب نفسه، ولكنهما لا يتحدثان إليها مباشرة. كتب بولس إلى القديسين في أفسس (أفسس ١: ١). وكتب يوحنا إلى ملاك الكنيسة. لماذا؟ الألفة تميز رسالة الأول. والتباعد يميز الأخير. ومن الأسباب الأخرى لأسلوب الجفاء المستخدم في رسالة يوحنا يتجلى في حقيقة أن الكنيسة كانت قد انحدرت إلى مستوى متدن جداً أخلاقياً حتى أن الرب ما أمكنه أن يخاطبها إلا من خلال ممثليها أو ملائكتها، وهؤلاء ليسوا كائنات روحية، بل بشر.

يكتب البعض، مثل دين ألفورد، مجادلاً في شأن حراسة ملائكة حقيقيين على الكنائس، ويعتبر أن هؤلاء الملائكة الحراس هم الذين يتوجه إليهم الخطاب هنا. ولكن هكذا نظرية تبدو لنا بعيدة عن الواقع ومتعذر إثباتها أو الدفاع عنها. الروح القدس على الأرض والرب في الأعالي يجعلان الكنيسة موضع عنايتهما الخاصة. القوى الروحية في الأماكن السماوية تتعلم من خلالها حكمة الله المتعددة الجوانب (أفسس ٣: ١٠)؛ ودروس أيضاً، عن الطغمات السماوية، تُعطى لهذه الكائنات السماوية (١ كور ١١: ١٠). ولكن عناية الكنيسة عُهد بها إلى أي أعلى وأفض من تلك التي للملائكة. إضافة إلى ذلك، سيكون من السخف أن نفكر بأن الملائكة تخفق في تحقيق واجباتها. إنهم "فَاعِلون أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ" (مزمور ١٠٣: ٢٠)؛ في حين أن الملائكة في الكنائس ملامون عن الحق لأنهم مسؤولون عن الحالة الأخلاقية المتبدية للعيان هنا. ولذلك نسمع الكلمات إلى الملاك أن: "عندي عليك"، "فاذكر من أين سقطتَ وتبْ"، الخ. تبدو متعذرة التطبيق على ملائكة الله الذين يُقال عنهم أنهم "مختارون" و"مقدسون"، ولذلك فهم محفوظون من السقوط. على كل حال، من المفهوم أكثر والشائع أكثر أن القول "ملاك" يرمز إلى أسقف، أو شيخ يتمتع برئاسة. ولكن الكتاب المقدس لا يقدم أي معلومات ولو ضئيلة تشير إلى أسقف أبرشية أو أسقف متقدم في الكنيسة. الشيوخ أو الأساقفة يشيرون إلى نفس الأشخاص (أعمال ٢٠: ١٧، ٢٨). كلمة "شيخ" توجه انتباهنا إلى العمر والخبرة للإنسان، بينما كلمة "أسقف" أو "مشرف" أو "ناظر" فتشير إلى المراقب الروحي. فالإنسان وعمله إذاً يُرمز إليهما باستخدام الكلمات "شيخ" و"أسقف". كان الشيوخ يُصيّرون أساقفة، وكان هناك عديدون من هؤلاء في كنائس متنوعة، كما في أفسس (أعمال ٢٠: ١٧) وفي فيلبي (فيلبي ١: ١). وإن تيموثاوس، وانِسِيمُسَ، ويوحنا كان لديهم الكرامة المشكوك فيها من قِبل رجال الله المفكرين في أن يكونوا بعد عصر بولس الملائكة الجديرون بالاحترام في كنيسة أفسس.

التأكيد على التطبيق الضروري لكلمة "ملاك" على الأسقف أو الشيخ يصير أمراً قسرياً؛ وإضافة إلى ذلك، فإن الرمز الآخر المستخدم للإشارة إلى نفس الأشخاص، أعني "الكواكب" (١: ٢٠)، سيمنع هكذا تطبيق حصري للمعنى. إن "الكواكب" معينة لكي تشرق، ولتعكس نور السماء في ظلام الليل في تاريخ الكنيسة. الشخص الذي يحتل مكانة رسمية أعلى في الكنيسة لا يمكن أن يكون "الكوكب". إننا نعتبر أن ملاك الكنيسة يمثل رمزياً الجماعة في حالتها الفعلية. الفكرة هي التمثيل. ولذلك، ففي هذا السفر، نجد أن للمياه (١٦: ٥)، والرياح (٧: ١)، والهاوية (٩: ١١)، والنار (١٤: ١٨)، لكل منها ملاك يمثلها. وبناء على هذا الرأي، إن ملاك الكنيسة قد يرمز إلى أكثر من شخص واحد. إننا نؤكد على ملاحظة أن التمثيل، ليس الرسمي بل الأخلاقي، هو الفكرة التي يُراد نقلها من كلمة "ملاك" كما تُستخدم في السياق مع الكنائس السبعة. ولذلك، ففي حين أن الروح القدس حاضر في كل كنيسة محلية، والكنيسة هي بالإجمال، فإن كل كنيسة يتم مخاطبتها من خلال ممثلها، وسنكتشف عموماً أن معظم جماعات القديسين هناك هم أولئك يعيشون أخلاقياً في معزل كلي عن المناصب الرسمية.

السَّبْعَةَ الْكَوَاكبَ و السَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة:

١- "هَذَا يَقُولُهُ الْمُمْسكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكبَ في يَمينه، الْمَاشي في وَسَط السَّبْع الْمَنَاير الذَّهَبيَّة". الألقاب الوصفية التي يطلقها المسيح على كل كنيسة تكاد تكون مأخوذة كلياً من الرواية المفصلة التي تتناول شخصه كما يُصور في نهاية الأصحاح الأول. في (١: ٢٠) الكواكب تظهر "على" يمينه؛ وفي (٣: ١) "له" الكواكب؛ ولكن هنا نجد فعلاً أقوى يتم التلميح إليه، فهو "يُمسك" بها. الكواكب هم حملة نور الكنيسة. إنهم يستمدون نورهم منه، وهم خاضعون لسيادته وسلطانه، إذ يمدهم بأسباب الحياة. إنه يرشدها ويتحكم بها ويمسك بها بإحكام. يا لها من قوة أمام الخادم المجرَّب! وكم مناسب المعنى أيضاً بأن السلطة المطلقة للمسيح على جميع المسؤولين عن أن يشرقوا لأجله خلال عتمة غيابه الكالحة يجب أن يتراؤوا عند بدء هذه الصورة المصغرة عن تاريخ الكنيسة في هذين الأصحاحين.

مكان ربنا في الكنيسة (١: ١٣) هو في "الوسط" بين المناير الذهبية السبعة؛ ولكنه هنا يمشي في وسطها، منتبهاً لكل صعوبة يتعرض لها الفرد أو الجماعة. إنه يراقب إذا ما كانت المناير تشرق أو تنير. إنه حاضر لمؤازرة آنية الشهادة. ومعونته متوفرة في الحال في كل ظرف عند الحاجة. سوف لن تجد الكنيسة نفسها أبداً في وضع تحرم منه من خدمة المسيح الفعالة، الذي يسير في الكنائس ووسطها، ملاحظ طرقها، ومانحاً المديح أو اللوم لها. إنه يزين كل منارة، ولكن إن ثبت عدم إخلاصها بالكلية، فإنه قد ينتزع منها تلك المسؤولية على الأرض. إلا أن هذا الطابع من الحق لا يضعف الضمان الأبدي للكنيسة، والتي لن تقوى عليها أبواب الجحيم (متى ١٦: ١٨)، ولن تتمكن من أي عضو منفرد من ذلك الوقت (رومية ٨: ٣٨، ٣٩).

الممتدَحون:

٢، ٣- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدرُ أَنْ تَحْتَملَ الأَشْرَارَ، وَقَدْ جَرَّبْتَ الْقَائلينَ إنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذبينَ. وَقَد احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعبْتَ منْ أَجْل اسْمي وَلَمْ تَكلَّ". إن الرب يمتدح قبل أن يوبّخ. إنه يحب أن يقدّر ما تكون النعمة- نعمته- قد فعلته في نفوس وطرق شعبه. في هذه الرسائل نجد شهادة عن الكنيسة في مسيرها نحو الانحدار، متحولة من حال سيء إلى حال أسوأ. أما الرب فهو لا يتبدل ولا يتغير. إنه يحب أن يطري على قديسيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً في أي وقت وفي أي مكان، وإن كانت الأمور تنحرف على اكتمالها وتحقيقها النهائي فإن هذا لا يعيق الإقرار الكامل لعمل الروح القدس في كل مكان وفي كل قديس. إن ثمر الروح يجب أن يُلفت الانتباه أكثر من أعمال الجسد. فكونوا دائماً على استعدادا للاعتراف من القلب وبحماسة وللتعبير بجزالة عن كل ما هو صالح ورائع، خاصة عندما يكون الشر موجوداً.

"أَنَا عَارفٌ"، تتكرر سبع مرات، وتعلن معرفة الرب المطلقة بحالة وظروف شعبه. وعندها يقول: "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ". وفي هذه يتفاوت الناس. ولكن يجب على كل عمل أن يترافق مع الجهد أو "الصَبْر"، أو يكون ثمرة له، كما يجري الحديث هنا. إن الدرس المسيحي الأول هو الصبر (التحمل) (رومية ٥: ٣)، و"الكثير" منه هو أول سمات الخادم الحقيقي لله (٢ كور ٦: ٤). والصبر والتحمل يليه عدم التساهل مع الأشرار. الصبر نحو الضعفاء، المبتلين بالتجارب والمعارضة، لم يجعل الكنيسة لا مبالية تجاه الشر؛ لقد تم استنهاض الطبيعة الأخلاقية. إضافة إلى ذلك، لقد اختبروا ما ادعاه البعض عن توافق مع الرسل، وهذا قاموا به بشكل كامل تماماً لدرجة أن كل ادعاء كاذب قد انكشف على ضوء هذه العلائم التي كانت تميز رسل الرب (١ كور ٩: ٢؛ ٢ كور ١١: ١٢). إن كلمة "جرَّبتَ" تعني "اخترتَ" أو وُضعتَ على المحك (٢ كور ١٣: ٥؛ ١ يوحنا ٤: ١). "وَجَدْتَهُمْ كَاذبينَ". عن الادعاء الذي لا أساس له لهؤلاء المدعين أن لهم مهمة رسولية وسلطة قد نُقض تماماً، والرجال أنفسهم تمّ وصفهم بـ "الكاذبين"، أو كما يقول بولس: "رسل كذبة" (٢ كورنثوس ١١: ١٣).

يا لهذا الإطراء الغير المحدود! إنها إعلانات غنية وافرة كمثل سابقاتها، ومع ذلك فهناك الكثير أيضاً سيلي ذلك. لم يكن هناك تحمل وصبر فقط، بل إنه استمر، "لَكَ صَبْرٌ"، وكان لا يزال كائناً حتى عندما كتب الرسول عبد الله (يوحنا). إضافة إلى ذلك، "تَعبْتَ منْ أَجْل اسْمي". لقد عانوا الكثير، وتعرضوا للتجربة على نحو موجع، ولكنهم جميعاً احتملوا بابتهاج لأجل اسم يسوع المسيح. وبفضل ذلك الاسم نفسه غُفرت خطاياهم (١ يوحنا ٢: ١٢).

وأخيراً، "لم يكلّوا". لم تكن لديهم أي فكرة بالاستسلام أو التخلي خلال صراعهم مع الشر؛ لم يكلوا في جهادهم، ولم يكلوا بسبب هذا النضال. يا لها من صورة جميلة من التكرس تروق للمسيح! ولكن ماذا عن ينابيع هذه الفعاليات المقدسة؟ لا تُذكر؛ ليس لأنهم ضعفاء بالكلية، وإلا ما كانوا لينالون المديح. ما هذه الينابيع الروحية للحياة والفعالية المسيحية؟ إنها واضحة في أول رسائل بولس: "متذكّرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح، أمام الله وأبينا" (١ تسالونيكي ١: ٣). كان هناك عمل، وتعب، وصبر يُشهد عليه في جماعة أفسس، ولكن "العمل" سيبدو منفصلاً عن "الإيمان"، مصدره الأخلاقي؛ و"التعب"، أيضاً، يظهر وكأنه لا يستمد قوته كاملة من "المحبة"، التي هي فعالية الطبيعة الإلهية، نفس الجو الذي ستعيش فيه الكنيسة والمسيحيين ويعملون؟ وإن "الصبر"، الذي امتُدح أهل أفسس عليه مرتين (٢: ٢، ٣)، لا يُذكر مرتبطاً بـ "الرجاء"، منبعه وطاقة الحياة فيه.

الملامونَ:

٤- "لَكنْ عنْدي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى". ها هنا ينكشف جذر الإخفاق في الكنيسة وعند الأفراد؛ إنه ابتعاد القلب عن المسيح. عن الذهب الصافي صار باهتاً. والوردة أخذت في الذبول. أول ثمرة تُذكر من ثمار الروح هي المحبة (غلاطية ٥: ٢٢)، وتلك كانت قد صارت على صورة باهتة، ومع ذلك ففي أيام بولس كانت كيسة أفسس متميزة بـ "المحبة نحو جميع القديسين"، محبة ولّدتها المحبة. المحبة، جوهر المسيحية الأساسي (١ كور ١٣)، وتاجها أيضاً، ومجدها المميز، عندما تكون هذه ناقصة فإن القدرة الأخلاقية لحياة الكنيسة والأفراد تتلاشى. قد تظهر الأمور جميلة وواعدة ظاهرياً، ولكن وحدها العين الكلية المعرفة يمكنها أن ترى النقص في الداخل، وبرودة القلب تجاه المسيح. "تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى"، كانت هذه هي أول خطوة تخطوها الكنيسة في مسيرة انحطاطها (قارن مع متى ٢٤: ٤٨). فقدان المحبة الصافية أمر خطير، ولا يمكن أن يُكتفى باعتباره أمراً مسلّماً به. "لَكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ"- لقد تخلّى عن المحبة الأولى. "لَكنْ عنْدي عَلَيْكَ قَليلٌ" (الآية ١٤)- لقد سُمح لبعض الأشخاص للبقاء في وسط الجماعة وهم يتمسكون بتعاليم بلعام، وآخرون يتمسكون بتعاليم النقولاويين. "لَكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ" (الآية ٢٠)- لقد أعطت إِيزَابَلُ المجال للفساد بتعاليمها البغيضة. لاحظ أنه في كل مثال نجد العبارة "لَكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ" توضع في تضاد مع التأييد الذي يُمنح بتحفظ.

مهدَّدون بالدينونة:

٥- "فَاذْكُرْ منْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَل الأَعْمَالَ الأُولَى، وَإلاَّ فَإنّي آتيكَ عَنْ قَريبٍ وَأُزَحْزحُ مَنَارَتَكَ منْ مَكَانهَا، إنْ لَمْ تَتُبْ". إن لدى الرب سبب محدد إيجابي يجعله يتذمر ضد الملاك. "عنْدي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى". إنه الأمر الوحيد الذي تُلام عليه أفسس، ولكن يا لخطورة الوضع! إن تحطم الكنيسة المعترفة القادم، ورفضها العلني والمغث من قِبل المسيح يُتتبع هنا إلى جذره، ألا وهو أن المحبة الأولى قد اندثرت. إن الرب لا ينسى أبداً مسرته بالمحبة الأولى التي كانت لدى شعبه نحوه. "هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ ذَكَرْتُ لَكِ غَيْرَةَ صِبَاكِ مَحَبَّةَ خِطْبَتِكِ ذِهَابَكِ وَرَائِي فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَزْرُوعَةٍ" (إرميا ٢: ٢). محبة يهوذا الأولى لا ينساها الرب أبداً؛ محبة الكنيسة الأولى أيضاً يتذكرها الرب بنفس الدرجة، ويرغب بها أيضاً، وهذا هو معنى "أفسس". والآن إن كان يجب تجنب التهديد بالإدانة لابد من أن يكون هناك لـ "المحبة الأولى"، و"الأَعْمَالَ الأُولَى"، ومن هنا فإن اللومين الضروريين لهذه الغاية هما: "اذْكُرْ" و"تُبْ". تذكر السمو الأخلاقي الذي كنتَ عليه يوماً، وتذكر مستويات الحب العالية، "جَبَلِ الْمُرِّ" و"تَلِّ اللُّبَانِ" التي وطئتهما يوماً محبة بذاتك. إلى أي مستوى قد انحدرت. تُب إذاً. احكم على حالة القلب التي قادت إلى أول خطوة في طريق الانحدار. ومن هنا فإن التذكر والتوبة تقدّمان هنا على أنهما العاملان الضروريان للشفاء من حالة الارتداد والفتور. يجب حذف كلمة "سَريعاً". فثمة وقت طويل يُمنح له للتجدد. إزالة السراج كحامل للنور يُضعف مسألة الضمان الأبدي لكل أولئك الذين يبنون على المسيح- صخرة الدهور. إن أردنا الحديث عموماً عن المسألة، يمكننا القول على أن المصابيح التي كانت يوماً ساطعة بإشراق، وخاصة في مدينة أفسس المشهورة، قد أُزيلت من مكانها، وقد حلّت محلها عتمة الإسلام الهائلة التي تحيط بهذه المدن السبع في آسيا. وهناك مثل هذه الإزالة في انتظار المسيحية المعترفة في الغرب. فعدم الأمانة والإخلاص، سواء عند الأفراد أو الجماعات، سوف تُدان، وحالة أفسس الحالية البائسة المعروفة باسم (أغيوسالوك)، هي درس للجميع ليتعلموا منه. هل استمر العالم المسيحي في صلاح الله وبرّه؟ لا، و"ظَلاَماً دَامِساً" سيحلّ على هذه الأراضي، التي كانت يوماً ما ساطعة بنور الإنجيل (أشعياء ٦٠: ٢). بالنسبة إلى التفسير الذي تبنيناه في هذا العرض نعتبر أفسس على أنها تمثل الكنيسة في طور خاص من تاريخها، ألا وهي تلك الحالة الكائنة في نهاية القرن الأول. يسرنا أن نعرف أن المحبة والإيمان كانا مضطرمين نوعاً ما، والمنارة متقدة في كنيسة أفسس، حتى أنها أعطت قوة في المجمع المسكوني الثالث (٤٣١ م) الذي أكد على أعظم الحقائق المسيحية ألا وهي تجسد ربنا. ولكن ساعة الهلاك أتت. وعلى نفس المنوال، مُنحت الكنيسة إجمالاً عدة شفاءات جزئية متنوعة، ولكن مصيرها المشؤوم كان ينتظرها لا محالة.

النُقُولاويون:

٦- "لَكنْ عنْدَكَ هَذَا: أَنَّكَ تُبْغضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَويّينَ الَّتي أُبْغضُهَا أَنَا أَيْضاً". الإخلاص العقائدي في كنيسة أفسس ودينونتها التي لا مفر منها بسبب الشر قد صارت أمراً محتوماً (٢: ٣)، أُضيف إليها لوم صريح وشديد (الآية ٤)، وصارت مهددة بالدينونة في نهاية الأمر، دينونة لا يمكن إلا للتوبة وحدها أن تُجنبهم منها (الآية ٥). والآن نجد عرضاً لأحد المواصفات المحددة للشر، التي يبغضها الرب والملاك على حد سواء. غياب المحبة يُرثى له، وأما الكراهية، نقيض الحب، فقد كانت حاضرة. ما كان النيقولاويون مبغوضين، لأنهم كانوا يشاركون في محبة الله العامة (يوحنا ٣: ١٦)، ولكن أعمالهم كانت كذلك، ولأجل ذلك يُمتدح الملاك. لابد أنه كانت لديهم أعمال ذات طابع شرير بلا ريب استدعت كلمة توبيخ صارمة كهذه. فمن كان النيقولاويون إذاً وماذا كانت عقائدهم وأعمالهم؟ ربما يستحيل إعطاء جواب مرضٍ على هذا السؤال. ولكن النيقولاويين كطائفة غير أخلاقية وتعوزهم التقوى جداً كانوا موجدين بلا ريب، ولكن لا يمكن أن نعرف بالتأكيد إن كان نيقولاوس الأنطاكي، آخر "السبعة" (أعمال ٦: ٥)، هو مبتدع هذه الطائفة التي تحمل اسمه. إيريناوس هو أول آباء الكنيسة أو الكتاب الذين يؤكدون على ذلك. ولكن آخرين يعتبرون أن نيقولاوس اتُهم خطأ بإدخال تلك التعاليم والأعمال غير التقية إلى تلك الطائفة؛ أي أكثر الأمور شراً التي وُجدت تحت غطاء المسيحية. إن كان هذا الشماس هو مؤسس هذه الطائفة فعلياً، فلا بد أن يكون قد ارتد عن الإيمان المستقيم بشكل خطير. ولكن لا يمكننا الجزم بهذا بشكل مؤكد. لقد ساد الاعتقاد بأن النيقولاويين كانوا هم أنفسهم أتباع بلعام ٢.. ولكن هذا يصعب فهمه على ضوء الآيات ١٤ و١٥، حيث أن الشريرين يُذكر اسمهما بشكل منفصل. "أَنَّكَ تُبْغضُ أَعْمَالَ النُّقُولاَويّينَ الَّتي أُبْغضُهَا أَنَا أَيْضاً". ويبدو أن هذا كان أكبر الشرين. ولكن جميع الكتاب الأوائل يتفقون على الملامح الأساسية التي كانت تميز هذه الطائفة ذات الطابع البذيء والفاسق ٣.. ولذلك فإن النيقولاوية ستظهر وكأنها جمع بين اعتراف المسيحية وفسق وفحشاء الوثنية. إن الانغماس في لشهوات هو نكران عملي للطبيعة المقدسة في المسيحية، ولا يمكنك أن يتساهل الرب معها، وكذلك كل المخلصين لاسمه الذي هو "الْقُدُّوسُ الْحَقُّ" (الأصحاح ٣: ٧).

وبالنسبة إلى هذا الشر، فإن كنيستي أفسس وبرغامس، وهما الكنيستين الأولى والثالثة، تبديان تضارباً لافتاً وواضحاً. الأولى أبدت اشمئزازاً من هذه الفحشاء؛ والثالثة أوت أتباع هذه التعاليم القذرة. ما كان بغيضاً في كنيسة أفسس كانت تقبله كنيسة برغامس؛ الأولى "الأعمال"، والأخرى "التعليم"، ولكن العقيدة، سواء كانت صالحة أم سيئة، تنتج ثمارها بالتأكيد. ولكن أفسس لن يكون فيها شيء من ذلك. لقد سمحت برغامس بذلك وهذا ما أفسد وسمم منابع النقاء والأخلاقية.

الدعوة إلى السماع:

٧- "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ للْكَنَائس". يرد هذا التحريض سبع مرات. في الرسائل إلى الكنائس الثلاثة الأولى يسبق مباشرة الوعد للغالبين؛ بينما في الكنائس الأربعة الأخيرة فإن الحث يشكل الكلمات الختامية للرسالة الموجهة إلى كل كنيسة. إن الكنيسة ككل معنية في المجموعة الأولى، وهي مدعوة لأن تتوب ٤.. ولكن في المجموعة الثانية تظهر واضحاً حالة الكنيسة البائسة الميئوس منها، ومن هنا فإن جماعة متبقية ستتمايز عن الجماعة، وهذه سيكون رجاؤها الوحيد والأوحد متمحوراً على عودة الرب شخصياً من السماء. من حقيقة أن الدعوة إلى السماع تأتي بعد كلمات التشجيع للغالبين في الكنائس الأربعة الأخيرة، نستنتج أنه ما من أحد سوى الغالبين أو المنتصرين يسمعون صوت الروح القدس.

المسؤولية الفردية والمباشرة نحو الله هو حقيقة أساسية في المسيح. في البابوية يتم تجاهل ضمير الفرد. "اسمعوا للكنيسة" هو جوهر النظام البابوي نفسه. ولكن في الحقيقة صوت الكنيسة لا يُسمع في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. المراتب الأعلى من الإكليريكيين تغتصب مكانة الكنيسة؛ إن صوتهم هو الذي يُعلن على أنه صوت الكنيسة، صوت على الرتب الأدنى من الإكليريكيين والشعب أن يسمعوه ويطيعوه وإلا ينالون الحرم الكنسي، بينما الشعب يُخدع بما هو شبه الحقيقة. إن الصيغة المفضلة وكثيرة الترداد الواردة في (متى ١٨: ١٧) "اسمعوا للكنيسة" توظَّف لتغطية والدفاع عن أشد الأنظمة قسوة وإيماناً بالخرافات واستعباداً للنفس والتي لطالما جلبت الخزي على الأرض؛ إنها في الواقع التحفة الفنية للشيطان. كيف يمكن للكنيسة، المهددة بالدينونة (٢: ٥؛ ٣: ١٦)، أن تصبح مصدراً وأرضاً للسلطة لأي كان؟ ومن هنا ففي هذه الرسائل إلى الكنائس يُدعى الفرد الذي يسمع إلى الإصغاء إلى صوت الروح. فالروح هو الذي يتكلم، وصوته وحده هو الذي يجب أن يُسمع. ولذلك فقد ربطنا في هذا الحث المسؤولية الجماعية والفردية. كلاهما موجودتان. إن كانت الكنيسة قد صارت فاسدة بالكلية إلى هذا الحد حتى أن صوت الله في الكتاب المقدس ما عاد يجد صدى له فإن هناك حاجة عظيمة لكل إنسان ليفتح أذن نفسه للقائل: "هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ". عندما كان الرب على الأرض، لفت الانتباه مراراً وكراراً إلى تعليمه مستخدماً الكلمات المألوفة: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (متى ١٣: ٩، ٤٣؛ ١١: ١٥ الخ.). وهنا الرب نفسه يقول نفس الكلمات، موجهاً خطاباً جدياً ولافتاً الانتباه إلى الشهادة الجديدة وتقريباً بنفس الصيغة اللفظية ٥..

الغالبون:

"مَنْ يَغْلبُ فَسَأُعْطيه أَنْ يَأْكُلَ منْ شَجَرَة الْحَيَاة الَّتي في وَسَط فرْدَوْس الله". لقد أشرنا للتو إلى ملامح معينة مميزة للقسمين الواضحين المتمايزين لهذه الكنائس السبع- الثلاثة الأولى والأربعة الأخيرة. كل من هاتين المجموعتين تشكل وحدة منفصلة بحد ذاتها؛ رغم وجود بعض الصفات المشتركة بينهما. إن العنصر الإلهي يغلب في المجموعة الأولى المكونة من الكنائس الثلاث، كما يدل العدد؛ بينما العنصر البشري يدخل بشكل كبير إلى تركيبة المجموعة الثانية المؤلفة من الكنائس الأربعة، وهذا يتضح من خلال القيمة العددية. إلا أن هناك تمايزاً جديراً بالاهتمام نجده في تمعننا بهذه الوعود والمكافآت للغالبين. أولئك الذين في المجموعة الأولى ليس لهم طابع مكتمل وعلني، كما لأولئك الذين في المجموعة الثانية. هؤلاء الذين في المجموعة الأخيرة رفيعو المستوى في دمجهم العلاقات الشخصية مع المسيح ومشاهد المجد العام. ونلاحظ الفرق في اكتمال وطابع هذه المكافآت، التي تظهر على التعاقب في المجموعة الأولى والثانية من الرسائل، حيث نجد في الأخيرة أن الغلبة هي أمر صعب للغاية. إن العاصفة تهب بعنف أشد، والعناصر المعاكسة أكثر عدداً، ولذا فإن الوعود متناسبة مع الطبيعة الأقسى للصراع. من ثياتيرا إلى لاودكية تعتبر الكنيسة فاسدة بشكل ميئوس منه. ولذلك فإن السباحة عكس التيار تتطلب طاقة من الإيمان أكبر مما عندما كانت الكنيسة تعترف بالمسيح بقوة علنية- أفسس إلى برغامس. هذه المكافآت والوعود لا تُعطى فقط لإبهاج جماعة الرحالة، ولا بسبب الصراع الآخذ في الحدة والشدة، بل إن المسيح نفسه يُودع كلمته شخصياً عندهم لإنجازها بشكل مؤكد. "سَأُعْطِيكَ". يده ذاتها تتوج المنتصر. صوته نفسه يهتف معلناً الغالب، وهو يخطو بابتهاج داخلاً عتبة الأبواب السماوية.

في جميع الحالات الشهادة هي فردية، وبالطبع فإن الغالب هو الذي يتغلب بطاقة الإيمان على هذه الصعوبات الخاصة التي يجد نفسه فيها. الغالب في لاودكية لديه مهمة أكبر بكثير من الغالب الذي في أفسس. إن مكان وظروف وطبيعة الصراع مختلفة في كل من الكنيستين.

هذا الوعد، وهو الأول للغالبين، يحوي تلميحاً واضحاً إلى جنة عدن، وشجرة الحياة في وسطها (تكوين ٢). ما كان مطلوباً من آدم أن يغلب في الفردوس، بل كان عليه ببساطة أن يطيع الله ويحفظ براءته، واختبار الطاعة عند المخلوق البريء كان حظر أكل الشجرة الرمزية لمعرفة الخير والشر. ليس لدينا ما يؤكد أن آدم قد أكل من شجرة الحياة رغم أنه ما كان محظوراً عليه أن يأكل منها. ولكن المشهد الذي يُصور أمام ناظري الغالب المسيحي هو أكثر مجداً بكثير مما في (تكوين ٢). فهنا لدينا فردوس الله بشجرة الحياة التي فيه، والتي يُسمح للمرء بأن يأكل منها بكل حريته، وليس من شجرة معرفة خير وشر، رمز مسؤولية المخلوق. حياة البراءة (تكوين ٢) كانت تستند على الطاعة. ولكن هنا شجرة الحياة الأبدية، بكل بركتها المكتملة، يمكن التمتع بها بدون شوائب وبدون خوف من الإخفاق. الحياة الأبدية تصير مأدبة دائمة أبدية للغالب في فردوس الله. كلمة "فردوس" تظهر ثلاث مرات في العهد الجديد (لوقا ٢٣: ٤٣؛ ٢ كورنثوس ١٢: ٤؛ ورؤيا ٢: ٧). إنها مشتقة من أصل مشرقي، وتعني "حديقة المسرة". تستخدم ثلاث مرات بهذا المعنى في العهد القديم ٦.. بالنسبة إلى الشكل الشرق، كلمة "فردوس" هي تعبير عن تجمع للبركة. فردوس الله هو التعبير عن البركة السماوية. إنه مكان فعلي، لم يكن الفردوس الأرضي (تكوين ٢) سوى ظل له. هنا البركة مؤكدة وأبدية. الفردوس هو حصيلة جمع كل المسرات، ومجموع كل المتعة، وهي التي وعد بها الرب يسوع لذاك اللص المحتضر المهتدي، وإليها اختُطف بولس. إنه الوعد الخاص الذي لا مثيل له المعطى للغالب في حالة أفسس من تاريخ الكنيسة.

خطاب الروح القدس إلى سميرنا

(٢: ٨- ١١)

سميرنا ولاودكية على طرفي نقيض:

إن أقصر الرسائل إلى هذه الكنائس هي تلك التي إلى كنيسة سميرنا، وأطولها هي تلك التي إلى ثياتيرا. سميرنا تُمتدح بشكل كامل، وما من كلمة انتقاد أو توبيخ توجه لها؛ بينما لاودكية ملامة من كل النواحي، وما من كلمة مديح أو إطراء تُمنح لها. ومن جديد، الفقر والضيقة والمحنة في سميرنا تقف بشكل متغاير متمايز عن حالة كنيسة لاودكية الغنية والراضية عن نفسها. ليس هناك سوى كنيسة واحدة أخرى لا تتعرض للتوبيخ، وهي تحديداً كنيسة فيلادلفيا. لا يجب أن نفترض أن هذه الكنائس التي بلا لوم كانت خلواً من كل خطأ، ولكن نلاحظ أن الكنيسة التي تميزت بالمعاناة هي سميرنا والكنيسة التي عانت من الضعف هي فيلادلفيا. إن الطفل الذي يصاب بمرض أو الذي يُبتلى بضعف جسدي لا يمكن توجيه أي كلمة لوم له، وبالتأكيد فإن إلهنا لن يكون أقل سماحة من الأب الأرضي.

