November 2013

الأصحاح ٥

العرش والحمل المذبوح

الارتباط بين الأصحاح ٤، و٥، و٦

في الأصحاح السابق شهدنا العرش الواسع والمجيد للسرمدي، رمز السلطة الحاكمة لله على كل أرجاء الكون. وحوله كل الأشخاص والأشياء متجمعة في أماكنها المتمايزة الخاصة بكل منها. الفكرة الرئيسية من الأصحاح هي الله الحاكم المطلق على كل الخليقة والذي يحكم بحسب طبيعته وعلى أساس البر الأبدي. إنه ليس جزءاً من الكلمة الإلهية التي تثير عواطف النفس. بل بالحري إنه رؤيا تمتص كياننا كمخلوقات. الرؤيا تبقى، والمشهد لا يتبدل، وكذلك المجد بأية حال من الأحوال لا يتعتم إضافة إلى الحقائق الأخرى المحتواة في الأصحاح ٥ التي نجدها أمامنا.

هناك ارتباط وثيق بين الأصحاحات ٤ و٥ و٦. السلسلة الأولى من الدينونات تُلاحظ في الأصحاح ٦. الشخصية البارزة فيه هو الحمل، بينما العرش كما رأيناه في الأصحاح ٤ هو مصدر الدينونات. لدينا هنا استمرارية للرؤيا التي رآها الرائي للتو، مع اثنتين من الملامح البارزة والإضافية، أعني بها، السفر ذي الأختام السبعة، والحمل المذبوح. لعله يمكننا القول أنه في هذا الأصحاح، واستعداداً للتصرف الملائم الذي يتكلم عنه هذا السفر، أي الدينونة، جلالة الأسد ووداعة الحمل مندمجان مترابطان ومتمركزان في ذاك الذي هو وحده جدير بأن يحمل هذين المجدين المضاعفين.

هذا الأصحاح الكبير مقسم إلى أربعة أقسام: الاثنان الأولان يُستهلان بالكلمات "رأيتُ" (الآيات ١، ٢)؛ والقسمان التاليان يُستهلان بكلمة "نظرتُ" (الآيات ٦، ١١). باختصار، المواضيع هي: أولاً السفر، ثانياً التحدي، ثالثاً النشيد، ورابعاً العبادة.

السفر ذو السبعة أختام:

١- "وَرَأَيْتُ عَلَى يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش سفْراً مَكْتُوباً منْ دَاخلٍ وَمنْ وَرَاءٍ، مَخْتُوماً بسَبْعَة خُتُومٍ". هذا السفر أو الدرج، بالطبع، هو رمز. سفر الحياة (٣: ٥؛ ١٣: ٨) هو سجلٌ بالأسماء؛ أسفار الأعمال (٢٠: ١٢) هي السجلات الإلهية لتصرفات البشر. ولكن السفر الذي رآه الرائي يحوي كامل إعلان هدف الله ومشورته المتعلقان بالعالم. إنه يحتوي على تاريخ المستقبل، ويعطينا خطوات متتالية ضرورية لافتتاح الملكوت العالمي للمسيح. الله على وشك أن يجلب من جديد ابنه الوحيد إلى العالم وسط هتاف الملائكة (عب ١: ٦)، والدرج ذو السبعة أختام يكشف كيف سيحدث هذا. محتويات السفر تُغطي الفترة من بدء فتح الختم الأول (الأصحاح ٦) إلى نهاية فترة الحكم في الملكوت وبدء الحالة الأبدية (١١: ١٨).

السفر موضوع إلى يمين الأبدي. موضع الدرج كان في انسجام ملائم لإعلان الملاك (الآية ٢)؛ وفي ذاته هناك تحدٍ للكون لأن يستحق الدنو إلى مكان الشرف الرفيع (مز ١١٠: ١؛ أفسس ١: ٢٠) وأن يأخذ السفر.

السفر أو الدرج كان "مَكْتُوباً منْ دَاخلٍ وَمنْ وَرَاءٍ" ١. وهذا يعني أن كل مشورة الله في ما يتعلق بهذا العالم قد كُشف عنه في الداخل؛ ولن تُمنح أية إعلانات أخرى تتعلق بأهداف الله. هذا السفر قد كُتب بأكمله (قارن مع حزقيال ٢: ١٠).

١- "مَخْتُوماً بسَبْعَة خُتُومٍ". كل ختم يكون نهاية لجزء معين من السفر؛ ومن هنا فإن المحتويات قد أُعلن عنها بشكل متتالي مع فتح الأختام بالتسلسل. ولكن كل شيء محتجب بشكل مطلق عن الناس والملائكة إلى أن يفتحه الحمل. الـ "سَبْعَة خُتُوم" تُعبر عن كمال مشورات الله المحتجبة بأمان في الفكر الإلهي إلى أن يكشفها الحمل علانية. دانيال النبي (١٢: ٤) كان قد أُمر أن "أَخْفِ الْكَلاَمَ وَاخْتِمِ السِّفْرَ إِلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ"؛ بينما الرائي في بطمس (رؤيا ٢٢: ١٠) يُطلب منه العكس تماماً: "لاَ تَخْتِمْ عَلَى أَقْوَالِ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ". السابق كان ليُختم؛ والأخير ما كان ليُختم. حتى دانيال، الذي كان متميزاً عن كل معاصريه بفضل الإعلانات العديدة والبعيدة المدى والرؤى التي أُعطيت له، يقول: "أَنَا سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ" (١٢: ٨، ٩). ولكن الآن قرأنا أن "الْوَقْتَ قَرِيبٌ"، وليس "النهاية" قريبة. سفر النبوءة يُعلن بشكل كامل وبشكل علني. بالنسبة لنا، السفر ذو السَبْعَة خُتُوم مع الإعلان الدقيق والكامل فيه عن المستقبل، ما عاد سراً خفياً. والنبوءة، التي كان يوماً سريةً، ما عادت كذلك.

تحدي الملاك:

٢، ٣- "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً قَويّاً يُنَادي بصَوْتٍ عَظيمٍ: «مَنْ هُوَ مُسْتَحقٌّ أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطعْ أَحَدٌ في السَّمَاء وَلاَ عَلَى الأَرْض وَلاَ تَحْتَ الأَرْض أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْه". يجب لفت انتباه الكون الأخلاقي والذكي إلى السفر الذي في راحة يد الجالس على العرش. الملائكة "مُقْتَدِرِونَ قُوَّةً" (مزمور ١٠٣: ٢٠)، ولكنهم يستخدمون قدرتهم فقط في طريق الإطاعة الفورية لإرادة الخالق. كل واحد من القوات الملائكية التي لا يُحصى عددها يُرى في حالة اتكالية على الله الذي عمل مسرته هو خدمتهم السعيدة. كل الملائكة أقوياء، ولكن هناك صفوف، ورتب، وطبقات بينهم. هناك ملائكة بارزون وسط رفقائهم، مثل جبرائيل، ميخائيل، الخ ٢. الصوت العالي لأحد هؤلاء الملائكة الأقوياء يخترق أقصى حدود الكون، ويصلوا إلى "السماء"، مسكن الله؛ "الأرض"، مسكن الناس؛ و"تحت الأرض"، مسكن المخلوقات الملائكية الأخرى. هذه التعابير الثلاثة تدل على امتداد الكون. فصوت الملاك يصل إلى كل مكان وكل كائن.

٢- "مَنْ هُوَ مُسْتَحقٌّ أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ؟" لم يكن هناك مقدرة أو كفاءة أخلاقية كافية للإجابة على إعلان الملاك. الكون بكل أجزائه- "ممالك الخلق الثلاثة" (فيلبي ٢: ١٠)- ليس فيه ولو كائن واحد كفؤ ليكشف ويجري مشورات الله. "ما من إنسان"؛ "ما من أحدٍ". "أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ" يُعتبران أمران منفصلان. الترتيب الطبيعي كان يجب أن يكون بأن يُفك الختم أولاً لكي يُفتح السفر. إعلان الملاك هو لفتح السفر كي يكشف عن محتوياته؛ وفتح الختوم، وتنفيذها كما في الأصحاح ٦. القوة الأخلاقية للأفعال هي نقطة التركيز. التحدي لا يمكن مجابهته. المباشرة في العمل كانت تتطلب استحقاقاً أخلاقياً ومقدرة مبرهنة ما كانت موجودة عند أي من الكائنات المخلوقة.

استحقاق الحمل:

٤، ٥- "فَصرْتُ أَنَا أَبْكي كَثيراً، لأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مُسْتَحقّاً أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَقْرَأَهُ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْه. فَقَالَ لي وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ: «لاَ تَبْك. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، ليَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ»". حزن الرائي يظهره بشكل مركز استخدام الضمير "أنا" وهو ضمير توكيدي في اللغة. "صرْتُ أَنَا أَبْكي كَثيراً". يوحنا هنا يُعتبر ممثلاً للشعور النبوي في "زمن النهاية"، أو "الأيام الأخيرة". تتحرك روحه في داخله عندما تقع عيناه على السفر المختوم الواقع في اليد المفتوحة لذاك الجالس على العرش، حيث لا أحد في الخلق الواسع لله كفؤ لإعلان محتويات الختم وتنفيذها. دموع يوحنا وُصفت بأنها "ضعف المخلوق"، ولكن إن كانت عبارة "بكي كثيراً" تدل أحياناً على الضعف، فإنها تعادل التعبير عن المشاعر التقية والبارة. قال أحدهم: "بدون الدموع ما كانت الرؤيا لتُكتب، وبدون الدموع لا يمكن أن تُفهم". ولكن كان يجب فتح السفر. وبما أن عبادة الطغمات الأسمى والأعلى والمعرفة الحميمة لفكر الله هي مواصفات الشيوخ المحتشدين والممجدين أو ممثلي المفتدين، فإن أحد هؤلاء الشيوخ الذين يُعزون الرائي الباكي للفت انتباهه إلى ذاك المؤهل تماماً بكشف المشورات الإلهية وتنفيذها بانتصار. من يكون ذاك؟ إنه الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ. ما الذي فعله؟ لقد تغلب على كل قوة روحية بموته على الصليب. ومن هنا فإن له حق لا يُنازعه عليه أحد في نفسه، وأيضاً بسبب ما فعله، لأن يتقدم إلى يمين الأبدي، ويأخذ السفر، ويُجري مشورات الله.

٥- "الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا". (تكوين ٤٩: ٩). البطريرك المحتضر، ومهما كانت رائعة رؤياه الروحية، ما كان ليمكنه أن يحلم بأن تنبؤه المجيد (الآيات ٨- ١٠) كانت تشير إلى مجيء المسيّا بعد أربة آلاف سنة تقريباً، ذاك الذي سيضمن بقدرته الجبارة، وجلاله، وسيادته المطلقة، البركة لإسرائيل ولكل الأرض. في شخصه كشبه أسد يسحق كل قوة مناوءة، ويؤسس الملكوت العالمي على آثار كل معارضة. هنا الجدارة والقدرة مندمجتان.

٥- ولكن لقباً يُستخدم هنا للدلالة إلى ربنا: "أَصْلُ دَاوُدَ". لماذا داود؟ ولماذا ليس موسى ولا إبراهيم؟ إن داود هو ممثّل الملكية. موسى ممثّل الناموس. وإبراهيم وديعة الوعد أو العهد. والآن نجد هذين الأصحاحين (٤ و٥) يتناولان موضوعاً رئيسياً ألا وهو حقوق الملكوت وأمجاد المسيح. العروش والتيجان يُشار إليها كثيراً، وبالحقيقة تميز هذا الجزء المهيب من الرؤيا. ومن هنا، وبما أن تقديم الملكوت هو المسألة المطروحة، فحسناً فعل بأن ذكر اسم داود. المسيح هو أصل وذُرّية داود بآنٍ معاً (٢٢: ١٦). إنه سابق له لكونه إله، ولاحق له لأنه إنسان. إنه الجذر والغصن كلاهما (أشعياء ١١).

في بعض الترجمات، في الآية ٤، نجد الكلمات التي تقول "وقرأه". ولكنها ليست موجودة في ترجماتنا المألوفة.

رؤيا الحمل المذبوح:

٦، ٧- "وَرَأَيْتُ فَإذَا في وَسَط الْعَرْش وَالْحَيَوَانَات الأَرْبَعَة وَفي وَسَط الشُّيُوخ خَرُوفٌ قَائمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلّ الأَرْض. فَأَتَى وَأَخَذَ السّفْرَ منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". إن الرائي "بكى كثيراً". والشيوخ، رؤساء الكهنوت السماوي، عرفوا وأمكنهم تفسير الفكر الإلهي لله. ما كان معتماً بالنسبة ليوحنا كان نوراً لهم؛ ما كان سبب ألم له كان سبب سعادة لهم. لفت أحد الشيوخ انتباه الرائي الباكي إلى ذاك الذي يتمتع بجلالة وقدرة هائلة لا تُقاوم الذي كان يتمتع إلى جانبها حقوق شخصية تخوّله إمكانية إعلان وإجراء مشورات الله. ولكن عندما نظر يوحنا رأى "حملاً" ٣ بدلاً من "أسد". وهذا يدل على الضعف بدل الجلالة.

وسط المشهد السماوي انبرى الحمل مذبوحاً. آثار الجراح فيه وهو قائم كما رآه التلاميذ (يوحنا ٢٠: ٢٠، ٢٥، ٢٧) يراها الآن يوحنا فيه وهو ممجد. إن ذكريات الجلجثة تُقدَّر كثيراً في السماء ٤. أشار يوحنا المعمدان أولاً إلى يسوع على الأرض على أنه "حمل الله" (يوحنا ١: ٢٩- ٣٦)؛ ويوحنا الرسول يراه الآن في نفس تلك الشخصية في الأعالي. ولكن يا للفرق الشاسع بين الحالتين! فهناك كان مجروحاً ومذبوحاً (أشعياء ٥٣)؛ وهنا هو مركز قوة ومجد السماء، ومع ذلك يحمل في شخصه علامات وندوب الصليب.

"الخَرُوف القَائم" بين العرش والشيوخ هو أول خطوة نحو الادعاء بحق الميراث. إنه على وشك أن ينتحل بنفسه قدرته العظيمة وملكه. حالياً يجلس مع أبيه في عرشه (رؤيا ٣: ٢١)، والرب إلى يمينه (مز ١١٠: ١). ولكن جلسة محكمة الصبر يراها الرائي قد أتت إلى نهايتها. يُخلي الحمل "العرش" و"الجلوس على اليمين" ويقف على أُهبة الاستعداد ليتصرف. الوقوف يدل على الاستعداد للتصرف؛ بينما الجلوس يشير إلى حالة هدوء.

٦- "سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلّ الأَرْض". هنا الرقم ذي المغزى "سبعة"، الذي يشير إلى الكمال، يتكرر ثلاث مرات. القوة والذكاء يُشار إليها باستخدام كلمات "القرون" و"الأعين"، وملء إدراة الروح القدس في الحكم في الـ "سَبْعَةُ أَرْوَاح الله". كلها في حالة كمال، وكلها مرتبطة مع حكومة الأرض التي على وشك أن يتسلمها الحمل في شخصه الفدائي "كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ".

تقدم الحمل وأَخَذَ السّفْرَ "منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". يا له من دمج للأمجاد والحقوق يتمركز في المحبوب عند الله! جلال وقوة الأسد، وداعة الحمل والطابع القرباني عنده، ممتزجان بكل القدرة والذكاء، تتجلى ظاهرة بشكل واضح في شخص ذاك الممجد الذي رآه الرائي. فكم هي بسيطة تلك الكلمات التي تُسرد فيها تصرفاته الجليلة. فتح الدرج ذو السبعة أختام بيد الرب يدل على أخذه تلك الصفة الهامة جداً التي كان الصليب وحده يفوقها، العمل الذي يشتمل على مجد الله وبركة الخليقة، الذي يهم كل الكون بشكل مباشر (الآيات ١١- ١٤). "أَتَى وَأَخَذَ السّفْرَ منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". ما من حاجة إلى قلم فنان أو يراع مؤرخ هنا. البساطة الخالية من الفن في السرد هي مثل الله. "يتميز المشهد بالبساطة والجلالة، دون تفخيم في الكلمات ودون محاولة لزخرفة المشهد"، يكتب موسيس ستورات. ويقول ف. و. غرانت: "يا له من مشهد هادئ وجليل". وإننا نشهد على تأييدنا لهذه الشهادة تماماً.

الأحياء والشيوخ: الترنيمة الجديدة:

٨- ١٠: "وَلَمَّا أَخَذَ السّفْرَ خَرَّت الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ الخَرُوف، وَلَهُمْ كُلّ وَاحدٍ قيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنيمَةً جَديدَةً قَائلينَ: «مُسْتَحقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّه بدَمكَ منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض»". في الأصحاح السابق رأينا الرب في عظمة وأبدية كينونته، كما أيضاً في علاقته مع كل الخلائق كرب وسيد عليها، فهو مؤازرها وخالقها، وهذا ما يثير العبادة العميقة للأحياء و الشيوخ. ما من ملائكة تُذكر هنا لتأخذ دوراً في العبادة. ولكن لدينا هنا في مركز عبادة السماء الحمل المذبوح، وبالتالي كل الخليقة تتحرك من عمق أعماق. هناك ملامح إضافية لاهتمام القلب أضافت أُسساً وأسباباً للعبادة والتسبيح لا توجد عندما يكون الرب في المنظور. الحمل المذبوح يُحضر أمامنا المتألم القدوس الذي كان في الأرض وقد تُركَ ليعاني الهزأة والإساءة، منبوذاً ومصلوباً، دون أن ينطق بكلمة توبيخ، ودون أن يستخدم قوته لصالحه ولا حتى في آلامه. والآن كل شيء تبدل بشكل مبارك. الحمل الذي وقف يوماً وسط عصبة السفهاء (متى ٢٧: ٢٧- ٣١) صامتاً، مذعناً، غير مقاوم، وحيداً في قداسته، في وقار هادئ، محتملاً أقسى وأشنع أشكال الازدراء والتحقير من الحاقدين المتجمهرين حوله، الذين ضربوه دون أن يدافع عن نفسه وركعوا أمامه ساخرين، وقد أمطروه ببصاق ازدرائهم، وتوجوه بتاج الشوك الذي كان ينغرز في رأسه، وغرزوا مساميراً في يديه المقيدتين، وجلدوه وأطلقوا العنان لسخريتهم وكراهيتهم التي كانت تدل على طبيعتهم الفاسدة والرديئة. وأما هو فقد وقف ساكناً في الوسط، صامتاً صابراً محتملاً. أما الآن فنفس الحمل الذي يحمل في شخصه علامات آلامه يُرى هنا موضوع العبادة السماوية. ومن هنا فما من صوت يصمت أو يمكن أن يكون صامتاً عند ظهور الحمل المذبوح.

هنا يتحد الأحياء مع الشيوخ في سجود عميق أمام الحمل. لاحظوا أيضاً الزمن والمناسبة. يا لها من ملاءمة! "لَمَّا أَخَذَ السّفْرَ خَرَّت الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ الخَرُوف". تلك اللحظة المهيبة التي ستنحى إليها كل طرق الله، والتي تتمخض الخليقة إليها، وإليها يتوق إسرائيل، ويرجو القديسون ويصلّون، قد أتت. وأول ما يحدث هو نقل زمام الحكم إلى الحمل المذبوح. الملكوت يكون وسيطاً في طابعه. الصولجان سيستخدمه المسيح ببراعة في علاقته مع قديسيه السماويين، الذين يمثلهم هنا الشيوخ، ومع جماعات المفتدين الآخرين ولكن الشهداء الذين نُقلوا في ما بعد.

٨- "وَلَهُمْ كُلّ وَاحدٍ قيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ" تنطبق على الشيوخ، وليس على الأحياء. هؤلاء السابقون هم الحكام التنفيذيون لله، وكما أن ذلك الحكم سيترأسه المسيح، الحمل المذبوح، فإنهم يقرون بحقه واللقب الذي يستحقه في إمساكه بالسيادة الكونية. الأحياء والشيوخ يعبدون الرب في الأصحاح ٤، وعلى نفس المستوى يعبدون الحمل في الأصحاح ٥. وهذا يبرهن أن الابن مساوٍ للآب، وأن كل أمجاد إضافية يكتسبها بالتجسد والكفارة، فمع ذلك، وكابن، هو الله، وبما أنه هكذا فله الحق بأن يعبده ويسبحه كل كائن مخلوق.

٨- "قيثَارَاتٌ". في التسبيح الألفي في الأرض تُذكر عدة آلات موسيقية (مز ١٤٩، ١٥٠). ولكن تسبيح جوقة طغمات السماء تُمثلها القيثارة فقط. فالقيثارة والترنيمة ينسجمان كما الحال في جماعة الشهداء من يهوذا (١٥: ٢). في التسبيح والعبادة المباشرين للرب في العهد القديم يبدو أن القيثارة كانت أكثر استخداماً من أي أداة موسيقية أخرى، وذلك بفضل دمجها الفريد من نوعه للعلامات الموسيقية العريضة والجليلة مع الألحان الناعمة والحانية على يد عازف ماهر (أشعياء ٢٤: ٨؛ مز ٣٣: ٢؛ ٤٣: ٤؛ أخبار الأيام الأول ٢٥: ٦). وعادة ما تُذكر القيثارة والترنيمة مترافقين معاً.

٨- "جَامَاتٌ ٥ منْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً، هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ". التسبيح الكهنوتي (القيثارة) والخدمة (الجامات) مترافقتان هنا. في أخبار الأيام الثاني، الأصحاحات ٣ و٤ ، الهيكل وأوانيه مقدسة تُصوّر مسبقاً المشهد الألفي في بعض أرفع جوانبه. دور أو رمز الْمَنَاضِحَ الذهبية في الهيكل (٤: ٢٢)، مع الفروقات المميزة عن الجامات الذهبية في يدي القديسين السماويين، "جَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ" تدل على قيمتها وتشهد على رفعة وقداسة الخدمة التي تُستخدم من أجلها. عبارة "مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً" ٦ تشتمل ضمناً في المعنى على وجود أكثر من نوع واحد من العطور. إن العبير كبير ومنوع. بقوله "بَخُوراً، هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ" يشير إلى أن الصلاة على الأرض هي بخور في السماء. نعتبر أحياناً أن صلاتنا لا قيمة لها. ولكنها ليست كذلك. إن الله بطريقته الفريدة التي لا مثل لها وغنى رحمته يُثمِّنُ صلواتنا وتضرعاتنا إليه، فتصعد إليه كالبخور.

ولكن من هي جماعة القديسين المصلّية تلك التي يهتم لشأنها الكهنوت السماوي بشدة! يشير القسم المحوري في السفر بوضوح إلى وجود جماعة شهدت على الأرض خلال مسير الدينونات الرؤيوية، وهي جماعة تُحفظ من وسط اليهود والأمميون (١١: ٣؛ ١٢: ١٧؛ ١٣: ٧- ١٠). هؤلاء القديسون المتألمون تحت السلطة المدنية المرتدة (الوحش)، وتحت القوة الدينية المرتدة (ضد المسيح)، ستخضع لغيظ الشيطان التي ستُطلق عليهم من خلال رئاساته على الأرض. الجميع سيعانون في الأسبوع المريع من السنوات السبع (دانيال ٩: ٢٧) التي ستسبق فجر الألفية. الكثيرون يستشهدون، وهكذا ينالون مكاناً في السماء ونصيباً معيناً لهم؛ آخرون يبقون ويُشكّلون نواة سكان ألفية الذين سيفرحون بالمجيء العلني والحكم العادل للمسيح، حمل الله، وابن الإنسان. صلوات هؤلاء القديسين هي البخور ٧. ولكن انتبهوا بعناية إلى أن الشيوخ لا يتصرفون كوسطاء ولا كشفعاء. إنهم لا ينقلون هذه التضرعات إلى الله، ولا يتوسطون لدى الله. الشيوخ في السماء هم إخوة أولئك المقدسين الذين يعانون على الأرض. ومن هنا فمن الغريب أن لا يهتموا بالصراعات والنزاعات التي كان لهم دور فيها سابقاً. ولكن لهم دور إيجابي بسبب المودة العميقة التي لديهم. الكاهن الملاك الذي يضيف البخور إلى صلوات القديسين ليس كائناً مخلوقاً (٨: ٣، ٤)؛ المسيح، والمسيح وحده، هو المؤهل ليفعل ذلك. هو وحده الوسيط (١ تيموثاوس ٢: ٥) والشفيع (رومية ٨: ٣٤). وسيط واحد، ألا وهو "الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ". إذاً لدينا شفيعان، المسيح في السماء، والروح القدس فينا الآن.

٩- "يَتَرَنَّمُونَ (الشيوخ) تَرْنيمَةً جَديدَةً". ليس من ترنيمة مدونة في سفر التكوين. كان البطاركة أناساً ذوي فكر عميق وعقل جدي وغير فرح. أول ترنيمة على الأرض نجد حديثاً عنها يرويها خروج ١٥. تحرير بني إسرائيل (الأصحاح ١٤) شكَّل أساساً ومادة للترنيمة (الأصحاح ١٥: ١- ١٩) واللازمة (الآية ٢١). الترنيمة القديمة هي الله يُحتفى به في مجد الخليقة (أيوب ٣٨: ٧). الترنيمة في نصنا تُسمى "جديدة" بسبب موضوعها- الفداء، وليس رمزياً، بل تحقق فعلياً؛ "جديدة" لأنه تم الترنم بها في السماء في ليلة الانطلاق الكامل للفرحة الألفية. نلاحظ أنه ليس من ترنيمة في الأصحاح ٤ ولا نسمع في الكتابات المقدسة عن ملائكة يُرنمون. نشيد موسى ونشيد الحمل (رؤيا ١٥: ٣) تتحدان للاحتفال بطرق الله الماضية مع إسرائيل ونعمته الحالية في الحمل ومن خلاله. "الترنيمة عن الخلق يجب أن تُفسح مجالاً، في المحيط واللحن، للترنيمة التي تتغنى بانتصارات يسوع" (J. G. B )، وهذه هي الترنيمة الجديدة التي تتكلم، في موضوعها وفحواها، عن حمل الله الغالب؛ ترنيمة تتناول الماضي والمستقبل، الصليب والملكوت. لقد كانت فخمة تلك الترنيمة التي تغنى بها بنو إسرائيل على الضفة الشرقية للبحر الأحمر، ولكن هذه الترنيمة في طابعها ومناسبتها هي أعظم منها بشكل لا يُضاهى. فالمُفتدون يُرنمون عنه وله.

٩- "مُسْتَحقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ". لافت للانتباه هنا كيف أن دخول الحمل يغلق كل شيء آخر. بتلك الشخصية التي تقدمه كمذبوح يجتذب انتباه السماء. أين هو أسد سبط يهوذا؟ الأسد يُفسح مجالاً للحمل تحت اللقب السابق، والذي يكون ذا قدرة وسلطان، فيهزم ما تسبب في قمع بني إسرائيل، وفي سيرة حياته وانتصاره لا يستقر أو يستريح إلى أن يضمن نصر ذلك الشعب. ولكن ذلك اللقب بالقوة الجازمة كانت معطلة خلال ذلك الوقت، والحمل هو كل المجد في السماء والأرض. بالطبع، إن قوة الأسد ونعمة الحمل تتمركزان في يسوع. هنا تتم مخاطبة الحمل بشكل شخصي في هذه الترنيمة. استحقاقه لأن يكشف مشورات الله ويجريها هو موضوع احتفالهم. وبعد ذلك، يوضع أساس استحقاق الحمل بأن يجري أهداف الله وصولاً إلى نتيجة كاملة ومجيدة.

٩- "لأَنَّكَ ذُبحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّه بدَمكَ منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ". لكونه أسد يهوذا فإنه يتصرف بقوة وسلطان، ولكن كحمل كان مذبوحاً. هنا تحقيق مشورات الله في النعمة والمجد نتتبعها إلى الصليب كأساس. "لأَنَّكَ ذُبحْتَ". بدون الصليب، كان المسيح سيدخل إلى عوالم المجد لوحده؛ وبدونه ما كان ليصير فداء للخطأة. الصليب هو أعظم مشورة للأبدية وأعظم حقيقة في الزمان. إنه الأساس الراسخ الذي تستند عليه كل بركة إسرائيل والخليقة، وأيضاً مجد الكنيسة وقديسي السماء.

فداء العرق شيء مختلف عن الفكر اللاهوتي، وبالتأكيد خالٍ من أي سلطان كتابي. هل تؤيد الآيات في فيلبي ٢: ١٠، ١١؛ كولوسي ١: ٢٠؛ أعمال ٣: ٢١ ولو بأدنى درجة فكرة أن كل الأشياء والأشخاص والشياطين والأرواح الشريرة ستُفدى أو تُستعاد إلى حالتها الأصلية؟ نجيب بشكل قاطع أن "لا". تؤكد الآيات في فيلبي ٢: ١٠، ١١ خضوع الكون للمسيح، ولكنه خضوع وليس فداءً. كولوسي ١: ٢٠ تحصر المصالحة بكل الأشياء (وليس الأشخاص) في السماء والأرض، والعالم السفلي يكون مستثنى. وتشير أعمال ٣: ٢١ إلى امتلاء وكمال البركة الألفية، شهادة النبوءة. ولكن بدل إعلان الفداء لكل الناس، أنبياء العهد القديم دحضوا ذلك بشكل واضح وقاطع (دانيال ١٢: ٢؛ أشعياء ٦٦: ٢٤). ماذا أيضاً عن الشهادة الجليلة لرائي بطمس؟ (رؤيا ١٩: ١٩، ٢٠؛ ٢٠: ٧- ١٥). ليس من فداء للسلالة أو الجنس البشري بأكمله، بل أشخاص منه، وهذا التمييز في توافق تام مع الشهادة القديمة لموسى في المزمور ٩٠: ٣. "تُرْجِعُ الإِنْسَانَ (أي الجنس البشري) إِلَى الْغُبَارِ وَتَقُولُ: [ارْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ] (أي الأفراد)". إن الشراء هو عالمي، ويشير إلى تغير المالك. أما الفداء فهو خاص، ويشير إلى تغير الحالة. "مفتدين لله"، إذاً فنحن خاصته. ليس هذا فقط، بل كما يكتب الرسول بولس: "نَفْتَخِرُ أَيْضاً بِاللَّهِ" (رومية ٥: ١١)، هذه الحالة الأخلاقية الأعلى المتوافقة مع الخلْقية. يا له من ثمن باهظ دُفع لأجل ضمان بركتنا! "بالدم". فداء إسرائيل الماضي قد صنعته القوة (خروج ١٥: ١٣؛ مز ١٠٦: ١٠)؛ وفداء الخطأة من بني البشر كان بالدم (١ بطرس ١: ١٨؛ رومية ٣: ٢٤). تبعثر العائلة البشرية هو تحت العامل الهام المألوف والمعروف ألا وهو رقم ٤، أي الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة. ومن هذه يجمع الله ويفتدي شعباً لنفسه.

١٠- "وجَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض". من اللافت والهام للتفسير أن نلاحظ استخدام ضمائر المتكلم الجمع في هذه الآية. الشيوخ لا يُرنمون منشدين عن فدائهم هم، بل عن فداء شعب على الأرض. خدمتهم الكهنوتية كانت لأجل آخرين، ولذا فإن ترنيمتهم هنا هي عن المفتدين آنذاك على الأرض. إنهم يترنمون ويحتفلون بالبركة التي ينالها الآخرون، وليس بركتهم الذاتية. نلاحظ هنا انعدام الأنانية والغيرة. كم هو شديد وكثيف اهتمام الله بعمل نعمته في الأرض خلال الفاصل الزمني بين الانتقال (١ تسا ٤: ١٧) ومجيء الرب بقوة (رؤيا ١٩: ١١- ١٤). المفتدون في السماء يُسرون بإعلان البركة للمفتدين على الأرض. "جَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً"، وفي هذه جلاء وقار ملوكي ودنوٌ كهنوتي. "فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض". كان الشعب اليهودي يتوقع أن تصبح أورشليم مركز حكم الشعب الأرضي (إرميا ٣: ١٧)، وأن الشعب اليهودي سيخلص بعدئذ ويرأس الأمم (حزقيال ٤٨: ١٥- ٣٥؛ أشعياء ٥٢: ١- ١٠؛ مزمور ٤٧). إلا أن القديسين السماويين هم الذين سيملكون، ولكن ليس على الأرض. فملكوت الآب وملكوت الابن (متى ١٣: ٤١، ٤٣) يشيران إلى عوالم هائلة من البركة. كل القديسين الذين يموتون، مع أولئك الذين يتغيرون لدى المجيء (١ تسا ٤: ١٥؛ ١ كور ١٥: ٥١، ٥٢)، يملكون على الأرض في اتحاد مبارك مع المسيح. ليسوا من أتباع الملكوت؛ بل إنهم ملوك، وهم سيقومون بكل المهمات الملكية التي يكشف عنها رؤيا ٢٠: ٤. إن ملكنا في طبيعته يأخذ نمطه من المسيح، ومن اتحاد السلطة الملكية والنعمة الكهنوتية (انظر زكريا ٦: ١٣، "وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ").

استحقاق الحمل. العالم الملائكي في تسبيح لله وللحمل:

١١- ١٤- "وَنَظَرْتُ وَسَمعْتُ صَوْتَ مَلاَئكَةٍ كَثيرينَ حَوْلَ الْعَرْش وَالْحَيَوَانَات وَالشُّيُوخ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَات رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائلينَ بصَوْتٍ عَظيمٍ: «مُسْتَحقٌّ هُوَ الخَرُوفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغنَى وَالْحكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ». وَكُلُّ خَليقَةٍ ممَّا في السَّمَاء وَعَلَى الأَرْض وَتَحْتَ الأَرْض، وَمَا عَلَى الْبَحْر، كُلُّ مَا فيهَا، سَمعْتُهَا قَائلَةً: «للْجَالس عَلَى الْعَرْش وللخَرُوف الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَكَانَت الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ: «آمينَ». وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا". "نَظَرْتُ" و"سَمعْتُ" عبارتان تشيران إلى الانتباه الجذل للرائي ٨. إدخال الملائكة في مشهد سماوي والمكان الذي يشغلونه هو أمر ذو اهتمام عميق. لقد أعلنوا ميلاد يسوع وسبحوا الله بكلمات لا تُنسى (لوقا ٢: ٨- ١٤)؛ وملاك راح يخدمه في البستان المظلم الكئيب عندما أرخت ظلال الصليب والكآبة بظلها المعتم على روحه (لوقا ٢٢: ٤٣)؛ وملاكان شاهدان على قيامته (يوحنا ٢٠: ١٢، ١٣)؛ وملاكان أيضاً شهدا على صعوده (أعمال ١: ١٠، ١١). وعندما عاد فدخل بيته السماوي، حدث كما نقول في ذلك البند من الإيمان المسيحي "تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ" (١ تيموثاوس ٣: ١٦). إن المسيحية برمتها هي مسألة تساؤل واهتمام عند الطغمات السماوية (١ بطرس ١: ١٢). إنها تُسر بأن تخدم ورثة الخلاص الآن (عبرانيين ١: ١٤)، حتى إنهم يجدون مسرتهم في خدمتهم في المجد (رؤيا ٢١: ١٢). إنهم يرافقون الرب بين القوات السماوية التي لا يحصى لها التي ترافقه في دخوله الظافر إلى هذا العالم (متى ٢٥: ٣١؛ عبرانيين ١: ٦). ولكن لا تُذكر أية نبوءة عما إذا كانت الملائكة يُحِبُّون أو يُحَبُّون.

في المركز يقف الحمل المذبوح، وحول العرش الأحياء والمفتدين، بينما الحلقة الخارجية تتشكل من الملائكة الذين عددهم يعجز البشر عن عده (انظر دانيال ٧: ١) ٩. في تجاوب القوات الملائكية مع ترنيمة المفتدين هم يقولون، بينما الشيوخ يرنمون. هناك أكثر من فارق لفظي في هذا، إذ بينما الملائكة يعرفون الحمل لا يمكنهم أن يقولوا "لقد ذُبح لأجلنا". إننا نعرفه بطريقة أعمق وأكمل وشخصية أكثر من الملائكة. لقد مات عنا، وليس عنهم؛ ومن هنا يكون الفرق، فنحن نرنم، أما هم فيقولون. لا يُقال أبداً أن الملائكة يُرنمون. لاحظوا أيضاً أن الشيوخ في ترنيمتهم يخاطبون الحمل مباشرة، بينما الملائكة، في حفظهم لمكانتهم وخدمتهم، يأخذون مكاناً أبعد ولا يستطيعون مخاطبة الحمل مباشرة. السابقون يُرنمون له، بينما الملائكة يتكلمون عنه. الانطلاقة الكاملة للتسبيح من القوات الملائكية كبيرة. السيمفونية لا تشوبها أية نغمة ناشدة. إنهم ينسبون له العدد الأكمل (سبعة) من الصفات ١٠. كما يفعلون أيضاً في الأصحاح ٧: ١٢؛ ففي السابق، على كل حال، الحمل المذبوح هو الفكرة الرئيسية في شهادتهم، بينما في الأخير إنه "إلهنا"، إله الملائكة والبشر. الترتيب الذي تُذكر فيه الصفات في اللحنين الملائكيين يختلف. هناك أيضاً نقاط ثانوية أخرى يجدر بنا الانتباه إليها في نسب المديح أيضاً. العبارات السبع تشير إلى أعلى وأكمل تعبير يمكن لمخلوق أن يقدمه. إنها تجسد التسبيح الكامل والمثالي لأعلى مخلوقات الله وأسماها.

