November 2013

الأصحاح ١٤

سلطان الملك على كل الطبيعة.

الجزء الأول من القسم الحالي مخصصٌ للرواية المحزنة لاستشهاد يوحنا المعمدان، ولكن تساوق الأصحاح يخبرنا عن معجزتين، كلٍ منهما تظهر قدرة الرب يسوع على الطبيعة: مضاعفته للأرغفة، وسيره على المياه مسيطراً على العناصر.

إن هيرودس، الذي كان نوعاً ما مهتماً في البداية بيوحنا المعمدان وإعلانه عن اقتراب ملكوت السموات، أصبح ساخطاً عندما شجب كارزُ الصحراء هذا الذي لا يخاف الرذائل الشخصية له (لهيرودس)، ولذلك سعى إلى إسكاته بأن وضعه في غياهب السجن، وقام بقتله عقاباً في نهاية الأمر. عندما سمع عن يسوع، أوحى له ضميره غير المرتاح بأن هذا لا بد أن يكون يوحنا (المعمدان) وقد قام من بين الأموات؛ ولم تكن لديه أية علامة تنمُّ على إدانة الذات أو الاعتراف بصنيعه البشع الشنيع. تابع يسوع خدمته الأعاجيبية وفي كل مكان كانت آيات مذهلة تشهد على مسيانيته، التي كانت تُقنِع كل ساعٍ صادق إلى الحقيقة بأنه (أي يسوع) كان كما يدَّعي. ولكن قادة الدين وقفوا بعيدين متحفظين ببرود أو جاءوا إليه بموقف معارضة بسبب عدم رغبتهم واستعدادهم في أن يتواضعوا أمام الله. إنَّ مَن كان "أَذَلَّ الْغَنَمِ" (زكريا ١١: ١١) هم الذين سمعوا يسوع بسرور وتباركوا بخدماته السَّمِحة الكريمة. وهؤلاء مجَّدوا إلهَ إسرائيل لإرساله الممسوحَ إلى وسطهم.

"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: «هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ». وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسَطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: «أَعْطِنِي هَهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ. وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى. فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ" (الآيات ١- ١٤).

"سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ". هيرودس هذا كان فاسداً مثل كل أسلافه- وحشاً ممتلئاً إثماً يعيش في زنى صفيق مع زوجة أخيه بشكل يخالف الناموس. جاءت إلى أسماع هذا الحاكم الفاسد الفاسق أنباء عن قدرة يسوع صانع المعجزات، فملأته خوفاً.

"هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ". وإذ كان مؤمناً بالخرافات، مثل معظم المخلوقات الفاسدين غير الأخلاقيين، كان هيرودس متأكداً من أن نبي البرية الصارم، الذي كان قد أسلمه إلى موتٍ لا يستحق، لا بد أن يكون قد عاد من القبر.

"طَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا". امرأةٌ شريرةٌ كانت السبب المباشر في موت يوحنا. كراهيتها للرجل الذي تجرأ على أن يدين علانيةً وصراحةً فداحة خطاياها ما كان ليمكن إرضاؤها سوى بإعدام هذا الرجل.

"«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»". لقد كانت شجاعة من يوحنا بالفعل أن يفضح شر وفساد هيرودس. ومثله مثل ذاك الآخر، ناثان (٢ صموئيل ١٢: ٧)، كشف إثم الملك، ولكنه خسر حياته من جرّاء ذلك، لأن هيرودس، خلافاً لداود، رفض أن يتوب عن معاصيه.

"لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ". ما كان هيرودس ليتردد للحظة في إهلاك يوحنا بسبب صدقه وصراحته، ولكنه كان يخشى أن يجلب على نفسه عداوة الشعب عموماً، الذين كانوا ينظرون إلى يوحنا على أنه خلفٌ للأنبياء في القديم. ولذلك، وبدلاً من أن يعدمه مباشرةً، احتجزه هيرودس في السجن.

في حفلة عيد ميلاد هيرودس، حضرت ابنة هيروديا الشائنة السيئة السمعة الحفل أمام الملك وأصحابه الحاضرين، وأبهجتهم برقصةٍ من الواضح أنها كانت داعرة. لقد كان الطاغية العجوز مسروراً جداً من ذلك، وفي حماسته، وعد الراقصة حالفاً اليمين أن يعطيها ما تطلبه. بعد تشاورها مع أمها الخبيثة الشريرة جاءت بجرأة إلى حضرة الملك وكان مطلبها هو إحضار رأس يوحنا المعمدان على طبق. ورغم فساده، إلا أن هيرودس شعر بالأسف، لأنه كان يدرك أن يوحنا لم يفعل ما يستحق الموت، وما من شك في أن غضبه الأولي قد هدأ إلى حدٍ ما خلال هذه الفترة؛ ولكن بما أنه أقسم وأمام الحاشية الملكية بأنه سيمنح الفتاة كل ما تطلبه، فلم يجد في نفسه الجرأة في الإقرار بحماقته. ولذلك، فقد أمر بقطع رأس يوحنا. وجيءَ برأس يوحنا على طبق كبير، كدليل على تنفيذ الإعدام الفظيع، وقُدِّمَ للفتاة، التي أعطته إلى والدتها. يمكن للمرء أن يتخيل كم شعرت هيروديا بالارتياح وهي تشعر إلى الرأس المفصول لذلك الرجل الذي كانت تعتبره عدواً لها، لأنه كان قد تجرأ لأن يصارحها بالحقيقة ويتهمها بالعمل الشائن الذي كان عليها أن تقدِّم حساباً عنه أمام الله.

إن علاقات سفاح القربى لهذين الحاكمين غير التقيين قد صارت فضيحة عامة علنية. وكانت هناك حاجة إلى رجل بجرأة يوحنا المعمدان ليقول: "«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ»". لقد استُشهِدَ بسبب إخلاصه، ولكن مكافأته أكيدة (عند الله). انتقل هيرودس من السيئ إلى الأسوأ إلى أن انتهت حياته في خطاياه، ضحية بائسة لرذائله الذاتية. أما هيروديا المُتكبِّرة العنيدة والنجسة، فقد ماتت كما عاشت، غير تائبة وشريرة آثمة حتى النهاية. إنهما يمثلان تحذيراً لكل الذين يتلاعبون بالنجاسة. بعد موت يوحنا، لم يتجول يسوع في منطقة حكم هيرودس، بل مكث في منطقة فيلبس.

كانت هذه مأساة فظيعة بالفعل على قلوب تلاميذ يوحنا المنكسرة. فأخذوا جسد معلّمهم ودفنوه بوقار. ثم نقرأ أنهم "أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ". هناك أمرٌ ثمينٌ في هذه الكلمات الأخيرة. لقد ذهبوا إلى يسوع في اضطرابهم ومحنتهم متيقنين من تفهّمه العميق وتعاطفه المحب.

لدى سماعه بموت سابقه، انْصَرَفَ يسوع مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً، كما يُخبرنا متى؛ وجموعٌ كثيرةٌ، من مختلف المدن قرب الطرف الشمالي من البحيرة، تبعتهُ. أما الرب يسوع، وإذ رآهم، تأثّر بحنوّ نحوهم وأظهر قدرته الملكية بشفاء أولئك المرضى بينهم.

"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «ﭐلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاماً». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «لَيْسَ عِنْدَنَا هَهُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ». فَقَالَ: «ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا». فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. وَﭐلآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (الآيات ١٥- ٢١).

هذه هي المعجزة الوحيدة التي قام بها الرب يسوع قبل صلبه التي ترد في كل الأناجيل الأربعة. من الواضح أن هناك درسٌ خاص أرادنا الله أن نتعلمه منها. الجموع الجائعة، والتلاميذ المرتبكين المحتارين، ورحمة ونعمة المسيح هذه كلها أُظهِرَت بشكلٍ حيوي. في المزمور ١٣٢: ١٥ نسمع المسيا يقول بالروح: "مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً". وهكذا أخذ الممسوح من الله الأرغفة الخمسة والسمكتين وضاعفها لتصير زاداً وفيراً لخمسة آلاف رجلٍ عدا النساء والأطفال.

يمكننا أن نفهم اهتمام وقلق التلاميذ الذين جاءوا إلى يسوع عندما دنا المساء، راجين منه أن يصرف الجموع قبل أن يُخيِّم الظلام، لكي يذهبوا إلى القرى ويشتروا طعاماً لأنفسهم.

ولكن لم يكن هذا في فكر الرب. فقد قال: "«لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»". كان هذا أمراً مُربِكاً محيراً للتلاميذ. فبماذا سيطعمون هذه الجموع الغفيرة؟ بعد أن تفكّروا في المسألة وجدوا أن ليس لديهم سوى خمسة أرغفة وسمكتين. وهذه، كما يُقال لنا، قدَّمها غلامٌ كان قد أحضرها معه من أجل غدائه من دون شك. فقال يسوع: "«ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا»". عندما وُضِعَت المؤونة الصغيرة في يديه طلب من الجموع أن يجلسوا على العشب، ورفع بصره إلى السماء مُبارِكاً الطعام وكسره، ثم وزّعهُ على التلاميذ، وقدَّمهُ هؤلاء إلى الجموع. فأكل الجميع وشبعوا. وبعد تناول الوجبة بقيت اثنتا عشر سلّةً من الكِسَرِ. لعله يمكننا القول أنه كانت هناك سلةٌ لكل واحدٍ من التلاميذ بعد أن نالَ الجميع ما يرغبون به. لم تكن هذه سوى صورة عما سيقوم الرب يسوع به على نحوٍ مُضطَّربٍ متواصل، لأنه هو الذي يُضاعِفُ البذار المزروعة في كل حقول القمح على الأرض، لكيما تُنتِجُ هذه الكمية الضئيلة المزروعة في الأرض زاداً وفيراً يُقدَّمُ لإشباع الجموع التي تعتمد على الخبز في طعامها.

الأعجوبة التالية تُظهِر قدرة الرب على العناصر بطريقةٍ مختلفة عن تلك التي رأيناها مُدوَّنة لتوِّنا في أصحاحٍ سابق، هذه القدرة التي سكّنت العاصفة.

"وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُم يَسُوعُ قَائِلاً: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ وَقَال: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنـزلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ قَائِلاً: «يَا رَبُّ نَجِّنِي». فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. وَﭐلَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»" (الآيات ٢٢- ٣٣).

هذه صورةٌ تدبيرية جميلة. في الآية ٢٢ نقرأ كيف طلبَ يسوع من تلاميذه أن يركبوا السفينة وأن يذهبوا قبله إلى الجانب الآخر من البحيرة بينما يصرف الجموع. التلاميذ في السفينة بدون الحضور الشخصي ليسوع يمثلون، تدبيرياً، الظروف التي ستكون في كنيسة الله بعد موت وقيامة ربنا يسوع. فذاك الذي كان مع تلاميذه خلال أيامه في الجسد سوف لن يبقى حاضراً بشكل ظاهر بينهم، بل سيُتركونَ ليشقّوا طريقهم بأنفسهم، عبر البحر الهائج من الظروف الأرضية، مُتطلِّعين إلى الزمن الذي سيعاينون فيه مُخلِّصهم من جديد.

لقد صعد بنفسه إلى الجبل وانعزل ليُصلّي. هذا يوحي بخدمته الحالية لصالح شعبه الخاص- لقد ارتفع إلى الأعلى حيثُ يحيا إلى الأبد ليصنع شفاعةً من أجلنا.

بينما كان يصلي في أعلى الجبل، كان هؤلاء الذين في السفينة في حالة اضطراب حقيقية شديدة، لأن مركبتهم تعرَّضت لعاصفة هائجة وراحت الأمواج تتقاذفها، وبدا لركَّابها أنهم سيموتون على الأرجح. لطالما وُضعَ شعب الله في مثل هكذا ظروف خلال الفترة التي كان الرب يخدمُ فيها في الأعالي في حضرة الآب، ولطالما ظنَّ شعب الله العزيز في معظم الأحيان بأنهم مهجورين ومتروكين ومنسيِّين، ولكن عيناه كانتا دائماً وأبداً عليهم.

في الهزيع الرابع من الليل وبينما كانت الظلمة لا تزال شديدة والريح تعاندهم، نظر إلى الأسفل من الأعالي فرآهم في محنتهم؛ ولدهشتهم، فقد جاء ماشياً على مياه البحر ليساعدهم. وإذ رأوه اضطربوا بدلاً من أن يتعزّوا ويرتاحوا، وصرخوا في خوفٍ قائلين: "«إِنَّهُ خَيَالٌ»". أي أنه شبح. ولكن الجواب على صرختهم المُجفِلة كانت بالصوت الذي كانوا يعرفونه جيداً، صوتُ يسوع نفسه قائلاً: "«تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»".

وكعادته دائماً، مُندفِعاً ولكن بتكرُّس للرب، صرخَ بطرس قائلاً: "«يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ»". فردَّ عليه يسوع قائلاً: "تعال". وبدون لحظة تردُّد نـزل بطرس من جانب السفينة، ولدهشته بالتأكيد- إن كان قد فكَّرَ بأي شيء في تلك اللحظة سوى بالمسيح الذي كان أمامه- وجدَ نفسه يسير فعلاً على سطح الماء كما لو على أرضٍ يابسة راسخة. كان كل شيء على ما يرام طالما كان نظره مثبتاً على يسوع، ولكن عندما التفت ليرى الأمواج العاتية الغاضبة، ملأ الخوفُ قلبهُ، وراح يغرق في الحال. وبينما كانت المياه ترتفع فوقه صرح قائلاً: "«يَا رَبُّ نَجِّنِي»". و"فِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟»". كان على بطرس أن يتذكّر أنه ما كان ليستطيع أن يسير على المياه وكأنه يسير على أمواجٍ صلبة لولا مؤازرة قدرة الرب نفسه له، وتلك القدرة كانت بنفس القوة والشدة سواء خلال العاصفة أم في السكون. دخلَ يسوع بطرس السفينة الصغيرة، وسرعان ما هدأت الريح. لقد شهدوا هكذا ظهور للقدرة الفائقة لدرجة أن التلاميذ خرُّوا أمام الرب ساجدين وقائلين له: "«بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»".

وإذ رجعوا إلى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ، التي كانت شرق كفرناحوم وشمالي البحيرة انتشر الخبرُ سريعاً بأن يسوع قد عاد إلى موطنه، وجاء إليه جمهورٌ غفير، جالبين معهم الكثير من المرضى ليشفيهم.

"فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ فَعَرَفَهُ رِجَالُ ذَلِكَ الْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ" (الآيات ٣٤- ٣٦).

من الواضح جداً أن شهادة وأعمال يسوع قد أثّرت على الناس في جَنِّيسَارَتَ بسبب نعمته ورحمته وقدرته على تحريرهم من عللهم وأمراضهم المزعجة؛ وجاءوا من كل الأصقاع حوله، ليضعوا مرضاهم عند قدميه. ومثل المرأة البائسة التي قرأنا عنها، كانوا يشعرون أنه إن لمسَ هؤلاء المرضى المُضايقون ولو هدبَ ردائه فإنهم سيُشفَون، ويخبرنا الإنجيل أن هذه هي كانت حقيقة الحال بأن كثيرين لمسوا ثوبه فصاروا أصحّاء مُعافين تماماً. إن هُدْبَ الثوب الأزرق يرمز إليه قدوس الله ذاك، السماوي، الذي نـزل إلى الأرض لأجل فداء البشر. فالاحتكاك به كان يعني الحياة والصحة.

الأصحاح ١٥

الملك يشجب الرياق

والآن نقرأ عن توبيخ الملك لكثيرين من الذين كانوا يعارضون أقوالهِ كَرَبٍّ والملكوت الذي أعلن عنه. كانت هناك بقيّةٌ قلوبها منفتحة إلى الحق وكانوا يقتبلون ربّنا بسرور على أنه المسيا الموعود. ولكن كان من الصعب على كثيرين أن يروا في هذا الرجل الهادئ المتواضع الذي من الناصرة ما يُقابل توقعاتهم بحاكم عالميٍّ عظيم سيحرر الشعب اليهودي من نير الرومان ويجعلهم شعباً عظيماً من جديد كما كانوا في أيام داود وسليمان. لقد كانت مفاهيمهم عن الملكوت دنيوية زمنية كلياً، لأنهم كانوا مجرد بشرٍ طبيعيين لم يعرفوا شيئاً عن الحقائق الروحية. وبالتالي، فقد أخفقوا بأن يدركوا أنه قبل النبوءات باستعادة مكانتهم كشعب لا بدَّ من توبة من جهة هذا الشعب وعودة أكيدة إلى الله أفراداً وجماعة.

"حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ الَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «وَأَنْتُمْ أَيْضاً لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ». ثُمَّ دَعَا الْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐسْمَعُوا وَافْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (الآيات ١- ١١).

كان للسؤال الذي طرحه عليه منتقدوه علاقة بغسل طقوسيٍّ معين للأيدي، كان يُفتَرض أن يمارسه كل يهودي قبل أن يتناول الطعام. كان هذا أكثر بكثير من مجرد تطهير للأيدي لكي يتحرروا من النجاسة قبل أن يجلسوا إلى مائدة الطعام؛ لقد كان هذا الغُسْل يتضمن طقساً طويل المدة، ولذلك طرحَ الفريسيُّون السؤال أن: "لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ". أي أنهم تجاهلوا الفرائض الناموسية. وكمثل عادته في أغلب الأحيان، أجاب الرب عن السؤال بسؤالٍ مباشر وجّهه لهم: "وَأَنْتُمْ أَيْضاً لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟". ثم يذكر نص الوصية الناموسية التي تبدأ بـ "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ"؛ وأيضاً الدينونة التي يفرضها الناموس والمتعلقة بأولئك الذين يلعنون أباهم أو أمهم كما توجد في خروج ٢١: ٧. بينما كانوا يعترفون بتكريمهم لكلمة الله، إلا أنهم جعلوها بلا تأثير بسبب أحد تقاليدهم الخاصة، والتي بها جعلوا من الممكن لأي إنسان أن يتجاهل حاجات والديه وأن يرفض حمل مسؤولية بأي شكل من الأشكال من ناحية العطاء لهم، إن كان قد كرَّسَ أغراضهُ للرب بقوله لوالديه: "إنه قُرْبَانٌ"- أي "تقدمة". فعندها كان يُفتَرض في الوالدين ألا يطالبوا بهذه الأغراض، وهكذا ما كان يتم إكرامهم كما يجب بل العكس؛ وهكذا صارت وصية الله مُعطَّلة مُبطَلة. قيل بلسان النبي أشعياء (٢٩: ١٣): "يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هَذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ (يعترفون بإيمان عظيم بالله)، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ". لم يقدموا له إطاعة وولاء القلب. تلك العبادة التي كانوا يقرّون بتقديمها له كانت فارغة وشكلية، إذ بدلاً من إطاعة كلمة الله استبدلوها بوصايا البشر.

إذ تحوَّلَ يسوع من الفريسيين إلى الجموع الذين كانوا مُتجمهرين حوله، وكانوا قد سمعوا كلماته إلى أولئك الذين كانوا يسعون لإيجاد علَّة فيه، فإنه خاطب الحشد الأكبر، طالباً منهم أن ينتبهوا بشكلٍ خاص إلى حقيقة أن المرء لا يتنجَّسُ بما يأكل. فليس الطعام الذي يدخل إلى الفم يجعل الإنسان نجساً، بل ما يخرج من فمه، "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ" (١٢: ٣٤). إن الكلمات النجسة والشريرة هي التي تنجّس المتكلم، وليس مجرد تجاهل للتشريعات المتعلقة باستعداد المرء لتناول الطعام. من الواضح أن الفريسيين كانوا مُستائين جداً من طريقة تعامل الرب معهم، ولكن بدلاً من تأييدهم فإن الرب أكّد بشكل واضح قاطع حقيقة أرادها أن تترسخ في أذهانهم.

"حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟» فَأَجَابَ وَقَال: «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ». فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَلاَ تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يَمْضِي إِلَى الْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى الْمَخْرَجِ وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْبِ يَصْدُرُ وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ لأَنْ مِنَ الْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ زِنىً فِسْقٌ سِرْقَةٌ شَهَادَةُ زُورٍ تَجْدِيفٌ. هَذِهِ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. وَأَمَّا الأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلاَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ" (الآيات ١٢- ٢٠).

لا بدَّ أنها كانت خيبة أمل للتلاميذ أن يكون تعليم معلِّمهم قد افتضح أمر الفريسيين، قادتهم الدينيين. على الأرجح أنهم كانوا يرجون أن يأتي هؤلاء الرجال كمتسائلين صادقين عساهم يقتبلون الملكوت ويدخلون فيه. لقد كانوا أناساً مهمين في المجتمع، ولا بدَّ أنه بدا من المثير للشفقة عند بعض الرسل أن هؤلاء قد ارتبكوا وزلُّوا وأشاحوا بوجههم، ولكن الرب أجاب قائلاً: "كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ". بمعنى آخر، وحدُهم الخاضعون في قلوبهم لله وكلمته يبقون تلاميذَ للرب؛ أما البقيّة، ومهما كان موقفهم مُشجِّعاً في البداية، فإنهم سيتراجعون في نهاية الأمر. فبالنسبة لهؤلاء يمكن للمرء أن يتركهم يمضون في سبيلهم وحسب؛ إنهم مُوطَّدوا العزم على الاستمرار في نهجهم الرديء ويمكن اعتبارهم عمياناً يقودون عميان. وهؤلاء الذين كانوا يتبعونهم، ويقبلون تعليمهم سيهلكون مع المعلمين أنفسهم في يوم تعامل الرب معهم.

طرحَ بطرس سؤالاً يتعلق بما كان الرب قد قاله عن النجاسة. فبحسب الأحكام اليهودية الطبيعية المُسبَقة التي لديه، كان بطرس ولا شك يُفكِّر بالنجاسة الطبيعية أكثر من تلك الروحية، ولذلك فقد التمس من الرب شرحاً فسأله: "«فَسِّرْ لَنَا هَذَا الْمَثَلَ»". لقد اعتبر أن كلمات المسيح رمزيةً أكثر منها حرفية. فشرح يسوع بشكلٍ محدد جداً وأكمل المعنى المقصود، في حين وبَّخَ بطرس على نقص فهمه. فأوضح أنه ما من نفسٍ بشرية تتنجَّس بما يُؤكَل. إن الطعام يمر عبر عملية الهضم إلى الجسد ولكنه لا يؤثر على روح أو نفس الإنسان. من جهةٍ أخرى، تلك الأشياء التي تأتي من القلب والتي يتم التعبير عنها بالكلام غالباً هي التي تنجّس الإنسان بالفعل، لأن لها علاقة بكل نهج التفكير، ولذلك فإنها تجعل الفكر والروح نجسين. "مِنَ الْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ". فهذه الأشياء النجسة هي التي تنجّس الإنسان؛ وما كان للأكل بأيدٍ غير مغسولة أو نظيفة أن ينجس أحداً. وعلى ها النحو إذاً أعاد الرب كل شيءٍ إلى مصدره . نقرأ في سفر الأمثال (٤: ٢٣): "فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ". ونقرأ أيضاً: "كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا هُوَ" (أمثال ٢٣: ٧).

بعد هذا الحوار، أولاً مع الفريسيين ومن ثم مع بطرس، بارحَ يسوع المكان وصعد إلى الجزء الشمالي من الأرض إلى تخوم منطقة الأمميين. وهنا قام بمعجزةٍ لافتة من أجل ابنة امرأة أممية.

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ﭐرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «ﭐصْرِفْهَا لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَال: «لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». فَقَالَتْ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ" (الآيات ٢١- ٢٨).

كانت صور وصيداء مدناً أدانها الله بسبب فسادها ونجاستها، ولكن أُعيدَ بناؤها وأُعيدَ السكن فيها- ليست المدن الأصلية بل المنطقة المجاورة لها. ومن هذه المنطقة جاءت امرأةٌ كنعانية كانت قد سمعت عن يسوع، وشعرت يقيناً أنه سيريح ابنتها من الحالة المريعة التي تعانيها. فأتت صارخةً: "«ﭐرْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً»". ولدهشتها بالتأكيد، وربما لدهشة الآخرين أيضاً، لم يردّ يسوع عليها. لم تكن فظاظة من جهته، لأنه كان قدوس الله، بل كان ذلك لكي يعلمها درساً هي في حاجة إليه. فكابنٍ لداود، جاء ليخدم إسرائيل ويملك في نهاية الأمر كملك على عرش داود. ومن هنا، وللوقت الراهن، ليس للمرأة الأممية أي حق بالمطالبة بشيء؛ ولذلك لم يَنبُس ببنت شفة رداً على كلامها. فتابعت في التضرّع إليه حتى انـزعج التلاميذ ورجوه أن يصرفها. فأجاب ببساطة قائلاً: "«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»". لا بدَّ أن هذا ظهر لأول وهلة على أنه توبيخٌ للأم البائسة القلقة المضطربة؛ ولكن بدلاً أن تتنحَّى جانباً بيأس، سجدت له مُتعبِّدةً، وتوسَّلت إليه قائلةً: "«يَا سَيِّدُ أَعِنِّي!»". فأجاب قائلاً: "«لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ»". لقد كان هذا القول قاسياً، ولكن قصدَ به أن يظهر الموقف الحقيقي في نفسها. لقد أجابت بتواضعٍ وإيمان قائلةً: "«نَعَمْ يَا سَيِّدُ. وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا»". إن الكلمة المُستَخدَمة محل "الكلاب" هنا هي صيغة تصغير- أي الجراء. كان هذا هو كل ما تطلبه، بعضُ فتاتٍ من بركةٍ أمكن أن تُقدَّم من الفائض لأنه كان قد تعامل بسخاءٍ كبير مع إسرائيل.

ابتهجَ قلبُ يسوع لرؤيته هكذا دليل على الثقة والإيمان المرتبط بتواضع الروح. فمنحها سُؤْلها في الحال قائلاً: "يَا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ". ونعرف من الإنجيل أن ابنتها قد شُفيَت في الحال. فمنذ تلك الساعة طُرِدَ الروح الشرير منها.

"ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِبِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ حَتَّى تَعَجَّبَ الْجُمُوعُ إِذْ رَأَوُا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ" (الآيات ٢٩- ٣١).

"ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ ....... وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ". أما وقد أكملَ دائرةً من كفرناحوم إلى الجزء الشمالي من الجليل وإيتوريا (التي كانت منطقة حكم فيلبس، زوج هيروديا)، فقد انعطف يسوع إلى منطقة بحر الجليل، وصعد إلى جبلٍ مع تلاميذه.

"فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ". حالما عرفوا أنه صار من جديد في جوارهم، احتشدت جموعٌ غفيرةٌ من الناس على الطرقات وصعدوا الجبل الذي كان يجلس عليه، وقد أحضروا معهم أصدقاءهم وأقرباءهم المرضى والمُقعَدين. فقابلهم جميعاً في رحمةٍ ونعمةٍ وشفى الكل، مُظهراً بذلك ومن جديد سلطته المسيانية (أشعياء ٣٥: ٤- ٦).

"مَجَّدُوا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ". إذ رأى هؤلاء القرويُّون أصدقاءهم وأقرباءهم يُشفَون من الشلل والعرَج والعمى ومختلف الأمراض، اقتنعوا في قلوبه بأ الله قد افتقد شعبه، ومجّدوه إذ ميَّزوا في أعمال قدرته هذه أوراق اعتماد ذاك الذي كان يُفتَرَض أن يكون مخلِّصَ إسرائيل. الشعب الذين شعروا بالحاجة والتوق إلى الانعتاق من الخطيئة وتأثيراتها هم الذين اقتبلوا بفرحٍ إنجيل الملكوت كما أعلنه يسوع.

في الجزء الختامي من الأصحاح نقرأ عن مناسبة أخرى أطعم فيها الرب يسوع جموعاً كثيرةً بما بدا لأول وهلة مؤونة صغيرة جداً. هذه المرة كان العدد أربعة آلاف رجل في حين كان خمسة آلاف قبلاً، إضافة إلى النساء والأطفال.

"وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ  يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ». فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هَذَا عَدَدُهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ». فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ وَﭐلآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ. ثُمَّ صَرَفَ الْجُمُوعَ وَصَعِدَ إِلَى السَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ" (الآيات ٣٢- ٣٩).

ومرة أخرى نرى قلبَ ربنا المبارك يتعطَّفُ على الجموع الجائعة في محبة وحنوّ. وفي هذه المناسبة كانوا يستمعون إليه لثلاثة أيام، فاستنفذوا بالتأكيد كل الزاد الذي كان معهم. لم يكن يسوع يرغب بأن يصرفهم صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ. من الغريب، وبعد خبرتهم السابقة، أن التلاميذ طرحوا السؤال أن: "«مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعاً هَذَا عَدَدُهُ؟»". كان الرب قد أثبتَ لهم للتوّ قدرته على مضاعفة الأرغفة والأسماك، ولعلَّ المرء يعتقد أنه كان ينبغي عليهم الاعتماد على إظهاره لنفس القدرة هذه المرة، ولكن المفارقة أنهم بدوا وكأنهم قد نسيوا ما فعله في الماضي.

رداً على سؤاله: "«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟»" أجابوا: "«سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ»". وكما في المرات السابقة، أمرَ الجموع أن يجلسوا على الأرض. ومن ثم أخذ بيديه الكمية الضئيلة من الطعام التي حصل عليها التلاميذ وشكرَ وكسرَ الأرغفة والأسماك، ووزَعها على التلاميذ ليعطوها بدورهم للجموع. ونقرأ أنه: "أَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ". تُستَخدم كلمتان مختلفتان للإشارة إلى السلال المُستَخدمة في روايتي إطعام المجموعتين: في الحادثة الأولى، حيثُ أطعم الرب خمسة آلاف شخص، الكلمة المستخدمة المترجمة بـ "سلال" تعني سلة مجدولة من الأغصان تُستَخدم خلال السفر، كمثل تلك التي يحملها الناس معهم لنقل الأغراض الصغيرة عندما يكونون في رحلة أو سفر. وأما الكلمة المُستخدمة هنا فتعني السَّبَتْ، وهي سلة تسوّق كبيرة، كتلك التي اعتِيد استخدامُها عموماً من قبل الذين كانوا يخرجون لشراء مؤونة للأسرة. هذه المرّة كان هناك سبعٌ من هذه السلال الكبيرة ممتلئة بكِسَر الخبز والسمك لتؤمّن طعاماً لجماعة الرسل قد تكفيهم يوماً كاملاً آخر.

لا نعلم كم من الناس قد اشتركوا في هبة الرب السخيّة ذلك اليوم. تقول الروايات أنه كان هنالك أربعة آلاف رجل، إضافة إلى النساء والأطفال. لعله لم يكن هناك بعد نمط الصفوف التي درجت لاحقاً؛ ولكن مما لا شك فيه أنه كان هناك عدد من النساء قد جئنَ مع أزواجهن، وعدد من الأطفال الذين رافقوا والديهم.

بعد أن صَرَفَ الْجُمُوعَ، َصَعِدَ يسوع إِلَى السَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ، المنطقة التي كانت تعيش فيها مريم المجدلية، والتي منها أخذت اسمها.

الأصحاح ١٦

الكنيسة والملكوت

نأتي الآن إلى نقطة انعطاف كبيرة أخرى في إنجيل متى. حتى الآن كان الرب يتعامل إجمالاً مع قضايا تتعلّق بملكوت السموات. والآن لأول مرة يتكلم عن الكنيسة, رغم أنها ليست منفصلة كلياً عن الملكوت، بل بالحري مرتبطة به في المظهر الجديد الذي ستتخذه بعد الرفض الذي سيتعرض له الرب والصعود إلى السماء. في اعتراف بطرس العظيم نجد الأساس الأكيد الذي كانت ستُبنى عليه الكنيسة. إن ملكوت الأرض، أو بالأحرى الملكوت السماوي الذي سيُبنى على الأرض، سيتأسس على حقيقة أن المسيح هو ابن داود (٢ صموئيل ٧: ١٢، ١٣). إن أمم الأرض ستتشارك في البركات التي لذلك الملكوت لأن المسيح هو ابن إبراهيم، النسل الذي ستتبارك به كل الشعوب (تكوين ٢٢: ١٨). ولكن كنيسة ربنا يسوع المسيح مبنية على الحقيقة الثمينة بأنه ابن الله الحي.

أن نقول أن بطرس بأي شكل من الأشكال هو الصخرة التي سيقوم عليها هذا الصرح الإلهي، المبني من الحجارة الحية، يعني إنكار ما كان هو نفسه يعلّمهُ في الأصحاح الثاني من رسالته الأولى (الآيات ٤- ٧). ويضيف بولس أيضاً شهادته أنه لا يمكن أن يكون هناك أي أساس آخر سوى يسوع المسيح نفسه (١ كورنثوس ٣: ١١). وهذا هو ذاك الأساس من الرسل والأنبياء الذي تشير إليه الآية في أفسس ٢: ٢٠.

قبل أن نأتي إلى التمعّن في الوحي المُعطى بالنسبة إلى هذه الأشياء، هناك مقطعان في هذا الأصحاح يتطلبان منا الانتباه: الأول، توبيخ ربنا للفريسيين والصدوقيين الذين جاءوا يطلبون آية من السماء.

"وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «إِذَا كَانَ الْمَسَاءُ قُلْتُمْ: صَحْوٌ لأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ. وَفِي الصَّبَاحِ: الْيَوْمَ شِتَاءٌ لأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ. يَا مُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ السَّمَاءِ وَأَمَّا عَلاَمَاتُ الأَزْمِنَةِ فَلاَ تَسْتَطِيعُونَ! جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى" (الآيات ١- ٤).

هؤلاء الفريسيون والصدوقيون كانوا يعارضون بعضهم البعض بشدة فيما يخص كل عقيدة تقريباً من عقائد الكتاب المقدس، ولكنهم كانوا متحدين في رفضهم المتعمّد للرب يسوع، ملك الله الموعود. إذ كانوا على معرفة بالأنبياء فقد عرفوا أن آيات معينة كانت تشير إلى أشياء ستحدث قبل استعلان المسيا؛ ولذلك جاءوا إلى يسوع، بدون رغبة في معرفة الحقيقة، بل فقط لكي يجرّبوه ويمتحنوه، طالبين منه أن يريهم آيةً من السماء. لقد كانوا يقصدون آيةً تشير إلى أن الدهر المسياني كان وشيكاً. فوبّخهم يسوع على عدم إيمانهم. لقد كانوا قادرين تماماً على أن يقرأوا آيات السماء المتعلّقة بأمور الطقس والمناخ، ولكن كانوا عاجزين تماماً على أن يتبينوا آيات الأزمنة. لو أن أعينهم كانت مفتوحة لكانوا أدركوا أن كل الأعمال المعجزية ليسوع كانت بحد نفسها آيات عن الدهر الآتي وتخبر عن حضور الملك. لقد كان المسيا في وسطهم. ما من آية أخرى كانت لتُعطى لهم حتى آية النبي يونان. لا يشرح هنا ما قصدَ بتلك الآية، ولكنه يخبرنا في ١٢: ٤٠: "لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ". وهكذا ستكون آية النبي يونان قيامة الرب يسوع. للأسف ، عندما جاء ذلك اليوم، حتى تلك الآية العجائبية لم تُفلح في إقناع هؤلاء الناموسيين التشريعيين المرائين المقاومين المعاندين؛ لقد أصرّوا على البقاء في عدم الإيمان وقسوة القلب.

"وَلَمَّا جَاءَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعَبْرِ نَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ». فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟ أَحَتَّى الآنَ لاَ تَفْهَمُونَ وَلاَ تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ الْخَمْسَةِ الآلاَفِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ وَلاَ سَبْعَ خُبْزَاتِ الأَرْبَعَةِ الآلاَفِ وَكَمْ سَلاًّ أَخَذْتُمْ؟ كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ الْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ تَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ؟» حِينَئِذٍ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْخُبْزِ بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ" (الآيات ٥- ١٢).

بعد حديث الرب مع هؤلاء القادة الدينيين، جاء التلاميذ إلى يسوع وقالوا بأنهم قد نسيوا أن يأتوا بخبز. في جوابه لهم أوردَ تحذيراً ليس مهماً بحد ذاته فقط، بل أيضاً يساعد في تقديم مفتاح لفهم معنى الخمير في الكتاب المقدس، كما رأينا في دراستنا للأصحاح ١٣.

عندما قال التلاميذ بأنهم نسيوا أن يحضروا الخبز معهم، قال لهم يسوع: "«ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ»". لم يفهم أتباعه ما قصد بهذا القول، وظنّوا أنه كان يحذّرهم من قبول الخبز من أولئك المعلِّمين الكذبة. قالوا في أنفسهم: "«إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً»". عندما أدرك يسوع كيف كانوا يفكّرون وبّخهم قائلاً: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟". ثم ذكّرهم كيف كان للتو قد أمّن الخبز لخمسة آلاف وأيضاً لأربعة آلاف، وكم تبقى في كل حادثةٍ. من هنا، كان يجب أن يدركوا أنه ما كان يتحدث عن خبزٍ مادي كان يمكنه أن يؤمّنه بوفرة كبيرة، بل كان يحذّرهم من الخمير، الذي يُفسَّر في الآية ١٢ على أنه "تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ". إن خمير الفريسيين يُشرَح في لوقا ١٢: ١ على أنه الرياء. وفي هذا كان برٌّ ذاتي متفاقم. وخمير الصدوقيون كان التعليم الكاذب: فقد كانوا ينكرون سلطة كل العهد القديم ما عدا أسفار موسى، وما كانوا يؤمنون بالحقائق الروحية. هكذا تعاليم شريرة تعمل كالخمير، فتنتشر خلال أي جماعة مُدخِلة التساهل والتراخي إليها؛ ومن هنا حذَّر الرب منها.

والآن نأتي إلى اعتراف بطرس العظيم بالمسيح بأنه ابن الله الحي.

"وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَال: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ». حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (الآيات ١٣- ٢٠).

"«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»". كانت هناك تخميناتٌ كثيرةٌ حول هوية يسوع الحقيقية، وفيما إذا كان كما بدا وحسب أم أنه كان من المحتمل أنه تجسُّدٌ جديد لآخر. أراد الرب أن يعرف حقيقةَ فهمهم لسرِّ شخصه (١ تيموثاوس ٣: ١٦). لم يكن السؤال بدافع رغبته في الاستعلام، بل لأنه كان يرغب أن ينتزع منه أتباعه اعترافاً واضحاً محدداً، إذ كان سيمضي معهم عاجلاً إلى أورشليم، حيثُ كان سيُصلب. لقد كان أمراً في غاية الأهمية أن يعرفوه في حقيقته بطبيعتيه الإلهية والبشرية.

" قَوْمٌ يقولون أنك.....". فبدأوا في الحال يُخبرونه كيف أن هناك عدة أناس يفترضون أنه يوحنا المعمدان، وقد قام من بين الأموات، كما كان هيرودس يعتقد، أو إيليا، الذي كان سيُعلِن " مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (ملاخي ٤: ٥، ٦)؛ أو إرميا، الذي افترضَ كثيرون أنه كان سيظهر من جديد وسيحقق النبوءة العظيمة الواردة في أشعياء ٥٣، بالاستناد في ذلك إلى إرميا ١١: ١٩ كما تشرحها أشعياء ٥٣: ٧؛ أو "واحدٌ من الأنبياء"، "ذلك النبي" الذي كان موسى قد سبقَ وتنبَّأ عنه في تثنية ١٨: ١٨.

"«وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»". هل عرفوا، من خلال الملاحظة وتنوير الروح القدس، مَن كان هو حقاً؟ هذا السؤال المحدد كان يتطلب اعترافاً إيجابياً واضحاً، وهذا ما كان يرغب في أن يحصل عليه منهم.

"«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ»". تكلَّمَ بطرس بالنيابة عنهم جميعاً، رغمَ أنه ما من أحدٍ من البقيّة قد بدت لديه الجرأة بأن يصرّح بإيمانه علانيّةً. إن المسيح والمسيا اسمان مترادفان. وكلاهما يعني "الممسوح". كان ذلك هو اللقب الذي أُعطي نبوياً للمخلِّص الآتي (أشعياء ٦١: ١). في القديم، كان الأنبياء والكهنة والملوك جميعهم ممسوحين. وشغلَ يسوع المناصب الثلاثة، التي كان ممسوحاً لها جميعاً بروح قُدْسِ الله (أعمال ١٠: ٣٨). بطبيعته البشرية هو ابن داود، المسيا، المسيح. وبالنسبة لطبيعته الإلهية فهو ابن الله الحي.

من المهم جداً أن يكون لدى جميع الناس فهمٌ صحيح لطبيعة وشخص ربنا يسوع المسيح. وفقط إن تعرَّفَ عليه المرء بالإيمان على أنه ابن الله المساوي للآب الأزلي السرمديّ، فعليه عندها أن يتجرَّأ فيسلّم نفسه له كمخلِّص. ثمة فجوة كبيرة لا يمكن سدّها بين أسمى الكائنات المخلوقة والخالق نفسهُ. إن كنيسة المسيح ليست مؤسسة على مجرَّد إنسان، مهما كان قدوساً أو مستنيراً أو مُكرَّساً. إنها تستند بأمان إلى إعلان الحق الذي أقرَّ به سمعان بطرس بوضوح. وكما أن الكنيسة مبنيَّة على هذه الحقيقة المباركة، فهكذا تماماً خلاص كل نفسٍ منفردة يستند إلى حقيقة أن الله صار إنساناً ليُقدِّمَ نفسه كفّارة عن خطايانا.

"إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ". ليس بالحدس البديهي فقط، أو بالمحاكمة المنطقية توصَّل سمعان بطرس إلى هذا الاستنتاج. إن الله الآب هو الذي أنار فهمه وكشفَ له الحقيقة المتعلِّقة بشخص الرب وبنوَّته الإلهية (متى ١١: ٢٧).

"أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي". "هذه الصخرة" هي المسيح (١ كورنثوس ١٠: ٤). فعليه هو الكنيسة مبنيَّةٌ. إن كلمة بطرس تعني الصخرة، أو جزءٌ من صخرة. لقد كان ينبغي أن يُبنَى في الكنيسة. والكنيسة ما كانت لتُبنَى عليه. إزاء حقيقة أن الكنيسة الحقيقية مبنية على المسيح ابن الله الحي، "فإن أبواب الجحيم لن تقوى عليها". ما من محاولة للشيطان وزبانيته لتفيد في دمار الكنيسة أو تُؤخِّر تقدّم شهادتها. العائق الحقيقي الوحيد يأتي من داخل الكنيسة نفسها كما تُظهِر نصوصٌ كتابية. لاحظ أنه لا يقول "كنتُ أبني"، أو "أنا أبني"؛ بل قال "سأبني". إن الجماعة، التي يسمّيها "كنيستي"، هي شيءٌ من المستقبل. بناءُ هذا الهيكل الروحي لم يبدأ إلا بعد صعوده إلى السماء ومجيء روح قدس الله المُعزِّي الموعود. في هذا البيت كان بطرس حجراً حياً. الاسم الذي أعطاه له يسوع يعني صخرة أو جزءٌ من صخرة. ولكن على "هذه الصخرة"، أي هذه الحقيقة العظيمة التي أُعلِنت للتو، ستُبنى كنيستهُ.

"مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ". أما وقد تحدثَ عن الكنيسة، انتقل يسوع إلى موضوع الملكوت، الذي كان قد وضعَ خطوات تأسيسه سابقاً في الأمثال في الأصحاح ١٣. مفاتيح هذا الملكوت قد ائتُمِنَ بطرس عليها. لاحظوا، لم يُعطِ بطرسَ مفاتيح السماء. هذه الفكرة هي خرافة عظيمة. المفتاح مخصص لفتح الباب. في العنصرة فتحَ بطرس باب الملكوت لليهود؛ وفي بيت كورنيليوس فتحَ الباب للأمميين.

"لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ". قد يبدو هذا غريباً. ولكن بما أنه قد صار واضحاً الآن رفضُ إسرائيل له، لم يكن الوقت مناسباً بعد لإعلان مسيانيته والتصريح بأنه المسيح. عندما أُقيمَ يسوع من بين الأموات، أعلنَ بطرس هذه الحقيقة بقوةٍ (أعمال ٢: ٣٦).

من ذلك الوقت فصاعداً بدأ الرب بالحديث أكثر فأكثر حول رفض اليهود النهائي له، وآلامه وموته، وقيامته التالية. ولكن تلاميذه كانوا بطيئي الفهم جداً لإدراك ما كان يقصدهُ؛ كانت أذهانهم لا تزال متركّزة على الملكوت الآتي، وما كانوا ليتخيلون الملك يموت.

"مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!» فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ" (الآيات ٢١- ٢٧).

"مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ". لقد بدأت فتر جديدة من خدمة ربنا. من الآن فصاعداً سيؤكّد رفضهُ واقتراب الموت إليه، والذي ستليه قيامته.

"«حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!»". والآن لدينا مثال جديد عن مدى سهولة سقوط مَن استنار إلهياً في خطأ قاتل إن تصرَّفَ بحسب المبادئ البشرية وحسب.

"ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ". يا لها من صخرةٍ يائسة سيكون عليها بطرس والتي عليها ستُبنى الكنيسة! لقد صار، وبدون قصدٍ أو معرفة، المُتحدِّث بلسان الشيطان عندما نصح يسوع ألا يذهب إلى الصليب. إنه لغريبٌ أن يُعلِّمَ أحدٌ لوهلةٍ بأن بطرس كان أول بابا، وفي الوهلة التالية أن البابا معصومٌ من الخطأ؛ فبينما كان من أكثر الناس جديةً وتكرُّساً وإخلاصاً، تخبَّطَ بطرس كمثل جميع إخوته الرسل، ليس فقط في أيام إذلال ربنا، بل أيضاً بعد قيامته وصعوده إلى السماء. يخبرنا بولس كيف اضطر إلى أن يقاوم بطرس وجهاً لوجه لأنه كان ملوماً في ريائه وخوفه من الناس، مُساوماً بذلك على حرية النعمة (غلاطية ٢: ١١- ١٦).

"فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ". إن طريق التلمذة هو طريق نكران ذاتٍ مطّرد مستمر. لقد كان الرب يُعدُّ أتباعه لمسؤولياتهم التي سيحملونها عندما تتحقق كلماته النبوية المتعلِّقة به. فسوف يُدعَون لتجاهل الاهتمامات الدنيوية وحمل الصليب، الذي كان يعني قبول أن يكونوا في موضع الرفض معه، وهكذا كان عليهم أن يسيروا في إثر خطواته.

إن مَن يفكر بتحسن وضعه من خلال تجنّب الاضطهاد لأجل المسيح، وليُنقذ حياته هكذا، إنما سيفقدها. أما ذاك الذي كان على استعدادٍ لأن يبذل حياته من أجل المسيح فسيحفظها إلى الحياة الأبدية. الموت في هذا العالم سيكون مدخلاً وحسب إلى المجد الأبدي. سيكون بلا قيمة أن يربح المرء كل العالم ويخسر نفسه. إن النفس هي الحياة حقاً، الذات. أن تخسر نفسك، يعني أن تخسر الهدف الذي خُلِقَ لأجله الإنسان. لقد خُلِقَ الإنسان، كما يقول كتاب التعليم المسيحي المُختَصر، ليُمجِّد الله ويتمتع به إلى الأبد. مَن يجعل هدفاً لهُ أن يجمع الثروة، أو استحسان العالم الذي بلا مسيح، سوف يخسر، ويجد نفسه في النهاية محروماً من كل ما لهُ أية قيمة. لاحظوا السؤال: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟" إنه لا يقول، كما يتخيّل المرء، "ما الذي يأخذه الإنسان مقابل نفسه؟" بل "ما الذي سيعطيه الإنسان مقابل نفسه؟" إن نفس الإنسان عُرضة للخسارة. ما الذي يستطيع الإنسان أن يُقدّمه ليفتديها؟ ليس له ما يقدّمهُ. إن استمرَّ في خطيئته سيفقد نفسه إلى الأبد، ولكن إن تحوَّلَ إلى المسيح فسيجد الفداء فيه. عندما سيأتي للمرة الثانية كابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته فعندها سيُكافئُ كل واحدٍ بحسب أعمالهِ.

الآية الختامية (في الأصحاح ١٦) يجب أن تكون فعلياً أول آية في الأصحاح ١٧. إن من حرر السفر وقسمه إلى أصحاحات وآيات جعل انقطاعاً في المكان الخطأ. عندما قال يسوع: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ"، فإنه كان يشير إلى الحدث العظيم الذي سيحدث "بعد ستة أيام"، ألا وهو التجلّي، الذي نعرفُ من كلمات بطرس الرسول أنهُ الملكوت مُصوَّراً في حالةٍ جنينيّة لتصديق الآب للتلاميذ على ذلك.

الأصحاح ١٧

مجد الملكوت

إنه لمن المؤسف جداً، كما أشرنا في تعليقاتنا الختامية على الأصحاح السابق، أن الآية الأخيرة كان يجب أن تكون الأولى في الأصحاح السابع عشر. في الروايات الموافقة الواردة في كل من إنجيل مرقس ولوقا، إعلان ربنا مرتبط مباشرةً مع مشهد التجلّي. وهذا، في الواقع، المفتاح إلى فهمٍ حقيقي لهذه الرؤيا المجيدة التي عُنيَ بها أن تكون تمثيلاً لـ "ملكوت الله آتياً بقوةٍ". هذا يؤكّده لنا الرسول بطرس، الذي يقول في رسالته الثانية: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ... إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ" (٢ بطرس ١: ١٦، ١٨). فهناك ظهرَ المخلِّص في ذلك المجد الذي سيُستَعلن به عندما يعود ليستلم سلطته العظيمة ويملك (رؤيا ١١: ١٧). إن القديسَين السماويين اللذين ظهرا معه في المجد يصوران مجموعتين من المؤمنين، أولئك الذين سيشتركون في الملكوت معه. موسى يمثل أولئك الذين ماتوا وسيقامون في أجساد ممجدة، وإيليا يمثل صورة عن جميع المؤمنين، الذين سيُختطفون، عند الاختطاف، إلى السماء بدون أن يمروا بالموت (١ تسالونيكي ٤: ١٣- ١٨). الرسل الثلاثة المأثورون الذين عاينوا مجده وسمعوا صوت الآب، يرمزون إلى إسرائيل المستعاد إلى الرب في يوم لاحق وهكذا يدخلون إلى بركة الملكوتين. المشهد عند سفح الجبل يُظهر تأثير المجيء الثاني، وتقييد الشيطان وتحرير الشعوب المضطربة المنـزعجة من سلطانه.

إضافةً إلى هذه الصورة التدبيرية، لدينا أيضاً تطبيق أخلاقي وروحي مبارك جداً. الانشغال بالمسيح الممجد هو التمهيد إلى خدمته في عالمٍ تظهر فيه خصومة وعداوة الشيطان أمام كل ما يفعله الله. وهذا يمكن التغلب عليه فقط بالاتكال على الرب كما أشار عن طريق الصلاة والصوم. ما من إنسان كفؤ ليواجه الشيطان بقوته الذاتية. الصلاة هي التعبير عن الاتكال على الله، والذي وحده يعطي النصر والغلبة. والصوم هو الدليل على هكذا اهتمام بالبركة الروحية المتأتية عن ضبط وتعطيل الرغبات الدنيوية.

"وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ». وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً. فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا». فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ" (الآيات ١- ٨).

"وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ". كان الرب يسوع المسيح قد أشار قبل أسبوع إلى أن البعض لن يرَ الموت إلى أن يعاين ملكوت الله آتياً بقوة. وها هو الآن يأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا صاعداً إلى جبلٍ عالٍ (جبل حرمون) حيث كان سيريهم الملكوت كما سيُستعلَن.

"وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ". لقد كان هذا تحولاً أو استحالة، تغيراً من الداخل؛ مجد بنوَّة المسيح الأبدي وقد أشرق خلال حجاب جسده لكيما يرى التلاميذ الدليل العيني على شخصيته الحقيقية كعمانوئيل- الله والإنسان في شخص واحد.

"وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ". هذان الرجلان من الدهر التدبيري الماضي يمثلان، كما ذكرنا، مجموعتين من المؤمنين: الأولى هم أولئك الذين يموتون قبل مجيء الملكوت؛ والأخرى هم أولئك الذين سيتغيرون وسيُختطفون، دون أن يجتازوا عبر الموت، لدى عودة الرب لأجل خاصته، تمهيداً لتأسيس المجد الألفي (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦). إنهما يرمزان أيضاً إلى الناموس والأنبياء، اللذان يحملان كلاهما الشهادة على موت المسيح الكفاري، والذي بوساطته يقدر الله أن يقدِّم البر للناس الذين ليس لهم برٌ ذاتي (رومية ٣: ٢١، ٢٤، ٢٥). إننا نعلم عن موضوع حديثهم في لوقا ٩: ٣٠، ٣١. لقد كانوا منشغلين بالحديث عن عمل الرب الفدائي، الذي سيُنجز عما قريب.

"إِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ". جاء اقتراح بطرس بدون تفكير حقيقي. لقد كان متأثراً جداً بمشهد رؤيا المجد تلك حتى أنه رغب بسرور أن يبقى على الجبل مع هذه الصحبة الرائعة. ولكنه أخطأ في وضعه موسى وإيليا، رغم أنهما خادمين بارزين لله، على قدم المساواة مع يسوع، ابن الله الذي صار إنساناً.

"«هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا»". ظللت سحابة هؤلاء الرجال المحترمين الموقرين من العهد القديم، وتُرِك يسوع لوحده. وتكلم الله من السماء للمرة الثانية، مصادقاً على كمال ابنه وسروره به، بصوت طُلِبَ إليهم أن ينتبهوا له.

"لَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً". مروعين بما شاهدوا وسمعوا، سقط الثلاثة راكعين ساجدين، في حضور الله كما تبدى في الرب يسوع المسيح.

"فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا»". بسط الرب يسوع يدَه المُحبة، فلمس كل تلميذ مطمئناً، وأمرهم أن يقفوا، وألا يخافوا. كان الرب ليريد أن يشعروا بارتياح في حضوره، إذ رغم أنه رب الجميع، فهو أيضاً فادينا وقريبنا، الذي اتخذ طبيعتنا البشرية، ما عدا الخطيئة، لكي يأتي بنا إلى الله.

"لَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ". لم يكن هناك مجال للفكرة بثلاث مظال الآن، لأن موسى، مانح الناموس، وإيليا، الذي يرد كل شيء، قد تلاشيا، وبقي الرب يسوع وحده، الذي هو نفسه أمس، واليوم، وإلى الأبد (عبرانيين ١٣: ٨).

ليس يسوع مجرد إنسان صار، بفضل قوة الاستنارة الروحية والاستسلام لمشيئة الآب، أكثر ألوهية من أي إنسان آخر. إنه الله الابن، المتحد مع الثالوث القدوس الأبدي في شخص واحد، متجلياً بالجسد ومن هنا فهو الوسيط الوحيد بين الله والإنسان. إن اعتراف بطرس وصوت الآب بعد التجلي يخبراننا عن القصة المباركة نفسها. كان على يسوع أن يكون كما كان لكي يفعل ما فعل. وما من أحدٍ أقل من ابن الله كان ليمكنه أن يصنع كفارة عن خطايانا (١ يوحنا ٤: ١٠).

مرَّت الرؤيا، ولكن يسوع بقي. وعندما حل الصباح نـزل مع تلاميذه عن ذلك الجبل ذي الامتياز الخاص ليواجه آثار الخطيئة المرعبة المروعة في الوادي في الأسفل، إذ لم تأتي الساعة بعد لاستعلان الملكوت في مجدٍ واقتدارٍ عالميين.

"وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ». وَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِين: «فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذَلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضاً سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ». حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (الآيات ٩- ١٣).

"لاَ تُعْلِمُوا أَحَداً بِمَا رَأَيْتُمْ". إذ كان يرى مسبقاً رفض (اليهود) له فقد طلب من الثلاثة المختارين أن لا يقولوا شيئاً لأحد عما رأوه في تلك الحادثة التي لا يمكن أن تُنسى، حتى يكون قد قام من الموت. فالصليب يجب أن يأتي قبل الملكوت.

"لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟". من أجل هذا كان لهؤلاء المعلمين سلطة كبيرة، لأن ملاخي ٤: ٥، ٦ أعلن بوضوح أن: "هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ. فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ". إن الملكوت سيلي يوم الرب العظيم والمخيف. في الواقع سيكون استمراراً لذلك اليوم، بعد انتهاء الدينونات الأولية فيه. فماذا عن إيليا عندئذٍ؟ هل سيُبحث عنه أو يُتوقع أولاً؟

أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: "إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ". ولكنه شرح لهم بأنه قد جاء لتوه وأن شهادته قد رُفِضَت، وأنه، هو نفسه، قد أُزيح من الطريق: "عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا". وتماماً كما عاملوا السابق (يوحنا المعمدان)، هكذا سيعاملون ابن الإنسان.

ونعلم بعد ذلك أن التَّلاَمِيذ فَهِموا "أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ". فقد جاء بروح وقوة إيليا (لوقا ١: ١٧) ليعدَّ طريق المسيا.

يبدو واضحاً من الكتابات النبوية أن شهادة مشابهة لإيليا ستُعطى في الأيام المظلمة من الضيقة العظيمة قبل استعلان الرب في الدينونة. وإن رؤيا الشاهدين في رؤيا ١١ ستظهر لتؤكد هذا.

بينما راحوا يتحدثون وصلوا إلى حشد كبير من الناس المضطربين المتضايقين كما تصفهم بضعة الآيات التالية.

"وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِياً لَهُ وَقَائِلاً: «يَا سَيِّدُ ارْحَمِ ابْنِي فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيداً وَيَقَعُ كَثِيراً فِي النَّارِ وَكَثِيراً فِي الْمَاءِ. وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ الْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هَهُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هَذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (الآيات ١٤- ٢١).

بعد أن نـزلوا إلى السهل إثر ليلة الرؤيا تلك، وجدوا الأب المخبل، الذي كان قد أتى بابنه الممسوس بالشيطان إلى بقية التلاميذ التسعة، مناشداً إياهم المساعدة. ولكنهم عجزوا عن فعل أي شيء، رغم أنهم مفوضون بطرد الشياطين (١٠: ٨)، فوجدوا أنفسهم عاجزين أما هذه الحالة بالذات. وإذ خاب أمله بالخدام، عرف الأبُ المكروب المحزون المعلمَ عندما اقترب منهم، فتوسل إليه في الحال أن يحرر ابنه من الشيطان. جاثياً على قدميه، توسل إلى الرب أن يرحمه وأن يشفي ابنه، شارحاً بأنه كان قد أحضره إلى التلاميذ ولم يستطيعوا أن يشفوه. يمكن للمرء أن يفهم كم كان حزن هذا الأب شديداً وكم كان حزيناً وخائباً عندما لم يستطع التلاميذ تقديم المساعدة؛ ولكن بأمل القلب يلتفت إلى الرب يسوع مناشداً إياه، كما فعل آباء آخرون كثيرون، من أجل إعتاق أبائهم الذين وقعوا تحت سطوة الشرير بأشكال مختلفة.

"قَدِّمُوهُ إِلَيَّ هَهُنَا!". بعد توبيخ التسعة على نقص إيمانهم، نادى يسوع أن يأتوا إليه بالفتى. لقد تأثر قلبُه بمطلب الأب. وإذ التفت نحو الشاب الممسوس بالشيطان، وبَّخ يسوعُ الروح الشرير فغادر الغلام، وشُفيَ ذاك من تلك الساعة.

على الجبل، ائتمن الله التلاميذَ وأعطاهم نظرة مسبقة عن الملكوت الذي سيتأسس بقوة وجلال عند المجيء الثاني لربنا. وفي السهل، عاينوا من جديد إحدى التخريبات الناجمة عن الخطيئة والشيطان، التي كان هذا العالم البائس لا يزال يعاني ويئن منها، والتي سيتحرر منها كلياً فقط عند عودة المسيح. ولكن خلال دهر الشر الحالي هذا، الرب يسوع هو الذي يسمع صلاة الإيمان ويحرر أولئك الذين يضعون ثقتهم بكلمته. ما من حالة مستعصية عليه. تلاميذه غالباً ما يكون بلا حول ولا قوة لهم بسبب عدم إيمانهم وإخفاقهم في إدراك عجزهم عن العمل بمعزل عن ذاك الذي يفوضهم ليمثلوه في هذا العالم.

عندما صاروا لوحدهم مع الرب، بعيداً عن الجموع، سأله التلاميذ الحائرون عن سبب عجزهم عن طرد الشيطان في هذه الحالة. وكان الجواب: "لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ". من جديد أعلن الرب أنه لو كان لهم إيمان مثل حبة خردل لأمكنهم أن يزيلوا جبال الصعاب، وأنه ما من شيء على الإطلاق كان مستحيلاً أمامهم. ولكن الإيمان الحقيقي والانغماس في الذات لا يمكن أن يتواجدا معاً؛ ولذلك فقد أضاف قائلاً: "هَذَا الْجِنْسُ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ". إن الجسد وشهواته يجب أن تبقى في حالة خضوع وقيد السيطرة لكي ينتعش الإيمان. إضافةً إلى ذلك، فيجب أن يكون هناك اتكال على الله بمعنى حقيقي تعبر عنه الصلاة. ألا نرى في كلمات الرب هذه السبب في عدم الاستجابة للكثير من صلواتنا؟

ومن جديد حذَّر يسوع التلاميذ مما كان سيختبره عن قريب، ولكن رغم أن قلوبهم كانت محزونة لم يفهموا المغزى الكامل وراء كلماته.

"وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐبْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». فَحَزِنُوا جِدّاً" (الآيات ٢٢- ٢٣).

لقد قاربت خدمة الملك غير المُعترف به في الجليل أن تصل إلى نهايتها. لقد تنبأ بكل ما سيتعرض له على يد الإنسان، ولكنه نظر بعين نبوية إلى ما وراء ذلك إلى قيامته عندما سيقيمه الله من بين الأموات. لقد كان يتحدث بشكل واضح عن هذه الأمور ولذلك فقد كان أمراً لا يُصدق أن التلاميذ أخفقوا في إدراك معنى ما يقول. ولكن هكذا كانت الحال. فهم لم يتذكروا أو يفهموا ما قاله بشكل واضح ومحدد حتى حدث كل شيء.

الحادثة التي يُختتم بها هذا الأصحاح تكشف جانباً آخر من اندفاع بطرس وأيضاً نعمة الرب العجيبة.

"وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟» قَالَ: «بَلَى». فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟» قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ الأَجَانِبِ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلاّ نُعْثِرَهُمُ اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ»" (الآيات ٢٤- ٢٧).

مال الجزية المشار إليه هنا كان النصف شاقل من الفضة الذي بحسب خروج ٣٠ كان مطلوباً دفعه كمال افتداء عند كل إحصاء للشعب. وعلى مر الأيام صار يعتبر ويُجنى كضريبة رؤوس لدعم خدمات الهيكل. جاء جامعوا هذه الضريبة إلى بطرس وسألوه فيما إذا كان يسوع قد دفعها. وبدون استشارة معلمه، أجاب بطرس بالإيجاب. عندما دخل المنـزل في كفرناحوم بعد قليل (وعلى الأرجح أن يكون هذا منـزله) سبقه يسوع فطرح السؤال عليه: "«مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟»". أجاب بطرس بدون تردد أن من الأجانب. كان ذلك قبل برهة قصيرة من اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. ولذلك، فلم يكن معفياً من دفع هذه الضريبة المعينة؛ ولذلك فقد قال يسوع: "فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ". ولكن بدافع اهتمامه بالآخرين، ولئلا يعثر أحد ممن لم يفهم من كان أمر بطرس أن يذهب إلى بحر الجليل وأن يلقي الصنارة ويأخذ السمكة التي يصطادها، وأضاف قائلاً له: "مَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ". ليس بالضرورة أن نفترض أن العملة المعدنية كانت قد خُلِقت بطريقة عجائبية في تلك اللحظة، بل بالحري أنها كانت قد سقطت إلى الماء، وانجذبت السمكة إلى هذه المادة اللامعة البراقة فحاولت ابتلاعها، ولكن الشاقل علق في حنجرتها؛ ولذلك فعندما اجتذبها بطرس إلى اليابسة كانت العملة النقدية هناك كما قال يسوع، وأمكن استخدامها لتجنب أي انتقاد. هل كان يسوع في ذلك الوقت فقيراً جداً حتى أنه لم يكن لديه أي مال آخر يدفع منه هذه الضريبة؟ من الممكن ذلك، أو لعله اختار هذه الطريقة ليؤكد لبطرس حقيقة أنه رب كل الخليقة.

الأصحاح ١٨

رعايا مثاليون للملكوت،
والتأديب في الكنيسة

هناك أمران يُوضعان بشكل متجاور في هذا الأصحاح: الملكوت بجانبه الروحي، والكنيسة التي سيوجِدُها الرب بعد موته وقيامته، ولكن تُرى هنا من الجانب المحلي كتجمع من المؤمنين المسؤولين عن حفظ مبادئ البرّ، وبالتالي التعامل بتأديب مع أعضاء عنيدين أو آثمين يرفضون التوبة.

المقطع المتعلق بالملكوت يشتمل على الآيات ١ إلى ١٤.

"فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: «فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟» فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هَذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي. وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ. فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ. ﭐُنْظُرُوا لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا أَفَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ. هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ" (الآيات ١- ١٤).

بما أنهم ما كانوا بعد قد تحرروا من الرغبة في الشهرة والبروز في الملكوت الآتي, عندما سيتأسس سلطان السماء على كل الأرض, فإن التلاميذ جاؤوا إلى يسوع ولديهم هذا السؤال: "«مَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟»". إنه سؤال ما من نفسٍ نبيلةٍ حقاً يمكن أن تطرحه, أو تهتم به. ولكن، ورغم أن هؤلاء التلاميذ كانوا مكرسين، كانت ستخطر على بالهم فكرة أن الملكوت كان سيكون مكاناً وزماناً للجسد ليعرض نفسه, رغم أن الرب قد وبخهم على هذا في مناسبات سابقة.

هذه المرة أجابهم بالكلمة وبدرسٍ عياني عملي بآنٍ معاً. فدعا أحد الأطفال الصغار. وبالتأكيد فإن هذا الطفل الصغير استجاب وأتى إليه دون أي تردد. وإذ أقامه في الوسط قال يسوع بجلالٍ ومهابةٍ: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". بمعنى آخر, إن الرعية الحقيقة للملكوت هم الأشخاص الذين يمتازون بالطواعية والتواضع والذين يسمعون صوت يسوع ويُلبّون نداءَهُ, قانعين بالمكان الذي يكون قد عيّنهم فيه. إن الأعظم في الملكوت سيكون ذاك الذي على استعداد لأن يأخذ أدنى مكان (المكان الأكثر تواضعاً), وبهذا يبرهن على أنه تابعٌ لذاك الذي جاء من مجد الله ليكون خادماً في هذا العالم من المعاناة والألم.

أن نقبل طفلاً صغيراً باسمه هو أن نقتبله هو بالذات, ذلك لأنه يطابق نفسه مع كل أولئك الذين يثقون به. إنه ليس فقط مخلص أولئك الذين يدركون, بسبب السنوات الضائعة في الخطيئة والفسوق, حاجَتَهم إلى المغفرة والتطهير, بل هو مخلصٌ لأولئك الصغار أيضاً الذين, في براءتهم التي لا مثيل لها, ينجذبون إليه بسبب اهتمامه الحاني والمحب بهم.

سواءَ كان الأمر حقيقياً بشكلٍ مطلقٍ بتفاصيل أم لا, فإن هناك الكثير من الحق عامةً في تلك القصة التي غالباً ما تُروى عن قِسٍّ عابس الملامح كان يكرز بعظةٍ حول موضوع "دموع يسوع". يُقال أنه هتف قائلاً "ثلاثُ مراتٍ نقرأ أن يسوع قد بكى, ولكننا لا نقرأ أبداً أنه ابتسم". وإذا بطفلة صغيرة تحت المنبر صرخت قائلةً وقد نسيَتْ أين هي: "ولكني أعلم أنه فعل". وإذ صُعِق من هذه المقاطعة, سألها القِس: "لماذا تقولين ذلك, يا طفلتي؟". وإذ شعرت الآن بالخوف كلياً، وإذ أدركت أن جميع العيون كانت عليها, كان جوابها: "لأن الكتاب المقدس يقول أنه دعا طفلاً صغيراً وجاء إليه. ولو كان يسوع قد بدا مثلك, أعرف أن الطفل كان ليخاف أن يأتي". لم تكن تقصد أن تكون وقحة. لقد كانت صراحةَ الأطفال, ولكنها تخبُر أيضاً عن الحقيقة الرائعة. إن الأطفال ما كانوا أبدا ليخافوا من يسوع, وكان دائماً على استعداد لأن يباركهم ويقبَلهم.

ولم يتحدث يسوع أبداً بتجهمٍ أكثر منه عندما تحدّث عن أُولئك الذين سيكونون سبباً في تعثّر أُولئك الصغار الذين يؤمنون به. فهؤلاء, كان من الأفضل لو أن حجر رحى قد رُبط إلى أعناقهم وأُلقيوا في أعماق البحر. فأحجار العثرة هذه التي تنبّأ عنها إنما كان يُحذّر بها مستمعيه لئلا  يكونوا من بين هؤلاء. لكان أفضل للمرء أن يَبتُرَ نفسه بأن يقطع يده أو رجله من أن يكون مذنباً باستخدام أيٍّ من أعضائه الجسدية ليدلَّ أو يقود أحدَ أولئك الأطفال الصغار إلى طريق الضلال. أن يفعل المرءُ ذلك كان يعني أن يعرِّض نفسَه للنار الأبدية. وعلى نفس المنوال يتحدث في ما يخص العينين اللتين, وللأسف, لطالما قادتا أناساً فاسدين فاسقين في أغلب الأحيان إلى أن ينظروا نظرةً شريرة إلى براءة الأطفال.

لأن الآب له اهتمامٌ خاصٌ بالأطفال, وفي السماء يكون ملائكتهم الحارسين دائماً مستعدين ليظهروا أمام وجهه, فإن هذا كله يحذّر من أن يحتقر أيُّ امرئ أحداً من أُولئك الصغار. لعلَّنا نفهمُ من ذكر "الملائكة" هنا, أرواحَ الأطفال الذين رحلوا. إن كلا الرأيين قد كان له من يؤيده من الرجال الأتقياء, ولعلّه من الأفضل ألا نكون حازمين دوغماتيين بخصوص ذلك, لأن كلا الأمرين حقيقيٌ، في الواقع، بما لا شكَّ فيه, مهما كان المقصود به هنا.

عند الحديث عن راشدين في لوقا ١٩: ١٠، قال يسوع: "ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ". هنا, وإذ يتحدث عن الأطفال, فإنه يقول ببساطة أنه جاء ليخلّصهم. بينما هم أعضاء في جنسٍ ضالٍ ساقطٍ, فإنهم لم يجولوا بإرادتهم في طرق الخطيئة؛ ولذلك فليسوا في حاجة لأن يذهب إليهم كي يردّهم إلى الطريق القويم.

إن مَثَل الخروف الضال, الذي يتيه شارداً على جبل الخطيئة, يأتي بعد ذلك, لأنه ليس لخلاص الأطفال قد جاء. فهناك ابتهاجٌ في السماءِ, عندما تتجمعُ أعدادٌ وافرةٌ من القديسين بأمان فرِحةً بضالٍ يُستعاد ويخلُص. ولكن كم تكون الفرحةُ عظيمةً عندما يخلصُ المرء وهو في بداية طفولته, فلا يضيّع سنينَ طوالاً في التمرد ضد الله.

الآية ١٤ تعطينا التأكيد على أن كل الأطفال الذين يموتون قبل أن يصلوا إلى سن المسؤولية هم مخلّصون إلى الأبد من خلال عمل المسيح. إن الله الآب لا يريد لأيٍّ من هؤلاء أن يهلكوا؛ ونظراً إلى أن إرادتهم لم تكن ضد إرادة الله فلعلّنا نكون على يقين بأنهم مع المسيح في بيت الله الآب.

في المناسبة، عندما أدلى بطرس باعترافه العظيم، تحدّث الرب لأول مرة عن الكنيسة التي كان سيبنيها. والآن يعطي تعليمات تتعلق بالتأديب والترتيب الإلهي في تلك الكنيسة, التي, وفي حين أنها واحدة في كل أرجاء العالم, كان يجب أن تتجلى محلياً من خلال جماعاتٍ متمايزة في أماكن مختلفة.

«وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ اثْنَيْنِ لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ»" (الآيات ١٥- ٢٠).

في بعض أفضل المخطوطات, إن الكلمة "إليك" محذوفةٌ بعد "أخطأ", وهذا يعني أن هناك ارتكابٌ للخطيئة ضد أكثر من شخصٍ واحد. "إن أخطأ أخوك". من يدرك هذا ويهتم بذلك يتعلّم ألا يذيع أو ينشر في كل مكان أمر خطيئة هذا الأخ, وهكذا لا يشوّه صورته أمام الآخرين الذين قد لا يكونون قد عرفوا بأي شيء عن هذا الأمر, ولكن يجب على الأخ أن يذهب إلى الخاطئ بشكل فردي شخصي وأن يتحدث إليه عن المسألة, محاولاً أن يأتي به إلى التوبة.

كان هذا يتوافق مع شريعة موسى التي تأمر أن: "لا تُبْغِضْ أخَاكَ فِي قَلْبِكَ. إنْذَاراً تُنْذِرُ صَاحِبَكَ وَلا تَحْمِلْ لأجْلِهِ خَطِيَّةً" (لاويين ١٩: ١٧). وفي غلاطية ٦: ١، نعلم أن: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً". فأن نتصرف على هذا النحو مع الخاطئ هو تحقيق لوصية الرب أن: "يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ" (يوحنا ١٣: ١٤). فسكب مياه الكلمة على قدمي أخٍ آثمٍ هو واجب العالِمِ بالإثم الذي يرتكبه هذا الأخ. وهذا المبدأ يُطبّقُ في كلا الزمنين التدبيريين القديم والجديد.

ولكن إن كان فاعلُ الإثم معانداً ومتعمداً، وإن لم يُظهر ميلاً لتصويب الأمور, فعلى المرء أن يأخذ واحداً أو اثنين من الإخوة وأن يراه من جديد. هؤلاء الشهود سيسمعون فاعل الخطيئة ويحكمون بحسب الوقائع التي تُعرض أمامهم. فإن وافقوا على أن هذا الأخ قد ارتكب خطأً ما، فعليهم أن ينضموا إلى الأخ الأول في محاولته لأن يأتي بهذا الأخ الحرون إلى الاعتراف بخطيئته وطلب المغفرة. وإن لم يُفلح هذا, وظلَّ المتعدي والآثم متصلباً في رأيه ورافضاً لأن يقبل نصيحتهم, فإن الأمر يرجع إلى الجماعة الكنسية المحلية لتسمع القضية، وإن اقتنعت ببر جانب الإدعاء, فإن المتَّهم من جديد يُنصح بأن يقرَّ بخطئه وأن يحاول أن يقوّم اعوجاجه. فإن رفض أن يسمع إلى الكنيسة فإنه يجب أن يُوضع تحت التأديب ويُعامل كأنه غريبٌ عن الجماعة- كوثنيٍّ أو منغمسٍ في شؤون الدنيا, أو عشّار.

في هذا المكان فقط لدينا هذه الكلمات التي تُرددها روما كثيراً: "يسمع من الكنيسة". إنها لا تدعونا لأن ننحني أمام تعليم الكنيسة بقدر ما تعالج موضوع تأديب الإنسان المسؤول عن تقبّل حكم الجماعة الكنسية. ليس من مكان يُقال فيه أن الكنيسةَ هي المعلم الموثوق وذو السلطان. بل بالعكس, إن الكنيسة يُطلب إليها أن تسمع ما يقوله الروح القدس من خلال الكلمة.

إن الربط والحل الوارد ذكرهما في الآية ١٨ يتم توضيحهما في الرسائل إلى كورنثوس. إن لها علاقة بالكنيسة, أو الجماعة, والتأديب. ما أمر به بولس الجماعة الكنسية في كورنثوس, هو أن يرفعوا من وسطهم الشرير- الذي كان يرتكب سفاح القربى- في ١كورنثوس ٥, كان يربط خطيئته به إلى أن يتوب. وعندما يطلب في ٢ كورنثوس ٢: ٥- ١١ من الكنيسة أن تسامح هذا الرجل بناءً على الدليل الذي يُبديه على توبته فإنه كان  يُحلّه. هكذا أفعال, عندما تكون في توافق كامل مع كلمة الله, تكون مربوطةً في السماء.

الآية ١٩ توحي بشيء أرفع وأعلى من هذا. لنفترض حالةً أو قضيةً حيث الحكم البشري يكون على خطأ, والقديسون يكونون في ارتباكٍ كاملٍ. قد ينشدون الرب نفسه طلباً للاستنارة والمعونة.

حيث يتفق اثنان أو ينسجمان, كما تعني الكلمة حقاً- وهذا, حيث يأتي اثنان أمام الله في الصلاة في انسجام مع روحه القدوس ومع بعضهم البعض, فإنه سوف يستجيب لهما, فاعلاً ما يناسب مشيئته في الكنيسة على الأرض كما في السماء. وعلى كل جماعة محلية من المؤمنين المجتمعين معاً باسم الرب يسوع أن يكونوا متأكدين من حضوره وسطهم. هذا لا يشير إلى جماعة معينة ما تدّعي أنها أكثر ارتباطاً وصلة وثيقة مع المسيح من غيرها, ولكن حضور الرب أمر مؤكد لكل جماعة تجتمع باسمه, مهما كانت صغيرة تلك الجماعة. هذا ما يُشجعنا ويُعزينا الآن في هذه الأيام حيث الكنيسة في حالة انهيار ومع ذلك ففي حالة غرور ديني كبير.

إن بقية الأصحاح يتناول، بشكل خاص، موضوع المغفرة من أوجه مختلفة عديدة. إن المشكلة كلها يمكن حلها بالنسبة للمسيحيين. علينا أن نُسامِحَ كما سامَحَنا الله في المسيح (أفسس ٤: ٣٢؛ كولوسي ٣: ١٣). من وجهة نظر الملكوت, إن المغفرة تستند على توبة المذنب الآثم. إن تلاميذ المسيح عليهم أن يتخذوا موقف مغفرة في جميع الأوقات ونحو كل الناس. ولكن عليهم أن يمنحوا ذلك الغفران لكل من يقول "أنا أتوب" (لوقا ١٧: ٣, ٤). أن نُخفِق في فعل ذلك سيجلب الشخص الذي لا يغفر تحت يد المعاقَبة والتأديب من قِبَل الله في سيادته, كما نرى في مَثل الخادم القاسي القلب الذي رفض طلب رفيقه المدين للرحمة. هذا المبدأ يبقى حتى في زمن نعمة الله التدبيري, لأن نعمته وسيادته تسيران معاً. ما من أحد أكثر مسؤولية لأن يُظهر رحمةً أمام الآخرين من ذاك الذي نفسه كان موضع رحمة. إن الكثير من التأديب الذي يجب أن نخضع له نحن المسيحيين يمكن أن يكون مردّه إلى مواقفنا القاسية العديمة الشفقة في معظم الأحيان نحو أُولئك الذين أثموا إلينا. إننا نوفر على أنفسنا الكثير من الألم بالشكل الذي يعالج فيه أبونا خطيئتنا مؤدباً إيانا (عبرانيين ١٢: ٦- ١١) لو كنا أكثر حرصاً وأكثر مراعاةً للآخرين.

"حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. لِذَلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ»" (الآيات ٢١- ٣٥).

"كَمْ مَرَّةً ..... أَغْفِرُ لَهُ؟" لم يَتَسَامَ بطرس إلى مستوى الفهم الحقيقي للنعمة الذي أظهره الله له، والذي كان يجب عليه أن يُظهره نحو أخيه.

"إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ". إن ٧ هو عدد الكمال. إن ربنا يرفع هذا إلى أعلى طاقة. إن مغفرتنا وصفحنا يجب أن تكون كمثل تلك المغفرة التي عامَلنا بها الله. سبعين مرة سبع مرات تبدو مثل عدد مستحيل من الآثام التي تنتظر المغفرة, ولكن ألم نتجاوز ذلك العدد مرات كثيرة في علاقتنا مع الله؟

"إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ". في هذا المثل يُرى التلميذ على أنه من رعايا الملكوت, وتحت سيادة الله, الذي, ورغم أنه أبونا, يُخضعُ شعبَه إلى تأديبٍ تقويمي (ا بطرس ١: ١٧).

"وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ". لقد كان هذا المبلغ هائلاً, سواء كانت الدنانير من الذهب أم فقط من الفضة. إنها توحي بذاك الشخص الذي يكون مذنباً بآثام كثيرة وتعديات كثيرة ضد السيادة الإلهية.

"لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي". إن الآثم مفلس أخلاقياً. وما من إنسان بمقدوره أن يعوض لله عن الخطأ الذي ارتكبه (بحقه). "أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ". فبحسب الشريعة التي كانت سائدة آنذاك كان يُمكن أن يُباع المدينُ العاجزُ عن الدفع في سوق النخاسة كعبدٍ.

"تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ". بينما لا يستطيع أي إنسان أن يلبّي المطالب الكاملة لناموس الله المقدس, ومع ذلك فإن موقف هذا المدين هو موقف ندم وتوبة.

"فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ". ورغم ذلك فإن الله يتعامل مع خدامه الخاطئين عندما يواجهون خطاياهم في حضوره ويقرون بمطالب سيادته البارة العادلة المحقة. لاحظوا, ليست الحالة هنا هي مغفرةٌ لإنسانٍ غير مخلّص, بل خادم لله كان قد أخفق على نحوٍ جسيم.

"وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ". لقد كان هذا المبلغ تافهاً جداً, مقارنةً بذلك الديّن الآخر العظيم الكبير. ما من أحدٍ يمكن أن يُزعج أياً منا بأي شيء كما أزعجَتْ خطايانا اللهَ القدوس.

"أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ". أن نطلب الرضا الكامل من أخٍ أخطئ إلينا, عندما عاملنا الله بكرمٍ وسماحة نفسٍ رغم خطايانا الأعظم, هو في توافق وانسجام مع مبدأ الرحمة.

"فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ". إنه يتخذ نحو دائنيه نفس الموقف الذي اتخذه الآخر نحو سيده, وكان يجب أن يكون عنده نفس الاعتبارات.

"فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ". لقد كان الدائن قاسي الفؤاد. ليس فقط أنه رفض المغفرة, بل أيضاً ألقى برفيقه العبد إلى سجن المدينين, راجياً، وبلا شك، أن أصدقائه سيأتون لمساعدته ويدفعون الديّن عنه.

"فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى". إذ صُدِموا بهذا التصرف، تم نقل الخبر عن هذا السلوك الشرير الذي أبداه الدائن غير المستحق إلى سيده من قِبَلِ أولئك الذين عرفوا بمجريات الأمور بدقة.

"أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ". استشاط السيد غضباً من جراء هذا التصرف الخؤون الذي قام به من مَدَّ له السيدُ يدَ الرحمة والرأفة.

"وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ". إن مغفرة الله قد تُلغى, كما في هذا المثل, حيث المتلقي للمغفرة يخسر كل حق بالاعتبار بسبب انقلابه فيما بعد. لاحظوا أن هذه المغفرة ليست هي المغفرة الأبدية التي يمنحها الله للخطاة الذين يؤمنون هنا, بل إنها مغفرة لمن يكون لتوّه في الملكوت وقد أخفق على نحوٍ كبير.

"فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ". إن الآب هو الذي يتعامل مع أعضاء عائلته, وهو الذي لن يغفل القسوة أو نقص الحنو من جهة أولاده نحو إخوتهم الذين يخطئون. هناك الكثيرون من أولاد الله الواقعون تحت التقويم التأديبي في كل أيامهم, وذلك، ببساطة، لأن هناك أحداً لم يغفِروا له. دعونا نبحث ونحاول بطرقنا سعياً لتجنب هذه المسألة.

أُولئك الذين دخلوا إلى الملكوت بالولادة الجديدة (يوحنا ٣: ٥) هم كلهم خطاةٌ مغفورةٌ خطاياهم ويقفون أمام الله على أساس الرحمة والنعمة الصِرفة. ومع ذلك, كأولاد في عائلة الله, إنهم خاضعون لتأديب الآب وهم تحت سيادته. إن اللحظة التي تنتهي فيها مسؤوليتنا كخطاة, إذ نكون فيها تحت دينونة الله, تبدأ مسؤوليتنا كأولاد مرتبطين بالعلاقة مع الآب. في هذه العلاقة الجديدة علينا أن نُظهر أفعالاً تدلُّ على الطبيعة الإلهية, ولذلك فإننا مدعوون لأن نسلك في رحمةٍ نحو كل من يُخطئ إلينا. إن أخفقنا في القيام بذلك, فإننا سنُؤدَّب بشكل صارم لكي تُحفظ سيادة الله في عائلته الخاصة.

جوانب مختلفة من المغفرة: إن كنا لا نميز الجوانب المختلفة من الصفح الموضوعة أمامنا من خلال كلمة الله, فعلى الأرجح أننا نكون في تشوشٍ فكري عظيم بسبب معاملات الله التأديبية معنا بعد اهتدائنا إلى المسيح. عندما يخلّصنا فإنه يغفر لنا بشكل كامل وإلى الأبد, وسوف لن يتذكر, كقاضٍ, خطايانا من جديد (عبرانيين ١٠: ١٧). ولكن كأولاد له, علينا أن نعترف بخطايانا كلما سقطنا, وهو يعطينا مغفرةً مجدِّدةً وشافيةً (١يوحنا ١: ٩). إن السيادة الأكيدة تنتج عن ذلك, وتتبع إخفاقاتنا هذه, التي لا تُفسر على أنها إشارة إلى أن الله لا يغفر, بل إلى أنه سيعرّفنا من خلال التأديب على شناعة الخطيئة في نظرهِ (٢ صموئيل ١٣, ١٤). إذ غُفِرت خطايانا, فإن علينا أن نُصفح عن إخوتنا الذين يُخطئون إلينا (كولوسي ٣: ١٣). إن أعضاء الكنيسة الذين ينتهكون مبادئ الله البارة يجب أن يتأدّبوا, ولكن يُغفر لهم عندما يُظهرون بالبرهان توبتهم (الآية ١٧؛ ٢ كورنثوس ٢: ٧).

درجات الإثم: إن تعليمَ ربِّنا يُرينا بشكلٍ واضح أن هناك درجات متفاوتة إثمية الخطيئة. إن كلَّ خطيئةٍ هي شرٌ في عينيّ الله. ولكن كلما عَظُمَ نور وامتيازات المرء, كلما ازدادت مسؤوليته. وبالتالي, إن خطيئة ذاك الذي يعرف كلمة الله وقد تمتع لسنوات بالصحبةِ والشركةِ مع الرب تكون أسوأ بكثير من تلك التي لذاك الذي كان جاهلاً نسبياً وغيرَ ناضجٍ روحياً. ودرجات القصاص تتباين تبعاً لذلك. انظر لوقا ١٢: ٤٧، ٤٨؛ يوحنا ١٣: ١٧؛ رومية ٢: ١٢؛ يعقوب ٤: ١٧؛ ١ يوحنا ٥: ١٧.

وفيما يلي أمثلة نرى بها سيادة الله وحكمه:

 يعقوب- خدعَ أباه (تك ٢٧: ١٨- ٢٤)؛ فخدعه أبناؤُه (تك ٣٧: ٣١- ٣٥).

موسى- أخفق في تمجيد الله في مَرِيبَةَ (عدد ٢٠: ١١)؛ فلم يسمح له الله بالدخول إلى الأرض (عدد ٢٠: ١٢).

داود- أخفق من ناحية زوجة أوريا (٢ صموئيل ١١: ١- ٢٦)؛ ولم يُفَارِقُ السَّيْفُ بيتَه (٢ صموئيل ١٢: ٩، ١٠).

أهل كورنثوس- أخزوا الله في مائدة الرب (١ كو ١١: ٢٠- ٢٢)؛ فنجم عن ذلك مرض وموت كثيرين (١ كو ١١: ٣٠).

الأصحاح ١٩

الشريعة الجديدة للملكوت

بعد قطع العلاقة مع إسرائيل بحسب الجسد، للوقت الراهن، حيث الملكوت الذي يتنبأ عنه الأنبياء هو في حالة تعطل مؤقت، شرع يسوع يتحدث بسلطان حول أمور تتطلب تعليمات محددة لإرشاد أتباعه خلال سنوات هذه الفترة الفاصلة إلى أن تُكشف أسرار الملكوت.

وإذ غادر الجليل تابع طريقه نحو أورشليم ماراً عبر بيرية شرق الأردن.

"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاكَ" (الآيات ١- ٢).

من العبارة "تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ" علينا أن نفهم أنها المنطقة المتاخمة لليهودية. بينما هو يتحرك بجلال نحو موته، تابع (الرب) منح رحمته وأعمال قدرته نحو كل الذين كانوا يجيئون إليه طالبين شفاء الجسد، وبهذا أظهر حقيقة أنه الممسوح من قِبَلِ الله (أعمال ١٠: ٣٨)، رغم أن قادة الدين وحكام الشعب لم يعرفوه أو يتعرفوا عليه.

بعض هؤلاء الفريسيين المتكبرين المتعجرفين جاؤوا إليه وطرحوا عليه سؤالاً يتعلق بالطلاق، وهذا أتاح له الفرصة ليوضحَ النظام الجديد الذي يجب أن يسود وسط أولئك الذين سيخضعون لسلطانه في الأيام القادمة.

"وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟» وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». قَالُوا لَهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلَكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي». قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هَكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هَذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هَكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ»" (الآيات ٣- ١٢).

إن السؤال الذي طرحه الفريسيون كان يُقصد به, بشكل واضح, وضع يسوع في موقف تعارض مع ناموس موسى؛ ولكن في إجابته عليهم أعاد التشريع السينائي أو اللاوي إلى الناموس الأصلي للزواج, والذي كان يجب أن يكون القانون لتلاميذه في المستقبل.

لقد سأله الفريسيون: "«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟»". لقد كانت بعض تعاليم الربانيين الليبرانيين رخوةً جداً بخصوص هذا الموضوع, ولذلك كان يمكن للرجل أن يتبرأ من زوجته ويطلّقها لأدنى سبب أو ذريعة. فأشار يسوع كمرجع إلى ما كان قد كُتب في تكوين ٢: ٢٤: "مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى". هذا هو المثال الإلهي: رجل واحد لامرأة واحدة في علاقة زواج مقدسة. إن الجنس البشري برمته نشأ عن أول زوجين خلقهما الله, وهذا كان يرمز, كما تُشير طقوس الزواج, إلى الاتحاد السري الذي يوجد بين المسيح وكنيسته (أفسس ٥: ٣١, ٣٢). "وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً". لاحظوا, لا يقول "الثلاثة" أو الخمسة, أو أي عدد آخر, بل ببساطة يقول "الاثنان". وكل ما عدا ذلك هو انحراف مخالف للقصد الأصلي الذي أراده الخالق. "فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ". ومن هنا, وفي فجر تاريخ الإنسان (والعائلة), لدينا عقد الزواج الذي لا يمكن التملّص منه وقد كُشِفَ, وذلك بحسب مشيئة الله. فمن يحطّم هذا الاتحاد إنما يعصى كلمة الرب.

فمن الطبيعي أن يسأله مناوئوه: "«فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟»". أوضح يسوع أن هذا كان تدبيراً مؤقتاً أُعطي لموسى السلطان لأن يسمح به بسبب قساوة فؤاد الرجال. لقد كان بغاية حماية المرأة من القسوة والجهد في سعيها إلى الاستمرار في الحياة في منـزلٍ حيث لا تكون محبوبة أو مرغوبة أو تكون خاضعة لمعاملة قاسية. فمن الأفضل بكثير إعادتها إلى منـزل والديها أفضل من جعلها عبدةً لنـزوات الزوج القاسي.

أما الآن فمَلِكُ إسرائيل والفادي قد جاء، وأعلن أن: " إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي»". في هذه الكلمات أكد يسوع قداسة علاقة الزواج. لقد قصد به الله أن يكون اتحاداً مدى الحياة. المؤمن الخاضع لله سوف لن يحطمه. فإن انتهك أحدهم هذا الرابط بسلوك غير عفيف- أي, بعلاقات غير شرعية مع طرف ثالث- فإن الطرف البريء له الحرية أن يطلّق الشخص غير المخلص وأن يتزوج شخصاً ما آخر.

كثيرون تساءلوا وشككوا في هذا التفسير لكلمات ربنا, ولكن ليس لديهم أي معنى آخر. فالقول, كما ادعى البعض, بأن الرب كان يُشير إلى الزنا المُرتكب قبل الزواج (كما في تثنية ٢٢: ١٣, ١٤, ٢٠, ٢١), وأن ليس في هذا إشارة إلى هكذا خطيئة تُرتكب بعد الزواج, سيكون هذا التفسير هو بمثابة وضع فرق قيمة للخيانة الزوجية, وكأنها أقل شراً من نفس النوع من الإثم الذي يُرتكب من قِبَل أولئك الذين لم يتزوجوا بعد. لتأييد هذه النظرية أكد البعض أن كلمة "زنا" تشير فقط إلى اللاطهارة الجنسية من طرف الناس العازبين. ولكن ١ كورنثوس ٥ تنفي ذلك. إن الرجل الذي يرتكب سفاح القربى هناك كان يعيش مع زوجة أبيه, وقد اتُهم بالزنا.

بينما هناك تأكيد على الطابع الرفيع والمقدس للزواج بحسب كلمة الله, لا يريد يسوع أن يضع على الطرف البريء المُطلَّق عبئ المُضي في الحياة لوحده, بسبب خيانة الشريك الشرير.

تفسير آخر أُعطي هو في إبطال وإلغاء نفس التعليم الواضح الذي قدمه يسوع في هذا الموضوع: وأقصد, أنه قد تحدث كمن هو تحت الناموس, ولذلك فإن الاستثناء الذي يُذكر هنا لا ينطبق على هذا الدهر التدبيري من النعمة. أولئك الذين يؤمنون بهذا الرأي ينسون أنه بينما جاء يسوع تحت الناموس, "فإن الناموس والأنبياء كانوا حتى يوحنا". إن التعليم التمهيدي للدهر التدبيري الجديد قد أُعطي بيسوع, لأن "النعمة والحق أتيا به" (يوحنا ١: ١٧).

لقد كان يضع حجر أساس للمبادئ المتعلقة بالزواج والطلاق التي كانت يجب أن تسود منذ ذلك اليوم فصاعداً. إن هذا ما أربك وأقلق التلاميذ, الذين قالوا أنه إن كانت هذه الأشياء هكذا فلعله من الأفضل للمرء ألا يتزوج أبداً, إذ بدا أن الزواج يضع قيوداً ثقيلةً على الميول الطبيعية للطبيعة البشرية.

لقد أقرَّ الرب بأنه ليس كل  الناس يقتبلون ذلك, ولكنه من أجل الذين أُعطي لهم- لؤلئك الذين هم على استعداد لأن يكونوا خاضعين لمشيئة الله, مدركين قداسة علاقة الزواج, أو من أجل الآخرين, كما قال بولس في يوم لاحق, أنه كان لديهم هكذا تمالك لأنفسهم حتى أنهم كان بمقدورهم أن يحفظوا أنفسهم أنقياء ولو غير متزوجين. مثل هؤلاء كانوا مخصيين من أجل ملكوت السموات. ولكن يسوع ما كان ليضع أي أحد تحت عبودية كمثل هذه. فبالنسبة له لقد كان من أجل ذلك القادر لكي يقتبله.

حسنٌ أن نتذكر أن الهدف الحقيقي من الزواج هو إنجاب الأولاد, وبالتالي تأسيس بيت تقي يكون شهادةً مذهلةً عن المسيح وسط عالم فاسد. إن كلمة "بيت" هي إحدى أعز الكلمات على قلب ملايين الناس. كم من ذكريات تحرك تلك الكلمة! كم تثير القلوب, وأي شكر نرفع لله ونحن نتذكر دائرة البيت السعيد ونتكل على الانطباعات التي ترسَّخت في أذهاننا الفتية منذ الصبا. إذ ورغم أننا نكون قد تجولنا وجُلنا كثيراً, يبقى البيت هو أكثر الأماكن قداسةً التي نكون قد عرفناها على الأرض. ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من الناس لم يعرف أبداً السر الخفي الكامن وراءه. وفي لغات عديدة كثيرة على الأرض ليس من كلمة تكافئ المعنى الذي نُعطيه لكلمة "بيت". فقلةٌ من القبائل الوثنية لديهم مرادفات لها. إنهم يتحدثون عن منـزل, ومسكن, أو مأوى؛ ولكن بالنسبة لهم, فإن البيت, كما نفهمه, هو شيء لم يعرفوه البتة. ومع ذلك، "اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ" (مز ٦٨: ٦)، فقد أسس منازل للبشر قبل زمن طويل من وجود الحكومات والدول وقبل ظهور الكنيسة إلى الوجود.

إنه أكثر من أربعة جدران وأثاث مريح. البيت, بأدق معانيه, هو حيث يسود الحب. إن البيت المثالي الذي في الكتاب المقدس هو المسكن, سواء كان خيمة الحجاج أو قصراً عظيماً, حيث العائلة تسكن معاً في محبة وانسجام, كلٌ يتمتع بصحبة الآخرين, والجميع يسعون لخير الكل. هكذا بيوت وُجِدت عند بني إسرائيل عندما كان كل العالم منغمسٌ في الوثنية, وحيث كان الخوف يسود بدل المحبة. لقد رفع يسوع حياة البيت إلى مستويات أعلى بكثير, جاعلاً منه مكاناً لأعمق العلاقات الروحية وأيضاً للمحبة الحانية. إن البيت المسيحي هو المكان الذي يتمتع به الأب والأم والأولاد معاً بالعطف الإلهي والحماية الإلهية, وحيث تكون العائلة كلها تكرم المسيح كمخلّص ورب. من هكذا بيت يصعد صوت الصلاة والتسبيح كذبيحة مستمرة دائمة يوماً فيوماً.

إن الإرخاء والتمييع لمفهوم ورابط الزواج وانتقاص المُثل البيتية هي على ما أعتقد أسوء الشرور في عصرنا. إن حالات الطلاق هي في ازدياد بمعدل يُنذر بالخطر إذ أن الناس آخذون في انتقاص من والاستخفاف بتعاليم الكتاب المقدس أكثر فأكثر ويقللون من احترام الطابع المقدس للزواج, ويطلقون العنان للمشاعر الجامحة والرغبات الأنانية. إن الأولاد هم أكثر من يعاني من انكسار وتحطم البيت. إننا نـزرع الريح كشعب, ويُقدَّر لنا أن نحصد الزوبعة ما لم نلتجئ إلى الله في توبة ونسعى للسير في إطاعة متواضعة لكلمته.

بهكذا معدل متزايد للطلاق في هذا العالم وفي حياة عائلات أخرى في مختلف الأماكن سيكون هذا الأمر منتشراً بكثرة عند غير المخلّصين. إن أبناء الله يجب أن يتحاشوا أي تعقيد من ناحية هذا الشر وذلك باللجوء إلى طاعة مطلقة لتعليم ربنا في ما يتعلق بديمومة العلاقة الزوجية التي كان يقصدها الله أساساً.

بعد هذا الاستطراد المطوّل نوعاً ما, علينا أن ننتقل إلى التأمل في الحادث التالي, الذي يليه في تتابع أخلاقي جميل؛ - الإتيان بالأولاد ليسوع لكي يباركهم.

"حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلاَدٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ فَانْتَهَرَهُمُ التَّلاَمِيذُ. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ». فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ" (الآيات ١٣- ١٥).

لقد دلَّ على إيمان حقيقي برحمة ونعمة وقوة الرب, عندما جلب الأهل أولادهم الصغار طالبين منه أن يضع يديه المقدستين عليهم وأن يمنحهم بركته. بالنسبة إلى التلاميذ, بدا هذا تطفلاً وإزعاجا ليس في محله من ناحية الوقت ومن ناحية مراعاتهم لمعلمهم, وحاولوا أن يمنعوا هؤلاء الذين كانوا يرغبون بأن يمنح صغارهم التفاتةً لطيفةً.

تدخّل يسوع مباشرة، وشجّع الأهل قائلاً: "«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»". لقد أظهر وأعلن قبل ذلك, وبسبب إيمانهم البسيط, أن الأولاد هم الرعية المثاليين للملكوت. وهنا نجده يعيد تأكيد ذلك, وبهذه الكلمات يُعطي شجاعةً لؤلئك الأهالي في كل مكان الذين يؤمنون به, لكي ما يأتون بصغارهم إليه, وهم على ثقة بأن بركته ستكون عليهم, كآباء يسعون لأن يربوا أولادهم بحسب التنشئة والتأديب الذي يريده الرب.

بعد وضع يديه على أولئك, غادر يسوع ذلك المكان ليمضي نحو أورشليم حيث كان سيبذل حياته كذبيحة عن الخطيئة.

لكي نفهم الحادث التالي بشكل صحيح, نحتاج لأن نميز بانتباه بين الخلاص والتلمذة. إن خلاص الله مجاني تماماً. إنه يُقدَّم إلى الناس على أساس النعمة الصرفة والتي لا تنتظر استحقاقاً. ولكن التلمذةَ هي على أساس آخر مختلف تماماً. إنها تكلِّف حرفياً كل ما يملكه المرء- أي تدفعه إلى خسران كل الأشياء (فيليبي ٣: ٧, ٨؛ لوقا ١٤: ٣٣). ما من أحد يمكن أن يكون تابعاً حقيقياً للمسيح ولا يحمل صليبه- ذاك الذي يرمز إلى موت الجسد- ويتبع الرب يسوع في نفس الطريق من الرفض الذي عاناه من قِبَل العالم والتكرّس لمشيئة الآب.

إن العالم يكون ضئيلاً وتافهاً عندما نجعل المسيح في الدرجة الأولى في حياتنا. يجب أن نكون له حصرياً, فهو يطلب منا أن نقدم له كل كياننا وأن يسود هو على كل حياتنا. ما من أحدٍ, مهما كان مقرباً, يُسمح له بأن يأتي عائقاً بيننا وبين ولاءنا له (لله) (لوقا ١٤: ٢٦, ٢٧). إن محبتنا للمسيح يجب أن تكون متقدةً جداً حتى أن عواطفنا لأقرب الأصدقاء إلينا أو أقاربنا ستبدو وكأنها بغضاء بالمقارنة, إن كانوا سيسعون لتنحيتنا عن طريق التكرّس لله.

بالنسبة للجسد, قد يكون هذا مطلباً قاسياً وصعباً تقريباً, ولكن النفس المستسلمة لله والصادقة تجد سعادةً أعمق في إذعانها وخضوعها كلياً لذاك الذي اشترانا بدمه, أكثر من العيش لإرضاء ذواتنا. لقد قاوم كثيرون ولسنوات الدعوة إلى هكذا حياة من الإخلاص والولاء القلبي الصادق, ولم يتعلموا إلا في النهاية بأنهم خسروا بشكل لا حد له وذلك برفضهم أن يُقرّوا بدعوة الرب يسوع لهم لإقصاء كل شيء سواه.

أن نحمل الصليب ونتبعه في الطريق الذي سار فيه حيث رفضَه العالم قد يبدو بأنه يتضمن تضحيات عظيمة جداً يصعب على اللحم والدم أن يتحملها, ولكن عندما يتم التسليم والخضوع لله وعندما يُقبل الصليب, فإننا سنكتشف, كما عبّرَ روثرفورد الورِع بأن "ذلك الصليب هو عبئٌ كمِثل الزعانف للسمكة أو الأجنحة للطير".

"وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا». قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنـز فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ». فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: «إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «هَذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ»" (الآيات ١٦- ٢٦).

"«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟»". هذا السؤال يدل ضمناً على قدرة المرء على أن ينال الحياة الأبدية عن طريق الأفعال. لم يكن هذا الشاب قد تعلّم بعد عن الإثم الكامل فيه والعجز المطلق.

"لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ". بمخاطبته يسوع المسيح قائلاً له "المعلم الصالح", من الواضح أن الشاب أراد أن يقدم له الإكرام, ولكن يسوع أوضح حقيقة أن الله وحده هو الصالح. كل الناس خطأة (رومية ٣: ١٢). ولذلك, لو كان يسوع إنساناً فقط, فما كان ليكون صالحاً, بهذا المعنى المطلق. وإن كان حقاً صالحاً, فعندها هو الله. بعد هذا الإعلان الجديل المهيب, أخذ الرب يسوع السائل على الأساس الذي طرحه. لقد كان الناموس يعدُ بحياة لؤلئك الذين يحفظونه (لاويين ١٨: ٥؛ غلاطية ٣: ١٢). ولذلك أجاب الرب: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا". هذا الإعلان كان مقصود به أن يُظهر للرجل عجزه عن الحصول على الحياة على ذلك الأساس, لأنه إن كان الضمير حياً فعالاً, سوف يُدرك أنه قد انتهك الناموس.

"قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟»". كانت هذه محاولة واضحة للتملص من قوة كلمات يسوع الكاملة. وفي الجواب, اقتبس يسوع خمساً من الوصايا الرئيسية وختمها بتلخيص كل هؤلاء لتشير إلى واجباتنا نحو إخوتنا البشر مستشهداً من لاويين ١٩: ١٨: "أَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". هذه تشير إلى حالة النفس المتيقظة إن أمكن للمرء أن يواجه كل هذه ويقول أنه ليس مذنباً.

إن أراد الناس أن يسعوا للحصول على الحياة الأبدية بأن يفعلوا الصلاة, فإن الناموس يتحداهم أن يبرهنوا على طاعة كاملة. لأن الجميع أخطئوا, وليس من الممكن لأي أحد أن يتبرر بأعمال الناموس. إن الناموس يتحدث بقوة مخيفة عن ضميرٍ يقظٍ حي, يجعل المرء يدرك عجزه عن إحراز الحياة الأبدية عن طريق الأهلية البشرية أو الاستحقاق البشري.

"هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". ما من شك في أن هذه الكلمات قد جاءت من قلب مخلص, ولكنها تقدم دليلاً على نقص الخبرة الحقيقية للضمير. فمن يستطيع أن يتحدث هكذا وهو عارفٌ بنفسه؟ ظاهرياً, قد تكون الحياة بلا لوم, ولكن إن كان الضمير حياً فاعلاً فلا بد من الاعتراف بالخطيئة. إن البر الذاتي المعتد بنفسه هو الذي يجعل المرء يفتخر بذاته متباهياً بأخلاقيته فلا يدرك فساد قلبه. السؤال: "فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟" بحدّ ذاته يشير إلى أية درجة كان ذاك الشاب راضياً عن نفسه.

"«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنـز فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي»". لقد تحدث يسوع هكذا ليخرجه من حالة الثقة القائمة على أساس ضعيف مريض. كيف كان يمكن لأي شخص, الذي كان قانعاً بأن يكون ثرياً, أن يعترف أنه يحب قريبه كنفسه بينما الناس المحتاجين والفقراء كانوا يعانون في كل لحظة ومن كل جهة حوله. لكي تصير تلميذاً للمسيح- لتعيش من أجل الآخرين- وهكذا تكنـز لك "كنـزاً في السماء", فإنك لا يمكن أن تنجذب إلى هذا الشخص الذي يتحدث بشكل عفوي قائلاً عن إطاعة كاملة لوصايا الله منذ صباه.

بدعوته للشاب الغني الذي طرح السؤال لأن يبيع كل ما يملك ويعطيه للفقراء, لكي يكون له كنـز في السماء, كان ربنا يسعى ليُظهر كلاً من الخداع والأنانية التي في قلب الإنسان. إن الدعوة إلى التخلي عن كل شيء وإتباع المسيح كانت دعوة للإذعان كلياً إلى سلطانه, وهكذا نصبح تلاميذ بالفعل وبالحق.

"مَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ". لقد حَسُنَ القول عن تلك الحالة أنها كانت الرفض الكبير. فرغم كل إعجاب أبداه هذا الرجل بالرب يسوع المسيح, ورغم كل التوق الداخلي الذي كان لديه لأن يسعى وراء حياة روحية, فإنها كلها كانت أضعف من محبته لثروته والمكانة التي أعطاها للدوائر الاجتماعية في أيامه. إن "ممتلكاته الكثيرة" وقفت حائلاً بينه وبين خلاص نفسه. لقد كانت ثرواته تعني له أكثر بكثير من معرفة الحياة الأبدية.

"إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ". كما رأينا لتوّنا ملكوت السموات ليس السماء نفسها. بل إنه يتطلب اعترافاً بسلطة السماء والخضوع لها بينما نحن لا نـزال على الأرض. فيصعب على أولئك, الذين ائتمنهم الله على ثروة كبيرة, أن يعتبروا كل شيء مما يمتلكوه كوكالة أُنيطت بهم, يكونون مسؤولين عن استخدامها لمجده. لم يكن خلاص نفسِ هذا الشاب فقط هو الذي على المحك: لقد كان يسوع يشير إلى الطريق إلى التلمذة الحقيقية.

"فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: «إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟»". لقد كانوا يظنون بشكل طبيعي أنه من الأيسر لؤلئك الذين يعيشون في ظروف مريحة أن يتبعوا يسوع أكثر من الفقراء والمحتاجين, ولكن في كل تاريخ المسيحية غالباً ما نرى أن الفقراء في هذا العالم هم الذين كانوا أغنى بالإيمان. "عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ". إن قدرة الله الكلية هي وحدها التي تقود أي إنسان, سواء كان غنياً أو فقيراً, إلى الإيمان بالمسيح كمخلّص وتقديم الطاعة له كرب. إن كل اهتداء, وكل حياة مكرسة مقدسة هي معجزة للنعمة. سواء كان الناس أغنياء أم في فقر مدق, أو من الطبقة المتوسطة المرتاحة نوعاً ما, فإنهم يُدانون فقط بخسران حالتهم بالروح القدس لأنهم لم يلتجئوا إلى المسيح من أجل الانعتاق والخلاص. فيه تتلاشى كل الفروقات الطبقية, والجميع يقفون على قدم المساواة أمام الله.

لا نعلم ما الذي قاد ذلك الشاب الغني إلى أن يتحدث إلى الرب يسوع. لربما شعر في داخل نفسه أن ها هنا إنسان أمكنه أن يتحدث بكل سلطان ولذلك فكان له الحق أن يطالب بالخضوع لكلماته. ولكن من الواضح أن هذا الشاب لم يكن لديه إدراك إلى حاجته الذاتية في كونه خاطئ. لقد فكر في يسوع كمعلّم, وليس كمخلّص. ولذلك فهو لم يكن مستعداً لأن يضع المسيح أولاً في حياته, ومثل عدة آلاف من الناس الذين انجذبوا إلى الرب يسوع, مضى حزيناً عندما عَرَفَ شروط التلمذة.

الاستخدام الصحيح للثروة: إنها ليست خطيئة أن تكون غنياً. إن الخطيئة هي أن تجعل الثروة أساس للثقة الزائدة وأن تتمتع بوسائل الراحة التي تقدّمها الثروة بينما تنسى آلام ومعاناة الفقراء والمحتاجين. عندما يعهد الله بثروة لأي إنسان فإن هذا يكون بمثابة وكالة وضِعَت بين يديه ليديرها ويدبرها لمجد من أعطاه إياها. إن محبة المال, وليس المال بحد ذاته, هي الشر (ا تيموثاوس ٦: ١٠). قد يصبح المال وسيلةً لبركاتٍ لا حد لها إذا ما استُخدِمَ بالتوافق مع المسيح (١ تيموثاوس ٦: ١٧- ١٩). لقد كان التلاميذ متفرجين صامتين ومستمعين خلال هذا الحديث الذي دار بين الرب والشاب الغني. أما الآن وقد انتحى الشاب الغني وقرر أن يمضي في طريق أنانيته, فإن بطرس تحدث بالنيابة عن الجميع, وعبّر عن قلقل أو اهتمام قلوبهم عمّا ستكون عليه النتيجة النهائية لنكرانهم وتخليهم عن كل شيء من أجل اسم المسيح.

"فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلَكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ»" (الآيات ٢٧- ٣٠).

"«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟»". لقد بدا سؤالاً طبيعياً, وهو نوعاً ما كذلك. في عيني العالم كانوا قد فقدوا كل رجاء بالغنى أو بتحسين أحوالهم. لقد جازفوا بكل شيء إيماناً منهم بأن يسوع كان المسيّا الموعود. ومع ذلك فقد تحدث بشكل قاتم عن الرفض, والألم والمعاناة, والموت. فما الذي سيرتقبونه في الأيام التالية؟

إجابةً على ذلك أكدَّ لهم يسوع أنه عندما سيُعتَلَن الملكوت بشكل كامل, في أيام تجديد الأرض, أو الولادة الجديدة, فإن أولئك الذين كانوا قد تمثلوا به واتحدوا به خلال رفض العالم له سيكرَّمون ويُعترف بهم بطريقة بارزة ذات مغزى: فسوف يُجلسونَ على الكراسي الإثني عشر, ويدينون أصوات إسرائيل. بقول هذا لم يغفل عن ارتداد يهوذا المُتنبئ عنه, ولكن رتب بمشورات الله أن يأخذ متيّا مكانه. وإن رسولية بولس في ما بعد كانت على أساس وترتيب مختلف كلياً. لم يُحصى بين الإثني عشر, ولكنه كان الأداة المختارة لينقل سر جسد المسيح الذي ليس فيه تمييز بين يهودي أو أممي, كما يخبرنا في الأصحاح ٣ من رسالته إلى أهل أفسس.

ليس فقط أن الإثني عشر كانوا متأكدين من المكافأة، بل أيضاً أعلن يسوع ذلك قائلاً: "كُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ". ما من أحد يضِل أبداً بتكرسه الزائد للمسيح. كل ما يُنكر من أجل اسمه سوف يُعوّض على صاحبه بوفرة, في كل من هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. وسيكون هناك كثيرون ممن اعترفوا بهكذا نكران لمنفعة دنيوية من أجله والذين سيكونون مثل, ديماس, قد أخفقوا في الحصول على المكافأة بسبب عدم  إخلاصهم. وآخرون قد لا يكونون قد احتملوا الكثير من أجله ولكن كانوا صادقين في قلوبهم في الوقت الذي شاركوه فيه الرفض وهؤلاء سوف يُميَّزون وسيُعترف بهم في ذلك اليوم. ومن هنا, فإن الأول يكون أخيراً والأخير يصير أولاً.

عندما يملأ المسيح فكر الإنسان, فإنه يصير من السهل أن يتخلى الإنسان عن كل شيء من أجل اسمه. ولكن ما لم يُعرف, أولاً كمخلّص, ثم كرب, فإن أمور هذه الأرض ستبقى على ما يبدو أعظم بكثير في قيمتها وأهميتها من أمور الحياة الأبدية. ما لم يتعلّم المرء الدرس من إثمه ومن عبثيّته وتفاهته, فإنه لن يتحول إلى الرب يسوع من تلقاء ذاته من أجل الانعتاق والخلاص ولن يكون مستعداً للاعتراف بسلطانه في كل مجال من حياته الأرضية هذه. إن المحبة نحو المسيح تجعل تسليم الذات أمراً سهلاً, ومحبة الذات تجعل الأمر مستحيلاً.

يأتي التناقض بشكل واضح عندما نرى الرفض الكبير الذي أبداه الشاب الغني, والإخلاص المُكرّس من جهة الجماعة الرسولية, الذين كانوا قد تركوا كل شيء ليتبعوا ربهم ومعلّمهم, رغم الكثير من سوء الفهم والإخفاق.

الأصحاح ٢٠

معايير الملكوت

هذا الأصحاح يُفتَتح بمَثَلٍ عن الملكوت مخصَّص ليُظهِرَ أن خدمة الرّب ستُكافأ بحسب الفرص التي استُغِلّت، وليس بحسب مقدار العمل المُنجَز.

"«فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذَلِكَ. ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هَهُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُِ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ قَائِلِينَ: هَؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! فَأجَابَ وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ هَكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ»".

بما أن هذا هو تشبيه لملكوت السموات بشكله الرمزي, لا بد أن رب البيت يمثل الرب نفسه. وإن الفَعَلة أو الكرامين هم أولئك الذين يسمعون دعوته للخدمة في حقل الحصاد الكبير.

مع هؤلاء الذين تم تشغيلهم في البداية كان السيد قد اتفق معهم على دينار- أي دينار في اليوم. بينما يبدو هذا المبلغ ضئيلاً جداً, إلا أنه كان الأجر العادي لعمل نهار في ذلك الوقت, وكان للدينار قوة شرائية أعظم بكثير مما عليه الآن. وبالتالي فإن الأجر المُتّفَق عليه كان عادلاً بشكل كبير وكان هذا أعلى ما يمكن أن يتوقع هكذا عمّال أن يتلقّوه.

إذ انقضى النهار ذهب الوكيل إلى السوق في أربع مناسبات أخرى. في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة وحتى الحادية عشر, والتي يقابلها الساعة ٩ صباحاً, ١٢ ظهراً, ٣ بعد الظهر, ٥ بعد الظهر- أي قبل انقضاء النهار بساعة. وفي كل مرة كان يستأجر أي عمال يجدهم متوفّرين, قائلاً لهم أنه سيدفع لهم ما يستحقونه لقاء العمل الذي ينجزونه. لاحظوا السبب الذي أعطاه عمال الساعة الحادية عشر عن كونهم لم يُستَخدموا: ما من أحد استأجرهم. لقد كانوا مُستعدّين للعمل ولكن الفرصة لم تأتِ إليهم. وعندما جاءت الفرصة تجاوبوا في الحال مع الطلب بأن يذهبوا ويعملوا في الحقل.

بعد عناء النهار دُعي الجميع لينالوا ما كان يُعتَبر حقاً لهم. ولدهشة كل الجماعة فإن أولئك الذين عملوا قبل ساعة قد تلقّوا أجرة يوم كامل, وأولئك الذين في كل مجموعة قد تلقوا نفس الأجر. لقد كان يعتقد أولئك العمال الذين عملوا طوال النهار كأمرٍ مُسلَّم به أنهم سيتلقّون أجراً أكبر, وعندما أُعطي لهم دينارٌ واحدٌ فقط أبدوا تذمّراً على أساس أنهم تحمّلوا عبء حرّ النهار؛ بينما أولئك الذين جاؤوا مُتَأخرين قد جُعِلوا مُساوين لهم. لقد تجاهلوا حقيقة أنهم قد قَبِلوا الاتفاق بأن يعملوا لقاء دينار في اليوم. صاحب الكرم أوضحَ لهم ذلك, مؤكداً على أنه ليس من خطأ ارتُكِب في حقهم إذ أنه استوفى الجانب المطلوب منه من الاتفاقية. وكانت له الحرية بأن يكافئ الآخرين كما يشاء. لقد دفع لهم بحسب حاجاتهم وبحسب استعدادهم ليغتنموا الفرصة الأولى التي جاءت إليهم.

المبدأ واضح ويتم التأكيد عليه بالكلمات: "هَكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ". إن جميع مَن انتبهوا إلى الدعوة هم مختارون, ولذلك ليس من أن أحدٍ يستطيع أن يلوم المُستخدِم إذا لم يُعطَوا فرصة الخدمة.

الدرس واضح بالنسبة لنا. كلُّ تلميذ للمسيح يُتوقَّع منه أن يسلك حسب ما يُطلَب منه وينتبه إلى دعوته للخدمة. وفي يوم الاستعلان كل إنسان سوف يُكافَأ على عمله بحسب طبيعته وليس فقط بحسب الزمن الذي قضاه فيه. يسوع نفسه لم يَعِش طويلاً, ولكنه عاش بعمق؛ وفي سنيه الثلاث ونصف من الخدمة أنجزَ أكثر بكثير مما يستطيع أي إنسان آخر أن ينجزه طوال حياته المديدة. وفي هذا قلَّدهُ كثيرون من أتباعه.

إنه لأمرٌ محزنٌ أن نلاحظ ذلك, فحتى بعد سماع هذا المثل, كان التلاميذ لا يزالون مهتمّين بمَن سيكون الأعظم في الملكوت.

"وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي مَعَ ابْنَيْهَا وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هَذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟» قَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا: «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا وَبِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَبِي». فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»" (الآيات ١٧- ٢٨).

"صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ". إن خدمة التعليم والشفاء التي كان يقوم بها يسوع كانت تأتي إلى نهايتها بشكل مُتسارع. لقد ثبَّتَ وجهه الآن ليمضي إلى أورشليم, حيث سيقدّم أسمى ذبيحة من أجلنا.

"يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ". إن قادة الدين, وقد أعمَتْهم أنانيتهم وبرّهم الذاتي, كانوا على وشك أن يضيفوا إلى خطاياهم الكثيرة خطيئة جديدة وهي تسليم يسوع للموت على الصليب. هكذا يسلك مُناصري التديّن المجرّد, بمعزل عن الحياة الروحية.

"وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ". أيضاً وأيضاً يُخبرنا الرب مسبقاً وبشكل قطعي مُؤكَّد عن قيامته في اليوم الثالث, ومع ذلك بدا وكأن لهذا النَبَأ تأثير أو انطباع ضعيف في ذهن تلاميذه.

"أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي". أي, أمُّ يعقوب ويوحنا. لقد كان واضحاً أنها كانت تتوقع من يسوع أن يعلن نفسه على أنه المسيّا الموعود الملك في أورشليم وكان لديها طموح من أجل ولديها لكي يكونا في أفضل المناصب في الحكومة الجديدة. ويخبرنا مرقس على أن يعقوب ويوحنا بأنفسهما كانا مُتَّفقَين معها في ذلك المطلب (١٠: ٣٥).

"وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ". لقد شعر بأن ولديها كانا يستحقان هكذا اعتراف خاص وتميُّز خاص, كمثل كثير من الأمّهات, اللواتي سيسعون لدفع أولادهنَّ إلى الأمام, لئلا ينال آخرون صفوة المناصب ويتم هكذا تجاهلهم.

"لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ". لقد كان سيُرفَض ويُصلَب. فأن يشاركاه يعني أن يسلكا نفس الطريق- فيصيرا موضع سخرية وهُزء ورفض وكره أكثر من أن ينالا التكريم والتعظيم والمديح.

"أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟". سيكون عليهما أن يشاركا في كأس ألمه وأن يشاركا في معموديته إلى الموت. وبالنسبة إلى الاعتراف لاحقاً, عندما سيملك في البر, فإن الآب هو الذي يكون قد عيّنَ مَن يكون معه.

كأس معمودية المسيح: لقد أشار يسوع إلى كأس الرفض والكراهية التي كان سيشربها, ومعمودية الموت التي كان سيحتملها. وإلى حدٍّ ما يشاركه جميع تلاميذه في كليهما. هناك معنى آخر لن يمرّ به سواه. فكأس الدينونة التي شربها حتى الثمالة من أجلنا, ومعمودية الغضب الإلهي على الخطيئة التي احتملها على الصليب كانت له وحده.

هؤلاء الذين أُعِدَّ لهم: إن ملكوت الله المُعتَلَن على الأرض سيكون المجال الذي سيملك قدّيسوه معه فيه. في ذلك الملكوت كل واحد سيُكافَأ بحسب مدى تكرّسه خلال زمن احتكاكه مع ربنا في فترة رفض الناس له. ولهم كان الآب قد قرَّرَ إعطاء الأسبقية في يوم المجد ذاك.

"فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ". رغم أن بقية التلاميذ قد غضبوا من تهوّر هذين الاثنين, إلا أنه كانت لهم نفس الطموحات. لقد شعروا بأن تلك كانت محاولة من التلميذين ليسبقاهم إلى إحراز أفضل الأماكن والمناصب.

"وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ". في الممالك الأرضية, يستولي الناس على السلطة ويكرّمهم أولئك الذين هم أدنى منهم بسبب قدرتهم على أن يحكموا وعلى أن يُخضعوا الآخرين إلى إرادتهم. ولكن العكس تماماً هو في ملكوت الله. في العالم, الإنسان العظيم هو صاحب الإرادة المُصمِّمة والمبادرة الفعالة الذي يستطيع أن يتغلّب على إخوته البشر. ولكن في ملكوت المسيح, العَظَمة الحقيقية تتميّز بالاتضاع الشديد والاستعداد لخدمة الآخرين أكثر من أسياد عليهم.

"فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ". في الملكوت السماوي, إن الاعتدال والخنوع والخدمة غير الأنانية هي التي لها الأولوية. أن تُفضِّل الآخرين على ذاتك, وأن تخُدمَ برحمة أكثر من أن تسود بقوة, هو أن تتمثل بروح قائدنا الملكيّ. ليس من مكان لأبّهةٍ أرضية أو مجد دنيويّ في حلقة أتباع المسيح. أن تسعى وراء تقدُّمٍ شخصيّ أو أن تحاول أن تفرضه على إخوتك هو أمر مناقض تماماً لروح ذاك الذي صار خادماً للجميع, رغم أنه خلق الكون. روح دِيُوتْرِيفِسَ (٣ يوحنا ٩) بعيدة جداً عن روح المسيح ويجب أن يتجنبها كل خدامه, أما روح أبفروديتس (فيلبي ٢: ٢٥- ٢٩) فهي مثال يجدر بالجميع أن يحاكوه.

"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً". حيث هناك تنافُس على ألا تكون الأعظم بل الأدنى, وألا تكون الأعلى بل الأقل شأناً؛ حيث الخدمة استثنائية والطموح المادي مُستَنكَر, فهناك روح المسيح تتجلى ومبادئ ملكوته تظهر وتتعاظم.

"يَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ". يخبرنا ربنا هنا تماماً عن سبب مجيئه إلى العالم تماماً. فهو لم يترك المجد الذي كان له مع الآب قبل أن تَكَوَّن العالم (يوحنا ١٧: ٥) لكي يسعى نحو مجد أعظم في هذا العالم. لقد جاء ليَخدِمَ البشرية, وهذا, ليس في خدمته لحاجاتهم المؤقتة أوحتى الروحية يوماً فيوماً, بل أيضاً ليفتدينا من الخطيئة وقصاصها ببذل حياته عنّا, وبموته موتاً كفّارياً, ليصنع كفارة استرضائية عن خطايانا (١ يوحنا ٤: ١٠).

لقد أعطى ربنا يسوع المسيح للبشرية نموذجاً جديداً. لقد أرانا أن الإنسان العظيم حقاً هو ذاك الذي يسعى لا لمصلحته الذاتية, بل لبركة الآخرين. وحتى هنا على الأرض, الحياة الغَيريّة هي الأكثر إرضاءً. بالنسبة لباروخ الذي في القديم جاءت الرسالة تقول: "وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُوراً عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ!" (إرميا ٤٥: ٥). هذا يتناقض مع الغرور وتوكيد الذات الذي عند الإنسان الطبيعي: " يَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ" (المزمور ٤٩: ١٦). ولكن بعد ما يُقال ويُفعَل تبقى الحقيقة هي "طَلَبُ النَّاسِ مَجْدَ أَنْفُسِهِمْ ثَقِيلٌ" (أمثال ٢٥: ٢٧).

إن ربنا, وبسبب طبيعته ذاتها, كان له كل الحق لأن يؤكّد نفسه وأن يسعى لكي ينال الاعتراف والإكرام من البشر الذين خلقهم, ولكنه أخذ مكانة العبد الخادم للجميع. لقد اتّضعَ فصار إنساناً, ولكن هذا ما كان كافياً. فكإنسان, اتّخذ مكانة الخادم, وأخيراً بذل نفسه إلى الموت من أجلنا بذبيحته الكفارية على الصليب, لكيما يفتدينا لله. لقد عظَّمَ كرامة الخدمة وأعطى مثلاً عنها وعن نكران الذات بطريقة تقدم معياراً جديداً كليّةً للعظمة. لقد انتقدَ غرور وكبرياء كل المجد الأرضي (أشعياء ٢٣: ٩) وأظهرَ أنه مجرّد أنانية, ولذلك فإنه كان يُعارض الله. أن تخدِمَ, ليس بدافع كسب حالي حاضر, بل لتبارك وتساعد الآخرين, وهكذا لتُعبّرَ عن امتنانك لله لأجل نعمته ورحمته ومحبته التي منحنا إياها مجاناً في المسيح يسوع, يجب أن يكون الطموح الجدير بالثناء لكل الذين يعرفونه كمُخلِّص وربّ.

إن الأشياء التي يُقدّرها الناس عالياً غالباً ما تكون ضد فكر الله كلياً (لوقا ١٦: ٥). إن الإنسان الطموح النشيط المُثابر, الذي يتقدم دافعاً الجميع, ويسعى ليتفوّق على زملائه, والذي لديه الإعجاب بأناس هذا العالم, يَفترضُ أن الكسب المادي الحالي هو أعظم شيء يجب أن يسعى إليه الإنسان. ولكن يسوع عَلَّمنا أن الودعاء هم الذين يرثون الأرض (متى ٥: ٥). إن "الودعاء جداً", كما سمّاهم أحدهم, الذين يرضون بأن يُتَجاهلون وألا يلاحظهم الناس, بل أن ينالوا رضا الله هم أعظم شأناً من الجميع في نظر الرب؛ وأولئك هم الذين يتغلبون على العالم بإيمانهم (١ يوحنا ٥: ٤). إنهم يستطيعون أن يتجاوزوا المنافع المادية الحالية, لأنهم يعرفون أنهم سيجدون مكافأة أكيدة مضمونة عند كرسي دينونة المسيح.

إن الرب وتلاميذه كانوا الآن في طريقهم نحو أورشليم. لقد دخلوا مدينة أريحا. وهناك, كما يخبرنا لوقا, التقى يسوع بزكّا, الذي كانت كل حياته قد تغيَّرتْ إذ جاء إلى معرفة المسيح؛ وهناك حصل الأعميان على الإبصار.

"وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَإِذَا أَعْمَيَانِ جَالِسَانِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مُجْتَازٌ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ». فَانْتَهَرَهُمَا الْجَمْعُ لِيَسْكُتَا فَكَانَا يَصْرَخَانِ أَكْثَرَ قَائِلَيْنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ». فَوَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟» قَالاَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!» فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ" (الآيات ٢٩- ٣٤).

إن القارئ العادي قد يرى تعارضاً بين الروايات الواردة هنا والتي عند مرقس وتلك التي عند لوقا. يخبرنا الأخير أنه "لَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي" (لوقا ١٨: ٣٥), بينما نجد أن متى ومرقس يخبراننا بأن هذه الحادثة قد جرَتْ وهم يغادرون أريحا. ليس من تشويش, على كل حال , إذا ما فهمنا أن لوقا كان يخبرنا أن برتيماوس كان على الطريق يستعطي عندما اقترب يسوع من أريحا, ولكن الإنجيليَّين الآخرين يعلماننا أن الشفاء الحقيقي قد حدث وهو يغادر تلك المدينة, بعد أن زار منـزل زكّا.