التعزية في الضيقة:

٨- "وَاكْتُبْ إلَى مَلاَك كَنيسَة سميرْنَا: «هَذَا يَقُولُهُ الأَوَّلُ وَالآخرُ، الَّذي كَانَ مَيْتاً فَعَاشَ»". التراجع عن حالة المحبة الأولى قد ترسخت. ملاك كنيسة أفسس سقط (الآية ٥)، ولكن ليس من عن يمين المسيح، بل من المحبة، بينما لا يزال يحفظ الإخلاص العقائدي ويسير بلا لوم في نظر العالم الخارجي. ولكن الينابيع الأخلاقية للفعل قد نضبت، وفقدت الكنيسة في أفسس شذى عطرها. هذا الاعتبار يأتي بنا إلى فترة الكنيسة المتمايزة الثانية، التي تتسم بالضيق. إن الملاك، ممثل الكنيسة، يُخاطَبُ بكلمات التعزية الغنية. اندلاع الاضطهاد الوثني الإمبراطوري كان يُحتمل. لمدة حوالي ٢٥٠ سنة، مع فترات هدوء مؤقت متقطعة عندما كانت يد المضطهد القاسية تنزل على الكنيسة، كانت الكنيسة تمر بـ "معمودية الدم"، وهذا ليضرم من جديد لهيب المحبة الخامدة التي على وشك أن تنطفئ. ما كانت الكنيسة المتألمة بالنسبة إلى الرب يُصور في المعنى سميرْنَا، المر- هذا العطر المعروف جيداً، المقدس أيضاً (خروج ٣٠: ٢٣)، وهو أيضاً أحد عطور الحب التي يقدمها الزوج في نشيد الأنشاد. التعزية التي كانت تناسب الرائي (رؤيا ١: ١٧، ١٨) أصبحت عزاء الكنيسة. لدينا هنا نفس الترابط والدمج بين الصفات الإلهية والبشرية التي ميزت المسيح في الرؤيا المجيدة بشخصه كما رآه يوحنا. "الأَوَّلُ وَالآخرُ" هو أحد أروع وأعظم الألقاب الإلهية، الصخرة التي هي في أعظم قوتها والتي يقف العدو عاجزاً أمامها. بما أنه "الأَوَّلُ" فهو قبل الكل في الزمن، وأعلى من الجميع في المنزلة. وكونه "الأخير" فهو بعد الكل، خاتماً كل شيء، إذ له يتجه الكل. إنه أزلي أبدي في كينونته. ولكنه تنازل لكي يموت. ولم يستطع الموت أن ينال منه. هو "الأَوَّلُ وَالآخرُ"- هذا اللقب الخاص بالرب يهوه (أشعياء ٤١- ٤٨)، قد صار ميتاً. لقد قاوم موجات الموت. ونهض من الموت، وهو "يحيا" ولن يموت ثانية. فكانت هذه، عندئذ، "تَعْزِيَتهم القَوِيَّة". فذاك الذي مات ويحيا ليس هو سوى الرب في حقيقة كينونته، الموجود من تلقاء نفسه. لقد رأينا مجد المتكلم- وكيف كان إلهاً، وكيف صار إنساناً- والآن علينا أن نسمع رسالته المعزية والمحيية.

الرسالة:

٩- "أَنَا أَعْرفُ ضَيْقَتَكَ، وَفَقْرَكَ (مَعَ أَنَّكَ غَنيٌّ) وَتَجْديفَ الْقَائلينَ إنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَان". يرد في بعض الترجمات القول: "أَنَا أَعْرفُ أَعْمَالَكَ". ولكن كلمة "أَعْمَالَكَ" يجب حذفها بحسب رأي النُقّاد، ثم أن الحديث في هذه الرسالة هو عن الضيقة والمعاناة وليس عن الأعمال. "أعرف". يا لها من قوة يتمتع بها القديس والكنيسة المبتليين بالاضطهاد! الأقنوم الذي يجمع في شخصه بآن معاً عظمة الألوهية والعطف، ذاك الذي كان في أشد حالات المعاناة والألم يقول: "أعرف ضَيْقَتَكَ، وَفَقْرَكَ". إن المعيار، والطابع، والفترة لكل طور من التجربة معروفة لديه. لا دموع كثيرة، ولا ضربات بالغة الشدة. التماسك والصلابة، وثبات الروح، والثقة بالنفس يجب أن تتحطم. إننا نزهر على أكمل وجه عندما نتألم. يعقوب كان إنسان أفضل أخلاقياً بعد ليلة مصارعته مما كان قبلها (تك ٣٢: ٢٤- ٣٢). وبولس أُبقي متواضعاً ووضيعاً من خلال التذكير الدائم، والذي كان "شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ" (٢ كور ١٢: ٧). ولكن الله يعرف أيضاً "فقرنا". ليس هناك الكثير من النبلاء المحصون وسط شعب الرب. المؤمنون اليهود تقبلوا سلب أموالهم وحاجاتهم (عب ١٠: ٣٤). مصادرة الأغراض والممتلكات، سواء للخزينة الإمبراطورية أو لأولئك المعاندين للمسيحيين، كانت تأتي بعد الاعتقالات. ولكن الرب يقول: "إنَّكَ غَنِي". إن كنزنا هو في السماء. ميراثنا هناك. مخزون الثروة المسيحية نسمع عنه في (١ كورنثوس ٣: ٢١- ٢٣). أصلنا هو في الله (١ كور ١: ٣٠)؛ ومكانتنا هي أننا أبناء الله (رومية ٨: ١٤)؛ وكرامتنا، هي أننا نتمتع بسلطة ملوكية (رؤيا ١: ٦)؛ ومصيرنا، أن نتطابق مع ابن الله (رومية ٨: ٢٩)؛ وثروتنا هي في نصيبنا الألفي والأبدي مع المسيح (أفسس ١: ١٠، ١١). إن الكنيسة غنية حقاً، مهما كان فقرها على الأرض. وإذ لدينا محبة وغنى المسيح، التي تنعدم معها إمكانية الخسارة أو الفساد، ننتصر بالتأكيد فيه هو الذي يعرف ليس فقط ضيقتنا وفقرنا، بل يعرف كل ما يجعلنا "أغنياء".

لم تكن الكنيسة تعاني فقط من العالم الوثني من الخارج، بل أيضاً من عدو ذو طابع ديني من الداخل. كان هناك جماعة، كما سنرى (ليسوا اليهود فقط)، انتحلوا مكانة ومزاعم اليهود في أن يكونوا وحدهم شعب الله على الأرض. رأينا جماعة ذوي مراكز مرموقة في أفسس  (الآية ٢)، كانت ادعاءاتهم المتعجرفة والمتكبرة مكشوفة، ويُوسمون بصفة الكذابين. الحركة في ذلك الزمن كانت قد تحطمت. ولكن لدينا الآن حركة ذات طابع مشابه، ولو بمعيار أقل. نجدها واضحة الآن، تتمثل بادعاءات متعجرفة في أن بعضاً من الكنيسة وليس كل الكنيسة هم شعب الله، وهذا نجده يتكرر كثيراً منذ عهد كنيسة سميرنا، أحياناً على مستوى كبير وأحياناً على مستوى ضئيل. هذا الجسم المؤلف من متدينين مدعين اتفقوا ضد الكنيسة المتألمة. اتهامات زائفة، وازدراء واحتقار قدّموا للكنيسة. ولكن ماذا كانوا في نظر الرب؟ كانوا "مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ" ٧.. إن اسمي "الشيطان" و"إبليس" يُستخدمان في سفر الرؤيا كما وفي كل مكان في الكتاب المقدس بملاءمة ودقة. الأول يعني "الخصم أو العدو"، والأخير يعني "المفتري". فبالنسبة للكنيسة هو كلاهما. إن الشيطان "الخصم"، أسس حزباً هرطوقياً في عداء مباشر مع المكانة المتألمة والمتواضعة للكنيسة. وإبليس، "المفتري"، لفّق أكاذيب وكل الاتهامات الكاذبة الباطلة ضد قديسي الله، ونجح أيضاً في جعل السلطات الوثنية تصدقها، وهكذا صار المفتعل الحقيقي والمصدر لـ "الاضطهادات العشرة"- عشرة اندلاعات مطابقة للقانون من الغضب والحنق ضد الكنيسة لم وقفها سوى اعتداء قسطنطين لعرش القياصرة. معاناة شديدة قابلتها، على كل حال تعزية كثيرة، وكلاهما، بلا شك، كانا النصيب الكامل للكنيسة المتألمة المعانية. وإن السجلات المسيحية والوثنية المعاصرة تؤكد بوفرة حقيقة هذا.

التجارب والتشجيع:

١٠- "لاَ تَخَف الْبَتَّةَ ممَّا أَنْتَ عَتيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ به. هُوَذَا إبْليسُ مُزْمعٌ أَنْ يُلْقيَ بَعْضاً منْكُمْ في السّجْن لكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضيقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَميناً إلَى الْمَوْت فَسَأُعْطيكَ إكْليلَ الْحَيَاة". "لاَ تَخَف" أو "لاَ تَخَف الْبَتَّةَ" كلمات تعد لمزيد من التجارب ومن الواضح أنها مستمدة من (١: ١٧). فتقع هناك على مسامع الرائي، حاملة إلى نفسه يقيناً مطلقاً لا يمكن وصفه. وهنا هي لطمأنة الكنيسة إزاء ما ينتظرها من عاصفة آخذة في التجمع لتهب عليها. الضيقة والفقر كانا سيئين كفاية وكان من الصعب احتمالهما. ولكن الأسوأ كان في انتظارهم. الاضطهادات الإمبراطورية الكبيرة الختامية كانت تفوق في القسوة سابقاتها. السحب الداكنة كانت تتجمع؛ وزئير العاصفة القادمة المتوحش المرعب كان يُسمع. هنا الكنيسة تُحذَّر مسبقاً وتُشجع. هذه المحن والتجارب الآتية افتعلها متهمون كاذبون، ومن أدوات وعملاء الشيطان القساة. كان الاضطهاد عمله. ولكن الإيمان يرتكز على هذه الحقيقة العظيمة والجليلة والمحيية وهي أن "الْعِزَّةَ لِلَّهِ" (مزمور ٦٢: ١١). قوة الشيطان محدودة وتحت السيطرة، وهو لا يستطيع أن يضع يده أو يلمس حتى أضعف حمل في القطيع بدون إذن واضح (أيوب ١و٢). "لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ" (رومية ١٣: ١)، سواء كان شيطانياً أم بشرياً. استخدام واستعمال القوة هو أمر آخر، فيه مسؤولية كبيرة جسيمة. هدف الله كان تجريب كنيسته، وأن تُجرب إلى أقصى الحدود، ولأجل هذه الغاية فقد كان الشيطان خادمه فيها. وهكذا تطهر وتنقى قديسو الله. وتقوت المحبة والإيمان والشجاعة والإخلاص. كان أمام الكنيسة فترة ضيقة محدودة ومعينة - "عَشَرَةَ أَيَّامٍ". قد يكون في هذا تلميح إلى الـ "عشرة اضطهادات" المعروفة، وأيضاً إلى الاضطهاد العاشر تحت حكم ديوكليتيانوس الذي دام ١٠ سنوات تماماً. إن التعبير "عَشَرَةَ أَيَّامٍ" يدل على "فترة محدودة"، وقت قصير يتضارب مع الفترة الطويلة من الاضطهاد الوثني الذي دام ٢٥٠ سنة. وفي ما يلي نرى إشارات تدل على الـ "عَشَرَة أَيَّام" وتؤكد على المعنى الضمني بفترة زمنية قصيرة محدودة: تكوين ٢٤: ٥٥؛ نحميا ٥: ١٨؛ دانيال ١: ١٥؛ أعمال ٢٥: ٦؛ إرميا ٤٢: ٧، الخ.

بعض من الشهود الأوائل للحق، وليس كثيرين، ارتعبوا من العذاب والموت، وأنكروا الرب. هنا نجد حثاً على الإخلاص والأمانة في كل خطوة من الطريق، حتى إلى الموت. إن كان لابد من إكليل الشهادة، فإن المثابرة والثبات إلى النهاية يجب المحافظة عليهما. هناك أكاليل متنوعة تتكلم عنها كلمة الله. هناك إكليل ذهب على رأس كل مفدّى في لسماء (رؤيا ٤: ٤). وإكليل البر، مكافأة السلوك في القداسة والبر على الأرض (٢ تيموثاوس ٤: ٨). ومن ثم، هناك إكليل المجد الذي يُمنح لكل رعايا قطيع الله المحبوب (١ بط ٥: ٤). وأخيراً لدينا إكليل  الشهادة، إكليل الحياة (رؤيا ٢: ١٠). هذا الإكليل، كمثل بقية المكافآت والتشجيعات، يمنحه المسيح شخصياً: سَأُعْطِي".

ثم تأتي الدعوة المألوفة أن: "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ للْكَنَائس". المسؤولية الفردية لابد من المحافظة عليها دائماً وبقوة. في هذه الرسائل نجد فحوى فكر الروح القدس والرب اللذان هما واحد، وما المطلوب من كل الكنائس المسيحية في كل الأوقات وفي كل أرجاء الأرض.

الوعد للغالب:

١١- "مَنْ يَغْلبُ فَلاَ يُؤْذيه الْمَوْتُ الثَّاني". حتى تكون غالباً في حالة سميرنا يتطلب الأمر الصبر الملائم لمصارعة الموت. مجمع الشيطان أفلت العنان لحنقه من جهة، والعالم الوثني من جهة أخرى، وكلاهما عازم على أن يسحق المسيحية، بينما يقع في وسطهما المعترفون المتواضعون بالناصري، وسلاحهم في الدفاع هو الصبر والحلم. ما الذي كان يتوقعه البشر، خسران الشخص، أو الأغراض، أو الحياة نفسها. لكي تغلب تحت هكذا ظروف مرعبة كان الأمر يتطلب قوة إيمان ورؤيا روحية سليماً تراه ذاك الغير المنظور، ومع ذلك، فهو الأقرب جداً مما يظن قديسوه المتروكين، والذي ما من أحد مثله لديه محبة حقيقية أو حنو حقيقي. قد يموت الغالب تحت التعذيب المطول من جراء الحقد الشيطاني للبشر الذين يسرون بالدماء، ولكن الغالب متيقن أنه لن يتأذى أو يصيبه "الْمَوْتُ الثَّاني"، لن يتعرض "ولا بأي شكل"، أبداً أبداًً- للموت الثاني ٨.، الذي هو بحيرة النار، أي المقر الأبدي حيث العذاب والعقاب للشيطان والشرير (٢٠: ١٤؛ ٢١: ٨).

خطاب الروح القدس إلى برغامس

(٢: ١٢- ١٧).

بَرْغَامُسَ أم برغاموم:

١٢- "وَاكْتُبْ إلَى مَلاَك الْكَنيسَة الَّتي في بَرْغَامُسَ". الكنيسة التي تبعد إلى أقصى الشمال تتم مخاطبتها ثانياً. العاصمة القديمة ميسيا لا تزال موجودة باسم برغامو، ولكنها جُردت من عظمتها ومجدها. برغامس، أو برغاموم، وُصفت على أنها "مدينة اتحاد وثني هش، مدينة جامعة، ومكان إقامة ملكي". أتالوس الثالث سلّم مدينته إلى الجمهورية العظيمة؛ وعندها، وتحت حكم الإمبراطور لاحقاً، اعتُبرت إحدى أجمل المدن في آسيا. ورغم أنها كانت متميزة بعباداتها الوثنية، والعلم فيها، والطب، إلا أنها كانت، من وجهة نظر مسيحية، إحدى أسوأ المدن السبعة في العالم. المسيحية تعكس دينونة العالم، بطريقة تكشف الأمور، والمبادئ، والأشخاص في علاقتهم الحقيقية مع الله.

سَّيْفُ الدينونة الماضي:

١٢- "هَذَا يَقُولُهُ الَّذي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضي ذُو الْحَدَّيْن". الوصف المجيد للمسيح، الذي هو فحوى الرؤيا الأولى التي رآها يوحنا (١: ١٢- ١٦)، نجده يسود الأقسام المتنوعة من الرسائل إلى الكنائس، أو بالأحرى الأكثر على الملائكة المحترمين. شخصية المسيح كما توصف لبرغامس مأخوذة من الآية ١٦ من الرؤيا التمهيدية العظيمة. فهناك ينبثق السيف من فمه مشيراً إلى طابع الدينونة، وسلطة كلمته. وهنا، لا يُقال أنه يخرج من فمه، بل إن السيف له. من مقطع يظهر السيف مغلولاً، بل إنه مسلول وجاهز للاستعمال في الحال، "الْمَاضي ذُو الْحَدَّيْن". يستخدم السيف كرمز للدينونة. إنه يشير إلى انتقام الرب من العالم الأثيم (رؤيا ١٩: ١٥)، كما أنه يشير إلى الدينونة القاسية الشاملة للشر، وليس لشعبه، بل للشر فيهم (عب ٤: ١٢). المسيح يحمل دائماً السيف، ويستخدمه على الأصدقاء والخصوم على حد سواء. غنه يحارب الشر، وبسلطة كلمته يُكشف الشر ويُدان. بالنسبة لهؤلاء، سواء كان في الكنيسة أو في العالم، من يرفض أن ينحني أمامه وأن يعترف بسلطته المطلقة، سيعمل السيف قوته وسيتم تنفيذ الدينونة؛ ولا يجب أن ننسى أن الدينونة وتنفيذها أيضاً، كلاهما عُهد بها إلى ابن الإنسان (يوحنا ٥: ٢٢، ٢٧).

السيف لن يجرح أو يقتل ملاك الكنيسة، بل سيُستخدم ضد أولئك الذين يُعتبر الملاك مسؤولاً عن وجودهم في الكنيسة (الآية ١٦).

عرش الشيطان ومسكنه:

١٣- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ، وَأَيْنَ تَسْكُنُ حَيْثُ كُرْسيُّ الشَّيْطَان". إن الكلمات "أعمالك" الواردة بعد "أنا عارف" هي إقحام لا مبرر له يُعتقد أنها تمت على يد ناسخ مهمل. والعبارة "عرش الشيطان" (وليس "كرسي")، هي الملائمة أكثر لفحوى النص وسياق المقطع العام. انحدار المحبة الأولى كانت العلامة المميزة الأولى في الكنيسة خلال طريق انحدارها وانحطاطها. وأما الثانية، أي حالة سميرنا، فكانت حالة الاضطهاد المفتوح على يد السلطات الإمبراطورية الوثنية. ولعل الفترات الأشد قوة وحدة والأكثر إفادة وتقديساً من بين فترات الاضطهاد هي تلك التي كانت في عهد ديسيوس، ٢٤٩ م، وديوكليتيانوس، ٢٨٤ م ٩.. كان تأثير كليهما هو التمييز بين المؤمن الحقيقي والمزيف، وتنقية الإيمان في الكنيسة المتألمة. قسوة الشيطان من الخارج أُطلق السراح لها ضد الكنيسة، وكانت السلطات الوثنية أدواته؛ ولكن إذ كان معوقاً في محاولاته أن يدمر المسيحية، فإن خطوته التالية كانت أن يدمر الكنيسة في شخصها وشهادتها، وأن دمرها من الداخل، مستخدماً رجال الدين والمعلمين لينجز عمله المهلك. لقد قيل أن "بولس كان يخشى الإكليروس، بينما أغناطيوس كان يخشى الشعب". نبوءة بولس السابقة (أعمال ٢٠: ٢٩، ٣٠) تأكدت بشكل كبير، كما توضح حالة برغامس وثياتيرا.

برغامس في زمن الرؤيا كانت عاصمة الحكومة الرومانية في أسيا. وسادت العبادات الوثنية. ومنها انطلقت العبادة الوثنية والاضطهاد إلى كل أرجاء أسيا الغربية، أسيا التي يتكلم عنها سفر الرؤيا؛ ومن هنا القوة المحلية للتعابير: "عرش الشيطان" وحيث "يسكن الشَّيْطَان". لقد كان للشيطان عرش ومسكن في برغامس، ومن هناك سعى لخنق المسيحية في ذلك الجزء من الأرض ١٠.. بالتأكيد لابد من البحث عن استخدام أكبر وأكثر شمولية لهذه العبارات.

يجب أن نضع نصب أعيننا دائماً أن كل من هذه الكنائس الثلاث الأولى تصف حالة خاصة من الكنيسة المعترفة ككل في فترات متعاقبة من تاريخها. ولذلك فإن فترة برغامس تضعنا في حقبة قسطنطين، بداية القرن الرابع. إن هجمات الشيطان المتكررة "كأَسَدٍ زَائِرٍ" (١ بطرس ٥: ٨) في اضطهاد مفتوح دام ٢٥٠ سنة قد جعل الكنيسة أغنى روحياً بينما تظهر أشد فقراً من وجهة نظر العالم. حيث فشل ديوكليتيانوس، آخر الأباطرة المضطَهدين، نجح قسطنطين الإمبراطور المسيحي الأول. إن إغواءات الشيطان أثرت في الدمار الأخلاقي للكنيسة.

بعد موت ليسينيوس، زميل قسطنطين العظيم، صار الأخير الإمبراطور الأوحد. وفي اعتلائه للعرش أُبطلت مراسيم الاضطهاد التي كان سلفه قد وضعها ومُنح المسيحيون حرية العبادة كما ترتأي ضمائرهم، عام ٣١٣ م. ولكن الدين المسيحي كان يُعتبر آنذاك ببساطة على أنه أحد عدة أديان في الإمبراطورية. وكان قد سُمح لجميع الأديان بالعبادة. وبمرور الوقت صار قسطنطين على احتكاك أكثر في المسيحية، وكان عاقلاً حصيفاً بما يكفي ليميز فيها مبادئ الشخص الصبور، وهذا ما كان ليعزز سلطته؛ إذ أن أتباعه المسيحيين، يمكن الاتكال عليهم أيضاً للحفاظ على الوقار الإمبراطوري، بينما الوثنيون كانوا في حالة عصيان دائم في مختلف أرجاء الإمبراطورية.

وهكذا فإن قسطنطين، عام ٣٢٤ م، ومراراً وتكراراً في ما بعد، أصدر مراسيم ضد الوثنية، وحاول أن يفرض المسيحية على الإمبراطورية بقوة وقسوة على اعتبارها الدين الوحيد الأوحد في الإمبراطورية. طُرد الوثنيون من البلاط، وترقى المسيحيون إلى مراكز مرموقة. وقدم قسطنطين ذهبه وحمايته ورعايته للكنيسة، فابتعلت الطعم بشراهية، وضحت بضميرها وإخلاصها للرب، وصارت الكنيسة والعالم، اللذان كانا يسيران كل في طريق حتى ذلك الوقت (يوحنا ١٧؛ ٢ كور ٦: ١٤- ١٦)، متحالفان معاً ويسيران يداً بيد. يا له من اتحاد مهلك! ذلك الوقت صار بداية التحالف التعيس بين الكنيسة والدولة، وأرخ لبداية المؤسسات الكنسية التي كانت تدعمها الدولة. وفُرضت المسيحية في حالات كثيرة على أتباع من رعايا الدولة غير راضين بالأمر، ولكن قبلوا بذلك على مضض تحت حد السيف. فما كان هناك سوى أحد حلين، إما السيف أو المعمودية، رغم أن الحاكم الجليل نفسه أوقف القيام بالشعائر المسيحية حتى بضعة أيام قبل وفاته في نيقوديميا. لقد خُصصت الهياكل الوثنية البهية الفخمة وثياب الكهنة للخدمة المسيحية .ولذلك، فبدلاً من غرف وحجرات اللقاء البسيطة غير المتكلفة، حيث كان المسيحيون الأوائل يجتمعون، حلّت محلها أبنية ضخمة واستعراضات متباهية متفاخرة لا تزال حتى الآن. سارت المسيحية في خفٍّ ذهبي. من أجل التوفيق بين الكهنة والناس ذوي الخرافات القديمة مع النظام الجديد للأشياء قامت الكنيسة بتبني الكثير من الشعائر والطقوس الوثنية. وهكذا زيّفت شخصيتها كشاهد للقداسة والحق. ونتائج هذا التحالف الفظيع لا تزال باقية حتى اليوم، ورغم أن الله قد استخدم هذا التحالف لفحص تيار الإلحاد، إلا أنه أدى إلى أذى لا يُحصى للكنيسة التي هي جسد المسيح، وسبب الأذى في أن خفض مستوى الطابع المقدس والمترفع عن الدنيويات الذي كان يجب على الكنيسة أن تظهره في العصر الرافض للمسيح. الاتحاد الحقيقي بين الكنيسة والدولة ينتظر الإعلان عنه في يوم آخر (رؤيا ٢١: ٩؛ ٢٢: ٥). ولذلك فإن الكنيسة في ارتخائها وتوانيها في الوقت الحاضر بوجود "عرش" و"مسكن" الشيطان، الذي هو إله هذا العالم، تمكننا من أن نرى قوة ذلك التعبير الفائق العادة في الآية ١٣. الشيطان له "عرش" و"مسكن" على الأرض، وإنه لأمر فظيع أن يكون ذلك في الكنيسة. هناك ٢٨ مادة معلنة في الأصحاح ١٨ من سفر الرؤيا تبين ميزات الكنيسة الزائفة: الأولى هي "الذهب"، والأخيرة هي "النفوس".

الدور من تاريخ الكنيسة هو بتلك الأهمية حتى أننا خصصنا للتمعن في هذه التعليقات المطولة.

قاطنوا الأرض:

١٣- لم يكن الرب حيادياً أو لا مبالياً. "أنا عارف أين تسكن" لها مغزى أخلاقي عميق ومنذر بالسوء (قارن مع فيلبي ٣: ١٩ ورؤ ٣: ١٠؛ ٦: ١٠؛ ١١: ١٠؛ ١٣: ١٤؛ ١٤: ٦؛ ١٧: ٨). هذه المقاطع تشير إلى جماعة من الأشخاص الذين ليسوا على الأرض، بل الذين اهتماماتهم الوحيدة هي فيها ومرتبطة بها. إنهم يشيرون إلى جماعة من الأشخاص يوصفون أخلاقياً بأنهم "قاطنوا الأرض". ١١

ممتَدَحون:

١٣- "أَنْتَ مُتَمَسّكٌ باسْمي وَلَمْ تُنْكرْ إيمَاني". كل ما هو أساسي حيوي في المسيحية تم خنقه بالقوة- اسم المسيح والإيمان به. لقد اختُبروا وثبتوا تحت وطأة أقسى الظروف- مصادرة الأملاك، والتعذيب، والموت. ورفضوا أن "يحلفوا" باسم القيصر العظيم. لقد تمسكوا باسم ذاك القدوس والحق. وما كانوا لينكرون الإيمان بالمسيح كابن الله في علاقة إلهية، وابن الإنسان في ناسوت مقدس نحو البشر، وكابن داود في حقوقه اليهودية ومجده. لقد احتملوا "كَأَنَّهُم يَرَون مَنْ لاَ يُرَى". لم يتراجعوا بسبب المحنة الشديدة، وسُرّ الرب بهم ورضي عنهم وامتدحهم على ثباتهم، حتى عندما كان عليه أن يلومهم بشدة لسكناهم في الأماكن العالية من الأرض حيث أسس الشيطان عرشه ومسكنه. إن الشيطان هو فعلاً من جعل عرشه أولاً في روما، وفي ما بعد في القسطنطينية، وهو الذي وظف القياصرة كأدوات وعملاء له؛ ومن هناك كان يحكم. لقد سكن هناك مع أنه في نفس الوقت كان له إمكانية الدخول إلى السماء. لكن هزيمته مقررة وساعته آتية وأكيدة (رؤيا ١٢: ٧- ١٣).

أنتيباس الأمين:

إن استقامة إيمان الملاك بالنسبة إلى الحقائق الحيوية الجوهرية أمر لا شك فيه. برغامس، بالأساس، لم تتنازل ولو عن حقيقة واحدة من الحقائق الجوهرية الأساسية، وهذا بشكل خاص "حَتَّى في الأَيَّام الَّتي فيهَا كَانَ أَنْتيبَاسُ شَهيدي الأَمينُ الَّذي قُتلَ عنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ". اسم الشاهد النبيل للمسيح الذي ختم شهادته بدمه قد تناقلته الأجيال على مدى الأيام ١٢.. ولكن رغم أنه ما من شيء مؤكد نعرفه عن أنتيباس ما خلا الاسم، إلا أن هناك الكثير من الأشياء المبطنة في هذه الجملة. "شَهيدي الأَمينُ، شاهدي المخلص". ما كان المسيح بالنسبة إلى الله (١: ٥)، كانه أنتيباس بالنسبة للمسيح.

البلعامية والنقولاوية:

١٤، ١٥- "وَلَكنْ عنْدي عَلَيْكَ قَليلٌ: أَنَّ عنْدَكَ هُنَاكَ قَوْماً مُتَمَسّكينَ بتَعْليم بَلْعَامَ، الَّذي كَانَ يُعَلّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَني إسْرَائيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبحَ للأَوْثَان، وَيَزْنُوا. هَكَذَا عنْدَكَ أَنْتَ أَيْضاً قَوْمٌ مُتَمَسّكُونَ بتَعَاليم النُّقُولاَويّينَ الَّذي أُبْغضُهُ". "وَلَكنْ عنْدي عليكَ"، هذه الكلمات فيها لوم واضح موجه لملاك أفسس (٢: ٤)، وكذلك لملاك ثياتيرا (٢٠)؛ في الأول انسلاخ عن المحبة الأولى؛ وفي الأخير فساد العقيدة. وإن كلمة "قليل" تشير إلى أكثر من سبب واحد للوم. أولئك الذين كانوا يتمسكون بتعليم بلعام كانوا ينتمون إلى مجموعة معينة، وأولئك الذين كانوا يتمسكون بتعليم نيقولاويين كانوا مجموعة أخرى. وكلاهما كانا متساهلين في جماعة كنيسة برغامس. ولكن ما كان مكروهاً في أفسس كان مقبولاً في برغامس (الآيات ٦، ١٥)، إذ كانت النيقولاوية مرفوضة بشدة عند الأولى بينما يسمح بها عند الأخيرة ١٣..