ولكن الموجة الأكبر من التسبيح لم تُستنفد بعد. إنها تتدحرج، جامعة القوة والحجم، إلى أن تشمل الكون برمته. "كُلُّ خَليقَةٍ ممَّا في السَّمَاء وَعَلَى الأَرْض وَتَحْتَ الأَرْض، وَمَا عَلَى الْبَحْر، كُلُّ مَا فيهَا"، الكون الواسع لله في كل أجزاءه. الرب على عرشه والحمل هما مواضيع العبادة الكونية. التسبيح الرباعي الجوانب- "البركة، والكرامة، والمجد، والقدرة"- تميز العالمية في انطلاق العبادة العفوية هذه. التسبيح لا يتوقف أبداً- "إلَى أَبَد الآبدينَ".

المخلوقات الحية تضيف قائلة "آمين"، بينما الشيوخ أيضاً "خَرُّوا وَسَجَدُوا". في ختام حديث ملاحظاتنا على هذه الصفحة الثمينة من الإعلان الإلهي سنذكر أن الترنيمة والتجاوبات المرافقة لها هي متوقعة. الأفكار الألفية والأبدية يُحتفى بها ويتم الكلام عنها على أنها قد أُكملَت. الزمن الماضي يُستخدم عموماً. الحمل المذبوح هو الموضوع الذي يتحلق حوله الجميع وكل شيء. في شخص الحمل لدينا الضمانة الأكيدة للإظهار المجيد لكل مشورات الله. ومن هنا، وقبل أن يُنجز العمل، يصرخ الإيمان بابتهاج، قائلاً أن "قَدْ تَمَّ".


١. البعض يصيغ العبارة على الشكل التالي: "مكتوب من الداخل، ومن الوراء مختوم بالأختام السبعة"، ولكن أين يمكن أن يُختم سوى على الخلفية؟ وما الدليل على صحة ذلك؟ لقد كانت عادة أن ينهوا الدرج وأن يستمروا بالكتابة على الخلفية. الدرج الذي رآه حزقيال (٢: ١٠) كان، كما يخبرنا الكتاب بشكل واضح، "مكتوباً منْ دَاخل ومن خارج". ملء أو اكتمال الإعلانات النبوية التي على وشك إعلانها يبدو كأنها الفكر المصمم في الدرج إذ كُتب على كلا الوجهين.

٢. "ميخائيل رئيس الملائكة" (يهوذا ٩). لا يتكلم الكتاب المقدس أبداً عن "رؤساء ملائكة". الكتاب اليهود يقسمون طغمات الملائكة إلى صفوف وطبقات كـ "عروش، وسلاطين، وفضائل، وإمارات، وقدرات"، والتي إليها يُشير النص في أفسس ١: ٢١ بوضوح. في نطاق ما هو فائق الطبيعة، الخدام غير المنظورين للإرادة الإلهية سيقودون ويسيطرون ويؤثرون على قضايا البشر بكل الطرق. إنهم خدام الله.

٣. ترد كلمة "حمل" ٢٨ مرة في الرؤيا: وتشير الكلمة إلى حيوان بالغ الصغر: Arnion ، وليس Amnos ، كما في الإنجيل (١: ٢٩، الخ). إن كلمة "أسد" تنطبق مرة واحدة فقط على المسيح في هذا السفر.

٤. ليس من الصعب علينا أن نفترض أن الجسد الممجد لربنا المبارك ستظهر فيه العلامات المتعذّر محوها للندوب الناجمة عن الصلب (يوحنا ٢٠: ٢٠- ٢٧).

٥. "آنية مفتوحة واسعة أو مرحضة". انظر الحواشي، ص. ١٥٨، "محاضرات على سفر الرؤيا"، بقلم وليم كيلي.

٦. "كان البخور يحوي روائح عطرية متنوعة"- هوبر. انظر أيضاً "الترجمة الجديدة".

٧. يؤكد العديد من الذين يكتبون عن الرؤيا قناعتهم بأن القيثارة وجامات البخور ترمز إلى تسبيح وصلوات المفديين في السماء. السابق صحيح، ولكن ليس الأخيرين. الصلاة كتعبير عن حاجة ستكون خارج السماء. من العبث الاستشهاد بالآية ٦: ٩ لإثبات العكس. "تحت المذبح" وانتظار قيامة الجسد ليسا نفس الأمر كمثل القائمين والممجدين في السماء الذين يكونون بلا حاجة إلى أي شيء كما الحال مع الشيوخ بلا ريب.

٨. الأولى، أي "رأيت"، ترد ٤٤ مرة؛ والأخير أي "سمعت" ترد ٢٧ مرة. نجد هاتين العبارتين معاً في نفس المكان في القسم الختامي من هذا السفر. عندما يُذكرها يوحنا في المرة الخامسة والأخيرة على أنه كاتب الرؤيا فإنه يؤكد مرتين لنا أنه "رأى" هذه الأشياء و"سمعها" (٢٢: ٨). شهادة الرسول إلى حقيقة أن هذه الرؤى كان قد رآها فعلاً وسمع الأصوات العديدة التي يقول عنها حقيقة لا يلقى إليها الشك وهي شخصية وقاطعة حاسمة.

٩. بالنسبة إلى الأعداد التي تذكرها الرائي والنبي نلاحظ أن الترتيب ليس نفسه. يوحنا يذكر أولاً أسماء العدد الأكبر. دانيال أولاً يذكر العدد الأكبر. ولكن جوهرياً ليس هناك فرق.

١٠. "القدرة" تُذكر أولاً لأن الظروف تستدعي تطبيقها المباشر. "القدرة" طابعها الأوسع والأكثر شمولية تُنسب له. "الغنى"، ثروات الكون، المادية والمعنوية، له أيضاً. "الحكمة" كما تُرى في كل طرق وأعمال الله تأتي تالياً في القائمة. "القوة" هي تلك الميزة التي تُمكن المرء من تنفيذ ما يعزم أن يفعله. "الكرامة" تتضمن المعنى بأن كل علامة من التمييز العام العلني يستحق أن يُمنح للحمل. "المجد" يشير إلى الإظهار العلني والمعنوي، والذي يُعتبر الحمل وحده جدير به. "البركة"، كل شكل وطابع من البركة أو السعادة يُنسب هنا إلى الحمل.

الأصحاح ٦

فتح الأختام الست الأولى

مدخل إلى الأختام:

تُختتم فترة الكنيسة برفض الرب لأولئك الذين يحملون اسم المسيحيين ظاهرياً (رومية ١١: ٢١، ٢٢؛ رؤيا ٣: ١٦)، وبتجمع كافة القديسين، الأموات القائمين والأحياء الذين تبدلوا، عند مجيء الرب شخصياً (١ تيموثاوس ٤: ١٥- ١٧؛ ٢ تسالونيكي ٢: ١). المكانة الحالية للرب سائراً وسط الكنائس، ناظراً كل شيء ومانحاً المديح الممتزج باللون، هي الحقيقة المميزة التي تسم الأصحاح ٢ و٣ من الرؤيا. يا لها من فائدة كبيرة لنا! كم هي قيِّمة وثمينة وكاملة تلك الدروس!

وإذا تأملنا الآن عميقاً في صيغة "بَعْدَ هَذَا"، فإن هذا سيساعدنا هنا. إنها ترد مرتين في الآية ١ من الأصحاح ٤؛ ونجدها أيضاً في ٧: ٩؛ ١٥: ٥؛ ١٨: ١؛ ١٩: ١؛ وأيضاً تكوين ١٥: ١؛ و٢٢: ١. والصيغة على ما يبدو تُشكل همزة وصل بين سلسلة من الأحداث التي جرت في الماضي وأخرى ستحدث لاحقاً. فما الغاية من إدخالها مرتين في الأصحاح ٤: ١؟ أليس فيها إشارة إلى تاريخ الكنيسة على الأرض، الأصحاحين ٢ و٣، كما يراهما الرائي في الرؤيا، هو في الماضي، وبالتالي أن سلسلة جديدة من الأحداث على وشك أن تُكشف؟

الشيوخ الـ ٢٤ الذين يلعبون دوراً هاماً في الأحداث السماوية والمشاهد التي يصفها الرائي يُذكرون أولاً في الأصحاح ٤. عددهم الرمزي ولقبهم يُشيران بشكل واضح إلى أنهم يدلون على كل جماعة المفديين الذين في الدهر الماضي والحاضر. والآن من المُسلّم به صراحة أنه ما من قول رؤيوي واضح يؤكد انتقال القديسين إلى السماء. تشير الآية في ١١: ١٢ إلى جماعة صغيرة وخاصة. بولس هو الوحيد بين كُتاب العهد الجديد الذي يؤكد على هذه الحقيقة. بينما يوحنا، على عكسه، يتكل على تجلّي القديسين مع المسيح لدى ظهوره. الأول يظهر تجمعنا حول المسيح، وعودتنا التالية معه. أما يوحنا فيكتب عن الحالة الأخيرة فقط. الشيوخ الـ ٢٤ يرمزون إلى المفتدين في السماء (ولذلك فإن انتقالهم قد حدث للتو)؛ يظهر الرائي لهم أيضاً في رؤيا بزغت من السماء (١٩: ١١- ١٤؛ ٢١: ١٠). في أي جزء من السفر يمكنك وضع انتقاله؟ بعد الأصحاح ٣، الذي يختم فترة الكنيسة، وقبل الأصحاح ٤، الذي يبدأ سلسلة جديدة من الأحداث، والتي فيها يكون الشيوخ أو المفديون في السماء مشهورين وبارزين. ولذلك فإننا ننظر تحقيق الآية في يوحنا ١٤: ٣، و١ تسالونيكي ٤: ١٥- ١٧، بين هذين الأصحاحين من سفر الرؤيا. الشيوخ الـ ٢٤ يُرون في الأعالي، ولكن حقيقة اختطافهم مفترضة، ولا يقولها صراحة السفر، وما لم يتم الإقرار بهذا فإن الفهم الصحيح للسفر يصير مستحيلاً. ومن هنا نجد بعد ذلك أن الكنيسة ليست على الأرض خلال فترة الدينونات الرؤيوية. كما رأينا من ذكر الشيوخ لأول مرة (٤: ٤) وحتى النهاية (١٩: ٤) السماء هي موطنهم.

إننا على وشك أن ندخل إلى تمحيص للجزء النبوي تماماً في السفر، ونقوم بذلك واضعين نصب أعيننا حقيقة أن السلاسل الثلاثة المختلفة من الدينونات- الأختام، والأبواق، والجامات، تجري في الفاصل بين تجمعنا للرب نفسه، وتجلّيه ونحن معه في العالم في نهاية أسبوع دانيال النبوي الأخير ١. القديسون المنتقلون هم في السماء خلال الأسبوع السبعين من دانيال، هذه الفترة المؤلفة من سبع سنوات، خلال النصف الأخير من الفترة التي تندلع فيها الضيقة العظيمة بعنف على الأرض، مشتملة من ضمن آلامها التي لا تُقاس جماعة تقية من اليهود والأمميين، تُدعى لتشهد لله بعد أن يكون المشتركون في الدعوة السماوية قد انتقلت. الكنيسة تُوعَد بشكل واضح بأن تُستثنى من الضيقة (٣: ١٠). النبوءة تتعلق بالأرض، ولكن الكنيسة كجسد المسيح وعروس الحمل، التي هي أقرب وأعز ما يكون إليه، لابد أن تكون مرتبطة به في السماوات، وبالتالي خارج نطاق التعامل النبوي. ومع ذلك، ورغم الإصرار على التحقيق الكامل والدقيق للقسم النبوي من الرؤيا في الأزمة القصيرة التي يُغطّها أسبوع دانيال الأخير من السنين، لا نزال بعيدين عن رفض التطبيق التاريخي على الماضي والحاضر؛ التشابه الجزئي أمر والتحقيق الحرفي أمر آخر. هذا الأخير يمكن تحقيقه فقط في النهاية ٢.

الختم الأول:

الخواص المميزة:

١- ٢- "وَنَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الخَرُوفُ وَاحداً منَ الْخُتُوم السَّبْعَة، وَسَمعْتُ وَاحداً منَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات قَائلاً كَصَوْت رَعْدٍ: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطيَ إكْليلاً، وَخَرَجَ غَالباً وَلكَيْ يَغْلبَ". الدينونات تحت الأختام والأبواق ليست في نفس العصر أو الوقت بل متعاقبة. الأولى تُغطي فترة أكبر من الأبواق، ولكن هذه الأخيرة، من جهة أخرى، هي أشد وأكثر قساوة.

لاحظوا أيضاً أن الحمل مرتبط بالأختام، والملائكة بالأبواق، والله بجامات الغضب.

في هذا الإعلان التمهيدي للدينونة الآتية هناك اكتمال ودقة في التعبير لا نجدها في افتتاح الأختام الست الأخرى، أو حتى في البوق الأول والجامة الأولى. هنا العدد العادي ١ يُستخدم لوحده، وليس العدد الترتيبي "الأول"، الخ. كما في الأخرى.

"وَنَظَرْتُ" تُلفظ مرتين. لقد كان يوحنا شاهد عيان مراقباً عن كثب. لقد "رأى" عمل الحمل في فتح الختم (الآية ١). وأيضاً "رأى" القائم بالدينونة (الآية ٢).

الخيول الملونة المتنوعة في الأختام الأربعة الأولى تُمثل بالرمز الوكلاء البشريين المستخدمين في تنفيذ هذه الدينونات على الأرض، والتي هي مقرِّرة للعناية الإلهية في طابعها. ولكن بما أن المسيحيين لهم فكر المسيح، أي خاصة التمييز، فإننا ننظر إلى ما وراء المسار التاريخي للأحداث ونتتبعها كلها إلى المصدر غير المنظور، الله نفسه. وهكذا فإن المخلوقات الحية، المنفِّذون لأوامر العرش، يستدعون بشكل متتالٍ الأدوات البشرية للانتقام ليُنفذوا مهمتهم التي أوكلهم الله بها. لا يمكنهم أن يتحركوا في الدينونة إلى أن يستدعيهم العرش طالباً منهم القيام بذلك. يا لها من قوة تشجع القلب في أيام الشر! الأختام الأربعة الأولى تتميز بالمخلوقات الحية والأحصنة. في الثلاثة الباقية ليس هناك من ذكر لأي منهما.

في الختم الأول مخلوق حي واحد فقط يتكلم، "كَصَوْت رَعْدٍ"، وفي الحال الحادث النبوي الأول الذي تم التنبؤ عنه في الرؤيا يتبدى للعيان. وتُفتح النبوة.

الكلمات في الآيات ١، ٣، ٥، ٧، "وَانْظُرْ" ينبغي أن تُحذف. وفي هذا يتفق تريغلز وكيلي وآخرون في الرأي ٣. الإبقاء على الكلمات سيجعل منها دعوة إلى يوحنا أن "تعال وانظر"، ولكن لمَ التنافر في أن التحدث إليه يكون من خلال صوت الرعد؟ إن حذفها يجعل النداء "تعال" دعوة إلى الأداة البشرية المستخدمة في هذه التأديبات الأرضية.

النداءات المرتفعة الصوت والتجاوب المباشر معها:

التجاوب مع الطرف الآمر والمرتفع الصوت للكائن الحي تتم إطاعته في الحال. "فَنَظَرْتُ ، وَإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه". من الواضح أن الإشارة هي إلى فرس الحرب. لا يمكن أن يرمز هذا الفارس، كما يحتج جمهور المفسرين، إلى المسيح كممتهن للغزو. المزمور ٤٥، وخاصة رؤيا ١٩: ١١، زُعم بالدليل أن تطبيق الختم الأول هو على المسيح. ولكن كاتب المزامير والرائي كلاهما يُوجهاننا إلى المسيح في تلك اللحظة العظيمة من مجيئه ليُمسك بيده زمام حكم العالم، في حين أن حقبة الختم الأول تشير إلى وقت يأتي قبل بضعة سنوات من تأسيس الملكوت بقوة. في الأصحاح ١٩ يتم ذكر الفارس؛ ولكنه لا يُذكر هنا. من أي جزء من الأرض يبزغ فارس الختم لا نعلم. لدينا هنا رمز لقوة الغلبة. الحصان الأبيض يدل على القوة المنتصرة. إنه يشير إلى مجيء المشهد النبوي للقوة التي أدت إلى غلبة. احتراف للانتصار الكبير والعظيم ومع ذلك غير الدموي يكمن قبل هذا المجيء للمحارب الملكي ذي الشهرة العالمية الواسعة، كُورَشَ، أو الإسكندر، أو نابليون في انتصاراته وغزواته، ولكن بدون سفك دم ومذابح، وهذا هو الفرس وراكب الفرس في الختم الأول.

"خَرُّوا وسجدوا" ٤. اليهود العائدون من بابل وخلال إعادة بنائهم لأورشليم كانوا مسلحين بـ "سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَقِسِيِّهِمْ" (نحميا ٤: ١٣). القتال عن قرب كان يتطلب استخدام السيوف؛ وإذا زادت المسافة بين المتحاربين كان الأمر يستدعي استخدام الرمح؛ ومع مسافة زائدة في ساحة المعركة يتم استخدام القوس. السلاح الأخير لن يكون له تأثير كبير؛ ومن هنا فإن استخدامه كرمز عن الحرب عن بعد، وأنه ليس بسلاح قاتل مهلك.

"وَقَدْ أُعْطيَ إكْليلاً"، يجب أن يكون هذا أكثر من إكليل النصر الذي يُمنح للغالب في نهاية حملة ناجحة، إذ أن الإكليل هنا يُعطى قبل النصر الذي يجري الحديث عنه. الوقار الملوكي أو الإمبراطوري يُمنح لهذا الشخص المتميز قبل أن يدخل في مهنته الرائعة كفاتح.

"خَرَجَ غَالباً وَلكَيْ يَغْلبَ". النصر تلوى النصر، والفتح تلوى الفتح، بدون هزيمة أو انقطاع، كان يُميز التقدم الملكي لهذا البطل في اليوم والساعة الآتيين. الرموز تحت هذا وتحت الأختام التالية بسيطة جداً ومليئة بالمعنى ٥.

الختم الثاني:

مواصفات الختم الثاني:

٣- ٤- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّانيَ، سَمعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّانيَ قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَخَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحْمَرُ، وَللْجَالس عَلَيْه أُعْطيَ أَنْ يَنْزعَ السَّلاَمَ منَ الأَرْض، وَأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَأُعْطيَ سَيْفاً عَظيماً". في كل دينونات الختم، ما عدا الثانية، يعلمنا الرائي أنه كان شاهد عيان: "نظرتُ". ثم تحت الأختام الأخرى تأتي الكلمة "رأيتُ" وتسبق وصف الفرس، بينما نجدها تُحذف هنا. بدلاً من "رأيتُ" تأتي الكلمة "آخر" مضافةً، ولا نجدها في الأختام الأخرى. قد تكون هذه اختلافات بسيطة، ولكن بما أننا نؤمن إيماناً راسخاً بالوحي الشفهي في الكتابات المقدسة، فنرضى بالفكرة القائلة بأن هناك مغزى إلهي في هذه التفاصيل التي تبدو غير هامة. ورود الكلمات "نظرت" و"رأيت" في الختم الأول، وحذفها من الثاني، ربما كان سببه هو حقيقة أن كلمة "آخر" في الأخير تربط الختمين. ومن هنا فإن "نظرت"، و"رأيت.... فرساً آخر أحمر".

إجابة للطلبات والدعوات بأن "هلم"، التي يطلقها المخلوق الحي الثاني، "خَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحْمَرُ". لماذا "أحمر" ٦، وما المغزى الخاص به؟ يشير الفرس الأبيض إلى سلسلة من الانتصارات السلمية. الفرس الأحمر، من جهة أخرى، يشير إلى فترة مذابح وسفك دماء (أشعياء ٦٣: ٢؛ رؤيا ١٢: ٣). الفارس لا يُذكر اسمه. إنه يوم انتقام الرب من العالم الآثم؛ ومن هنا تكرار ضمير الغائب، مؤكداً على حقيقة أن العامل المباشر للدينونة هو إنسان يُعينه الله لأجل تلك الغاية، "أُعْطيَ أَنْ". مهما كانت الدوافع أو الحوافز أو المطامح السياسية هي التي تحرك رجل الدماء هذا، فإنه سوط الله للوقت الحالي. فترة سلام قصيرة تلي مباشرة انتقال القديسين إلى السماء، ومع ذلك، كما رأينا تحت الختم الأول، صعود ونمو الغازي المقتدر لن يتلازم مع سفك دماء كثيرة. مهمته هي تحقيق انتصار عظيم بالكاد يهز السلام العام. ولكن تحت الختم الثاني نتتبع آثار خطوات ذاك الذي يطأ على الأرض في مهمة دامية. إن لديه تفويض إلهي "أن يَنْزعَ السَّلاَمَ منَ الأَرْض"، و"أن يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً". وفي مسيرته نحو هدفه فإنه يثير، وأينما ذهب، مشاعر غضب عند الناس. ليت حكومات أوربا التي تحلم بأنه بتسليح وتدريب شعوبهم فإن أسلحة القتل تلك التي أنتجتها العلوم التطبيقية للعصر الحالي سوف لن تُستخدم فيما بعد في حروب هجومية أو دفاعية، بل في حروب أهلية وصراعات بين الأحزاب. ليس الأمر هنا "أمة على أمة" بل "أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً". مشاعر الناس المتوحشة يُطلق سراحها. ويمر وقت من القتل المتبادل. موثوقية السلطة المدنية لا تكون مجدية لمنع الشغب وسفك الدماء في المدن والبلدات والقرى، وإن اقتضت الحاجة فإنها لن تفلح في تفادي الدمار الفظيع. "سَيْفاً عَظيماً" يُعطى للفارس ما يدل على أن المشاجرات والفتن التي يُحدثها ستتميز بمذابح عظيمة وسفك دماء رهيب. إن الحرب، سواء كانت هجومية أم دفاعية، هي بلا ريب وفي جميع الأوقات باعثة على الأسى، ولكن تمرداً مدنياً مفتوحاً، مسلّحاً يقوم به الناس ضد الناس، والأصدقاء ضد بعضهم، ويتميزوا بالعنف والانتقام وسفك الدماء كسيل المياه وستكون هذه الحالة أسوأ مما يمكن تصوره على الإطلاق في الحروب، وهكذا يُصور لنا المشهد المريع تحت هذا الختم.

الختم الثالث:

المجاعة:

٥- ٦- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الثَّالثَ، سَمعْتُ الْحَيَوَانَ الثَّالثَ قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ وَإذَا فَرَسٌ أَسْوَدُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه مَعَهُ ميزَانٌ في يَده. وَسَمعْتُ صَوْتاً في وَسَط الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات قَائلاً: «ثُمْنيَّةُ قَمْحٍ بدينَارٍ، وَثَلاَثُ ثَمَانيّ شَعيرٍ بدينَارٍ. وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا»". الفرس الأبيض هو رمز القوة في النصر. الفرس الأحمر يشير إلى القوة في سفك الدماء. والفرس الأسود يشير إلى القوة في إحداث الندب والنواح والعويل. وهنا، كما في زكريا ٦: ٢، الفرس الأسود يتبع الأحمر. "جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ مِنْ جَرَى نِيرَانِ الْجُوعِ"، كما يقول النبي الباكي (انظر مراثي إرميا ٥: ١٠؛ إرميا ٤: ٢٣؛ يهوذا ١٣ ، الخ.، لفهم القوة الرمزية لهذا اللون).

هناك أشياء عديدة يتم التنبؤ عنها في ما يتعلق بكل من الفرسان الثلاثة الآخرين تحت الأختام الخاصة بكل منهم، ولكن هنا أمر واحد فقط. يحمل الفارس "ميزَاناً في يَدهِ". نوعا الحب الرئيسيان اللذان يُقدّمان قوت الحياة يجب أن يُعطيا بتقتير استناداً إلى الوزن و أن يُباعا بأسعار تناسب المجاعة. القمح والشعير يُذكران. حبوب الشعير كان يأكلها عادة العبيد وفقراء الشعب، لأنها أرخص بكثير من القمح، وذات طبيعة أخشن. الدينار الروماني كان يعادل ٨ بنسات من عملتنا؛ وكان أجرة يوم كامل للجندي، وأجرة عمل يوم كامل للعامل الكادح (متى ٢٠: ٢). كان يمكن شراء ثمانية أكيال أو ثَمَانيّ من القمح بدينار، ولكن هنا نجد أن الدينار يشتري ثُمْنيَّة واحدة فقط، وبالكاد تكفي لتبقي الإنسان على قيد الحياة ٧. ولكن ماذا عن الأعداد الهائلة من الكهول، والنساء والأطفال العاجزون عن العمل؟ ولكن إن كان الدينار يمكنه تدبير الطعام الضروري لشخص واحد، فماذا بخصوص العدد الكبير من الناس الذين لا يستطيعون العمل بسبب العجز أو عدم الأهلية أو أمرٍ ما؟ هل تكون المجاعة هي مصيرهم المؤلم لدرجة أن الموت يصبح محرراً سعيداً لهم من قرصات الجوع؟

ولكن المخلوقات الحية ليسوا أنفسهم مصدر هذا التأديب التدبيري. إنهم مرتبطون بالعرش حيوياً (٤: ٦)، ولكن الله هو الجالس على العرش، وسيبقى كذلك إلى الأبد. يسمع الرائي صوتاً من نفس المركز والعرش الذي لله الأبدي، وهو إعلان عن مجاعة وجوع. الله نفسه هو محدث هذه الدينونات التدبيرية التمهيدية على أهل الأرض. الله هو الذي يوقع بهم ذلك البلاء وهو يُسخّر أي شخص أو وسيلة لتحقيق هدفه.

الأغنياء يسلمون من الضرر:

إن التحذير أن "أَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَمْرُ فَلاَ تَضُرَّهُمَا"، يفترض البعض أنها تشير إلى تلطيف للمجاعة المعلنة في الإعلانات السابقة. ولكن هذا من غير المحتمل أن يكون. ما كان الناس يستطيعون العيش على الزيت والخمر. كان القمح والشعير ضروريان وأساسيان للحياة. الزيت والخمر كانا يُعتبران من الترف الموجود فقط على موائد الأغنياء (أمثال ٢١: ١٧؛ إرميا ٣١: ١٢؛ مزمور ١٠٤: ١٥). ومن هنا فإن التأديب تحت هذا الختم يقع بشكل خاص على الطبقات العاملة. الأغنياء، والمترفون، والطبقات الحاكمة يُستثنون بشكل ملحوظ. ولكنهم لن ينجوا. إذ تحت الختم السادس (الآيات ١٢- ١٧) ستُلقى الدينونة على الجميع سواسية بدون تحيز أو تمييز، من الملك ونزولاً إلى العبيد.

الاشتراكيّة:

أليس جزاءاً عادلاً أن جموع الناس في هذه الأراضي وغيرها يفتقدهم الله أولاً بالدينونة، ويجعلهم يُعانون من نفس الظروف التي يبدو أنهم منتصرين فيها الآن؟ من علامات الأزمنة التي تنذر بالشؤم انتشار الشيوعية، وإنجيل المساواة بين الأمم في أوربا. لقد تم الازدراء بالفروقات بين السادة والعبيد، الحكام والمحكومين؛ الثروة والمكانة الاجتماعية، مع الادعاءات المتعلقة بكل منها تعامل باحتقار؛ العمل ورأس المال يُعتبران قوتان متعاكستان. الطبقات الكادحة تقبض على السلطة بسرعة وهي بطيئة في اغتنام الفرص، بينما هي تطالب بحقوق وامتيازات أخرى. روح التمرد والعصيان على السلطة واسعة الانتشار. لقد غُرست البذرة، والحصاد قادم بلا شك. الجموع تُرى هنا وهي تعاني من شحة مقومات الحياة، بينما الأغنياء ببحبوتهم وترفهم يبقون بعيدين عن التأثر، رغم أنه قُدّر لهم أن يعانوا في فترة لاحقة.

الختم الرابع

الموت والهاوية:

٧، ٨- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الرَّابعَ، سَمعْتُ صَوْتَ الْحَيَوَان الرَّابع قَائلاً: «هَلُمَّ وَانْظُرْ!» فَنَظَرْتُ وَإذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَالْجَالسُ عَلَيْه اسْمُهُ الْمَوْتُ، وَالْهَاويَةُ تَتْبَعُهُ، وَأُعْطيَا سُلْطَاناً عَلَى رُبْع الأَرْض أَنْ يَقْتُلاَ بالسَّيْف وَالْجُوع وَالْمَوْت وَبوُحُوش الأَرْض". قوة أخرى تتجمع الآن. هذه الدينونات الأولية تزداد آخذة في الازدياد من حيث الشدة. الفرس الأخضر يدل على لون شديد الشحوب وهو النذير الجديد بالدينونة القادمة.

في الأختام الثلاثة السابقة، لا يُذكر اسم الفرسان. وأما هنا فاسم الفارس هو الموت. "الأختام الأربعة التي تصيب الناس الأحياء؛ وكذلك الموت، الذي يخضعون له، نجد تمثيلاً لها هنا على أكمل وجه. ولكن الهاوية تقتبل حتى الآن فقط أولئك الذين اقتلعهم الموت، فتكون كعربة الموت، التي ليس من فرس معين محدد لها" ٨. الهاوية لا تأتي لاحقاً بل تأتي مع الموت. هذان الاثنان هما الحارسان القيّمان على أجساد وأرواح الناس. في نهاية حكم الألف سنة يُطلقون سراح سجنائهم، ويتدمرون هم أنفسهم، وهذا ويتم تجسيدهم، ويُلقون إلى بحيرة النار (٢٠: ١٤). الهاوية تشير إلى ما يلي الموت مباشرة، والذي تنهيه القيامة بالتأكيد، إنها تلك الحالة بين الموت والقيامة. الموت والهاوية يُستخدمان هنا بعلاقتهما مع غير الأتقياء. الكلمة الأخيرة تعني ببساطة "غير المنظور"، ومن هنا فإن كلمة "جحيم" ليست هي المرادف تماماً للـ "الهاوية". في هذا الوصف الحيوي يظهر ملك الرعب نفسه. لون الحصان المشابه للون الجثث يتناسب مع اسم وشخص الفارس. الموت والهاوية رفيقان لا ينفصلان. وكلاهما معاً يتشاركان في الدينونة ويساهمان في الهلاك.

دينونات الله الأربعة المؤلمة:

يُذكرنا يوحنا هنا من جديد بالحقيقة الرائعة أن هذه الدينونات في تتابعها وطابعها ومدتها وشدتها لها مصدرها في عرش الله. نقرأ أن "سُلْطَاناً أُعْطيَ له"، وليس "لهما". "له" أو "لهما" هي موضع جدال ولكن الدليل الداخلي هو الذي يقرر أيهما أصح. الموت يصيب الأحياء. والهاوية تستولي على أرواح الأموات. فالموت بالتأكيد يسبق الهاوية. الموت يتعامل مع الأحياء، في حين أن الهاوية تتعامل مع الأموات.

تحت كل من الأختام السابقة نجد أداة للدينونة، ولكن هنا نجد أربع أدوات، الأربعة التي كان الرب يهدد بها أورشليم الآثمة في الماضي. "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: كَمْ بِالْحَرِيِّ إِنْ أَرْسَلْتُ أَحْكَامِي الرَّدِيئَةَ عَلَى أُورُشَلِيمَ سَيْفاً وَجُوعاً وَوَحْشاً رَدِيئاً وَوَبَأً, لأَقْطَعَ مِنْهَا الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ" (حزقيال ١٤: ٢١). الفارق الوحيد بينها هو أنه في الدينونات الرؤيوية "الوحوش" تُسمى في النهاية؛ "الموت"، أيضاً، الثالث في القائمة، يجب أن يُفهم على أنه "الطاعون" كما يرد في حاشية بعض إصدارات الكتاب المقدس. السيف تحت الختم الثاني، والجوع تحت الثالث، تتواجد ثانية هنا تحت الختم الرابع مقترنة مع آخرين. السيف المسلول في يدي الفارس القاسي الذي لا يرحم لن يُسحب إلى أن يتم إنهاء مهمته المكلف بها من قِبل الله. والجوع أيضاً سيقوم بدوره المميت، موت مؤخر ومؤلم أكثر من الموت الذي ينجم عن السيف. الموت أو الطاعون سيستعمل مِنجلهُ بضربات قاتلة ويحصد حصاداً كاملاً. وأخيراً، "وُحُوش الأَرْض" سوف تُكمل التدمير.

تحت المساعي الزراعية السابقة للختم، والتي بدونها لا يمكن أن يوجد أناس متمدنون، يجب تركها. الجموع تحت الختم الثاني كانوا يستخدمون السيف بدلاً من شفرة المحراث. الأرض يجب أن تقبع غير محروثة، وفي غياب جوع المحاصيل الذي يأتي نتاجاً لذلك، والوحوش، وقد تركت مأواها المعتاد، ستضيف إلى البؤس العام بافتراسها للناس. هذه الدينونات المؤلمة الأربعة، السيف، والجوع، والطاعون، والوحوش، يجب أن تكون في حالة فعالة في نفس اليوم. إنها دينونات متزامنة مع بعضها. روحنتها، كما يفعل الكثيرون، أي لجعلها تتكلم لغة غريبة عن معناها الطبيعي والبسيط، هو تحريف للكتابات المقدسة وليس تفسيراً لها. الحمد لله أن المجال الذي تحل فيه هذه الدينونات يقتصر على "رُبْع الأَرْض". العالم الروماني آنذاك يتم الكلام عنه على أنه "ثالث" (١٢: ٤). مجال عالم الدينونة محدود. يا له من مستقبل مريع ينتظر سكان تلك الأراضي الذين لا يعرفون المسيح!

الختم الخامس

تقسيم الأختام:

٩- ١١- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَح نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضي وَتَنْتَقمُ لدمَائنَا منَ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحدٍ ثيَاباً بيضاً، وَقيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَريحُوا زَمَاناً يَسيراً أَيْضاً حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإخْوَتُهُمْ أَيْضاً، الْعَتيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مثْلَهُمْ". الأختام الأربعة الأولى متمايزة بشكل واضح عن الثلاثة البقية الأخرى، كما في معظم التقسيمات السبعة. كل من الأختام الأربعة يميزه مخلوق حي ٩ وفرس، وكلاهما يختفيان في الأختام التي تليها. المخلوقات الحية مرتبطة مع الحكم التدبيري للعالم؛ إنها قوى غير منظورة وراء العوامل والأدوات البشرية. ولكن في الأختام التالية يتعتم المشهد، ويظهر جلياً أكثر تدخل الله العلني في شؤون الناس. وانقطاع مشابه في السلسلة السباعية من الأبواق ودينونات الجامات يحدث (من أجل السابق انظر ٨: ١٣، ومن أجل الأخير انظر ١٦: ١٠). الجامات الثلاث الأخيرة تعبر بشكل كامل عن غضب الله على العالم المسيحي الخاطئ الأثيم.

أول فريق في جماعة الشهداء:

٩- "رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَح نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا". كم تغير المشهد! المؤمنون الآن هم "ملح الأرض" (متى ٥: ١٣). وجودهم في الأرض يحفظ هذه الأراضي خلال هذه الفترة من الارتداد والفساد والدينونة التالية المستحقة. ولكنهم أيضاً "نور العالم" (الآية ١٤). شهادتهم على نعمة الله، وإن كانت ناقصة في امتلائها وطابعها، لا تزال أفضل وأسمى بركة في العالم. ولكن عندما ينفد صبر الله، ويُزال "الملح" و"النور"، فعندها سيخضع العالم للفساد والظلمة الأخلاقية، وينال الدينونة العادلة التي يستحقها (أشعياء ٦٠: ٢). صفحة البداية للدينونة هي أمامنا في الأختام الأربعة الأولى.