ما يبدو ظاهرياً على أنها تناقضات في روايات الإنجيل تجعلنا نُؤكِّد أنه ليس هناك من تنسيق أو تأثُّر بين مُختَلَف الكُتّاب (الإنجيليين), بل إن كلاً منهم قد روى الحادثة بحسب المعلومات التي كان قد حصل عليها وكما أرشده الروح القدس. إنه مبدأٌ معروف تستخدمه المحاكم في أخذ شهادات الشهود عندما يكون هناك عدة شهود فإن رأت المحكمة أن الشهود المختلفين يستخدمون تماماً نفس اللغة ونفس الكلمات فهذا دليلٌ واضح على أن كان هناك تشاور واتفاق بينهم أو أن محامٍ ما أعطاهم تعليمات بما يجب أن يقولوه. نفس القصة قد تُسرَد بفروقات بسيطة فيما بينها, وعند التحرّي الكامل عن الموضوع, فإننا نجد أنها لا تتناقض مع بعضها البعض على الإطلاق بل تؤكد وجهة نظر الشخص الذي يقدّم الشهادة.

يخبرنا متى هنا أن هناك رجلان أعميان يجلسان على قارعة الطريق؛ بينما مرقس ولوقا يتحدثان عن أعمى واحد فقط, وذلك الشخص يُدعى برتيماوس. لقد كان هناك اثنان. لقد أرشد الروح القدس مرقس بدون أن يكون هناك مجال للخطأ في ذلك, ولكن من الواضح جداً أن برتيماوس كان الشخص الأقوى من بين الاثنين, وهو الذي يسترعي الانتباه ويتم التركيز عليه في روايتي مرقس ولوقا.

إذ نعلم أن يسوع كان ماراً, فإن هذين الأعميين صرخا قائِلَين: "«ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ»". لقد كان هذا اعتراف منهما بمسيانيّته. لقد كانوا يعتقدون أنه بالحقيقة ابن داود الموعود الذي سيعطي البصر للعميان ويقوم بأعمال معجزيّة أخرى.

ونعلم من الإنجيل أن الجموع قد وبَّخَتْهُما, طالبة منهما السكوت والهدوء, لئلا ينـزعج يسوع بهكذا شخصين بائسَين مشرَّدَين تعيسَين. ولكنهما رفضا أن يسكتا وارتفع صوتهما أكثر وهما يطلبان من يسوع العون الذي هما في أمس الحاجة إليه. فوقف ودعاهما إليه وسألهما بحنوّ: "«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟»". لقد كان يعرف تماماً ما كانا يريدان, ولكنه كان دائماً يرغب أن يخبره الناس بما في قلوبهم. وبدون أي تردد فقد أجابا: "«يَا سَيِّدُ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!»". وبمحبته غير المحدودة منحهما يسوع ما يسألان: فَلمسَ أعينهما, كما نرى من القصة, وفي الحال حصلا على الإبصار, وتبعاه في الطريق. بينما العظماء والمُبَجَّلين في إسرائيل رفضوه, نجد أن هذين الاثنين, اللذين كانا أعميين منذ سنين ويتسوّلان قد عرفاه على أنه الملك الحقّ لإسرائيل وأقرّا به هكذا بكل سرور.

الأصحاح ٢١

الملك في أورشليم

إن ما يُسمّى الدخول الظافر لربنا إلى أورشليم- في بداية الأسبوع الأخير من خدمته الأرضية، التي ستبلغ ذروتها بموته ودفنه يليهما قيامته المجيدة- كان تحقيقاً جزئياً للمزمور ١١٨، حيث يُصوَّر على أنه الحجر الذي رُفِض، والذي صار في نهاية الأمر رأس الزاوية؛ والذي قُبِل مع ذلك في بداية الأمر من قِبَل بضعة من الناس الذين هتفوا: "أُوصَنَّا" ("خلّص الآن")، و"مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ" (مز ١١٨: ٢٥، ٢٦). ولكن بدلاً من تأسيس الملكوت عندئذ، نجد أن الأمر التالي هو صلبه، عندما قُيِّدَ كمثل حيوانات الذبائح، إلى قرون المذبح (مز ١١٨: ٢٧).

مما لا ريب فيه أن أولئك الذين رحّبوا فيه داخلاً إلى أورشليم، راكباً على أتان نازلاً على منحدرات جبل الزيتون وإلى المدينة المقدسة، قد فكّروا أتن ساعة انتصاره قد أتت، واعتقدوا أنه كان على وشك أن يفرض سلطته الملكية ويبدأ حكمه السعيد الكريم على إسرائيل والأمم الخاضعة له، جاعلاً من أورشليم مركز عالم متجدّد. كل شيء يحدث في الوقت الذي يحدّده الله، ولكن عليه عملاً آخر لينجزه أولاً. وهكذا فإن  دخول المدينة وسط هتاف التصفيق والاستحسان الذي قابله به عامة الناس كان تمهيداً لموته على الصليب الروماني، حيث كان عليه أن يصير كفّارة استرضائية (وليس فقط مصالحة) عن خطايا الشعب (عبرانيين ٢: ١٧). وكما رأينا، بالنسبة له، ما كان ليمكن أن يكون هناك ملكوت بدون الصليب.

لا شكَّ أن الترحيب الذي تلقّاه كان صادقاً. وكلماته التي قالها رداً على انتقاد رؤساء الكهنة والكتبة تجعل ذلك واضحاً (متى ٢١: ١٦). ولكن أولئك الذين ابتهجوا هكذا بمجيئه إليهم كانوا قليلي الإدراك ليعرفوا حقيقة الأمور، وما كانوا يفهمون نبوءات الأنبياء: كيف كان لا بدّ للمسيح أولاً أن يُرفَض وأن يعاني أشياء كثيرة قبل أن يمكنه أن يدخل إلى مجده (لوقا ٢٤: ٢٥- ٢٧).

"وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ قَائِلاً لَهُمَا: «ﭐِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَاناً مَرْبُوطَةً وَجَحْشاً مَعَهَا فَحُلاَّهُمَا وَأْتِيَانِي بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئاً فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا». فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ». فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. وَﭐلْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَﭐلْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِين: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هَذَا؟» فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: «هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»" (الآيات ١- ١١).

كل خطوة قام بها الرب يسوع المسيح، وهو يسير عبر هذا العالم، كانت في توافق كامل تام مع الكلمة النبوية ولذلك ففي إطاعةٍ لإرادة الآب. إذ دخل أورشليم، كان يعرف أن الصلب، وليس الملكوت هو الذي سيكون نصيبه في المستقبل القريب المباشر. ولكن ما من شيء كان يمكن أن ينحّيه عن طريق الخضوع الكامل لذاك الذي أرسله. لقد حلَّى كل حالة اتّخذها. كمالاته التي لا نظير لها كانت متجلّية في كل ما فعله. لقد قبل إطراء الأطفال والكبار، الذين هتفوا له كابن داود، بنفس الرحمة والنعمة التي مكّنته من أن يحتمل النقد البارد واللاذع من قِبَل أعدائه. بالنسبة له، كان الهدف الأسمى لحياته هو أن يمجّد الآب.

كم كان قلبه متأثراً وهو يدنو من المدينة- التي كانت تُدعى مقدسة يوماً، والتي أصبحت الآن مُلوّثة بالخطيئة ومتميّزة بشكل من التقوى الذي ليس له فاعلية. لقد أتت الساعة التي سيُظهر نفسه كملك، واستعداداً لذلك أرسل اثنين من تلاميذه إلى قرية قريبة ليجلبوا أتاناً وابنها.

من الواضح أن مالكي تلك البهائم كانوا من بين أولئك الذين كانوا يعرفون يسوع ويؤمنون بما كان يقوله، لأنهم أقرّوا في الحال بحقّه في أن يأخذ الحيوانين ليستخدمهما في هذا الوقت.

كان زكريا قد تنبأ بأن الملك سيأتي إلى مدينته الملكية وهو "رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ" (زكريا ٩: ٩). كل ذلك تحقق حرفياً إذ أن يسوع انحدر إلى جبل الزيتون وإلى أورشليم راكباً على ابن الأتان غير المُروّض. وكان التلاميذ قد نشروا بعضاً من ثيابهم عليه كسرج، وأجلسوا الرب يسوع المسيح عليه. إنه أمر ذو مغزى أن هذا المخلوق المتواضع كان خاضعاً له- لخالقه- أكثر من أولئك الناس الذين جاء ليخلّصهم.

"وَﭐلْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ". لقد كان مشهداً مشرقياً حقّاً. بعض من الحشد  فرشوا الطريق أمامه بثيابهم، وآخرون قطعوا أغصان نخيل وفرشوها في الطريق التي كان سيسلك فيها، مُعلنين بذلك أنه الملك الشرعيّ الحق عليهم.

"أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ!" هذا الهتاف والكلمات التي تلته، كما أشرنا لتوّنا، كانت اقتباسات من مزمور الانتصار، أي المزمور ١١٨، والذي يُعلن فيها رعيّته الملكيّون أنه ملكهم "الابن العظيم لداود العظيم". وإن التطبيق الكامل للمزمور ينتظر مجيئه الثاني، كما كان هو نفس قد تنبأ لاحقاً (متى ٢٣: ٣٩).

"ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هَذَا؟". إن الغناء والابتهاج كانا قد سُمِعا في كل أرجاء أورشليم، وعامة الشعب، التي تملّكها العجب، كانوا يتساءلون عمن يكون ذاك الداخل إلى مدينتهم والذي لاقى كل هذا الاحتفاء والترحيب. لقد كان هذا الحادث تكرار لذاك الذي حدث قبل قرون مضت، عندما رحّبت المدينة بسليمان ملكاً (الملوك الأول ١: ٣٨- ٤٠). ذاك الذي لم يكن سليمان سوى مجرّد رمز له قد صار الآن في وسطهم؛ ومع ذلك فكثيرون لم يعرفوه.

"«هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»". بإيمان مُتَّقد، أعلنت الحشود المُبتهجة يسوع نبياً. لا بدّ أن معظمهم كانوا جليليين وقد جاؤوا وهم مقتنعين أنه كان فعلاً كما كان يزعم تماماً.

إن الأولاد والآخرين الذين رحّبوا بيسوع بصخب شديد كانوا يسلكون بتوافق كامل مع كلمة الله عندما اعترفوا به الابن الحقيقي لداود الذي سيملك في صهيون. وكما في مناسبات أخرى كثيرة جداً، برهن رؤساء الكهنة والكتبة، رغم أنهم على معرفة بحرفية الكلمة، برهنوا على أنهم أنفسهم بعيدين عن الواجهة كلياً في هذا الاحتفال الخطير.

نبوءة زكريا: من الشيّق أن تُلاحظوا كيف يرتبط مجيئا ربنا معاً في هذا المقطع (زكريا ٩: ٩، ١٠). في الآية ٩ نرى الملك راكباً الأتان داخلاً مبنى البرلمان الأرضيّ، مُقدِّماً نفسه للناس كحاكم حقٍّ شرعي عليهم. ولكن رغم أن الآية ١٠ تتبع ذلك على نفس النحو تقريباً، إلا أن الأحداث الموصوفة فيها لن تتحقق بشكل كامل إلى أن يأتي ثانية. فعندها سيصنع سلاماً بين الأمم، وسلطانه سيسود على كل الأرض.

المزمور ١٨: هذا المزمور يتناول بشكل كبير ما سيحدث في الوقت الذي سيظهر فيه الرب لخلاص بني إسرائيل، عندما ستكون كل محنهم قد انتهت، وسيدخلون إلى البركة والغبطة في ذلك الابتهاج والخلاص الذي سيُوجد عندئذ في خيام الصدّيقين (الآية ١٥). ولكن كل هذه البركة تعتمد على ذاك الذي رُبِط أولاً إلى قرون المذبح. لقد كان قد تقرَّرَ في هدف الله من الأزل ألا يكون هناك ملكوت قبل إنجاز عمل الصلب. وبينما كان الترحيب بيسوع يدخل ضمن سياق مخططات الله، إلا أن أولئك الذين كانوا سيُتوجونه ملكاً في ذلك الوقت كان عليهم أن يتعلّموا أنه يجب أن يعاني أولاً من عدّة أشياء، ويُصلب، ويقوم من بين الأموات. في الزمن المناسب الذي يحدده الله، ستتحقق بقيّة النبوءة على نحوٍ مجيد.

لدى دخول المدينة شرع يسوع بزيارة مركز العبادة اليهودية ليمارس سلطته هناك كما فعل في مناسبة سابقة، كما يروي لنا يوحنا (٢: ١٣- ١٧).

إن تطهير الهيكل يعني، بالنسبة ليسوع، فرض سلطانه كابن الله، الذي تدنَّس بيته على نحو جسيم كبير.

"وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللَّهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ» غَضِبُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحاً؟»" (الآيات ١٢- ١٦).

"وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللَّهِ". بالنسبة له، ذلك الهيكل كان بيت أبيه. لقد كان المكان الذي وضع عليه الرب اسمه في القديم. ولكنه قد صار دنساً وملوّثاً وتحول إلى مكان للتجارة تحت مظهر أو ادعاء مساعدة الحجّاج الكثيرين الذين كانوا يأتون من كل أنحاء العالم ليحفظوا الأعياد السنوية أو ليخصّصوا أوقات عبادة للرب (أنظر لاويين ٢٣).

"بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى". لقد كان هذا هو الهدف الإلهي، كما أُعلِن بأشعياء النبي (أشعياء ٥٦: ٧). في ذلك اليوم من المستقبل الذي سيحلّ فيه الملكوت، عندما ستصبح فيه أورشليم في الحقيقة مركز العبادة في الدنيا، فإن هيكلاً جديداً سيظهر، وإليه ستلتجئ كل الأمم. فذاك الهيكل الذي كان مُشيَّداً على جبل موريا قد صار "مغارة لصوص" مُخزياً لله وحجر عثرة للناس.

"وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ". ذاك الذي كان ربّ الهيكل كان هناك ليُظهر قوّته الإعتاقية التحريرية. فأولئك الذين كانوا يعانون من ضعفات جسدية متنوّعة كانوا يطلبونه، "وكان يشفيهم" بنعمته ومحبته وحنوّه.

"فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ» غَضِبُوا". هؤلاء التشريعيون الناموسيون المتكبرون المتعجرفون كانت قد فَضَحَتْهم طيبةُ وصلاح ولطف يسوع المحِب. لقد كان تصفيق الاستحسان والترحيب الذي أبداه عامة الناس له مثل المر والعلقم لهم. عندما سمعوا الناس يصرخون: "أوصنّا لابن داود"، لم تكن لديهم فكرة في الانضمام إلى هذا الإقرار السعيد به، ذاك الذي كانت أعمال قدرته تشهد للألوهية والسلطان الذي في رسالته (يوحنا ٥: ٣٠)، بل بالحري كانوا ساخطين ناقمين لأن ذاك الإكرام قد قُدِّم له.

"«أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟»". لقد لاموا يسوع لأنه سمح للناس بأن تخاطبه كابن داود، إذ أن هذا كان مُرادفاً للإقرار به على أنه المسيّا المُنتَظر، ولذلك طلبوا منه أن يوبّخ وينتهر الجموع. ولكن يسوع أبى أن يبالي بانتقاداتهم الغاضبة وأشار إلى مقطع في المزامير كان يلائم تلك الحالة تماماً: "مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحاً" (مز ٨: ٢). في صدقهم وبساطتهم، برهن الأطفال وعامة الناس، الذين كان القادة ذوي البر الذاتي يحتقرونهم، أنهم قد عرفوا الله، ولذلك كرّموا يسوع المسيح لأنه المُرسَل من قِبَل الآب، الذي جاء إلى العالم ليكون فادياً لإسرائيل.

ومع اقتراب المساء غادر يسوع المدينة وخرج إلى بيت عنيا. حتى الآن لا نجد تدويناً على أنه أمضى ليلة في أورشليم إلى أن أُلقي القبض عليه وأُخِذ إلى بيت قيافا. لعلّه وجد مسكناً مع أصدقائه لعازر ومرتا ومريم، أو في مكان ملائم آخر.

"ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَخَرَجَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَبَاتَ هُنَاكَ. وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ وَرَقاً فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: «لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ. فَلَمَّا رَأَى التَّلاَمِيذُ ذَلِكَ تَعَجَّبُوا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ. وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ»" (الآيات ١٧- ٢٢).

لقد كانت عائلة بيت عنيا عزيزة على قلب يسوع. ويمكننا أن نتخيّل كيف كان على علاقة قوية مع هذه العائلة الصغيرة هناك خلال هذه الأيام القليلة الباقية له على الأرض.

لقد كان يمضي كل صباح مع تلاميذه إلى المدينة. وفيما كانوا قادمين في إحدى الأيام رأى يسوع شجرة تين غير مثمرة، وأطلق لعنة مهيبة عليها. لقد كان معروفاً أن شجرة التين هي رمز لإسرائيل (أو بالحري يهوذا): شجرة تين مغروسة في كرم. عندما جاء يسوع إلى هناك وجد فيها أوراق الشعائر الدينية وليس ثماراً لله. ولذلك فقد حُكِم عليهم قضائياً بعدم الإثمار طوال هذا الدهر الحالي.

إن حقيقة كون هذه الشجرة مغطّاة بالأوراق سيدل بشكل طبيعي على وجود ثمر، لأن التين يظهر قبل الأوراق في معظم أنواع هذه الأشجار. لقد كان يسوع يعرف جيداً حقائق الأمر، ولكنه اختار أن يذهب إلى الشجرة بحثاً عن الثمر لكي يجعل من ذلك عِبرة يقدّمها في مثل. هناك ثلاثة مقاطع فيها أشجار تين لا بد أنها مرتبطة معاً وتعطينا صورة تدبيرية عن معاملات الله مع اليهود: لوقا ١٣: ٦- ٩؛ متى ٢١: ١٧- ٢٠؛ متى ٢٤: ٣٢، ٣٣.

عندما كان الرب في طريق العودة إلى بيت عنيا في مساء ذلك اليوم، لاحظ التلاميذ بانذهال أن تلك الشجرة التي كانت مُخضوضرة وجميلة المنظر، رغم أنها كانت بلا ثمر في الصباح، لاحظوا أنه قد يبست وذَوَتْ. وإذ عبّروا عن تعجّبهم، استغلّ يسوع هذه المناسبة من جديد ليُؤكّد لهم على أهمية الإيمان. ومن جديد يستخدم نفس المثال التوضيحي كما في السابق (١٧: ٢٠)، عن الجبل وقد أُعطي إلى البحر تجاوباً مع الإيمان الذي كمِثل حبّة خرذل، مُضيفاً الإعلان المحدد والذي من القلب أن "كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ".

هذا لا يُفهَم منه على أنه تأكيد من الله بأنه سيمنحنا كل ما نطلبه، أو يعطينا كل ما نسأله. أن نصلي بإيمان يعني أن نصلي بانسجام مع مشيئة الله المُعلَنة، وأنه ليس لدينا إثم في قلوبنا. ولكن حيث يكون المرء باراً مع الله نفسه، وصلاته تكون بإيمان وفي توافق مع مشيئة الله المعروفة، فإن التجاوب الإلهي أمر أكيد.

عندما كان يسوع يعلّم في الهيكل في مناسبة أخرى، تحدّاه قادة الدين وسألوه بأي سلطان كان يفعل ما يفعل. فنقرأ:

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْهَيْكَلِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ وَهُوَ يُعَلِّمُ قَائِلِينَ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنْ قُلْتُمْ لِي عَنْهَا أَقُولُ لَكُمْ أَنَا أَيْضاً بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ». فَأَجَابُوا يَسُوعَ وَقَالُوا: «لاَ نَعْلَمُ». فَقَالَ لَهُمْ هُوَ أَيْضاً: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»" (الآيات ٢٣- ٢٧).

هؤلاء الكهنة والشيوخ كانوا يتصرّفون غالباً استناداً إلى سلطة مشكوك فيها جداً، ولكنهم شكّكوا بحق يسوع في تطهير الهيكل من أولئك الذين جعلوه "مغارة لصوص"، وأن يعلّم الناس كما كان يفعل.

بحسب عادته في معظم الأحوال لدى تعامله مع المعتَرضين كمثل هؤلاء، أجاب يسوع بأن طرح عليهم سؤالاً بارزاً. ماذا عن معمودية يوحنا؟ هل كانت من أصل إلهي أم أن يوحنا كان يتصرف من موقف بشري صرف؟

وإذ أدركوا أنهم وقعوا في فخ أعمالهم وأكاذيبهم، أجابوا بالقول: "لا نعلم". لقد كانوا يعرفون أنهم إذا ما أقرّوا أن يوحنا قد أرسله الله فإنهم سيعجزون عن تفسير سبب عدم إيمانه به، وبالتالي عدم اقتبالهم لذاك الذي كان يوحنا قد أعلن أنه المسيّا الموعود. من جهة أخرى، إن تجرّأوا على إنكار تفويض يوحنا الإلهي فإنهم سيثيرون غضب عامة الشعب عليهم، وسيفقدون تأثيرهم على الناس، لأن هؤلاء كانوا يؤمنون عموماً أن يوحنا كان نبي الرب.

عندما أقرّوا بجهلهم أو عجزهم عن الإجابة، أجاب يسوع بهدوء قائلاً: "«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»". فأن يحاول إقناعهم هو مضيعة للوقت فقط، إذ كما نقول غالباً: "ما من أحد أعمى أكثر من أولئك الذين لا يريدون أن يروا".

يُختَتم الأصحاح بمثلين، كلاهما قُصِدَ به إظهار خطورة رفض الإذعان المباشر لشهادة ومطالب الرب.

إنه لأمر في غاية الخطورة أن تستهين أو تسخر برحمة الله. ما كان قادة اليهود يُدركون كثيراً أنهم كانوا يقرّرون بأنفسهم مصيرهم المشؤوم برفضهم ليسوع، ذاك الذي أرسله الله ليُغدق عليهم كامل بركته إذا ما اقتبلوه. لقد أضاعوا الفرصة بأنهم كانوا عُميان باهتمامهم بذاتهم، وهكذا أخفقوا بمعرفة المسيا الذي كانوا ينتظرونه عندما جاء بما يتوافق تماماً مع الكتابات المقدسة للأنبياء الذين كانوا يدّعون أنهم يوقّرونهم. إن مجرّد المعرفة بالحرف في الكلمة لا تُخلّص أحداً. إن كتاب الله يتحدث عن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح الذي يُحكّم للخلاص (٢ تيموثاوس ٣: ١٥). فرفضه أمرٌ مميتٌ مُهلك.

إنه موضوع جليل بالفعل ذاك الذي سنتناوله الآن. مَن يستطيع أن يصوّر على نحوٍ كافٍ مخاطر رفض المسيح؟ لقد استخدم الله بضعة صور في غاية الإذهال والتي يمكن تخيّلها، لكي يُحذّرنا من المصير الرهيب الذي ينتظر مَن يرفض نعمته ويرفض المُخلِّص.

إن شجرة التين غير المثمرة، التي لعنها يسوع، كانت تمثل الشعب المتديّن الذي لم يكن يحمل أية ثمار لله، ولذلك فقد رُفِضَ، وجفَّ ويَبس منذ ذلك الوقت، من جذوره. إن مثل الابنين يُظهر التعارض بين قادة اليهود الناموسيين ذوي البرّ الذاتي، الذين كانوا يدَّعون الطاعة بالكلام وليس بالفعل، والخُطاة البؤساء، يهوداً وأمميين على حدٍّ سواء، الذين كانوا يسمعون كلمة الحقّ التي في الإنجيل ويطيعونها. فمثل الكرم يشير إلى عناية الله وصبره مع شعبه الأرضي إلى أن يُحققوا ما في كتابهم المقدس الذي يكشف رفضهم لابنه. وإن قصة وليمة العرس تؤكّد على نفس الحقيقة وتبين كيف أن باب الإيمان كان يجب أن يُفتَح للأمميين، ولكنه يحذّر من الاكتفاء بالاعتراف، الذي يمكن أن يصبح دينونة وحسب في النهاية، كما في حالة الرجل الذي رفض رداء العرس.

"«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ وَقَال: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذَلِكَ. فَأَجَابَ وَقَال: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐلأَوَّلُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ»" (الآيات ٢٨- ٣٢).

"كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ". هذه تصف نمطين من الناس: أولئك الذين يقدّمون خدمة بالكلام فقط، وأولئك الذين لديهم اهتمام حقيقي جدّي بالروحيات.

"قَال: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى". في هذا الفتى نرى الابن العنيد المتصلّب، الذي يُصرّ على البقاء في حالة تمرّد إلى أن يخضع ويأتي إلى التوبة بنعمة إلهية.

"فَأَجَابَ وَقَال: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ". كان هذا هو تاريخ التشريعيين الناموسيين في بني إسرائيل منذ ذلك اليوم عندما قالوا في نقطة الانطلاق في سيناء: "كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ" (خروج ٢٤: ٧)، ولكن سلوكهم اللاحق كان ينمّ على عدم خضوع لله طوال الوقت (رومية ٢: ٢٤).

"إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ". إنها حالة الخطاة الذين يقرّون بإيمانهم في ذواتهم ويشعرون بالحاجة إلى النعمة والرحمة، والذين بالتجائهم إلى الله بتوبة، يدخلون من خلال الولادة الجديدة إلى الملكوت (يوحنا ٣: ٣، ٥).

"يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ". لقد جاء يُعلن مطالب الله المُحِقَّة من مخلوقاته ويدعو إلى التوبة أولئك الذين أخفقوا في بلوغ هذا المقياس. لقد كان التشريعيون الناموسيون قد أداروا ظهرهم بلا مبالاة، بينما الخطاة المحتاجون أطاعوا.

إن مثل الكرم له تطبيق رجعي إلى الوراء وتطبيق إلى الأمام. إنه يعبّر عن تعامل الله مع إسرائيل في الماضي ورفضهم لرسله، وينظر نبويّاً إلى ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة حيث أن شعب يسوع نفسه الخاص سوف ينكره ويتبرّأ منه ويسلّمونه إلى الموت.

"«ﭐِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجاً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ. فَأَخِيراً أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الاِبْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟» قَالُوا لَهُ: «أُولَئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكاً رَدِيّاً وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا؟ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنـزعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ»" (الآيات ٣٣- ٤٤).

"كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً". ربّ البيت هو الله نفس. والكرم هم شعب إسرائيل (أشعياء ٥: ١- ٧). والكرّامون كانوا القادة في يهوذا الذين كانوا مسؤولين عن قيادة الشعب في الطريق القويم.

"أَرْسَلَ عَبِيدَهُ". أولئك كانوا الأنبياء الذين كانوا يأتون من وقت إلى آخر كممثلين عن الله لينقلوا كلمته للشعب.

"جَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً". هكذا عامل إسرائيل ويهوذا أولئك الذين جاؤوا إليهم باسم الرب (أعمال ٧: ٥٢).

"أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ". كم هي مليئة بالحياة هذه الكلمات التي تصوّر نعمة الله ورحمته في إرساله للرب يسوع! لقد كان في فلسطين كممثل عن الآب (يوحنا ٦: ٣٨؛ ٧: ٢٨، ٢٩)، ولكنه كان يعرف جيداً أنهم سيقاومونه بازدراء كما فعلوا مع الأنبياء الذين أتوا من قبله.

"هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ". إن رفض المسيح من قِبَل شعبه هو أكمل تعبير ممكن عن البغض في القلب الطبيعي، الذي تُحرّكه العداوة الشيطانية، نحو إله كل نعمة (أعمال ٢: ٢٣).

"فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ". عبثاً نحاول أن نحلَّ قادة اليهودية من جريمة تسليم ربنا للموت (١ تسالونيكي ٢: ٢، ١٤، ١٥). عملياً كان الأمميون هم الذي صلبوه، ولكن من حيث الاحتمالية كان اليهود هم الذين قتلوه. إن كلا الفريقين كان متورّطاً في أفظع جريمة في التاريخ, قتل مسيح الله (أعمال ٤: ٢٦, ٢٧).

"مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟". إذ رأى مُسبَقاً المعاملة التي سيعاملونه إياها، طرح يسوع السؤال مباشرة على أولئك الذين كانوا يسمعون المثل. لقد أراد لهم أن يعلنوا دينونة ذاتهم بأنفسهم.

"أُولَئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكاً رَدِيّاً". وبدون إدراك منهم، أعلنوا ما كان الله سيفعله. وتحققت كلماتهم في دمار أورشليم وتنحية اليهود لصالح الأمميين.

"الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". لقد لفتَ يسوع انتباههم إلى النبوءة المحددة الواردة في المزمور ١٨٨: ٢٢. فهو نفس كان "الحجر" المرفوض. ولكن بقيامته كان الله سيجعله رأس الزاوية في الهيكل الجديد من الحجارة الحية التي كان على وشك أن يبنيه.

أوضحت أسطورة يهودية هذه الآية بالقول أنه عند بناء هيكل سليمان أُرسِلَ حجرٌ من مقالع الحجارة عند بدء العمل في البناء وهذا الحجر لم يجد له البناؤون مكاناً, ولذلك فقد ألقوا به في الوادي أسفل جبل موريّا- "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". وفيما بعد أرسلوا خبراً أنهم كانوا مستعدين لوضع حجر الزاوية، ولكن البنائين قالوا أنهم سبق وأرسلوه لهم. وتذكّر أحدهم أخيراً ذلك الحجر المرفوض, وقاموا بالبحث عنه في ذلك الوادي واستعادوه، وصعدوا به إلى أعلى الجبل من جديد، وجعلوه رأس الزاوية.

"إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنـزعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ". لقد تقرّرَ أن يُنحَّى شعب إسرائيل بحسب الجسد. وقد خسروا إلى الأبد الملكوت الذي طالما كانوا ينتظرونه. فشعبٌ جديدٌ مُختار, إسرائيلٌ مُتجدّدٌ, سيمتلك الملكوت في نهاية الأمر. خلال هذا الوقت ستخرج نعمة الله إلى الأمميين.

إن المسيح هو حجرُ خلاصنا؛ هو أيضاً حجر الدينونة. تعثَّرَ اليهود به وتحطّموا (أشعياء ٨: ١٤). ويوماً ما سيأتي المسيح ثانيةً, كما الحجر الساقط على تمثال قوة الأمم ليُهشّمه (دانيال ٢: ٣٤, ٣٥).

لم يكن هناك أي شك في ذهن المستمعين إلى ربنا آنذاك حول تطبيق هذا المثل.

"وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ" (الآيات ٤٥- ٤٦).

إذ رأوا صورة عن أنفسهم في الكرّامين غير المخلصين, لم يُبدِ الفرّيسيون أي دليل على التوبة, ولم يُظهروا أية رغبة بإطاعة كلمة الله. بدلاً من ذلك, بدوا أكثر تصميماً وعناداً في مقاومتهم ليسوع، الممسوح من الله، الوريث الذي أرسله الآب ليدعوهم إلى طريق الطاعة وإلى إدراك مسؤولياتهم الذاتية كقادة في إسرائيل. لقد كانوا يودّون لو كانت لديهم الجرأة لأن "يلقوا القبض عليه" وأن يحاولوا فوراً إزاحته من طريقه، ولكن خوفهم من الجموع الذين كانوا يؤمنون به أيضاً كنبيّ حال دون ذلك. هكذا هو حالُ الشرّ الراسخ في القلب الطبيعي ما لم تُخضعه النعمة الإلهية.

الأصحاح ٢٢

الملك ومناوئيه

في هذا المَثَل المدهش اللافت الذي تحدّث فيه ربُنا إلى أهل أورشليم مع دنو نهاية خدمته، قبيل خروجه إلى بستان جثسيماني ومن هناك إلى قاعة المحكمة والصليب، أعطى رؤوس أقلام تدبيرية عن طريقة تعامل الله مع الناس في هذا العالم. إنه مَثَلٌ آخر عن ملكوت السموات. إنه يتعلق بموضوع الاعتراف، ويخبرنا عما سيجري خلال فترة غياب الرب.

"وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ قَائِلاً: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لاِبْنِهِ وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! وَلَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ وَﭐلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ»" (الآيات ١- ١٤).

"يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لاِبْنِهِ". إن "الانسان الملك" هو الله؛ والابن هو المسيح نفسه؛ والعرس هو اتحاد المؤمنين بالمسيح, أولئك الذين يضعون إيمانهم فيه ولذلك فهم متحدون معه. إن عشاء العرس هو وليمة الإنجيل بالفعل- وليمة الأشياء السارة التي أعدَّها الله لكل الذين يقبلون دعوته الكريمة. ولكن لاحظوا, الوليمة أعدّها الله لأجل مسرّة ومجد ابنه المحبوب. الفكرة كانت في قلب الله, وعبّر عنها بأن أرسل الرب يسوع المسيح إلى العالم ليخلّصنا من خطايانا. نقرأ أن الملك "أَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا". هذه الدعوة الأولى كانت للخراف الضالة من بيت إسرائيل, داعيةً إياهم إلى وليمة العرس التي كان الملك قد أعدَّها. وقد رفضوا الدعوة الكريمة. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يوحنا ١: ١١).

لطالما طرح يهودٌ السؤال التالي: "إن كان يسوع هو المسيح حقاً, كما تقولون أنه هو, فلماذا كان بنو إسرائيل يتألمون طوال تلك السنوات بدلاً من أن يُبارَكوا؟" والجواب هو: لقد جاء ليخلّص بني إسرائيل, ولكن عندما رفضوه امتدّت الدعوة إلى الأمميين, لقد أرسل الملك خدامه ليدعوا شعب إسرائيل؛ لقد تلقوا دعوةً إلى العرس, ولكنهم أبَوا أن يأتوا. قال يسوع: "لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ" (يوحنا ٥: ٤٠). سوف لن يدخلوا ولن يشاركوا في الوليمة التي بُسِطَت. أن يقبَلَ المرء الدعوة يعني أن يضع ثقته ورجاءَه في المسيح نفسه.

في الآية التالية نقرأ: "فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ!". لاحظوا الآن, هذه الدعوة الثانية, وهي دعوةٌ ملحّةٌ جداً موجهة إلى نفس الناس, تقول لهم أن الأمر وجِّه إليهم بأن الوليمة قد أُعِدَّت. ومع ذلك يظلّون رافضين لأن يأتوا. فقال الملك: "اذهبوا ثانيةً وادعوهم". بعد أن صَعِد الرب يسوع إلى السماء نجد بطرس والتلاميذ الآخرين, في الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل, يناشدون بني إسرائيل ليتوبوا عن رفضهم للمسيح ويعودوا إليه ويؤمنوا به, معترفين به مخلِّصاً لهم. لقد قبِلَه البعض, ولكن الغالبية العظمى رفضوه بازدراء, واضطهدوا خدّامه فعلياً. ونقرأ: "لَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ". هل هناك خطأ في أن يمتلك المرء مزرعةً؟ وهل من خطب في أن يكون تاجراً؟ لا أبداً على الاطلاق؛ ما لم تُبقيك خارج السماء. إن كنت منشغلاً جداً بمزرعتك, أو مأخوذاً جداً بتجارتك حتى أنك لا تستطيع أن ترفع ناظريك عن الأرض, فعندها يكون هناك شيء خطأ فادح في ذلك. إن الأشياء التي تكون ملائمة بحد ذاتها قد تصبح خاطئة إن وضعناها في مكان المسيح أو الإنجيل. هؤلاء الناس الذين أتت إليهم الرسالة قالوا: "لدينا أشياء أخرى كثيرة علينا أن نهتم بها: لدينا مزارعنا لنعمل بها, وبضاعتنا لنتاجر بها. لا نستطيع أن نلبي دعوة الملك". ونقرأ: "ﭐلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ". كان هناك بعض الناس الذين كانوا غير مبالين, وآخرون كانوا مخاصمين تماماً. وهؤلاء قتلوا فعلياً الخدام. حتى في تلك الأيام الباكرة قُتِلَ مئات من شعب الله العزيز على يد أولئك الذين رفضوا رسالته.

قد يقول قارئ وهو يرى هذا: "حسناً. أنا لست ضد المسيح؛ ليس لديَّ شيء ضد الكنيسة, ولا شيء ضد المسيحية. المسألة فقط هي أنني غيرُ مهتمٍ في الواقع. لديَّ أشياء كثيرة أخرى تشغل فكري". إنك في الواقع كمثل الفئة الأولى- أولئك الذين "مَضَوْا وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ". وآخرون قد يكونون مُعادين للمسيح. ولكن لاحظوا هذا: كلا الفئتين أخفقتا في تلبية الدعوة إلى وليمة العرس. سواء كان المرء غير مبالٍ ببساطة أو ضد المسيح فعلياً أو ضد إنجيل الله, فإن النهاية ستكون نفسها. السؤال نجده في (عبرانيين ٢: ٣): "فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ"، ولا نجد جواباً عليه. ليس من الضروري أن تكون معارضاً أو مقاوماً للمسيح حتى تكون ضالاً خاسراً إلى الأبد. وليس من الضروري أن تقول بشكل قاطع محدد: "أنا أرفض يسوع". مجرد إهمالك أو تجاهلك له سيمنعك من الحضور إلى الوليمة. "إن طريق التواني يقود إلى بيت الرفض". قد تقول: "يوماً ما عندما تكون الظروف مختلفة سوف أفكر بنفسي". ولكن للأسف بينما أنت تنتظر فرصة ملائمة أكثر، تأتي نهايةُ الحياة, وتجد نفسك مُغلَقاً عليك في الظلمة إلى الأبد.

في الآية التي تلي نقرأ: "فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ". بعد أن رُفِضَ المسيح وصُلِبَ, بقي الله منتظراً لمدة أربعين سنة على شعب إسرائيل ليتوبوا, ولكنهم لم يفعلوا. ثم أرسل جنوده. جنوده؟ نعم. إنه رب الجنود؛ وهو إله الجنود. وعندما كانت أمةٌ تُخطئ تجاهه إلى درجة أن يتعامل معهم بدينونة, كان يرسل جيوشه من أناس آخرين لِيُنـزل حكم قضائه عليهم. في هذا المثال، كانت الجيوش الرومانية هي التي سمح الله لها أن تغزوا الأرض وتدمّر أورشليم. الدمار النهائي لتلك المدينة كان تحقيقاً لكلمات الرب يسوع: "لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!" (متى ٢٤: ٢).

إن الآب يفكر كثيراً بابنه حتى أن الناس عندما يرفضونه متعمدين ويرتدون ويزدرون به, فإن سُخط الله يُثار. في تعاملاته مع إسرائيل هو الذي جعل أورشليم تُدمَّر, وبعثرَ الناس منذ ذلك الحين في كل أرجاء الدنيا. لقد أظهروا أنهم غير مستحقين للحياة الأبدية.

هل ستكون قاعة الطعام فارغة عند الله؟ ألن يكون هناك أحد يَقبَل دعوته ويكون حاضراً لأجل مجد ابنه؟ لا. إن الله سيرى أن وليمة العرس لابنه قد امتلأت بالضيوف, وسيجدهم في الأماكن غير المحتملة. ونقرأ: "ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ". والآن نرى الإنجيل يخرج إلى الأمميين. لقد حَظِيَ بنو إسرائيل بفرصتهم؛ لقد تلقوا دعوة إلى الوليمة, ولكنهم رفضوا قبولها. ولذلك يقول الله لخدّامه: "اخرجوا إلى التخوم والطرقات؛ اخرجوا وسط كل الفئات في كل مكان. مهما كانت حالة الناس, ومهما كانت نجاستهم, ومهما كانت درجة إثمهم وخطيئتهم, ادعوهم إلى وليمة العرس؛ ادعوهم ليأتوا". وهكذا نقرأ أن "خَرَجَ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَامْتَلأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ". إنها صورة حيوية موحية تدل على ما حدث بعد خراب أورشليم. لقد مضى خدّام الله من مكان إلى آخر من أرض إلى أخرى من مدينة إلى أخرى، وذهبوا إلى أقصى أرجاء الأرض. لقد ذهبوا إلى كل مكان, يدعون الناس، الفقراء والبؤساء والضالين ليأتوا إلى وليمة العرس التي أعدَّها الله لابنه. كثيرون قَبِلوا الدعوة ولكن ما أكثر الأمميين الذين رفضوا المسيح وأبَوا أن يأتوا! هل أنت أحد هؤلاء؟ لعلّك وُلِدتَ في عائلة مسيحية وسمِعتَ الرسالة طوال حياتك. ولعلَّ الاسم الأول الذي تعلّمتَ أن تلفظه بعد أن تعلّمت أن تقول "بابا" و"ماما",كان اسم يسوع؛ ومع ذلك فأنت لا تزال غير مخَلَّص, ولا تزال في الخطيئة وبدون المسيح. يا لَلخطر الجسيم الذي أنت قابعٌ فيه, لأنه مكتوب في كلمة الله: "اَلْكَثِيرُ التَّوَبُّخِ الْمُقَسِّي عُنُقَهُ بَغْتَةً يُكَسَّرُ وَلاَ شِفَاءَ" (أمثال ٢٩: ١). والآن, إن الله ينتظر في رحمة ونعمة أن يُخلِّصكَ. الدعوة قائمة. أفلا تأتي؟ ألا تتخذ المسيح لأجلك؟ غداً قد يكون الباب مغلقاً.

بعض الناس يقرّون بأنهم قَبِلوا دعوة الإنجيل ومع ذلك فإنهم لا يؤمنون حقاً بالمسيح كمخلِّص لهم. ونقرأ: "فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لاَبِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ". والآن بحسب العادات الشرقية تعلم أنه عندما يُقيم رجل عظيم وليمة زفاف لأحد أبناء عائلته, فإنه كان يمنح ثياباً خاصةً للضيوف ليلبسوها عندما كانوا يجلسون إلى مائدة الطعام. كان للجميع فرصة لأن يرتدوا لباس عرس. ولذلك اليوم يؤمِّن الله ثوب برٍ الجميع ملزمون بقبوله وارتدائه. لعلّك تقول : "لستُ مؤهلاً له وللسماء, ولستُ مؤهلاً لأن أُحصى بين المفديين". يا صديقي العزيز, لأنك غير مؤهل؛ لأنك خاطئ فإنك مدعو لأن تأتي وهو الذي يجعلك مؤهلاً. فهل تضع إيمانك بالمسيح مخلّصاً لك؟ "كل الأهلية التي يطلبها هي أن تشعر بحاجتك إليه". ولذلك فإن نقص الأهلية أو الاستحقاق لا مبرر له. عندما يأتي الخطاة في توبة, ويؤمنون بالمسيح, فعندها يُلبسهم رداء الخلاص, مع ثوب البر. هذا هو لباس العرس الذي يجعل المرءَ حسن الهندام واللباس في عشاء العرس.

كان هناك رجل واحد في هذه الوليمة أقرَّ بقبوله الدعوة, ولكنه لم يستفِد من لباس العرس. هذا الرجل كان مثل كثيرين من الذين يقولون اليوم: "لا أعتقد أني سيء جداً. أنا لست بحاجة إلى مخلّص؛ فأنا صالح بما فيه الكفاية كما أنا"- وهؤلاء أناس يثقون ببرهم الذاتي. نقرأ في رومية ١٠: ٣: "لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ".

أستطيع أن أتصور هذا الرجل داخلاً. وكان هناك خدّام الملك يسلّمون ثياباً إلى الضيوف ما أن يدخلوا من الباب. ولكن عندما دخل هذا الرجل بالذات قال: "لا أعتقد أنني في حاجة إلى أن أزعج نفسي بهذا الثوب. فقد اشتريتُ لي ثوباً خاصاً ولا أعتقد أني في حاجة إلى شيء آخر؛ إني حسَن المظهر كما أنا". "ولكن الملك نفسه قد قدَّم هذا الثوب وهو يريد من الجميع أن يرتدوه". هذا ما قاله أحد الخدّام. فيصرُّ الرجل قائلاً: "آه, أنا لا أظن أن هذا سيشكل فارقاً في حالتي؛ الملك سيكون راضياً عني كما أنا". فيسمح له الخادم بأن يدخل. ويأتي الوقت عندما يتجمع الضيوف إلى المائدة. فيدخل الملك, وينظر إلى الضيوف. فيرى هذا الرجل بدون لباس العرس، ويسأله: "يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ". لقد قبِلَ الدعوة إلى الوليمة, ولكنه رفض رداء العرس الذي قُدِّمَ له بروح سمحة. إنه يشبه كثيرين ممن ينضمون إلى الكنيسة ولكن لا يقتبلون المسيح مخلِّصاً شخصياً لهم. هذا يُظهر ما سيحدث يوماً ما عندما ينظر الملك إلى الضيوف. سوف يسأله: "يا صاح, لماذا لست مرتدياً لباس العرس؟ كيف تجرأت على أن تأخذ مكانك بين هؤلاء الذين يعترفون بالإيمان بابني بينما أنت لم تُولد ثانيةً بالفعل؟ كيف تجرؤ على أن تنضم إلى جماعة مسيحية وأنت لم تخلُص بعد؟" هذا ما يعنيه المثل. وفي ذلك اليوم ما من أحد سوف يجرؤ على أن ينطق بكلمة اعتذار. آه, إني أتخيَّل قليلاً هذا الرجل كيف كان قبل قليل على استعداد تام بأن يشرح الأمور لخدّام الملك. لقد دافع عن نفسه حسناً, ولكن عندما جاء إلى مواجهة الملك كان صامتاً أخرس. لعلّك تستند إلى أعمالك الصالحة لخلاص نفسك؛ ولعلّك تطمئن إلى حقيقة أنك قد انضممت إلى كنيسة ما, وربما في طفولتك, وتعتقد أنك ستمضي إلى السماء؛ أو لعلّك تكون مستنداً إلى حقيقة أنك قد اعتمدت وأنك تشارك في سر العشاء الرباني, كما نسميه, أو أنك قد أصلحت حياتك, وما عدت تعيش بالطريقة التي اعتدت أن تعيش عليها؛ ولكن "لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢)، سوى اسم يسوع.

لقد رفض شاول الطرسوسي في أحد الأيام لباس العرس. لقد كان يعتقد أنه كان مؤهلاً لله بدونه, وفكر أنه لم يكن في حاجة إلى المسيح؛ لقد كان لديه برٌ في ذاته. ولكن على طريق دمشق اكتشف أن كل برِّه كان مجرَّد أسمال رديئة بالية. لقد أمكنه أن يرى المسيح في المجد يجلس إلى يمين العزة الإلهية في السماء، فهتف قائلاً: "مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ". ذلك هو لباس العرس- بِرُّ الله بالإيمان, الذي يُقدَّم للجميع؛ ولكنه يُوضَع فقط على أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. هل أنت مُرتدٍ لباس العرس؟ إذا ما دخل الملك ليرى ضيوفه الليلة, هل سيقول لك: "يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟". عندها لن يكون لديك ما تقوله؛ وستكون ساكتاً. آهٍ, أليس من الأفضل لو أخذت مكانتك الحقيقية, في التوبة أمام الله واقتبال المسيح مخلّصاً لك؟ فلتعترفْ له الآن وقل "لمْ أُولَد من جديد". لا زلتُ في خطاياي رغم كل إقراري الديني؛ إني خاطئ ضائع ضال في حاجة إلى مخلّص". إن قمتَ بهذا الاعتراف والتجأتَ إليه, فإنه على استعداد لأن يخلِّصَكَ.

"حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ". هل تقول: "قد لا أكون من بين هؤلاء المُنتخبين"؟ إنك لن تكون كذلك ما لم تُلبّي النداء. إن الدعوة هي النداء. كم عدد المختارين؟ أولئك الذين يستجيبون للدعوة, أولئك الذين يقبلون عطيّة البر, أولئك الذين يؤمنون بالمسيح. ملايين يُدعَون, ولكن آلافاً فقط يُختارون لأن الغالبية العظمى ترفض أن تأخذ الله بكلمته.

هل ستتخذ المسيح مخلِّصاً لك الآن؟ إنك مدعو؛ وستكون من بين المختارين المنتخبين؟ فهلا سلّمتَ قلبَك له؟ إنه ينتظر جوابك. إن ترفض فإنك تبقى البائس التعيس الذي لن يتوقع سوى الظلمة البرانية ليترقبها. هذا يعني أن تُبعدَ عن حضور الله في عقاب أبدي.

يبدو أن هذا المثل لم يؤثر على قلوب الكثير من الذين سمعوا الرب يسوع من ذوي القلوب التي قسّتها الخطيئة, وهذا أمر واضح مما يلي ذلك مباشرة.

"حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا" (الآيات ١٥- ٢٢).

إذ نقرأ هذه الآيات فإننا نتعجّب من الطريقة التي كشف فيها الرب رياء وخداع القادة والزعماء في يهوذا, الذين كانوامدققين في الشكليات ومهتمين بأدق تفاصيل العبادة, ولكنهم لم يعرفوا شيئاً من المحبة الإلهية التي تتدفق إلى نفوسهم. إن ذاك الذي هو الحق متجسداً كان في وسطهم؛ ومع ذلك فكل ما فعلوه هو أن يحاولوا أن يبقوه خارجاً, إن أمكن, معتبرين إياه منتهكاً لناموس الله, وتقاليدهم الخاصة, لكيما يُضعِفوا ثقة الناس به, وهكذا يجدون سوء معاملتهم له برفضهم إياه مبررةً. ولكنه أدار النور موجهاً إياه إليهم, مُظهِراً الشر الذي كانوا يحاولون أن يغطونه بعباءة أو قناع التديّن.

لقد فكروا في أنفسهم "كيف يصطادونه بكلمة". لم يكن هناك صدق عند هؤلاء القادة المتدينين. لقد حاولوا أن ينصبوا فخاً ليسوع, آملين أن يتهموه بجرمٍ ما بطريقة ما تجعل الناس يحتقرونه أو يشكونه إلى الحاكم على أنه متمرد على السلطة الرومانية.

"الهيرودوسيين". هؤلاء كانوا يشكلون حزباً مؤيّداً للرومان ضمن اليهودية, وكانوا مرتشين وفاسدين وذوي فكر دنيوي بالكلية. هؤلاء كانوا قد انضموا إلى الفريسيين المُدّعين للتقوى, وجاؤوا ليوقعوا بيسوع. "يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ". لقد كانت محاولة ماكرة للإطراء على الرب يسوع ولإغوائه إلى قول شيء يمكن أن يستخدموه ضده.

"أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟". كان هذا السؤال موضع نقاش طويل في يهوذا. وكان الفريسيون يجيبون عليه عموماً بالنفي, والهيرودوسيين بالإيجاب, رغم أنهما كليهما كانا مطيعين للناموس.

"فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ". لقد "كان يعرف ما في الإنسان" (يوحنا ٢: ٢٥؛ ١٦: ٣٠)، فاشتمَّ في الحال رائحة النفاق والرياء عند هؤلاء السائلين الماكرين المخادعين.

"أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ". ما كانت تُستَخدم العملات الفلسطينية اليهودية لأجل هذه الغاية، بل عملة رومانية خاصّة كانت أعظم قيمة بكثير.

"«لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟»". هذه العملات كانت تحمل صورة الإمبراطور واسمه ومقامه الرفيع محفورين باللغة اللاتينية.

"أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ". في هذه الكلمات أجاب يسوع بشكل محدد عن سؤالهم بأن أظهر لهم أن شعب الله مسؤولٌ أمامه في الأمور الروحية, ولكن يجب أن يطيعوا السلطات في الأمور المدنية والوطنية.

"فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا". لقد أدركوا الصواب والحكمة في جوابه, ولكنهم لم يضمروا أية رغبة لأن يصبحوا تلاميذ له. لقد ابتعدوا عنه متعمدين وذلك سعياً منهم لتحقيق مكائدهم.

أن نشدّد على الجزء الأول من كلمات يسوع: "أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ"، بينما ننسى الجزء الأخير القائل: "مَا لِلَّهِ لِلَّهِ"، هو أن نُضِلَّ الحقيقة التي كان يؤكد عليها كلياً. هل نحن مهتمّون لموضوع الولاء لله على نفس مقدار اهتمامنا بالولاء للبلاد التي ننتمي إليها والحكومة التي نعيش تحت كنفها؟

أما الذين يأتون بعد ذلك فهم الصدوقيّون الماديون الذين يحاولون أن يضعوا يسوع في موقف معارض لناموس موسى، وأن يوقعوه في شرك النقاش حول إمكانية قيامة الأموات بالجسد.

"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ فَسَأَلُوهُ قَائِلين: «يَا مُعَلِّمُ قَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ أَحَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَوْلاَدٌ يَتَزَوَّجْ أَخُوهُ بِامْرَأَتِهِ وَيُقِمْ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ عِنْدَنَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ وَتَزَوَّجَ الأَوَّلُ وَمَاتَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ تَرَكَ امْرَأَتَهُ لأَخِيهِ. وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إِلَى السَّبْعَةِ. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ السَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ القَائِل: أَنَا إِلَهُ إِبْراهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ. لَيْسَ اللَّهُ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ». فَلَمَّا سَمِعَ الْجُمُوعُ بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ" (الآيات: ٢٣- ٣٣).