قلب بلعام لم يكن في النبوءات الكبيرة التي اضطره روح قدس الله لأن ينطق بها (عدد ٢٣: ٢٤). التشريفات والعطايا من الملك موآب ملأت بصيرة نفسه. فمن أجل المال كان ليلعن شعب الله. "أحب أجرة الإثم" (٢ بطرس ٢: ١٥). إذ فشل في محاولاته لعن أولئك الذين باركهم الله، علّم نبيُّ آرام النهرين الشرير الملكَ الموآبي الشرير أن يضع حجرَ عثرة في طريق إسرائيل. ليس لدينا سرد لهذه الحادثة في العهد القديم. ذهب النبي والملك كل منهما في طريقه الخاص (عدد ٢٤: ٢٥). ولكن الخدعة نجحت. تحت توجيه ملكهم الشرير الأثيم، جعلت نساء موآب بني إسرائيل يقعون في الخطيئة (عدد ٢٥- ٣١). وهكذا بلعام، والذي كان أشد إثماً من الملك، كان المحرِّض الحقيقي تحت الشيطان الذي تسبب في سقوط إسرائيل، هذا السقوط الذي أدى إلى الدينونة الخطيرة التي أصابت حوالي ٢٤٠٠٠ من الناس (عدد ٢٥: ٩) ١٤.. بطرس، ويهوذا، ويوحنا هم الكتاب الوحيدون في العهد الجديد الذين يشيرون بشكل محدد واضح إلى بلعام. الخطيئتان اللتان قيد بنو إسرائيل إليهما كانتا الوثنية والزنى. وهذان الشران كان بولس قد شجبهما بشدة (١ كور ١٠: ١٩- ٢٨؛ و١ كور ٦: ١٥- ١٨). هنا المعلمون والمؤيدون لهذه الممارسات غير التقية قد التجأوا إلى حضن الكنيسة نفسها. هذه الخطايا كانت نتيجة تعليم بلعام. بالنسبة للمسيحي كل ما يرفضه الله نفسه هو عبادة وثن (١ يوحنا ٥: ٢١)، وكل اتصال محرم مع العالم هو زنى (٢ كور ٦: ١٤- ١٦) ١٥..

١٥- "تَعَاليم النُّقُولاَويّينَ" كانت تماماً مثل تعاليم بلعام، رغم أن النتيجة هي نفسها في كلتا الحالتين، ألا وهي الدمار الأخلاقي للذين لوّثتهم أو دنستهم التعاليم والممارسات الفاجرة. بلعام، النبي الكاذب، لديه ممثلون معاصرون في الكنيسة اليوم. هناك أناس يشغلون مناصب ومسؤوليات رفيعة فيها، وهم مثل بلعام يتمسكون بعناد برواتب مناصبهم، ويعملون ضد الكنيسة بحماسة كان يجدر بهم استخدامها بشكل أفضل ليدافعوا عن الإيمان. ليت هؤلاء كانوا صادقون بدل أن يعملوا على هلاك النفوس. تعاليم بلعام تؤثر على نفوس الناس؛ بينما عقائد النيقولاوية مزروعة في نفوس الناس. وبين الاثنين هناك جسد مشترك مدمر تقريباً. من القرن الرابع حتى اليوم، خطوات واسعة سريعة اتُخذت بالاتجاه الخطأ، ولذلك فبالكاد نجد الآن أي ملامح متبقية من طابع الكنيسة الرسولية الأولى. الملاك لا يُتهم بتمسكه بهذه التعاليم، ولكنه لم يقاومها. اللامبالاة تجاه الشر هي إهانة لله. التراخي عند ملاك برغامس نجده ظاهراً بشكل مغاير لذاك الذي عند ملاك أفسس. إن خطيئة الكنيسة هي التساهل مع الشر والأشرار.

توبة أم دينونة:

١٦- "فَتُبْ وَإلاَّ فَإنّي آتيكَ سَريعاً وَأُحَاربُهُمْ بسَيْف فَمي". في هذا التحذير إلى أفسس تأتي الكلمة "اذكر" قبل الدعوة إلى التوبة. لا أحد من الكنائس تبارك إلى هذه الدرجة، وتمتع إلى هذا الحد بخير ونعمة الله، كما الكنيسة في عاصمة أسيا الغربية. كان بولس قد عمل جاهداً في أفسس لثلاثة سنوات. خدمته ودموعه أتت بثمر وفير. وفي رسالته إلى القديسين في تلك المدينة كشف حقائق من أرفع مستوى دون أن يوجه لهم أي كلمة توبيخ أو لوم. الإيمان بالمسيح والمحبة تجاه القديسين كانت تميز حياة كنيستهم. فكم هي مناسبة كلمات العتاب الإلهي: "اذكر من أين سقطت وتب". ولكن الكنيسة في برغامس لم تتمتع أبداً بهكذا نعمة رفيعة وامتياز؛ ومن هنا يأتي حذف الكلمة "اذكر".

العبارة "فَتُبْ" محذوفة في بعض ترجمات الكتاب المقدس، ولكنها ملائمة إزاء انكشاف الشرور الكبيرة في وسطهم. شخصياً لم يتشرب ملاك الكنيسة التعاليم ولم يمارس الأعمال المستنكرة، بل، من جهة أخرى، لم يشجبها، ولم يعارض دخولها إلى الكنيسة كما فعل ملاك كنيسة أفسس الذي قاومها بقوة. إن لم تأتِ الدينونة ذاتياً بعد الدعوة إلى التوبة، فإن الرب يهدد بدينونة سريعة: "آتيكَ سَريعاً". قرب حدوث الدينونة يتم التعبير عنه باستخدام الزمن الحاضر، وأيضاً في إدخال كلمة "سريعاً"، التي أُقحمت بالخطأ في الآية ٥، بينما كان يجب وضعها بشكل أنسب في الآية ١٦. المجيء المشار إليه هنا لا يدل على العودة الشخصية للرب، أو عما يسمى "المجيء الثاني"، بل يشير إلى تعامل الرب الفوري والمباشر مع الكنيسة إذ أن الرب سيفتقدها بدينونة. يقول للملاك: "آتيكَ"، ولكن للأكثر فساداً وإثماً يقول عنهم: "أُحَاربُهُمْ". هكذا يميز الرب بين الاثنين. هناك درجات من الخطيئة، وبالتالي درجات من العقاب تتناسب معهم. نحن أيضاً يجب أن نميز بين القادة والمقادين. في الأشكال والمظاهر السابقة من التأديب المفروض في العهد الجديد لحفظ قداسة بيت الله، هذا التمييز يجب أن ننتبه إليه بعناية ونسلك وفقاً له. يتكلم الرسول عن "البعض": "وارحموا البعض مميزين، وخلصوا البعض بالخوف مختطفين من النار، مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد" (يهوذا ٢٢، ٢٣). "سَيْف فَمي" تشير إلى القوة الديّانة لكلمته؛ إنه يطعن.

نداء للإصغاء:

١٧- "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ للْكَنَائس". في هذه الخطب نستمع على صوت الروح القدس. وفيها يتكلم إلى كنائس العالم المسيحي. لو أن العالم المسيحي أصغى إلى صوت المتكلم الإلهي  لأمكن تجنب الدمار العام للكنيسة. ولكن بينما يتحدث الروح إلى الكنائس، الأفراد مدعوون على الإصغاء. تعتبر الكنيسة دائماً كجسد عادم الحس بالنسبة لمرافعات أو تحذيرات الروح القدس؛ ومن هنا فإن الكنيسة لا تُدعى إلى الإصغاء، بل الأفراد: "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ". إن الشفاء الجماعي ميؤوس منه، ومن هنا فإن المسؤولية الفردية، البالغة الأهمية دائماً، هي التي يتم التركيز عليها بشكل دائم وبشكل جدي. وهذه حقيقة أساسية في المسيحية ازدهرت البابوية على حساب نكرانها. إن جوهر النظام البابوي نفسه هو الرفض الصارم للفكر الفردي ولعلاقة المرء المباشرة مع الله.

مكافآت خاصة وشخصية:

١٧- "مَنْ يَغْلبُ فَسَأُعْطيه أَنْ يَأْكُلَ منَ الْمَنّ الْمُخْفَي، وَأُعْطيه حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاة اسْمٌ جَديدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذي يَأْخُذُ". الغالب هنا، كما في كل مكان، هو فرد. إن أمكن تشكيل جماعة من الغالبين فهذا يمكن فقط في ممارسة الإيمان واستخدام القدرة الروحية لكل واحد. جماعة الغالبين، أو "سحابة الشهود" الوارد ذكرها في عبرانيين ١١، تُصور بشكل منفصل. كل شاهد لله عليه أن يحارب العدو لوحده، ولكن ليس لوحده تماماً، إذ أن الله الحي هو معه ويسانده.

إن كلمة "يأكل" لا نجدها في المخطوطة السينائية والإسكندرية للكتاب المقدس، وهناك من يرفض اعتبارها من النص الأصلي أمثال تريغيليس، وكيلي، وداربي وآخرون.

هناك حلاوة مميزة في هذه الوعود، وكذلك في طريقة منحها. "أعطي الْمَنّ الْمُخْفَي". إن تكرار كلمة "أعطي" تعزز قيمة البركات الموعودة. المن يعتبر "طعام الملائكة" (مز ٧٨: ٢٥)، و"خبز الله" (يوحنا ٦: ٣٣). كلمة "المن"، تعني "ما هذا؟" وكان هذا هو التعبير الكثير الاستخدام للدلالة على انذهال بين إسرائيل من طريقة تدبير الله أمورهم في الصحراء ووفرة عنايته بهم (خروج ١٦: ١٥)، ولكن بالتأكيد لم يكن المن "مخفياً" لأنه مكان على وجه الأرض حول مخيمهم. لـ ١٢٥٠٠ صباح أمطر الله بالخبز من السماء على شعبه على الأرض. إله إسرائيل هو إلهنا، بل حتى هو لنا أكثر مما كان لهم، وذلك بفضل علاقتنا الحاضرة والحيّة مع المسيح في المجد. تذكاراً لنعمة الله على شعبه كان يوضع إناء مليء بالمن أمام الرب (خروج ١٦: ٣٣). ويتكلم بولس عن "قِسْطٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ الْمَنُّ" (عب ٩: ٤). لمدة ٥٠٠ سنة هذا "المن المخفي" أخبر قصة المسيح في اتضاعه، ولكن أمام الله وحده. مخفياً في تابوت العهد، الإناء الأكثر قداسة، أُخفي عن نظر الناس؛ ولعله يمكننا القول أنه ما من أحد قد عاين هذا المن على مدى خمسة قرون.

والآن، يقول المسيح، "أنا أعطي الْمَنّ الْمُخْفَي"، ليس عن طريق وسيط، بل شخصياً. وبالطبع، إنه مكافأة في المستقبل عندما ينتهي الصراع. يا لها من بركة أن نعرف من يسوع نفسه في المجد أسرار حياته هنا، وأغوار اتضاعه، وجمالات وكمالات حياته المخفية عن أعين البشر. وسنرى عندئذ أن طريق الغالب ما هو إلا انعكاس لحياة يسوع هنا. يا للمحاورات الودية الحافلة بالمجد التي ستكون بين الغالب وشعبه المنتصر. قصة الحياة تُفهم وتُكرّر هناك في الأعالي، ولكن قصة حياة من؟ حياتنا أم حياته؟ إن ما لم يدون من حياته، لو كُتب، لتطلّب عالماً أكبر من عالمنا هذا ليحتويها (يوحنا ٢١: ٢٥). مَنُّ العهد القديم أمطره الله لبركة ومسرّة الشعب على الأرض. هذا المنّ المخفي سيُعطى للغالبين في السماء. المكان العام للكنيسة الذي هو في صحبة وشركة أقرب ما تكون إلى العالم، حيث أسس إبليس عرشه ومسكنه، قد رفضه الغالبون في برغامس؛ ومن هنا توجب عليهم أن يسكنوا في الظلمة، وأن يعانوا إذ يطأون الطريق الوحيد الذي فيه شركة مع يسوع، الذي وطأ هو نفسه ذاك الطريق المنفصل المنعزل والذي كان بالنسبة له أشد وعورة وعزلة مما لأي شخص سبقه. إن الرب، ليس فقط سيعطي المنّ المخفي، بل يقول أنه سوف "أُعْطيه حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاة اسْمٌ جَديدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذي يَأْخُذُ". ما المقصود بالحصاة البيضاء والاسم السرّي الذي لا يعرفه أحد؟ "حَصَاةً بَيْضَاءَ" كانت تعني الحياة الاجتماعية والعادات القضائية للقدماء. أيام الاحتفال كانت تعلّم بحصاة بيضاء؛ وأيام الكارثة كانت تعلّم بحصاة سوداء. تقدير المضيف لضيف مميز كان يُدل عليه بحصاة بيضاء عليها اسم أو رسالة مكتوبة. الحصاة البيضاء كانت تعني تبرئة وإعفاء؛ والحصاة السوداء تعني دينونة في محاكم العدل. هنا الغالب يُوعَد بحصاة بيضاء واسم جديد مكتوب عليه، لا أحد يعرفه سوى السعيد الذي يتلقاه. إنها تعبير عن مسرّة الرب الشخصية في كل واحد من الجماعة الغالبة. إنها مكافأة عامة من دون شك. هناك بركات مشتركة وخاصة الآن؛ ولكن عندها ستكون هناك مسرّات عامة وفردية. إن استحسان الرب ومسرته الخاصة بكل واحد من الجماعة الغالبة ستكون جواباً كافياً على الرفض والازدراء الذي يتعرض له الشاهد الأمين الآن. الاسم الجديد على الحصاة، والذي لا يعرفه سوى الغالب، يرمز إلى المسيح، وفي ذلك الحين سيعرفه كل واحد بطريقة خاصة معينة، وبالتأكيد تلك ستكون مكافأة لا تقدر بثمن ولا يمكن وصفها. إنها شركة سرية في المحبة والفكر بين المسيح والغالب، سعادة لا أحد يمكنه أن يشارك فيها، علامة محفوظة تدل على المحبة التي تقدّر. المنّ المخفي هو في المجد تعبير عن تقديرنا للمسيح في اتضاعه؛ ولكن الحصاة البيضاء ترمز إلى تقديره لنا كغالبين. إن طريقه وطريقنا المنفرد هنا هي نقاط تمثّل بشكل واضح المجد الذي ترمز إليه "المنّ" و"الحصاة".

خطاب الروح القدس إلى ثياتيرا

(٢: ١٨- ٢٩).

ملامح مميزة:

١٨- "وَاكْتُبْ إلَى مَلاَك الْكَنيسَة الَّتي في ثَيَاتيرَا: «هَذَا يَقُولُهُ ابْنُ الله، الَّذي لَهُ عَيْنَان كَلَهيب نَارٍ، وَرجْلاَهُ مثْلُ النُّحَاس النَّقيّ". هذه هي الكنيسة الوحيدة من بين الكنائس السبع التي يُذكر فيها اسم امرأة. إِيزَابَل، الزوجة الشريرة لملك إسرائيل المرتد، الذي لم يكن سوى أداة في يدها، المؤيدة والنصيرة لأسوأ أشكال العبادة الوثنية، والقاتلة، ومع ذلك امرأة ذكية وذات تصميم وعزيمة، هي الشخص الأكثر بروزاً الذي يرد ذكر اسمه في الخطاب الموجه إلى الملاك. لا يمكننا أن نعتبرها مصادفة محض أن أول ذكر لثَيَاتيرَا مرتبط بامرأة (أعمال ١٦)، بل شخصية مختلفة عن المسماة هنا. هناك نقاط مفاجئة من التغاير والتشابه بين ليدية، المسيحية ذات العزيمة والفعالة والنشيطة والكريمة وذات العلاقة مع بولس (أعمال ١٦)، وإيزابل، الوثنية الغيورة والمحبة وعلاقتها بإيليا (الملوك الأول ١٨: ١٩).

الرسالة الرابعة هي الأطول بين السبعة، وتميز بدء المجموعة الثانية التي يستمر فيها تاريخ كل كنيسة وصولاً إلى المجيء الثاني للرب. الإشارة الأولى المباشرة في هذه الرسائل إلى المجيء الثاني نجدها هنا (الآيات ٢٥- ٢٨).

حالة الكنيسة العاجزة اليائسة الفاسدة- هذه الحالة التي لا يمكنها أن تخرج منها، والتي لا تستطيع أن تتحسن معها، هي سمة أخرى لافتة، تميزها عن الكنائس الثلاثة السابقة. فهنا، إذاً، يتكاثر الشر بشكل قوي ويفسد التعليم من الداخل. كانت برغامس تتساهل مع شرور معينة خطيرة جسيمة؛ ولكن ثَيَاتيرَا فيها هذه الممارسات الشريرة حتى أنها تصبح أم الأنظمة الشريرة المماثلة، "أَوْلاَدُهَا". يا لها من علامة مميزة حقاً لهذه الكنيسة!

من الملامح المميزة الأخرى هو أن بقية تقية تتميز فيها الآن بالشكل وتتم مخاطبتها بشكل منفصل (الآية ٢٤)، مميزة هكذا الكنيسة أو الجماعة عن البقية أو الفئة المخلصة الأمينة.

إضافة إلى ذلك، الدعوة إلى الإصغاء التي في الرسالة إلى أفسس وسميرنا وبرغامس تسبق الوعود للغالب، ففي ثَيَاتيرَا والكنائس الأخرى نجد الدعوة بعد الوعود، بحيث يُختتم بها كل خطاب. في الرسائل الثلاثة الأولى إلى الكنيسة هناك ربط مع الدعوة إلى السماع، بينما في الرسائل الأربعة الأخيرة الغالبون مرتبطون بالكلمات، فـ "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ".

من الملامح المذهلة أيضاً في الرسالة إلى هذه الكنيسة هي أنه، وللمرة الأولى والوحيدة، في مسار هذه الرسائل، يتم التعريف باسم المتكلم الإلهي- ابن الله؛ هذا اللقب ذي العلاقة الشخصية والإلهية لا يُستخدم في أي مكان آخر من سفر الرؤيا.

المتكلم الإلهي:

١٨- "هَذَا يَقُولُهُ ابْنُ الله". إن ناسوت الرب وعلاقاته بالجنس البشري يتبديان في هذا اللقب "ابن الإنسان". وألوهة الرب وعلاقته بالله تُعلن في لقب "ابن الله". مجده وعلاقته بالكنائس يراها الرائي يوحنا كـ "ابن الإنسان" (١: ١٣). لماذا يتم التعريف به هنا، وهنا فقط، بلقب "ابن الله"؟ إليكم الجواب. تغطي ثَيَاتيرَا تاريخياً فترة العصور الوسطى أو المظلمة، وتصور بمصطلحات مختصرة ورموز بسيطة النظام البابوي، أسوأ من حمل الاسم المسيحي وأكثر من أساء إلى هذا الاسم على الأرض. في البابوية كل فكر حقيقي عن الكنيسة مفقود. صحيح أنها تتبجح على الملأ بالوحدة، ولكنها وحدة تفرضها عندما وحيث تستطيع بمجادلات مفحمة من التعذيب بالحديد والنار والسجن- خلافاً للوحدة الإلهية التي يطلبها الروح القدس (١ كور ١٢: ١٣)، كما النور إلى الظلمة. البابوية تُسكت صوت المسيح، الذي يُفترض أن يكون رأس جسدها، الذي هو الكنيسة، ومدبر بيت الله. ومن هنا إيراد هذا اللقب في الكلمات الافتتاحية من الخطاب. ليس بطرس، بل المسيح، كابن الله الحي، هو مؤسس الكنيسة (متى ١٦: ١٦- ١٨). بطرس، أيضاً، جُعل مدبراً للكنيسة بدلاً من المسيح. ولكن الرب لا يتخلى عن حقوقه، ويُطالب بها عندما وحيث الحاجة ليؤكد على امتيازه الإلهي بأنه ابن الله. عندما تنجرف الكنيسة من حال سيء إلى حال أسوأ، تكون الحاجة أكثر ما يكون إلى تأكيد المجد الإلهي والعلاقة مع ربنا. فإن خسرنا هذا، خسرنا كل شيء. إن لقب "ابن الله" قائم دائماً وأبداً، إنه لقب أُعطي له لدى دخوله إلى هذا العالم كإنسان (مز ٢؛ أعمال ١٣: ٣٣).

عيناه ورجلاه:

١٨- "الَّذي لَهُ عَيْنَان كَلَهيب نَارٍ، وَرجْلاَهُ مثْلُ النُّحَاس النَّقيّ". هذا جزء من الوصف المفصل لابن الإنسان الممجد الذي رآه يوحنا من قبل (١: ١٤، ١٥). وهنا، كلتا هاتين الصفتين من السيادة والسلطة الصارمة يمارسها ابن الله. حسن الذي ذكر أنه هو الذي عُهدت إليه كل دينونة، وهو الذي يُنفّذ إدانته بشكل لا مجال للخطأ فيه، وهو ليس فقط إنساناً (يوحنا ٥: ٢٢، ٢٧)، بل هو إله أيضاً. ذاك الذي بيده صولجان الحكم إلهي هو كما وبشري أيضاً. عيناه "كَلَهيب نَارٍ" تشير إلى عدم تساهله أو قبوله للشر. سيسبر أغوار الخطيئة ويكتشفها مهما كانت مخفية أو مخبأة فمن أو ما الذي يستطيع أن ينجو من عينيه اللتين هما كلهيب نار؟ "رجْلاَهُ مثْلُ النُّحَاس النَّقيّ". ما تكتشفه عيناه، ستطأ عليه قدماه. إن الأحكام القضائية الصلبة والعدالة غير القابلة للثني يُرمز إليها بالقول أن له "رجلين كالنحَاس النَّقيّ". كل شكل منظم من الشر يحمل اسم المسيح (الآية ٢٣) يجب أن يُدمر. جبال أدوم في الأيام الأخيرة تقدم مثلاً مريعاً عن الانتقام الإلهي وعن تطبيق هذا الرمز الصاعق المستخدم هنا (أشعياء ٦٣: ١- ٦). عندما سيأتي الرب بشخصه ليضع يمينه على كل العالم تحت السماء فإن قدميه تُشبهان بـ "عَمُودَيْ نَارٍ" (رؤيا ١٠: ١، ٢)، مع تغيير بسيط في صياغة الكلمات الواردة في الصورة المجازية ما يعني ضمناً هدف وفعل الرب الثابت الراسخ في توكيده الصارم على حقوقه الكونية. "النار" هو رمز معبر عن الدينونة، سواء على المسيح كذبيحة (لاويين ١)، أو على الأشرار (مرقس ٩: ٤٣؛ لوقا ١٦: ٢٤؛ ٢ تسالونيكي ١: ٨).

إطراء حار:

١٩- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخدْمَتَكَ وَإيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخيرَةَ أَكْثَرُ منَ الأُولَى". كلمات توبيخ قوي وصارم تسبقها كلمات مديح وإطراء هي أجمل ما يكون. "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ" تأتي في كل خطة أو رسالة. ولكن هذه الكلمات لا نجدها في الرسائل إلى سميرنا وبرغامس. حالة هذه الكنائس تمنع فكرة "الأعمال"، إذ الأولى تتميز بالمعاناة، والأخيرة بالإخلاص. التعبير "أعمال" يأتي مرتين في سياق هذا الإطراء. الملاك في أفسس تراجعت محبته، بينما ملاك ثياتيرا ازدادت أعماله. كلما زادت ظلمة الليل كلما ازدادت الجماعة التقية تكرساً للرب وغيرة له؛ "أَعْمَالَكَ الأَخيرَةَ أَكْثَرُ منَ الأُولَى"-  أكثر عدداً، وأكثر نقاوة، وأكثر رفعة في طابعها كثمرة من ثمار الإيمان. ولكن هذه الكنيسة تُمتدح أيضاً على محبتها، وإيمانها، وخدمتها، واحتمالها، هذه الميزات الأربعة المميزة للحياة المسيحية ١٦.. المحبة الأولى (غلاطية ٥: ٢٢) والتي هي أعظم النعم المسيحية (١ كور ١٣: ١٣)، تأتي في رأس القائمة. ثياتيرا أيضاً، ووحدها، بين الكنائس السبعة، تُمتدح لأجل "المحبة" و"الخدمة" فيها. هذه الأخيرة سوف تعتنق الخدمة بأوسع معنى لها من الناحية الروحية والدنيوية.

اتهام خطير:

٢٠- "لَكنْ عنْدي عَلَيْكَ قَليلٌ: أَنَّكَ تُسَيّبُ الْمَرْأَةَ إيزَابَلَ الَّتي تَقُولُ إنَّهَا نَبيَّةٌ، حَتَّى تُعَلّمَ وَتُغْويَ عَبيدي أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبحَ للأَوْثَان". الرب لديه اتهام خطير وكبير ضد الملاك. كانت الكنيسة متمثلة بوكلائها تسمح بالشر في وسطها من خلال أبشع صورة ظهرت حتى الآن. بمعنى آخر، إن البابوية هي في مقدمة هذا الخطاب. إن تفوق الكرسي الرسولي الروماني (البابوي) هو تطور لذاك الجدال الذي نشأ بين التلاميذ حول "من هو الأعظم" في ملكوت السماوات (مرقس ٩: ٣٣، ٣٤) ١٧.. تلك كانت حالة الكنيسة بشكل عام في القرون الوسطى كما تمثّلها كنيسة ثياتيرا كدليل واضح عليها.

الترتيب التاريخي للكنائس:

إن الترتيب المتعاقب للكنائس يُلفت انتباهنا إلى عهود متميزة وذات ملامح خاصة لا تخفى على أي دارس لتاريخ الكنيسة. قد يورد المؤرخ تفاصيل، تكون لافتة للانتباه أحياناً، ولكن مبادئ تاريخ الكنيسة والملامح الرئيسية فيه تُظهر أن التفاصيل ما هي إلا نتيجة التطور، وهذه الملامح نجدها مكتوبة بشكل واضح في الأصحاحين الثاني والثالث من سفر الرؤيا. تراجع المحبة الأولى ختمت القرن الأول، الذي تُمثّله كنيسة أفسس. وإن الاضطهاد الذي تعرضت له الكنيسة لمدة أكثر من قرنين والذي مرّ بفترات صعود وهبوط وتقطعات، تشهد له كنيسة سميرنا. بعد ذلك، وبحسب التسلسل التاريخي،؟ نأتي إلى عهد قسطنطين، عندما دمر الإمبراطور الكنيسة بذهبه والتشريفات ومراسم الحفاوة والتكريم. هذا الحدث المحزن هو الأمر الرديء الذي ميز القرن الرابع، ويتجلّى واضحاً في كنيسة برغامس. التاريخ المتعاقب يظهر تطور النظام البابوي منذ ادعاء السلطة والسيادة والأعلوية في مجمع سرديقية، عام ٣٤٧ م، وحتى القرن السابع، عندما تحطمت ادعاءاتها المتعجرفة الطنانة بالألقاب، والحفاوات، أمام العبادة الواجبة والحقّة الجديرة بربنا ومخلصنا يسوع المسيح. بعد ذلك، ومن القرن الثامن حتى فجر الإصلاح، فرضت البابوية ذلك الادعاء بالسيادة الكونية للبابوية على ممالك الأرض، ونفوس وأجساد البشر، بل حتى وصلت إلى حد الزعم بأنها تملك مفاتيح الفردوس نفسه، وكان ذلك بالقوة والاحتيال والخداع. وهذا الادعاء بالسيادة الكونية ظل مستمراً، وينتظر مجيء يوم ما ليفرضونه بالقوة. وهذه هي الصورة المريعة التي نجدها في ثياتيرا. إن الإصلاح الذي جرى في القرن السادس عشر قد حطم نير البابوية وأمن مقداراً من الحرية لأوربا. لوثر، وبكتاب مقدس مفتوح كان أكثر من ند أو نظير للبابا الذي كان يساعده ويحرضه أقوى ملك في ذلك العصر. لم تكن تلك الضربة قاضية بالنسبة إلى البابوية، فتعافت منها شيئاً فشيئاً. إن ملامح الإصلاح والبروتستانتية نجدها بارزة في الرسالة إلى سَارْدس. ولكن كانت هناك حاجة إلى إصلاح آخر، يتميز بمسيحية حيوية وعملية. وهذا ما أحدثه روح الله في بداية القرن الأخير. أخيراً، حالة اللا حرارة واللا برودة، انعدام وجود المسيح، مع التبجح والثروة والسيادة، والرضى عن الذات، أيضاً، هي الميزة الرئيسية التي تتبدى عليها الكنيسة في اليوم. الصليب خارج وداخل أبنيتها، والمسيح خارجاً يقرع على الباب من أجل الأفراد ليدخل، وهذا ما نجده في كنيسة لاودكية. إن الكنيسة ترفض أن تصغي إلى صوته أو تقر بسلطانه.

إيزابل أو البابوية:

كانت إيزابل امرأة، وملكة، وعابدة أوثان، ومضطَهدة، والحاكم الفعلي والمدير لحكم اليهود. لم يكن أَخْآبُ سوى دمية في يديها (الملوك الأول ١٨- ٢١). هكذا تظهر إيزابل وأكثر في الرؤيا. إذ كانت تجمع في ذاتها هذه المواصفات والمواصفات الأخرى التي تميز النظام البابوي (رؤيا ١٧ و ١٨)، كانت تنتحل بتكبّر لقب "النبية". كانت تدعي أنها تعلم بسلطان. وإذ تجمع ذلك مع التعليم يمكنها أن تستخدم كل فنون وإغراءات الأذهان المدربة بشكل خاص على أن تؤثر بشكل يحقق لها هدفها الفظيع. إن كل من يتبع كنيسة روما البابوية يقول: "أصغوا إلى الكنيسة الأم". "الكنيسة لا يمكن أن تخطئ في الإيمان أو الأخلاق"، ولابد أنكم تفهمون أن "الكنيسة" يُقصد بها البابوية بنقاوتها وبساطتها. إن تعاليمها وإغواءاتها، ورغم أنها ضد الكتاب المقدس والفهم البشري، يجب أن تُقبل على أنها ذات سلطان ومعصومة عن الخطأ. هذه عقيدة عند روما. الكنيسة لا يمكن أن تخطئ، ولذلك لا يمكن أن تتقدم. ومن هنا يأتي توافق وترافق روما والجهل، روما والإيمان بالخرافات، روما وعدم التفكير، كما يدلنا التاريخ بشواهد لا حصر لها. تخاف روما النور وتخاف الكتاب المقدس. يقول أتباع الكنيسة الرومانية: "الكنيسة تعلّم". بينما يقول البروتستانت: "رسالة الكنيسة هي الكرازة ونشر الإنجيل". كلاهما على خطأ. التعليم والكرازة ليستا موهبتان مقتصرتان على الكنيسة فقط، ولا هما مسؤوليتها. الكنيسة تتلقى التعليم ولا تُعلّم. التعليم والكرازة كلاهما موهبتان يمنحهما الرب لخدامه (أفسس ٤: ٨- ١٢).

إنها تتبع سياسة "ضلّل خدامي". هذا ما تفعله إيزابل العصر الحديث. لقد حوّلت المسيحيين المعترفين (الذين يُشار إليهم هنا بـ "الخدّام" إذ يحملون ذلك الاسم وتلك الشخصية) عن المسيح نحو مريم؛ وعن المسيح الوسيط الوحيد والشفيع الوحيد (١ تيموثاوس ٢: ٥؛ رومية ٨: ٣٤) إلى الأموات؛ وحوّلت المؤمنين عن المسيح إلى البابا؛ وعن الذبيحة الوحيدة ذات القيمة الأبدية إلى ذبيحة القداس؛ وحوّلتهم عن كلمة الله والثقة بها إلى تقاليد البشر غير المضمونة؛ وبشكل عام، حوّلت المسيحية إلى وثنية ممسحنة. أليس الاتهام إذاً كبيراً وجسيماً وخطيراً وتستحقه؟

إلى أين يقود هذا التباعد الكبير عن الحق؟ ما هي النتيجة الطبيعية التي سيصل إليها أولئك الذين ضلوا؟ إن نهاية الأخطاء البابوية، والخداع في التعاليم التجديفية، والممارسات الشريرة، والبغضاء التي لا تنتهي لكل ما هو خارج الشركة معها، هي أن تحصل على موالين مخدوعين يصل بهم الأمر إلى "أَنْ يَزْنُوا وَيَأْكُلُوا مَا ذُبحَ للأَوْثَان"- أي الزنا والوثنية. كانت هاتان الخطيئتان هما الأكبر في كنيسة برغامس، ونجدهما هنا راسختان ومكثفتان. يجب أن نلاحظ أيضاً أن الشرور في برغامس تُذكر بترتيب معاكس- الوثنية أولاً ثم الزنا (الآية ١٤). هذان الشران الشيطانيان كانا يُعلّمان ويُمارسان في الكنيسة نفسها. ولعله كان هناك وسط كنيسة ثياتيرا نظير فعلي للفاجرة إيزابل التي من العهد القديم، التي كانت تمارس هذين الشرين اللذين لم يشجبهما الملاك. ولكن هذه الخطايا الشائنة يجب أن تُفهم بالمعنى الواسع الشامل، وبالتوافق مع الفكرة التي تتكرر مراراً مع هذا التفسير هنا، أي الحالة العامة الوصفية للكنيسة ككل في زمن معين. تلك الشرور المريعة كانت تميز الكنيسة في القرون الوسطى.