عندما يتهدم مسكن الروح القدس على الأرض، أي الكنيسة (١ كور ٣: ١٦)، إذ يجب أن يُقدمها المسيح لنفسه في المجد (أفسس ٥: ٢٧)، فإن الروح سيعمل من السماء على الأرض، ويُنشط الأرواح بقدرته الإلهية. أولئك الذين اهتدوا وخلصوا أولاً، دون الاتكال على أي وكالة بشرية معروفة، سيجلبون على أنفسهم العدائية القاسية والشديدة من سكان الأرض الذين لا يعترفون بالمسيح. بما أنهم معرضون للاضطهاد الوثني الباكر، فمن الممكن أن الجماعة الشاهدة المستقبلية من المؤمنين ستُعتبر سبب الكوارث التي تصيب الشعب، ومن هنا اندلاع العنيف للاضطهاد المرير والقاسي والشرير. ولكن يُذكر هنا السبب الحقيقي والواقعي لاستشهادهم، "قُتلُوا منْ أَجْل كَلمَة الله وَمنْ أَجْل الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ". كلمة الله عندما تُعلن بإخلاص وأمانة بحسب ما تتطلبه المطالب واضحة المعالم من ضمير الإنسان تحرك العداوة من طرف العالم، والخاضعون لكلمة الله الأكثر أمانة في الحياة والشهادة للعلنية يجب أن يختموا تلك الشهادة بدمهم. الرب في الوقت الحالي، وبقوة الروح القدس على الأرض، يكبح هواء البشر، ولكن يسمح بانسحاب حضور وقوة الروح القدس، وبعداوة العالم للمسيح ولأولئك الذين هم خاصته التي ستؤدي إلى اندلاع اضطهاد عنيف قوي ومرير يوصلهم إلى الشهادة. "الشَّهَادَة الَّتي كَانَتْ عنْدَهُمْ" ليست نعمة الله كما الحال الآن، بل بالنسبة إلى المطالب العادلة لله في تأسيس ملكوته على الأرض. الجواب على هذه الادعاءات هو سيف القوة في يدي السلطة المرتدة التي تقود الاضطهاد عندئذ. يُطلق العنان للدينونة على هؤلاء المتألمين القديسين. حقوق المسيح بالملكوت (متى ٢٤: ١٤)، التي تكون عندئذ موضوع الشهادة، ستهتز تحت وطأة وشهادة المذبوح بقسوة. الكلمة القربانية "يُذبح" تُستخدم بشكل يتناسب مع الطابع الخاص لهؤلاء الشهود الذين يُرجح أن يكونوا من اليهود. الجماعة الأخيرة تحت الوحش (١٣: ٧) يُقال بأنهم "يُقتلون" (الآية ١١)، وهي كلمة أعم من السابقة. مذبح المحرقة الذي كان في باحة خيمة الاجتماع والهيكل يُشار إليه هنا. المذبح النحاسي هذا الذي يرمز إلى تحمل الدينونة الإلهية يُشار إليه أيضاً في الأصحاحات ١١: ١؛ ١٤: ١٨؛ ١٦: ٧. المذبح الذهبي للبخور يتبدى مرتين للعيان في هذه المشاهد الرؤيوية (الأصحاحات ٨، القسم الأخير من الآية ٣؛ و٩: ١٣). "المذبح" في الآيات ٣ و٥ من الأصحاح ٨ يشير إلى المذبح النحاسي.

تحت المذبح، الذي عليه قُدِّموا كذبائح على يد المضطهد القاسي العديم الرحمة، تصرخ أرواحهم بصوت عالٍ للانتقام من أعدائهم. الصورة المجازية موضوعة في قالب يهودي، ولكن مع ذلك ليس من السهولة فهمها. الصرخة ليس فيها شيء من النعمة الإلهية، بل إدانة عادلة. مناشدة البقية التقية اليهودية المستقبلية لإله الدينونة تتوافق تماماً مع الفكر الإلهي كما الحال في الكلمات المؤثرة التي قالها الرب على الصليب: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لوقا ٢٣: ٣٤)، أو صلاة شهيد المسيحية الأول: "يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ" (أعمال ٧: ٦٠). تغير الدهر التدبيري يُغير طابع تعامل الله مع العالم. الناموس كان المبدأ الذي تعامل به الله في أزمنة العهد القديم. النعمة هي الأساس في تعاملات الله الحالية وطرقه. الدينونة، في التعامل مع الشر وفاعلي الشر، يميز الأزمة القصيرة المستقبلية قبل أن يبزغ نور المجد على الأرض. لذا صوت المذبوح تحت المذبح ينسجم تماماً مع ما يرد في المزمور ٩٤: "يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ يَا رَبُّ يَا إِلَهَ النَّقَمَاتِ أَشْرِقِ. ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ. جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ. حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَا رَبُّ حَتَّى مَتَى الْخُطَاةُ يَشْمَتُونَ؟" (الآيات ١- ٣). دينونة الخطيئة على الصليب هو الأساس الذي يعتمد عليه بشكل مضمون مجدنا في السماء. دينونة الخطيئة التي ستحل على الأشرار في الأرض لابد منها لمحو الشر منه ولتؤهله ليكون مكاناً يليق بسكن شعب الله الأرضي.

أرواحهم تُرى في رؤيا "تَحْتَ الْمَذْبَح". على المذبح نرى المحرقة التي تُقدّم، ولكن تحت المذبح، حيث ذبيحة الخطيئة يُسكب (لاويين ٤: ٧)، فهذا يرمز إلى اكتمال الذبيحة. شهادة القديسين لم تكن تجري. كان العالم قد انتهى. ليس هناك من تفاصيل. قسوة المضطهد وتنهد الشاهد الأمين المخلص للمسيح وحقوقه الملوكية ليست مدونة. الشهداء لا يُرون هنا في الحياة، ولا كقائمين، بل في حالة منفصلة؛ "نُفُوسَ الَّذينَ قُتلُوا".

بصوت عالٍ يصرخون: "حَتَّى مَتَى؟" الصرخة المعروفة لليهود المتألمين في الساعة الآتية من الآلام التي لا نظير لها. الألم والإيمان نراهما في الصرخة التي نجدها في (مز ٧٤: ٩، ١٠؛ ٧٩: ٥؛ ٨٩: ٤٦؛ ٩٤: ٣، ٤). المناشدة هي لله لأنه "السَّيّد الْعظيم الجلال". وهذا لقب يدل ضمناً على سيادة مطلقة، ولا يوجد في الرؤيا إلا هنا. وتُضاف ألقاب "الْقُدُّوسُ" وَ"الْحَقُّ". الصرخة تتوجه إلى ذاك الذي له حق وقدرة على الانتقام للدم الذي سُفك بوحشية وغدارة؛ من هو قدوس بطبيعته وأمين لكلمته وبعده. الظروف المتوقعة تحت هذا الختم تشابه تلك التي نراها في المزمور ٧٩، وحده صاحب المزامير يشهد إلى لحظة لاحقة وإلى منطقة أكثر تحديداً. يُنفذ الانتقام على "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". جماعة أخلاقية يُشار إليها هنا، إذ في ١١: ٩ يُشار إلى سكان الأرض تحت اللائحة المعروفة، "الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة"؛ ثم في الآية التالية طبقة أخلاقية، أسوأ من فيهم يتم الكلام عنهم على أنهم "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". مغزى هذا التعبير نجده في فيلبي ٣: ١٩. الصرخة المطالبة بالانتقام تُسمع، ولكن الجواب مؤجل. في هذه الأثناء يعطي الرب علامة على موافقة خاصة. كل واحد من جماعة الشهداء أُريق دمه لأجل الكرامة والتبرئة. "فأُعْطُوا كُلُّ وَاحدٍ ثيَاباً بيضاً" ١٠.

لو كانت هذه الآية لوحدها لكانت ستجعل أمراً متعذراً الدفاع عن مدرسة التفسير التاريخية. المسيحيون مرتبطون بالآب، وليس بالسَّيّد الْعظيم الجلال؛ فهم يُصلون لأجل أولئك الذين يعاملونهم بازدراء؛ إنهم لا يُنفذون انتقامهم منهم. فبالنسبة للمسيحي يستحيل تنفيذ الانتقام. وأما بالنسبة لليهودي المستشهد فإن هذا النداء الشرعي للانتقام متوافق تماماً مع الناموس الذي عاش تحت ظله، وكتاباته المقدسة، والرب بإعطائه كل واحد رداءً أبيض إنما يدل على موافقته على ما يتلفظون به.

كم هو صالح وكريم ربنا ليُعبر هكذا عن موافقته الجاهزة للموقف البار الذي لقديسيه الشهداء. ولكن سيف الرب لم تُسحب بعد. إثم الإنسان كان ينتظر تطوراً أكمل للشر قبل أن يحل غضب الرب العادل والمقدس بضراوة على الشرار الآثمين. وقت الانتقام كان سيأتي بعد "زَمَان يَسير". وهنا جماعة أخرى يُطلق عليهم اسم "الْعَبيدُ رُفَقَاؤُهُمْ" و"إخْوَتُهُمْ" كانوا سيرتفعون إلى مراتب جيش الشهداء النبيل. جماعتان منفصلتان من القديسين الشهداء يُشار إليهما بشكل واصح في هذه الآيات، الجماعة الأولى الأبكر تُذبح تحت الختم الخامس ١١؛ والأخيرة تُختم في فترة لاحقة، بعد "زَمَان يَسير". ليس هنا جواب كامل على الصرخة "تَحْتَ الْمَذْبَح" إلى أن يحدث هذا الأمر الطارئ الثاني على جماعة الشهداء.

يجب أن نضع في ذهننا بشكل واضح أن الإشارة هنا ليست إلى شهداء العهد القديم منذ هابيل، وليست إلى شهداء المسيحية منذ ستيفانوس. الجماعتان هم أولئك الذين يختمون شهادتهم بدمهم بعد انتقال قديسي الماضي والحاضر إلى السماء. الأزمة الموجزة الآتية ستشهد في مراحلها الأولى واللاحقة انفجارات عنيفة من الاضطهاد القاسي ضد أولئك الذين كانوا يشهدون لله آنذاك.

الختم السادس

الدمار الكامل لكل السلطة الحكومية والمدنية:

١٢- ١٧- "وَنَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ السَّادسَ، وَإذَا زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ حَدَثَتْ، وَالشَّمْسُ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ، وَالْقَمَرُ صَارَ كَالدَّم، وَنُجُومُ السَّمَاء سَقَطَتْ إلَى الأَرْض كَمَا تَطْرَحُ شَجَرَةُ التّين سُقَاطَهَا إذَا هَزَّتْهَا ريحٌ عَظيمَةٌ. وَالسَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَجَزيرَةٍ تَزَحْزَحَا منْ مَوْضعهمَا. وَمُلُوكُ الأَرْض وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْويَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَغَاير وَفي صُخُور الْجبَال، وَهُمْ يَقُولُونَ للْجبَال وَالصُّخُور: «اُسْقُطي عَلَيْنَا وَأَخْفينَا عَنْ وَجْه الْجَالس عَلَى الْعَرْش وَعَنْ غَضَب الخَرُوف، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبه الْعَظيمُ. وَمَنْ يَسْتَطيعُ الْوُقُوفَ؟»". تحت الختم السابق شهدنا صراعاً عنيفاً شرساً بين النور والظلام. الصراع بين الخير والشر لا يعرف توقفاً أو انقطاعاً. ولكن الله سوف ينتصر في النهاية. الجواب الكامل على صرخة المناشدة للقديسين الشهداء يجب أن تنتظر اكتمال جماعة الشهداء. اندلاع ثانٍ من الغضب على شهود الله، يُوجهه ويديره الوحش وتابعه، ضد المسيح، يُشار إليه هنا. ثم ستأتي ساعة الضيقة المريعة الفظيعة. ثم سيتعامل الله الغاضب بدينونة مع مُضطهدي شعبه الأشرار. "إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً" (٢ تسالونيكي ١: ٦). ولكن تحت هذا الختم سيبدأ الله بالتعامل مع العالم بإدانة، معطياً بذلك طابعاً جدياً للجواب الكامل الذي سيُعطيه استجابة للصرخة التي تحت المذبح.

المشهد الموصوف هنا مهيب ومريع وفظيع. الرموز المستخدمة تشير إلى قوة الطبيعة. كل نسيج السلطة المدنية والحكومية على الأرض يتكسر. الفوضى تسود وتكون شديدة. غنه ليس مجرد انهيار لهذه الحكومة أو تلك، بل دمار كامل لكل السلطات الحاكمة، سواء كانت سيادية مستقلة أم خاضعة لغيرها. الفكرة العامة التي تُقدمها هذه الاستعارات المجازية هي نزف عام عالمي لكل السلطات الموجودة؛ أزمة جذرية من ذلك النوع الكبير الخطير الذي سيجعل الملوك والعبيد في حالة رعب شديد. التحطم الآتي سيكون مشتملاً في كارثة عامة تصيب كل شيء على الأرض التي كانت تُعتبر آمنة وقوية. فوضى مدنية واجتماعية وسياسية واسعة ستُخلق يا له من مشهد فظيع نتأمل به! عالم بدون حاكم! وحتى بدون شكل أو مظهر خارجي من السلطة العادلة! بدون حكومة! بدون سلطة للكبح أو للإخضاع!

١٢- "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ" تُشير إلى تمزق عنيف في حالة الأشياء المنتظمة، تدمير كامل لكل السلطة الموجودة. تحت الختم السابع، وتمهيداً إلى إنزال الضربات التي ستكون تأديبات أشد قساوة (٨: ٥)، يُذكر حدوث زلزال، إضافة إلى العلائم الأخرى، وهذا في إشارة علنية إلى الغضب الآتي. ولكن الزلزال هنا يُوصف بأنه "عظيم"، كما يتم التأكيد على أن آثاره على البشر ستكون شديدة. تحت الجام السابع (١٦: ١٨) سيكون هناك ثورة اجتماعية وسياسية أخرى تتجاوز في تأثيرها هنا مع ما لدينا في النص هنا، كارثة ذات طابع مرعب مروَّع لم يعرف التاريخ مثلها. يجب أن نضع في أذهاننا أن الأختام تكشف عن سلسلة من الآلام المتتالية والتمهيدية. إن "الزَلْزَلَة العَظيمَة" لا تعلن عن يوم الرب. هناك مجموعتان من العلامات يذكرهما الرب في خطبته النبوية العظيمة (متى ٢٤: ٢٥). المجموعة الأولى تنطبق على الفترة قبل الضيقة العظيمة (٢٤: ٦- ١٤)، والمجموعة الثانية ستجد تطبيقها بعد الضيقة، وكلها تعلن عودة الرب الفورية بقوة (الآية ٢٩). والآن، إن الحوادث تحت الأختام سابقة للضيقة، وهي تندمج فعلاً مع الحالة السابقة من الأشياء الموصوفة في متى ٢٤: ٦- ١٤. لذلك فإن "الزَلْزَلَة العَظيمَة" التي يتكلم عنها نصنا لا تعلن الدينونة النهائية، وليست هي البشير المباشر لعودة الرب، مهما قال الناس بدافع مخاوفهم ورعبهم (رؤيا ٦: ١٧). هذه الحقيقة نفسه في أن زلزلة مريعة أخرى ستلي تلك التي في نصنا ستُسوي المسألة (١٦: ١٨). حالة الأشياء الموصوفة تحت الختم السادس ستليها مخاوف وفظائع أشد رعباً.

١٢- "وَالشَّمْسُ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ" ١٢. الشمس ترمز إلى السلطة الحاكمة السامية العظيمة الشأن (تكوين ٣٧: ٩؛ رؤيا ١٢: ١). "سَوْدَاءَ كَمسْحٍ منْ شَعْرٍ" تشير إلى قوة الشيطان المعتمة، وتدل على السلطة العليا في الأرض (التي كان الجميع عليها متكلون) في حالة من الانهيار الكامل (أشعياء ٥٠: ٣؛ حزقيال ٧: ١٨). تعتيم الأجرام السماوية هو كارثة مريعة في العالم المادي، ومن هنا الملاءمة في لصورة المجازية المستخدمة هنا. "الْقَمَرُ صَارَ كَالدَّم". كل سلطة تنحدر مباشرة من القوة الأسمى وتتكل عليها وهذه نجدها هنا مصورة مجازياً بـ "الْقَمَرُ" ١٣. القمر في العالم المادي هو كوكب ثانوي تابع، ويرمز إلى السلطة الثانوية في العالم المعنوي. إنه شخص إسرائيل متكلاً على المسيح الذي هو شمس البر (مز ٨١: ٣). "صَارَ كَالدَّم". الموت الأخلاقي والارتداد في كل سلطة تابعة هو المشار إليه هنا. "الدم" هو رمز عام يدل على الموت (رؤيا ١١: ٦؛ ١٩: ٢، ١٣).

١٣- "نُجُومُ السَّمَاء سَقَطَتْ إلَى الأَرْض كَمَا تَطْرَحُ شَجَرَةُ التّين سُقَاطَهَا إذَا هَزَّتْهَا ريحٌ عَظيمَةٌ". كل السلطات الأقل شأناً، والحكام الأفراد، مدنيين أو كنسيين، يسقطون أخلاقياً من مركزهم الرفيع المقام. الله وعلاقتهم به تم التخلي عنهم. التين الفج أو الذي في غير أوانه هم أولئك الذين يختفون تحت الأوراق ولا ينضجون أبداً، وتطرحهم أرضاً في الشتاء الريح العاتية. عندما تهب رياح غضب الله مندفعة بقوة عبر العالم، فعندها أولئك الذين لم يكونوا خاصته، ومهما سمت مكانتهم، سيرتدون علانية ويتخلون عن كل علاقتهم الخارجية به (أشعياء ٣٤: ٤).

١٤- "السَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ". الأنظمة السياسية والمدنية والكنسية، والمؤسسات، والروابط، وإطار عمل المجتمع، سيختفي كلياً كدرج أو سفر ينفلق ولا يعود بالإمكان قراءته. زوال السماء مادياً (رؤيا ٢١: ١) والسموات (٢ بطرس ٣: ١٠)، وبالطبع، ليس مكان سكنى الله، والقديسين والملائكة، هو من أضخم الأحداث التي تدونها كلمة الله. ولكن التوقف الكلي لكل النظام المتحكم، والسماء المعنوية، هي أحد الأحداث القادمة وأشدها فظاعة التي يمكن التفكير فيها، لقد رأينا دمار السلطات الأعظم والأصغر، ولكن هنا النظام برمته الذي كانت فيه ينهار.

١٤- "كُلُّ جَبَلٍ وَجَزيرَةٍ تَزَحْزَحَا منْ مَوْضعهمَا". نظام من السلطة المستقرة يُمثله لنا الجبل (دانيال ٢: ٣٥؛ إرميا ٥١: ٢٥)، ما يشير إلى حكومة قوية مستقرة تسود لفترة طويلة. كان اليهود يعتبرون الجزر كمصادر للثروة ومراكز للتجارة (أشعياء ٢٣: ٢؛ حزقيال ٢٧: ٣- ١٥). وهنا نجد الإشارة إلى زوال كل شيء، مهما كان عظيماً أو طويل الأمد، وهما كان مصدراً للثروة والتجارة.

رعب كوني:

تأثير هذه الثورة القوية والعالمية في الحياة المدنية والسياسية سيتجلى في مشهد من الرعب الفظيع. بالتوافق مع الميزات الواضحة للرؤيا، والتي يُستخدم فيها العدد ٧ كثيراً، هناك سبع طبقات معلنة من الناس، وكما العادة، هذه تُقسم ثانية إلى مجموعتين واحدة مؤلفة من ثلاثة والثانية من أربعة. الأولى تتألف من أولئك الذين يحكمون: "ملوك"، الأسمى مكانة ومقاماً؛ و"العظماء"، أو الرؤساء، و"القادة الأقوياء ١٤". المجموعة الثانية تشتمل على طبقة من غير الموظفين يُشار إليهم في ثنائيات: "الأَغْنيَاءُ" و"الأَقْويَاءُ" وَ"كُلُّ عَبْدٍ" وَ"كُلُّ حُرٍّ" ١٥.

١٥- الجميع، ذوي المراكز العالية والدُنيا، الأغنياء والفقراء، "أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَغَاير وَفي صُخُور الْجبَال". يا لها من صورة رمزية تشير إلى الرعب! مخافة الرب ومجد جلاله في قوة حاكمة سيادية، كما تُشاهد في التمزق العالمي للمجتمع، سوف يصيب الناس بخوف شديد حتى أن المغاور وصخور الجبال ١٦ سيتراكضوا الناس إليها ليختبئوا من غضبه وليحجبوا أنفسهم عن وجهه. إنها ساعة خوف قاتل. وفي رعبهم سيلتجئون، ليس إلى الله، بل إلى الجبال والصخور متمنين أن تقع فوقهم لكيما تحبسهم "عَنْ وَجْه الْجَالس عَلَى الْعَرْش وَعَنْ غَضَب الخَرُوف". ومخاوفهم الناجمة عن آثامهم تُضيف: "لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبه الْعَظيمُ. وَمَنْ يَسْتَطيعُ الْوُقُوفَ؟" ولكن ليس الأمر كذلك. دينونات أشد وطأة تلوح في الأفق، وسحب أشد عتمة تتجمع قبل الساعة الأخيرة للألم المضني المكثف الذي سيُعرف بأنه "غَضَب الخَرُوف". تحت الختم السادس تُسبب أول قطرات من العاصفة القادمة لغضب الله رعباً وخوفاً عالميين. عندما ستندلع العاصفة فعلياً لدى الرجوع الشخصي للرب، فعندها، وبدلاً من غضبه المخيف، سيتميز المشهد بازدراء وقح للحمل (رؤيا ١٩: ١٧- ١٩). هذا المشهد الذي سيغرقه الملك المحارب بالدم.

علينا أن نكون منتبهين للغاية لأن لا نسمح للتفاصيل بأن تُضعف في نفوسنا التأثير العام لهذا الوصف المثير للأحداث القادمة، ومخاوف البشر التالية. فحتى القارئ العادي يجب أن يشعر بالرهبة لدى وقوع هذا المشهد الذي سيكون عظيماً ورفيع الشأن بما لا نظير له، والذي يتم الكشف عنه بعبارات كاملة وواضحة تفوق الاحتمال، ما عدا للجاهل المتعمد، الذي سيسيء فهمها.

إن الاعتبارات المتعلقة بالختم السابع ١٧ يجب أن نضعها في ذهننا إلى أن نبدأ بدراسة الأصحاح ٨.


١. انظر الفصل عن "النبوءة المشهورة للأسابيع السبعين".

٢. "الرؤى في السفر يمكن أن تكون لها تطبيقات تمهيدية، لأن المبادئ التي بُنيت عليها أبدية"- "تفسير العهد الجديد".

٣. البعض يرى في حذف الكلمات، خاصة في الآية ١، أمراً مشكوكاً به، ولكن المسألة يحلها بشكل مرضٍ كاتب تفسير الرؤيا، بيشوب إليكوت، "تفسير العهد الجديد": "الكلمات "وانظر" مشكوك بها. نجدها في بعض المخطوطات، ومحذوفة في أخرى؛ مؤيدي حذفها يتساوى عددهم مع مؤيدي الإبقاء عليها. في ظل هذه الظروف لعله من الأفضل لنا أن نسترشد في سياق النص. لمن تُوجه الدعوات بالحضور؟ من هم الذين يُمنعنون من المجيء؟ إن كانت الدعوات موجهة إلى الرائي فيمكن فهم إضافة ناسخ ما للكلمات "وانظر". ولكن هل هي موجهة إلى الرائي؟ يبدو من الصعب إيجاد سبب أو مبرر لهكذا مطلب. لقد كان قريباً جداً من هناك. لقد رأى الحمل يفتح الختم. وليس من هناك ما يستدعي اقترابه أكثر. فهل الكلمات إذاً موجهة للمسيح، كما يفترض ألفورد؟ من الصعب أن نعتقد أن الكائن الحي سيتكلم هكذا مع الحمل الذي كان يفتح الدرج. أبسط طريقة للإجابة على هذا السؤال هو طرح سؤال آخر: من الذي جاء طائعاً الصوت؟ ليس هناك سوى جواب واحد: الفارس. الكائن الحي يصرخ أن "تعال"، وصرخته تجد استجابة عليها من خلال ظهور الفرسان العديدون".

٤. عندما يتعلق الأمر بالقتال الفعال بالقوس والسهام، فعندها تّذكر الأخيرة بشكل محدد (عدد ٢٤: ٨؛ مز ٤٥: ٥؛ زكريا ٩: ١٤، الخ). ولكن لا شيء يُذكر هنا حول القوس إن كانت قد شُدت أو صارت جاهزة للعمل (مراثي إرميا ٢: ٤)، بل ببساطة يُذكر أن الراكب على الفرس الأبيض يملكها. الفكرة الرئيسية هي الانتصار غير الدامي أو الذي ليس فيه سفك دماء.

٥. في الأحصنة الأربعة تحت الأختام الأربعة الأولى هناك تلميح واضح إلى الأبطال الوارد ذكرهم في زكريا ١ و٦. في هذه الرؤيا الأخيرة الأحصنة الملونة الحمراء والكستنائية والبيضاء تُمثل طابع وطاقة القوى الإمبراطورية الثلاثة لفارس واليونان وروما. الفارس الذي يركب على الفرس الأحمر يُمثل كورش، الملك الفارسي المشهور، الذي دمر بابل وأعتق اليهود، كممثل سابق رمزياً عن المسيح، مخلّص إسرائيل في ما بعد، وديّان بابل الأسرارية. في الرؤيا الأخيرة (زكريا ٦) شخصية والمسار الجغرافي للإمبراطوريات الأمميين الأربعة يتم تصغيرها وعرضها، هذه الإمبراطوريات نفذت بدون أن تدرك أو تعرف إرادة الله السيادية. الفرسان السوداء (الفرس) ينطلقون نحو بلاد الشمال (بابل) ويدمرونها في حين أن الأحصنة البيضاء(الإغريق) تُدمرهم تدورهم؛ الخيول الحمراء (الرومان) يتمركزون في الجنوب (الآية ٦). الله يمنح روما سيطرة عالمية (الآية ٧)، ويرتاح بدمار بابل (الآية ٨). إن بابلان، الحرفية (إرميا ٥١) والأسرارية (رؤيا ١٨)، قُدّر لهما الدمار الكامل. فكلتاهما سبيا شعب الله.

٦. "فقدان الحياة يُرمز له مجازياً بالألوان العديدة: الأحمر والقرمزي"- "علم الرموز المقدسة"، بقلم Mills ، ص.١٦٠.

٧. توزيع الخبز بتقتير وبحسب الوزن هو علامة على ندرة هذه المادة (لاويين ٢٦: ٢٦؛ حزقيال ٤: ١٠- ١٧). ولكن تحت الختم، نجد تمايزاً في الوزن والمقياس، ولكن بصفة محدودة إذ أن عدداً كبيراً من الناس كان قد تأثر بالبؤس من جرّاء نقص الطعام فعلياً.

٨. Bengel as quoted by Hengstenberg .

٩. ما من شك أن هناك انسجام معنوي بين ميزات المخلوقات الحية (٤: ٧، ٨) والأختام الخاصة بكل منها التي ترتبط معها كل بمفرده. المخلوق الحي الأول والختم الأول، الأسد والغالب الإمبراطوري، يمكن رؤية الانسجام فيها بسهولة. وكذلك الأمر بين المخلوق الحي الرابع ونسر الختم الرابع (انظر متى ٢٤: ٢٨. الدينونة) ومسير الموت، نجد بينها تشابهاً مذهلاً.

١٠. الترجمة الأصح هي "ثوباً أبيض" وليس "ثياباً بيضاً".

١١. انظر متى ٢٤: ٩، التي تتزامن مع زمان وأحداث ما يُشار إليه هنا.

١٢. َمسْحٍ منْ شَعْرٍ: كانت تُصنع أصلاً من شعر الجمال أو الإبل (متى ٣: ٤)، وكانت عباءة النبي المألوفة (زكريا ١٣: ٤). ولكنها كانت رداء الندب والنحيب (رؤيا ١١: ٣؛ ٢ صم ٣: ٣١، الخ). وبهذا المعنى الأخير يجب أن نرى المشهد هنا.

١٣. ترد "القمر" هنا، ولكنها تأتي "القمر الكامل" أو "البدر" في ترجمات أخرى وكذلك في المخطوطات السينائية والإسكندرية والفاتيكانية.

١٤. في مرقس ٦: ٢١ نقرأ عن هيرودس يصنع مأدبة لنبلائه وقادته العسكريين ورؤساء الجليل، وهؤلاء الآنف ذكرهم ليسوا بالضرورة موظفين، فعلى الأرجح أنهم أشخاص ذوي مكانة عالية ولديهم حالة اجتماعية خاصة.

١٥. في الأصحاحات ١٣: ١٦؛ ١٩: ١٨ نجد الترتيب معكوس: الأحرار والعبيد.

١٦. هذه الإشارة الثانية والإضافية إلى الجبال سترينا بحد ذاتها أن السماء المادية، والقمر، والنجوم، والجبال، الخ. ليست هي ما يتم الحديث عنه فعلياً، بل يجب أن تُفهم بشكل رمزي. كيف أمتن لكل جبل أن يُزال (الآية ١٤) ومع ذلك يبقى الناس يلتجئون إليه للاختباء (الآية ١٥)، ستكون هناك تغيرات مادية في السموات والأرض عند البدء (زكريا ١٤) وستختم الحكم الألفي (٢ بطرس ٣)، ولكن زمن حدوث هذا الختم سيدل على المغزى المعنوي والرمزي.

١٧. لقد فكرنا بتقديم خلاصة مكثفة عن التطبيق التاريخي للأختام، ولكن بعد إمعان الفكر قررنا أن لانفعل ذلك. إنه و لما يذهلنا أن نرى التضاد في الفكر عند التاريخيين. بالكاد نرى اثنين منهم يتفقان في تفسيرهما للأمور، بينما التواريخ المحددة لديهم الخاصة بهذا الحدث أو ذاك نجدها في تشوش ميئوس منه. لا عجب إذاً في أن جماعة المسيحيين يعتبرون أن دراسة الرؤيا فيها كم كبير من الريبة يصعب التخلص منها. من الواضح أن مبدأ التفسير خاطئ. إن كانت الرؤيا ستفسر على ضوء الحقائق الواردة في التدوين التاريخي، فإن هذا سيمنع عدد كبير من شعب الله من دراسة السفر، كيف يستطيعون دراسة التاريخ؟ إضافة إلى ذلك، إن كان هؤلاء الذين فعلوا ذلك ويسعون لتفسير السفر على هذا المبدأ يختلفون بشكل كبير حتى تنعدم احتمالات التوافق بينهم، فكم يكون الأمر صعباً ومستحيلاً بالنسبة للآخرين. حسن أننا نعتبر أن مبدأ تفسير هذا السفر استناداً إلى المدرسة التاريخية خاطئ كليةً. روح الله وحدها هي التي تعطينا القوة لفهم النبوءة، وليس حقائق التاريخ. إن الرؤيا ابتداءً من الأصحاح ٤ تشير إلى المستقبل.

الأصحاح ٧

الرؤى الثانوية للنعمة

رؤى جماعتين منفصلتين:

هنالك رؤيتان منفصلتان مشتملتان في هذا الأصحاح. الأولى تتعلق بإسرائيل (الآيات ١- ٨)؛ والثانية تشير إلى الأمميين (الآيات ٩- ١٧). ليس من شك في الطابع الثانوي الاعتراضي لكلتيهما. المحتويات التي في هذا الأصحاح لا تشكل أي جزء من الأحداث التي تقع تحت الأختام. وليس من تعاقب تاريخي. في الأصحاح السابق رأينا فتح الأختام الستة الأولى بالتعاقب؛ ثم في الأصحاح ٨ يفتح الحمل الختم السابع أو الأخير. وهكذا فبين الختمين السادس والسابع، وبما لا يُشكل جزءاً من أي منهما، هناك حلقة ممتعة من البركة لإسرائيل والأمميين. مسار الدينونة يُعلق والستار يُزاح جانباً لكيما نستطيع أن نشهد قلب الله. لم يكن كل شيء واقعاً تحت الدينونة في تلك الأيام الداكنة والشريرة. ولا يُفترض أن الخلاص في كلتا هاتين الجماعتين من وسط إسرائيل والأمميين يحدث بالضرورة بين الختمين السادس والسابع، بما يوحي بمكانتهما وبركتهما الأقل شأناً. الأصحاح هو بلا تواريخ. ختم إسرائيل هو بحسب مكانتهم الألفية، ولكن لا يقول لنا السفر متى تم الختم. رؤيا الجمع الغفير المخلّص من الأمميين بعد خروجهم من الضيقة العظيمة تعتبرهم في بركة ألفية كاملة على الأرض، بأنه مشهد أرضي دنيوي (الآيات ١٦، ١٧). ولكن لا نعلم متى وصلتهم شهادة الله وخلّصتهم. فبعد انتقال القديسين السماويين مباشرة (١ تسا ٤: ١٥- ١٧) سيعمل الله بالنعمة وسط شعبه القديم ووسط الأمميين بالإجمال خارج الجزء المرتد من العالم. هذه الشهادة ستستمر لسنين عديدة، والأرجح خلال كل فترة أسبوع السبعين (الفترة المؤلفة من سبع سنوات) من دانيال وربما أكثر. لدينا هنا في الرؤيا نتائج تلك الشهادة. الإعلان عن هذه الجماعات هو مشهد ينعش النفس. وإذ يأتي بعد أن تُطلق قوة العدو ضد قديسي الله (٦: ٩- ١١) وقبل إنزال العقوبات الأشد التي لم تنزل بعد (٨: ١٦) يُثبت بانتصار أن لا شيء يمكن أن يعيق أهداف الله أو يمنع عمل روح قدسه على الأرض. كم هو صالح الله الذي يعطينا هكذا أصحاح اعتراضي ثانوي ممتع!

الدينونة مكبوحة:

١- "وَبَعْدَ هَذَا رَأَيْتُ أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض، مُمْسكينَ أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض لكَيْ لاَ تَهُبَّ ريحٌ عَلَى الأَرْض وَلاَ عَلَى الْبَحْر وَلاَ عَلَى شَجَرَةٍ مَا". العبارة "بَعْدَ هَذَا"، التي تتكرر في الآية ٩، تدل على بداية جديدة. إنها تبدأ القسم المتعلق ببني إسرائيل في أصحاحنا، وأيضاً الرؤيا حول جمهور الأمميين الحاملين لسعَف النَّخْل. الاستخدام المتعمد للعبارة وتكرارها قد حفظ مفسرين معينين من الخلط بين الجماعتين. إنهما منفصلتان ومتمايزتان في كل من المواصفات والبركة. إحداهما من وسط إسرائيل والأخرى من وسط الأمم. الأرض الألفية هو المشهد التي تظهر فيه كلتا الجماعتين. ولكن أمراً أساسياً ضرورياً لنا لفهم الأصحاح هو أن نضع نصب أعيننا أن زمن الرؤيا وزمن دخول هاتين الجماعة إلى البركة العلنية المحددة لهما مختلفان.

١- "أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض، مُمْسكينَ أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض". الرائي المنفي يرى هنا الأرض كسهل ممتد واسع، تحده الجهات الأربعة الرئيسية للبوصلة، الشمال والجنوب الشرق والغرب. عند كل من هذه الزوايا يوجد ملاك يقف بما يتوافق مع سيطرته الكاملة على قوى الشر المدمرة. التكرار الثلاثي للعدد "٤" يُميز اكتمال وعالمية الحدث. ولا نجد مبرراً لحصر العبارة "أرض" هنا في العالم الروماني. يجب على الرياح أن لا تهب إلى أن يُختتم عدد نموذجي من بني إسرائيل (الآيات ٣، ٤). سبطا إسرائيل، أفرايم ويهوذا مشتملين في هذا العمل. فالرب يهوه "يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ وَيَضُمُّ مُشَتَّتِي يَهُوذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ الأَرْضِ" (أشعياء ١١: ١١، ١٢). لذلك فإن كلاً من النبي والرائي يشيران إلى الحد الأقصى من الأرض المأهولة، وليس إلى الحدود الإقليمية للعالم الروماني، سواء كان في الماضي أم في المستقبل. من الواضح أيضاً، أن الآية ٩ تشير إلى نتيجة الشهادة الإلهية بين الأمميين التي تخوم الإمبراطورية في أي فترة من فترات تاريخها على الإطلاق. يجب فهم عبارة الأرض هنا بمعناها الأعم الأوسع الأشمل.

الملائكة الأربع المعيقين ١، غير المنظورين، ومع ذلك الحقيقيين، وذوي القدرات الروحية، نراهم هنا متحكمين بقوة وأدوات الشر. "أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض" ٢.

١- "مُمْسكينَ" بقبضة شديدة، ما يدل على أن الرياح كانت تحاول أن تصارع لأجل الإفلات والتحرر. كم هي شديدة لا تقاوم قبضة القدير على سلطات وقوى الشر. إنها مكبوحة عن الفعل إلى أن تنضج مخططات الله وتصبح جاهزة للتنفيذ.

الوضع في حالة توتر يثير الاهتمام. إننا على وشك الدخول إلى آلام أشد عمقاً. قمة الدينونة حتى الآن كانت تحت الختم السادس عندما انهارت كلياً كل القوى الحكمية والسياسية والاجتماعية السيادية والخاضعة لغيرها، ونشأ مشهد من الرعب الكوني. وها إن ويلات أشد تلوح في الأفق. لم يُذبح الجميع استشهاداً تحت الختم الخامس (٦: ٩- ١١)، ولن تمنع الدينونات الآتية والأكثر شدة شهادة الكون لله، كما تُظهر لنا بشكل مؤكد وقاطع الرؤى المعزّية في هذا الأصحاح حصرياً. ولهذا فإن الكوارث والاضطرابات الكونية، التي يشير إليها التعبير "رياح الأرض" هي قيد الكبح لبرهة إلى أن يتخذ الله إجراءات لحفظ عدد مكتمل من بني إسرائيل وجماعة لا حصر لها من الأمميين.