هناك تساؤلات حول إذا ما كان هناك حادث, أو سلسلة من الأحداث, قد حدثت فعلاً على الشكل الذي ظهر فيه هؤلاء الرجال أمام يسوع. قد تكون القصة بأكملها مُتخيَّلة, وقد وضِعَت للسخرية من عقيدة القيامة. فبحسب ما ذكروه، امرأة كانت زوجة على التتالي مع سبعة إخوة. كل واحد كان يقترن بها بعد موت أخيه الأكبر سناً منه. وأخيراً يُقال أن المرأة قد ماتت, بعد أن عمَّرت بعدهم. والسؤال الذي طرحوه هو عمن سيكون زوجاً لها في القيامة؟ لا شك أن هذا بدا سؤالاً لا جواب له بالنسبة لأولئك الناكرين الماكرين لحقيقة الحياة بعد الموت والقيامة الأخيرة. لقد وضعوا هذا السؤال ليُظهِروا تفاهة عقيدة الفريسيين التي كانوا يحسبون في أنفسهم أنهم أعلنوا أنها صحيحة فيما يتعلّق بهذا الموضوع المطروح (القيامة).

ولكن الرب أجابهم بطريقة ليُسكِتَ اعتراضاتهم, وذلك مقطع من الكتاب المقدس الذي كان يعترفون به على أنه موحى به, ألا وهو التوراة, أو الأسفار الموسوية الخمسة. لقد أعلن أن سؤالهم يستند إلى جهلهم بالكتابات المقدسة وبقدرة الخالق الكاملة غير المحدودة.

ثم أوردَ كلمات الرب (يهوه) لموسى عندما أعلن عن نفسه في العلّيقة التي كانت تلتهب ولا تحترق: فقد قال الله آنذاك: "ثُمَّ قَالَ: «أنَا إلَهُ أبِيكَ إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَاقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ»" (خروج ٣: ٦). فهو لم يَقُل: "أنا كنت إله هؤلاء البطاركة (الآباء) بينما كانوا يعيشون على الأرض". بل كان إلههم في الوقت الذي تحدث فيه إلى موسى، بعد قرون. إنه ليس إله أموات (أي, أناس اندثروا كلياً بالموت) بل إله الأحياء, لأن الجميع (وحتى لو كانوا قد ماتوا بالجسد) يعيشون له. وهذا يشمل بالضرورة قيامةً مستقبلية, لأن الله كان قد قطع وعوداً لإبراهيم واسحق ويعقوب الذين لم يُنفذ الوعد لهم خلال حياتهم على الأرض, ولكنه سوف يحقق وعده عندما يقومون ثانيةً من الأموات.

وعلى هذا لم يكن لدى الصدوقيين أي جواب, وبُهِتَت الجموع المحتشدة التي كانت تستمع إلى الطريقة التي أبكم بها يسوع أولئك الذين يُفترض أن يكونوا لاهوتيين أذكياء ماهرين.

والآن جاء دور الفريسيين ليستجوبوا يسوع. والسؤال الذي طرحه الناطق بلسانهم كان عدائياً في طابعه. لقد كان قد طُرِحَ لاستجرار الرب لكي يروا كم تتقاطع تعاليمه مع تلك التي في ناموس موسى, أو فيما إذا كانت تتعارض معه. 

"أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ اجْتَمَعُوا مَعاً وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ نَامُوسِيٌّ لِيُجَرِّبَهُ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَﭐلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ»" (الآيات: ٣٤- ٤٠).

"أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ". لقد أخرس يسوع هؤلاء الماديين بتعليمه عن قيامة الموتى التي كان الصدوقيون ينكرونها والفريسيون يؤمنون بها.

"سَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ نَامُوسِيٌّ لِيُجَرِّبَهُ". من الواضح أن هذا الرجل كان خبيراً بناموس موسى, وكان يسعى إلى تشويش وإرباك يسوع بطرح سؤال لطالما تجادل حوله الكثير من المسؤولين اليهود لقرون, بالنسبة إلى الأهمية النسبية لكل وصية من الوصايا العشر.

"تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ". لقد أجاب يسوع بأن اقتبس من تثنية ٦: ٥. إن كان الله محبوباً للغاية فما من أحد سوف ينتهك أياً من وصاياه. وهذا يشمل بشكل خاص اللوح الأول من الناموس, الذي يحدد واجب الإنسان تجاه الله.

"الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى". أن تنتهك هذه, إذاً, في التدبير الناموسي, هو أعظم من كل الخطايا.

"تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". لقد كان هذا اقتباساً من تثنية ١٩: ١٨، ويغطي كل اللوح الثاني، لأن "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ" (رومية ١٣: ١٠). فمن يحب البشر على هذا النحو سوف لن ينتهك أي ناموس أو قانون له علاقة بحقوق الآخرين (رومية ١٣: ٨، ٩).

"بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ". حيث تسود المحبة فكل شيء آخر سيكون كما يجب, لأنه ما من أحد يحب الله حقاً وقريبه سوف يُسيء عن عمد لأي منهما (متى ٧: ١٢). إن كل الناموس والأنبياء يتعلقان بهاتين الوصيتين اللتين ذكرهما يسوع, لأن كل خطيئة قد نرتكبها هي إما خطأ بحق الله نفسه أو بحق إخوتنا البشر. إن الخلاص المُقدَّم لنا هو كفّارة بالدرجة الأولى, أو ذبيحة استرضائية, للتعويض عن كل خطايانا, ثم يُمكّننا التجديد من أن نحب الله وقريبنا لدرجة نتوقف معها عن ارتكاب الخطيئة.

عندما يكون القلب في وضع سليم مع الله, ويكون الله موضع محبة فائقة, فإن الإنسان نفسه سوف يكون محبوباً بطريقة لا أنانية فيها, وهكذا تصبح كل الحياة مرتّبة في طاعة للكلمة الإلهية. المحبة تبتهج بخدمة المحبوب, وبالتالي تحفظ من كل ما يُحزن الله أو يؤذي قريب المرء. ولكن ما من إنسان طبيعي قد حقق الناموس على هذا النحو. إن الأنانية المتأصِّلة في طبيعتنا نفسها تجعل هذا الأمر مستحيلاً. عندما نتجدد بالنعمة الإلهية, فإن محبة الله تشرق في القلب بالروح القدس (رومية ٥: ٥). إن تعليم ربنا كان بغاية أن يُدين الخطيئة وأن يُظهر الحاجة إلى التجدد. لقد صار الإنسان مقصيّاً عن الله من خلال السقوط. وعندما يُولَدُ من جديد بالكلمة والروح القدس, فإنه يتلقى حياةً أبدية. إن طبيعة هذه الحياة الجديدة هي أن تحب, لأنها من الله (٢ بطرس ١: ٤). ولذلك فإن المحبة تصبح المبدأ المسيطر على حياة الإنسان في المسيح. وإذ نسلك ليس بحسب الجسد بل بحسب الروح, فإن بر الناموس يصل إلى تحقيقه فيه (أي في المسيح) (رومية ٨: ٤), ويجد أنه من السهل أن يحب المرء الله وقريبه كما كان يجد سابقاً أنه من السهل أن يُحب بدافع الأنانية والإرادة الرديئة نحو الآخرين. إن قوة جديدة تسيطر عليه. وهذا هو الدليل الإيجابي على الولادة الجديدة (١ يوحنا ٣: ١٤؛ ٥: ١, ٢).

إذ أجاب يسوع على كل الأسئلة المطروحة عليه, فإنه قلَبَ السحر على الساحر, فأربك خصومه عندما سأل طرفين منهم:

"وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐبْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً" (الآيات: ٤١- ٤٦).

"«مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟»". هذان السؤالان لن يموتا أبداً. فبعد حوالي عشرين قرناً منذ طرَحَهُما يسوع لا يزالان يُقلقان الناس, ولا يزالان يتطلبان إجابات صادقة من كل إنسان تأتي إليه رسالة الإنجيل. لأن ذلك الإنجيل يتعلق بذاك الذي هو ابن الله وابن داود (رومية ١: ١- ٤). بحسب الكتابات المقدسة, المسيح- أي المسيا, ملك إسرائيل الموعود- كان أكثر من مجرد إنسان. "مَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ". هكذا أعلن ميخا عندما تنبأ عن المكان الذي سيُولَد فيه (المسيح) (ميخا ٥: ٢). بحسب المزمور الثاني يعترف به (يهوه الرب) على أنه ابنه. نصوص كتابية كثيرة تشهد على نفس الأمر- وهي الكتابات المقدسة التي كانت معروفة لأولئك الفريسيين. إن الفريسيين, متجاهلين المقاطع التي تشير إلى أبوته الإلهية, أجابوا قائلين: "ابن داود".

لقد كان هذا حقيقياً, ولكن لم يكن هو كل الحقيقة. ولذلك لفَتَ يسوع انتباههم إلى المزمور ١١٠ حيث يتحدث داود نفسه عن المسيا على أنه ربه (قائلاً): "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ". من المعروف جيداً أن كلمة "الرب" في العهد الجديد هي من كلمة "يهوه" التي في العهد القديم، وأن الكلمة الأخرى التي تشير إلى الرب تعني "المعلم". وهكذا فإن داود, وإذ كان ينظر مسبقاً بالروح إلى تمجيد وتعظيم ابنه يراه جالساً على يمين الله (يهوه), ويعترف به رباً له. كيف يمكن تفسير ذلك؟ لم يكن لدى الفريسيين أي جواب, ولم يجرؤ أحد بعد ذلك أن يسأل يسوع أية أسئلة أخرى.

إنه أمر رهيب أن يكون المرء مصمماً للغاية على أن يسلك الطريق التي يرفض القلب فيها أن ينحني أمام أوضح كلمات واردة في الكتاب المقدس.

الأصحاح ٢٣

التهم الموجهة إلى الملك

بينما جاء الرب يسوع، لا ليدين العالم بل ليخلّص الذين سيؤمنون به، فقد عبّر عن نفسه بجلال كبير إزاء أولئك، الذين يُعترف بهم حراسٌ للكتابات المقدسة، الذين نجدهم يعيشون في نفاق ورياء ويعارضون الحق الذي أعلنه، وهكذا يضللون أتباعهم الغافلين. ومع ذلك ورغم أنه من المفترض أن يكونوا قرّاء الناموس في المجمَع فقد جعل الناس ينتبهون إلى كلمة الله التي اعترفوا بأنهم يكرِّمونها, ولكن أن ينتبهوا وأن يكونوا حريصين لئلا يُحاكوا الحياة الفاسدة لأولئك الذين يبسطون ويفسرون كلمة الله تلك.

"حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَﭐلتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ. فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ" (الآيات ١- ١٢).

 إن التعبير "كرسي موسى" يشير إلى المكان حيث كان الفريسيون والكتبة يشغلونه كمعلمين مميزين ومُعتَرَف بهم للناموس المُعطى بموسى. عندما كانوا يقرأون ويفسرون التعاليم الأخلاقية لمستمعيهم كانوا مسؤولين عن إطاعة الكلمة, ليس بسبب أية سلطة متأصلة منوطة بهم, بل بسبب الحق الذي جعلوه معروفاً. ولكن يسوع أوضح فارقاً وتمييزاً قائماً بين كلماتهم وطرق عيشهم. لقد كانوا يشرحون ويفسرون للآخرين ما لم يحاولوا هم أنفسهم أن يمارسوه. إنه أمرٌ مريع لأولئك الذين يشغَلون منصِب الوعاظ أو الكارزين أو المعلمين للكلمة الذين يتاجرون بالحقيقة ببساطة ولا تؤثر على حياتهم الذاتية.

قادةُ إسرائيل هؤلاء كانوا يشكلون طبقةً إكليريكيةً تشجبُ صراحةً وعلناً خطايا وذلات الناس عموماً, ولكنهم كانوا راضين قانعين بمجرد الانتباه الشكلي الحرفي إلى العلامات الخارجية الظاهرية للدين. ولكنهم ما كانوا يعرفون شيئاً عن التقوى الحقيقية والقداسة في القلب والحياة.

ما كانوا يهتمون بالحصول على تأييد الله لهم، الذي كانوا يُقرِّون بأنهم يكرِّمونه, بل كانوا على الدوام يسعون وراء استحسان الناس. إن هناك دائماً فخ عندما يشعر المرء بأن لديه شهرة معينة بالصلاح ليحافظ عليها أمام رفقائه وأقرانه. من السهل على المرء أن يستسلم أمام إغواء محاولة الظهور كمتديّن أكثر مما هو في الواقع. الأمر الوحيد الصحيح هو أن نعيش أمام الله وألا نكون مبالين أبداً بإطراء الناس أو بلومهم لنا.

لقد كان الفريسيون يسعون للفت انتباه الناس إلى تديُّنهم حتى من خلال ملابسهم. فإذ كانوا يرتدون تمائم واضحة بيّنة بدَوا وكأنهم أكثر توقيراً واحتراماً للكتابات المقدسة من غيرهم وإذ كانوا يجعلون أهداب ثيابهم كبيرة بشكل واضح بارز فإنهم كانوا يُسرَّون بتقديم الناس الوقار الملائم لهم؛ ولذلك فقد كانوا يُعطَون المجالس الأولى في الولائم المعينة وفي الخدمات في المجمع؛ بينما في الأماكن العامة كانوا يُحَيَّون ويُسلَّم عليهم باستخدام ألقاب جليلة للغاية أو بلقب "سيدي الرباي". مَن مِنا يُخفق في أن يرى في كل هذا صورة عما هو شائع اليوم في الكثير من الدوائر الكنسية؟

لقد حذَّر يسوع التلاميذ ضد كل هذه المظاهر الخارجية للتقوى: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي". ما كان عليهم أن يسعوا وراء اعتراف وتكريم من رفقائهم وأقرانهم بل كان عليهم أن يدركوا أن المسيح نفسه هو من كان معلّمهم أوسيدهم وأنهم ما كانوا إلا إخوة- جميعهم يشكلون عائلة كبيرة واحدة. وإذ كانوا مولودين من فوق كان عليهم ألا يدعوا إنساناً أباً على الأرض, لأن الله نفسه كان أباهم. فليس من المُستغرب أن هذا المطلب المحدد قد تجاهله بشكل فاضح أولئك الذين يُنادون كهنتهم بـ "أب"؟

بسبب الاستعداد الذي أبداه تلاميذه من حيث الميل إلى طلب التكريم من الآخرين، كرر يسوع التحذير أن: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ". إن الكلمة تعني فعلياً "قائد"، ولكن فُهمت أساساً كـ "معلم" أو "سيد".

 بالطبع، لم يكن يسوع يقصد أن على أتباعه أن يحتقروا المواهب التي يعطيهم إياها- ومن بينها المعلمين, رغم اختلاف الكلمة المُستخدمة- والذين يعترف بهم ويقدِّرهم القديسون لأنهم قد وهِبوا لأجل تنويرهم. ولكن ليس علينا أن نكتفي بالاعجاب بشخص الناس بسبب الفائدة الدنيوية منهم.

من جهة أولئك الذين أُوكِلَت إليهم خدمة خاصة يجب ألا يكون لديهم سعي نحو تحقيق الذات وتعظيم الذات, بل الخدمة في محبة متتبّعين مثال يسوع. من رفع نفسه يُنـزل في الوقت المناسب, ومن يتضع سيرفعه الرب الذي يُقيّم كل خدمة قام بها أي إنسان بعين المساواة لمجده.

تلي ذلك ثماني ويلات, يفيضها الرب في إدانةٍ على أولئك القادة المتدينين الذين تتعارض روحهم وسلوكهم بشكل فظيع مع اعترافهم. الويل الأولى نجدها في الآية ١٣:

"لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!".

هذه الدينونة تُطلَق بسبب المعارضة لكلمة الملكوت, التي ما كانوا يهتمون بها, وحاولوا أن يعيقوا الآخرين من أن يهتموا بها. إنه أمر خطير أن تقف حائلاً أمام أي شخص قد يكون مستعداً لدخول ملكوت السموات.

الويل الثانية كانت ضد أولئك الذين كانوا يستخدمون الاعتراف بالإيمان والمظهر الخارجي للتقوى كقناعٍ أو عباءةٍ.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ".

يخبرنا سليمان أن صلاة الشرير أمر بغيض عند الرب (أمثال ٢٨: ٩). فكم بالحري عندما تُستخدم هذه الصلاة للإيحاء للناس بالقداسة بينما يكون المرء عائشاً في نفاق ورياء.

الويل الثالثة هي ضد إدخال أناس جدد في الدين بينما هم أنفسهم كاذبين منافقين.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً!".

إنها إحدى ميزات التعصب الديني عموماً أن يكونوا مهتمين جداً بالحصول على أتباع ومناصرين ومشيعين لاعتقاداتهم الخاصة أكثر من ربح النفوس الضالة إلى المسيح. أولئك الفاسدين هكذا يصبحون مناصرين متحمسين للمنظومة التي يطابقون أنفسهم معها, وكقاعدة فإنهم يثقون بارتباطهم بهم من أجل خلاص نهائي, وهكذا يدخلون إلى حالة أسوأ مما قبل اهتدائهم. إنه أمر صعب أن تصل إل المناصرين لبدعة زائفة وأن توقظهم أكثر من أن تأتي بأناس دنيويين آثمين ليروا حالتهم الخاطئة الضالة وحاجتهم إلى الخلاص.

الويل الرابعة هي ضد أولئك الذين يحلفون باطلاً وتجديفاً:

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: اَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: اَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!" (الآيات ١٦- ٢٢).

إحدى أهم الأدلة المذهلة الصادمة عن المحاكمة العقلية غير المنطقية التي يمارسها شخص هي عندما يضع ثقلاً أعظم على أشياء ثانوية أكثر من تلك الأشياء ذات الأهمية الأساسية. هؤلاء القادة العميان, كما دعاهم يسوع, يضعون ثِقلاً أكثر على الذهب الذي كان الهيكل مبنياً منه ليُزخرف ويُجمَّل به أكثر من المَقدِس نفسه؛ ولذلك، فبالنسبة لهم، أن يحلِفَ المرء بذهب الهيكل كان يعني أكثر من أن يحلِفَ بالمبنى المقدس نفسه الذي كان الله يسكن فيه في القديم.

وبنفس الروح كانوا يضعون ثقلاً وقداسةً على القربان أكثر من المذبح؛ في حين أن المذبح الذي كانت توضع عليه التقدمات هو الذي يقدّس القربان. ذلك المذبح كان يرمز إلى المسيح, والتقدمات والذبائح كانت تمثّل جوانب مختلفة من عمله. ولكن كان عليه أن يكون من كان, الابن الأزلي لابن الله الذي صار جسداً, لكي يقوم بما فعل. أن تحلف بالمذبح كان أن تحلف بكل ما كان يُوضع عليه, وأن تحلف بالهيكل كان يعني أنك تحلف بذاك الذي كان يسكن فيه, وكذلك الأمر أن تحلف بالسماء (الأمر الأكثر شيوعاً) هو بمثابة أن تحلف بعرش الله وبذاك الذي يجلس عليه. كل هكذا حلْف كان محظوراً قطعياً من قِبَل الرب في مناسبة سابقة (متى ٥: ٣٣- ٣٧).

الويل الخامسة تُطلق على أولئك الذين كانوا ميالين إلى التأكيد الزائد على التفاصيل التافهة للناموس بينما يتجاهلون كلياً المسائل الأهم المتعلقة به.

"!وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!" (الآيات ٢٣- ٢٤).

إن العُشور المترتبة وحتى عن أرخص الأعشاب كانت شرعيةً تماماً بحسب الناموس نفسه, ولكن أن نضع ثِقَلاً على هذا وأن نُذيع ذلك وكأنه وسواس لافت, بينما نهمل الأمور ذات الأهمية الأعظم بكثير, إنما يشير إلى ضمير كان غير مروَّض وروح متمردة على الله. إن الله ليود من أولئك الذين يُقرّون بالطاعة لناموسه أن يكونوا حريصين على أن يمارسوا حُسن التمييز والرحمة والإيمان. من يمارس هذا سوف لن يهمل أشياء أقل ثقلاً وأقل أهمية.

الويل السادسة كانت ضد أولئك الذين يُعطون قيمة كبيرة للتطهيرات الشعائرية، بينما يُغفلون أهمية القلب النقي والحياة الطاهرة.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً" (الآيات ٢٥- ٢٦).

لقد كانوا يُشبَّهون برب بيت كان حريصاً على أن تكون كؤوسه وأوانيه الأخرى نظيفة من الخارج, بينما من الداخل هي قذِرة ونجِسة. إن الله يرغب أن تكون الحقيقة في الداخل. فحيث يتنقى القلب بالإيمان يكون السلوك الظاهري الخارجي في توافق معه.

الويل السابعة مشابهة نوعاً ما لما سبق، ولكن فيها إدانة أكبر للتساهل الذي يخفي فساداً بينما يدّعي التقوى والتكرّس.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً وَلَكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!" (الآيات ٢٧- ٢٨).

هؤلاء المراؤون كانوا موضع إعجابٍ وتبجيلٍ كمِثل القبور المكلَّسة التي تظهر جميلةً وأحياناً فخمة في نظر الناس, ولكنها مملوءة بالجثث المتفسخة والنجاسة. هكذا أولئك الذين يبدون بارّين أمام الناس ولكنهم مليئون بالرياء والإثم.

الويل الأخيرة، التي تشكّل ثمانية كاملة من شجب النفاق، قد أُطلِقت على أولئك الذين كانوا يكرمون ذكرى الأنبياء السابقين بينما يأبون أن يطيعوا كلماتهم.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ! فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟" (الآيات ٢٩- ٣٣).

كم كان خطأً فاضحاً مميزاً عند أولئك المرّائين المدَّعين بأنهم يقدّرون الشهادة الصادقة لرجال الله في القرون الماضية! فتماماً كما أن نسل هؤلاء الذين شوَّهوا سمعة مارتن لوثر في عصره وجيله يتنافسون الآن مع بعضهم في الثناء على عبقريَّته وعلى جُرأته, أو كمثل هؤلاء الأولاد الذين كانوا يمقتون الموقف الذي اتخذه أبراهام لينكولن هم الآن يُطرون عليه بكل ما استطاعوا, هكذا فإن هؤلاء الفريسيين كانوا يبجلون ذكرى أشعياء الذي كان آباءهم قد مزقوه إرباً, أو إرميا الذي كان قد سُجِن في زنـزانة نتِنة على يد القادة الدينيين في عصره, أو زكريا الذي قُتِلَ ذبحاً بين رواق الهيكل والمذبح على يد معارضين غيوريين كان النبي قد انتقدهم. ومع ذلك فلم يكن هناك أي برهان على أن هؤلاء الكتبة والفريسيين قد قَبِلوا وسلكوا بحسب التحذيرات التي قدَّمها هؤلاء الذين زخرفوا قبورهم, ولكنهم أظهروا بموقفهم نحو الملك الذي في وسطهم أنهم كانوا من نفس الروح كمِثل آبائهم الآثمين غير الأتقياء.

بينما يتبجّحون بأنهم لوكانوا أحياء في أيام الزمن القديم فإن تجاوبهم كان سيكون مختلفاً, فإن موقفهم الحالي برهن العكس. لقد وصلوا إلى ملء قامة آبائهم في رفضهم الأخير لرب المجد.

ولذلك فإن دينونة مستحقة في محلِّها كانت تنتظرهم. لقد كانت كلماتهم وسلوكهم تبرهن أنهم جيل من الأفاعي, نسلُ الحيّة- تلك الحيّة القديمة التي هي الشرير والشيطان- فأنّى لهم إذاً أن يهربوا من المشاركة في الدينونة المحكوم عليهم بها؟

ثم يُبرز الرب بإيجاز إثم ذلك الجيل غير المؤمن ويعلن مصيرهم المشؤوم.

"لِذَلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هَذَا الْجِيلِ!" (الآيات ٣٤- ٣٦).

رسولٌ بعد رسولٍ أرسله الله إلى إسرائيل, ولكنهم كانوا يرفضونهم ويزدرون بهم جميعاً. وسيفعلون نفس الشيء بأولئك الذين يوبخونهم على خطاياهم وعلى نفاقهم وريائهم. أخلاقياً ما كانوا مختلفين عن أولئك الذين سفكوا دم كل الأبرار من هابيل إلى آخر الأنبياء. كانت قلوبُهم قد بقيت على حالها لم تتبدل، وضمائرهم تحجَّرت؛ ولذلك فإن غضب الله لا بدَّ أن ينصبَّ عليهم.

رغم أن الله ما كان ليفعل غير ذلك, بتناغمٍ مع شخصه المقدس, فكان لا بدَّ أن يتعامل معهم في دينونة بسبب شرورهم, التي أحزنت قلب الرب عليهم وكان يتوق إلى تحريرهم وإعتاقهم. إنه لأمر محزن هو ذلك الرثاء الذي ختم به حديثه الأكثر جلالاً ومهابةً.

"«يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا وَلَمْ تُرِيدُوا. هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!»" (الآيات ٣٧- ٣٩).

إن أورشليم, مدينة الملك العظيم, لم تعرف زمن افتقادها. ذاك الذي كان سينقذها ويخلَّصها ويأتي بها إلى بركات الملك الموعود, كان بينهم ولم يعرفوه. لو أنهم انتبهوا إليه والتجأوا إليه في توبة لكان نجّاهم من الدينونة كدجاجة تحمي صغارها من الصقر الذي يسعى ليُهلِكَهم. ولكنهم ما كانوا ليقتبلونه. لقد كانوا مسؤولين, بالتالي, عن دينونتهم الذاتية.

لأنهم رفضوه, فقد رفضهم بدوره كشعب للوقت الحالي. سوف لن يروه من ذلك الآن فصاعداً إلى أن يكونوا مستعدين للاعتراف به كملك لهم, صارخين وقائلين بكلمات المزمور ١١٨ التي بها "الفقير في الخطيّة" قد حيَّاهُ وهو يمتطي جحشاً داخلاً إلى المدينة قبل بضعة أيام, قائلين "مباركٌ الآتي باسم الرب".

قبل ذلك اليوم، كل تدبير النعمة هذا- أي الفترة من الإعلان عن سر الكنيسة كجسد المسيح- كان سيأتي. في الوقت الحالي يجمع الله الأمم جميعاً إلى اسم ابنه؛ وإلى أن يتم انجاز ذلك العمل, فإن بني إسرائيل سينظرون إليه، ذاك الذي طعنوه، وينادون به فادياً وملكاً.

Pages