الزنا، الذي يُشار إليه هنا رمزياً، هو الذي يمارسه المعترفون باسم الرب، ويتمثل بالاتصال المحظور المحرم مع العالم. فما كان قد بدأ مع قسطنطين وجد احتمال تحقيقه في البابوية. إن الادعاء بامتلاك السلطتين الروحية والزمنية معاً، على نطاق عالمي، كانت التحفة الفنية في البابوية. كانت الممالك تُمنح، والتيجان تُعطى والمناصب تُوزّع بحسب إرادة ذاك الذي يلقّب بنفسه بأنه "نائب يسوع المسيح"، وخليفة بطرس، الممسوح من الرب، إله فرعون، شبه الإله، وراء البشر، الأدنى قليلاً من الله، والأعظم من الإنسان، الذي يدين كل البشر، وما من إنسان يدينه ١٨.. إن الاتحاد الرديء بين الكنيسة والعالم وجد أعلى مستوياته كنظام في البابوية. إنه زنا روحي.

وتأتي بعدها المشاركة في عبادة الأصنام، التي تترافق بالضرورة مع الشر السابق. عبادة الأوثان في الكنيسة تتناقض مع نفسها، ومع ذلك فهي حقيقية. إننا نرى أن الكنيسة الرومانية واليونانية هي أنظمة وثنية معمَّدة، وإلى حد ما الكنيسة الأنغليكانية، كلها تنطبق عليها هذه التهمة. إن الكثير من تعاليمها وعقائدها، وأعيادها، وطقوسها، وشعائرها، والثياب الكهنوتية، والألقاب، هي وثنية المنشأ والأصل. لقد رفض الوثنيون تبني العبادة المسيحية وعقائدها، بينما الكنيسة- الأكثر شراً- تبنت عادات وثنية، وأعطتها أسماء مسيحية ١٩.. إذا أجرينا مقارنة بسيطة بين نظام الحكم في كنيسة العهد الجديد مع آليات العبادة غير الروحية ونظام الحكم في الكنائس الرومانية والشرقية والأنغليكانية، فإن القارئ سوف يُدهش إذ سيرى أنه ليس هناك ولو نقطة واحدة متشابهة بينها. ولكن هل الكنائس المستقيمة الإيمان بريئة من لطخة الوثنية؟ ألم تستعر ممارسات وعادات من الكنيسة الرومانية؟ إن البروتستانتية ليست هي المسيحية بالضرورة. إن انقطاع كنائس الإصلاح عن البابوية لم يكن كاملاً كما يجب. ممارسات رومانية عديدة وعقائد وتعاليم ذات مصدر وثني لا تزال باقية في الكنائس المُصلَحة. كل صيغ العبادة وقوانين الإيمان العقائدي التي لا تستند إلى الكتاب المقدس بشكل مباشر تُبعد القلب والعين عن المسيح. وهناك أشياء أخرى أُعطيت أسماء أخرى، وهذه تُعتبر عبادة وثنية.

زمنٌ للتوبة:

٢١- "وَأَعْطَيْتُهَا زَمَاناً لكَيْ تَتُوبَ عَنْ زنَاهَا وَلَمْ تَتُبْ". لا تزال روما موجودة. بالمبدأ هي لا تتغير. إنها تستعيد ببطءٍ قوتها وهيئتها القديمة. أي البابوية، وقد حكمت لأكثر من ألف سنة، ولكنها لم تتب. إضافة إلى ذلك فقد مرت عليها فترة من النعمة من الإصلاح حتى الآن ولم تتغير البابوية- بل هي شريرة كما دائماً، وتضطهد المؤمنين كالعادة، وفاحشة كالعادة، وحافلة بالوثنية كما عهدها. لقد أعطاها الرب "زَمَاناً لكَيْ تَتُوبَ" ولكنها لَمْ تَتُبْ. إن إيزابل في السنوات الـ ١٣٠٠ الأخيرة وأكثر هي النبوءة الرؤيوية عن بابل. اقرأوا عن سماتها وأعمالها في الأصحاحات ١٧ و ١٨، وستجدون أنها بدل أن تتوب قد صارت إلى حال أسوأ وعتمة أكبر وأن أعمالها ازدادت سوءاً وقتامةً أكثر من الماضي. يا لعظمة الرب الذي يمنحها هكذا رحمة وافرة، وهكذا فرصة لتتوب، مع أن هذا على ما يبدو كان بلا طائل أو جدوى. لقد تم تدوين الدينونة الإلهية بالقول: "لم تتب عن زناها". ليست المسألة أنها لا تستطيع أن تتوب بل لا تريد أن تتوب. البابوية فاسدة بالكلية. وطابعها ثابت راسخ، وبالتالي فمصيرها المشروم لا تغيير فيه.

إيزابل، مناصريها وأولادها:

٢٢- "هَا أَنَا أُلْقيهَا في فرَاشٍ، وَالَّذينَ يَزْنُونَ مَعَهَا في ضيقَةٍ عَظيمَةٍ، إنْ كَانُوا لاَ يَتُوبُونَ عَنْ أَعْمَالهمْ. وَأَوْلاَدُهَا أَقْتُلُهُمْ بالْمَوْت". هنا نجد ثلاثة أطراف مهددة بالدينونة: (١) إيزابل؛ (٢) أولئك الذين يتواصلون معها؛ (٣) وأولادها. قد علمنا للتو من الرؤيا أن إيزابل لن تتوب، ولذلك فإن دينونتها مؤكدة؛ وأولئك الذين يتواصلون معها أيضاً مهددون بالدينونة ما لم يتوبوا "عَنْ أَعْمَالهمْ". وأولادها- الأشخاص والأنظمة- الذين وُلدوا في روما، والذين تشرّبوا مبادئها وتعاليمها أيضاً مهددون بالموت.

"هَا أَنَا أُلْقيهَا في فرَاشٍ". كلمة "فرَاش" تستخدم بشكل واضح في تناقض مع فراش المومس اللاهثة وراء متعتها المحرّمة. سيكون فراش بلوى. "الَّذينَ يَزْنُونَ مَعَهَا". هذا هو المثال الأول والوحيد الذي تأتي فيه كلمة "زنى" في سفر الرؤيا. أولئك الذين عبثوا مع الشر وتنجسوا باتصالهم مع إيزابل، هم الجماعة التي يتحدث عنها النص هنا- إنهم جماعة يزدادون في زمننا، جماعة تولد في رحم الروح الزائفة المتمثلة في التساهل واللامبالاة من ناحية الشر. أولادها قتلهم "بالْمَوْت" وفي هذا تعبير مميز يشير إلى شدة دينونة الرب. وهذا يجد انعكاساً له في الأصحاحين ١٧ و١٨ من الرؤيا. هذا هو طابع البابوية ومصيرها المشؤوم، هي وكل من يتصلون بها بشكل مباشر أو غير مباشر. هناك درجات للإثم، ولكن النقطة الأساسية التي يجب التركيز عليها هي أن الله يدين الشر على مقدار تواصل كل واحد معه.

درس ووعد:

٢٣- "فَسَتَعْرفُ جَميعُ الْكَنَائس أَنّي أَنَا هُوَ الْفَاحصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبَ، وَسَأُعْطي كُلَّ وَاحدٍ منْكُمْ بحَسَب أَعْمَاله". إن التأثير الفعلي في كشف الرب عن الشر الكامن في العالم المسيحي وعن دينونته هو أن الكنائس ستعرف أن المسيح هو فاحص الكلى والقلوب. إذ سيظهر الشر المخفي سيُكشف أمام الضوء، وسيُعترف بالمسيح على أنه الفاحص الإلهي للأفكار السرية والأعمال المخفية للناس. كان هذا الفعل أمراً مقصوراً على الرب يهوه وحده في العهد القديم (إرميا ١٧: ١٠)، وعلى الكنائس أن تتعلّم هذا الدرس، وإلا أن يعرفوا أن المسيح، الذي سيتعاملون معه، يمارس دوره الجليل هذا. إن المعرفة الكلية هي له وحده.

ولكن بينما الأنظمة، التي سيُعترف بأنها صالحة أو سيئة، سوف تُدان، هناك أيضاً دينونة فردية على أعمال كل إنسان. والدينونة لن تكون على شخص المؤمن ولا على خطاياه (يوحنا ٥: ٢٤؛ عبرانيين ١٠: ١٧)، بل أعمال كل واحد سوف تُمحص على ضوء ذلك اليوم، وسيمنح الرب مديحاً أو لوماً للمرء بناء على ذلك. سيضع الرب دينونة عادلة على أعمال كل من يحمل اسمه. كم نحن في حاجة لمعرفة ذلك إزاء التساهل العام على الشر وانحلال الأخلاق الذي نجده سائداً ومنتشراً اليوم.

الباقون أو غير المنجّسين:

٢٤- "وَلَكنَّني أَقُولُ لَكُمْ وَللْبَاقينَ في ثَيَاتيرَا، كُلّ الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ هَذَا التَّعْليمُ، وَالَّذينَ لَمْ يَعْرفُوا أَعْمَاقَ الشَّيْطَان، كَمَا يَقُولُونَ، إنّي لاَ أُلْقي عَلَيْكُمْ ثقْلاً آخَرَ، وَإنَّمَا الَّذي عنْدَكُمْ تَمَسَّكُوا به إلَى أَنْ أَجيءَ". لم تكن كنيسة القرون الوسطى فاسدة بالكلية. البيجيون والفالدنيون في القرن الثالث عشر كانوا في منأى عن "أُمّ الزَّوَاني". شكلوا مع آخرين مجموعة نبيلة من الشهود ضد فساد روما. لقد كانوا سليمي الإيمان. لم يستطع أحد أن يشكو عليهم. لقد استنكروا بجرأة أخطاء وهرطقات النظام البابوي. لقد كانوا عموماً فلاحين بسطاء وغير مثقفين وسكان جبال عتاة، جاهلين لأغوار الشر، أو ما يقال هنا "أَعْمَاقَ الشَّيْطَان". وما كان الله ليزيد على أثقالهم؛ ولم يتلقوا تعاليم جديدة. كانوا متماسكين ومصممين على ألا يستسلموا بل أن "يتمسكوا" بالإيمان. ما كانوا يتوقعون إصلاحاً ولا أي تحسين لحالة الأشياء القائمة. ما كان هناك احتمال لاستعادة الكنيسة. ولذلك فإن عيون وقلوب "الباقين" كانت تتجه نحو الأمام وليس نحو الوراء، وذلك "إلَى أَنْ أَجيءَ". إن مجيء الرب هو غاية الرجاء. العودة إلى الحالة الأصلية للكنيسة بدت مستحيلة. فمن أين يستمد الأمناء الإخلاص؟ وكم ستطول معاناتهم ويحفظون طابع الشهادة؟ "إلَى أَنْ أَجيءَ". تلك هي لحظة الانعتاق الموعودة.

مكافأة الأمانة:

٢٦، ٢٧- "وَمَنْ يَغْلبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالي إلَى النّهَايَة فَسَأُعْطيه سُلْطَاناً عَلَى الأُمَم، فَيَرْعَاهُمْ بقَضيبٍ منْ حَديدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنيَةٌ منْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً منْ عنْد أَبي". لا يكفي أن ننكر إيزابل، وتعاليمها وأعمالها، بل "مَنْ يَغْلبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالي" ذاك يتوَّج. إكليل النصر يوضع على جبين من يحفظ طريق الرب بأمانة إلى المنتهى. الموت أو مجيء الرب هو ذاك المنتهى. "أَعْمَالي" تتناقض بشكل واضح مع أعمال إيزابل (الآية ٢٣). "أعمالها" كانت فاحشة. أما "أعماله" فهي مقدسة.

إن الطابع العام الكبير والواسع للوعد يتجاوز كل ما كان لدينا، أعني به "سُلْطَاناً عَلَى الأُمَم". هذا الأمر نفسه كان هدف الطموح البابوي. لقد وضع البابا، مجازياً وحرفياً، قدمه على عنق الملوك، وفي اليوم القصير الآتي من حكم الشيطان (الآيات ١٢- ١٩) ستركب المرأة على الوحش وتسيطر لفترة على القوى وسلطان القوة الغربية المنتعشة على نطاق واسع وكامل لم يشهد له مثيل من قبل. ولكن السلطة تُغتصب، وفترة الحكم تكون قصيرة، وأدوات حكمها الاستبدادي تصبح عوامل دمارها (١٧: ١٦، ١٧).

سلطة القديسين على الأمم متمادّة مع سلطة المسيح، على فترة زمنية تعادل ألف سنة. الغالبون سيحكمون ويرعون الأمم الغاضبة والمتمردة بيد من حديد. ستُكسر إرادتهم، ويُحطم كبرياؤهم، ويُنثر مجدهم في التراب، كشظايا الأواني السريعة الانكسار.

٢٧- "كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً منْ عنْد أَبي". من اللافت أن نلاحظ أن منح السلطة على الأمم هو حق للمسيح فقط (مزمور ٢)، ولكن نفس السلطة غير المحدودة والسيطرة مضمون للغالب الذي يثابر حتى النهاية. المكانة العامة والنصيب في الابن يتشاركها الغالبون. الكلمات نفسها التي يعطي بها الآب الأمم، الوثنية، والأرض على أكملها للابن يستخدمها الرب نفسها ليمنح شعبه الغالب نصيبهم العام (قارن الآية ٢٧ مع المزمور ٢: ٩).

٢٨- "وَأُعْطيه كَوْكَبَ الصُّبْح". لقد تشاركنا مع المسيح في ملكوته ومجده، ولكن ها هنا يتم تقديم وعد آخر وأكثر غنىً للغالب: "أُعْطيه كَوْكَبَ الصُّبْح"، وهذا اهتمام شخصي بالمسيح نفسه. فيسوع، في شخصه، كـ "شمس البر" لإسرائيل يشفي الشعب ويأتي بالبركة، ولكن في شخصه كـ "كوكب الصبح" يظهر قبل شروق الشمس إلى خاصته وحدهم. السابق له علاقة بالكنيسة (٢٢: ١٦)؛ والأخير مرتبط ببني إسرائيل (ملاخي ٤: ٢). فالرب يأتي إذاً ليُقدّم يوم سعادة لإسرائيل والعالم. الشمس ستُبعثر الغيوم وستبتهج الأرض، ولكن أول شعاع ضوئي خافت سيخترق العتمة والظلام اللذان لفا هذا العالم الحزين سيكون ظاهراً وسيبتهج به كل غالب، وعندها وفي رفقته سندخل منتصرين إلى مجال سلطانه الواسع وميراثنا (قارن بين ٢٨؛ ٢٢: ١٦، مع ملاخي ٤: ٢).

الدعوة إلى السماع:

٢٩- "منْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ للْكَنَائس". في هذه الرسالة كان الروح القدس يتكلم بنبرة جليلة. طابع البابوية وقدرها المشؤوم قد خطّها قلم الله. إن الروح يتكلم إلى الكنائس. الدعوة إلى السماع في الرسالة السابقة قد جُعلت قبل الخطاب الموجّه إلى الغالب. وهنا، بالتالي، الدعوة إلى السماع توضع بعد الخطاب الموجه إلى الفاتح. لمَ هذا؟ في الكنائس الثلاثة الأولى كان الجسد يعترف به ظاهرياً على أنه لله، وقد "يسمع". في الكنائس الأربع الأخيرة، الجسد المعترف يُعامل على أنه عاجز عن التوبة، ولذلك فوحدهم الذين يسمعون ويستجيبون لدعوة الروح القدس يُشكّلون الجماعة الغالبة.


١. - انظر الاتهام الفظيع المبرهن بشكل كامل، والتهم الموضوعة بإيجاز، في كتاب "الحملات الصليبية ضد المسيحيين، أو الهجمات الرسمية على المسيحية" للكاتب روبرت ب. سي. كورفي (منشورات سيمبكين ومارشال).

٢. - نيقولاوس ("غالب الناس") يُطابق مع بلعام، بحسب علم دلالة الألفاظ في الكلمة الأخيرة، كما كلمة "سيد" بحسب آخر، على أنها تعني "مفترس الناس". كلا الاشتقاقين غير مؤكدين، وأفضل العلماء المختصين بالدراسات واللغة العبرية (جيسينيوس وفورست، والذي يقول الأخير بإمكانية معنى "مفترس") يفسران الاسم لا على أنه يعني الناس، بل الأجنبي أو الغريب- "إي. هـ. بلامبتر د.د".

٣. - يقول إكيومينيوس أنهم كانوا "الأكثر فحشاء" في العقيدة، وفي حياتهم. ويوجز و. كيلي بشكل دقيق حالتهم قائلاً: "يبدو أن جوهر النيقولاوية هو سوء استخدام النعمة وصولاً إلى الاستخفاف بالأخلاقيات"- "محاضرات على سفر الرؤيا"، ص. ٤٨.

٤. - ترد كلمة "توبة" ١٢ مرة في سفر الرؤيا، ولكنها لا ترد في بقية كتابات القديس يوحنا.

٥. - تأتي الكلمة "أذنان" في الإنجيل؛ بينما "أذن" في الرؤيا.

٦. - كلمة "فردوس" لا تستخدم في جنة عدن. ترد هذه الكلمة ٦ مرات في الكتاب المقدس: نحميا ٢: ٨ يترجمها "غاب"؛ سفر الجامعة ٢: ٥؛ نشيد الأنشاد ٤: ١٣ يترجمها "بستان"؛ لوقا ٢٣: ٤٣؛ رؤيا ٢: ٧؛ ٢ كور ١٢: ٤. الفردوس هي مكان فعلي موجود الآن وفي حالة القيامة. لم يستخدم موسى هذه الكلمة أبداً. وسليمان كان أول من استخدمه.

٧. - من جديد نجد هذا التعبير القوي في الخطاب إلى فيلادلفيا (٣: ٩). وهنا نجده إزاء الكنيسة في معاناتها؛ وهناك في عداوتها للكنيسة في ضعفها. إن المجمع (الجماعة اليهودية) والكنيسة (الجماعة المسيحية) يميز بينهما الرسول يعقوب؛ من أجل الأولى انظر ٢: ٢، ومن أجل الثانية انظر ٥: ١٤.

٨. - "الموت الثاني" يأتي في مغايرة مع الموت الأول. الموت عند البشر هو توقف الحياة البشرية والنشاط على الأرض. إنه يؤدي إلى فصل مؤقت للروح عن الجسد، ولكن القيامة توحّدهما وتقدم الشرير إلى "الموت الثاني"، بحيرة النار. لا يتلاشى الكيان عندما يموت المرء، ولا يتوقف الوعي والإدراك عنده. فبعد الموت وقبل القيامة يكون الإنسان في الجحيم، تلك الحالة بين الموت والقيامة، ويكون له ذاكرة، وإدراك، وقدرة على الكلام، وعقل، الخ. لاشك أن هذه الصورة المرعبة هي حقيقة مريعة يومية، وهذه ليست من باب المثل (لوقا ١٦: ١٩- ٣١). "الموت الثاني" هو بحيرة النار. "الجسم المقام سيُصار قادراً على تحمل الغضب المتقد للإله القدير، سواء كانت النار مادية أم لا. موت الجسد هو رمز لـ "الموت الثاني"، ولكن بما أن المرموز إليه يفوق الرمز، كذلك الأمر فإن "الموت الثاني" يفوق الأول ويتجاوزه بدرجات كبيرة.

٩. - في كتابه التاريخي الموجز والرائع، "القرون المسيحية الثمانية عشر"، يورد الاضطهادات الوثنية العشرة كما يلي: كان الأول في عهد نيرون (٥٤ م)، والثاني في عهد دوميتيانوس (٨١ م)، والثالث في عهد تراجانوس (٩٨ م)، والرابع في عهد أدريانوس (١١٧ م)، والخامس في عهد سبتيميوس سيفيروس (١٩٣ م)، والسادس في عهد ماكسيميانوس (٢٣٥ م)، والسابع في عهد ديسيوس (٢٤٩ م)، والثامن في عهد فاليريانوس (٢٥٤ م)، والتاسع في عهد أورليانوس (٢٧٠ م)، والعاشر في عهد ديوكليتيانوس (٢٨٤ م). من المستحيل أن نحدد في جميع الحالات التاريخ الدقيق للسنة عندما بدأ كل اضطهاد. لقد كانت القوانين التشريعية ضد المسيحية تعلّق أو تطبق بحسب رغبة من كان إمبراطوراً حاكماً آنذاك. قوانين دوميتيانوس الداعية إلى الاضطهاد أبطلها نيرفا اللطيف، وقوانين ديوكليتيانوس أبطلها أول إمبراطور مسيحي، قسطنطين.

١٠. - المراسم الإلهية كانت تُدفع إلى الأباطرة الرومان، وفي جو انعدام التقوى هذا كانت برغامس رائدة في أسيا. يقول مؤرخ روماني: "مدينة برغامس كان لها الفضل في بناء هيكل على شرف الإمبراطور أغسطس"، وكانت قد توسلت إلى طيباريوس ليُشيدوا له أيضاً هيكلاً آخر. ومن اللافت أن الطور الأخير من الشر الوثني العام هو عبادة الوحش، أو قوة روما المنتعشة، على شكل مميت مهلك.

١١. - "قاطنوا الأرض" هم جماعة من الناس مرتدون في غالبيتهم قد عُرضت عليهم الدعوة السماوية، ولكنهم اختاروا الأرض عن عمد كنصيب لهم بدلاً من ذلك.

١٢. - يتكلم أندرياس عن رواية شهادة أنتيباس الذي كان موجوداً في عصره وعن مجادلاته الجريئة ضد متهميه. ويُقال أنه أُلقي إلى الثور النحاسي في فترة حكم دوميتيانوس- "الرؤيا، مع ملاحظات وتأملات"، ص. ٣٠.

١٣. - هناك نقاط تشابه معينة متوازية بين الأمثال السبعة في متى ١٣ والكنائس السبعة في رؤيا ٢ و٣، وخاصة بين المثل الأول والثالث مقارنة مع الكنيسة الأولى والثالثة. "الملكوت" هو موضوع متى ١٣؛ و "الكنيسة" هي موضوع رؤيا ٢ و٣.

١٤. - في ١ كورنثوس ١٠: ٨ عدد الذين هلكوا يبلغ ٢٣٠٠٠ولكن الكلمات "سقط في يوم واحد" فيها دليل واضح كافٍ عن التعارض في رقم الذين هلكوا. العدد الكامل الذي هلك ليس من الضروري أن يكونوا قد ماتوا في يوم واحد. يقول موسى بالرقم الأكبر دون أن يشير إلى الفترة الزمنية التي غطت تنفيذ الدينونة.

١٥. - اتُهم إسرائيل بالزنى بسبب شركته مع الأمميين (إرميا ٣: ٨)، لأنه كان يُنظر إليه على أنه عروس للرب يهوه. الكنيسة اتُهمت بالزنى في اتصالها المحرم مع العالم (رؤيا ٢: ٢١)، لأنها كانت ستقترن بالحمل.

١٦. - إن الكلمة الأصلية هي (agapa )، ويفضل ترجمتها بكلمة "محبة" (love )  بدل كلمة (charity ) التي تحمل ضمن معناها جانب الصدقة أو الإحسان.

١٧. - إن التطور التاريخي للبابوية ظهر منذ القرن الرابع الميلادي، عندما بدأ الادعاء بأعلوية أو تقدم البابوية، واستمر حتى القرن الثامن، عندما ظهرت المطالبة بالسيادة الكونية، روحية وزمنية، كما يُظهر كتاب "نشوء السلطة البابوية" للكاتب هوساي.

١٨. - إينوسانت الثالث، الذي اعتلى الكرسي البابوي في بداية القرن العشرين. المضطهد للمؤمنين القاسي وعديم الشفقة.

١٩. - لقد تم التقصي عن كل هذا بشكل كامل وتم التحقق منه بشكل لا يرقى إليه الشك في ذلك الكتاب المميز: "بابلين" الذي كتبه هيسلوب. انظر أيضاً كتاب "المدن الأسرارية في الكتاب المقدس"، و"تاريخ الكنيسة عند موشم"، الأجزاء ١ و٢ من طبعة عام ١٨٤٥.

الأصحاح ٣

خطاب الروح القدس إلى ساردس

(٣: ١- ٦).

الرسائل إلى ساردس وثياتيرا:

في هذه الرسالة إلى الملاك لدينا الحالة العامة للكنيسة بعد الإصلاح، كما أننا وجدنا في الرسالة السابقة صورة بالكلمات والرموز عن الكنيسة قبل الإصلاح. في ساردس نرى البروتستانتية؛ وفي ثياتيرا نرى البابوية. هاتان تتشابكان معاً بينما تتزامنان إلى النهاية، إلى مجيء الرب. في الرسائل الثلاثة الأولى نجد وصفاً لحالات الكنيسة المتعاقبة ككل. كانت الإصلاح نقطة تحول في تاريخ المسيحية الغربية. فرض البابوية لإدعاءات متغطرسة وغير تقية في القرن السابع كان بلوة من الشيطان للغرب في حين أن تطور الإسلام في نفس الفترة أصاب الشرق بآفة. كان الإصلاح شفاءً أو استعادة جزئية في الغرب، ولكن لم يكن هناك شيء في الشرق، إنها حالة ارتداد عن الله وعن الحق.

سَبْعَةُ أَرْوَاح الله وَالسَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ:

١- "الَّذي لَهُ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله وَالسَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ". إن "سَبْعَةُ أَرْوَاح الله" تعبير محير للبعض. في رسائل بولس نجده يتحدث عن وحدة الروح كحقيقة أساسية جوهرية فيقول: "روح واحدة". ولكن في عبارة الرؤيا القائلة بـ "سبعة أرواح"، نجد تعليماً عن كمال واكتمال المواصفات والأعمال المتنوعة للروح القدس الواحد. إن الإشارة إلى عمل الروح القدس السيادي كأقنوم متميز، ومع ذلك في ارتباط مع الله ويسوع المسيح، يبدو أنها مقصودة في (١: ٤)؛ بينما في (٥: ٦) كمال القوة وامتلاء الذكاء الروحي، الذي يتمتع به الحمل بشكل كامل، هو ما يتم التأكيد عليه. إن ملئ الروح هي في المسيح، وهو يستخدم قوة الروح القدس سواء نحو الكنيسة (٣: ١) أو نحو العالم (٥: ٦). أياً كانت حالة الكنيسة آنذاك- ساقطة، منهارة، فاسدة، أو ميتة- تكمن فيه هو الذي في وسط المناير الذهبية القوة الروحية على نحو كافٍ وافٍ.

المدينة القديمة من ساردس

١- "الَّذي لَهُ ....السَّبْعَةُ الْكَوَاكبُ". الكواكب هي حاملة النور إلى الكنائس، المسؤولة عن الإنارة لأجل المسيح وتعكس نور السماوات على الظلمة المحيطة. المسيح له "الأرواح السبعة" و"الكواكب السبعة"، مع أن الأخيرة لا يُقال أنها في يمينه، كما في (١: ١٦). إنها تقول ببساطة أنه يملكها. الترتيب الكنسي في الكنيسة حُفظ في أفسس، بينما في ساردس كانت الخدمة بشكل عام وتنظيم الكنيسة وفق ترتيب الروح القدس. فالقول "في يمينه" يعني أن الخدمة مؤسسة حسب الكتاب المقدس وكل شيء في مكانه، وكل ما يمنحه الروح القدس كان تحت ربوبية المسيح. ولكن بعد الإصلاح تشكلت الكنائس بسرعة وفق مشيئة أو هوى أو فكر قادة معينين. حقائق معينة، وليس "الحق"، صارت نقطة المحور أو المركز الذي تتجمع حوله عقول متجانسة تجمعت مشكّلة نظام الحكم الكنسي، ومؤسسة خدمة يُدفع لها وتُنظّم بحسب القدرة والموهبة والقوة بغاية زيادة عددها وتثبيته. ومن هنا يأتي القول: "لَهُ الْكَوَاكبُ". مهما يكن من أمر، إن الخدمة مهما كان نوعها تبزغ عن المسيح. "لَهُ الْكَوَاكبُ". خدمة الكنيسة بجملتها هي بالمسيح، ولكن يجب أن نتذكر أن لا نفصل بين "أرواح" و"الكواكب"؛ فيجب أن نراها معاً وإن بتمايز. إن الخدمة الباردة، الدنيوية، الفكرية التي يُنظمها البشر هي خدمة منفصلة عن الروح. الكواكب تشرق بفعل نور الروح. والفكرة هنا هي اتحادهما معاً. أهلية الكنيسة للقوة الداخلية والروحية وللتنظيم الخارجي للسلطة والخدمة هي بالمسيح دائماً وأبداً. وهنا تكمن قوة وضعف الإيمان المسيحي في البروتستانتية. إن الاتكال على إرشاد الروح القدس هو قوة حقيقية وإن الخدمة والهيئات التي تتجاهل الروح عملياً أو نظرياً عقيمة عاجزة والموت الروحي هو مصيرها بالتأكيد.

اعتراف لا حياة فيه:

١- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّ لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيّتٌ". إن المعرفة الكلية بالرب يتم التأكيد عليها مجدداً في هذه الكلمات: "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ". ولذلك فأن ذاك الذي يسير وسط الكنائس يفحص ساردس ويعلن هذا الحكم. "لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيّتٌ". كانت هكذا هي الحال ولا تزال في البروتستانتية. كان الإصلاح نتيجة نشاط روح الله. تاريخياً نتتبع أثر ذلك التدخل القدير من الله من خلال أدواته البشرية، لوثر، ميلانكتون، الخ. والأسباب المتنوعة التي ساهمت في الوصول إلى تلك النتيجة العظيمة، كاختراع الكتابة، الخ، ولكن وراء كل هذه هناك العامل المحرّك الكبير ألا وهو الروح القدس. إننا نعتبر البابوية أكبر نعمة والإصلاح أعظم بركة منذ بدء المسيحية. إننا نميز بين الإصلاح والبروتستانتية، فالأول كان عملاً إلهياً، والأخيرة كانت نظاماً بشرياً.

عندما نجحت قوة المصلحين في تحطيم قيود وأغلال أسوأ حكم استبدادي سجّله التاريخ، ظهر السؤال الحاسم: هل سيُمكن المحافظة على النشاط والحماسة عند المصلحين؟ هل سيأتي نصر بعد نصر؟ للأسف، فإن الإصلاح، كمثل كل حركة، بدأت في الروح، ثم انتقلت إلى أمر بارد شكلي لا حياة فيه. لقد بدأ المصلحون، وكذلك الذين تبعوهم، نظام تأسيس كنائس بدل البحث في الكتاب المقدس، الذي منه فقط يمكنهم أن يتعلموا كيف تكون كنيسة الله. وكادت قوة الروح تتلاشى؛ ربما كنا نستطيع أن نجدها في الأفراد هنا وهناك، ولكن في حالة الكنيسة العامة بعد الإصلاح، الحضور الشخصي للروح القدس في الكنيسة (١ كور ٣: ١٧) وفي المؤمنين الأفراد (١ كور ٦: ١٩) لم يعد موجوداً أو موضع تجاهل عندما كان شعاع الحق يخترق الظلمة. بدت الأمور جميلة ولكن لم تكن كذلك في القوة والحياة. وهنا نشير إلى الحالة العامة. لم يكن في البروتستانتية مخاوف أو فساد كبير في العصور الوسطى، بل رقاد الموت. هناك اسم يحيا، ولكنه مجرد اسم. التحول من البابوية إلى البروتستانتية، من ثياتيرا إلى ساردس، يمكن وصفه كخطوة خروج من "غرفة الرعب" إلى "زنزانة الموت". هناك ما يشبه الحياة في الظاهر، ولكن من يفحص كل الأشياء ويخترق بنظره الإلهي كل غطاء يقول: "أَنْتَ مَيّتٌ".