١- "لكَيْ لاَ تَهُبَّ ريحٌ عَلَى الأَرْض". المشهد يدل على حكومة مستقرة (رؤيا ١٠: ٢؛ مزمور ٤٦: ٢): "وَلاَ عَلَى الْبَحْر"، أمم وشعوب في حالة فوضى واضطراب (دانيال ٧: ٢، ٣؛ أشعياء ٥٧: ٢٠)؛ "وَلاَ عَلَى شَجَرَةٍ مَا"، قوة وكبرياء الأرض (دانيال ٤: ١٠، ٢٢؛ حزقيال ٣١: ٣- ٩، ١٤- ١٨). سبب توقف الدينونة توضحه لنا العبارة الدقيقة التي تقول: "حَتَّى نَخْتمَ عَبيدَ إلَهنَا عَلَى جبَاههمْ" (الآية ٣).

الملاك الذي يختم وصرخته:

٢، ٣- "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالعاً منْ مَشْرق الشَّمْس مَعَهُ خَتْمُ الله الْحَيّ، فَنَادَى بصَوْتٍ عَظيمٍ إلَى الْمَلاَئكَة الأَرْبَعَة الَّذينَ أُعْطُوا أَنْ يَضُرُّوا الأَرْضَ وَالْبَحْرَ قَائلاً: «لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ، حَتَّى نَخْتمَ عَبيدَ إلَهنَا عَلَى جبَاههمْ»". الدينونة المنسوبة إلى الرياح في الآية الأولى تُنسب هنا إلى الملائكة. في الأولى هناك رمزية إلى الوكلاء السياسيين والمدنيين الآخرين؛ وفي الأخيرة هناك رمزية إلى القوى الروحية التي توجه وتحكم وكلاء الشر هؤلاء، أدوات الدينونة في الآية الأولى القوى التي تستخدمها في الآية ٢.

"مَلاَكاً آخَرَ"، وليس أحد الأربعة، وبالتأكيد ليس المسيح ٣، كما افترض البعض على ذلك النحو الغريب. الجملة "حَتَّى نَخْتمَ" ستكون منتقصة لكرامة المسيح الفائق السمو؛ وكذلك أيضاً الكلمات الختامية في صرخة الملاك "عَبيدَ إلَهنَا". إن لغة ولهجة يوحنا ٢٠: ١٧: "إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ"، نجدها محفوظة في كل العهد الجديد. ولا نجد هذه العبارات "إلهنا" و"أبينا" أبداً في إشارة إلى المسيح والمؤمنين.

الملاك الذي يُشار إليه في نصنا هنا من الواضح أنه كائن روحي متمايز له مهمة عظيمة مجيدة مكلّف بها. إنه يطلع من الشرق أو من المشرق. "مَعَهُ خَتْمُ الله الْحَيّ" ٤. الملاك الذي يختم والطالع من المشرق لحفظ وبركة إسرائيل يبدو بشيراً بالمسيّا، الذي، ولكونه شمس البر، سيرتفع بشفاء في جناحيه (ملاخي ٤: ٢)، ويشرق على الأرض والشعب بإشراق لا شحوب فيه. بواكير البركة يتنبأ بها الملاك؛ والحصاد ينتظر إعلان المسيح من السماء.

"خَتْمُ الله الْحَيّ" يدل ضمناً على المناعة ضد الموت، والختم على الجباه يُشير إلى الإقرار العلني والعام بأن أولئك الذين خُتموا يخصون الله. ولكن سفر الرؤيا لا يخبرنا ما هو هذا الختم.

"عَبيدَ إلَهنَا". هذا اللقب ينطبق على المختومين من بني إسرائيل. لقد حافظوا على الشهادة لله خلال التجارب الصعوبات؛ وتميز مسلكهم بالصراع والخدمة؛ ومن هنا يستحقون لقب "عبيد".  

الختم ليس وحده عمل الملاك؛ أشياء أخرى مرتبطة أيضاً في الخدمة السعيدة لحفظ عدد مكتمل من بني إسرائيل من الدينونة. "حَتَّى نُخْتمَ". هناك وقار في العمل المُنجَز هنا لا نجده في الختم الذي يتكلم عنه نبي السبي (حزقيال ٩: ٤) ولا في نبي يهوذا على جبل صهيون (رؤيا ١٤: ١). الملاك الطالع من المشرق يُنفذ بشكل حسن المهمة المجيدة المكلف بها. خدمته ليست خدمة عادية، ومن هنا فإن الظروف المحيطة تشير إلى عظمة العمل.

"نَادَى بصَوْتٍ عَظيمٍ" إلى ملائكة الدينونة: "لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ"، ويطيع هؤلاء أوامره ويُحفظ بنو إسرائيل للبركة الألفية.

عدد المختومين:

الجماعة الأممية (الآية ٩) لا يُذكر عددها. وجماعة بني إسرائيل، عكس ذلك، يُحسب عددها بدقة، وتكون النتيجة، ليس بأعداد صحيحة، بل بعبارات دقيقة على أنه ١٤٤ ألفاً. اثنا عشرة من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثني عشر. الأعداد، سواء كانت عادية (١٢) أو مضروبة ببعضها (١٤٤) تشير إلى عدد كامل محدد. العد ١٢ هو العلامة المميزة لإسرائيل، ويُستخدم بشكل واسع في ما يخص اليهود. الإدارة الأرضية، والحكم، والحكومة، يبدو أنها القيمة المعنوية لهذا العدد ٥. عدد المختومين رمزي بالطبع، ويدل ببساطة إلى أن الله قد خصص عدداً معيناً كاملاً ومع ذلك محدوداً من بني إسرائيل لنفسه.

الخصائص المميزة:

في قوائم التعداد للأسباط في كل الكتابات المقدسة، والتي يوجد منها حوالي ١٨ قائمة، العدد الكامل الرمزي ١٢ نجده دائماً معطى؛ ولكن بما أن ويعقوب كان لديه ١٣ حجراً ٦، فكان يُحذف حجر أو آخر دائماً. كان لاوي يُحذف عموماً أكثر من الآخرين. في اللوائح الرؤيوية يُحذف دان وأفرايم. هذان السبطان كلاهما كانا متميزان بارتباطهما بالوثنية في إسرائيل، ولعل هذا هو السبب المرجح لمحو أسمائهما هنا (تثنية ٢٩: ١٨- ٢١). ولكن في النهاية النعمة تنتصر، ويُسمى دان في التوزع المستقبلي للأرض بين الأسباط (حزقيال ٤٨: ٢)، ولكن، وبينما يُذكر الأول، فإن الأبعد يُقصى من الهيكل، لأنه كان يتمركز في أقصى الشمال. في ترجمة الكتاب المقدس يأتي ذكر أسماء الأسباط بحيث يكون كل ثلاثة في آية واحدة، ولكن الترتيب الصحيح للأسباط، هو كما الحال في طريقة ذكر أسماء الرسل (متى ١٠: ٢- ٤)، مثنى مثنى. الثنائي الأول هو يهوذا ورأوبين، رابع وأول ولد لليئة، والأول هو السبط الملكي، وأما الأخير فيمثّل الشعب (تك ٤٩: ٣). الثنائي الثاني، جاد وأَشيرَ، ابني زلفة، واسمهما مرتبط بالبركات النبوية للأيام الأخيرة (تك ٤٩: ١٩، ٢٠). ثالثاً، نفتالي ومنسى، المرتبطان في لائحة أسماء الأسباط الواردة في حزقيال ٤٨: ٤. رابعاً، شَمْعُونَ ولاوي، الولدين الثاني والثالث لليئة، المترابطين في اللائحة النبوية (تك ٤٩: ٥- ٧)، وأيضاً في إعلان الرب عن نفسه للمخلّصين من بني إسرائيل (زكريا ١٢: ١٣). خامساً، يَسَّاكَرَ وزبولون، الولدين الخامس والسادس لليئة، وكلاهما مترافقان في اللائحة النبوية (تك ٤٩) وفي اللائحة الإقليمية (حزقيال ٤٨) لأسماء الأسباط. سادساً ٧، يوسف وبنيامين، ابني راحيل، الزوجة والأم الرئيسة.

جدير بالملاحظة أنه في بعض ترجمات الكتاب المقدس العربية لا نجد كلمة "مختوم" إلا في الآية الأولى والأخيرة. وهكذا نقرأ "منْ سبْط يَهُوذَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ" (الآية ٥)، و"منْ سبْط بنْيَامينَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ" (الآية ٨). أسباط يهوذا وبنيامين تفتتح وتنهي لائحة الأسباط بشكل تمثيلي. وإن الخصائص المميزة لهذين السبطين (تك ٤٩: ٨- ١٢، ٢٧) يتمركزان كلاهما في المسيح.

ثلاث جماعات من القديسين الألفيين:

جماعتا إسرائيل والأمميين رآهما الرائي في رؤيتين منفصلتين. الجماعة المنتقاة من الأسباط الاثني عشر( الآيات ٤- ٨) ليس فقط جماعة متميزة عن رفقائهم الأمميين (الآيات ٩- ١٧)، بل متميزة على نفس المقدار عن الـ ١٤٤ ألف الذين من وسط يهوذا من بزغوا من الفظائع في الساعة الآتية من التجربة وقوفاً على جبل صهيون (الأصحاح ١٤). هناك جماعتان يهوديتان متساويتان في العدد- الـ ١٤٤ ألف من كل إسرائيل (الأصحاح ٧)، والـ ١٤٤ ألف من يهوذا وحدها (الأصحاح ١٤). جموع الأمميين حاملي سعف النخيل يجب أن لا يتم الخلط بينهم وبين الكنيسة أو إسرائيل. الحشد الذي لا حصر لعدده يراها هنا يوحنا في رؤيا هو ثمرة العمل المكثف للنعمة الذي بدأ مباشرة أو مع بدء انتقال القديسين السماويين (١ تسالونيكي ٤)، وقد استمروا خلال الأسبوع النبوي المستقبلي المؤلف من ٧٠ سنة (متى ٢٤: ١٤). هذه الشهادة التي في كل أرجاء العالم تمت بشكل فعال بين الانتقال والظهور والفضل في ذلك يرجع إلى الله. هكذا زمان وافر تحت يد الله الصالحة والمسيطرة تُمنح لعمل النعمة العظيم، الذي يُذكرنا من خلال النتائج الكبيرة بأيام العنصرة المزدهرة.

قد نلاحظ أيضاً تمايزاً ممتعاً آخر بين الجماعتين من القديسين الألفيين في أصحاحنا هذا. المنتقون في إسرائيل يراهم يوحنا قبل أن يدخلوا إلى "وقت ضيق على يعقوب"، بينما جمع الأمممين المخلَّصين يُشاهدون هنا بعد خروجهم من "الضيقة العظيمة".

جمع الأمميين المخلّصين وصراخهم:

لقد لاحظنا للتو أن الجمع المُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ وَفي أَيْديهمْ سَعَفُ النَّخْل يخرجون من الضيقة العظيمة، وفي حين أن بركتهم هي ألفية تحديداً في الطابع والزمان، إلا أنه لا يجب أن يُخلط بينهم وبين جماعة أخرى من الأمميين الذين سيخلصون عند بدء الألفية بعد انتهاء الضيقة؛ ولذا نجد هنا الإشارة إلى المكانة الخاصة والبركات المميزة لهذا "الجَمْع الكَثير". إن المكانة والبركة كلتيهما متناسقتان مع الصمود خلال المحنة السابقة التي خرجوا منها، والتي ذُبح فيها الكثير من إخوتهم اليهود والأمميين. "منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ". ولقد لاحظنا للتو هذا التوزع والتبعثر الرباعي الشُعب للجنس البشري (٥: ٩). إن هذه العبارة هي صيغة تقنية تعبّر عن العالمية (انظر أيضاً ١١: ٩).

هذا الجمع الهائل الذي لا يُعد، والذي يعتبر مغايراً تماماً لعدد بني إسرائيل المحدد والمعين بدقة، يشهد له الرائي قائلاً: "وَاقفُونَ أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الخَرُوف، مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ وَفي أَيْديهمْ سَعَفُ النَّخْل". هؤلاء القديسون هم على الأرض. وهم "وَاقفُونَ أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الخَرُوف" لأنهم يستحقون مكانة كرامة رفيعة بالطبع، ولكن عروش القديسين السماويين هي "حول" عرش الله (٤: ٤)، والخروف (٥: ٦). إضافة إلى ذلك، فإنهم يُجلسون على العروش (انظر أيضاً ٢٠: ٤). لا يُقال أن هؤلاء القديسين الأرضيين لديهم عروش وأكاليل؛ القديسون السماويون هم الذين لهم كليهما. فالجماعة السماوية من هذه النواحي وغيرها من المفديين يحتلون مكانة أرفع وأرقى في الكرامة من "الجمع الكثير" الذين يقفون على الأرض أمام العرش- دلالة القوة المعنوية.

٩- "مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ". لقد حفظوا حقوق ومطالب الله ضد عالم متمرد مرتد وسط ظروف الأسى والألم والبلوى التي لا نظير لها (مرقس ١٣: ١٩). والآن يتذكر الله أمانتهم ويكافئهم عليها، ولذلك فإنهم "مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ"، وهي ثياب البر (انظر ١٩: ٨). "سَعَفُ النَّخْل" تُعبر عن فرحة الانعتاق الكامل (لاويين ٢٣: ٤٠؛ يوحنا ١٢: ١٣). لقد أتى بهم الله بسلام مخرجاً إياهم من الفترة الفظيعة من البلوى المعينة التي توصف بأنها "الضيقة العظيمة" (رؤيا ٧: ١٤)، وهم الآن منتصرون في انتصار إلههم. النخيل هو الشجرة الوحيدة الذي يُذكر اسمها في بناء الهيكل الألفي (حزقيال ٤٠؛ ٤١)؛ تُذكر أيضاً بشكل أساسي في ما يتعلق بعيد المظال، هذا العيد البهج الأخير والختامي لإسرائيل (لاويين ٢٣: ٤٠). الجمع المتسربلين ثياباً بيضاء هم الجماعة الوحيدة في سفر الرؤيا التي يُقال أن لديهم سُعف نخيل؛ والكلمة لا ترد إلا مرة واحدة في الرؤيا.

١٠- "وَهُمْ يَصْرُخُونَ بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلينَ: «الْخَلاَصُ لإلَهنَا الْجَالس عَلَى الْعَرْش وللخَرُوف»". جهاداتهم وتجاربهم انتهت. العرش الذي كانوا قد وقفوا أمامه قبلاً قد صار الآن وإلى الأبد قوتهم وضمانهم. الجموع التي لا عدد لها من هؤلاء المفديين يصرخون بصوت واحد مرتفع ومتحد. ما سبب هذه الصرخة الشديدة والمثيرة؟ الخلاص بمعناه الأشمل يُنسب إلى الله وإلى الحمل. ليس من أحد صامت في جمهور المفديين. إنهم "يَصْرُخُونَ بصَوْتٍ عَظيمٍ". النعمة المطلقة قد فعلت عملها القدير. لقد جمعت من كل الأرض وكل الأمم حشداً من الأمميين يفوق كل حساب وتقدير بشري- وهؤلاء كلهم وجميعهم كانوا "أموات في الخطايا"- وضعتهم أمام عرش الله مخلّصين ومباركين. فكم كان يليق إذاً أن يُحتفل بانتصار النعمة الإلهية وأن تُنسب إلى المصدر- الله في سيادته الإلهية المطلقة، والحمل، التعبير عن محبة الله ونعمته.

جواب جمع الملائكة:

١١، ١٢- "وَجَميعُ الْمَلاَئكَة كَانُوا وَاقفينَ حَوْلَ الْعَرْش وَالشُّيُوخ وَالْحَيَوَانَات الأَرْبَعَة، وَخَرُّوا أَمَامَ الْعَرْش عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه ١٢قَائلينَ: «آمينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإلَهنَا إلَى أَبَد الآبدينَ. آمينَ»". لدينا مشهدان سماويان متمايزان في كلمنهما يكون العرش هو في المركز. هنا، وفي ٥: ١١، ١٢. في كلا المشهدين، يُشكل الملائكة الدائرة الخارجية حول العرش. في هذه الرؤى الملائكية لدينا تسبحة الجمع الملائكي في عبادة سباعية. في المشهد السابق (٥: ١١، ١٢) الحمل هو موضوع التسبيح والتمجيد؛ وفي الرؤيا الأخيرة (٧: ١١، ١٢) الله هو موضوع العبادة. مكان الملائكة في كلا المشهدين هو حول العرش، بينما الشيوخ والمخلوقات الحية يُشكلون الحلقات الداخلية. الترتيب الذي تستمر فيه هذه المجموعات، أي الشيوخ والمخلوقات الحية، تصور بشكل مختلف في المشهدين. في المشهد الأول الشيوخ هم الحلقة الأقرب إلى الداخل؛ وفي المشهد الأخير المخلوقات الحية هي الأقرب إلى العرش. يمكن تعليل الفارق بسهولة. في المشهد الأول يكون الحمل أمام نظرهم مباشرة والمفديين في السماء (الشيوخ) يتجمعون بشكل طبيعي حول؛ بينما في الرؤيا الأخيرة، الله يجلس على عرشه. رمز السيادة الكونية، يُفسر قرب المخلوقات الحية الذين يمثلون السلطة التنفيذية للعرش. الحشد الأممي على الأرض كان قد نسب الخلاص لـ "إلَهنَا"، ولكنه إله الملائكة؛ ومن هنا فإنهم هم أيضاً، في مكانهم في السموات يقولون "إلَهنَا". مع صرخة المفديين المتهللين المبتهجين نجد الملائكة، الذين لا يُحصى لهم كما الحالم مع عدد المفديين على الأرض، والذين يهتمون بهم بشدة، يركعون ويسجدون متعبدين الله، قائلين، آمين. كم هي عميقة عبادتهم أولئك المجتمعين الذين خَرُّوا "عَلَى وُجُوههمْ". صرخة الحشد يتجاوب الملائكة معها قائلين: "آمين". ما يرد في تسبحة الملائكة يختلف عن ترتيبه المحتوى في الأصحاح ٥. فهناك البندان الأخيران، "المجد والبركة"، يُذكران أولاً في أصحاحنا. وهناك نجد "الغنى" بينما هنا نجد "الشكر" بدلاً منها ٨.

الجماعتان المفديتان على الأرض في أصحاحنا هما نخبة إسرائيل والحشد من الأمميين المتسربل بالأبيض. والجماعات في السماء هم الملائكة، والشيوخ، والمخلوقات الحية. ما من أحد من المجموعتين الآخرتين يشاركان في الاحتفال المدائحي. فهذا يخص الحشد الأممي على الأرض، والملائكة في السماء. الموضوع الخاص المميز في المقطع برمته (الآيات ٩- ١٧) هو علاقة الحشد حامل سعف النخل بالله وبالحمل. هذا هو في الحقيقة فحوى صراخهم، الذي ترد عليه الملائكة مضيفة أن "آمين" ٩. علاقة الشيوخ والأحياء بالله تتبدى في الأصحاحين ٤ و٥، ولذلك ففي هذه الأقسام يتم عرض عبادتهم وهذا أمر ملائم، ولكن ليس هنا.

سؤال الشيخ وجوابه:

١٣- ١٧- "وَأَجَابَ وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ قَائلاً لي: «هَؤُلاَء الْمُتَسَرْبلُونَ بالثّيَاب الْبيض، مَنْ هُمْ وَمنْ أَيْنَ أَتُوا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لي: «هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ أَتُوا منَ الضّيقَة الْعَظيمَة، وَقَدْ غَسَّلُوا ثيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثيَابَهُمْ في دَم الْخَرُوف. منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله وَيَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله، وَالْجَالسُ عَلَى الْعَرْش يَحلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهم الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ منَ الْحَرّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذي في وَسَط الْعَرْش يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ»". لقد وقف الرائي يتعجب صامتاً. لقد سمع الصرخة المتهللة من جمهور المفديين وعاين فرحتهم، ولكنه لم يشارك شخصياً في أي من هذا. "أَجَابَ وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ"، ليس سؤالاً منطوقاً بل استعلام قلبي غير منطوق جال في قلب الرائي. يتميز الشيوخ بأرفع طابع للعبادة وفهم فكر وطرق الله. هم أنفسهم افتديوا من الأرض، ولذلك كان من اللائق أن يكون أحدهم، وليس كائن سماوي أسطوري خلو من الخطيئة، المفسر ليوحنا، ومن خلاله لنا، عن أصل وتاريخ هذه الجماعة المميزة عندما يراها الرائي لأول مرة. لم يكن يوحنا جاهلاً بخدمة الشيوخ السماوية. في رؤيا سابقة (٥: ٤، ٥) أحدهم عزاه وعلّمه. ومن هنا فإن السؤالين الموضوعين أمام يوحنا كانا يعبران بالضبط عما كان يريد أن يعرف: "«هَؤُلاَء الْمُتَسَرْبلُونَ بالثّيَاب الْبيض، مَنْ هُمْ وَمنْ أَيْنَ أَتُوا؟»".

لفت انتباهنا ثلاث مرات إلى "ثيابهم البيض" (الآيات ٩، ١٣، ١٤) لم يكن عبثاً. قبول الله العلني لهم، وتميزهم في نظره في نقاوتهم الكاملة في شخصيتهم وطرقهم، تشهد لها ثيابهم البيضاء النقية ١٠.

الضيقة العظيمة:

١٤- "هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ أَتُوا منَ الضّيقَة الْعَظيمَة". في بعض الترجمات ترد الجملة بصيغة الحاضر: "هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ يأَتُون منَ الضّيقَة الْعَظيمَة". هذا ومن اللافت استخدام ال التعريف في العبارة "الضيقة العظيمة" ١١ ذلك لأن هذه الضيقة ليست ضيقة عامة يشترك بها كل القديسين، أو شعب الله في كل العصور. بل إن هذه الضيقة محددة معينة. الاضطهادات على يد نيرون ١٢ ووثنيين آخرين وأيضاً على يد البابا كان يُشار إليها دائماً على أنها "الضّيقَة الْعَظيمَة" من قِبَل مفسّري المدرسة التاريخية. كثيرون اعتادوا على استخدام التعبير وهم يفكّرون بالمصاعب والضيقات العامة التي يمر بها الناس في الحياة. ولكن يجب تفسير الرؤيا لا كتاريخ بل ككلمة الله. وإن تفسير الكلمة وأيضاً تطبيقها على الضمير، هو حق مقصور على الروح القدس وحده، وهو الذي أوحى بها.

إن "الضّيقَة الْعَظيمَة" هي أمر مستقبلي لم تأتِ بعد. إنها تفترض مسبقاً استعادة الشعب اليهودي الجاحد ليخدم غايات سياسية أممية، وذلك بفضل تدخل قوة بحرية عظيمة (أشعياء ١٨). مدة الساعة الآتية من التجربة، التي ستفوق في شدته كل الآلام الماضية واللاحقة المحتملة على الأرض (مرقس ١٣: ١٩)، تقتصر على النصف الثاني من أسبوع دانيال النبوي المؤلف من ٧ سنوات (دانيال ٩: ٢٧ ومتى ٢٤: ١٥)، أو، بشكل أدق، حتى ١٢٦٠ يوماً، أي ٤٢ شهراً يتألف كلاً منها من ٣٠ يوماً ١٣ (رؤيا ١١: ٣؛ ١٣: ٥). الشيطان الذي طُرد من السماء إلى الأرض هو المحرض على هذا الغضب الشديد الذي لا نظير له والكراهية ضد شهود الله، يهوداً وأمميين (رؤيا ١٢: ٧- ١٧). أدوات الشيطان الرئيسيين في الاضطهاد هم "الوحش"، أي قوة روما الإمبراطورية المنتعشة في شخص رأسها، "القرن الصغير" (دانيال ٧: ٧، ٢١؛ رؤيا ١٣: ١- ٨)؛ ضد المسيح، الذي يُسمى هكذا فقط في رسائل يوحنا حليف ومتحالف مع الوحش (رؤيا ١٣: ١١- ١٧)؛ وملك الشمال، أو الأشوريين (دانيال ٨: ١١؛ أشعياء ١٠: ٢٤- ٣٤) ١٤. الأخيران السابقان سيكونان العاملين الفعالين في اضطهاد القديسين؛ الأخير سيكون عدواً سياسياً للشعب المستعاد، ولكن سيتوجب على القديسين اليهود أن يعانوا كجزء من الشعب. "الضيقة العظمة" تشمل إذاً الأمميين واليهود أيضاً. العالم المسيحي المرتد هو النطاق الواسع الذي سيقع تحت دينونة المسيح المباشرة في ذلك اليوم القادم، ولن يُغمد السيف حتى يشعر الوثنيون أيضاً بالضربة (١ بطرس ٤: ١٧). ولكن بينما تشمل الضيقة اليهود والأمميين، فإن اليهود سيعانون أكثر من الآخرين بكثير (إرميا ٣٠: ٧). الجماعة الأممية التي يتكلم عنها نصنا هنا تبزغ من الضيقة العظيمة. لقد حُفظوا، بينما العالم المسيح، وخاصة يهوذا، قد حُمموا بدم قديسي الله ١٥.

إن الثياب ذات المغزى تستمد بياضها فقط من دم المسيح.

بعد ذلك نجد وقوف الجمع الأممي أو مكانهم. "منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله". إن دم المسيح المسفوك هو وحده الذي يعطي الحق لأي كان لأن يقف أمام العرش. "هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" (رومية ٥: ٢) هي العامل المشترك بين جميع القديسين. ضمير الإشارة "هذه" يشير، ليس إلى النعمة بشكل عام، بل إلى نعمة الله الخاصة تلك التي شهدناها في موت وقيامة الرب.

١٤- "وَقَدْ غَسَّلُوا ثيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثيَابَهُمْ في دَم الْخَرُوف. منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله". غسل الثياب هو أحد تلك العبارات الخاصة بسفر الرؤيا. مهما كانت الشهادة الخاصة الموجهة إلى هؤلاء الأمميين ١٦، من الواضح أن دم الحمل كان من الملامح العظيمة والمميزة. الثياب ذات المغزى وحدها تُجعل بيضاء في الدم. الأساس الذي يستندون إليه في وقوفهم أمام عرش الله يتشاركون به مع جميع القديسين في الزمن والأبدية. دم الحمل، المسفوك لهدف إلهي منذ تأسيس العالم، هو الأساس الوحيد ولكن الكاف الملائم للظهور أمام عرش الله. "منْ أَجْل ذَلكَ"، أو كما في هذه الرواية "هُمْ أَمَامَ العَرْش"، أي بفضل الدم. الدم جعل هؤلاء الخطأة قديسين؛ والضيقة جعلتهم حاملي أوجاع.

١٥- "يَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله". قد رأينا الأصل التاريخي لهذه الجماعة المفدية التي لا يمكن عدها (الآية ٩)؛ وهم منتصرون أيضاً، وينسبون الخلاص لله وللحمل (الآيات ٩ و١٠). ثم يُحول انتباهنا إلى حقيقة أنهم ينشأون عن الضيقة العظيمة، بينما، ليست آلامهم، بل دم الحمل هو الذي يعطيهم الملاءمة الإلهية ليقفوا أمام عرش الله. ثم لدينا خدمتهم التي لا تتوقف، فهم "يَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله". دليل آخر نجده هنا على أنه هؤلاء القديسين هم على الأرض، وليسوا في السماء، إذ يقول الرائي في رؤيا تالية أن: "لم أجد هيكلاً فيها". فأورشليم على الأرض سيكون فيها هيكل، وسيكون واسع الأرجاء، وفيه يعبد اليهود والأمميون الله ويخدمونه في الأيام الألفية (حزقيال ٤٠- ٤٤؛ أشعياء ٥٦: ٥- ٧). يُنظر إليهم كجماعة متعبدة كبيرة، كهنة لله ١٧.

١٥- "الْجَالسُ عَلَى الْعَرْش يَحلُّ فَوْقَهُمْ". تأتي في إحدى الترجمات للكتاب المقدس: "سيسكن بينهم". ولكن هذه الترجمة ضعيفة وغير مناسبة للفكرة الإلهية التي يتم التعبير عنها هنا. لقد نشر الله خيمة الاجتماع على خيمة اللقاء مع أهل العهد القديم، والتي صارت مركزاً لآلاف بني إسرائيل ومقر راحة لهم. لقد كانت تغطيهم وهم في البرية. ملايين من الناس، الجماعة التي افتداها الرب رمزياً، كانت مظلة الله الضخمة التي نشرها فوقهم تحميهم من الشمس اللاذعة ولفحات الشتاء. لقد كانت حماية لهم ومجداً. وهذا يوجهنا إلى أشعياء ٤: ٥، ٦: "يخلق الرب على كل مكان من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهاراً ودخاناً ولمعان نار ملتهبة ليلاً. لأن على كل مجد غطاء. وتكون مظلة (أو خيمة اجتماع) للفيء نهاراً من الحر ولملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر". في الحالة الأبدية خيمة اجتماع الله هي مع البشر (رؤيا ٢١: ٣)؛ في الزمن الألفي خيمة الله ستكون عليهم (٧: ١٥). يا له من يقين يتمتع به الجموع المرتدين ثياباً بيضاء بينما يتنعمون تحت المظلة الواسعة المجيدة، وكل عضو من الحشد الذي لا يعد ولا يحصى ينال ملتجأً وحماية جميعهم على حد سواء! خيمة الاجتماع مع الله تنتشر فوقهم والعرش بكل قوته وجلاله لهم.

البركات الألفية الخاصة للأمميين المفديين نجد عرضاً لها تالياً، بشكل سلبي وبشكل إيجابي، وبشكل يناسب الترتيب الجديد للأشياء تحت حكم المسيح الشخصي. في اللائحة التي تشتمل على هذه البركات الأرضية يمكنننا بكل سهولة أن نرى كم هي سامية بشكل فائق تلك البركات التي يتمتع بها القديسون في السماء. المجد مع المسيح في السموات، والبركة تحت المسيح في الحكم الأرضي الألفي تحددان الفارق. "لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهم الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ منَ الْحَر". لا شك أن في هذا إشارة إلى الأيام الألفية (انظر أشعياء ٤٩: ١٠). في هذا النفي التوكيدي ١٨، جموع الأمميين المخلّصين يُطمأنون إلى أن الحرمان من الحياة، والجوع والعطش، والاضطهاد والضيقة، والشمس والحرارة اللاذعة، سوف لن تكون نصيبهم مرة أخرى. سوف لن يكون هناك عودة إلى الشرور الماضية.

١٧- "لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذي في وَسَط الْعَرْش يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ". الْخَرُوفَ "الَّذي في وَسَط الْعَرْش" ١٩، فرض سلطته وقدرته وارتدائه جلال نفسه، يدل على أنه سيسدّ كل حاجة بسخاء وجود. ولن نجد أي عناية ملائكية أو إلهية كما الحال هنا (عب ١: ١٤)، ولكن النعمة الرعائية للحمل ستكون فاعلة آنذاك- فتحنو، وتُعنى، وتحفظ، وتقود كل واحد من الجمع الأممي المفتدى. سوف "يَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ"، وليس إلى قنوات أو ينابيع فقط، بل إلى منابع الحياة. امتلاء وسرور البركة الأرضية سيكون لهم، إذ أن الحمل نفسه سيكون مرشدهم إلى هذه الينابيع والموارد ذات المسرّة الخالصة (انظر أشعياء ١٢: ٣).

الكلمات الختامية لا مثيل لها في عمقها وحنوها: "وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ". لاحظوا أن الله وليس الحمل هو الذي أخطأوا بحقه، وهو الذي سيزيل أسباب ومناسبات الألم والبلوى. إن كان سيمسح كل دمعة فلن يبكوا من جديد أبداً. "تعزية أبدية" هي النصيب المؤكد لكل شعبه، السماوي والأرضي. الكلمات في نصنا هنا تتكرر نفسها في ٢١: ٤. وهناك الحالة الأبدية هي التي تُصور؛ أما هنا فالحالة الألفية هي موضوع الحديث. كلا المقطعين ينطبقان على الشعب المخلّص على الأرض وليس على أولئك الذين في السماء.


١. يحاول ووردزوورث في كتابه "محاضرات على سفر الرؤيا"، ص. ١٢٠، أن يرينا أن الـ "أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض" هم نفسهم أولئك "الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات" (٩: ١٤). ولكن المكانة العالمية النطاق التي تتمتع بها المجموعة الوارد ذكرها أولاً مقارنة بالمجال المحدود بالمجموعة الأخيرة تنفي هكذا تفسير. إضافة إلى ذلك، إن الأفعال والزمان مختلفان جوهرياً. ووردزوورث هم من أكثر المفسرين الخياليين وغير الموثوق بهم.

٢. هناك إشارة إلى اضطرابات سياسية وغيرها في التعبير "رياح الأرض" (دانيال ٧: ٢؛ أيوب ١: ١٩؛ إرميا ٤٩: ٣٦). ويجب التمييز بين "رياح السماء" و"رياح الأرض". الأولى تشير إلى وكلاء التدبير العنائي الذين يعينهم الله ليحققوا أهدافه؛ بينما الأخيرة تشير إلى العالم الأثيم لهذه الدينونات والكوارث، أي الأرض. لعلنا نلاحظ أيضاً أن أول ذكر لـ "الأرض" في النص غير محدود في نطاق تطبيقي. وذكر الثاني للكلمة يحصرها في ذلك الجزء المتمدن من الكرة الأرضية على نقيض الـ "بحر" الذي يشير إلى الجزء غير المتحضر (انظر أيضاً رؤيا ١٠: ٢).

٣. الكاهن الملاك الذي في الأصحاح ٨: ٣- ٥، والملاك القوي الذي في الأصحاح ١٠: ١- ٦، ٣- ١٠، يبدو أنهما بلا شك يشيران إلى المسيح. التعابير المستخدمة والأحداث الموصوفة في النصوص الكتابية لا يمكن تطبيقها حقاً على أي كائن مخلوق، مهما كان مجيداً أو عظيم الشأن.

٤. الختم في الدهر التدبيري الحالي ليس علامة خارجية كما الحال هنا. إنه الروح القدس الذي يمنحه الله كي يسكن في المؤمن (٢ كور ١: ٢١، ٢٢؛ أف ١: ١٣). وإن الله (وليس المسيح) هو الذي يختم؛ الروح القدس نفسه، الختم هو شخص.

٥. لدينا ١٢ ساعة في النهار، ١٢ ساعة في الليل، توجهنا نحو الشمس والقمر كقوى حاكمة مسيطرة لليل والنهار. هناك ١٢ سبطاً في إسرائيل و١٢ رسولاً سيحكمون الشعب في المستقبل (متى ١٩: ٢٨). وهناك ١٢ بوابة في المدينة المقدسة (رؤيا ٢١: ١٢). وهناك ١٢ حجراً كريماً يُمثل إسرائيل في صدرة رئيس الكهنة و١٢ رغيفاً في خبز التقدمة على المائدة المقدسة (خروج ٢٨؛ لاويين ٢٤). عن الحكم على الأرض هو الحافز البارز في استخدام هذه الأعداد وكالقيمة النافذة عنها.

٦. بِعد ابني يوسف بدلاً من الأب كما يعقوب.

٧. لدينا يوسف، وليس أفرايم؛ أي الأب بدلاً من الابن. ولكن أفرايم بالبركة يأخذ الأسبقية على أخيه الأكبر منسى، ومن جديد تشرق النعمة (تك ٤٨: ٨- ٢٠).

٨. يلفت و. كيلي، ف. ب. هوبر، بيشوب إيليكوت، وآخرون في كتبهم عن الرؤيا إلى أن الآية ١٢ فيها استخدام لأداة التعريف قبل كل اسم، ومن هنا نقرأ: "البركة، والمجد، والحكمة، والشكر، والكرامة، والقدرة، والقوة". ويقول أحد الكتاب البارزين المخضرمين: "قوة أداة التعريف هي في تعبيرها عن كل صفة بكاملها وبأقصى درجاتها".

٩. الـ "آمين" الأولى هي التجاوب مع صرخة الحشد المخلّص. وأما الـ "آمين" الثانية فهي تأكيد على حقيقة ما يُسبحون به بأنفسهم.

١٠. يقول أحد الروحانيين الاسكتلنديين القدماء معلقاً على هذا المقطع: "إن الكلمة المترجمة ثياب تشير بشكل أنسب إلى ثوب الزفاف؛ وبما أن هذه الكلمة وأيضاً الكلمة المترجمة بيضاء كلتاهما تسبقهما أداة التعريف فإن هذا يعطي قوة وجمالاً خاصين إلى التعبير. إن الإشارة هي إلى ثوب الزفاف في أبهى وأثمن وأكثر مظهر مشرق ساطع رائع. لفهم المعنى الكامل للعبارة يتطلب الأمر أن تترجم هكذا: "من هم أولئك المتسربلون بأثمن أثواب الزفاف، وفي ثياب بأنقى بياض؟".