الأعمال الناقصة:

٢- "كُنْ سَاهراً وَشَدّدْ مَا بَقيَ، الَّذي هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَمُوتَ، لأَنّي لَمْ أَجدْ أَعْمَالَكَ كَاملَةً أَمَامَ الله". إن الحالة العامة هي حالة موت، ولذلك فعلى ممثلي الكنيسة الروحيين أن يتشددوا. ليس عليهم السهر واليقظة فقط إزاء الحالة المفروضة آنذاك، ولكن كان عليهم أن يكونوا ساهرين بثبات. "السهر" والصلاة مترافقان دائماً (مرقس ١٣: ٣٣) على ضوء عودة الرب. "الصلاة" و"السهر" مرتبطان لحفظ المسيحيين في جهادهم الروحي( أفسس ٦: ١٨). إن كان الموت الروحي داخلياً قد ميز الكنيسة البروتستانتية المعترفة، فإن المظاهر الخدّاعة كانت في الظاهر بعكس ذلك، فكم نحن بحاجة إلى حضّ وحثّ على الاستمرار في حالة اليقظة والسهر وعدم الاستسلام إلى النوم في الجماعة.

ولكن بينما تُفرض حالة سهر دائمة لإيقاف المزيد من الشلل والعجز (إذ أن الموت، وليس الحياة، سرعان ما صار سيد الموقف)، فإن الطاقة على الحب كانت هناك حاجة ماسة إليه.

٢- "شَدّدْ مَا بَقيَ، الَّذي هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَمُوتَ". إن ثمر الروح لا يزال موجوداً (غلاطية ٥: ٢٢، ٢٣)، رغم أنه ضعيف ومحدود التأثير؛ مع ذلك فإنه ومهما بقي من حياة ونعمة، كان يجب الاستمرار في البناء والبقاء والتشديد. إن العلاقة مع الله تتطلب ثباتاً بقوة، وإلا فإن الدين يُحتضر عملياً في هذه الأراضي المسيحية. لم يكن هناك حاجة إلى حث وتحذير أكثر مما هو الحال عليه الآن. السيف والمالج مطلوبان دائماً، ولكن الاستخدام الحكيم والدقيق في الأخير هو الحاجة الماسة للكنيسة.

٢- "لَمْ أَجدْ أَعْمَالَكَ كَاملَةً أَمَامَ الله". تشكل هذه التهمة أساس التوبيخ أو اللوم الموجه إلى الملاك. أعمال الإيمان والطاعة لم تكن كاملة، أي بمعنى لم تكن مكتملة. علاقات الروح العملية مع الله كانت شبه مهملة خلال النزاع العام مع روما. التقوى الفردية وحياة الكنيسة كانت في أخفض مستويات الانحدار. البروتستانتية التي تشير إلى أولئك الذين انسحبوا من كنيسة روما ١ تدل بشكل بائس على ما يجب أن يكون عليه المسيحي. الحقائق العظيمة المحتواة في رسائل أفسس وكولوسي كان يجهلها تماماً جماعة المصلحين. كانت محاولاتهم تتركز بشكل رئيسي على الصراع العظيم لاستعادة أنفسهم وأبنائهم والتأكيد على حقيقة التبرير الإيمان التي وردت في رسائل بولس، رغم أنها لم ترد في كتاباتهم ٢. لقد كانوا دفاعياً للغاية في أفكارهم المتعلقة بشخصية الروح القدس وسكناه على الأرض، وعن الكنيسة كجسد المسيح، وعن علاقاتنا الفردية والجماعية مع المسيح في السماء.

لذلك لم تكن أعمالهم كاملة أو مكتملة أمام "إلهي". وبالتالي، فقد كانت هذه نقطة العيب الكبيرة في البروتستانتية، ومن هذه الناحية فإنها تشابه التكرس بالأعمال الذي امتُدحت ثياتيرا عليه (٢: ١٩). وعلى جميع الأحوال، علينا أن نميز بين الإصلاح والحالة التي جاءت لاحقاً والتي تسمى البروتستانتية. لاشك أن البروتستانت كانت حركة إلهية، ولكن البروتستانتية كانت مركزاً عاماً معارضاً للبابوية رغم أنها ما كنت تخلو من كثير من الأتقياء بينما النظام نفسه له طبيعة الموت الأخلاقي.

مهددون:

٣- "اذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمعْتَ وَاحْفَظْ وَتُبْ، فَإنّي إنْ لَمْ تَسْهَرْ أُقْدمْ عَلَيْكَ كَلصٍّ، وَلاَ تَعْلَمُ أَيَّةَ سَاعَةٍ أُقْدمُ عَلَيْكَ". كلمة "اذكر" الواردة في الرسائل إلى أفسس (٢: ٥)، كانت ضمن الحقيقة المعلنة والنعمة المعطاة، اللتان انحرفت الكنيسة عنهما. بينما كلمة "اذكر" هنا هي على ضوء ما استعاده الله للمتجددين من خلال عملية الإصلاح، أي الإنجيل، كلمة الله وحرية الضمير، وذلك موجود لدرجة أو أخرى لأنه يتدفق مما أعطاه الله. كلاهما "تلقيا" و"سمِعا". البروتستانتية كانت تعيش على الشهرة المكتسبة من خلال صراعها الناجح مع البابوية؛ كانت تعيش على "اسمها". الحقائق المستعادة والإنجيل المسموع، ولمسرّة الآلاف، كانت تذوي من ذاكرتهم وضمائرهم؛ ومن هنا كان الأمر بأن "احفظ" و"تُبْ"- للمحافظة على ما كان لديهم، وللتوبة عن الاستخدام البائس الذي كان لهم من البركات.

لقد نُصحوا أن يكونوا ساهرين (الآية ٢)، وما لم يفعلوا ذلك فإن الدينونة في انتظارهم. الطابع  الذي سيأتي عليه المسيح إليهم هو "كلص في الليل" (١ تسا ٥). سيأتي كقاض، في ساعة غير متوقعة، وغير معروفة، وغير منتظرة. البروتستانتية والعالم هم في راحة بال. المنشقون عن الكنيسة الأنغليكانية هم في منبر الوعظ، والصحافة، وساحات الكنائس وهم سياسيون نشطون. الكنائس التي ستدعمها الدولة ستكون سياسية بشكل كبير في المبدأ والممارسة. ولذلك، فإن طابقت البروتستانتية نفسها مع العالم، وشاركت ثرواته، فإنها ستشاركه نفس المصير من كل بد. يأتي المسيح إلى الكنيسة كنجم الصباح، ولليهود كشمس البر، وللعالم والدين المعترف بشكل مفاجئ كـ "لص في الليل". البابوية (ثياتيرا) والبروتستانتية (ساردس) يركضان معاً، ولكن في خطين متعارضين. وتُبذل جهود جبارة لدرء الصدع الحاصل مع البابوية. وتُقلّص الفوارق بينهما. وها هي الساعة تقترب عندما ستندمج الطوائف الـ ١٣٠٠ في العالم المسيحي معاً، يترأسهم ضد المسيح شخصياً، ولكن نهاية كل تحالف لا يعمل فيه الروح القدس لا يؤدي إلا الدينونة.

الوعد لغير المنجسين:

٤- "عنْدَكَ أَسْمَاءٌ قَليلَةٌ في سَارْدسَ لَمْ يُنَجّسُوا ثيَابَهُمْ، فَسَيَمْشُونَ مَعي في ثيَابٍ بيضٍ لأَنَّهُمْ مُسْتَحقُّونَ". في ثياتيرا، "البقية" أو "البقية التقية"، وفي ساردس "بضعة أسماء" لم تتنجس، يشكّلون جماعة كانت تسر الله. في المبدأ والممارسة كانوا منفصلين عن الشر الذي استنكروه؛ فقد ساروا في معزل عنه بعيدين عنه. ثقل التأثير والأعداد كانت مع الجانب الأعم. "بضعة أسماء في ساردس" لم يُنجسوا ثيابهم. الجماعة كان لها اسم في العالم و"القلة" كانوا غير معروفين، ولم يكن لهم وجود لافت، بل كل من كان في الجماعة كان يعرفه شخصياً ذاك الذي "يُنادي خرافه باسمها". يا لوفرة العزاء السمح الكريم: "سَيَمْشُونَ مَعي في ثيَابٍ بيضٍ". لقد صانوا استقامتهم هنا، وسيمشون معه هناك في ثياب جُعلت بيضاء بدم الحمل. سنتمتع بسير مبهج وحديث مع مخلّصنا وربنا الممجد (قارن مع لوقا ٩: ٣٠- ٣٢). في ذلك اليوم الذي سيأتي المتميز بالمكافأة الوفيرة، وبالرفقة المقدسة لربنا المبارك أبداً، لن يفكروا أبداً في عدم استحقاق شخصي كما يحدث الآن، لأن الرب يعتبر أنهم، وبوافر رحمته ونعمته، "مُسْتَحقُّونَ". حق هو تقدير النعمة، لأن كل فرد مميز ومكرم يأخذ ما يستحق من اعتبار لأنه يكون "شُعْلَةً مُنْتَشَلَةً مِنَ النَّارِ"، إذ يكون قد نجا من دينونة هائلة كان ليستحقها بعدل.

مكافآت للغالب:

٥- "مَنْ يَغْلبُ فَذَلكَ سَيَلْبَسُ ثيَاباً بيضاً، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ منْ سفْر الْحَيَاة، وَسَأَعْتَرفُ باسْمه أَمَامَ أَبي وَأَمَامَ مَلاَئكَته". ها هنا ثلاثة وعود. (١) الغالب الذي مشى هنا في نقاوة، في استقامة شخصية أمام الله، سيُبرر بوفرة في المشهد المجيد خارج هذا العالم. سيُلبَس رداءً أبيض لا لطخة فيه ولا بقعة. (٢) ذاك الذي ثابر وواظب في طريق الحياة إلى النهاية سوف لن يُمحَ اسمه من سجل الاعتراف المسيحي. كثيرون يحتلون مراكز عالية في الكنيسة، تُعتبر أسماءهم من أهل البيت، كثير من هؤلاء ستُمحى أسماءهم في يوم مراجعة سجلات الحياة تحت ناظري عين الرب الفاحصة في كل الكنائس. (٣) ذاك الذي لم يتراجع عن اعترافه باسم المسيح- وغالباً ما يكون غير مشهور في المجتمع الديني وبالتالي في العالم- سيظهر متميزاً في الحضور المهيب للآب وملائكته وسيُعترف باسمه أمام تلك الكنيسة العظيمة.

٥- "سِفْر الْحَيَاة" هنا هو ليس نفسه الوارد ذكره في الأصحاح ١٣: ٨. في (٣: ٥) إنه اعتراف قد يكون حقيقياً أو لا. النهاية سوف تظهر ذلك. بعض الأسماء ستبقى، والبعض الآخر ستُمحى. ولكن تلك التي في (١٣: ٨) كل اسم مسجّل هو لمؤمن حقيقي، لأن الأسماء قد كُتبت منذ تأسيس العالم ٣، وبالتالي قبل بدء مسؤولية الإنسان. إن الله يعرف النهاية من البدء، ولذلك كتب كل اسم بأحرف لا تُمحى. في (٣: ٥) "سفر الحياة" هو سجل أسماء المسيحيين المعترفين؛ وفي (١٣: ٨) "سفر الحياة" هو سجل الواقع الحقيقي. في السابق نجد أسماء المؤمنين الحقيقيين والزائفين؛ وأما في الأخير فنجد أسماء المؤمنين الحقيقيين فقط.

خطاب الروح القدس إلى فيلادلفيا

(٣: ٧- ١٣).

فيلادلفيا: معناها ومغزاها العملي:

كانت فيلادلفيا آخر مدينة مسيحية خضعت للأتراك، وقد استمرت أطول فترة بين الكنائس السبعة المذكورة في هذه الخطابات؛ إضافة إلى ذلك، إنها الوحيدة بين السبعة التي لا يزال اسمها محفوظاً في العصر الحديث- إذ تحمل اسمها حالياً مدينة فيلادلفيا الأمريكية المعروفة التي أسسها ويليام بين.

ترمز فيلادلفيا إلى "المحبة الأخوية"، ومن الواضح أنها تشير إلى ميزة واضحة في عمل الله في أيامنا. نشعر بالرضى لأن فيلادلفيا نهضت، وهي تتمتع بشخصية فريدة، وقد تطورت مع باقي الكنائس التي رأيناها أمامنا. لماذا نجد فيلادلفيا، المدينة المميزة، لا أصل تاريخي لها؟ إننا نعتقد بوجود ذلك. ففي نهاية القرن الثامن عشر استقر العالم المسيحي في سبات الموت. البروتستانتية كانت تعيش منتعشة باسمها. كان ذلك القرن هو أسوأ قرن يمر على المسيحية، وأيضاً كان فيه أسوأ مشهد للحالة الأخلاقية أمام الله. نعتقد أن عهد كنيسة فيلادلفيا وإطلاق صرخة منتصف الليل (متى ٢٥: ٦) حدثان مترابطان؛ هذا إن لم يكن الأخير جزءاً أو قسماً من حركة فيلادلفيا. لقد كان هذا انتعاشاً حقيقياً، إصلاحاً روحياً. كان عملاً ليس له طابع عمومي كالإصلاح، بل يتميز بحركة تشابهه وتعادله. إن إحياء الحقائق التي غطّاها غبار النسيان لزمن طويل، وانطباقها على نفوس وحياة قديسي الله، كان العمل الفيلادلفي لثمانين سنة مضت. الكثير من عقائد وتعاليم وحقائق العهد الجديد هي ذات أهمية أساسية بالنسبة إلى موقف وحالة القديسين والذين سرعان ما نُسيوا بعد موت الرسل. نشكر الله على انتعاشهم في يومنا. جماهير وافرة العدد من أولئك الذين خطوا ظاهرياً إلى داخل النعمة المباركة الممنوحة لهم ولنا بروح قدس الله قد تخلُّوا عنها الآن. فما الذي سيلي ذلك؟ ماذا بعد؟ لاودكية، النقية والبسيطة. في فيلادلفيا يُختطف القديسون الحقيقيون إلى الهواء لملاقاة المسيح. في لاودكية الذين يكتفون بالاعتراف فقط يتقيؤهم فمه. في الأولى تُحفظ الكنيسة، وفي الأخيرة تُرفض الجماعة.

"المحبة الأخوية" ٤ تشير إلى جماعة معينة محددة. المحبة الإلهية بكل جوانبها هي محبة مقدسة، لا تحتمل الشر، لأن الله محبة. ولذلك فإن "المحبة الأخوية" يجب أن يكون فيها شيء من طبع مصدرها، الذي هو الله نفسه. بهذا المعنى تقف فيلادلفيا متمايزة في تضاد مع ساردس. فهذه الأخيرة تمثّل جماعة المسيحيين المعترفين، بينما تميز بقية تقية. والأولى ترفع شأن جماعة مخلصة من قلبها، قد يتبعثر أعضاؤها في كل أرجاء الأرض ولكنها تتميز بالمحبة، المحبة المقدسة والحقيقية في طابعها، محبة لا تنقص عن الدائرة الإلهية، "أَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أفسس ٢: ١٩).

المواصفات الشخصية والسلطة الإدارية:

٧- "اكْتُبْ إلَى مَلاَك الْكَنيسَة الَّتي في فيلاَدَلْفيَا: هَذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذي لَهُ مفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلقُ، وَيُغْلقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ". إن هذا الظرف يجب أن نلاحظه بعناية إذ أن الشخصية التي يقدم المسيح نفسه فيها لا تشكل جزءاً من مجده كما يُرى في الأصحاح الأول. إنه يتخذ موقفاً أخلاقياً نحو كنيسة فيلادلفيا، يناسب تماماً حالة الضعف المتجلية فيها. وهنا إذاً، لدينا المسيح في شخصه الحقيقي، بجوهره. إنه القدوس، إنه الحق. والبقية قد تكون على نفس الدرجة، فنادراً ما تعطي قوة الكلمات: "الْقُدُّوسُ الْحَقُّ". إنهما كلاهما في شخصه. هو على الدوام تجسيد للقداسة والحق. شخصياً وجوهراً بآن معاً هو "الْقُدُّوسُ" و"الْحَقُّ". وهذه صفات نراها بشكل أساسي كمواصفات إلهية (هوشع ١١: ٩؛ إرميا ١٠: ١٠؛ رؤيا ٤: ٨؛ ١ تسا ١: ٩؛ أشعياء٦: ٣؛ ١ يوحنا ٥: ٢٠). نتكلم عن الأشخاص والأشياء على أنها مقدسة وحقيقية، ولكن ما من مخلوق كان له المجد الأخلاقي الجوهري ليكون الْقُدُّوسُ والْحَقُّ. وكما نراها في نصنا هنا إنها ألقاب إلهية حقاً.

٧- "الَّذي لَهُ مفْتَاحُ دَاوُدَ". في هذه الكلمات وفي ما يليها هناك إشارة إلى أشعياء ٢٢: ٢٢. يُعزل شِبْنَةُ ويُهان. خازن بيت داود الملكي استخدم منصبه الرفيع ليخلّد نفسه (الآية ١٦). وعندها أعلن النبي تقليد أَلِيَاقِيمَ إدارة السلطة الملكية. إن بنود النبوءة في العمق والاكتمال هي مسيانية بامتياز، تتجاوز الظروف التاريخية لأيام حزقيال. الإعلان النبوي لأشعياء (٢٢: ٢٢) وكلمات الرائي (الآية ٧)، هما متطابقان تقريباً من ناحية الألفاظ، وتدلان ضمناً على معنى السلطة الإدراية؛ الأولى مرتبطة بالملكية في مملكة يهوذا، والأخيرة مرتبطة بالنعمة بالكنيسة. إن "المفتاح" هو رمز يشير إلى الحق الذي لا جدال حوله في الدخول إلى أي سلطة مطلوبة وممارستها.

البعض يربط، وللغرابة، "مفْتَاح بيت دَاوُد" بـ "مفاتيح الموت والجحيم". ولكنهما ليسا متطابقين. فالأول يشير إلى سيادة المسيح في الزمن، والأخير إلى حكمه على العالم غير المرئي في كل ما يتعلق بأجساد وأرواح الناس. "مفاتيح الملكوت والسماء" (متى ١٦: ١٩) وحدها قد عُهد بها إلى بطرس وهذه ترمز إلى السلطة المفوّضة، والتي من الضرورة أن تتوقف عندما ينتهي عمله. فتح بطرس بكرازته مفتاح الملكوت لليهود في أعمال ٢ ودخول الأمميين في أعمال ١٠. إن المفاتيح التي تُستخدم، والأبواب التي تُفتح، وهي حقٌ موروث ومكتسب، هي مسألة غامضة في "مفاتيح القديس بطرس". لقد ترك بطرس الباب مفتوحاً؛ ومن هنا فلا حاجة إلى استخدام مستقبلي للمفتاح.

٧- "الَّذي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلقُ، وَيُغْلقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ"، يفعل ذلك بفضل امتلاكه "مفتاح داود"، أي السيادة المطلقة. ولكن الإشارة هنا ليست إلى القبول أو الرفض المتعلق بأي كنيسة أو مملكة. إنه "باب" خدمة وشهادة هو الذي يُفتح أو يُغلق حسب مسرة المسيح (قارن مع أعمال ١٤: ٢٧؛ ١ كور ١٦: ٩؛ ٢ كور ٢: ١٢؛ وأيضاً مع الكلمات التالية: "هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً"). إن كنوز النعمة والبركة هي تحت سيادة المسيح المطلقة، "إن لديه مِفْتَاح"، ولن يمرره لأحد. ومن هنا فعندما يفتح أو يغلق الباب، من سيستطيع أن يغلق أو يفتح بعده؟ إن حقه في توجيه خدامه لا يقبل الشك أو الجدال، وسلطته غير محدودة وما من يقاومها.

الأمر الوحيد الذي يتجاوب مع فكر المسيح:

إن حماسة وغيرة البعض غير محدودة، والبعض الآخر إيمانهم المستقيم لا شائبة فيه، وهناك عدة كنائس قد اتخذت موقفاً كنسياً كتابياً، ومع ذلك فإن كثيرين لا يستطيعون أن يقدموا جواباً حقيقياً له، وهو القدوس، والحق. يستحيل علينا أن نشير إلى أي مجموعة من القديسين على الأرض وأن نقول: "هذه الجماعة هي كجماعة فيلادلفيا" التي في رؤيا ٣: ٧- ١٣. ما يروق لفكر الرب (والذي لا يجب أن يُعوز المؤمن الحقيقي) هو الحالة الأخلاقية، انعكاس ماهية الرب في الشخصية الأخلاقية الجوهرية. إن الله يختم شعبه بالقداسة والحق، وهكذا يربطهم أخلاقياً بابنه الحبيب. ولكن العمل يجب أن يبدأ وأن يُتابع في الداخل، داخل النفس، وهذا سينجم عنه أشياء ظاهرة تتبدى أمام عيني الرب سيُسر بها. ساردس هي صورة عن العالم؛ وفيلادلفيا صورة للرب. ومع ذلك وإذ ندرك فقر جوابنا له وهو القدوس الحق، نشعر بضرورة أن نعتنق الفكر المقوي ونشدد في أن سلطة الإدارة الكاملة للملكوت هي فيه. باستطاعته أن يخلق فينا التوق إلى القداسة والتوافق الأخلاقي معه. لا نستطيع أن نقبل بوجود أي ظل أو صدى غير حقيقي في حياتنا مع المسيح. إنه يرفع فينا كمال الإنسان الجديد لكي نرغب في الحق فقط. إن لديه، وسيبقى لديه، مفتاح داود، وسيفتح كنوز القوة والبركة أمام شعبه المحبوب. ولكن يجب أن نعرف أن كل ادعاءاتنا وتبجحنا وتفاخرنا بأخلاقنا وارتباطنا الكنسي يعارض الحالة الأخلاقية التي تلائم الرب. إن الشعب الذي يشبه المسيح لا ينشغل بحالته أو تقدمه. إن عملية التحول (٢ كور ٣: ٤) تتوقف عندما نواجه ذاتنا، أي ما نحن عليه وما فعلناه، بالنفس.

مشجَّعون وممتدحون:

٨- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ. هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً وَلاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُوَّةً يَسيرَةً، وَقَدْ حَفظْتَ كَلمَتي وَلَمْ تُنْكر اسْمي". لقد سارت كنيسة ساردس يداً بيد مع العالم، ولذلك فإنها تستحق أن تشاركه نفس المصير المشؤوم (انظر رؤيا ٣: ٣ مع ١ تسا ٥: ٢). ولكن ليس الحال هكذا مع الكنيسة في فيلادلفيا. لقد نأت بنفسها عن العالم، ولذلك فإنها ستلاقي نهاية سعيدة (الآية ١٢). الحالة العامة للأولى، مع الآلية الدينية الوافرة والأعمال على مقياس كبير، هي في تضاد واضح مع الأخيرة، التي لا تهتم بالدنيويات، وليس لها تنظيم كنسي، أو أعمال يُعجب بها العالم أو يمتدحها لأجلها. إن أعمال فيلادلفيا لا تجتذب إعجاب العالم ولا تمنحها مجد العالم. يكفي للمؤمن هذا، "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ". إن من هو في فيلادلفيا، الذي يتمتع بهذا الطابع يزدهر روحياً في الظل. فهناك، وليس في هذا العالم الذي يمتدحه أو يرعاه، سيمضي أجمل لحظات الشركة مع الرب. "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ"، ولو كانت ضئيلة وضعيفة في أعلى مستوياته، كافية لتبقى قوية ومبهجة إلى أن يحين يوم التعويض.

ولكن ضعف فيلادلفيا لا يعيق الخدمة والشهادة، ولا يمنعهم من أن يكونوا صادقين في إيمانهم. بالنسبة ليسوع على الأرض، الذي كان همه الوحيد هو أن يصنع مشيئة أبيه مهما كلف الأمر، فتح البواب الباب وما من أحد يمكن أن يغلقه. وهكذا هنا للمسيح الحق الذي لا ينازعه فيه أحد بأن يستخدم المفتاح، فكل سلطان في السماء وعلى الأرض قد مُنح له (متى ٢٨: ١٨). لقد جعل أمام الملاك "باباً مفتوحاً". الخدمة بالنسبة له والشهادة له كانتا العمل السعيد الذي يرضيه في حياة الكنيسة. ليسوا في حاجة لأن يخافوا، إذ ما من مخلوق يمكن أن يغلق ذلك الباب المفتوح. "لاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلقَهُ". فيا لها من قوة إذاً! في الأفراد أو الجمعيات، القدرة المخلوقة تقف عاجزة عن منع الخدمة أو إيقاف شهادة أولئك المدعوين إلى اتحاد شخصي مع المسيح. إن دفاعنا الوحيد هو ضعفنا. هل ندرك ذلك؟ لدينا باب مغلق في أعمال ١٦: ٦، ٧، وباب مفتوح في ١ كورنثوس ١٦: ٩.

ومن ثم، وبعد هذا التشجيع الكريم والسموح والكبير يبدأ الرب في لحن الإطراء الذي لا ينقطع. وما من كلمة توبيخ. كنيسة سميرنا كانت في معاناة، وكنيسة فيلادلفيا كانت في ضعف، ولا لوم يوجَّه لأي منهما؛ هاتان هما الكنيستان الوحيدتان المستثنيتان من التوبيخ من بين الكنائس السبعة.

٨- "لَكَ قُوَّة يَسيرَة". لقد عمل الروح القدس بقوة لا متناهية وغير محدودة في الشهادة والكرازة في مستهل المسيحية، وجعل الكنيسة تستمر في حياة الطاعة والاتكال على قوة الروح القدس باكتمالها.

لقد سُرَّ الرب بأن يجعل تمام قوته الروحية موضع اتكال يستند إليها الأفراد والجماعات المخلصة، ولكن ليس هذا حضور الروح القدس في الكنيسة؛ فهذا الأخير هو حقيقة ثابتة دائمة عهدت بها كلمة الرب نفسه (يوحنا ١٤: ١٦). لم يكن هناك الكثير لإظهاره، ولا طاقة روحية مميزة، ولكن كانت هناك بعض القوة. الكنيسة في اعترافها هي كحطام سفينة غارقة وسيكون نكراناً للفساد والدمار أن يتوقع من الروح القدس قوة بولسية أو بطرسية. لا يستطيع الله أن يعمل بقدرة هائلة في حالة نكران اسم ابنه، القدوس، الحق. إن كمية القدرة كانت ضئيلة، ولكن كانت موظفة بشكل فعال، وليست كشيء من الممتلكات الفاقدة النشاط. النشاط في الخدمة والأمانة لكلمة واسم المسيح كانت تميز الملاك.

٨- شهادة المسيح كانت ذات طابع إيجابي وسلبي. لقد "حَفظْتَ كَلمَتي" ٥- إيجابية، و"وَلَمْ تُنْكر اسْمي"- سلبية. الأولى تتضمن خضوعاً كاملاً للنفس والوجدان للكلمة المكتوبة. لكي "يحفظ" الكلمة يجب أن تكون الطاعة جاهزة. قراءة الكتاب المقدس بلا مبالاة أو بإهمال كنوع من الواجب، أو حتى دراستها لأجل الفكر والتزود منها بما يلزم لخدمة أفضل لا تجعل المرء فاعلاً للكلمة. لحفظ كلمة المسيح مهما كلّف الثمن يتطلب الأمر التخلي عن التميز الاجتماعي والمدني وترك المكانة في  الكنيسة المعترفة وفي العالم.

بالتأكيد أيضاً، في عالم التصق المقت الديني باسم الرب المقدس لا يمكن للمرء أن يقف مبتعداً أو أن يرفض الارتباط بالآخرين من أناس أخيار ومتعلمين، إلا إن كان هذا يخزي المسيح. إيليا في يومه، وبولس في عصره، ولوثر في آخر فترة كانوا شهوداً متميزين لله. خلال تلك الفترات الحاسمة وغيرها كان في رفقة الله عدد من الشهود السلبيين. إنه لأمر منعش روحياً أن نتتبع خطوات أناس حاربوا لله والحق بشجاعة، خاصة ونحن نلاحظ مدى القوة المعارضة لهم؛ ولكن دعونا لا نتغافل، كما فعل إيليا، عن الـ ٧٠٠٠ الذين لم يحنوا ركبتهم للبعل (الملوك الأول ١٩: ١٨). شهادته كانت أكبر من الأخريين بلا شك، ولكن الرب كان أيضاً يقدّر شهادتهما.

الاسم يمثّل شخصاً، ويفترض غيابه بالضرورة. قيمة ماهية الشخص لها قوة في الاسم. الصلاة باسم المسيح هي الناجحة (يوحنا ١٤: ١٣، ١٤)؛ ولاسم المسيح وحده سيجمع الله قديسيه (متى ١٨: ٢٠)؛ وبفضل هذا الاسم غُفرت خطايانا (١ يوحنا ٢: ١٢)؛ وبسببه يقود الله شعبه التقي في طرق البر (مز ٢٣: ٣). فليس قليلاً إذاً أن نحفظ اسم المسيح ولا ننكره في الأيام التي تتكاثر فيها الآثام. إن كنا لا نستطيع أن نقدم شهادة جريئة واضحة ثابتة صلبة كما شهد إيليا، فلنتمسك إذاً بشهادة صامتة على الأقل، ولكن دون أن ننكر اسم الرب المبارك.

دينونة اليهودية المعاصرة:

٩- "هَئَنَذَا أَجْعَلُ الَّذينَ منْ مَجْمَع الشَّيْطَان، منَ الْقَائلينَ إنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ يَكْذبُونَ: هَئَنَذَا أُصَيّرُهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَ رجْلَيْكَ، وَيَعْرفُونَ أَنّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ". نلتقي بنفس الجماعة هنا كما في الرسالة إلى سميرنا. طابع المعارضة قد لا يكون نفسه في كلتا فترتي الكنيسة، لأن تكتيكات الشيطان مختلفة، ولكن في كلتا الحالتين توسم المعارضة بأنها "مَجْمَع الشَّيْطَان". تبدو الجماعة منظمة أكثر وموحدة في فترة فيلادلفيا من الكنيسة؛ ولذلك فهنا "مَجْمَع الشَّيْطَان". هؤلاء المشار إليهم هنا هم من اليهود، فكما أن اليهود ادعوا أنهم شعب الله على الأرض وأقصوا الآخرين، كذا نشأ نظام كنسي فيه خلافة تقليدية. طابعها الحقيقي يكشفه رب الكنائس. إن هذا المجمع هو تحت إمرة الشيطان، وكلما ازداد شراً ازدادت إساءتهم إلى اسم الرب القدوس والحقيقي. إن الإدعاء بأنهم الكنيسة، أو أنهم شعب الله زائف، "كذبة". إن نفوسنا وضمائرنا صارت متبلدة إلى أن وسلنا إلى حالة فظيعة تشوش فيها الكثيرون من المؤمنين الحقيقيين. إن جمعيات الكنيسة-الدولة اليوم قد تطورت عن اليهودية، مع شعائر وعقائد مسيحية معينة أُضيفت إليها منذ ذلك الحين. المخلّصون وغير المخلّصين يُخاطبون معاً بالقول "إخوة". يمكن إثبات التهمة بيُسرٍ وببراهين كثيرة. يكفي أن نقرأ العهد الجديد ونقارن تعاليمه مع البروتستانتية ككل، ثم نسأل: أليس في وسطنا وحولنا نظام كبير من اليهودية في مبادئها وتقاليدها وممارساتها وطابعها؟ إن اليهودية المعاصرة تقع عليها دينونة الرب المهلكة. الشعبية، والكمية، والثروة، والتأثير هي إلى جانبه. قديسوا فيلادلفيا قليلون، وضعفاء، وليس لهم كبير اعتبار. هناك مظاهر زائفة من المسيحية في كل مكان، وينتشر خطر الانحراف عن الحق والقداسة. هناك جماعة كبيرة ومتزايدة في الكنيسة المعترفة يوصفون هنا بأنهم "مَجْمَع الشَّيْطَان". فماذا يكونون إذاً غير ذلك؟ هناك محبة بشرية متعاظمة، ولكن ليس هناك محبة إلهية في الوسط. الأولى تقول "في الاتحاد قوة"، والأخيرة تقول "الاتحاد في الطاعة والقوة". ولكن المناصب النسبية لهؤلاء الذين يشكلون "مَجْمَع الشَّيْطَان" وكنيسة فيلادلفيا سرعان ما تنقلب وتتعاكس. الأولى ستُقهر والأخيرة ستُمجَّد. كم سينعكس نظام الأشياء الحاضرة! ولكن، فوق ذلك، هؤلاء المدعون في الكنيسة سيعرفون أن أولئك الذين احتقروهم هم موضع المحبة الإلهية الخاصة. سوف "يَعْرفُونَ أَنّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ".

الإعفاء من ساعة التجربة العتيدة:

١٠، ١١- "لأَنَّكَ حَفظْتَ كَلمَةَ صَبْري، أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة الْعَتيدَة أَنْ تَأْتيَ عَلَى الْعَالَم كُلّه لتُجَرّبَ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض. هَا أَنَا آتي سَريعاً. تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ لئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إكْليلَكَ". إن صبر المسيح أو تحمله قد اختُبر إلى الحد الأقصى، ولكن أتت التجربة وليس من نفاذ صبر أو نكد، كما الحال معنا غالباً، وإنما كمال في هكذا نوع من تصاعد إلى الله كرائحة الرضا. "كَلمَةَ صَبْري"، لا تُذكّر بماضيه- عطرٌ إذ تتعلق بالجمال الأخلاقي- بل تشير إلى موقف ربنا الحالي. إنه يجلس إلى يمين الله صابراً منتظراً إلى أن يجعل الله أعداءه عند موطئ قدميه (قارن مز ١١٠مع عب ١٠: ١٢، ١٣)، أو بمعنى آخر، ينتظر تأسيس الملكوت الألفي بقوة ومجد. لأجل ذلك الملكوت ينتظر المسيح بصبر في السماء. عندما يأتي وقت الله يجتمع الورثة، وقد تبدلوا وتمجدوا (١ تسا ٤: ١٧؛ ١ كور ١٥: ٥١- ٥٥)؛ وعندها يجلب الله إلى العالم باكورته، يُرافقها جميع قديسيه السماويين (يهوذا ١٤) والملائكة القديسين (متى ٢٥: ٣١). "فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دانيال ٧: ١٤). يا له من منظر مجيد يُفتح أمامنا! هذا المشهد عظيم بالنسبة لنا، ولكن الرب سيكون في غاية السرور وهو ينتظر في صبر في عرش أبيه. قدَّم قديسوا فيلادلفيا شهادة حية وحافظوا عليها؛ وهنا نسمع "كَلمَةَ صَبْري"؛ لقد حافظوا عليها وسط ازدراء وتعجرف الجماعة المدَّعية الدنيوية المتعجرفة المتكبرة في الكنيسة المعترفة، الذين جعلت ادعاءاتهم المتعجرفة بالتقليد والوراثة في الخدمة، والكهنوت والحق الوحيد في منح الأسرار، القديسين خارجاً وتطلبت صبراً يفوق الاحتمال الطبيعي. "لأَنَّكَ حَفظْتَ كَلمَةَ صَبْري، أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة"، يا لها من مكافأة وافرة بالنظر إلى الأمانة التي حافظت عليها كنيسة فيلادلفيا! لم يكن الصراع صغيراً أو خفيفاً. لقد كان صراع سميرنا مع العالم الوثني. وكان صراع فيلادلفيا مع قوة التدين. لقد احتملت الكنيسة وهي ترى الرب الذي لا يُرى، وانتظرت في صبر كما فعل الرب الذي كان ينتظر تدخل الله.

التعبير بالألفاظ عن الوعد دقيق ولبق ويحسم فعلياً أمر النظرية التي اقترحها البعض، والتي ترعب المؤمنين، في أن الكنيسة أو جزء منها يجب أن يمر عبر الضيقة القادمة ليتطهر من عدم الأمانة. لا، الضمانة هي، "أَنَا أَيْضاً سَأَحْفَظُكَ منْ سَاعَة التَّجْربَة"، وليس "خلالها" أو "فيها"، بل أستثنيك كلياً منها. ما من جزء م الكنيسة سيكون في ضيقة. اليهود بشكل خاص سيكونون أكثر من سيعاني، لأن ذلك سيكون بشكل بارز "وَقْتُ ضِيقٍ عَلَى يَعْقُوبَ" (إرميا ٣٠: ٧). الأمميون، أيضاً، مشتملون فيه (رؤيا ٧: ٩- ١٧). لوط ونوح حُفظا خلال الضيقات الخاصة بكل منهما في أيامهما؛ ومن جهة أخرى، إبراهيم وحَنُوك حفظهما الله من نفس فترات التجربة تلك. وهذا ما سيميز الكنيسة. ساعة التجربة "عتيدة". إنها تقترب يوماً فيوم، ولا يمكن تأجيلها أكثر بطبيعة الأشياء.

"الْعَالَم كُلّه"، أو القسم المأهول بالسكان من الأرض. الكلمة هنا هي نفسها الموجودة في لوقا ٢: ١، والتي تشير إلى الإمبراطورية الرومانية. كل من كان منفصلاً عن الإمبراطورية أو خارج حدودها كان يعتبر وكأنه خارج نطاق الحضارة. المجال الجغرافي للمالك الكونية الأممية الأربعة (دانيال ٢)، عالم النور والامتياز الخاصين، سيخضع لفترة من التجربة قصيرة ولكن فظيعة. هذه الأزمة في تاريخ العالم ستحدث خلال الأسبوع الأخير من نبوءة دانيال الشهيرة عن سبع سنوات (دانيال ٩: ٢٧). وعلى العالم المسيحي أن يجيب الله أو يُحاسَب أمام الله على سوء استخدام النور الممنوح له والامتياز المعطى له. المسيحية سوف تدين العالم المسيحي. الضمير وشهادة الخليقة ستدينان الوثنيين. ولكن هناك جماعة واحدة، متميزة، توصف بعبارة ذات مغزى تقول: "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". هذا التعبير له معناه العميق المتجذِّر في فيلبي ٣: ١٨، ١٩. أعداء الصليب هؤلاء استقروا في الأرض، وجعلوا منها منزلهم، وأمور الأرض واهتماماتها تحصر أفقهم. كجماعة متميزة هكذا يُشار إليهم بين الحين والآخر في سفر الرؤيا (٦: ١٠؛ ١١: ١٠؛ ١٤: ٦، الخ.). بما أنهم اختاروا عن عمد الأرض بدلاً من السماء، فإنهم يُمتحنون في تلك الساعة الآتية عندما سيُمارس المسيح حقوقه على الأرض، بحسب الشهادة النبوية لهذا السفر، فيقيم الدينونة في فلسطين بشكل خاص.

"آتي سَريعاً" فيها إعلان يعبّر عن عودة الرب السريعة من السماء. تتكرر ثلاث مرات في الأصحاح الأخير من السفر (الآيات ٧، ١٢، ٢٠). كيف يمكن أن تتوافق هذه الـ "سريعاً" مع التأجيل المطول لحوالي ألفي سنة؟ آهٍ. علينا أن نؤقلم طرق حسباننا للأمور، ونقيس الزمن بطريقة الله. "وَلَكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ هَذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ" (٢ بطرس ٣: ٨). وبالتالي فالفترة بين المجيئين، الأول والثاني، ستكون حوالي يومين.

"تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ". ما كانت فيلادلفيا تمتلكه بشكل خاص كان كلمة المسيح، واسم المسيح، وصبر المسيح، ومجيء المسيح. هذه كان يجب حفظها. الموت، والابتعاد عن الكنيسة، والتسويات قد تضعف الجماعة وتقلل عددها وتجعلها واهنة جداً. ولكن الحاجة الأكبر هي أن "يتمسكوا" بالإيمان، وأن لا يتخلوا عن أي ذرة من الحق. طابع الأوقات يتطلب ولاءً كاملاً بالإيمان وتكرساً لا انتقاص فيه للمسيح ولكل من عُهِد إلينا أن نعتني بهم. "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا" (١ كور ٩: ٢٤). ليس البداية، بل النهاية هي التي تحدد الملاءمة لوضع الإكليل. الفيلادلفي الحقيقي هو الذي يتابع صراعه حتى النهاية. كم الحاجة شديدة إلى كلمات تذكيرية يسمعها القادة والأتباع على حد سواء: "تَمَسَّكْ بمَا عنْدَكَ لئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إكْليلَكَ". إن تخلينا عن الحق، نخسر الإكليل. ويا لها من خسارة لا تُعوَض.

مكافآت فيلادلفية:

١٢- "مَنْ يَغْلبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُوداً في هَيْكَل إلَهي، وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إلَى خَارجٍ، وَأَكْتُبُ عَلَيْه اسْمَ إلَهي، وَاسْمَ مَدينَة إلَهي أُورُشَليمَ الْجَديدَة النَّازلَة منَ السَّمَاء منْ عنْد إلَهي، وَاسْمي الْجَديدَ". الغالب ٦ في فيلادلفيا هو الذي، ورغم ضعفه، يتمسك بإيمانه ويثابر في طريقه. هذا التقدم لا يتميز بإنجازات مميزة، بل إنه يصارع بالحصول عليها. النزاع العميق يُقوِّي الإيمان، ويقود إلى أمانة متزايدة. المؤمن الحقيقي يتمسك بثبات وقبضة مشدودة بكلمة المسيح، واسمه، وصبره، ومجيئه. قد يفقد حياته، ولكن ليس الأشياء التي تشكل إكليل شهادته. ضعف الأرض سيُستبدل بثبات السماء. "سَأَجْعَلُهُ عَمُوداً في هَيْكَل إلَهي". سوف لن يكون هناك هيكل مادي في السماء (رؤ ٢١: ٢٢)؛ سيكون هناك واحداً على الأرض في زمن الدينونات التي يتحدث عنها سفر الرؤيا (١١: ١، ٢). "هَيْكَل إلَهي" تشير إلى المقدس في الأعالي. نصب سليمان عمودين ضخمين من النحاس في رواق الهيكل دلالة القوة والصلابة (الملوك الأول ٧: ٢١). اسم هذين العمودين كان "يَاكِينَ"، ويعني "يُثبِّت"، و"بُوعَزَ" ويعني "القوة". والتلميح الذي في نصنا هو إلى هذين العمودين. المؤمن الفيلادلفي الضعيف والمجرب، المطرود خارج الجماعة العامة التي تدعي استقامة الإيمان على الأرض، سوف "يُثبَّت" ويُجعل "قوياً" في البركة الأبدية السماوية. وهذا المنصب الرفيع هو حالة أبدية ثابتة: "لاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إلَى خَارجٍ".

١٢- "أَكْتُبُ عَلَيْه اسْمَ إلَهي". بركة معرفة الله أيضاً، ستكون نصيب الغالب السعيد. ولكن حكاية النعمة لن تنتهي بعد. مدينة إلهي، أورشليم الجديدة التي مكانها الصحيح هو في السماء (٢١: ٩، ١٠)، تصب ثروة بركتها على إكليل الغالب. وأخيراً وليس آخراً، اسم المسيح الجديد سيُنقش إلى الأبد على كل واحد من جماعة الغالبين. اسمه الجديد يشير إلى علاقته الخاصة مع العالم بأجمله ويُوجز البركات السماوية. وبينما يفوق في كل الأشياء، مع ذلك نقرأ هذه الوعود الكاملة والغنية بشكل خاص كارتباط حميمي وشخصي مع المسيح في مشهد المجد المستقبلي. كم يحب المسيح أن يربطنا بنفسه بهذه القائمة من المكافآت! إلهي، اسمي، الخ. تتكرر خمس مرات.

الخطاب إلى ملاك الكنيسة في فيلادلفيا ينتهي بالدعوة المعتادة إلى السماع. ألا ليت الله يمنح أذناً مصغية لكل قارئ!

خطاب الروح القدس إلى لاودكية

(٣: ١٤- ٢٢).

ملامح عامة:

في الكنائس الأربعة الأولى يقدم المسيح نفسه في جزء من الشخصية التي يراه فيها الرائي في الأصحاح ١: ١٢- ١٦، ولكن في كل من الكنائس الثلاثة الأخيرة يقدم إعلانات جديدة عن نفسه. الظروف في هذه الكنائس الأخيرة مختلفة كلياً عن تلك التي قبلها. ومن هنا فإن تقديم يسوع لنفسه متطابق تماماً مع ما تصوره عليه الكنائس العديدة المنغلقة.

مهما كانت الحالة العامة للكنيسة في أي فترة، لا يهجر المسيح الكنيسة أبداً. وعندما لا تعود آنية شهادة لله، وحاملة النور في الظلام، فعندها يأتي الحكم بالاستئصال (٣: ١٦) الذي يُنفذ بشكل كامل. ولكن ذلك اليوم، رغم انه قريب، إلا أنه لم يأتِ بعد. إن الكنيسة في شهادتها الخارجية لله يُعترف بها وهي مميزة، ويمكن أن تُخاطب من منطلق موقفها الكنسي. لم يرفض الله بعد الكنيسة المعترفة، ولا ينبغي أن نفعل ذلك نحن. إننا نتأسف على الشرور فيها، ونرفض الاشتراك في الآثام التي تُمارس في ظلها، ولكنها لا تزال الشاهد لله على الأرض، عمود وأساس الحق (١ تيموثاوس ٣: ١٥) وشجرة زيتون الشهادة (رومية ١١). إن التهديد غير المشروط وتنفيذه أمران مختلفان. الأول قد أُعلن؛ والأخير هو في المستقبل. لاودكية، التي تمثل الطور الأخير من الكنيسة المعترفة، لم يتبرأ الله منها بعد علانية (الآية ١٦). موقفها الكنسي واقعي وإيجابي كما كل الكنائس السابقة. لربما ابتعدت لاودكية في الحياة والممارسة أكثر من الكنائس الأخرى، ولكن مكانتها أمام الله لا يُشك فيها، وعلى ذلك الأساس تُخاطب.

الكنيسة في هذين الأصحاحين يتم الحديث عنها في طابعها العام والمعترف كبيت الله حيث يتمتع المؤمنون بأعلى امتيازات؛ ومن هنا فإنها مشهد المسؤولية الأكبر والموضوع الأول للدينونة الإلهية (١ بطرس ٤: ١٧). إن الكنيسة، عندما تُرى على أنها الجسد السري للمسيح، إذ أنها مجموع كل المؤمنين الحقيقيين على الأرض، معفاة بالتأكيد من الدينونة. الإدارة البشرية تدخل في الأولى بشكل كبير؛ بينما الأخيرة هي ثمرة روح قدس الله. الحقيقي والزائف قد يدخلان إلى "البيت". ولكن المؤمن الحقيقي فقط هو الذي يستطيع أن يدخل إلى "الجسد". لا داع لأن يخاف المؤمن الحقيقي من أن يكون معنياً بالتهديد بالدينونة على النحو البات أو القاطع الذي نراه في الآية ١٦. "اختُطفت" و"أتقيأ" تعلن صراحة المصير الخاص للمؤمن الحقيقي الزائف، للمؤمنين ومجرد المعترفين. هذا الأخير الذي يمقته المسيح حتى أن يُضطر لرفضه لأنها الطريقة الوحيدة لتُصان قداسته علانية.

في الخطاب إلى فيلادلفيا ليس هناك توبيخ. وهنا ليس من مديح.

ألقاب المتكلم الإلهي:

١٤- "وَاكْتُبْ إلَى مَلاَك كَنيسَة اللاَّوُدكيّينَ: «هَذَا يَقُولُهُ الآمينُ، الشَّاهدُ الأَمينُ الصَّادقُ، بَدَاءَةُ خَليقَة الله". يقول البعض أن الأصح هو القول أن "الملاك الذي في لاودكية" وليس "مَلاَك كَنيسَة اللاَّوُدكيّينَ". إن الألقاب تلائم الكنيسة في أيامها الأخيرة؛ إنها تلائم حالة لاودكية الحالية من الأشياء. وكالمعتاد، الخطاب موجه إلى الملاك. موقف الكنيسة بتلك الوسيلة مميز وملاحظ. الحالة الروحية لهذه الكنيسة وحتى في أيام بولس، قبل ثلاثين سنة خلت، سبب للرسول صراعاً فكرياً كبيراً (كولوسي ٢: ١). أسباب متنوعة ساهمت في دمار الكنيسة، في مقدمتها الكبرياء، الثراء المادي، والرضى عن الذات. وفي هذه تفاخرت. فكم تناسبها إذاً هذه الألقاب!

(١)- "هَذَا يَقُولُهُ الآمينُ". هذه كلمة عبرية تعني ما هو ثابت، وحقيقي، وغير متبدل. قوة الكلمة يمكن أن نجدها في أشعياء ٧: ٩ و٦٥: ١٦، بينما كلمات "يؤمن" و"الحق" تعني حرفياً "آمين". وهذه مرادفة في اللغة اليونانية للكلمة التي نعرفها جيداً أن "الحق"، التي تتكرر مرتين في إنجيل يوحنا، وفقط هناك ترد حوالي ٢٥ مرة. إنها تدل ضمناً على التأكيد الإلهي. وهنا لا توظف كما في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس كظرف، بل إن استخدامها مع أداة التعريف "الآمين" يشير إلى مجد آخر، ولقب وصفي آخر لربنا الممجد. لقد أخفقت الكنيسة كلياً من الاستفادة من وعود وحق الله. في المسيح كلاهما مضمون ومأمون. في شخصه لدينا الضمانة بأن كل وعد وكل حق سيكون آمين (انظر أيضاً ٢ كور ١: ٢٠).

(٢)- "الشَّاهدُ الأَمينُ الصَّادقُ". إن طريق الأجيال يغطيه الحطام. كل شاهد لله، فرداً كان أم جماعة، أخفق ما عدا واحد. الكنيسة، التي منحها الله بسخاء الحق والامتياز، هي أسوأ مدافع عن أي جماعة شاهدة منذ آدم وحتى الآن. هل كانت عبداً أميناً لكنوز النعمة الإلهية؟ هل هي شهادة حقيقية لشخص الله؟ هل هي التعبير الحي على الأرض عن يسوع المسيح، عما كان وعما هو؟ للأسف لا! لقد أغلقت عليه الكنيسة خارجاً. اسمعوا لحنها المتهلل: "إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ"، ولا حتى إلى المسيح، وحياة الكنيسة والمجد. وهكذا فقد طُرد يسوع خارجاً، ومع ذلك فإنه واقف على الباب، ماكثاً في الخارج ويقول: "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب وَأَقْرَعُ". هذا هو عجب العجب، ولا يزال موقف يسوع هو هكذا حتى الآن. الكنيسة هي الشاهد صاحب أكبر مسؤولية الذي ظهر على الأرض، وهي الآن حطام كبير. لقد تدمرت أخلاقياً، ليس على يد أعداء صريحين، بل عن طريق الأصدقاء المعترفين. متبجحة، متكبرة، مثقلة بالثروة، وقانعة ببقاء المسيح خارجاً! هكذا كانت كنيسة لاودكية، هكذا هي الكنيسة اليوم. لم تكن مخلصة أو أمينة ولا شاهداً حقيقياً. أما المسيح فهو كذلك، وهذا يريح القلب من جديد إذ أننا نتناسى الحطام والدمار الذي يحيط بالمسيح. يا لها من راحة للنفس! فها هنا أساس ثابت راسخ بالإيمان وسط الاضطرابات الكنسية في كل مكان. المسيح هو شاهد الله.

(٣)- "بَدَاءَةُ خَليقَة الله". لقد جُعلت الخليقة تحت قيادة آدم، سواء كان من الناحية الكنسية أو الاجتماعية أو السيادية، وانتقلت من سيء إلى أسوأ. "فساد الأفضل"، أي الكنيسة، "هو أسوأ الفساد". يبدو العالم مستعداً لأن يدخل إلى آخر غوصة له في دوامة الإثم والفساد. الطقسية تعمل متجهة نحو البابوية، والمذهب العقلاني ينحو إلى الإلحاد. الأولى سيرأسه، ليس البابا، بل ضد المسيح؛ والأخير سيمثّله إنسان لا اسم له في الكلمة الإلهية، ولكن يُشار إليه بـ "الوحش"، الذي يتميز بقوة متوحشة، وشخصية مجدّفة مضطهدة قاتلة، تعمل بإلهام الشيطان. لا نعرف إن كان هذان الرجلان على قيد الحياة الآن بالتأكيد ولا نبالي، وكما كان اليهود والأمميون متحدون في صلب ربنا، فهل من المستبعد أن تتحد قوى الطقسية والمذهب العقلاني التي تدمّر الكنيسة، عندما تُزال التأثيرات الكادحة وتتطور الأشياء على نحو كامل، فعندها ألا يعقل أن يترأس كل هذا يهودي وأممي؟ لاودكية اسم مركَّب من كلمتين يونانيتين ترمزان إلى "الناس" و"الأبرار"، وتمثّل الصراع الذي يُشنُّ حالياً بقوة في كل أرض من قِبل الشعوب لتحصل على حقوقها، سواء كانت حقيقية أم مزعومة. قوى الفوضى والنظام تتجابهان ضد بعضهما البعض، وسرعان ما نرى في أوربا، إن لم يكن في مكان أوسع، مشهداً شرساً من الدمار لكل السلطات، مع فوضى تترافق مع انتصار الشعوب القصير الأجل، والذي سيُحوِّل الأرض إلى جحيم (رؤيا ٦: ١٢- ١٧)، عندما ستقبض على الدفة يدٌ قاسية تمتد من وسط الفوضى الأخلاقية والاجتماعية والسياسية- حكم استبدادي يتلوه آخر- وتصبح الخليقة أخيراً ومن جديد تحت سيادة المسيح، بَدَاءَةُ خَليقَة الله (مز ٨؛ أفسس ١: ١٠- ٢٢، الخ). "لذلك، فإن هذا اللقب نفسه، يعلن دمار الخليقة التي صار عمرها الآن حوالي ٦٠٠٠ سنة، والتي كانت فيها الكنيسة آخر شاهد. وهنا الحديث عن نظام مكثف ورائع من الأشياء، السماوية والأرضية، الحيّة وغير الحيّة، التي يُوصَف المسيح كإنسان هنا بأنه الـ "بَدَاءَةُ"، للخليقة التي يتكلم عنها نصنا. إن الملكوت الألفي يُشار إليه هنا. في الألقاب السابقة للمتكلم الإلهي، إن تحوَّلنا عن الكنيسة إلى المسيح، عن شهادتها المدمرة إلى ذاك الضامن للحقيقة والوعد، والشاهد الأمين والحقيقي، فإن قلوبنا هنا تستقر في عبادتها على مشهد من بركة لا تُوصَف، على خليقة يكون المسيح فيها الـ "بَدَاءَةُ" ٧.

حالة الكنيسة المغثَّة:

١٥، ١٦- "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارداً أَوْ حَارّاً. هَكَذَا لأَنَّكَ فَاترٌ، وَلَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ منْ فَمي". "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ" تتكرر سبع مرات في هذه الرسائل. في الحديث إلى ملاك أفسس وثياتيرا هناك أشياء أخرى تضاف إلى الأعمال التي يقول عنها الرب "أنا عارف"، بينما في حالة ساردس وفيلادلفيا ولاودكية، تأتي العبارة "أَنَا عَارفٌ أَعْمَالَكَ" مشيرة إلى الحالة العامة والوضع العام لهذه الكنائس. الجملة حافلة بالمعاني، "أَنَا عَارفٌ"، تتكرر سبع مرات، وتوجَّه إلى ملاك كل كنيسة. العلم الكليّ، وهي صفة إلهية، تُؤكَّد سبع مرات عن ربنا. بالنسبة إلى ضعف فيلادلفيا، هذا التأكيد من قِبل الرب على معرفته المطلقة بما هو غير معروف للبشر، بل له فقط، هو حقيقة قوية. وبالنسبة للاودكية في فتورها، مع تبجحها وانتفاخها، وثرائها، عين الرب النافذة البصر والفاحصة لأعماق القلوب ستكون فكرة لا تُحتمل. ما يلاحظه الرب هنا بشكل خاص هو الحالة الفاترة للملاك. الطور الأخير من الكنيسة هو الأسوأ. الناس يجدون شراً أكبر في ثياتيرا. يعلن الرب عن وجود الحالة المغثّة المقرفة بأبشع صورها التي تغوص فيها لاودكية، هذه الحالة التي يُمتدح فيها الملاك بشكل إيجابي. المفردات المستعملة هي "بارد" و"حار" وليس "ميت" و"حي". لو كانت العبارات الأخيرة مستخدمة لكان التساؤل هو عن حقيقة أن يكونوا مخلّصين أم هالكين، ولكن "لَسْتَ بَارداً وَلاَ حَارّاً" تستند إلى حالتهم بالنسبة للرب. اللامبالاة الكاملة تجاه المسيح، وليس البغضاء، هي ما تدل عليه كلمة "فاتر" ٨.

لا نتفق في الرأي مع البعض الذي يقول بأن حالة الفتور في لاودكية تنشأ عن حالة فيلادلفيا في الكنيسة. هكذا تفسير تواجهه صعوبة لا تُذلَّل، ولكن، وبلا شك، برودة وموت ساردس، مع الضعف ودفء فيلادلفيا، ترك تأثيراً خفيفاً على الحالة العامة للاودكية. نعتقد أن الناموسية في ثياتيرا، وانعدام الحس الأخلاقي في ساردس، ورفض الحق ومكانة فيلادلفيا، مع أسباب أخرى، قد ساهمت في نشوء حالة لاودكية في تلك الكنيسة، أي اللامبالاة المطلقة بالمسيح. ما الذي يمكن للرب أن يفعله بها؟ لو كانت باردة، لاتخذ موقفاً نشيطاً- ولو كانت حارّة- مُبدية بعضاً من النشاط الروحي- فعندها يمكن القيام بأمر ما. ولكن موقفها الفاتر، والمحيِّر نحو المسيح والحق بغيض جداً لدرجة أنه يجب التخلص منه دونما إبطاء. الطور الأخير من الكنيسة هو أسوأها. فيلادلفيا ابتهجت وتشجعت بالوعد. "هَا أَنَا آتي سَريعاً". لاودكية مهددة بالدينونة: "أَنَا مُزْمعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ منْ فَمي". الوعد والتهديد كلاهما مقدمان على أنهما في متناول اليد. لاحظنا أكثر من مرة أن الأطوار الأربعة الأخيرة من الكنيسة تسير بشكل متزامن نحو النهاية. الجماعة في ثياتيرا وساردس مشتكون في نفس القدر المحتوم المخصص للاودكية، بينما البقية في هذه الكنائس تتشارك في بركة مميزة لفيلادلفيا- "اختُطفت". مجيء الرب لا يُشار إليه في الرسالة إلى لاودكية. إنكارها العلني لشهادة الله ستكون له نتائجه بانتقال القديسين السماويين. بمعنى آخر، انتقال فيلادلفيا ورفض لاودكية حادثان متزامنان، الخير يعتمد على الأول. العالم المسيحي، الذي بدأ تاريخه تحت أسطع التكهنات، سينتهي تحت أحلك السحب التي حلّت على مسار المسؤولية الإنسانية.

التبجح المتكبر ودينونة الرب:

١٧- "أَنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ وَقَد اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لي إلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقيُّ وَالْبَائسُ وَفَقيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ". فيلادلفيا ليس لديها كلمة تقولها عن نفسها. لاودكية لها ما تقوله. وفي الواقع، من كل الجوانب تقريباً هاتان الكنيستان تقفان على النقيض إزاء بعضهما البعض. "إنَّكَ تَقُولُ". لم تكن هناك حالة رضى عن النفس فقط في الكنيسة، ولكن التبجح المتكبر فيها يُدوَن هنا: "إنَّكَ تَقُولُ: إنّي أَنَا غَنيٌّ". كان يمكن للمدينة أن تتبجح بثرائها المادي، والكنيسة بدورها يمكن أن تتبجح بثرواتها. وإضافة إلى ذلك، فقد أُضيف، إلى ثروتها: "قَد اسْتَغْنَيْتُ". لاشك أن الكنيسة في لاودكية كان لها تأثير، وأعداد، ومواهب، ومكتسبات رائعة، ومنجزات فكرية، ومواصفات جذابة أخرى، ومن ضمنها الكبرياء نفسه. يا للأسف! هذه الأشياء كانت على حساب الروحانية، على حساب المحبة الحقيقية والمتقدة نحو المسيح، وهذه لا تُعتبر إلا لعنة، ويجب عاجلاً أم آجلاً أن تتوب عنها، وأن تنتهي إلى دينونة. في تقديرهم "لاَ حَاجَةَ لهم إلَى شَيْءٍ". لم يكن لديهم قلب يميل إلى المسيح ولا رغبة في حضوره. لقد استطاعوا أن يتبجحوا بينما كانت الدينونة تُعلن في ذلك الحين (الآية ١٦)، والمسيح حياة الكنيسة ومجدها كان قد وُضع خارجاً (الآية ٢٠). حالة لاودكية هي الخطر الخاص الذي نجده محدقاً في هذه الأيام.

ما تقدير الرب لحالتها؟ ما هو حاصل جمع وطابع ثروة لاودكية في عينيه؟ "أَنْتَ الشَّقيُّ وَالْبَائسُ"، إضافةً إلى كونك "فَقيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ". إن أداة التعريف محذوفة قبل هذه الصفات الثلاثة الأخيرة، وهذا ما يزيد عنصر قوة إلى دينونة الرب على لاودكية. "الشَّقيُّ وَالْبَائسُ" أو "الجدير بالشفقة" فيها تركيز على شدة التعاسة والبؤس، ويستحق إشفاقاً لا حدّ له. لقد كانوا فقراء، أو معدمين من الغنى الحقيقي؛ عميان عن حالتهم وعن مجد الرب؛ وعُراة، لأنهم معوزون إلى البر الإلهي. هناك صفة أخرى تكمل الصورة المرعبة المقدمة في هذه الكنيسة التي لا مسيح فيها: "وَلَسْتَ تَعْلَمُ". حالتها الحقيقية أمام الرب كانت مجهولة تماماً بالنسبة لها. لو كان لديها أدنى درجة من الإدراك لحاجتها لكان يمكن أن يكون هناك أمل أو رجاء. ولكنها كانت في حالة لامبالاة كاملة. ولذلك لم يبقَ هناك سوى الرفض المقيت.