١١. "من الضيقة، تلك العظيمة"- الفورد.

١٢. "الأيام الباكرة للمسيحية"، ص. ٤٤٨- دين فارار.

١٣. الضيقة تنتهي قبل مجيء المسيح ليحكم (متى ٢٤: ٢٩) وأعتقد أنها ستنتهي عملياً بسكب الجامات (رؤيا ١٦). وبالنسبة إلى المعاناة تحت هذه البلايا، فلن يكون الوحش أو أتباعه في حالة تسمح لهم بالمزيد من الاضطهاد.

الأيام الـ ١٢٦٠ من الاضطهاد (رؤيا ١١: ٣)، أو ٤٢ شهراً، المؤلف كل منها من ٣٠ يوماً، سوف تنتهي قبل انتهاء السنوات الثلاثة والنصف. وفي هذا تنقص عن الفترة الأخيرة لـ ١٧ يوماً، أو بالتحديد ١٧ يوماً ونصف. حتى تنتهي الأشهر الـ ٤٢ ستكون قوة الوحش عظيمة لا تُقاوم (١٣: ٥). البوق السابع يُنفخ، ويتم عندئذ سر الله. ومن ذلك الحين فصاعداً سيتعامل مباشرة مع المرتدين كما تصف لنا الجامات. ولن يكون في الأمر سر من بعد.

الأيام ستُقصر، كما أن فترة سطوة قوة الوحش ستُقلص بالأيام السابق ذكرها التي ستبقى في السنوات الثلاث والنصف من الأسبوع (دانيال ٩: ٢٧). تقصير الأيام أو إطالتها، وليس يوماً واحداً، يشير إلى فترة من الزمن، وليس إلى يوم عادي مؤلف من ٢٤ ساعة.

بالنسبة لي، هذا هو مفتاح فهم الفارق بين الـ ١٢٦٠ يوماً والسنوات الثلاث ونصف. فهما ليسا متساويين. وفي نهاية الأخير يأتي الرب ليملك. بينما في نهاية السابق يُبوق بالبوق؛ وتوازن الأيام بين الـ ١٢٦٠ يوماً والسنوات ثلاث ونصف يترك مجالاً لسكب الجامات"- "الحقيقة في ما يختص بالأيام الأخيرة"، العدد ٤، ص. ١٦٣، C.E.S. . انظر أيضاً المقالة "النبوة الشهيرة للأسابيع السبعين".

١٤. انظر المقالة "الفاعلون الأساسيون في الأزمة القادة".

١٥. إن مكان جماعة الأمميين المخلّصين، عندما تصل شهادة الله إلى ضمائرهم، يجب ألا تحصر بالحدود الإقليمية للعالم المسيحي. سعة مساحة المشهد في الآية ٩ تدل على سعة تغطي على الأرجح كل العالم الأممي. من يرفضون نعمة الله- نعمة الله الكاملة والتي يُكرز بها مجاناً- في زمن الضيقة يُسلمون إلى تعاملات إدانية (٢ تسا ٢: ١٠- ١٢)، ويُعاقبون بدمار أبدي عند ظهور المسيح (٢ تسا ١: ٦- ٩). وهنا هؤلاء المرتدون يُمنع عليهم أي مشاركة في عمل النعمة، التي يُنفذ بسرعة وعلى نطاق واسع (المدة الزمنية غير محدودة) بين الانتقال والظهور.

١٦. لا نقرأ عن أي شهادة يقدمها هؤلاء.

١٧. "ليسوا فقط مثل بني إسرائيل في المجالس، أو الأمم في العالم؛ لديهم مكانة الكاهن في هيكل العالم. الجموع الألفية متعبدون- هؤلاء الكهنة. وكما أن حنة، بنت فنوئيل، لها الحق في الدخول إلى الهيكل نفسه، فهم لديهم أيضاً دائماً إمكانية الدخول إلى العرش"- "خلاصة أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص. ٦٠٣.

١٨. "لن.... بعد"، أو "أبداً"، هو أسلوب للنفي يتكرر في معظم الأحيان في سفر الرؤيا (١٨: ٢٢، ٣٣) وهذا أمر خاص في هذا السفر يتزامن مع التكرار"- "تفسير سفر الرؤيا"، ص. ٥٦١.- موسيس ستوارت.

١٩. انظر التعليقات على ٥: ٦.

الأصحاح ٨

الأبواق الأربعة الأولى

نظرة عامة للأبواق السبعة:

الأحداث العظيمة الآتية التي تحجب كل الأحداث الأخرى هي الانتقال إلى السماء (١ تسا ٤: ١٦، ١٧) والعودة من السماء (رؤيا ١٩: ١١- ١٤). بولس وحده يُعالج الموضوع السابق؛ ويوحنا، أكثر من أي كاتب آخر في العهد الجديد يكشف عن الموضوع الأخير. وفي الفاصل بينهما، تجري سلسلة الدينونات السباعية تحت الأختام، والأبواق، والجامات. هذه التأديبات الإلهية تزداد في شدتها بينما ننتقل من سلسلة إلى أخرى. الدينونات ليست متزامنة بل متتالية. الأبواق تلي الأختام، والجامات تلي الأبواق. تسلسل تاريخي دقيق نلاحظه هنا. الرمز العام للنبوءة السابقة كان الختم؛ وفي السلسلة الثانية من الدينونات نجد أن الرمز هو البوق؛ وفي السلسلة الثالثة نجد الجامة أو الطاسة. هذه الرموز الهامة هي ذات طابع خاص لكل منها ينسحب على الأحداث المجمعة تحت كل منها. فُتحت الأختام لكيما تُكشف إعلانات الله المتتالية المتعلقة بالمستقبل، ولكن بالنسبة إلى الإيمان الجموع وحدها سترى الدينونات على أنها تدبيرية وحسب. هذه الأشياء حدثت من قبل. ولكن صوت البوق المرتفع للملائكة يشير إلى معاملة عامة مع الناس ذات طابع إداني كثيف. هذه الأبواق الرمزية تطلق نفيرها على طول وعرض العالم المسيحي المرتد. التدخل الإلهي العلني لله في العالم الآثم والمرتد يُشار إليه هنا. ثم في الرمز العام الثالث، أي الجامات أو الطاسات التي تُسكب، غضب الله المركز يغمر كل العالم النبوي تحت السماء. يكشف الأصحاح ١٦ عن سلسلة من الدينونات حتى الآن تكون فريدة في مداها وشدتها. خلال سير دينونات الختم يتم تقديم الحمل وشعبه المتألم على الأرض، ولكن تحت دينونات البوق يختفي الحمل تماماً، ويتم ملاحظة القديسين عرضياً فقط، ثم وهم يُصلّون.

النبوءة تحت الأبواق الأربعة الأولى تشير إلى الحالة العامة للأشياء، مدنية وكنسية، عن الإمبراطورية الرومانية الغربية المنتعشة آنذاك. الأصحاح ٨: ٢- ١٨ يُغطي هذا الأساس. التكرار لعبارة ثلث (المكرر ١٢ مرة في هذا الأصحاح)، يشير إلى قوة روما المنتعشة القوة أو السلطة نفسها التي أعطت المرسوم الشرعي لصلب الرب وبعثرت المؤمنين في كل أرجاء الأرض (انظر ١٢: ٣، ٤). ثم يأتي الختم الخامس، أو دينونة "الويل" الأولى (٨: ١٣)، تقع على اليهودية المرتدة، وموضوع الآيات الإحدى عشر الأولى من الأصحاح ٩. البوق السادس، أو دينونة الويل الثانية، تتناول مباشرة سكان الأرض الرومان الآثمين والمرتدين، وهي العبء الثقيل الكامن في الأصحاح ٩: ١٢- ٢١. النغمة الأخيرة من البوق، أو الويل الثالثة، عالمية في تأثيرها، وبالنتيجة تصل إلى نهاية فترة حكم الملكوت التي تستمر ألف سنة، حتى إلى "زمن الأموات الذين سيُدانون" (رؤيا ٢٠: ١١- ١٥). المسائل الخطيرة تحت البوق السابع يتم ذكر تفاصيلها باختصار خلال دائرة أربع آيات في الأصحاح ١١ وهي ١٥- ١٨.

يجب أن نلاحظ أن "الثلث" الذي يبرز في الأصحاح ٨، لا يُذكر تحت البوقين الخامس السابع، بل يتكرر ثانية تحت السادس. حذف السابقين يُفسر أو يعلل على أساس أن السلطة الرومانية لم تكن منظورة آنذاك، بينما في الأخير، أي الختم السادس، هي الموضوع المباشر لانتقام الرب. لذا فإن الأبواق تبدأ بالأصحاح ٨: ٢ وتنتهي بالآية ١١: ١٨. وبين هاتين، نجد قسماً اعتراضياً ثانوياً ممتعاً ولكن لابد منه. وهذا يرد في الأصحاحات ١٠، ١١: ١- ١٣.

قلنا قبلاً أن الأختام، وليس الأبواق و الجامات كل منها مقسم إلى مجموعات من أربعة وثلاثة. الناس في ظروفهم وشخصهم يتم التعامل معهم إدانياً تحت الأختام والأبواق والجامات ككل، ولكن في مجموعات مؤلفة من ٣ أشخاص تُرى ذراع الله القوية بشكل أكثر وضوحاً. مصدر كل هذه الإدانات الرؤيوية هو الله نفسه، كما يشير العدد ٣ (ذو الطابع الإلهي). الموجبات البشرية وأدوات الدينونة ظاهرة في المجموعات المكونة من أربعة، وهذا ما يدل عليه العدد ٤ بحد ذاته.

الختم السابع

الأصحاح ٨

١- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ السَّابعَ حَدَثَ سُكُوتٌ في السَّمَاء نَحْوَ نصْف سَاعَةٍ". السفر أو الدرج ذو الأختام السبعة، الذي يُرى في يد الله المفتوحة (٥: ١، ٢) له أختامه التي يفتحها الحمل بشكل متتابع. ست من الأختام فُتحت في الأصحاح٦، والآن، في الآية الأولى من أصحاحنا، يفتح الأخير، ما ينتج عنه أننا نرى سفر مشورات الله المتعلقة بالأرض مفتوحاً أمامنا. المخططات، ومشورات إلهنا المتعلقة باهتماماته الواسعة بالأرض وأيضاً الوسائل والطريقة التي ستتحقق بها هذه المشورات، لا تعود سراً. كل شيء يُعلن وينكشف. ولكن لماذا فصل الختم السابع عن الأختام الستة السابقة؟ من الطبيعي أن نفترض أنها ختمت الأصحاح ٦. ولكن بدلاً من ذلك نجد أن أصحاحاً كاملاً (الأصحاح ٧) يأتي بين الختم السادس والسابع، بشكل اعتراضي، مخالفاً الترتيب الطبيعي للأحداث. الختم السادس (٦: ١٢- ١٧) أعلن دينونة ذات طابع مرعب مروع بأنه في الرعب العالمي الذي يثير مخاوف الناس، من الملك إلى العبيد، يفترض الرعب العام على أن يكون يوم الغضب العظيم للحمل. ولكن لا، فهكذا قبل أن يُفتح الختم السابع، الذي هو تمهيد للابتداء بالدينونات التي ستكون أقوى وأشد، يُسحب الحجاب جانباً، وتظهر لدينا جماعتان عظيمتان ألفيتان من بين إسرائيل والأمميين في المشهد، وينالان نتائج عمل النعمة الضخم الذي يُجرى حتى خلال الدينونة التي تجعل الأرض مقفرة (الأصحاح ٧).

"سُكُوتٌ في السَّمَاء" ١ لا يعني أن الأناشيد والتسابيح للمفتدين صامتة. الصمت يجب أن يُفسر من ناحية الموضوع المطروح هنا، ألا وهو الدينونة. ولكن، بما أن الدينونات هي على الأرض والعرش في السماء، فإن الصمت يكون هناك. مسار الدينونة يتوقف. هناك توقف مؤقت في إعلان التأديبات الأخرى وفي تنفيذها. الصمت هو لفترة وجيزة. "نصْف سَاعَةٍ" تشير ببساطة إلى فترة قصيرة جداً يتم فيها تعليق الفعل الإداني. فتح الختم السابع لا تليه دينونة بل صمت منذر بسوء. إنه سكون ما قبل العاصفة، كما هو سكوت الطبيعة قبل أن تبدأ العاصفة. لا يخبرنا السفر عن مدى هذا التوقف الفظيع، ولكن في هذه الأثناء نُدعى لنشهد أمراً ذا طابع مختلف كلياً عن أي شيء مرّ أمامنا قبل الآن، وهو أمر يشغل الفاصل الزمني المؤلف من "نصف ساعة"، أياً كان الزمن الدقيق الذي تشير إليه هذه العبارة.

الملائكة السبعة:

٢- "َرَأَيْتُ السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ الَّذينَ يَقفُونَ أَمَامَ الله وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ". الملائكة المشار إليهم هنا متمايزون وعددهم اختير هكذا بدلالة استخدام أداة التعريف. "السَّبْعَةَ مَلاَئكَةَ" يشيرون إلى المكانة العليا السامية المخصصة لهم، هم "الَّذينَ يَقفُونَ أَمَامَ الله". هؤلاء "السبعة" متمايزون عن السبعة الذين يسكبون الجامات (١٥: ١). ملائكة الأبواق فقط هم الذين يتمتعون بمكانة خاصة (" أَمَامَ الله").

هناك تمايزات بين القوات الملائكية. إنهم مقسمون إلى طبقات ومراتب متنوعة، ولكنهم جميعاً، الرئيس الملائكة إلى أدنى ملاك، هم خدام. علاقتهم بالله ليست على أساس الفداء. إنهم خدام، ولا يرتفعون أبداً فوق تلك المكانة، ولا يرغبون في أعلى من ذلك. الميزتان العظيمتان الرئيسيتان لحياة الملائكة هما الطاعة المطلقة لله والفعالية في الخدمة (مز ١٠٣: ٢٠؛ عب ١: ٧، ١٤). إن "ملائكة الحضور" هم فكرة يهودية مألوفة. يفترض البعض على أنهم نفسهم الأرواح السبعة الذين أمام العرش (رؤيا ١: ٤) ويفترض البعض الآخر أن هذه عبارة مستعارة من سفر طوبيا المنحول. ولكن الافتراضين كلاهما خاطئان. لماذا يستمد المفسرون أفكاراً معقدة يفرضونها بدون سبب كافٍ استناداً إلى نص سهل وواضح؟ ما يقوله الملاك جبرائيل عن نفسه: "أنا جبرائيل الواقف قدام الله" (لوقا ١: ١٩)، يقوله الآن "ملائكة الحضور" السبعة هؤلاء. وبالنسبة إلى العدد سبعة، فإنه يمثل كامل قدرة الله في إدانة قضائية.

٢- "وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ" مكان الخضوع هو مكان أسمى مخلوقات الله مجداً؛ أُطلقت الأبواق العمل السيادي المطلق هو الامتياز الخاص بالخالق وحده. ولكن لماذا الأبواق؟ ما من آلة نفخية استُخدمت أكثر في الحياة الطبيعية لبني إسرائيل من البوق. إن البوق كان يدعوهم إلى الاجتماعات والتجمعات العامة. صوته المرتفع كان يجمعهم إلى الحرب، ويوجههم عندما يجب أن يتقدموا وعندما يجب أن يتراجعوا. وعند تنفيذ الناموس، كان "صوت البوق يزداد اشتداداً جداً". في أعيادهم المبجّلة كان البوق يُستخدم بشكل كبير. نغماته التحذيرية العالية كانت تعلن اقتراب خطر العدو. بنفخ البوق كانت توجه الرحلات في البرية. في سنة اليوبيل، وفي الواقع، في كل المناسبات الوطنية الهامة كانت تُستخدم الأبواق (انظر لاويين ٢٥: ٩؛ خروج ١٩: ١٩؛ عدد ١٠: ٢- ١٠؛ لاويين ٢٣: ٢٤، الخ). الظروف التي كانت تستدعي تدخل الله العلني بالدينونة، كما هو مفصل في هذا القسم من الرؤيا الذي ندرسه، مشابه نوعاً ما للأيام الآتية التي تكلم عنها يوئيل ٢: ١، ٢، "يوم ظلام وقتام. يوم غيم وضباب" يوئيل ويوحنا كلاهما يشيران إلى نفخ البوق، ما يدل على أن الله على وشك أن يتعامل علانية ومباشرة وأمام الجميع بتأديب قضائي إذ يرى التعديات أمامه، وهذا إعلان عام ومرتفع الصوت بأنه على وشك أن يصنع ذلك. "السَّبْعَةُ الأَبْوَاقُ". ترمز إلى إعلان كامل مكتمل. الأبواق ذات المغزى التي في سفر الرؤيا يجب أن لا يُخلط بينها وبين الأبواق الحرفية التي في أزمنة العهد القديم.

الكاهن الملاك:

٣- ٥- "وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عنْدَ الْمَذْبَح، وَمَعَهُ مبْخَرَةٌ منْ ذَهَبٍ وَأُعْطيَ بَخُوراً كَثيراً لكَيْ يُقَدّمَهُ مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ جَميعهمْ عَلَى مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الْعَرْش. فَصَعدَ دُخَانُ الْبَخُور مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ منْ يَد الْمَلاَك أَمَامَ الله. ثُمَّ أَخَذَ الْمَلاَكُ الْمبْخَرَةَ وَمَلأَهَا منْ نَار الْمَذْبَح وَأَلْقَاهَا إلَى الأَرْض، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ". المشهد الذي أمامنا مثير للاهتمام جداً وفيه الكثير من قوالب المجاز اليهودي المعروفة. "مَلاَكٌ آخَرُ". من يكون؟ نحن على قناعة بأن الكاهن الملاك هو المسيح، رئيس كهنتنا العظيم. الخدمة عند المذبح تثبت ذلك، إذ يُشار إلى كل من المذبح النحاسي والمذبح الذهبي. ما من مخلوق يمكنه أن يضيف فعالية إلى صلوات القديسين، إذ أن هذا يستطيعه فقط ذاك الذي يمتلك في ذاته الجدارة والأهلية الحقة. إضافة إلى ذلك، ما يجري عند المذبح يخص شخصاً وسيطاً، شخصاً يتوسط بين القديسين المتألمين المصلّين على الأرض والله؛ وكما تؤمن المسيحية فهناك: "وَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (١ تيموثاوس ٢: ٥)، ولا مجال لدحض البرهان على أن الكاهن الملاك هو المسيح وحده، وليس شخصاً أو جماعة تُمثله، كما يفهم بعض المفسّرين. هناك إجماع عام في الفكر بين المفسرين الأوائل للرؤيا في تفسيرهم السليم بأن الملاك هنا يُقصد به المسيح. "مَلاَكٌ آخَرُ" تُستخدم ثلاث مرات للإشارة إلى المسيح في رؤى سفر الرؤيا (٨: ٣؛ ١٠: ١؛ ١٨: ١). هذا اللقب يفترض الحفظ والبعد. لقب "الخروف" يُميز سفر الرؤيا إجمالاً، والأختام بشكل خاص، ويبدو كأنه اللقب المختار المعبر عن اهتمام المسيح بقديسيه، كما أيضاً بعلاقتهم الحميمة وقربهم منهم. تحت سلسلة أبواق الدينونات يتنحى المسيح معنوياً ويتقلد لقباً وشخصيةً ملائكيين عندما يأتي القديسون بشكل متميز وبارز إلى المشهد النبوي فعندها يظهر لقب الخروف (انظر الأصحاحات ٧: ١٧؛ ١٤: ١، الخ).

٣- "وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عنْدَ الْمَذْبَح، وَمَعَهُ مبْخَرَةٌ منْ ذَهَبٍ". الإشارة هنا هي إلى مذبح المحرقة الذي كان يقبع في باحة خيمة الاجتماع في القديم. النار التي كانت تُضرم أولاً بطريقة عجائبية (لاويين ٩: ٢٤) صارت في ما بعد تتغذى على القرابين اليومية والسنوية وغيرها. يُذكر المذبح ستة مرات في الرؤيا، وببساطة كـ "المذبح" (٦: ٩؛ ٨: ٣، ٥؛ ١١: ١؛ ١٤: ١٨؛ ١٦: ٧). من عبرانيين ٩: ٤ فقط نعرف أن المبخرة تُستخدم مرة في السنة في عيد الكفّارة (لاويين ١٨) وكانت من الذهب. المبخرة كانت تُستخدم لرفع النار عن المذبح النحاسي.

٣- "وَأُعْطيَ بَخُوراً كَثيراً لكَيْ يُقَدّمَهُ مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ جَميعهمْ عَلَى مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الْعَرْش". كان البخور يُستخدم في خدمة خيمة الاجتماع وكان مركباً من أربع مواد، تُذكر بشكل محدد في خروج ٣٠: ٣٤- ٣٦. لقد كان مركباً بطريقة معينة تتوافق مع الصيغة الإلهية. أي تصنيع غير مقدس لا أو استخدام غير مقدس، كان عقابه الموت (الآيات ٣٧، ٣٨). ما من شك في أن المكونات الأربعة، والتي يُذكر ثلاثة منها مرة واحدة فقط، ترمز إلى الجمالات الأخلاقية وكمالات المسيح كما تشهد عليها الأناجيل الأربعة، ولكنها كانت في حاجة إلى نار الدينونة لتنشر عطر المسيح الكامل، وهذا كانت الجلجلة وحدها قادرة على إنجازه. مذبح الذهب، يُشار إليه مرتين في سفر الرؤيا (٨: ٣؛ ٩: ١٣)، كان يقع داخل خيمة الاجتماع في المقدس، أمام ويمين الحجاب. الدم، شاهد الموت والدينونة، كان يوضع على قرونه الأربع سنوياً (لاويين ١٦: ١٨، ١٩)، وأيضاً للكفّارة في أيام ومناسبات أخرى (لاويين ٤: ٧، ١٨). كان البخور يُحرق أيضاً عليه كل صباح ومساء (خروج ٣٠: ٧- ١٠)، كبخور دائم أمام الرب. المعنى العميق للبخور هو أكثر مما يستطيع اللسان أن يخبر عنه أو القلم أن سيكتب عنه. طيب المسيح الزكي الرائحة، ما كان، وما فعله، وما عاناه يرمز إليه البخور. والآن دعونا نجمع الأقسام المختلفة من المشهد معاً وأن نسعى لفهم المعنى الحقيقي الذي تحمله. العمل برمته تستوجبه حقيقة أن قسماً كبيراً من القديسين المتألمين هم على الأرض خلال زمن إصدار نفير الأبواق، وهناك حاجة إلى التوسط أو الشفاعة لأجلهم. في فترة مبكِّرة، تحت الختم الخامس تُشاهد جماعة من الشهداء. أرواحهم تحت المذبح، وهم يصرخون ويصلّون (٦: ٩). ولكن ما من شفاعة كهنوتية تُرفع لأجلهم؛ إنهم لا يحتاجونها. هذه النعمة تُقدم للأحياء، وليس للأموات. صلوات هؤلاء القديسين، خلال الأزمة الكبيرة التي في تاريخ العالم التي ستكون نصيباً لهم، لا تُدوَّن هنا. لا شك أن حملهم الثقيل عموماً سيكون صرخات مناشدة إلى الله للانعتاق من مُضطهدين غير الأتقياء ولإدانة هؤلاء. صلواتهم لا تنطق بنظرات النعمة بل العكس ٢. طلب الدينونة إذاً سيكون حقاً وفي توافق تقي مع طبيعة وروح التدبير الإلهي، كما أنه غير ملائم الآن ويتناقض مع روح هذه الفترة من رحمة الله الطويلة الأناة. الصلة الروحية في أفضل حالاتها ليست كاملة، ولذلك يضيف المسيح كمالاته في الحياة والموت. ومن هنا فإن دخان البخور، أي عبق المسيح وصلوات القديسين، تتصاعد إلى الأعلى، ليس من مبخرة الذهب، بل "منْ يَد الْمَلاَك أَمَامَ الله"، بشكل أكثر حميمية، وبالتأكيد أكثر قرباً من "المبخرة". كم هي قوية إذاً صلوات حتى أضعف القديسين عندما يصحبها عبق رائحة المسيح ابن الله المحبوب. الملاك هنا (المسيح)، وقد انتقل من مذبح المحرقة إلى مذبح البخور، ورفع صلوات "وجميع القديسين" الذين على الأرض آنذاك إلى الله، مضيفاً إليها الطيب الزكي لحياته وذبيحته، يعود إلى مذبح المحرقة ويملأ المبخرة الفارغة الآن بنار منه. ولكن ليس بالبخور، لأن ذلك كان لأجل القديسين. الدينونة، والدينونة الصرف، ستُلقى على الأرض المرتدة، وعن هذا نرى الإعلان القاسي في العمل المقتدر للملاك الذي "أَخَذَ الْمَلاَكُ الْمبْخَرَةَ وَمَلأَهَا منْ نَار الْمَذْبَح وَأَلْقَاهَا إلَى الأَرْض". وهذا دلالة مذهلة تشير إلى الإجراء القضائي الإداني. الله على وشك أن يعاقب الأرض، وكما أن المذبح كان التعبير عن قداسته وبره في تعامله مع خطيئة شعبه القديم، كذا فإن نفس القداسة والبر يفتقد الأرض ويدين ويُعاقِب بناءً عليها. عمل الملاك يتبعه مباشرة العلامات الرمزية للقوة المقتدرة. "حَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ"، وهي نذائر للاندلاعات الآتية المتتالية من الغضب الإلهي على الأرض. "هذه الأشياء تُشكل صيغة كارثة"؛ والطابع الرباعي الجوانب هنا يشير إلى عالمية الكارثة في ما سيصيب الأرض" ٣. لدينا نفس الصيغة الإلهية التي تشير إلى دينونة فورية تتكرر فعلياً أربع مرات (٤: ٥؛ ٨: ٥؛ ١١: ١٩؛ ١٦: ١٨). في أول هذه الإشارات التركيز على الغضب الآتي مقتصر على هذه العلامات الثلاثة: "بروق وأصوات ورعود" في الإشارتين الثانية والثالثة يُضاف "زَلْزَلَةٌ"؛ بينما في الرابع (١٦: ٢١) نلتقي بالإضافة الأخرى التي هي "بَرَدٌ عَظيمٌ" ولكن في النصوص الأربعة لدينا، مع تغاير خفيف في ترتيب الأشياء: "بروق وأصوات ورعود".

التهيئة للتبويق:

٦- "ثُمَّ إنَّ السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ الَّذينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الأَبْوَاقُ تَهَيَّأُوا لكَيْ يُبَوّقُوا". هؤلاء الملائكة السبعة لا يُنفذون بأنفسهم الدينونات التي يعلنونها. ملائكة الدينونة الأربعة (٩: ١٤) متمايزون عن ملائكة الأبواق السبعة. ملائكة الحضور السبعة تلقوا أبواقهم قبل تدخل الكاهن الملاك (الآية ٢). ولكن عظمة وجلال العمل الذي بين أيديهم تدل عليه إمارات وعلامات القوة المقتدرة. والآن يُهيئ الملائكة أنفسهم. ليس من عجلة، بل إشارات تحذيرية يقدّمها المسيح، واستعداد متأن يقوم به الملائكة، ما يشير بالتأكيد إلى جدية وخطورة الوضع، الذي استدعى دينونة قاسية.

البوق الأول:

٧- "فَبَوَّقَ الْمَلاَكُ الأَوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَان بدَمٍ، وَأُلْقيَا إلَى الأَرْض، فَاحْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَار وَاحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ". "بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَان بدَمٍ". هذه لا يجب أن تُفهم على أنها قوى مدمرة حرفياً. إنها رموز. الطاعون السابع في مصر كان أحد الـ "بَرَد وَنَار"، عاصفة لم يسبق لها مثيل في تاريخ تلك الممالك الأكثر قدماً (خروج ٩: ١٨- ٢٥). الدينونة الآتية المعلن عنها هنا ستكون ذات طبيعة مرعبة وستكون مدمرة وواسعة الانتشار، بدون أن تؤثر عليها قوى الطبيعة المدمرة، "بَرَد وَنَار". إدخال عنصر ثالث، ليس عاملاً مدمراً منفصلاً، بل يُذكر العنصران الأولان "مَخْلُوطَان بدَمٍ"، ما يميز طبيعة خاصة وفائقة البشر في هذه الدينونة. إنها تتميز باندماج القوى الذي يكون خارج نطاق الطبيعة كلياً. ليست الدينونة من النوع العنائي، وليست عاصفة برد ونار حرفياً. فماذا تعلمنا هذه الرموز إذاً؟ كيف نقرأها ونفهمها؟ الكتاب المقدس يصمت بخصوص هذا الموضوع.

البرد يرمز إلى دينونة مفاجئة حادة غالبة مؤلمة تأتي من فوق، والله هو الذي يُنفذها (انظر أشعياء ٢٨: ٢، ١٧؛ رؤيا ١١: ١٩؛ ١٦: ٢١). والنار هي التعبير عن غضب الله. وكرمز يُستخدم بشكل أكبر من أي رمز آخر في هذا السفر المقدس. من خلال دينونة لا مفر منها ومؤلمة، يُشار إليها هنا. بالطبع إن لها معان أخرى، ولكننا نهتم الآن بتطبيقها الإداني فقط (انظر تثنية ٣٢: ٢٢؛ أشعياء ٣٣: ١٤؛ لوقا ١٦: ٢٤؛ رؤيا ٢٠: ١٠، ١٤، ١٥). والدم يرمز إلى الموت، بالمعنى المادي والروحي. في الأخير سيفترض شكل ارتداد، أي نكران كامل للحقيقة المعلنة، والتخلي عن الاعتراف الديني ٤؛ ما يتعلق بالدم كموت جسدي، انظروا تكوين ٩: ٥، ٦؛ حزقيال ١٤: ١٩؛ والدم كموت روحي، انظروا أعمال ٢: ١٩، ٢٠؛ رؤيا ٦: ١٢؛ ١٦: ٣- ٦. بينما يُعتبر الرمزان السابقان منفصلين، "البرد والنار"، لا يمكننا أن ننظر إلى الثالث على هذا النحو. "الدم" كان ممتزجاً مع هذين العنصرين في الدمار. ومعاً يُعبرون عن اندلاع مريع حقاً للغضب الإلهي، أياً كان ومهما كان المنفذون للهدف الإلهي. البوق يُنفخ، والدينونة عامة.

٧- "وَأُلْقيَا إلَى الأَرْض"، هكذا يغطي كموضوع للدينونة نفس المجال تماماً الذي بعثر عليه الملاك النار من المذبح (الآية ٥). في كلتا الحالتين (الآيات ٥ و٧) العبارة "يُلقي" تتضمن قوة لا تقاوم وراءها. دينونة البرد والنار مع الدم لا يمكن إرجاعها إلى أسباب طبيعية وهذا واضح من حقيقة أنهما أُلقيا إلى الأرض على يد ذراع قديرة لم تُرَ بعد. المنطقة المبتلية يُقال بأنها الأرض. ولكن بما أن الأرض والبحر يُشار إليهما بشكل منفصل في رمزيات سفر الرؤيا فلابد لنا أن نتساءل عما يرمز إليه كل منهما. ف الأصحاح ١٠ لدينا رؤيا للمسيح يتميز بعلامة مميزة من الجلال الإلهي. إنه ينزل من السماء ليطالب بالعالم كله. إن العالم هو خاصته. ولذا فإن هناك مغزى في تأكيد حقه العالمي السيادي الذي يجعله يضع رجله اليمنى على البحر ورجله اليسرى على الأرض، وهكذا متملكاً كل العالم الذي تحت السماء. أولئك الذين ينفصلون عن الخليقة الطبيعية يمثلون صورة (١) الزعزعة وعدم الاستقرار (البحر)، و(٢) الاستقرار (الأرض). الرموز نفسها في أقسام أخرى من سفر الرؤيا، تُثبت وتحدد المعنى الدقيق والكامل للمغزى لدى استخدام كل من هذه الرموز. الرمز يستحضر أمامنا صورة كاملة عن عما يُقصد نقله، وفي معظم الأحيان بقوة أكبر من استخدام العبارات المطولة؛ ومن هنا عالمية الرموز في التعبير في الفكر البشري. فالأرض، إذاً، تشير إلى ذلك الجزء من العالم المتحضر والواقع تحت سلطة ثابتة وحكومة راسخة وطيدة. والبحر، بالمقابل، يُمثل ذلك الجزء من العالم الذي هو في حالة فوضى، عالم اللا حكومة والفوضى والتمرد، بدون حكومة إلهية ومدنية ٥. الرفض العلني لله سيتبعه سريعاً تنصل من السلطة القضائية والمدنية، وعندما يصل انعدام الناموس والتقوى إلى ذروته، يتدخل الله بدينونة. وعن هذا يتكلم الجزء النبوي من سفر الرؤيا مقدماً شهادة صادمة، نأمل فهمها في مسار هذه الدراسات.

"احْتَرَقَ ثُلْثُ الأرض"، وأيضاً ثلث الأشجار وكل العشب الأخضر. ونشهد الآن النتائج الرهيبة التي نجمت عن هذه الدينونة المتجلية من السماء. تلك الأراضي التي أشرقت عليها المسيحية بقوة تُركت آنذاك للدينونة. الله السامي في علاقاته، في زمن الأبواق، نُسي وهجره العالم المسيحي. فما الذي يبقى عندئذ سوى ذراع الله القديرة لتضرب بدينونة؟ العناصر التدميرية الرمزية أُلقيت على الأرض. والنتائج كانت مثلثة الجوانب.

(١) "احترق ثلث الأرض". هذه العبارة محذوفة من الترجمة العربية التي لدينا. إن القسم الغربي من الأرض كما تأتي في النبوءات هو الذي يُشار إليه هنا على أنه "ثلث الأرض" أو "الجزء الثالث" ٦. الإمبراطورية المنتعشة برأسها الشخصي المضطَهد والمجدف، "القرن الصغير" (دانيال ٧: ٨)، بعاصمتها القديمة المشهورة، روما (رؤيا ١٧: ١٨)، ستسيطر من جديد على الأرض، ولكن الإمبراطورية على الأقل في جل إثمها، الغرب، سيتم التخلي عنه ليشعر بغضب الرب. لا نعلم إن كانت الكلمة "احترق" تشير إلى الخراب الكئيب الناجم عن الحرب أو عن أي مُرسَل آتٍ من السماء، ولكن من الواضح أن الإمبراطورية ستؤول إلى الزوال بفعل عدة دينونات متضامة متحدة.

(٢) "احْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَار". هنا تصل يد الدينونة الصارمة لتصل إلى العظماء والمميزين؛ إلى أناس يعيشون في غطرسة ناجمة عن التكبر أو المنزلة. الدمار يصيب كل هؤلاء، جميعهم، وبالطبع ضمن المجال الذي تأملناه في النبوءة. الشجرة صورة ملائمة ومألوفة تشير إلى العظمة البشرية؛ إلى الكبرياء والمكانة العالية وسط الناس (حزقيال ٣١؛ دانيال ٤: ٤- ٢٧؛ قضاة ٩: ٨- ١٥، الخ).

(٣) "احْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ". ليس من حدود هنا، ولا "ثلث" أو حتى "جزء رابع" كما تحت الختم الرابع (٦: ٨). العشب يشير إلى شعب إسرائيل (أشعياء ٤٠: ٧)؛ الجنس البشري أيضاً يتم الكلام عنه كعشب (١ بطرس ١: ٢٤). "عُشْب أَخْضَر" من الطبيعي أن يشير إلى حالة مزدهرة رفيعة من الأشياء بين سكان الإمبراطورية عموماً. ترافق الأشجار والعشب، كما في ٩: ٤ وهنا أيضاً، يدل على الدينونة التي تصيب الجميع، الرفيعي المقام وخفيضيه، بما في ذلك الدمار الكامل لكل أمر سعيد يحيط بهم. الحالة الموصوفة بالعبارة "احْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ" تشير إلى مشهد عام من الخراب والدمار. يا لها من أيام مريعة تنظر تلك البلدان التي هي مباركة ومأثورة وسعيدة الآن، إذ أن العدالة الجزائية آنذاك ستًطلق العنان لدينونة الله الصارمة القاسية.

البوق الثاني:

٨، ٩- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّاني، فَكَأَنَّ جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار أُلْقيَ إلَى الْبَحْر، فَصَارَ ثُلْثُ الْبَحْر دَماً. وَمَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ، وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". "جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار". الكتاب المقدس نفسه يعطي قوة للصورة. الملك البابلي القدير يتكلم عنه هكذا النبي إرميا (٥١: ٢٥): "هئنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض فأمد يدي عليك وأدحرجك عن الصخور وأجعلك جبلاً محرقاً". الرب هنا يهدد المملكة الكلدانية، التي يبدو أنها مترسخة بقوة في قدرتها وعظمتها بحيث تقاوم أي هزيمة- يهددها بدينونة مهلكة، "جبلاً محرقاً". ومن جديد، الحجر الذي لم تلمسه أي يد بشرية أو أداة يقع بقوة تحطيم كبيرة على أقدام التمثال، صورة السلطة الأممية، وتصير عندئذ "جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها" (دانيال ٢). السيادة العالمية النطاق لابن الإنسان تُصور هكذا. الجبل رمزياً يدل على المملكة (أشعياء ٢: ٢؛ زكريا ٤: ٧؛ إرميا ٥٢: ٢٥) أو على قوة أو سلطة مترسخة بشدة (مز ٤٦: ٢؛ رؤيا ٦: ١٤؛ ١٦: ٢٠). الفكرة المجردة، الواجب فهمها في هذه الرموز النبوية، هي عن سلطة راسخة ثابتة قوية، وهذه السلطة نفسها هي موضوع انتقام الله السيادي، لأن الرائي رآها تحترق بالنار، فتصبح في يد الله أداة للدينونة تنزل على الوثنيين. يصف إرميا، النبي المنتحب، بدقة قوة وقيمة الصورة في نصنا (٥١: ٢٥).