حالة لاودكية المثلثة الجوانب ونعمة الله المثلثة الجوانب:

١٨- "أُشيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَريَ منّي ذَهَباً مُصَفًّى بالنَّار لكَيْ تَسْتَغْنيَ، وَثيَاباً بيضاً لكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خزْيُ عُرْيَتكَ. وَكَحّلْ عَيْنَيْكَ بكُحْلٍ لكَيْ تُبْصرَ". الملامح الثلاث الرئيسية المميزة للاودكية كانت فقرها، وعريها، وعماها؛ وهذه هي ما كان الرب، الرحوم دائماً وأبداً، ليقدِّم حلاً لها هنا. لعله كان يستطيع أن يأمر، ولكن لا، لقد استشار، "تَشْتَريَ منّي ذَهَباً مُصَفًّى بالنَّار". "تَشْتَريَ" ليس فيها مشكلة أو صعوبة. فالمسيح لديه كنوز النعمة، وكنوز السماء تحت تصرفه. إنه يحدد المواد التي يبيعها: "أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً" (أشعياء ٥٥: ١). حقك في أن تأتي، وأن تشتري، هو حاجتك وبسبب فقرك. "الذهب" المنقى أو المصفى بالنار يشير إلى البر الإلهي، وقد اختُبر وجُرِّب؛ وبدونه، كم نكون بائسين فقراء! وبه كم نكون أغنياء! "الثيَاب البيض" تدل على بر القديسين، أي أفعال البر (رؤيا ١٩: ٨)، التي ستُغطي عريهم الروحي والخزي في أنفسهم. "كحل العينين" هو لأجل التمييز الروحي.

المطلب الأخير للرب:

١٩- "إنّي كُلُّ مَنْ أُحبُّهُ أُوَبّخُهُ وَأُؤَدّبُهُ. فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ". لا يتكلم الرب، كما يفترض البعض، في القسم الأول من النص عن القديسين في لاودكية. بل إنه يشير إلى حقيقة مشتركة في كلا العهدين (أمثال ٣: ١١، ١٢ وعبرانيين ١٢: ٥، ٦). النص هنا لا يفرض تطبيقه على أي مجموعة خاصة من القديسين. لقد كان الرب يتكلم حتى الآن بلهجة صارمة غير عادية. لقد استدعت الضرورة ذلك. التوبيخات الصارمة التي توجَّه إلى الملاك كان يجب أن يتبعها فعل دينونة لا سبيل إلى التخلص منها- "أَتَقَيَّأَكَ". ولكن بالنسبة للمسيحيين، آنذاك والآن، كان عليهم أن يعرفوا أن توبيخات الرب، وتأديبه الأقسى، كانت ثمرة المحبة، وليس بدافع التعامل الاستبدادي كما يحدث مع الوالدين الأرضيين. "كُنْ غَيُوراً وَتُبْ". الرب يوقظهم من السبات واللا مبالاة التي غاصوا فيها. سيضرم من جديد اهتمامهم. هل وصل هذا الحض لأن يكون كل منهم "غيوراً ويتوب" ضمير كنيسة لاودكية؟ إنها الخطوة الأولى نحو الشفاء. هل اتخذوها؟ كجماعة، لا. ولكن الحمد لله، فإن الأفراد أبدوا اهتماماً، وأصغوا إلى نداء الدعوة للتوبة. ولكن الجماعة عموماً لا تزال منجرفة مع التيار، وقد ظهرت لاودكية الآن تحمل صفات حالة الكنيسة الدولة اليوم. إن دينونة الجسد المسيحي المعترف، كما أُعلِنت في الآية ١٦، محتومة ووشيكة الحدوث.

المسيح يقف ويقرع ويتكلم:

٢٠- "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب وَأَقْرَعُ. إنْ سَمعَ أَحَدٌ صَوْتي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إلَيْه وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي". هذه الدعوة المؤثرة والحانية المستمرة منذ قرون كانت أساس الترنم والوعظ المسيحي. المطلب الأخير الذي يطلبه الرب من الجماعة كجسد يستمر في الآية ١٩؛ وهذا يُوجّه للأفراد فقط. بين التهديد بالرفض (الآية ١٦) وتنفيذه، يأخذ الرب مسافة يبقى فيها خارج المكان: "هَئَنَذَا وَاقفٌ عَلَى الْبَاب"، وهكذا يتبرّأ من جسد الكنيسة المعترفة. إن الرب يقرع ويتكلم بآن معاً. يا له من عرض كريم وسمح للنعمة في أسوأ الظروف! إن الرب لا يأمر بالشراء (الآية ٨) ولا يجبر على الدخول. إنه يشاور في حالة ويقرع في الثانية. "وَاقفٌ... وَأَقْرَعُ". إنه فعل حاضر ومستمر. استمرارية كلا الفعلين مؤكدة: إنه يقف، وإنه يقرع. الرب لن يفرض حضوره حيث وعندما لا يكون مرغوباً به. عندما التقى بالتلميذين المحزونين المسافرين إلى عمواس، "تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ" (لوقا ٢٤: ٢٨). فأصرّا عليه ليدخل، قائلين: "«امْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا". في حضور يسوع القائم كل شيء يتبدل، فهو يصبح المضيف وهم يصبحون ضيوفه (الآية ٣٠). "إنْ سَمعَ أَحَدٌ صَوْتي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إلَيْه وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي". إنها آخر فرصة للشركة قبل أن يحل ليل الدينونة، إنه أمر فردي بشكل أساسي. مع نكران شركة الكنيسة، كم سيكون الوعد فائق الحلاوة! إن الصوت هنا هو ليس صوت المسيح في قوته المحيَّة، ولا هو الخلاص الذي يقرع على قلب الخاطئ. إن الكلمة الموجهة إلى الخطاة هي: "أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ" (يوحنا ١٠: ٩). ليس عليهم أن يقرعوا، لأن الباب مفتوح دائماً وأبداً، وما عليهم سوى أن يدخلوا إليه. وبالنسبة إلى المؤمنين الكلمة الموجهة لهم هي: "اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ" (لوقا ١١: ٩). ولكن في نصنا يستمر الرب واقفاً ويستمر في قرع الباب. إنه يريد مكاناً في قلوب خاصته، سيقيم وليمة لنا حتى منذ الآن؛ كلنا معه نفرح ونبتهج، ولكنه هو الذي يمنح الفرح.

الوعد للغالب:

٢١- "مَنْ يَغْلبُ فَسَأُعْطيه أَنْ يَجْلسَ مَعي في عَرْشي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبي في عَرْشه". سيادة "العرش" هي العلامة والرمز على السلطة الملكية وكيف وصل يسوع إلى عرش أبيه ويتربع عليه معه في ذلك المجلس الرفيع الممجد؟ ليس بالحق المتأصل فقط. بل بحياة الصبر لديه والموت لأجل مجد أبيه. طريق الغالب منبسط مفتوح أمامنا. مثاله يُشجّعنا. آثار أقدامه تدلنا على الطريق. مكافأة الغالب مجيدة بلا شك، ولكن لا يمكن أن تفوق تلك المقدمة إلى الغالبين في فيلادلفيا. الاتحاد مع المسيح كابن الإنسان في ملكوته هو البركة الموعود بها هنا. الملكوت سيكون كونياً في امتداده (مز ٧٢: ٨؛ زكريا ١٤: ٩؛ مز ٨)؛ والإدارة صالحة قويمة (مز ٧٢: ١- ٧؛ مز ٤٥: ٧؛ أشعياء ٣٢: ١)؛ ويدوم إلى الأبد (دانيال ٢: ٢٧؛ ٢ بطرس ١: ١١؛ دانيال ٤: ٣٤). أورشليم العلوية ستكون الكرسي الرئيسي للقسم السماوي في الملكوت (الآية ٢١). وستكون هناك عاصمة رئيسية للملكوت هنا على الأرض (إرميا ٣: ١٧). الغالب في لاودكية موعود بالاتحاد مع المسيح في ملكوته ومجده. وبالتأكيد فإن مكافأة غنية وكبيرة ولو لفترة قصيرة الأمد ستكون هناك رغم الصراع القاسي الذي ستمر به لاودكية ويكتنفنا بقوة. ولكن النضال يجب أن يستمر حتى النهاية.

ثم تأتي الدعوة غير العادية إلى الإصغاء، والتي تأتي في مكانها المناسب هنا لإنهاء الرسائل إلى الكنائس.

مدخل إلى الجزء الثالث أو النبوي في سفر الرؤيا

سبع رسائل كنسية:

تُشكل الرسائل الموجهة إلى الكنائس القسم الثاني من سفر الرؤيا.: "مَا هُوَ كَائنٌ". كانت الكنيسة موجودة على الأرض في أيام يوحنا، ولا تزال مستمرة حتى الآن. هذا هو أبسط شرح لما رآه الرائي بالرمز (١: ٢٠). ثم الحالة الأخلاقية للكنيسة، والتي كانت عبارة عن مراحل من التاريخ متتالية ومتزامنة جزئياً، تتبين ملامحها من خلال سبع رسائل (٢: ٣). الصورة المصغرة عن تاريخ الكنيسة المستمرة في هذين الأصحاحين لا تُثمَّن. لكي نحصل على نور السموات مشرقاً على الأشياء خلال كل هذه الفترة من حياة الكنيسة التي استمرت حوالي ألفي سنة هي أمر بالغ الصعوبة. يا لها من دروس نستنتجها من هنا! وكم الحاجة ماسة إلى تحذيرات في يوم التراخي الأخلاقي! وكم هي مشددة تلك الوعود في فترات الضعف!

رسائل هذه الكنائس كانت للتطبيق المحلي في البداية، ولكن المجال الضيق والمحصور لما انطبقت عليه ما كان ليناسب سعة التعليم فيها. إن الحقائق والمبادئ التي تُكشف فيها لها تطبيقها على كل كنيسة معترفة. إنها مبادئ قابلة للتطبيق على الأفراد وعلى الكنائس على حد سواء.

القوام، والترتيب، والتأديب في الكنيسة كان يُشكّل ملامح خاصة من خدمة بولس. يكشف لوقا في "أعمال الرسل" تاريخها على مدى حوالي ٣٠ سنة، من العنصرة وحتى سجن بولس في روما. ولكن أُبقي للرائي في بطمس أن يكشف المزيد من ذلك التاريخ الفاصل بين نهاية الفترة الرسولية وحتى رفض المسيح للكنيسة.

التطبيق المستقبلي والتاريخي:

يبدأ الجزء النبوي من السفر بالأصحاح ٤ وينتهي بالأصحاح ٢٢: ٥، ويشكّل القسم الثالث: "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". العمل النبوي، على كل حال، لا يبدأ حتى الأصحاح ٦، حيث أن المشاهد السماوية المدونة في الأصحاحين ٤ و٥ كانت تمهيدية واضحة لسلسلة الإدانات الأولى المفصلة في الأصحاح ٦ لقد كان هناك بين الخير والشر، بين النور والظلمة، وهذه المبادئ الكبيرة تحكمها قوى معارضة، وروح قدس الله والشيطان. ومن هنا يمكننا أن نفهم بسهولة تحقيقاً جزئياً لها في الأوقات الحاضرة والماضية. ولكن وإذ نسمح بذلك بصراحة، وأيضاً مع التشابه بين الماضي والحاضر في أحداث عديدة في الجزء النبوي من الرؤيا، مع ذلك فإننا نلح على تحقيقها بشكل تام وشامل وكامل في الأزمة القادمة التي ستستمر سبع سنوات على الأقل. إن التطبيق المستقبلي هو الأصح بلا شك. إن التطبيق التاريخي يبقى دائماً حدسياً نوعاً ما، وبالكاد يتفق مفسران عليه. إن مبدأه في التفسير متعذر الدفاع عنه. لقد جُعل التاريخ هو مفسّر النبوءة. هذا الحدث أو ذاك يُفترض أن يُبين تحت الختم، أو البوق، أو الجام. لدينا اعتراضان هامان على الرؤيا الآنية للنبوءات المحتواة في هذا السفر: الأول، لأن هناك عدد كبير جداً من شعب الله فقراء وجاهلين، وسيُحظَّر عليهم عملياً فهمها إن كانت المعرفة بالتاريخ ضرورية وأساسية. والثاني، النبوءة حسب هذا النظام قد سُلبت من قيمتها الأخلاقية الحالية الآنية الحاضرة، إذ كيف يمكن لذاك أن يفعل فعله في النفس التي لا يمكن فهمها حتى تحقيقها؟

القديسون يُختطفون قبل الدينونات الرؤيوية:

والآن بين خاتمة الأصحاح وبداية الأصحاح ٤، أي بين القسمين الثاني والثالث من السفر، الغالبون "يُختطفون" والجمع "يتقأه" الرب، ولكن الرائي لا يدون هذه الأحداث: إنه يأخذها كأمر مُسلّم به. يكشف بولس بالوحي، وبأدق التفاصيل، انتقال قديسي العهدين القديم والجديد (١ تسا ٤: ١٥- ١٧). ونورد ثلاثة أدلة لا تقبل الجدل للدلالة على أن قديسي الرب الأموات والأحياء يُختطفون قبل بدء القسم النبوي من سفر الرؤيا (الأصحاح ٤).

(١) الكنيسة ليست على الأرض خلال فترة الدينونات التي يذكرها سفر الرؤيا، والتي نجد فيها جسداً مكوناً من اليهود والأمميين، ولكن ليس الكنيسة، المكونة من كليهما. الكلمة "كنيسة" أو الجمع منها ترد حوالي ٢٠ مرة في أول ثلاثة أصحاحات، وهي لا تُسمى ولا يُشار إليها في بقية السفر حتى الأصحاح ٢٢: ١٧، والذي هو بالطبع، استكمال للحالة الحاضرة من الأشياء، وهو ليس بأي شكل من الأشكال جزءاً من الرؤى النبوية. ما هو الاستنتاج الأكيد والمفهوم إذاً من حقيقة أن الكنيسة ليست على الأرض من الأصحاح ٤ حتى الأصحاح ٢٢: ٥؟ وإن لم تكن في السماء، فأين يمكن أن تكون؟

(٢) الأقسام الثلاثة من سفر الرؤيا لا تتداخل مع بعضها، وهي ليست متزامنة. ترتيب الكلمات في الآية ١٩ من الأصحاح الأول بسيط جداً. "فَاكْتُبْ مَا رَأَيْتَ"، أي الرؤيا التي رآها الرائي لتوه، "مَا هُوَ كَائنٌ"، أي الكنائس السبع الموجودة آنذاك، و"مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا"، عندما تُرفع الكنيسة فيتم الحديث عن حكومة العالم. إن الروح القدس بنفسه ثبّت تقسيمات السفر إلى ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. "مَا هُوَ عَتيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا" ترمز إلى "مَا هُوَ كَائنٌ" الذي سيكون قد توقف. التقسيمات متتابعة. والقسم الثالث يبدأ في ٤: ١، "أُريَكَ"، رؤى نبوية، "مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصيرَ بَعْدَ هَذَا"، أي تعامل الرب مع الكنائس على الأرض. ثم تأتي مجموعة متتالية من الأشياء.

(٣) الوضع بمجمله متغير. فليس الرب في وسط المناير أو الكنائس على الأرض، بل إن العرش مؤسس في السماء. هناك حقيقة عظيمة ذات أهمية بالغة لابد منها لفهم السفر ألا وهي أن قديسي الله يُشاهدون في السماء في الأصحاح ٤ وهم هناك حتى الأصحاح ١٩، عندما يرافقون الرب خارجين من السماء لإدانة العالم (الآيات ١١- ١٤). طوال فترة الدينونات الرؤيوية، وقبل أن تبدأ، الجسد السماوي من القديسين يُشاهدون في السماء. كيف وصلوا إلى هناك؟ لا يمكن تفسير ذلك بشكل مقبول إلا بالافتراض أن الاختطاف الذي يتكلم عنه ١ تسالونيكي ٤ يكون قد حدث. ذلك الحدث سيختم بالضرورة تعاملات الله مع الكنيسة، فينهي "مَا هُوَ كَائنٌ"، ويشق الطريق إلى الحالة الجديدة والنبوية والتي فيها "عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء" هو رمز مناسب. كل هذا بسيط ومتناغم ويبدو محفوراً على سطح السفر.


١. - في المجلس التشريعي الشهير في سبيرس، عام ١٥٢٩، وفي ١٩ نيسان منها، احتجَ (protested ) أمراء ألمانيا وآخرون كثيرون على اغتصاب البابوية بعهد كليمنت السابع. ومرة أخرى يوم السبت، في الرابع والعشرين من الشهر، وكان اليوم الأخير من هذا المجلس، جددوا احتجاجهم وبقوة. ولذلك فمنذ ذلك اليوم كل المصلحين الذين وقفوا موقف معارضة في البابوية صاروا يُسمون "البروتستانت".

٢. - تكلم لوثر باستخفاف عن الرسالة إلى يعقوب، لأنه كان يعتقد عن جهل أن الرسالة اليهودية تتعارض مع بولس في عرض عقيدة التبرير.

٣. - تأتي قراءة بديلة في أحد الهوامش في ترجمة للكتاب المقدس تقول "فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْحَمَلِ الَّذِي ذُبِحَ". انظر أيضاً (Tregelles, Darby, Kelly )، الخ.

٤. - هناك تعليمات كتابية كثيرة تتعلق بمعنى الأشخاص والأشياء يجهلها معظم القراء للكتاب المقدس بسبب إهمال هذا الجانب من الدراسات. من جهة أخرى، هناك خطر، وخاصة بالنسبة إلى الأشخاص ذي الطابع الصوفي في ذهنهم، في سماحهم للمخيلة بأن نحلّق بهم وتجنح وتنفلت عن إطار الحقيقة الموحى بها. وضع المصلح أرسينيوس، مؤلف التعليم المسيحي لهايدلبيرغ، عبارة "السقوط والفداء" من المغزى المعزوم لأسماء البطاركة العشر الأوائل الذين سبقوا عهد الطوفان؛ وتبعه آخرون في نفس الاتجاه الخيالي. إن كنا نسعى لتأسيس حقيقة أو عقيدة بناءً فقط على القيمة الحقيقية أو المفترضة لعدد ما أو لمغزى اسم معين، فإننا بذلك ندخل مبدأً خطيراً إلى التفسير الكتابي. إن قيمة الأعداد، ومغزى الأسماء تلقي الكثير من الأضواء الجانبية على تعاليم الكتاب المقدس. إن أصل الكثير من المفردات ضائع، ولكن لو أمكن معرفة أصل ومعنى الأسماء للأشياء والأشخاص في التاريخ المبكّر، وبشكل مؤكد فإننا سنكتشف أنها تعبر عن ملامح مميزة أو صفات معينة مرتبطة بظروف خاصة أو أحداث خاصة. تسمية آدم للحيوانات بلا شك لها علاقة بمواصفاتها العديدة أو عاداتها. في كتابه "علم اللغات" يقول البروفسور ماكس مولر: "حلل أي كلمة تريد وستجد أنها تعبر عن فكرة عامة تميز الفرد الذي تخصه. ما معنى القمر؟ المقياس. ما معنى الشمس؟ المُنجب. ما معنى الأرض؟ المحروثة".

٥. - "الكلمة" يعني بها فكر الرب بالإجمال، "كلمات" تفاصيل؛ و"الوصايا" تعبير عن سلطته (انظر يوحنا ١٤. "كلمات"، في الآية ٢٣، يجب أن تُقرأ "كلمة"؛ "أقوال" في الآية ٢٤، "كلمات").

٦. - تأتي "شهود" في عبرانيين ١١، بينما "غالبون" في رؤيا ٢، ٣. الأولى تشير إلى الجديرين بالاعتبار في العهد القديم، والأخيرة تشير إلى قديسي العهد الجديد.

٧. - هناك على الأقل أربعة مناصب رئاسية تُنسب إلى المسيح: (١) رئيس الجسد (كول ٢: ١٩). (٢) رئيس النسل (١ كور ١٥: ٢٢، ٤٥- ٤٩؛ أي أولئك الذين في المسيح، غلاطية ٣: ٢٨، ٢ كور ٥: ١٧). (٣) رئيس الخليقة (كول ١: ١٥- ١٧؛ ٢: ١٠). (٤) رئيس كل إنسان (١ كور ١١: ٣). "متحدون به" تعطي فكرة الأولية؛ "فيه" مشتملة ضمناً في الثانية؛ الوقار متبدٍ في الثالث؛ والربوبية في الرابع. " بَدَاءَةُ خَليقَة الله" هو لقب يشتمل على رئاسته.

٨. - "يتكلم الرب هنا فقط عن حالة أولئك الذين يكونون في علاقة معه"- هنغستينبرغ. ليست المسألة متعلقة في ما إذا كان الملاك حياً أو ميتاً روحياً، مهتدٍ أو غير مهتدٍ، بل الحالة الأخلاقية لشخص له علاقة محددة معينة مع الرب.

الأصحاح ٤

عرش الأبدي

الحالة بمجملها وقد تغيّرت:

١- "بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإذَا بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء، وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذي سَمعْتُهُ كَبُوقٍ يَتَكَلَّمُ مَعي قَائلاً: «اصْعَدْ إلَى هُنَا فَأُريَكَ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَصيرَ بَعْدَ هَذَا»". لدينا هنا تغير كامل في الحالة. الرائي يُختطف من الأرض إلى السماء. الأصحاحين ٢ و٣ يتناولان الثروات في الكنيسة على الأرض. الأصحاحان ٤ و٥ يصفان مشاهد وأحداث في السماء بجلال لا نظير له. تاريخ الكنيسة قد كُتب، والغالبون رُفعوا للقاء الرب في الهواء، والجمع الأثيم من المسيحيين المعترفين فقط قد "تقيأهم". ومن هنا فإن انتقال الكنيسة يترك مجالاً للخاضعين للنبوءة لكي يحتلوا المكان المخصص لهم.

١- "بَعْدَ هَذَا"، تدل على بداية جديدة. الدول الكنسية المتنوعة على الأرض تكون قد آلت إلى زوال. المشاهد والرؤى النبوية تلفت انتباه الرائي الآن. الكلمات "بَعْدَ هَذَا" تُعبر صراحة ليس فقط على تسلسل الرؤى، بل على الأحداث أيضاً التي تليها بالترتيب الطبيعي.

١- "بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء"، يدل على أن السماء لابد من الدخول إليها إن كنا نريد أن نفهم النبوءة. إنها هناك حيث توجد منابع الخير الأبدي، حيث العالم الآتي في الألفية والبركة الأبدية مرتب ومخطط له كما ينبغي وأيضاً حيث منبع الدينونات الإعدادية التمهيدية. "بَابٌ مَفْتُوحٌ في السَّمَاء"، كان يُمكن الرائي من المرور عبره. "السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً" للقديسين ليمروا خارجين (رؤيا ١٦: ١١).

١- "الصَّوْتُ الأَوَّلُ" لا يشير إلى أول شيء في سلسلة متعاقبة، بل هو إشارة واضحة إلى صوت الرب الذي سُمع للكون (١: ١٠). هناك سُمع الصوت على الأرض؛ وهنا يتكلم من السماء. صوت البوق يستدعي يوحنا من الأرض إلى السماء. المشاهد في السماء يجب أن تُكشف للعيان، وهناك فقط يُمكن أن تُرى. النبوءة مصدرها هو في السماء، ومن هنا فإن الرائي يجب أن يجعل السماء نقطة استشراف له إن كانت الرؤى النبوية على وشك أن تمر أمام نظرته المستغرقة الطربة لكي تُفهم إلهياً. في السماء يُرسم المخطط النبوي، وهناك أعلى بكثير من سديم وغيوم الأرض، ومجادلات وغيرة وكبرياء الإنسان، وهناك فقط يُمكننا أن نتبين فكر الله فيما يتعلق بالمستقبل. الدرس الأخلاقي الذي يأخذه كل خادم لله أمر لابد منه.

الجدارة الأخلاقية للرائي؛ العرش والمتربِّع عليه:

٢،٣-«"وَللْوَقْت صرْتُ في الرُّوح، وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء، وَعَلَى الْعَرْش جَالسٌ. وَكَانَ الْجَالسُ في الْمَنْظَر شبْهَ حَجَر الْيَشْب وَالْعَقيق، وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْش في الْمَنْظَر شبْهُ الزُّمُرُّد".» النداء الإلهي "اصْعَدْ إلَى هُنَا" لا يحتمل أي تأجيل. "للْوَقْت صرْتُ في الرُّوح". رؤيا المسيح كابن الإنسان في مجد فائق وسط المصابيح الذهبية كانت أيضاً منظراً يروق جداً للعين البشرية. الرائي في الوقت الراهن كان تحت تحكم الروح القدس الكامل؛ كان يعيش ويتحرك في شكل آخر من الوجود. "كُنْتُ فِي الرُّوحِ" (١: ١٠). ولكن هذا لا يمكن إطالته في طبيعة الأشياء. لقد انقضت الحالة. والآن رؤى جديدة، والمستقبل، على وشك أن تُرى وتكتب، وهذا في توافق كامل مع الطابع الجليل لها. والرائي من جديد آنية قوة الروح القدس. "صرْتُ في الرُّوح". إن غياب أداة ال التعريف من الأصل قبل كلمة "الروح" يجعل الحالة مميزة. رؤيا الأشياء في السماء شهد لها أنبياء معينون على الأرض، ولكن هذا النبي المميز في العهد الجديد هو وحده رأى تلك الرؤى في السماء نفسها. ليوحنا وحده وُجهت هذه الكلمات: "اصْعَدْ إلَى هُنَا". إن الجدارة والأهلية الأخلاقية للرائي لكي يرى ويُعاين الحالة النبوية المستقبلية لم تكن في داخله، بل بقوة خارج نطاق الطبيعة. الروح مرة أخرى يُمسك بإحكام بالآنية البشرية، ويتملكها بشكل كامل. كان يوحنا يعيش في ذلك الوقت في هيئة جديدة ونطاق من الوجود ليس فيها مكان للضعف أو الهشاشة البشريين. لقد كان الروح يملأه ويسيطر عليه.

٢- "وَإذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ في السَّمَاء". كان هذا أول ما رآه الرائي في هذه الرؤيا الجديدة. العرش هو الموضوع المركزي في المشهد السماوي. إنه العلامة والرمز الدالان على حكم الله الكوني. إنه "مَوْضُوعٌ في السَّمَاء". رسوخ تلك الحكومة تدلنا عليه الكلمة "موضوع" أو مؤسس؛ و"السماء" تُشير بشكل واضح إلى عرش السلطان الملكي بالتحديد. يا له من تضاد مع العروش الأرضية المترنحة المتداعية. هنا، في البدء، إعلان لأن الرب يملك. العرش هو ضماننا وقوتنا. إنه أيضاً الحقيقة المركزية العظيمة في الكون. إنه الضمانة على أن الحق بالأبدية سيتطلب الطاعة من كل مخلوق. إنه علامة على النظام والحكم والسلطة. العرش موضوع في السماء بعكس اللا استقرار أو الزعزعة في الحكومات الأرضية جميعها.

الجالس على العرش ليس له اسم، ولكنه يوصف بشكل عام برموز ذات مغزى. حجران كريمان يُذكران، الْيَشْب وَالْعَقيق، وبهاتين مجد وجلال الله ينعكسان. مجده الجوهري لا يمكن بالطبع أن يُصور أو يتم التعبير عنه حتى بالنسبة لأسمى المخلوقات. الله يسكن في النور بشكل لا يُدنى منه: "لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ" (١ تيموثاوس ٦: ١٦). ولكن ما يُعرض هو ما يمكن أن تراه المخلوقات. يُذكر الْيَشْب وَالْعَقيق في لائحة الحجارة الثمينة التي تُزيّن صدرة رئيس الكهنة في العهد القديم (خروج ٢٨: ١٧- ٢٠)، حيث يُذكر العقيق أولاً ثم الْيَشْب في النهاية؛ ويُذكران أيضاً بين تلك الأشياء التي تصف مجد الملك الرمزي لصور (حزقيال ٢٨: ١٣)، وفيها أيضاً يأتي ذكر العقيق أولاً والْيَشْب سادساً. ومرة أخرى نجد هذين الحجرين الثمينين يُذكران في وصف أورشليم المقدسة في سلطة الحكم والمجد التي ستتمتع بهما في العالم الألفي (رؤيا ٢١: ١٩، ٢٠)، العقيق أولاً والْيَشْب سادساً. أليس هناك مغزى في حقيقة أنه في هذه القوائم الثلاثة للحجارة الثمينة، والتي هي انعكاسات لله في النعمة، وفي الخليقة، وفي المجد- أن العدد الترتيبي يتغير؟ هل هذه صدفة فحسب أم دليل على تصميم معين وضعه الوحي؟ إنه الأخير بالتأكيد. لمعان الْيَشْب والتدرج اللوني في العقيق يعكسان مجد وروعة الله الفائقين بالدرجة التي يمكن عرضهما فيها. إن مجد الله أيضاً، كما يرمز إليه الْيَشْب، هو نور (رؤيا ٢١: ١١)، وضمان (الآية ١٨)، وأساس (الآية ١٩) الكنيسة أو العروس في الإعلان المستقبلي خلال الحكم الإلهي.

ثم يستأنف الرائي كلامه فيقول: "وَقَوْسُ قُزَحَ حَوْلَ الْعَرْش في الْمَنْظَر شبْهُ الزُّمُرُّد".

عرش الاتساع والجلالة يناسب رب الجنود. أن يكون مطوقاً بقوس قزح مشهدٌ يدل على أن الله، بممارسته للسلطة والسيادة المطلقة، وتمتعه بكل القوة والسلطان، سيتذكر مخلوقاته بسماحة ورحمة العهد. إنها علامة لكل من في السماء على أن الله يُسر بالخير والصلاح.

إن الحلقة المكتملة وغير المنقطعة التي تحيط بالعرش تعلن حقيقة أن "إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ". القوس القزح الذي يظهر في السحاب في العهد القديم، بألوانه البراقة وجمالياته المتنوعة، هو علامة على عهد الله مع الأرض (تك ٩: ٩- ١٧). نادراً ما يُرى كحلقة كاملة، ولكن يبدو عموماً كقوس، أو نصف دائرة، وهو درس للبشر من الله يُدرك بالحواس، علامة علنية معلقة في السماء لكي يراها الجميع ويتعلمون ويعلمون أن الله صالح، درس من الله وعن الله للبشر. في آخر ملاحظة للقوس القزح يُرى فوق رأس الرب عندما يؤكد بقوة مطالباته من الأرض. سيجرف العالم المدنس بمكنسة التدمير، ولكن حتى في ذلك الوقت تلك العلامة القديمة المميزة الدالة على الصلاح الإلهي تظهر من جديد (رؤيا ١٠: ١). بدلاً من اندماج الألوان الذي اعتدنا عليه في قوس القزح ذلك القوس السماوي فوق العرش هو "شبْهُ الزُّمُرُّد". الأخضر الجميل، اللون المميز لعالم الخضروات أو للعالم النباتي، والوحيد الذي لا يتعب العين، هو اللون المختار لقوس قزح الذي يراه الرائي. القديسون الممجدون سيرون قوس قزح في تماميته أمام عينهم المحدقة التي لا تتعب البتة. وفي هذا تذكار لنعمة الله للأرض حتى عندما يكون على وشك أن يتعامل مع الجنس البشري بدينونة.

السلطان الملوكي للمفتدين:

٤- "وَحَوْلَ الْعَرْش أَرْبَعَةٌ وَعشْرُونَ عَرْشاً. وَرَأَيْتُ عَلَى الْعُرُوش أَرْبَعَةً وَعشْرينَ شَيْخاً جَالسينَ مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ، وَعَلَى رُؤُوسهمْ أَكَاليلُ منْ ذَهَبٍ". العروش والأكاليل تشير إلى جماعة ملكية من القديسين المفتدين والممجدين في السماء، ومن الواضح أن ذلك ليس قبل بل بعد القيامة (١ كور ١٥: ٢٣). الأرواح جالسون ومتسربلون ومكللون هي فكرة متضاربة وغير مقبولة وغريبة كلياً عن الكتاب المقدس. متجمعين حول العرش الواسع في السماء هناك أربعة وعشرون عرشاً تستمد قبضتها واستقرارها من عرش الأبدية الذي لا مقياس له وتتآزر به. هنا نجد كلمة "عروش" وليس "كراسي". إن كلمة "عرش" مرتبطة بشخص ملوكي؛ أما كلمة" كرسي" فترتبط بشخص معين.

هؤلاء الشيوخ الأربعة والعشرون أو الرؤساء، يُمثلون الجسم العام للمفتدين آنذاك في السماء. إنهم يلعبون دوراً هاماً في المشاهد المدونة والرؤى المشاهدة من الأصحاح ٤ إلى الأصحاح ١٩، بينما في الآية ٤ نجد ذكراً لرؤيتها لآخر مرة ١. الشيوخ جماعة متمايزة عن الوحوش أو المخلوقات الحية، وعن الملائكة. في الأصحاح ٥ أعمال الشيوخ، المتمايزة عن الملائكة، تجعل أمراً مستحيلاً أن نعتبرهم واحداً أو نفس الشيء؛ الآية ١١تميز باللقب والاسم الجماعات الثلاثة. الشيوخ يغنون (الآية ٩)، والملائكة يقولون (الآية ١٢). الملائكة لا يُعدَّون أبداً (عبرانيين ١٢: ٢٢)، أما الشيوخ فيمكن عدهم. لست مرات يتكرر الرقم التمثيلي "٢٤". لا يُقال أن الملائكة يُتوجون، بل الشيوخ هكذا. تسبيح الجوقة في السماء، القيثارة والنشيد، يبدو عملاً مميزاً للشيوخ. الذكاء السماوي، وخاصة في المواضيع والأفكار المتعلقة بالفداء، تُنسب إلى الشيوخ وليس إلى الملائكة. وبالتالي ومن الشيوخ نفهم أنهم الجماعة التي لا عدد لها من القديسين المفتدين، المقامين والمتغيرين، والمختطفين إلى الأعلى لملاقاة المسيح في الهواء (١ تسا ٤: ١٧). تيجانهم وعروشهم تدل على كرامتهم الملكية؛ القيثارة والنشيد هي فرحتهم في العبادة، بينما ثيابهم وجاماتهم تشير إلى طابع وسلوك كهنوتيين. ولكن لماذا ٢٤؟ إن المغزى من الرقم يمكن فهمه إذا نظرنا إلى السفر الأول من أخبار الأيام ٢٤، ٢٥. لقد قسّم داود الكهنوت إلى ٢٤ درجة أو صف، وكل صف يخدم بدوره (لوقا ١، ٥، ٨، ٩). الشيوخ أو الرؤساء في كل صف من هذه الصفوف يمثلون كل اللاهوت اللاوي. ولذلك يجب أن يكون هناك ٢٤ من الكهنة الرئيسيين ورئيس كهنة واحد ٢. خدمتهم المتنوعة تتوافق مع تلك التي للشيوخ في السماء، لأن الهيكل (وليس بأقل من خيمة الاجتماع) في البناء، والأواني، والخدمات كان قد تشكل بناءً على ما في السموات. شعب الله يُنعَت بأنه "كَهَنُوتٌ مُقَدَّسٌ" (١ بطرس ٢: ٥) و"كَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ" (الآية ٩)، وفي كلا الطابعين نراهما هنا بالفعل.

الثياب البيضاء تشير إلى النقاء والطابع الكهنوتي لدى الشيوخ. "عَلَى رُؤُوسهمْ أَكَاليلُ منْ ذَهَبٍ"، تدل على مكانتهم الملكية. كل قديس مفتدى ومقام سيُكلَّل؛ وهذا ليس إكليلاً مميزاً يخص البعض، بل يشير إلى الكرامة الملكية والسلطة التي تخص جميع القديسين السماويين.

العرش مركز الفعل والاهتمام:

٥، ٦- "وَمنَ الْعَرْش يَخْرُجُ بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ. وَأَمَامَ الْعَرْش سَبْعَةُ مَصَابيح نَارٍ مُتَّقدَةٌ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله. وَقُدَّامَ الْعَرْش بَحْرُ زُجَاجٍ شبْهُ الْبَلُّور. وَفي وَسَط الْعَرْش وَحَوْلَ الْعَرْش أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً منْ قُدَّامٍ وَمنْ وَرَاءٍ". أما وأمامنا علاقة القديسين بالعرش وهم يحيطون به، وسلطتهم الملكية المنحدرة منه والمستندة إليه، لدينا تالياً فعل العرش نفسه. فـ "منه" وليس "عنه"، تكون نذائر الدينونة الآتية، "بُرُوقٌ وَرُعُودٌ وَأَصْوَاتٌ". لقد قيل أن "السفر" بالكاد يشير إلى أي شيء ليس كتابياً. ويمكننا أن نضيف قائلين أن كاتب سفر الرؤيا يفترض أن القارئ على معرفة بشكل معقول بالأقسام السابقة من السفر المقدس، وفوق ذلك، أن كل رمز من الرموز التي يزخر بها السفر يمكن تفسيره وفهمه من استخدامه في جزء ما وآخر من الكتابات المقدسة. مهما يكن، لا تحاولوا الحصول على تفسير لأي جزء من الرؤيا خارج دفتي كتابكم المقدس. معنى كل رمز لابد أن تجدوه في الكلمة نفسها. الإعلان المثلث الجوانب للدينونة المباشرة والفورية قد وُضع بشكل ملائم ليثير الرعب في قلوب الآثمين على الأرض. العرش على وشك أن يفرض نفسه بقوة. والله يستعد لإصدار الإدانة والتعامل مع الإثم المتفشي في الأزمة الآتية الواقعة بين انتقال القديسين السماويين وعودتهم اللاحقة التالية من السماء. هذه العلائم من التعامل القضائي الإداني هي إعلانات تحذيرية من الرب يهوه عن قدرته في الدينونة (مزمور ٢٩: ٣- ٥). العلائم نفسها، مع بعض الإضافات تُذكر مرتبطة مع إعلان الناموس (خروج ١٩). وتأثير ذلك على الشعب يُذكر أيضاً: "ارْتَعَدَ كُلُّ الشَّعْبِ الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ" (الآية ١٦). كم كان واسعاً أكثر ومحذّراً أكثر نشر إعلانات الغضب تلك في عالم شرير يحكمه الشيطان.

٥- "أَمَامَ الْعَرْش سَبْعَةُ مَصَابيح نَارٍ مُتَّقدَةٌ" تشير إلى امتلاء الروح في فعل سيادي. الروح هنا لا يُرى كمخلّص للبشر من خلال الكرازة بالإنجيل، ولا في أي من خدماته المتنوعة في الكنيسة، بل يُشاهد هنا في حفظه الأخلاقي للعرش نفسه. كل شيء متضارب مع النقاء المطلق للعرش يجب أن يُدان؛ ومن هنا يُرى الروح هنا مرتبطاً مع طابع البر الذي للعرش. "تلك المصابيح السبع من النار (الكمال الروحي) ستسبر وتكشف كل ما يتناقض مع طبيعة الله المقدسة" (قارن مع ١: ٤؛ وأشعياء ١١: ٢).

٦- "وَقُدَّامَ الْعَرْش بَحْرُ زُجَاجٍ شبْهُ الْبَلُّور". علم الرموز في العهد القديم يدخل بشكل كبير في بنية الرؤيا. ويبدو أنه توجد إشارة واضحة هنا إلى مرحضة خيمة الاجتماع (خروج ٣٠: ١٨- ٢١)، وربما بشكل مباشر أكثر إلى الْبَحْر المَسْبُوك في الهيكل (الملوك الأول ٧: ٢٣- ٣٧)، وكلاهما يدلان على الطهارة الكهنوتية. ولكن بَحْر الزُجَاج يُشير إلى حالة ثابتة من القداسة، والنقاء الداخلي والخارجي، بينما "أَمَامَ الْعَرْش" تشير إلى أن النقاء هو في حفظ طابع القداسة للعرش نفسه. "شبْهُ الْبَلُّور" ٣، صفاء وجمال ذلك المشهد من القداسة المنتشر أمام العرش يرمز إليه بشكل جلي البلور. إن الرمزين، الزجاج والبلور، لهما نفس الصفات تقريباً، ولكنهما ليسا نفس الشيء تماماً. فالأول مادة صنعية، والأخير نتاج طبيعي. ومن هنا فإن "زجاج" البحر يشير إلى حالة مستقرة من النقاء. بينما "البلور" يشير إلى أن الحالة هي في توافق مع الله في طبيعته المقدسة. الفكرة الإلهية مرتبطة مع استخدام هذا الرمز الأخير (حزقيال ١: ٢٢؛ رؤيا ٢١: ١١؛ ٢٢: ١). بحر الزجاج يُشار إليه من جديد في الأصحاح ١٥، ولكنه "مُخْتَلِط بِنَار"، ما يُعبر عن المحنة المتقدة، الذي سينشأ عنها الشهداء. إنهم يقفون على بحر الزجاج؛ وهنا نجده خالياً.

يصف الرائي بعد ذلك جماعة أخرى من الكائنات، بل حيوانات، مخلوقات حية، متمايزة، أيضاً، عن الشيوخ والملائكة، ومرتبطة أكثر منهما بالعرش.

٦- "في وَسَط الْعَرْش" ترينا أنهم جزء أساسي متكامل منه، "وَحَوْلَ الْعَرْش" أنهم مرتبطون به خارجياً. أي أن المخلوقات الحية (وليس الوحوش) يمكن رؤيتهم إما مرتبطين بشكل أساسي بسلطة الله القضائية، أو كجزء منها، ومع ذلك في علاقة بها. المخلوق المدرك بالحواس، امتلاء البصيرة الروحية، يبدو أنه قوة الكلمات "مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً منْ قُدَّامٍ وَمنْ وَرَاءٍ".

المخلوقات الحية وعبادتها:

٧، ٨- "وَالْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شبْهُ أَسَدٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّاني شبْهُ عجْلٍ، وَالْحَيَوَانُ الثَّالثُ لَهُ وَجْهٌ مثْلُ وَجْه إنْسَانٍ، وَالْحَيَوَانُ الرَّابعُ شبْهُ نَسْرٍ طَائرٍ. وَالأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ لكُلّ وَاحدٍ منْهَا ستَّةُ أَجْنحَةٍ حَوْلَهَا وَمنْ دَاخلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً، وَلاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً قَائلَةً: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي»". لماذا "أربعة" أحياء؟ لأن العدد "أربعة" يُمثل مواصفات الله في تعامله الإداني مع الإنسان والخليقة. إنه إمضاء العالم والجنس البشري، ويُستخدم عند الحديث عن الكونية أو العالمية. الممثلون، أو رؤساء الخليقة الحيوانية، يُسمون كالأسد دلالة الجلالة، والثور دلالة الصبر الطويل الأناة، والإنسان دلالة الذكاء، والنسر لسرعة التصرف. وهذه الرموز تعبر عن الملامح المحددة في ممارسة الحكم الإلهي، وتُقدّم هنا بشكل ملائم من حيث التنفيذ المباشر لهذه الملامح الإلهية. العالم بمجمله تحت السماء سيُفتقَد بالدينونة؛ ومن هنا كان استخدام العدد "٤" ٤. ولذلك ففي المجموعة المؤلفة من ٤ مخلوقات حية لدينا النظرة الكاملة والمكتملة عن حكم الله القضائي الإداني. الرموز مأخوذة من الحيوانات الأكثر شهرة، وليس من تلك التي في البحر. الصفة الأولى من صفات عرش الله المرموز إليها بالأسد هي الجلال والقوة والقدرة الكلية (تكوين ٤٩: ٩؛ دانيال ٧: ٤؛ عاموس ٣: ٨). الرمز الثاني هو ثور أو عجل دلالة الكدح الصابر، العمل المبذول بجهد لخير الآخرين (١ كور ٩: ٩، ١٠؛ رؤيا ١٤: ٤). والمخلوق الثالث له وجه إنسان، ما يشير إلى الذكاء أو العقل (أيوب ٩: ٢٤؛ عزرا ٩: ٦). الرمز الرابع هو نسر طائر ويشير إلى الرؤية الحادة والتصرف السريع (تثنية ٢٨: ٤٩؛ أيوب ٩: ٢٦؛ حبقوق ١: ٨؛ أيوب ٣٩: ٢٧- ٣٠). هذه المواصفات المجتمعة معاً تعبر عن طبيعة عرش الله فيما يختص بالأرض. غنها مواصفات الطبيعة الإدانية الممارسة من خلال أدوات بشرية أو ملائكية بحسب مسرة جلال الله. المخلوقات الحية تمثل السلطة الإدانية للعرش. من ذكر الْكَرُوبِيمَ (تكوين ٣: ٢٤) أولاً وحتى الذكر الأخير لها (عبرانيين ٩: ٥) نجد نفس الفكرة الرائدة تميز كل المقاطع، أي مواصفات حكومة الله ٥. الفروقات بين المخلوقات الحية في حزقيال ١، والكروبيم في الأصحاح ٩ و١٠ من نفس النبي، والمخلوقات الحية في الرؤيا عديدة ومثيرة للانتباه. في الوصف الذي يقدمه نبي السبي، كل من الأحياء الأربعة لديه أربعة وجوه وأربعة أجنحة (١: ٦). يصف الرائي في سفر الرؤيا فقط المخلوق الحي الثالث بوجه إنسان، وكلاً من الأربعة بستة أجنحة (٤: ٧، ٨). هناك كانت لديهم بَكَرَات؛ وهنا ليس لديهم شيئاً منها. هناك كان العرش فوقهم؛ وأما هنا فهم في وسطه وأيضاً حوله. هناك كانت مَمْلُوَّة عُيُوناً، "كُلُّ جِسْمِهَا وَظُهُورِهَا وَأَيْدِيهَا وَأَجْنِحَتِهَا وَالْبَكَرَاتِ مَلآنَةٌ عُيُوناً حَوَالَيْهَا لِبَكَرَاتِهَا الأَرْبَعِ" (حزقيال ١٠: ١٢)؛ وهنا هي "مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ" وأيضاً "منْ دَاخل". العديد من هذه الفروقات يمكن تعديلها بحقيقة أن دينونة يهوذا وأورشليم قد تم تناولها بشكل خاص في حزقيال، وبما أن تلك الدينونة كانت ستأتي من الشمال (بابل)، فإن الْبَكَرَات سوف تجري على الأرض بما يُمثل مسار الدينونة الأرضية، بينما المخلوقات الحية هنا لم تظهر بعد في حالة فعل؛ إنهم خدام العرش. في عمل إداني يتصرفون من السماء؛ ومن هنا نجد الأجنحة والبكرات. إضافة إلى ذلك، يقدم لنا الرائي مجالاً للدينونة أوسع بكثير من مملكة يهوذا وعاصمتها الأثيمة، أورشليم، لأن الأرض كلها على وشك أن ترتجف تحت وطأة تصرف العرش.

عناية الكروبيم هي لمجد الله السيادي والعلني (حزقيال ١٠). عناية السيرافيم هي لأجل قداسة الله؛ هذه الأخيرة تُسمى مرة واحدة فقط في الكتاب المقدس (أشعياء ٦). المخلوقات الحية في سفر الرؤيا تجمع بين الكروبيم والسيرافيم.

كل من المخلوقات الحية الأربعة لديه "ستة أجنحة". السيرافيم في أشعياء (٦: ٢) كان لكل منها "ستة أجنحة"، اثنان ليغطيا الوجه والقدمين على التوالي، واثنان لأجل السرعة في التصرف. المخلوقات الحية التي رآها نبي السبي كان لكل منها "أربعة أجنحة" (حزقيال ١: ٥، ٦). العدد "٤" يُستخدم بشكل كبير في ذلك الأصحاح لأن الموضوع يتعلق بحكم الله الأرضي. "الأجنحة الستة" في كل من المخلوقات الحية في الرؤيا تشير إلى فعالية وراء قوى الطبيعة- فعالية فائقة الطبيعة.

٨- "منْ دَاخلٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُوناً" تشير إلى الفهم الروحي الداخلي لأهداف وأفعال الحكم عند الله. في الجزء السابق من الوصف يُقال أن العينين هما "مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ" (الآية ٦). المستقبل والماضي يأتيان على قدم المساواة في مجال المقدرات المميزة للمخلوقات الحية.

أما وقد أعطانا وصفاً للمخلوقات الحية، يصف لنا الرائي بعد ذلك عبادتهم. في هذه الممارسة المباركة والسعيدة ليس هناك من تراخٍ أو استراحة: "لاَ تَزَالُ نَهَاراً وَلَيْلاً". ليس هناك نقص أو عيب في خدمته؛ ولا تراخٍ أو ضعف يميز عبادتهم. إنهم يُسبّحون الله ويعبدونه دون توقف، قائلين: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي". يمكننا هنا أن نشير إلى أن هناك تشابه بين المخلوقات الحية والسرافيم من ناحيتين: في عدد الأجنحة ونسب العبادة المثل الجوانب (قارن مع أشعياء ٦). إن أعمال الله تُمجّده، ولكن أيضاً مواصفاته الداخلية تعلن طبيعته القدوسة القدوسة القدوسة، أي ماهيته في داخل نفسه. إن ألقاب الألوهية هنا مجمّعة والحقائق المميزة لكل منها مرتبطة ويُحتفل بها بلا توقف. القوة نفسها التي تُنفّذ أوامر البر للعرش (الأصحاح ٦) تُمجّده هنا في كينونته الإلهية. المخلوقات الحية تُمثل رمزياً المواصفات المتعددة المذكورة، و"تُعْطي مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً للْجَالس عَلَى الْعَرْش".

الألقاب الإلهية هي رب، أو يهوه، الكائن بنفسه؛ وفي علاقة الله مع خلائقه: القدير في النعمة، والقوة، ومنبع الموارد. إضافة إلى ذلك، فإن الكائن الإلهي يُحتفل به على أنه إله الدهور، الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي. وبالنسبة إلى هذا الأخير، أي ماهية الله في كيانه وطبيعته الحقة، انظر الأصحاح ١: ٤. هنا "الَّذي كَانَ" تسبق العبارة التي تدل على وجود مستقل وأزلي، "وَالْكَائنُ"- هذا لقب قد ذُكر قبلاً في آية سابقة. وهكذا المخلوقات الأربعة الحية تعبد الله.

عبادة المخلوقات الحية، والعبادة الكاملة للشيوخ:

٩- ١١- "وَحينَمَا تُعْطي الْحَيَوَانَاتُ مَجْداً وَكَرَامَةً وَشُكْراً للْجَالس عَلَى الْعَرْش، الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، يَخرُّ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً قُدَّامَ الْجَالس عَلَى الْعَرْش، وَيَسْجُدُونَ للْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَاليلَهُمْ أَمَامَ الْعَرْش قَائلينَ: «أَنْتَ مُسْتَحقٌّ أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاء، وَهيَ بإرَادَتكَ كَائنَةٌ وَخُلقَتْ»". كل واحد من المخلوقات الحية هو رمز متميز بحد ذاته ويشير إلى واحدة أو أكثر من المواصفات الإلهية، والآن يتوحد الأربعة، قبل شهادتهم في الفعل السيادي، بتقديم المجد والكرامة والشكر له بما يليق باسمه. لقد أعلنوا، كما رأينا، نقاءه الجوهري في تكرارهم المثلث للكلمة "قدوس"، والآن صارت تسبيحتهم (الآية ٩)، كما الشيوخ (الآية ١١)، مثلثة الجوانب. وهناك صفة أخرى تميز عبادة الشيوخ الأكثر رسوخاً من تلك التي للمخلوقات الحية هي أن أولئك السابقون يُخاطبون الله بشكل مباشر باستخدام ضمير المخاطب؛ بينما المخلوقات الحية تتكلم إلى الله أو مع الله بضمير الغائب. من المهم أن نلاحظ أنه مهما كانت الأداة، الملائكة أم البشر، في تنفيذ سلطة العرش القضائية، التي يُمثلها المخلوقات الحية هنا رمزياً، فإن على الجميع أن يلتفتوا إليه بقوة وامتلاء متزايدين. وإن تسبيحة المخلوقات الحية تُظهر برهاناً على هذا.

إن عبادة الشيوخ هي ذات طابع مختلف عن عبادة المخلوقات الحية. فعبادتهم هي عبادة أشخاص مُفتدين، وهؤلاء، وإذ لهم فكر المسيح (١ كور ٢: ١٦)، يدخلون بفطنة وذكاء إلى أفكار الله، وهؤلاء يعرفونه شخصياً في قداسته ومحبته. إنها عبادة لأشخاص قلوبهم قد اقتناها الرب بمحبته العظيمة الفائقة، وتطهرت ضمائرهم بالإيمان بالشهادة المقدسة لدم المسيح الثمين.

"يَخرُّ القديسون هنا قُدَّامَ الْعَرْش، وَيَسْجُدُونَ أمام كرسي مجده، ويعبدون الْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، وَيَطْرَحُونَ أَكَاليلَ مجدهم أَمَامَ عَرْش مجده السّامي والملائم، وينسبون له كل المجد الذي يستحقه؛ ولكن هنا هو بفضل طبيعة الاحتفاء به لكونه خالق كل الأشياء. وهذه تبقى حقيقية صحيحة في كل التغييرات. ومن الملاحَظ هنا أن المخلوقات الحيّة وحدها هي التي تحتفل وتعلن المجد؛ فالشيوخ يعبدون الله مع فهمٍ. وخلال كل الإعلان يتعبّد الشيوخ لله عقلانياً. هناك ذكاء روحي فيهم" ٦.

يجب أن نلاحظ في إعلان المخلوقات الحية وجود الْمَجْد وَالْكَرَامَة وَالشكر؛ بينما في إعلان الشيوخ نجد الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ. إضافة إلى ذلك، يسجد الشيوخ أمام ذاك الذي يحبونه ويوقِّرونه، ويلقون تيجانهم أمام العرش اعترافاً منهم بأن منه يستمدون الكرامة الملكية ٧.

مجد الله الخلقي هو هنا أساس العبادة التي يقدّمها الشيوخ. "هيَ بإرَادَتكَ كَائنَةٌ" يعني أن كل الأشياء موجودة بحسب إرادة الله ومسرته الجليلة، وهي قد "خُلقَتْ". هو الذي أوجدها، هو أصل ومصدر كل خليقة. العبادة هنا تقوم على أساس معرفة الله، ماهيته في كيانيته الذاتية وكخالق ومؤازر للكون. إن أول مطلب جوهري لله

من مخلوقاته هو هذا التمييز الذي لابد منه والاعتراف بقدرته ومجده، وهذا ما يخلق ويدعم الجميع- البشر والملائكة، الأحياء والأشياء الفاقدة الحياة، كل ما في عالمي الأرض والسماء. إن أول موضوع أُعلن عنه في الكتابات المقدسة هو الخلق، وأول أمر مطلوب هو الإيمان (عبرانيين ١ : ٣). العبادة في الأصحاح الثاني مؤسسة على الفداء بالدم، ومن هنا فلابد من أن يصير الحمل هو الشخص المركزي. العرش نفسه هو الموضوع البارز في أصحاحنا؛ الحمل مرتبط بالعرش الذي في الأصحاح ٥.

الأصحاح الذي كنا نتأمل فيه مثير للاهتمام جداً. الموضوع الأساسي المتبين في الرؤيا هو عرش الله الأبدي، الضمانة على أنه يحكم الكون وفق حق طبيعته. والعرش، أيضاً، "مؤسس" أو مرتكز في "السماء" على الأساس الثابت بالبر الأبدي كونه ضمان الديمومة أو الأمان. بينما "الْجَالس عَلَى الْعَرْش"، الوحيد، يشير إلى أنه لن يكون هناك تبدل في الملوك أو تحول في السلطة السيادية، أو تعاقب في الحكم؛ نقرأ هنا عن "جالس" وليس "جلسَ"، أي ما من فاصل أو انقطاع في الحكم. ليس من تسبيحة أو أنشودة في الأصحاح، وليس من رؤيا للحمل المذبوح، ولا وجود لذكر دم الذبيحة القربانية؛ فهذه ملامح تميز الأصحاح التالي، ومن هنا، وبسبب غيابها هنا، فإن هذا الأصحاح لا يُقرأ كثيراً كما الحال مع الأصحاح ٥. إلا أن العرش، بأمجاده الرمزية وصوره الثانوية والأمور المحيطة به، تجعل هذا الأصحاح ذا أهمية خاصة، تزداد وتتعمق كلما قرأنا هذا الأصحاح ودرسناه بعناية أكبر.


١. - الكلمة "شيوخ" ترد ١٢ مرة. الأعمال والخدمات المتنوعة التي يشاركون فيها تظهر بشكل واضح أنهم ممثلون للقديسين المفتدين والقائمين. إنه متوجون؛ لقد خروا يسجدون للرب؛ أحدهم يُعزي الرائي الباكي ويُفسّر له فكر الله؛ لديهم قيثارات وقوارير بخور؛ إنهم يُغنون ويُسبحون (وهذا لا يقال عن الملائكة)؛ وهم أقرب جماعة إلى العرش وإلى الحمل؛ ويُفسرون ببراعة الأمور للمفتدين على الأرض؛ ويحتفلون بنصر الله الألفي والأبدي؛ وينطقون بالـ "آمين" و"هللويا" لدى إطلاق الدينونة على الزانية- فساد الأرض. المقاطع التي توجد فيها هذه الكلمة هي كما يلي: ٤: ٤، ١٠؛ ٥: ٥، ٦، ٨، ١١، ١٤؛ ٧: ١١، ١٣؛ ١١: ١٦؛ ١٤: ٣؛ ١٩: ٤.

٢. - يخبرنا المؤرخ اليهودي، يوسيفوس، أن عائلته كانت "من الصف الأول من الـ ٢٤"- وليس من صف أدنى. البعض يفهم من الـ ٢٤ أن تُمثل العدد الحكومي "١٢"، فترمز بذلك إلى حاصل جمع قديسي العهد القديم كجسم واحد، وحاصل جمع قديسي العهد الجديد كجسم آخر من المؤمنين- ومن هنا الاثني العشر المضاعفة. نعتبر أنه لا مبرر لتوزيع رمز الرقم على هذا النحو. لأننا مقتنعون بأن الرمز الذي فيه إشارة إلى "٢٤" يعود إلى أخبار الأيام الأول ٢٤، ٢٥.

٣. - "بحر الزجاج يعبّر عن النعومة والملاسة والسطوع؛ وهذا البحر السماوي هو من البلّور، إشارة إلى أن هدوء السماء، خلافاً للبحار الأرضية، لا تكدّره الرّياح بل هو متبلور إلى سلام أبدي"- وردزورث.

٤. - العدد ٣ و٤ يعبران بشكل واضح عن الإلهي والبشري. فهناك ٣ أشخاص أو أقانيم في الله. ويعلن السيرافيم ٣ مرات قداسة الله قائلين: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ" (أشعياء ٦: ٣). وتقول المخلوقات الحيّة ٣ مرات أن "قدوس" (رؤيا ٤: ٨). وعلاقة الرب يهوه بالزمن والأبدية يُعبّر عنها بطريقة تتضمن ٣ جوانب "الَّذي كَانَ وَالْكَائنُ وَالَّذي يَأْتي" (الآية). وهناك ٣ تجارب يتعرض لها ربنا (لوقا ٤). واعترف الله بربنا ٣ مرات علانيةً على الملأ (متى ٣: ١٧؛ ١٧: ٥؛ يوحنا ١٢: ٢٨). وفي اليوم الثالث قام الرب من الموت. والظلمة التي سادت فوق الصليب وفوق الأرض استمرت ٣ ساعات. والإيمان والرجاء والمحبة هي الـ ٣ فضائل المسيحية الأساسية. وأعلن المسيح عن نفسه بـ ٣ صفات، أنه الطريق والحق والحياة. والبركة الإلهية نراها لـ ٣ مرات (عدد ٦: ٢٣، ٢٤). إن العدد ٣ هو إمضاء الله. والعدد ٤ هو إمضاء العالم. فهناك ٤ تقسيمات في الجنس البشري: "الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة" (رؤيا ٧: ٩). وهناك ٤ عناصر. ٤ رياح. ٤ فصول. ٤ أناجيل تُظهر المسيح. ٤ مخلوقات حية. ٤ أباطرة كونيين (دانيال ٧). ٤ ذبائح عظيمة، وهي المحرقة (لاويين ١)، قربان التقدمة (لاويين ٢)، ذبيحة السلامة (لاويين ٣)، ذبيحة الخطية (لاويين ٤). و٤ دينونات قاسية لله (حزقيال ١٤: ٢١). ٤ نساء في سلسلة نسب الرب البشرية (متى ١). والمذبح النحاسي كان له ٤ جوانب و٤ قرون. والمذبح الذهبي كان فيه ٤ جوانب و٤ قرون. العدد ٤ هو إمضاء الإنسان وغالباً ما يشير إلى الخليقة المادية.

"يؤكد الكتّاب الربّانيون القدماء أن الرايات الـ ٤ لأقباط إسرائيل، التي كان يتوجب عليهم أن يتجمعوا حولها بخيمهم على كل جانب من جوانب خيمة الاجتماع، كما في عدد ٢: ٢، كانت كالتالي: الأسد لسبط يهوذا، والثور لسبط أفرايم، والإنسان لسبط رَاوبَيْنَ، والنسر لسبط دان"- "ملاحظات على الرؤيا"، بقلم F. Brodie .

يقتبس هنغستنبرغ القول اليهودي القديم: "هناك أربع لهم المكانة الأولى في هذا العالم: الإنسان وسط المخلوقات، والنسر من بين الطيور، والثور من بين الماشية، والأسد من بين الوحوش".

٥. - كان هناك دائماً سعي لمطابقة الكروبيم والمخلوقات الحية مع الكنيسة، ولكن هذه الفكرة البعيدة عن الواقع لا يمكن التفكير بها ولو لوهلة، لسببين: الأول، أن الكروبيم كانوا من نفس نوع ذلك الجزء من الذهب الذي يُشكل عرش الرحمة- إذ أن الذهب يرمز إلى المسيح في طبيعته الإلهية، كما أن خشب شجرة السنط يُمثل ناسوته المقدس والذي لا فساد فيه؛ والآن لسنا، ولا يمكن أن نكون متحدين به كإله. لم يكن الكروبيم متحدين بعرش الرحمة، رغم أنهم يشكلون جزءاً منه. والسبب الثاني، أن الطبيعة الإدانية للكروبيم ستمنع التطبيق على الكنيسة، التي هنا لتعرض نعمة الله، وليس طرقه الإدانية.

٦. - "مختصر أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص ٥٩٥.

٧. - "لا يستغرب القارئ الذكي كثافة المشهد المصوّر في الأصحاح ٤. الرائي القديس كان مستعداً تماماً لتلك الرؤى الجليلة للمكاشفات التي تأتي لاحقاً؛ ولا يمكن لفكر القارئ أن يخفق في الاستعداد للنظر إليها باهتمام عميق. ولا يفوت القارئ إدراك عظمة هذا المشهد الذي يشابه إلى حد كبير الظهورات الإلهية الافتتاحية في أشعياء ٦ وحزقيال ١"، "تعليق على الرؤيا"، بقلم موسى ستيوارت، ص ٥١٤.

Pages