٨- "أُلْقيَ إلَى الْبَحْر". خلال البوق السابق (الآية ٧) كانت الأرض هي مشهد الدينونة؛ أما هنا فهو البحر. الأرض هي العالم الروماني عموماً، حيث الثلث هو القسم الغربي من الإمبراطورية. يُمثل البحر حالة تمرد ضد سلطة راسخة؛ عن شعوب في حالة قلق وفوضى، وبالتالي خارج حدود العالم الروماني. ضمن هذا الأخير، في الماضي كما في المستقبل، السلطة والحكومة تؤيدان. البحر الهائج أبداً (أشعياء ٥٧: ٢٠؛ دانيال ٧: ٢، ٣؛ رؤيا ١٣: ١؛ ١٨: ٢١) هو الصورة المختارة هنا للإشارة إلى شعوب الأرض في ملكية منذرة بالسوء، خاضعة للحاجة إلى سلطة قوية متحكمة أو ذراع قوية. السلطة المدنية والحكمية يضعها الله (رومية ١٣: ١). حالة الأشياء في المستقبل بين الأمم خارج الحدود الإقليمية للسلطة الرومانية المنتعشة يمكن مقارنتها بحالة فرنسا خلال فترة الحكم التي امتازت بالرعب في القرن الثامن عشر- أمة بدون الله، بدون دين، وبشبه حكومة فقط، تحكمها النزعات العاطفية الهوجاء للرعاع، ملعب الشيطان في أوربا. لذلك، فإن البحر النبوي يُمثل الحالة العامة للأمم بدون حكومة مدنية أو روحية. إلى الجموع المهتاجة من البشر، والعالم الوثني، تُلقى هذه القوة المحرقة. ونشهد الآن النتائج المهلكة الناجمة عن ذلك. وهذه تكون مثلثة الجوانب كما في البوق الأول.

(١) "صَارَ ثُلْثُ الْبَحْر دَماً". هل يرمز الدم هنا إلى موت طبيعي عنيف أم أنه يشير إلى موت الارتداد الروحي؟ في تقديرنا هذان الشكلان من الموت يمتزجان هنا. تلك الأمم التي هي في علاقة سياسية أو علاقة خارجية مع قوة الإمبراطورية الرومانية المسيطرة سوف تُدمر. دمار الحياة بين الأمميين، المرتبطين بعلاقة مع أسوأ الإمبراطوريات العالمية الأربعة، هي ما يُمثله هذا الرمز أو الصورة. الموت الروحي والجسدي هو النتيجة الأكيدة لكل علاقة مع سلطة روما المرتدة المجدفة والمضطهدة.

(٢) "وَمَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ". هذا الجزء من العالم لا يأتي إلى خضوع طبيعي لسلطة راسخة، بل في علاقة خارجية مع الإمبراطورية، هو ما يراه الرائي تالياً، إذ يُفتقد بالدينونة. الحديث هنا هو عن أشخاص، وليس عن شعوب أو أمم بشكل عام، كما في الدينونة الأولى. العبارة "الْخَلاَئق" لها الكثير من المعاني. حتى في الوثنية توجد معايير متفاوتة عن المسؤولية ودرجات متعادلة في الإثم. "ثُلْثُ"، أي أن الأسوأ هم أمامنا في هذه السلسلة من التأديبات الإلهية. "مَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ". العلاقات المتداخلة في الأختام هي أمر بسيط مقارنة بتلك التي للأبواق. في الأخيرة هناك غموض وأسرارية مقصودة في الرموز المستخدمة ما يجعل الفحص الدقيق أمراً صعباً نوعاً ما. ولكن هنا، مع الأصحاحات ٢: ٢٣ و٣: ١ التي أمامنا نحن أمام أساس متين. الموت الأخلاقي أو الروحي هو بلا شك قوة الدينونة التي تُنفذ هنا. الموت تجاه الله، والموت نحو مبادئ الحق والبر، والموت عموماً يُنظر إليه معنوياً بطابعه الواسع.

(٣) "وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". هذه القوة التدميرية، سواء كانت أمة أم نظاماً، تُلقى بعنف إلى جمهور البشر غير المنضبطين، ليس فقط أنها تحدث تخريباً فظيعاً، جسدياً وأخلاقياً، على الشعوب والأشخاص، تحطم أيضاً التجارة ووسائل الاتصال مع البلدان البعيدة. "وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". ولكن قصة الدينونة لم تُسرد بعد. تزداد الظلمة كثافة مع دنو الليل. وينشأ رعب يليه رعب. يا للمفاجأة الصاعقة التي سيتعرض لها العالم المسيحي عندما يستيقظ ليجد الحقيقة المريعة بأن الديّان واقف على الباب!

البوق الثالث:

١٠، ١١- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّالثُ، فَسَقَطَ منَ السَّمَاء كَوْكَبٌ عَظيمٌ مُتَّقدٌ كَمصْبَاحٍ، وَوَقَعَ عَلَى ثُلْث الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه. وَاسْمُ الْكَوْكَب يُدْعَى «الأَفْسَنْتينُ». فَصَارَ ثُلْثُ الْميَاه أَفْسَنْتيناً، وَمَاتَ كَثيرُونَ منَ النَّاس منَ الْميَاه لأَنَّهَا صَارَتْ مُرَّةً". عند نفخ الأبواق فإن الملائكة الأربعة الكابحين يُطلقون العنان لأربع رياح الأرض، الذين هم الوكلاء العنائيون للدينونة (٧: ١). السحابة السوداء للانتقام المنتشرة فوق العالم الآثم تُرفع قليلاً، لفترة قصيرة يعمل الله خلالها بنعمته المطلقة وسط إسرائيل والأمميين (الأصحاح ٧). ثم تحت الأبواق يتم استئناف سير الدينونة. نفخ الأبواق السابق أعلن إطلاق الدينونات الأشد فظاعة على الأرض وعلى البحر: الأول هو مشهد النظام الحكمي، وأيضاً حيث الله أيضاً كان يُعترف به بشكل أو بآخر؛ والأخير هو المجال حيث قوى الملكية وإرادة الإنسان كانت تحكم في المطلق، والتي كانت دائماً تنكر السلطة الروحية والمدنية. هذه البوق تشير إلى دينونة تعادل سابقاتها في شدتها المرعبة، بل وفي بعض الجوانب تكون مريعة أكثر منها. "سَقَطَ منَ السَّمَاء كَوْكَبٌ عَظيمٌ". السماء هي مصدر السلطة: بالتأكيد هي مكان ثابت؛ ومن هنا إدخال أداة التعريف إلى كلمة "السَّمَاء". كل السلطات الروحية والمدنية والسياسية مصدرها من الأعلى. "السماء سلطان" (دانيال ٤: ٢٦). تحت البوقين السابقين كانت أدواة الدينونة قد "أُلقيت" على الأرض والبحر كلٍّ بدوره، ولكن لا نعلم من أين. وهنا هذا الشخص الرفيع المقام المرتد "سقط" من السماء ٧. الكلمة "أُلقي" تتضمن المعنى ممارسة قوة لا تُقاوم من جهة الفاعل غير المنظور، وأيضاً عنف الدينونة؛ بينما "يسقط أو يقع" التي نجدها أيضاً في ٩: ١، ستشير بالأحرى إلى سقوط مفاجئ وغير متوقع. "الكوكب" كرمز هو كثيراً ما يرد في الرؤيا، ويشير إلى حاكم أو شخص يحتل مكانة ذات تأثير ويحمل مسؤولية أمام الله (١٢: ١- ٤؛ ٦: ١٣، الخ). السيادة يُشار إليها بالشمس؛ السلطة المستمدة يُرمز لها بالقمر؛ بينما الكواكب تشير إلى سلطات أقل. هذا "كَوْكَبٌ عَظيمٌ" يرمز بشكل واضح إلى حاكم معين متميز مسؤول قد عُين في الجَلَد المعنوي ليمنح النور في الليلة المظلمة تلك من تاريخ العالم، ولكنه شخص مرتد، يقبع تحت دينونة الله المباشرة، "مُتَّقدٌ كَمصْبَاحٍ"؛ ومن هذه الناحية يشبه "جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار". الصفة "عظيم" ملتصقة بالجبل، وأيضاً بالكوكب؛ في الأول فقط يُشار إلى القوة المتحدة أو النظام المتحد، بينما في الأخير القصد هو شخص رفيع الشأن. لا نعرف هنا من هو هذا الشخص المنحط والمرتد. البعض يرى في أن الكوكب الساقط العظيم إشارة إلى شخص ضد المسيح ٨. ولكن هذا لا يرتقي إلى أكثر من مجرد تحزر. ضد المسيح يلعب دوراً هاماً في الأزمة القادمة، كما سنرى في الدراسات التالية.

١٠- "وَقَعَ عَلَى ثُلْث الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه". "المياه" تشير عموماً إلى الشعوب (١٧: ١٥؛ أشعياء ١٧: ١٢، ١٣)؛ والبحر يشير إلى حالة من الاضطراب والاهتياج، اضطراب وقلق وسط تلك الشعوب (أشعياء ٥٧: ٢٠؛ دانيال ٧: ٣)؛ "الفيضانات" امتلاء من البركات الأرضية (أشعياء ٤٤: ٣)، وأيضاً الكوارث الأرضية (عاموس ٨: ٨)؛ "الأنهار"، الحياة العادية لأمة أو شعب والمتميزة بمبادئ معينة (حزقيال ٢٩: ٣؛ أشعياء ١٨: ٢)؛ "يَنَابيع"، مصادر المبادئ والتأثيرات التي تؤثر على حياة أمة (يوئيل ٣: ١٨؛ إرميا ٦: ٧).

١١- "اسْمُ الْكَوْكَب يُدْعَى «الأَفْسَنْتينُ»". وثلث المياه يُصبح الأَفْسَنْتينُ؛ ويموت كثير من الناس، لأن المياه قد جُعلت مُرةً. اسم "الأَفْسَنْتينُ" ذو مغزى معطى الكثير من المفسرين القدماء يعتبرون الشخص المشار إليه هنا على أنه الشيطان، ولكن، كما لاحظنا، ليس هناك وسيلة تساعدنا لتحديد اسم الشخص. المنطقة الجغرافية المتأثرة هي "الثلث". الينابيع، مصادر الحياة الوطنية، تُسمَّم. كل ما هو تحت التأثيرات المدمرة المهلكة لهذا الكائن الساقط تدل على مواصفات شخصه، "الأَفْسَنْتينُ". من الواضح أن هناك إشارة إلى ذلك الحادث الشيق في تاريخ إسرائيل الذي نجد تفاصيله في خروج ١٥: ٢٢- ٢٥. فهناك المياه المرة قد جُعلت حلوة؛ أما هنا فالمياه العذبة الحلوة تُجعل مُرة. الحياة الوطنية والشخصية منفسدان. معاملة قضائية إدانية ذات طابع كثيف وجليل تتناول ثلث الأمم؛ منابع الفعل فيها، وحوافزها، ومبادئها، والحياة الأخلاقية فيها مُسمَّمة، وبالنتيجة "كَثيرُون" يموتون. هذا الموت ليس جسدياً بل معنوياً، وهو في الواقع أشد فظاعة من السابق. "عندما تنظر إلى هذه المكونات المُرة التي تسربت إلى المياه بسقوط هذا الكوكب العظيم، فلا تتعجب أن كثيرين ماتوا، بل بالأحرى فإنك ستستغرب إن بقي أحد على قيد الحياة" ٩.

البوق الرابع:

١٢- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الرَّابعُ، فَضُربَ ثُلْثُ الشَّمْس وَثُلْثُ الْقَمَر وَثُلْثُ النُّجُوم، حَتَّى يُظْلمَ ثُلْثُهُنَّ، وَالنَّهَارُ لاَ يُضيءُ ثُلْثُهُ، وَاللَّيْلُ كَذَلكَ". الشمس والقمر والنجوم مجتمعة ترمز إلى كل الجسم الحاكم، من الرأس الأعلى نزولاً إلى أصغر السلطات- نظام كامل من الحكم بكل أجزاءه. تحت الختم السادس (٦: ١٢، ١٣) نفس الرموز تُقدم لنا للتعبير عن انهيار كامل لكل السلطات الحاكمة على الأرض. قوة الإنسان تُحطم. وكل سلطة تحت السماء تُقلب وتُهزم. الحكومات الراسخة منذ زمن بعيد، وكل سلطة اتكالية وقوة تسقط في الحطام العالمي. ولكن هناك، انهيار كل النسيج الاجتماعي، وسقوط كل كرسي للحكم، لن يكون محصوراً أو يمكن تقييده. الحد الوحيد تحت الأختام هو "الجزء الرابع" الذي يحدث مرة واحدة فقط (٦: ٨). وهنا تحت البوق الرابع تمتد الدينونة وتأثيراتها إلى "ثلث" المشهد النبوي، الجزء الغربي من الإمبراطورية المنتعشة. وفي هذا السياق فإن العبارة "ثلث" ترد خمس مرات (الآية ١٢). تأثير هذه الدينونة هي ذلك الظلام الأخلاقي المعنوي، كمثل مسحة جنائزية تُخيم فوق الإمبراطورية.

إعلان عالمي ومرتفع الصوت لأبواق الويل الثلاثة:

١٣- "ثُمَّ نَظَرْتُ وَسَمعْتُ مَلاَكاً طَائراً في وَسَط السَّمَاء قَائلاً بصَوْتٍ عَظيمٍ: «وَيْلٌ وَيْلٌ وَيْلٌ للسَّاكنينَ عَلَى الأَرْض منْ أَجْل بَقيَّة أَصْوَات أَبْوَاق الثَّلاَثَة الْمَلاَئكَة الْمُزْمعينَ أَنْ يُبَوّقُوا»". "نَظَرْتُ وَسَمعْتُ". العين والأذن كلتاهما كان لهما دور، ما يدل على الانتباه الذاهل والاهتمام عند الرائي بالأحداث التي كانت تمر أمامه في الرؤيا. في ترجمتنا العربية نقرأ "ملاك"، ولكن في ترجمات عربية أخرى نجد الكلمة "نسر أو عقاب". وأعتقد أن هذه هي الأفضل. هناك رسالة أوكلت إلى الملاك الطائر (١٤: ٦)، كما أن رسالة أخرى أوكل بها عقاب طائر (٨: ١٣). وسط السماء، أو الجلد، هو المجال الذي يخترقه كلاهما، لكي يستطيعوا معاينة ما في الأرض من مركزها وإلى أقصى أطرافها. الأول هو رسول للرحمة، والأخير هو المنذر بالدينونة. الصرخة الثلاثية بـ "الويل" ينطق بها العقاب وهذا أمر ملائم. في طيرانه السريع والشاهق عبر السماء العالية يعلن بصوت مرتفع المصير المشؤوم الآتي على القسم المتمسحن من الأرض على أولئك الذين رفضوا بكبرياء "الدعوة السماوية"، الذي يكتب بولس عنهم قائلاً: "الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (فيلبي ٣: ١٩). هنا طبقة خاصة تُفرز عن سكان الأرض، طبقة أخلاقية، يُقال عنها بأنهم "الساكنون على الأرض"، وأُشير إليهما سابقاً مرتين في (٣: ١٠؛ ٦: ١٠). على هؤلاء المرتدين، الذين هم الأسوأ في الأزمنة الداكنة والشريرة، ستقع دينونة مباشرة ولا يمكن الشفاء منها وهذا ما يُعلن عنه هنا علانية وبصوت مرتفع. وليس من رمز أفضل من النسر في طيرانه الشاهق عبر السماء، ناظراً ببصره الحاد إلى فريسته من بعيد. العقاب هو النذير بالدينونة الوشيكة (انظر تثنية ٢٨: ٤٩؛ إرميا ٤٨: ٤٠؛ متى ٢٤: ٢٨). الدينونات الأربعة السابقة كانت ذات طابع عام، ولكن تلك الآتية ستصل إلى قمة الرعب؛ ومن هنا هذا الإعلان التمهيدي ١٠.


١. يقول هنغستنبرغ وبعض المفسرين الآخرين أن الحديث هنا هو عن صمت في الأرض، ويستشهد بحبقوق ٢٢، وصفنيا ١: ٧، وزكريا ٢: ١٣؛ هذه المقاطع تتكلم عن صمت في الأرض، بينما النص في يدينا، والذي لا نجد حتى الآن أي نظير له أو مثل في العهد القديم، يتكلم عن "سُكُوتٌ في السَّمَاء". يكفينا أن العبارة تشير باختصار إلى قترة توقف مؤقت قصيرة خلال مسار الدينونة. هذا يؤكده التأمل في نصين آخرين، والذين نجد فيهما إعلانات إنذارية أولية عن الدينونات الآتية ينطق بها بنفس الكلمات فعلياً. في النص الأول، (٤: ٥)، لدينا حدوث بلوى إلهية تستمر حتى نهاية الأصحاح ٦. ثم نجد توقفاً مؤقتاً يوحي بانقطاع قصير الأجل لسير الدينونة. وفي النص الثاني، (٨: ٥)، نجد إعلاناً آخر مشابهاً عن التأديبات الإلهية يتم الكشف عنه، وهذا الأخير يأخذ مجراه تحت الأبواق. الصمت هو في السماء لأن الدينونات تنبع منه.

٢. طبيعة الجواب تحدد طبيعة التشفع أو التوسل الذي قُدم.

٣. "إعلان يسوع المسيح ليوحنا"، ص. ٣٤١- هوبر.

٤. يهوذا ١٢، "ميتة مضاعفة"؛ الأولى أموات في الخطايا، والثانية أموات للارتداد.

٥. لقد تم التأكد من الرمزية عند العبرانيين كانت مستمدة من مصر وأشور، حيث كانت المملكة ونظام التمثيل في كلتيهما قد أحرزتا درجة عالية من السمو. ولكن هل نقبل أو نتخيل أن الله يستمد صوراً من الأمم الوثنية الآثمة؟ لا أوافق على هذا الرأي وأعتقد أن هذا المفهوم مثير للشك كلياً. الحقيقة هي أن الرمزية هي أقدم بكثير من الممالك المشار إليها، وهي مترافقة مع بدء وجود الجنس البشري. ولذلك فإن الفترة الأولى التي كشفت (تكوين ٢) الأشجار الرمزية: شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير الشر، تستدعي انتباهنا لأنها أول رموز مقدمة للبشر. إنها جزء من اللغة العالمية، الرمز كما يُصور للذهب ينقل بطريقة مؤثرة الملامح أو المواصفات المعنوية للشيء المتناول. ولذلك فإن الأسد، الذي هو "سيد الغابة" يوحي مباشرة بفكر الجلال والسلطة الملوكية؛ ومن هنا فإن هذه المواصفات المعنوية التي تدل عليها الرموز تشير إما إلى المسيح (رؤيا ٥: ٥)، أو إلى أول الإمبراطوريات العالمية العظيمة- البابلية (دانيال ٧: ٤).

٦. الإمبراطوريات العالمية الأربعة، تُصور كمعادن (دانيال ٢)، ووحوش (الأصحاح ٧). وهذه هي بابل، وفارس، واليونان، وروما. الثلاثة مذكورة بالاسم في الكتابات المقدسة من قِبل النبي العبري. والرابعة، أو روما، يُشار إليها في لوقا ٢: ١، "صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة". كانت وما قد تأسست عام ٧٥٣ ق. م.، بعد فترة قصيرة من تعرض الأسباط العشرة للسبي على يد شلمنأسر. أعطى رومولوس، ملكها الأول، الاسم إلى المدينة، التي قُدر لها أن تلعب دوراً هاماً في تاريخ العالم. قرطاجة، المنافس الإفريقي لروما، كانت القوة الوحيدة التي بدا أنه يمكن أن تهز عظمة روما. كانت المدينة الإفريقية هي الأقدم، وكانت ذات ثراء أكبر. ولكن كان على حام أن يخضع ليافث. ازدادت روما قوة واتساعاً إقليمياً حتى صار العالم المعروف آنذاك عند قدميها (لوقا ٢: ١). يقول غيبون: "إمبراطورية روما ملأت العالم". بعد غزو اليونان صارت الفضائل الأولى في الشخصية الرومانية فاسدة ومنحطة. الكمال والعدالة، اللذان ميزا روما الأولى، ما عادت موجودة بل موضع ازدراء، بينما الطموح الشخصي، بدلاً من الاهتمام بالدولة وحاجاتها، قد صار من الملامح المميزة لأباطرتها وقادتها. بعد مضي أكثر من خمس مئة سنة على الإمبراطورية، دون أن تتعرض للتقسيم، بل تسيطر على العالم، تقطعت أوصالها في القرنين الرابع والخامس. فاختفت عن الوجود. صعود البابوية وانحدار الإمبراطورية كانا متزامنين ومترابطين. تعود أعلوية أسقف روما إلى القرن الرابع. حالة أوربا حالياً، مع تضارب مصالحها وكثرة عددها، هي نتيجة الانهيار الكامل لإمبراطورية القياصرة تلك. وتناول المؤرخون تاريخ روما منذ صعودها عام ٧٥٣ ق. م حتى سقوطها الشائن عام ٤٦٧ م.، ولكنهم توقفوا هنا. يرفع الله الحجاب ويظهر مستقبل الإمبراطورية الميتة الآن. يُبين النبي العبري (دانيال ٢؛ ٧) والرسول المسيحي (رؤيا ١٧- ١٩) بوضوح أن الإمبراطورية ستنتعش وتظهر إلى الوجود لدى مجيء الرب بقوة. دمارها الكامل من قِبل الرب بشخصه سيلي الملكوت الألفي والعالمي لربنا يسوع المسيح، الذي سيفوق في عظمته وطابعه وامتداده كل قوة على الأرض ظهرت منذ بدء العالم (دانيال ٧: ٢٦، ٢٧).

٧. "الكوكب العظيم" في الأصحاح ٨: ١٠ يجب أن لا يُخلط بينه وبين الكوكب الساقط في ٩: ١. كلاهما سلطانان روحيان، يُشاهدان ساقطين معنوياً من مكانهما العالي. ولكنهما شخصان متمايزان.

٨. الاسم الرمزي للكوكب (الآية ١١) لا ينطبق على الشخص المشار إليه، بل إلى التأثير المهلك الذي ينتج عن الفعل.

٩. "محاضرات على سفر الرؤيا". ص. ١٨١.- رامسي.

١٠. "الويل، وخاصة على أولئك الذين استقروا في الأرض، يتعارض مع الدعوة السماوية، وأولئك الذين لم يتنبهوا ولم يتأثروا بالدينونات التي على الأرض، بل كانوا متمسكين بها موطناً لهم رغم كل ما أُعلن لهم حتى ذاك الوقت. ثلاث ويلات. العبارة "قاطنون"، أو "سكان" الأرض لم تُستخدم بعد، سوى في الوعد إلى فيلادلفيا ومطالبات الأرواح تحت المذبح، لأن كلاً من هذين كانا متعارضين مع بعضهما. بعد كل تعاملات الله هذه، هم طبقة ظاهرة متمايزة، ويتم الكلام عنهم في ما ستمر به الأرض بهكذا تعابير. ضد هذه الطبقة المعاكسة وغير المؤمنة توجه الآن دينونات الله الأرضية؛ الأولى ضد اليهود، والثانية ضد سكان العالم الروماني، والأخيرة عالمية".- "مختصر أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص. ٦٠٥.

الأصحاح ٩

البوق الخامس والسادس

بوق الويل الأولى:

١- ١٢- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الْخَامسُ، فَرَأَيْتُ كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض، وَأُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة. فَفَتَحَ بئْرَ الْهَاويَة، فَصَعدَ دُخَانٌ منَ الْبئْر كَدُخَان أَتُونٍ عَظيمٍ، فَأَظْلَمَت الشَّمْسُ وَالْجَوُّ منْ دُخَان الْبئْر. وَمنَ الدُّخَان خَرَجَ جَرَادٌ عَلَى الأَرْض، فَأُعْطيَ سُلْطَاناً كَمَا لعَقَارب الأَرْض سُلْطَانٌ. وَقيلَ لَهُ أَنْ لاَ يَضُرَّ عُشْبَ الأَرْض وَلاَ شَيْئاً أَخْضَرَ وَلاَ شَجَرَةً مَا، إلاَّ النَّاسَ فَقَط الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ الله عَلَى جبَاههمْ. وَأُعْطيَ أَنْ لاَ يَقْتُلَهُمْ بَلْ أَنْ يَتَعَذَّبُوا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَعَذَابُهُ كَعَذَاب عَقْرَبٍ إذَا لَدَغَ إنْسَاناً. وَفي تلْكَ الأَيَّام سَيَطْلُبُ النَّاسُ الْمَوْتَ وَلاَ يَجدُونَهُ، وَيَرْغَبُونَ أَنْ يَمُوتُوا فَيَهْرُبُ الْمَوْتُ منْهُمْ. وَشَكْلُ الْجَرَاد شبْهُ خَيْلٍ مُهَيَّأَةٍ للْحَرْب، وَعَلَى رُؤُوسهَا كَأَكَاليلَ شبْه الذَّهَب، وَوُجُوهُهَا كَوُجُوه النَّاس. وَكَانَ لَهَا شَعْرٌ كَشَعْر النّسَاء، وَكَانَتْ أَسْنَانُهَا كَأَسْنَان الأُسُود، وَكَانَ لَهَا دُرُوعٌ كَدُرُوعٍ منْ حَديدٍ، وَصَوْتُ أَجْنحَتهَا كَصَوْت مَرْكَبَات خَيْلٍ كَثيرَةٍ تَجْري إلَى قتَالٍ. وَلَهَا أَذْنَابٌ شبْهُ الْعَقَارب، وَكَانَتْ في أَذْنَابهَا حُمَاتٌ، وَسُلْطَانُهَا أَنْ تُؤْذيَ النَّاسَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَلَهَا مَلاَكُ الْهَاويَة مَلكاً عَلَيْهَا اسْمُهُ بالْعبْرَانيَّة «أَبَدُّونَ» وَلَهُ بالْيُونَانيَّة اسْمُ «أَبُولّيُّونَ». الْوَيْلُ الْوَاحدُ مَضَى هُوَذَا يَأْتي وَيْلاَن أَيْضاً بَعْدَ هَذَا". تفاصيل هذه "الويل" محبوكة بلغة ورموز أسرارية، ولكن المعنى العام يبدو واضحاً. الأبواق تمثل صعوبات أخرى في حينها أكثر من الأختام أو الجامات. ولكن العناء، والصبر، وانتظار الله لأجل الاستنارة والفهم هي عوامل أساسية في تفسير الكتابات المقدسة. لدينا "مسحة من القدوس"، حتى نحن الأطفال في المسيح (١ يوحنا ٢: ٢٠، ٢٧)، "ولنا فكر المسيح" (١ كور ٢: ١٦)، أي إمكانية الفهم العقلي، وهكذا نصبح مؤهلين إلهياً لفهم الإعلان المكتوب لإلهنا.

كوكبان ساقطان:

١- "كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض". هذه تدل على أن الرائي قد رأى الكوكب بعد أن سقط، في حين أن ترجمات أخرى تقول "رأَيْتُ كَوْكَباً يسقُط منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض" أي خلال مرحلة سقوطه.

تحت البوقين الثالث والخامس (٨: ١٠؛ ٩: ١) يتبدى في المشهد النبوي أشخاص مرتدون ذوي مكانة عالية وسلطة آمرة مؤثرة. "الكوكب العظيم" في ٨: ١٠ و"الكوكب" في ٩: ١لا يرمزان إلى أنظمة ذات سلطة مدنية أو كنسية سواء كانت فردية أو متحدة، ولا تشير إلى تتابع لأشخاص بارزين، بل تشير إلى أولئك الذين وُضعوا مرة في السماء المعنوية، أي أشخاص مميزين يتمتعون بسلطة ولهم صفة دينية لم يسقطوا أو ينحطوا أو يسلكوا تحت تأثير الشيطان. في الإشارة الأسبق (٨: ١٠) الحاكم المنحط يملأ الجزء الغربي من العالم الروماني (الأكثر فساداً وإثماً) بالبؤس والموت. في المشهد الأخير هو على وشك أن يطلق العنان لقوة مهلكة ومعتمة شيطانية على الجزء المرتد من يهوذا ١. الأمميون المرتدون ستقع عليهم الدينونة تحت البوق الثالث؛ اليهود المرتدون سيعانون تحت البوق الخامس. حالة الأشياء تحت الويل الأولى، أو البوق الخامس، ستتجاوز كل ما شهدناه حتى الآن. تأثير شيطاني مباشر وقوة شيطانية تُنشّط عملاء الشر وأدواته.

التشابه والتسلسل التاريخي:

تحت الدينونات والأحداث المتتالية المعلنة في سفر الرؤيا هناك توافق تاريخي معين وتتابع يمكن ملاحظته. ولكن لا يمكن أن يكون هناك تحقيق جزئي أو أقل شمولية، نجده في سجلات المؤرخين.

إن الرؤيا، من الأصحاح ٤ وحتى ٢٢: ٥، ليست تاريخاً، بل نبوة. ظلال المستقبل فقط تُلقى على الصفحات البارعة التي كتبها جيبون وآخرون. ولكن بالنسبة إلى المبادئ التي تحكم البشر والأمم فهي تبقى نفسها دائماً وأبداً، إذ "لا جديد تحت الشمس"، بل تشابه تاريخي مع النبوءات التي تحت الأختام، والأبواق، والجامات يُسمح بأن يكون بشكل كامل. وإننا على قناعة كاملة بفكرة أن التطبيق التاريخي في سفر الرؤيا، وخاصة في الجزء المركزي، كما يُصور في معظم الأدب المعاصر، هو خطيئة مميتة. مسار النبوءة يُستأنف بشكل يتلاءم مع آخر أسابيع دانيال السبعين أو الـ ٤٩٠ سنة (دانيال ٩: ٢٧)، وبعد انتقال القديسين السماويين (١ تسا ٤: ١٧). يشهد بولس على الانتقال. ويوحنا في الرؤيا يرى المنتقلين في السماء (الأصحاح ٤). كل هذه الفترة الكنسية، تاريخ الكنيسة بحد ذاته، هو حلقة كبيرة وشيّقة بشدة، ولها مكانها بين نهاية الأسبوع الـ ٦٩ وبدء الأسبوع الـ ٧٠ من دانيال. الكنيسة ليست هي موضوع النبوءة بل موضوع الرؤيا. كان هناك سر مخفي عن البشر والملائكة إلى أن كُشف هذا السر لبولس وكشفه هذا لنا (أفسس ٣). اليهود، والأمميين من بعده، هم موضوع النبوة. الأهمية الكبيرة لليهود هي المفتاح لفتح النبوءة. الفترات النبوية لها علاقة جميعاً باليهود وأورشليم (دانيال ٩: ٢٤) ٢؛ وعلى نفس المنوال تلك المحتواة في الجزء المركزي من الرؤيا. ولكن، كما قلنا، التاريخ يقدم تشابهاً (وليس تحقيقاً) للأجزاء النبوية من الرؤيا؛ تشابهاً لا يخلو من الأهمية. بحسب أقدر المدارس التاريخية- وعلى هذا يتفق الزملاء جوهرياً- الأختام الأربعة الأولى تُمثل أربع فترات متعاقبة من روما الوثنية. ثم عند سقوط الوثنية والانتصار التاريخي للمسيحية اهتدى عدد كبير من اليهود والأمميين إلى الله، وهذا ما نفترض أن الأصحاح ٧ يتكلم عنها. ثم يُقال أن الأبواق الأربعة الأولى من الممكن أن تتعلق بروما الوثنية، ولكن في انحدارها وسقوطها وانقراضها في الغرب. الغارات الشمالية للقوطيين الجرمانيين، واللومبارديين، والهنغاريين، على الحقول الخصبة والبلدات الغنية والمزدهرة في إيطاليا سرعان ما وصلت إلى ذروتها في دمار إمبراطورية القياصرة. دور البرابرة الهمجيين في روما نفسها، التي كانت يوماً عاهرة العالم الفخورة والمتعجرفة، صار مشهداً محزناً ولكن مفيداً في التعليم. سقطت روما عام ٤٧٦ م.

من جديد، الكوكب الساقط في الأصحاح ٩ يُفترض أنه يشير إلى محمد العربي الكبير، وبالتأكيد يُعتبر نموذجاً أولياً للأنبياء الكذبة الذين سيأتون لاحقاً، وابن الخطيئة، وضد المسيح- هذه الألقاب التي تشير إلى نفس الشخص. ضد المسيح الذي سيأتي سيرأس تحت الشيطان الاندماج الأكثر فظاعة الذي سيتميز بتدمير الأرواح والعقائد التجديفية. بمتابعة التطبيق التاريخي، جيش الجراد سيكون الأعراب الذين ستصل منجزاتهم العسكرية إضافة إلى فتوحاتهم الروحية إلى مستوى يثير العجب حتى هذا اليوم. لقد تم فتح الشرق. وحلَّ الهلال محل الصليب. ودمار الشرق يمكن تشبيهه بالخراب الذي يسببه الجراد. انتصار شارلز المطرقة (المسمى هكذا نظراً لبراعته العسكرية) في تورز، في فرنسا، وحده أوقف زحف الجيش العربي وحفظ الغرب من الارتداد، مع تبعاته المريعة لذلك الوقت وللأبدية. أشهر العذاب الخمسة (٩: ١٠) يُفترض أنها تشير إلى السنوات الـ ١٥٠ التي دام فيها الفتح الذي قامت به القبائل الإسلامية بشكل لا يُكبح على أساس نظرية السنة-يوم. ثم أن البوق السادس، أو الويل الثانية، ينطبق على فترة انتعاش المحمدانية تحت ظل الأتراك، وانقراض الإمبراطورية اليونانية-الرومانية في حادث حصار وأسر القسطنطينية الباقي في الذاكرة. لقد كانت هناك محاولات متكررة دامت ثمانية سنوات لتأسيس إمارات إسلامية في النصف الشرقي من الإمبراطورية، ولكن القسطنطينية الجميلة، القابعة على حدود أوربا وأسيا- حيث البوسفور يفصل القارتين- تحدَّت الأسر. ولكن ساعتها جاءت. وصدر المرسوم وصار قيد التنفيذ. دخل محمد الثاني ٣ القسطنطينية صباح التاسع والعشرين من أيار ١٤٥٣. وتم تطهير الكنيسة اليونانية العظيمة ثم تحولت إلى مسجد، وانتشر رمز الهلال على أسوار مدينة القياصرة.

ولكن السلطة التركية الفاسدة ضعفت، وتم جفاف نهر الفرات الذي تم التنبؤ عنه (١٦: ١٢)، ذلك النهر المشهور، الذي قال المؤرخون أنه يشير إلى السلطة التركية القاسية آنذاك التي راحت تترنح على مدى عدة سنوات وكادت تسقط. كان دمارها الكامل أمراً مؤكداً. في هذا نجد بعضاً من النقاط الرئيسية في تفسير الأجزاء النبوية من سفر الرؤيا التي توافق على حدوثها المدرسة التاريخية. في تقديرنا إن الوضع يتعذر برهانه أو الدفاع عنه بشكل مؤكد. لا يمكن حصر هذه الرؤى النبوية بحقائق التاريخ. هناك تشابه عام بين التاريخ والرؤيا ولكن ليس كل ما يرد في الرؤيا تحقق في التاريخ. والله سوف يؤكد على صحة كل شيء في تلك الأزمة القصيرة والشديدة التي سيتعرض لها بنو إسرائيل والعالم المسيحي، بعد انتقال القديسين السماويين، في الفترة القادمة التي سيحكم فيها ضد المسيح وحليفه السياسي، الوحش أو الإمبراطورية المنتعشة، برأسها الشخصي العظيم، القرن الصغير الذي في الغرب (دانيال ٧: ٧، ٨).

الكوكب الساقط؛ أو، ضد المسيح الشخصي:

ظهور ضد المسيح في الأيام الأخيرة المظلمة وسط الأمميين واليهود المرتدين كان بلا شك مادة للإيمان في زمن الرسل وعصر الكنيسة المسيحية الذي تبعه. كان هناك عدة أشخاص ضد المسيح وعدة أنظمة ضد المسيحيين مارست الفظائع، ولكن هناك منظر أشد قتامة من ذلك. ضد المسيح سيأتي وهو مرتد من أصل يهودي، وسيكون تجسيداً للشر الشيطاني وسيُهلك كل من وطأ على الأرض؛ وإضافة إلى ذلك، سيجمع في نفسه كل شكل ووجه للخطيئة، وسيرأس النظام الفاسد الأكثر فظاعة والأكثر شراً على وجه الإطلاق- مزيجاً من الاعتراف اليهودي والمسيحي، و"الدين الطبيعي" أيضاً- في تمرد مفتوح وقح على الله. سينتحل مكانة المسيح وألقابه، ويعمل على الأرض. سيجترح المعجزات. علامات فائقة الطبيعة ستُصادق على مهمته، وبهذه سيخدع العالم المسيحي الآثم، وهكذا يوقعه في شرك موصلاً إياه إلى دمار ميؤوس منه.

وسيظهر ضد المسيح شخصياً ٤ خلال الطور الأخير من انتعاش قوة روما عندما تتبعثر الإمبراطورية إلى عشرة ممالك. هذه الشخصية الأخيرة من روما لهذا السبب كان يخشاها المسيحيون الأوائل. ففي أذهانهم، كان الانتعاش المستقبلي للسلطة المدينة لروما وظهور ضد المسيح مترابطان متزامنان. وكان المسيحيون ميالين إلى الصلاة لأجل استمرار الإمبراطورية بشكلها الإمبراطوري، حتى مع استمرار الحكم أقسى القياصرة، كملاذ أخير ضد التسلط الآتي على يد ضد المسيح. لقد كان آباء الكنيسة على معرفة جيدة بموضوع ضد المسيح. واعتقد البعض أنه الشيطان متجسداً؛ وآخرون تكلموا عنه على أنه "ابن الشيطان". العلاقة بين الشيطان وضد المسيح في المعرفة التقليدية التي انتشرت في القرون المسيحية الأربعة الأولى تُركز على فكرتين متمايزتين: الأولى، أن ضد المسيح الآتي (كما صوره يوحنا)، أو إنسان الخطيئة (كما وصفه بولس)، هو إنسان حقيقي من أصل يهودي أرضي، يسيطر عليه الشيطان مباشرة؛ والثانية، أنه الشيطان متجسداً، ومن هنا فإنه من خلال الحبل به يُحاكي الولادة العجائبية لربنا المبارك. الفكرة الأولى لاشك أنها كتابية، وهي هامة وشيّقة حتى أن جيروم في الغرب، والذهبي الفم في الشرق، علّما كل على حدة بأن ضد المسيح هو إنسان يحثه الشيطان في معارضة مباشرة لأولئك الذين يحافظون على فكرة أنه كان الشيطان في هيئة بشرية. "ومنذ ذلك الحين فصاعداً بدأ ذلك الافتراض بأن ضد المسيح هو الشيطان نفسه يتلاشى أو يموت تدريجياً من التقليد الكنسي". لقد كان المسيحيون الأوائل يعتبرون نيرون ٥، بشكل خاص، وكلاوديوس، على أنه البادِر الذي يمهِّد لظهور ضد المسيح. الشر الذي يكاد يفوق البشر عند نيرون يُميزه عبر التاريخ على أنه الرمز التاريخي المؤهل والملائم أكثر للدلالة على إنسان الخطيئة والدماء الآتي. يُطبّق جماعة مفسرين البروتستانت المصطلح "ضد المسيح" على النظام البابوي. ولكننا نعتقد أن هناك تخبط في هذا الفكر. فـ "ضد المسيح"، سواء كان بالمفرد أو الجمع، يشير إلى شخص أو أشخاص، وليس إلى نظام. لقد كتب المفسرون في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الكثير وبمهارة عن هذا الموضوع، ونجد أنفسنا مضطرين لنضيف إلى ما كتبوه، ولكن بشكل أدق وأصح بكثير من كثير من خصومهم البروتستانت. الجماعة الأولى تنظر إلى النهاية على أنه فيها يكون ظهور شخص ضد المسيح ٦، وهم في هذا على صواب. إذ أنه سيأتي في المستقبل. يرى الدكتور مانينغ، وهو أحد المميزين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أن ضد المسيح، أو "إنسان الخطيئة"، هو فرد واحد، وليس تعاقب من أشخاص أو نظام. يقول: "نكران شخصانية ضد المسيح فيها إنكار لشهادة الروح القدس الواضحة في الكتاب المقدس" ٧. ويضيف الكاردينال العالي: "ضد المسيح قد يُجسد روحاً، ويُمثل نظاماً، ولكن مع ذلك يبقى شخصاً" ٨. يوجز بيلارمين، الفذ الذي لا مثيل له بين الكتاب الكاثوليك الرومان، وبإحكام الاعتقاد حول موضوع ضد المسيح، فيقول: "يعتقد جميع الكاثوليك أن ضد المسيح سيكون شخصاً فرداً واحداً". وهذا الشخص سيكون مميزاً، رجلاً، يهودياً، مرتداً، وهو ضد المسيح الذي تتكلم عنه النصوص النبوية في الكتاب.

يرى بعض المفسرين المعاصرين أن ضد المسيح هو الرئيس المدني للإمبراطورية الرومانية، ولكن هذا ليس صحيحاً. إنه المسيح الكذاب، خادم الشيطان وسط يهود أورشليم، الذي يصنع معجزات ويظهر عجائب من خلال قوة شيطانية مباشرة. إنه يجلس في هيكل الله، ويُطالب بعبادته كإله. الوحش (روما)، النبي الكذاب أو ضد المسيح، والتنين (الشيطان) هما موضع تأليه وعبادة ويُنافسان الله الآب والابن والروح القدس في العبادة. الشعب المرتد يقبل ضد المسيح كملك. هو قوة سياسية عظيمة. صحيح أنه يؤثر على العالم المسيحي، ولكن من الناحية الدينية وليس السياسية. حكومة العالم، المدنية والسياسية، تكون عندئذ في يد رئيس أممي عظيم. وذاك يحكم عرش روما سياسياً تحت إدارة الشيطان. ضد المسيح يكون في أورشليم. رئيس الأمميين يسيطر في روما. كلا الرجلين خُدام للشيطان، ويتحالفان في الشر؛ الأول يهودي، والأخر يهودي. كلاهما يتواجدان لدى مجيء الرب في الدينونة، وكلاهما يُرسلان عندئذ أحياء إلى بحيرة النار- الهلاك الأبدي.

عبارة "ضد المسيح" يستخدمها كاتب سفر الرؤيا وذلك لأربع مرات (١ يوحنا ٢: ١٨، ٢٢؛ ٤: ٣؛ ٢ يوحنا ٧)، ومرة في صيغة الجمع (١ يوحنا ٢: ١٨). من هذه النصوص نحصل على عدة نقاط هامة. ظهور أضداد المسيح هو علامة محددة ومميزة لآخر الأزمنة؛ إنهم مرتدون. ضد المسيح يُنصب نفسه في معارضة مباشرة لكل ما هو أساسي في المسيحية- إعلان الآب والابن- وأيضاً للحقيقة المميزة لليهودية- يسوع المسيح (١ يوحنا ٢: ٢٢). شخص الرب القدوس أيضاً موضوع هجوم شيطاني يمارسه أضداد المسيح (٢ يوحنا ٧). الشر في هذه الشخصية يكون موجوداً بشكل كامل في ضد المسيح ذاك الآتي، والذي يبلغ فيه كل شكل من الشر الديني ذروته.

بولس، في إحدى رسائله المبكرة والمختصرة (٢ تسالونيكي)، يرسم شخصية تتميز بالجحود والتمرد والادعاء الذي يفوق كل ما رآه العالم، شخصية متطابقة بشكل واضح مع ضد المسيح الذي عند يوحنا. إنهما واحد وهما نفس الشخص، وهذا ما أجمع عليه الكل تقريباً في كل الأجيال.

من الواضح أن بولس قد علّم وأعلم شخصياً المسيحيين في تسالونيكي بالمواضيع الجديدة المتعلقة بالارتداد الآتي أو التنكر العالمي للمسيحية، وعما سيكون بعد ذلك مباشرة من استعلان لإنسان الخطيئة (٢ تسا ٢: ٥). ويضيف الآن إلى التعليم الشفهي الذي سبق ونقله. هناك ثلاث صفات مميزة لضد المسيح نجدها هنا: "المتمرد"، "إنسان الخطيئة"، و"ابن الهلاك". الأولى تشير إلى أنه يُنصب نفسه معارضاً مباشرة لكل سلطان إلهي وبشري. والثانية هي أنه التجسيد الحي والفعال لكل شكل أو صيغة من الشر- أي الخطيئة متجسدة. والثالثة أنه تطور الكامل المنتفخ لسلطة الشيطان، ومن هنا فإن الهلاك إن مصيره وقدره الملائمان. هذه الشخصية المخيفة تغتصب مكان الله على الأرض، وتجلس عندها في الهيكل في أورشليم، مطالبة بالعبادة الإلهية والإكرام (الآية ٤). تأثيره الديني، لكونه ليس شخصية سياسية لأي شكل، يسيطر على جموع المسيحيين واليهود المعترفين. يقعون في شرك الشيطان. ويكونون قد تخلو عن الله، وأنكروا علانية الإيمان المسيحي والحقيقة الجوهرية في ليهودية، والآن في عدالة جزائية يتخلى الله عنهم ويتركهم إلى الضلال الفظيع في اقتبالهم إنسان الخطيئة في حين يؤمنون بأنه المسيح الحقيقي (الآية ١١). يا لها من أكذوبة! ضد المسيح يقتبلونه ويؤمنون به بدلاً من مسيح الله! إن قارنا الآية ٩ بالآية أعمال ٢: ٢٢ سنلاحظ توافقاً لافتاً للانتباه. نفس المفردات نجدها في كلا النصين، أعني، القوة، الآيات، والعجائب. وبهذه سيصادق الله على رسالة وخدمة يسوع الناصري (أعمال ٢: ٢٢)، وبنفس أوراق الاعتماد يقدم الشيطان ضد المسيح إلى عالم مرتد (٢ تسا ٢: ٩). ولكن، في الحالة الأخيرة، الكذب والخداع تميز بشكل بارز ما هو فوق الآيات البشرية في ذلك اليوم (٢ تسا ٢: ٩، ١٠).

الرب نفسه يشير إلى ضد المسيح وإلى قبول اليهود له على أنه المسيح والنبي (يوحنا ٥: ٤٣). وفي المزامير كُتب نبوياً عن شخصه بأنه "إنسان من الأرض" (مزمور ١٠: ١٨). وأيضاً "رجل الدماء والغش" (مز ٥: ٦)، وبينما هذه الصفات بحد نفسها تميز الشرير بشكل عام في الأزمة الآتية، فمع ذلك هناك شخص واحد، واحد فقط، تشير إليه هذه الصفات بمعناها الكامل. إنه شخص ضد المسيح، وليس شخصه هو من يتم الحديث عنه في هذه وفي المزامير الأخرى.

في الأصحاح ١١ من نبوءته، يشير دانيال إلى ثلاثة ملوك: ملك الشمال (آرام)؛ وملك الجنوب (مصر)؛ والملك في فلسطين (ضد المسيح). الحروب، والتحالفات العائلية، والخداع والمكيدة نجد تفاصيلها بدقة في الآيات الـ ٣٥ الأولى من الأصحاح الشيق الذي كتبه والذي يجد تحقيقاً تاريخياً دقيقاً له في تاريخ الممالك الآرامية والمصرية التي تشكلت بعد انهيار الإمبراطورية الإغريقية القديرة. لقد كانت هذه النبوءة في تحقيقه الحرفي والمفصل قد أثارت غضب الوثني والمناوئ للحق الإلهي، بورفيري، في القرن الثالث الميلادي. "الرسالة ضد المسيحيين" التي كتبها هي الدرع الذي يُشكل المادة التي استُخدمت في القرن السابع عشر لمهاجمة المسيحية. فكّروا في معلّمين مسيحيين يحاولون الإفادة بشغف من فيلسوف وثني في حملتهم الشريرة ضد الحق!

في الآية ٣٦، "الملك" يُقدَّم في التاريخ على نحو مفاجئ. هذا الملك هو ضد المسيح الذي يسبق حكمه في فلسطين فترة مجيء المسيح الحقيقي، كما سبق الملك شاول أن أتى قبل الملك داود، حيث يُشير الأول إلى الملك الذي هو ضد المسيحيين، بينما الأخير إلى المسيح الملك الحقيقي لإسرائيل. هذا الجزء من الأصحاح (الآيات ٣٦- ٤٥) يتعلق بالمستقبل، فيحملنا إلى زمن النهاية (الآية ٤٠). الملك يُمجد نفسه ويُعظم شأنه فوق كل إنسان وكل إله. كبرياء الشيطان متجسد في هذا الشخص اليهودي الفظيع. احتلال مكان الله فقط هو ما يرضي طموحه. يا له من تناقض مع المسيح الحقيقي، مع يسوع الذي تواضع كما لم يفعل أحد أبداً على الإطلاق. ذاك الذي كان إلهاً وضع نفسه، حتى إلى موت الصليب (فيلبي ٢: ٥- ٨).

أن يكون ضد المسيح هو من أصل يهودي يبدو واضحاً من دانيال ١١: ٣٧، كما أيضاً من فكرة أنه لو لم يكن كذلك لما كان سيطالب اليهود المرتدين بالخضوع لعرشه. الملك، أو ضد المسيح، يتعرض للهجوم من الشمال والجنوب إذ أن أرضه تكون بينهما. ويكون عاجزاً، حتى مع وجود المساعدة من حليفه، الرئيس القوي للغرب، عن أن يتفادى الهجمات المتكررة من أعدائه في الشمال والجنوب. الأول يكونون أشد قسوة وتصميماً بين الاثنين. وتجتاح قوى الشمال الغازية أرض ضد المسيح ؛ ولكنه ينجو من انتقام ملك الشمال العظيم المضطهد، الذي كان أنتيوخوس أبيفانيس السيء السمعة رمزاً أو نموذجاً أصلياً له. ضد المسيح يكون موضوع دينونة الرب لدى عودته من السماء (رؤيا ١٩: ٢٠).

في سفر الرؤيا، الأصحاح ١٣، نرى وحشان في رؤيا. الأول هو السلطة الرومانية ورأسها المجدّف الخاضع لسيطرة مباشرة من الشيطان (الآيات ١- ١٠). والوحش الثاني هو ضد المسيح شخصياً (الآيات ١١- ١٧). يتميز الأول بقوة وحشية بربرية. إنه سلطة سياسية على الأرض في تلك المنطقة، وهو الذي أعطاه الشيطان "قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظيماً" (١٣: ٢). الوحش الثاني من الواضح أنه تابع لسلطة الأول (الآية ١٢). وهذا له غايات دينية وليس سياسية. الإدعاء الديني يدعمه قدرة وقوة روما المرتدة؛ ومن هنا فإن الوحشان يعملان معاً تحت إمرة رئيسهما العظيم، الشيطان. والثلاثة يكونون معاً موضع عبادة.

الوحش الثاني، أو ضد المسيح، يتطابق مع "النبي الكذاب"، الذي يُذكر ثلاث مرات (١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠). الرئاسات التي تقود التمرد ضد المسيح ذي الحق الملكي والنبوي هم رجلان يُوجههما الشيطان ويحثّهما بشكل مباشر- ثالوث الشر. "أعطى التنين قوته الخارجية للوحش الأول (رؤيا ١٣: ٨)؛ وللثاني يعطي روحه، بحيث يتكلم كتنين إذ أن له هذه الروح" (الآية ١١) ٩.

وأخيراً، يشير زكريا إلى ضد المسيح على أنه "الراعي الباطل"، اللا مبالي على الإطلاق بالقطيع (بني إسرائيل) الذين يتولى السلطة الملكية والكهنوتية والنبوية عليهم. ولكن سلطته المتباهية (ذراعه) وذكائه المتبجح (عينه اليمنى) التي تؤيد ادعاءاته في الأرض تكون معطلة كلياً بينما يُلقى شخصياً وهو حي إلى مقر البؤس الأبدي، بحيرة النار (زكريا ١١: ١٥- ١٧؛ رؤيا ١٩: ٢٠).

لذلك، ففي رأينا، الكوكب الساقط تحت الويل الأولى يُساء فهمه فيُعتبر أنه يدل على ضد المسيح. على من من شخصيات الرؤيا الأخرى يمكن لهذا الوصف أن ينطبق؟ إن المزاعم الروحية والادعاءات الدينية للشيطان يدعمها ويقويها ضد المسيح، بينما سيادته المؤقتة على الأرض تتأسس في ملك وشخص الإمبراطور الروماني ١٠.

والآن يُصور هنا الكرب الذي ستعانيه تلك النفس وذلك الضمير؛ وليس ألماً جسدياً. ضد المسيح يبدو أنه أداة الشيطان المختارة في إنزال الضربة على النفس، بينما الضمير يُطلق العنان لقوة همجية للوحش بأن تُعذبه في مشهد من القسوة وسفك الدماء، التي تتعرض له أجساد البشر.

بعد هذا الاستطراد الطويل ولكن الضروري نعود إلى أصحاحنا.

الكوكب الساقط:

١- "رَأَيْتُ كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض، وَأُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة". هذا الكوكب الساقط الرمزي، الذي كان قد وُضع يوماً في السماء المعنوية ليعكس ويُظهر سلطان الله في الحكم، هو ليس نظاماً دينياً أو سياسياً، بل شخصاً حقيقياً، حاكماً منحطاً فاسقاً. الإشارة ليست إلى سقوط الشيطان، كما أظهر الرب نبوياً وأعلن للسبعين (لوقا ١٠: ١٨)، بل إلى ملك بابل. "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح ١١؟ كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟ " (أشعياء ١٤: ١٢- ١٥). ملك بابل المتعجرف العظيم والمتكبر يُشار إليه هنا في سقوطه الفظيع من علو لم يصل إليه أبداً أي ملك أرضي من قبل، إلى أسفل دركات الخزي. "لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب" البعض يعتبر أن "كوكب الصبح" الذي يتكلم عنه النبي (أشعياء ١٤: ١٢) والكوكب الساقط الذي يتكلم عنه الرؤيا (رؤيا ٩: ١)، على أنهما كليهما يشيران إلى سقوط الشيطان من السماء، ولكن لنا قناعة بان ملك بابل ١٢ هو المُشار إليه بالأول وأن ضد المسيح هو الذي يشير إليه الأخير. فحوى النص في كلا النصين الكتابيين يؤكدان التطبيق النبوي على الرئاسات المدنية والدينية في الأيام الأخيرة- الوحش والنبي الكاذب.

هذا الشخص الرفيع المقام الساقط قد عهد إليه بـ "مفْتَاح بئْر الْهَاويَة". "المفتاح" يرمز إلى السلطة المقتدرة (انظر متى ١٦: ١٩؛ رؤيا ١: ١٨؛ ٣: ٧؛ ٢٠: ١). "بئْر الْهَاويَة" هو عبارة تُستخدم مرة واحدة فقط في سياق يتصل بالدينونة التي تُدونها الآيات ١ و ٢ من أصحاحنا. "البئر التي لا قاعة لها"، أو "الهاوية"، ترد سبع مرات في سفر الرؤيا. والعمق أو الهاوية (لوقا ٨: ٣١) يبدو أنه سجن الشياطين، الذي سيُقيد فيه الشيطان لألف سنة (رؤيا ٢٠: ٣)- مدة الحكم الألفي. بحيرة النار، وليس الهاوية، هو المقر الأبدي للشيطان وللهالكين. يقول W. B. Carpenter في تعليقه على سفر الرؤيا: "الآية التي أمامنا توحي بصورة عمق متسع يتم الدخول إليه عبر بئر أو ممر، قمته، أو فمه مغطاة. "الجحيم" الذي يتكلم عنه دانتي، بحلقاته الضيقة تلتف إلى الأسفل نحو الممر المركزي، هو مشابه للصورة التي لدينا في الرؤيا. الهاوية هي المنبع الأدنى للشر، والذي منه تنبع أسوأ المخاطر" (١١: ٧؛ ١٧: ٨؛ ٢٠: ١- ٣). فالهاوية هنا تُعتبر، إذاً، مغلقة، ولكن أُعطي أمر بفتحها. وقيل أنه بنتيجة فتح هذا السجن الواسع، أسراب من الأرواح الشريرة خرجت منها واجتاحت الأرض. ولكن الدخان، وليس الأرواح، صعدت من البئر، ومن الدخان بزغ سرب مدمر من الجراد الرمزي.

التضليل الشيطاني وتأثيره المعتم:

٢- "فَفَتَحَ بئْرَ الْهَاويَة، فَصَعدَ دُخَانٌ منَ الْبئْر كَدُخَان أَتُونٍ عَظيمٍ، فَأَظْلَمَت الشَّمْسُ وَالْجَوُّ منْ دُخَان الْبئْر". التضليل الشيطاني الذي نشأ في البئر، والذي كان يتميز بعميه المعنوي وتأثيره المدمر يُشار إليه هنا. على الأرجح أنه نفس التضليل الذي سيُسلّم له العالم المسيحي كما يشير بولس (٢ تسا ٢: ١١، ١٢). تأثير الدخان أو التأثير المعتم وقوة الشيطان ستفسد الحكومة الأسمى (الشمس)، وتُعتم وتفسد الحياة الاجتماعية برمتها ومبادئ البشر (الهواء). الهواء يشير إلى التأثيرات الأخلاقية ويرد مرتين في سفر الرؤيا تحت البوق الخامس (٩: ٢) وفي سكب الجامة السابعة (١٦: ١٧).

جيش الجراد:

٣- ١٠- الدخان والجراد ليسا حرفيين. الدخان يُنتج الجراد. "منَ الدُّخَان خَرَجَ جَرَادٌ عَلَى الأَرْض". القوى الشيطانية يُطلق سراحها في المشهد النبوي. الألم المبرح الذي تحدثه هذه الحشود من الأدوات الشيطانية وعملائه تُشبّه بالعذاب الذي تحدثه لسعة العقرب السامة، وهو مخلوق يتجنب النور، ويخافه كثيراً السكان الأصليون في إفريقيا والقبائل العربية المختلفة في آسيا. لا تكون اللسعات دائمة مميتة، ولكن الألم الذي تحدثه فظيع جداً. "العقرب يهز ذنبه على الدوام لكي يضرب، والألم الذي تحدثه لسعته شديد جداً". في لوقا ١٠: ١٩ يربط الرب يسوع الأفاعي والعقارب وقوة العدو بسقوط الشيطان، وهنا العقارب مرتبطة بالكوكب الساقط. ولكن أدوات الانتقام الجهنمية هذه تُطلق على إسرائيل الآثم لا يكون لها حول ولا قوة، ما لم تُعطى لها السلطة بأن تتصرف: "فَأُعْطيَ سُلْطَاناً كَمَا لعَقَارب الأَرْض سُلْطَانٌ" (الآية ٣).

من الواضح من الوصف المعطى أن جيش الجراد هو تمثيل رمزي لدينونة فائقة جبارة تحل على البشر، كما أيضاً من الحظر الذي يمنع إنزال الضرر بالعشب أو الأشجار (الآية ٤)، الذي هو طعامهم الطبيعي. هناك سبب آخر يستوجب حفظ العالم النباتي. العشب يرمز إلى حالة عامة من الازدهار في الظروف المؤقتة ووضع الناس، "لاَ شَيْئاً أَخْضَرَ وَلاَ شَجَرَةً مَا". يؤمر الجراد بغزو فلسطين، الذي فيه الكثير من الأعشاب، وأن يؤذي "النَّاسَ فَقَط الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ الله عَلَى جبَاههمْ" (الآية ٤). إن جمع الأمميين ليس مختوماً؛ بل فقط الـ ١٤٤ ألف من بني إسرائيل (٧: ٣، ٤). فهنا إذاً يُسلّم الجزء غير المختوم من الشعب ليشرب كأس انتقام الرب بما فيه الحثالة. الموت سيكون موضع ترحيب من قِبل الناس هرباً من عذابهم وألمهم الناجم عن عمل الشيطان وزبانيته، ولكن حتى هذا الملجأ اليائس الأخير يُمنع عنهم، "يَهْرُبُ الْمَوْتُ منْهُمْ" (الآية ٦). الألم المبرّح والعذاب فظيع للضمير الآثم الملوث بالخطايا سيكون فوق الوصف؛ وحدهم أولئك الذين يحتملونه يعرفون مقداره وشدته.

مدة العقاب على يد الشيطان محدود بخمسة أشهر (الآية ٥)، مدة الحياة الطبيعية للجراد ١٣. الوقت المحدد يشير إلى فترة وجيزة محددة من الويل والعذاب، وليس بالضرورة خمسة أشهر حرفياً.

بعد ذلك يأتي وصف مفصل لجيش الجراد، وكل بند من الوصف ذو مغزى و حافل بالمعني.

(١) يبدو عليهم أنهم على أهبة الاستعداد ومتشوقون بطاقة حربية إلى تنفيذ مهمتهم، "شبْهُ خَيْلٍ مُهَيَّأَةٍ للْحَرْب" ١٤.

(٢) يقبعون متفاخرين بكرامتهم الملكية. إكليل الذهب يُزيّن رأس ابن الإنسان (رؤيا ١٤: ١٤)، وأيضاً أولئك الشيوخ الظافرين أو المفتدين (٤: ٤). ولكن هؤلاء الغزاة الشيطانيون الذين نشأوا عن دخان البئر ليسوا مكللين حقاً، وليس هذا الذهب حقيقياً. إنهم ينسبون لأنفسهم كرامة لم يمنحها الله لهم. "عَلَى رُؤُوسهَا كَأَكَاليلَ شبْه الذَّهَب". مزاعمهم بالسلطة الملكية زائفة.

(٣) يُقرون بأن تحركاتهم يقودها ذكاء بشري، ولكن هذا في الظاهر فقط، "وُجُوهُهَا كَوُجُوه النَّاس". كرامتهم وذكاؤهم المنتحلان لا قيمة لهما كما ادعائهم السلطة الملكية.

(٤) ثم يُشار إلى تخنثهم وخنوعهم، ليس إلى الله، بل إلى الشيطان قائدهم: "كَانَ لَهَا شَعْرٌ كَشَعْر النّسَاء".

(٥) إنهم متوحشون مفترسون قساة: "كَانَتْ أَسْنَانُهَا كَأَسْنَان الأُسُود" (يوئيل ١: ٦).

(٦) لا يعرفون شفقة. وما من قوة أو توسلات يمكن أن تحيدهم عن أهدافهم. قلوبهم متقسية وضمائرهم صلبة مائتة، "كَانَ لَهَا دُرُوعٌ كَدُرُوعٍ منْ حَديدٍ".

(٧) بطاقة لا يمكن مقاومتها تندفع القوات الشيطانية بسرعة مدمّرة مثيرة الخوف والرعب في قلب ضحاياها. اقترابهم يُعلن عنه على الشكل التالي: "صَوْتُ أَجْنحَتهَا كَصَوْت مَرْكَبَات خَيْلٍ كَثيرَةٍ تَجْري إلَى قتَالٍ" (يوئيل ٢: ٥).

(٨) في القسم التالي من هذا الوصف فائق العادة يتحول زمن الأفعال من الماضي إلى الحاضر. وهذا مقصود بالتأكيد، ويُميز ملامح أسوأ وأشد من التي سبقت. "لَهَا أَذْنَابٌ شبْهُ الْعَقَارب، وَكَانَتْ في أَذْنَابهَا حُمَاتٌ، وَسُلْطَانُهَا أَنْ تُؤْذيَ النَّاسَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ"، وفي هذا إشارة إلى الآيات ٣ و٥ التي سبقت.

هذا الجراد الذي يشبه العقارب يجتاح الأرض التي كانت مقدسة، ويفترس الجزء من بني إسرائيل غير التقي وغير المختوم. سم وحقد الكذب، الذي وُلد في البئر-أي العقائد، والتعاليم، والمبادئ التي نشأت في الهاوية يقتبلها الجزء المرتد من الشعب، وتخلق في أنفسهم وضمائرهم ألماً لا يُطاق. بدون الله، الذي تخلى عنهم جزائياً لكي يقتبلوا أكاذيب الشيطان وضلالاته، لا عجب في أن تلاميذ الشيطان والسُّذج المخدوعين به هؤلاء، يتشاركون، كما الناس على الأرض، كل البؤس. أذناب الجراد التي تشبه أذناب العقارب تحوي السّم المعنوي الذي يُعذب أولئك الذين يتعرضون له بفظاعة. فهناك تكمن اللسعات السامة، وهناك شدة العذاب (أشعياء ٩: ١٥).

شخصيات متطابقة:

١١- "وَلَهَا مَلاَكُ الْهَاويَة مَلكاً عَلَيْهَا اسْمُهُ بالْعبْرَانيَّة «أَبَدُّونَ» وَلَهُ بالْيُونَانيَّة اسْمُ «أَبُولّيُّونَ»". ملك الجراد الرمزي ١٥ وملاك الهاوية متطابقان، استناداً إلى الضمائر المستخدمة في النص. كلاهما يشيران إلى الشيطان. والدينونة التي نكلم عنها هنا هي دينونة تُنفذ على الأرض. وهي ليست الدينونة الأبدية. القائد البشري في هذه الويل الفظيعة هو الكوكب الساقط، أو ضد المسيح، بينما الرئيس غير المنظور للجميع هو إبليس نفسه. ولكن ضد المسيح هو تجسيد للشيطان بتأثيره المؤذي المهلك، ممثلاً إياه من الناحية الدينية وسط الناس، ومن هنا استخدام تعابير معينة في هذه الرؤيا عن الجراد التي تعتبرهما واحداً. هما كذلك بمعنى أن إبليس يعطي شخصيته لتابعيه البشر، ولكن، من جهة أخرى، إنهما متمايزان. الشيطان روح، وقائد جنود الشر؛ بينما ضد المسيح هو إنسان، ويهودي مرتد، ومجال عمله هو اليهودية شبه الملحدة والعالم المسيحي المرتد الفاسدين كليهما.

لذلك فإننا نعتبر أن الكوكب الساقط يرمز إلى ضد المسيح؛ وملك جيش الجراد وملاك الهاوي يدلان على الشيطان. اللقبان الوصفيان، «أَبَدُّونَ» و«أَبُولّيُّونَ»، وفي حين أنهما يعنيان عملياً نفس الشيء، وكلاهما ينطبقان على نفس الشخص الفظيع، مع ذلك فإن في المغزى الدقيق لمعنييهما يظهران فارقاً جديراً بالانتباه. «أَبَدُّونَ» كلمة عبرية وتعني حرفياً "الدمار". و«أَبُولّيُّونَ» هي كلمة يونانية، وتدل على معنى "المدمّر". ما سبب هذا التمايز الذي يبدو غير مهم بين هذين اللقبين المقترحين؟ ولماذا تأتي الكلمة العبرية قبل اليونانية؟ بما أن اليهود أكثر إثماً من الأمميين، فإن الكلمة العبرية «أَبَدُّونَ»، "الدمار"، تؤكد بشكل حازم الدينونة على يهوذا المرتدة، بشكل مؤكد ونهائي. وبما أن الويل الأولى تنطبق مباشرة على يهوذا، فإن «أَبَدُّونَ» تأتي أولاً. الويل الثانية تتعلق مباشرة بسكان الإمبراطورية الرومانية، ومن هنا فمن الملائم أن يكون الترتيب على الشكل التالي: «أَبَدُّونَ» أولاً و«أَبُولّيُّونَ» ثانياً. الترتيب، في النعمة، كما في الدينونة، هو اليهودي أولاً ثم الأممي. الاسم اليوناني «أَبُولّيُّونَ»، "المدمّر"، يشير إلى شخص الشيطان في علاقته مع العالم المسيحي، كما أن لقبه يرتبط باليهودية. كلا النظامين في "الأيام الأخيرة" سيُمثَلان بشكل كامل، بشخص وأعمال ضد المسيح، الذي سيرأس التمرد ضد حقوق المسيح الكهنوتية والنبوية، فينكر الحقائق الأساسية في اليهودية (دانيال ١١: ٣٦- ٣٩؛ ١ يوحنا ٢: ٢٢)، وفي المسيحية (١ يوحنا ٢: ١٨- ٢٢). الوحش الخارج من الهاوية سيرأس التمرد المدني والسياسي ضد المسيح في حقوقه الملكية، وسلطته الملكية. ومن هنا فإن الاسمين في العبرية واليونانية الذين يُستخدمان للإشارة إلى الشيطان لديهما نظير لهما على الأرض في الارتباط المزدوج لضد المسيح مع الأنظمة الفاسدة اليهودية والمسيحية. نكران المسيح، أي المسيّا، هو الصفة المميزة للنظام السابق؛ ونكران الآب و الابن هو صفة مميزة للنظام الأخير.

إن كانت هناك حاجة إلى المزيد من الأدلة على أن الكوكب الساقط هو شخص تابع لملاك الهاوية، فيمكنننا التسليم بحقيقة أن الأول يمارس سلطة مفوضة. "له" أي للكوكب، أو "له" أي للشخص المعني، "أُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة". وجود ال التعريف في "مَلاَكُ الْهَاويَة" يجعله شخصاً مستقلاً في سلطته. إضافة إلى ذلك، نلاحظ أن "مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة" يتم الحديث عنه بارتباط مع الكوكب، بينما "الهاوية" يُشار إليها ببساطة على أنها تحت سيطرة "الملاك". هذا التعبير الأخير بحد نفسه يُقدم إشارة واضحة كاملة       إلى القوة أو السلطة الشيطانية. فمنها (الهاوية) يخرج الوحش (١١: ٧)، وإليها (إلى الهاوية) يُلقى الشيطان، فتصبح سجناً له لألف سنة. الكوكب الساقط (الآية ١) هو ضد المسيح؛ الملك والملاك (الآية ١١) كلاهما يشيران إلى الشيطان.

البوق السادس أو الويل الثانية:

المذبحان:

١٣- ٢١: "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّادسُ، فَسَمعْتُ صَوْتاً وَاحداً منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الله، قَائلاً للْمَلاَك السَّادس الَّذي مَعَهُ الْبُوقُ: «فُكَّ الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات». فَانْفَكَّ الأَرْبَعَةُ الْمَلاَئكَةُ الْمُعَدُّونَ للسَّاعَة وَالْيَوْم وَالشَّهْر وَالسَّنَة، لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس. وَعَدَدُ جُيُوش الْفُرْسَان مئَتَا أَلْف أَلْفٍ. وَأَنَا سَمعْتُ عَدَدَهُمْ. وَهَكَذَا رَأَيْتُ الْخَيْلَ في الرُّؤْيَا وَالْجَالسينَ عَلَيْهَا، لَهُمْ دُرُوعٌ نَاريَّةٌ وَأَسْمَانْجُونيَّةٌ وَكبْريتيَّةٌ، وَرُؤُوسُ الْخَيْل كَرُؤُوس الأُسُود، وَمنْ أَفْوَاههَا يَخْرُجُ نَارٌ وَدُخَانٌ وَكبْريتٌ. منْ هَذه الثَّلاَثَة قُتلَ ثُلْثُ النَّاس منَ النَّار وَالدُّخَان وَالْكبْريت الْخَارجَة منْ أَفْوَاههَا، فَإنَّ سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا وَفي أَذْنَابهَا، لأَنَّ أَذْنَابَهَا شبْهُ الْحَيَّات وَلَهَا رُؤُوسٌ وَبهَا تَضُرُّ. وَأَمَّا بَقيَّةُ النَّاس الَّذينَ لَمْ يُقْتَلُوا بهَذه الضَّرَبَات فَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَال أَيْديهمْ، حَتَّى لاَ يَسْجُدُوا للشَّيَاطين وَأَصْنَام الذَّهَب وَالْفضَّة وَالنُّحَاس وَالْحَجَر وَالْخَشَب الَّتي لاَ تَسْتَطيعُ أَنْ تُبْصرَ وَلاَ تَسْمَعَ وَلاَ تَمْشيَ، وَلاَ تَابُوا عَنْ قَتْلهمْ وَلاَ عَنْ سحْرهمْ وَلاَ عَنْ زنَاهُمْ وَلاَ عَنْ سرْقَتهمْ". في خيمة الاجتماع في العهد القديم كان هناك مذبحان. أحدهما كان يقع خارجاً في الباحة؛ والآخر فيا الداخل في المقدس. المذبح الذهبي يُذكر مرتين في هذه الرؤى الرؤيوية، هنا وفي الأصحاح ٨: ٣. المذبح النحاسي يُذكر ٦ مرات ببساطة على أنه "المذبح". وهذا الأخير هو الذي كان في الباحة. لبُّ النظام اللاوي كان المذبح النحاسي- مذبح القرابين. ما كان "المذبح" بالنسبة إلى اليهودية، أي الأساس الأخلاقي لعلاقات الشعب مع الرب يهوه، كان "الصليب" للعالم المسيحي- أي مركزه ومجده المميز. والآن يستمد المذبح الذهبي قوته وقيمته من المذبح النحاسي. في كل صباح ومساء ما عدا يوم الكفارة السنوي العظيم، كان البخور (رمز فضائل المسيح) يُحرق على المذبح الذهبي، بينما في ذلك اليوم الخاص من تاريخ إسرائيل، كما في مناسبات أخرى، دم الحيوانات القربانية كان يوضع على قرونه الذهبية الأربعة (لاويين ١٦: ١٨، ١٩؛ ٤: ٧، ١٨). عطر البخور كان يُخرج خارجاً بنار تؤخذ من المذبح النحاس، بينما الدم على القرون الذهبية كان يُسفك على الجانب الشمال من المذبح في الباحة (لاويين ١: ١١). ومن هنا فإن فعالية العبادة والشركة بين الشعب ويهوه، التي تم الحفاظ عليها واستمر تنفيذها على المذبح الذهبي، كان لها أساس يعتمد على سفك الدم على مذبح القرابين.

الصوت الصادر عن أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب:

١٣- "سَمعْتُ صَوْتاً وَاحداً منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الله". لقد لاحظنا لتونا حقيقة أن المذبح الذهبي يُذكر مرتين في سفر الرؤيا. في الإشارة الأسبق، صلوات القديسين على الأرض تُسمع (٨: ٣). والوحش يطلع من الهاوية إلى المشهد. التجديف والاضطهاد يميزان خاتمة حرفته. خلال الزمن الذي قرأنا عنه في ٦: ١١، تظهر مجموعة شاهدة، وبالتالي متألمة، من القديسين. صلواتهم طالبين تدخل الله لأجلهم هي على وشك أن تُستجاب (٩: ١٣). تحت الأبواق الأربعة الأولى تخضع حالة الإمبراطورية إلى مسار التعامل الجزائي. حالتها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية تأتي تحت عصا غضب الله، ولكن البوق السادس، أو الويل الثانية، تكون أشد فظاعة بكثير في طابعها وتأثيراتها من أي من التأديبات السابقة. شعوب الأرض الرومانية هي هنا موضوع مباشر لهذه الويل، وليس تعذيباً كما في السابقة، ولكن قتلاً واسع الأرجاء وواسع الامتداد يصيب السكان على يد حشود الأعداء الخارجيين، بالإضافة إلى الضلال الشيطاني والأكاذيب التي ستعيث فساداً ودماراً في نفوس وضمائر الناس. الضربات الجزائية على ظروف الناس شيء، ولكن التعامل مع الناس أنفسهم، الأعداء المعلنين والصريحين لله وقديسيه أمر آخر. ومن هنا فإن الله يستجيب لصرخات وصلوات قديسيه المتألمين من تحت مذبح التشفع. وإلى هذا المذبح تصعد صلواتهم (٨: ٣). ومنه ينبثق الجواب (٩: ١٣).

"الصوت" الذي سمعه الرائي إما هو صوت الله أو صوت أحد ما مفوض منه للتصرف.

يُسمع الصوتُ "منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب". لماذا ليس من المذبح بحد ذاته، كما في ١٦: ٧. ولماذا تُذكر القرون وعددها بالضبط؟ العدد "أربعة" يعبر عن العالمية ١٦. و"القرن" يشير إلى القوة ١٧. كل قوة وقدرة مذبح التشفع تمثل الجواب الإلهي على الصلوات الممتزجة بالبخور التي تتجمع حوله. كلا المذبحين كان لهما أربعة جوانب وأربعة قرون. كل الخطأة من أي مكنا في الأرض يمكنه أن يستخدم المذبح النحاسي. وجميع القديسين أينما وُجدوا تُسمع صلواتهم على المذبح الذهبي. بالطبع نحن نشير إلى الحقائق المتعلقة بكل من المذبحين.

هناك تمايز آخر دقيق يمكننا أن نشير إليه هنا. في ٨: ٣ الارتباط هو بين المذبح والعرش، بينما في ٩: ١٣ الارتباط هو بين المذبح والله. الأخير هو الأقرب وذي العلاقة الأكثر حميمية، ويستحضر أمامنا اهتمام الله الشخصي بقديسيه.

أمر يتميز بالسلطة:

١٤، ١٥- "قَائلاً للْمَلاَك السَّادس الَّذي مَعَهُ الْبُوقُ: «فُكَّ الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات». فَانْفَكَّ الأَرْبَعَةُ الْمَلاَئكَةُ الْمُعَدُّونَ للسَّاعَة وَالْيَوْم وَالشَّهْر وَالسَّنَة، لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس". الصوت من مكان التشفع والقوة من الواضح أنه يتمتع بسلطة إلهية، وهو موجه على الملاك السادس. تكرار العدد الترتيبي "السادس" (الآيات ١٣، ١٤) والعدد الأصلي "أربعة" (الآيات ١٤، ١٥) تدل على الدقة التي سيتم بها تنفيذ هذه الويل. الدقة أيضاً في ساعة الانتقام المعينة (الآية ١٥) وعدد الأدوات المستخدمة (الآية ١٦) تتناغم معاً لوصف هذه البلوى التي من الله بطابعها الجليل المهيب. الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيِّدين الأربعة (٧: ١- ٣) يجب عدم الخلط بينهم وبين الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عند نهر الفرات (٩: ١٤، ١٥). الأول يتمركزون عند أطراف الأرض، والأخيرين في المنطقة التي تطوق نهر الفرات. إضافة إلى ذلك، ليس فقط الأزمنة والظروف مختلفة، بل أيضاً الفعل في كل حالة مختلف تماماً وعلى النقيض. الملائكة الأربعة في الأصحاح ٧ تُقيد قوى الشر، بينما تلك التي في الأصحاح ٦ تطلق السراح لأدوات الانتقام البشرية والشيطانية.

نهر الفرات يُذكر مرتين في سفر الرؤيا، هنا وفي ١٦: ١٢. الصفة "عظيم" تُستخدم في كلا الحالتين: "النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات". طوله الإجمالي هو حوالي ١٧٨٦ ميلاً، وهو أطول وأهم نهر في غرب آسيا. إنه مشهور في تاريخ الكتاب المقدس ونبوءاته. الجد الأعلى لإسرائيل، إبراهيم، جاء من جانبه الآخر إلى أرض كنعان. يُحدد نهرا النيل والفرات نبوياً على أنهما تخوم أرض الموعد (تكوين ١٥: ١٨). لفترة وجيزة بسط داود وسليمان سلطتهما الملكية إلى الفرات (أخبار الأيام الأول ١٨: ٣؛ أخبار الأيام الثاني ٩: ٢٦). هذه السيادة الممتدة تقلصت بشكل كبير عند انقسام المملكة على عهد رحبعام. كان الفرات هو الحد الطبيعي الذي يفصل أمم الشرق عن فلسطين. مجرى النبع العريض الذي يغذيه يتدفق بين الأرض التي سكنها بنو إسرائيل وجيرانهم الآشوريين الأقوياء. كان الفرات أيضاً حد الفتح الروماني في ذلك الجزء من العالم. وهكذا نفهم أن الإشارة هنا هي إلى الفرات حرفياً وليس إلى السلطة التركية. وكذلك الأمر في ١٦: ١٢.

التفويض المعطى للملاك السادس هي أن يفك أو أن يحرر الملائكة الأربعة المقيدين عند النهر العظيم. هؤلاء الخدام الملائكيين للدينونة هم تحت السيطرة الإلهية للدينونة؛ لا يمكنهم أن يتصرفوا بدون أمر واضح محدد. والساعة نفسها عندما سيتعامل الرب بعدالة جزائية مع الشعوب المرتدة في الإمبراطورية اللاتينية المنتعشة نلاحظها ببعض الانتباه، فلهذه الساعة كان الملائكة مستعدين ١٨. لا نعلم من الكتاب ما أعاق الخدام الملائكيين من القيام سابقاً بما تقتضيه عناية الله. ساعة الانتقام في المخطط النبوي لم تكن قد أتت بعد. الشر والإثم في الإمبراطورية لم يكن قد ارتفع بعد إلى المستوى الذي تنبأ عنه الكتاب المقدس؛ أما الآن فقد صار كذلك، وبالتالي الدينونة القاسية والمؤلمة والساحقة ما عاد يمكن تأجيلها.

١٥- "لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس". ليس هناك "ثُلْثَ" في الويل السابقة. أرض فلسطين هي المجال الذي تقع فيه الدينونة، وغير المختومين من بني إسرائيل وحدهم سيكونون موضع الدينونة. إذ يتجمعون في الأرض في حالة إلحاد رديئة، ستفوق حالة إسرائيل الأخيرة في شرها وميولها الوثنية كل حالة سابقة (متى ١٢: ٤٥). ولكن تكرار الـ "ثلث" اللافت في الأبواق المبكّرة، يستحضر ثانية الإمبراطورية الرومانية إلى نطاق العمل الإلهي. يحدث قتل فظيع للسكان. والآن سنتأمل في الأدوات البشرية التي ستغرق الإمبراطورية بالدم.

عدد ملائكة الانتقام:

١٦- علمنا أن عدد القادة غير المنظورين هو أربعة؛ والآن يعلم القارئ والرائي بأن عدد جيش الانتقام الغازي هو "مئَتَا أَلْف أَلْفٍ" أو مئتا مليون. هذا الجيش الهائل هو عدد كبير جداً بالنسبة إلى الفهم البشري. يحتار الفكر في الجهد المبذول لفهم هكذا جيش، الذي يتجاوز عدده كل ما هو معروف على الأرض. مركبات الله غير المنظورة يُذكر عددها على نحو مشابه (مز ٦٨: ١٧). لعلنا نفهم الدرس المعطى لقلوبنا بأن قوى الخير والشر المنظورة وغير المنظورة جميعها تحت تحكم مباشر من قِبل الله. جيش حرفي مؤلف من مئتي مليون من الفرسان لا حاجة للتفكير فيه. الفكرة الرئيسية في المقطع هي جيش كبير وساحق ماحق، يفوق في عدده وقوته تقدير وحسابات البشر ولم يرَ أحد مثله ١٩. "إنه جيش ذا قوة مسيطرة كبيرة محتشدة" ٢٠. في بعض الترجمات العربية للكتاب المقدس تأتي العبارة "جيش الْفُرْسَان أو الخيالة". ولكن في ترجمة سميث/فاندايك-البستاني تأتي "جُيُوش الْفُرْسَان". وإذاً فليس جيشاً واحداً، بل لدينا جيوش. والسبب في استخدام الجمع بدل المفرد هو أن غزو منطقة الوحش من وراء الفرات لا يمكن أن يحاوله وينجح به إلا أكثر من جيش واحد. الخصم المستقبلي للإمبراطورية المنتعشة هو جوج (روسيا)، القوة العظيمة الشمالية الشرقية. بلاد فارس، وعموماً الممالك والقوى الواقعة إلى شمال وشرق فلسطين تأتي بعد حاكم الشمال العظيم (حزقيال ٣٨؛ ٣٩؛ مز ٨٣). الهجمات المتكررة على المملكة، أو إمبراطورية الوحش، سيبدأ بها ملك الشمال، ثم ستستقر في الأراضي الآرامية الواقعة في تركيا. هذا الملك، العدو السياسي العنيد لإسرائيل المستعاد، تابع لرئيسه العظيم، المستبد بالسلطة الروسية الواسعة. ومن هنا فإن كلمة "حشود" أو "جيوش" هي الكلمة المناسبة المستخدمة.

وصف الفرسان وخيولهم:

١٧- الفرسان "لَهُمْ دُرُوعٌ نَاريَّةٌ وَأَسْمَانْجُونيَّةٌ وَكبْريتيَّةٌ". هذه الأراضي التي أشرق عليها نور الإنجيل بلمعان سوف تُسلم إلى الظلمة الشيطانية والتضليل لوقت طويل. سيتملك الشيطان على العالم ذي القدر المشؤوم. تأثيره سيخترق ويُسمم ينابيع ومصادر الفكر الوطني والفردي وأفعاله. سيأمر قوى الشر الروحية والبشرية. عبادة الأرواح الشيطانية سوف تسود (الآية ٢٠). يهوذا والعالم المسيحي سيُسلّمان إلى العبادة المباشرة للشيطان ويصيران مسكناً له ولمؤيديه الرئيسيين في الأرض- الوحش والنبي الكذاب (رؤيا ١٣؛ ٢ تسا ٢). والشيطان، عندئذ، سيسمح له الله بنشر جيوشه التي لا حصر لها مع درع دفاعي وقائي يجعلها منيعة. دمج النار والأسمانجوني ٢١ والكبريت كصدرة يُوصف بشكل معبّر بالقول "دروع الجحيم الدفاعية". النار والأسمانجوني عناصر مدمرة وليست من النوع العنائي، بل جزائية (تك ١٩: ٢٤). إنها أيضاً رمز العذاب الأبدي.

ثم نرى وصفاً للخيول "في الرؤيا". في الويل السابقة رأينا دمجاً بين الجراد والعقرب، ما يشير إلى الهلاك والتدمير والعذاب؛ وهنا نجد الخيول هي البارزة- مُنفذوا الأعمال العدوانية والعسكرية في السلب والنهب والقتل. "رُؤُوسُ الْخَيْل كَرُؤُوس الأُسُود". تحاصر الجيش المحارب بجو معين من الجلال والشجاعة والجرأة، هذه المواصفات المعروفة جيداً التي يتمتع بها "ملك الغابة" ٢٢.

١٧- "منْ أَفْوَاههَا يَخْرُجُ نَارٌ وَدُخَانٌ وَكبْريتٌ". هذه الحملات العسكرية هي تحت إدارة الشيطان. فهو الذي يُزود من الهاوية عملاءه بدروع دفاعية تقف كل الأسلحة المعادية عاجزة أمامها (الآية ١٧). هنا يُسلّح الجيش بثلاثة قوى هجومية مدمرة. سكان الإمبراطورية التي في ظلها صُلب المسيح، وتدمرت أورشليم، وتبعثر اليهود، يجب أن تعاني الألم والعذاب على الأرض، في عذابات بحيرة النار. إلى النار والكبريت، رموز العذاب الذي لا يمكن تخيله (١٤: ١٠؛ ١٩: ٢٠؛ ٢١: ٨)، يُضاف "الدخان"، الظلمة المعنوية والظلال في الحفرة.

حصاد الموت:

١٨- النَّار وَالدُّخَان وَالْكبْريت هي ضربات منفصلة، ولكنها هنا مجتمعة مترابطة في عمل القتل. الموت الذي يُقدر للجموع أن يتعرضوا له تحدثه قوة الشيطان الجزائية، ومن هنا فهناك موت بالسيف أشد رعباً وفجائيةً. المشهد الموصوف هنا ليس مجرد قتل بشري بسيط بطرق علمية معاصرة أو قديمة؛ القوى التدميرية للهاوية يُطلق سراحها على "ثُلْث النَّاس" الذي يُقتلون، وعلى الأرجح أن يكونوا أسوأ من في الإمبراطورية، مع بقاء قلة تقية (الآية ٢٠)، الذين، مع ذلك، لا يتوبون. الويلات أو الضربات الثلاثة تُذكر مرتين، وتخرج مرتين من فم الخيول. تكرار ذكر هذه القوى التدميرية سيشدد على حقيقة أن قوة الشيطان الجزائية فاعلة؛ وإضافة إلى ذلك، أن الوكلاء ليسوا فقط مجرد مرتوقة، بل إن الشيطان يحثهم ويحرضهم، وهم مسرورون بالقتل. "الْخَارجَة منْ أَفْوَاههَا" تظهر مسرة القلب الشيطانية بالعمل. انظر ١٦: ١٣ للإشارة إلى ما هو شر؛ وانظر متى ١٢: ٣٤ لأجل المبدأ العام.

أفواه وأذناب الخيل:

١٩- "العبارة التي تقول بأن سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا تقوم بدور الربط مع ما سوف يُقال عن أذنابها. النزعة الإيذائية والتدميرية المخيفة لم تجد تمثيلاً كافياً لها في ما خرج من فم الخيول. لا يزال هناك إمكانية لتجسيدها في رمز الأفعى-أذناب" ٢٣.

إن استخدام الكلمات "أفواه" و"أذناب" تعبّر عن فكرة أنها جميعاً تنبض بالحياة بفضل روح واحدة ولكن تعاليم الشيطان وأكاذيبه متنوعة. "سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا وَفي أَذْنَابهَا". ليس هناك فقط سلطة الشيطان المفتوحة، بل بالإضافة إلى ذلك هناك تأثيره السري المهلك والمدمّر للنفس. كلاهما متوقع هنا. في الويل السابقة سلطة الإيذاء كانت في الذنب (الآية ١٠). وهنا قوة التدمير هي في الفم والذنب (الآية ١٩). وهناك هو الكذاب. أما هنا فهو قاتل وكذاب بآن معاً.

١٩- "أَذْنَابَهَا شبْهُ الْحَيَّات". لقد كانت الحية هي المخلوق المختار الذي خبأ الشيطان فيه نفسه خلال خداعه لحواء (تك ٣: ١)، وعلى الأرجح أنه العضو الوحيد بين المخلوقات الحيوانية الذي قُدر له مصير خزي أبدي حتى خلال البركة الطويلة والعالمية التي ستكون في الأيام الألفية (قارن تك ٣: ١٤ مع أش ٦٥: ٢٥). الحية هي المرادف للمكر والخداع والرياء والحنث. "ذنب" الحية هو تعبير عن التأثير المهلك المميت، والكذب، والأذى (أشعياء ٩: ١٥؛ رؤيا ١٢: ٤).

إضافة إلى ذلك، فإن الأذناب لها "رؤوس"، ما يدل على أن تأثيرها المؤذي موجه ببراعة. هدف الإيذاء يتم السعي إليه مع فعالية بارعة وعديمة الشفقة.

ما من توبة:

الآيتان ٢٠، ٢١ الأخيرتان في الأصحاح تكشفان عن صورة مذهلة من الفسوق والفساد والفجور البشري. النفخات المرتفعة الصوت للأبواق التي تصدر بشكل متعاقب هي إعلانات الله العامة إلى العالم- نذائر ويلات. وإذ تزداد شدتها طردياً، تأتي الدينونة تلوَ الأخرى. المشهد النبوي يتحول إلى مجال الفعل الخاص بالشيطان. ينتصر لبرهة. يا له من مشهد يُصور في هذه الأيام الأخيرة! أوربا الغربية، الجميلة في نورها ومعرفتها، تستسلم لعبادة وثنية فادحة وشر ليس له مثيل من الخزي. نشهد هنا عودة واضحة إلى الوثنية في الأيام الأولى. ماذا؟! هل سيرتد هؤلاء الذين آمنوا بالمسيح إلى تلك الدرجة من التردي في الوثنية وخطايا الجسد بأشد طابع للشر؟ نعم. رومية ١: ٢١- ٣٢ ٢٤، ٢ تيموثاوس ٣: ١- ٥، والآيات ٢٠ و٢١ من هذا الأصحاح تزيل الحجاب، فتعطينا شهادة عن العدد الكبير للشعب المضطرب والغاطس في الشرور والتعديات. "البقية"، أو المرتدون المتبقون، لا يتوبون. المصير الفظيع لزملائهم في الوثنية والشرور العامة ترك انطباعاً سيئاً ولكن عابراً. "لَمْ يَتُوبُوا" تتكرر. قسوة القلب لديهم في تحولهم عن الله إلى الشيطان والاستمرار في العلاقة معه، رغم أمثلة التحذير أمام أعينهم، نجد وصفاً لها في الآية ٢٠.

عدم توبتهم في تحولهم عن البر إلى الشر، وهلاكهم هناك، هو موضوع الآية ٢١.

٢٠- "أَعْمَال أَيْديهمْ"، التي لم يتوبوا عنها هي عبارة تدل بشكل خاص على العبادة الوثنية (أش ٢: ٨، إر ١: ١٦؛ ٢٥: ٦، ٧، ١٤؛ تث ٤: ٢٨؛ مز ١١٥: ٤- ٧؛ ١٣٥: ١٥).

٢٠- "حَتَّى لاَ يَسْجُدُوا للشَّيَاطين". "الشياطين" هنا، أو الأدق "الأرواح الشريرة"، هي كائنات روحية حيّة يخشون الدينونة الآتية (متى ٨: ٢٨، ٢٩). الهاوية هي مقرهم الملائم (لوقا ٨: ٣١). إنهم جماعة من الأرواح الشريرة (رؤيا ١٨: ١٤). والشيطان هو قائدهم، "مَلاَكُ الْهَاويَة" (٩: ١١). جيش الأرواح الشريرة في الهاوية تتم عبادته. لقد شجب بولس العبادة الوثنية الأممية بشدة وصرامة (١ كور ١٠: ٢٠، ٢١)، ومع ذلك فإن هذه ستتم ممارستها علانية وعلى نطاق عالمي ضمن حدود الأراضي التي تعتبر مسيحية.

المشهد بمجمله مخصص للعبادة الوثنية. الأغنياء لديهم آلهتهم من الذهب الفضة، والطبقة الوسطى لديهم آلهتهم من النحاس والحجارة، بينما الفقراء لديهم آلهة مكافئة مصنوعة من الخشب. طبيعة العبادة وسلوك العابدين متوافقان بكل تأكيد. إن كانوا قد تخلو عن الله لأجل الشيطان القاتل والكذاب، فإن طبيعة هذا الأخير مختومة على المكرسين له وعُبَّاده. التمثل في الطبيعة والطرائق هي نتيجة طبيعية. ومن هنا تأتي قائمة مختصرة ولكن شاملة، وفيها الجرائم التي ارتكبها عبدة الشيطان. كما أن الآية ٢٠ توضح لنا ديانتهم، فإن الآية ٢١ تظهر لنا حاجاتهم. وهذه الأخيرة هي شرور ورذائل وثنية بارزة. الجرائم المعدودة هنا عددها أربعة، هي قائمة مختصرة، ولكنها شاملة بما فيه الكفاية.

(١) "قَتْلهمْ"، والذي لا يحدث بشكل استثنائي، بل نتيجة الشغف، الخ.، كان يُمارس بشكل اعتيادي.

(٢) "سحْرهمْ"، أو "شعوذاتهم"، أي الادعاء بامتلاك قوى فائقة الطبيعة في تعاملات محرمة مع الأرواح وادعائهم القدرة على التنبؤ بالمستقبل. الساحرة في عين دور (١ صموئيل ٢٨: ٧)، وعليم الساحر (أعمال ١٣: ٨) هما مثالان عن أولئك الذين كانوا يمارسون "فنون السحر السوداء". هذه الخطيئة الكنعانية القديمة كان الله يشجبها بشدة، وكان الموت هو عقوبة من يمارسها (تثنية ١٨: ١٠- ١٢؛ لاويين ٢٠: ٢٧؛ خروج ٢٢: ١٨). كان السحرة والمشعوذون يُصنفون مع الكلاب، والقتلة، والزناة، وعباد الأوثان على أنهم محرومون من المدينة السماوية (رؤيا ٢٢: ١٥). كان تحضير الأرواح آخذاً في ازدياد وانتشار واسع، وسرعان ما استسلم العالم المسيحي لهذه الممارسات كلياً.

(٣) "زنَاهُمْ"، الذي نفهم منه المعنى الفعلي والحرفي. رابط الزواج هو ذاك الذي يربط المجتمع معاً، وهو حارس الأمان والمتراس ضد الفحشاء الجسيمة. بدون مخافة الله، وبدون مهابة العقاب، وبدون أن يشعروا بالتوبيخ تجاه إطلاق العنان لشهواتهم البربرية، وهذه هي خطيئة الوثنية البارزة في جميع الأوقات، ستزدهر في هذه الأراضي نفسها ذات الأخلاقية المسيحية. يا لها من صورة انحطاط أخلاقي توصف هنا! قيم وأخلاق العالم المسيحي سرعان ما تنحط.

(٤) "سرْقَتهمْ". تضعف الروابط الاجتماعية، وحقوق الاحترام المتبادل لبعضهم البعض، وحتى للعلاقة الأكثر قدسية، تتلاشى بشكل كامل، وماذا تكون النتيجة؟ الجشع سيغوي جموع الناس "الَّذينَ لَمْ يُقْتَلُوا" كي يغتنوا على حساب المجتمع. الكل سيسعى لأجل نفسه وهذا هو الحال أو الشعار لتلك الأيام الآتية. قد يكون هناك اهتمام بالملكية، وبحقوق الآخرين، ومراعاة ممتلكات الآخرين، ولكن "السرقات" ستكون جزءاً من حياة وتاريخ تلك الأزمنة الفظيعة المريعة. عالم بدون الله، تخلى الله عنه جزائياً، وقد اقتبلوا الشيطان رئيساً وحاكماً لهم! يا لها من صورة كاريكاتورية عن المسيحية تُقدمها الآية ٢٠، ويا لها من مبادئ أخلاقية فاسدة تكشف عنها الآية ٢١!

المقارنة بين الويلين:

الويل الأولى تُقفر فلسطين. الثانية أوسع في مداها، وأكثر كارثية في تأثيرها، إذ تصل إلى حدود الإمبراطورية الرومانية. ضلالات الشيطان بارزة أكثر في الويل الأولى، وعنف الشيطان يميز الويل الثانية، رغم أن الضلال موجود أيضاً في الويل الثانية. وهذه الويل الأخيرة هي الأسوأ. مشهد هذه الموضع من الاقتراب أوسع من ذلك الذي سبقها، لأن مياهه كانت تهددها حدود اللغات اليونانية والعبرية. وهنا ينشأ الاضطراب في الفرات، وفيه قوة رباعية، تمضي حيثما يكون هناك أوثان. هناك عجلة وتهور وبربرية في الاندفاع الكبير الذي يُصور هنا، وطابع مفترس من التصرفات المعروضة بشكل بارز في ظهورها الأول، والمخالف كثيراً لطابع التصرف في البوق الأخير. ليس هناك إظهار لأي فكرة تنظيم أو تأهب أو استعداد أو سيطرة أو سيادة عقلانية أو لطف قاهر كما في البوق الخامس؛ ولكن المئتي مليون يظهرون في الحال، متألقين كاللهيب في الفعل؛ والضنى والاستهلاك، أكثر منه النصر، يميز تقدمهم؛ بينما نشعر أن وراءهم تعاسة لاذعة من جراء الخضوع لهم. يتدحرج الحزن والألم في دينونة على العبادة الوثنية، ولكنه يتركها، بنتيجة معنوية، حيث كانت ٢٥. البوق السابع، أو الويل الثالثة، يتم تناولها أو الحديث عنها في الأصحاح التالي.


١. يهوذا، في الأزمة المستقبلية، وفي ساعتها الأخيرة من الأسى والألم والجحود، وقبل تدخل المسيح العلني من أجلها، يبدو أنها ستكون بشكل كامل تحت سلطة وتأثير الشيطان. وحالة بني إسرائيل الأخيرة ستكون أسوأ بكثير من الأولى. ستكون عبادة الأوثان هائجة في الأرض (متى ١٢:٤٥)، ورئاساتها وقادتها في تحالف مع الموت والجحيم (أشعياء ٢٨: ١٥- ١٨)، وهذا يُشكل صورة فظيعة للشر البشري المتحالف مع شر الشيطان.

٢. "سبعون أسبوعاً (٤٩٠ سنةً) قضيت على شعبك (اليهود) وعلى مدينتك المقدسة (أورشليم)".

٣. - محمد الثاني (Mohammed the Second )؛ محمد الفاتح (١٤٣٢ - ١٤٨١): سلطان عثماني (١٤٤٤ - ١٤٤٦) و (١٤٥١ - ١٤٨١). فتح القسطنطينية (عام ١٤٥٣).

٤. ظهور ضد المسيح- بعد انقسام إمبراطورية القياصرة، وخلال الانتعاش النبوي فيها عند انقسامها إلى عشرة ممالك على رأس كل منها رئيس عظيم مركزي ومسيطر- تم التعليم عنه وشرحه بشكل واضح ومحدد وبالإجماع في الرأي من قِبل كل الكُتّاب الآبائيين، كما ورد في "أسطورة ضد المسيح"، التي تُرجمت إلى الإنكليزية عن الكاتب جيرمان و. بوسيت. لعل هناك أشياء كثيرة في عمله المميز ندينه عليها، ولكن الكتاب يحوي مقداراً كبيراً من دراسة ضليعة ومعلومات قيّمة حول ما كان يعلّمه المسيحيون الأوائل ويعتقدون به في ما يختص بضد المسيح.

٥. في عهد نيرون أتت المسيحية والوثنية إلى صراع مفتوح لأول مرة. خلال هذه السنوات الـ ١٣ شُرعن لأول مرة الاضطهاد ضد المسيحيين بمرسوم إمبراطوري. الأحداث الغير متسلسلة تاريخياً في ذلك العهد تنتظر كشفاً كاملاً عند كرسي الدينونة الذي يعتليه المسيح.

٦. بالنسبة إلى البروتستانت، البابا هو ضد المسيح. وبالنسبة إلى البابوية، لوثر هو ضد المسيح. وكلاهما مخطئ في هذا الشأن، لأنهما كلاهما تفوتهما ما يقوله الكتاب عن ضد المسيح هذا، إذ أن مواصفاته، حسب يوحنا وبولس، لا تنطبق على البابا ولا على ذلك المصلح الشهير.

٧. "السلطة المؤقتة لوكيل يسوع المسيح".

٨. إضافة إلى ذلك يظهر الدكتور مانينغ أن نشوء البابوية في الغرب وإعاقتها في الشرق تُفسره حقيقة أن عرش القياصرة أُزيل من روما وشق طريقه لتأسيسي الكاثوليكية الرومانية في إيطاليا؛ بينما السلطة الإمبراطورية السياسية في القسطنطينية أعاقت ونسفت المزاعم بالبابوية في الشرق. وهذه الشهادة حقيقية.

٩. "دانيال والرؤيا"، ص. ٣٠٩- اوبيرلين.

١٠. لقد رفض ربنا المبارك وبشكل قاطع نهائي أن يقبل من الشيطان ربوبية ومجداً عالميين (متى ٤: ٨، ٩). ولكن الأمير الآتي سيُسر باقتبال كليهما من يد الشيطان؛ الاتفاق المريع يُبرم، ويعبد الوحش التنين، وعندها يمنح الشيطان وكيله السياسي السيادة على العالم.

١١. لوسيفور يُشير إلى "كوكب الصبح"، هكذا يُترجم اسمه في أشعياء ١٤: ١٢.

١٢. القوتان الأولى والرابعة من القوى الإمبراطورية العالمية (دانيال ٢؛ ٧)، اللتان استُعبدت لهما يهوذا كانتا بابل وروما. الأولى كان مصيرها الدمار الأبدي. "هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها" (إرميا ٥١: ٦٤). إنه لمن الخطأ الافتراض أن بابل كمدينة، أو الإمبراطورية الكلدانية القديمة ستنتعش أو تزدهر من جديد. المسيطر الأخير على السلطة الإمبراطورية على الأرض، "الوحش"، يستلم السلطة ويكمل قصة بابل. نبوخذنصر التاريخي هو رمز للرئيس الأممي العظيم القادم الذي سيجمع، إضافة إلى ملامح خاصة به، المواصفات الرئيسية للإمبراطوريات الثلاثة السابقة. ملك بابل (أشعياء ١٤) هو رمز للملك الذي سيأتي في الأيام الأخيرة من السيادة الأممية قبل عودة الرب.

١٣. من أيار إلى أيلول.

١٤ في إيطاليا وفي بعض البلدان الأخرى يُقال عن الجراد بأنهم "جياد ضئيلة"، بسبب الشبح في الرأس بينها وبين الجياد (انظر يوئيل ٢: ٤). الجيوش المعادية، وخاصة الفرسان، يُرمز غليها في الكتابات المقدسة بغزو الجراد (يوئيل ٢؛ إرميا ٥١: ٢٧). لأجل أخذ فكرة عن الخراب والإقفار الذي سببه وباء الجراد انظر خروج ١٠: ١٢- ١٥.

١٥. قال سليمان الملك، ذلك المراقب الرصين للطبيعة: "الجراد ليس له ملك" (أمثال ٣٠: ٢٧).

١٦. أربعة معادن (دانيال ٢) وأربع وحوش (الأصحاح ٧) تمثل الإمبراطوريات العالمية الأربعة. أربع تقسيمات للجنس البشري (رؤيا ٧: ٩).

١٧. انظر مز ١١٨: ٢٧؛ ٨٩: ١٧، ٢٤؛ ٩٢: ١٠؛ ١٣٢: ١٧؛ رؤيا ٥: ٦، الخ.

١٨. يمكننا أن نستنتج من الكتاب المقدس أن الوقت الذي استغرقه الملائكة في عملهم الإداني سيكون"ساعة، ويوم، وشهر وسنة"، في حين أن هذه الفئات الزمنية تشير إلى اللحظة التي يبدأ بها الملائكة بالتصرف، وليس إلى فترة عملهم هذا.

١٩. أكبر جيش، يذكر التاريخ انه شارك في ساحة المعركة، كان جيش (Xerxes ) في غزو اليونان. بشهادة هيروديتوس تجاوز عدده مليونين ونصف من الناس.

٢٠. "ملاحظات على سفر الرؤيا"، ص. ٤٥.

٢١. "الأسمانجوني كان لوناً أزرق داكناً، يشبه اللون الأزرق الذي نراه في اللهيب، أو في الكبريت المشتعل. اللهيب الأزرق الذي في بئر الهاوية مختلف جداً في الواقع عن زرقة السماء".

٢٢. لدينا زئير الأسد الذي يحدث الرعب (رؤيا ١٠: ٣)، وأنياب الأسد التي تدل على الضراوة (٩: ٩)، والرأس الذي يرمز إلى الجلالة (الآية ١٧)، والفم الذي يشير إلى صفة الأسد المهلكة (١٣: ٢).

٢٣. هنغستنبرغ، المجلد ١، ص. ٣٧٠.

٢٤. حالة العالم منذ دخول الوثنية (يشوع ٢٤: ٢) على دخول المسيحية تُوصف في رومية ١: ٢١- ٣٢. المسيحية مهجورة، ورجعة إلى الحالة الوثنية القديمة أمران مؤكدان. هناك علامات تدل على ذلك بدون أدنى شك- علامات يمكن للناظر أو المراقب الحالي أن يراها.

٢٥. "كنوز الكتاب المقدس"، المجلد ١٣، ص. ٢٣٩.

الأصحاح ١٠

نزول الملاك القوي

السفر الصغير المفتوح:

مدخل:

قبل فتح الختم السابع ونفخ البوق السابع، وسكب الجامة السابعة، يحدث توقف في مسار الدينونة في كل حالة تُشاهد. أقصر توقف هو الجام الأولى (١٦: ١٥) فاصل البوق هو أطولها (١٠- ١١: ١٣).

الختم الخامس، الذي ليس من عمل منفصل أو دينونة تُشاهد فيه، أدخل أو استهل سلسلة البوق للتأديبات الإلهية. على نحو مشابه الويل الثالثة، أو البوق السابع، يعد الطريق لصب غضب الله النهائي على العالم المرتد. هذه السباعية الأخيرة من الدينونات، أي الجامات، هي ذات طابع واضح جلي ظاهر. يراها الجميع بوضوح وهي تصدر من السماء. يُعترف بأن الله هو مصدر هذه المخاوف، إذ لم تكن لديهم توبة حقيقية، بل كانوا في تجديف علني وعام على الله وعلى اسمه. في الحلقة الفاصلة بين البوقين السادس والسابع نقرأ: "في أَيَّام صَوْت الْمَلاَك السَّابع مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوّقَ يَتمُّ أَيْضاً سرُّ الله، كَمَا بَشَّرَ عَبيدَهُ الأَنْبيَاءَ" (١٠: ٧). نفخ البوق السابع يختم صبر الله. القوة المرتدة على الأرض يجب معالجتها بشكل صريح، ليس عنائياً، كما تحت السلسلتين السابقتين من الدينونات. السماء والأرض، الملائكة والبشر، يشهدون بأن هذه الضربات الأخيرة تحت الجامات قد كانت بيد الله. ومن هنا فإن نفخ البوق السابع يُنذر بصب غضب الله المركز على العالم الآثم والمرتد. الضربات قصيرة حادة وقاسية (الأصحاح ١٠).

كان هناك اعتقاد أنه طالما أن النتيجة المباشرة لملاك الحضور السابع مبوقاً ببوقه فإن الرب ينتحل لنفسه قدرته العظيمة؛ وفي الحال يبدأ حكمه الألفي. ولكننا نعتقد أن هذا خطأ. العداوة الفعالة للوحش ضد القديسين تتوقف مع انتهاء فترة الـ ١٢٦٠ يوماً، الفترة الدقيقة بالضبط من المعاناة المقاسة بالأيام والأشهر (١١: ٣؛ ١٣: ٥- ٨). هذا يترك مجالاً لـ ١٧ يوماً ونصف لتُشكل السنوات الثلاثة والنصف المطلوبة لإكمال الأسبوع السبعين من دانيال، ذلك الأسبوع الحافل المكون من سبعة سنين حرفية (دانيال ٩: ٢٧). تُسكب الجامات خلال هذه الأيام الـ ١٧ ونصف ١. قوة الوحش في إزعاج المزيد من قديسي الله تأتي إلى زوال عندما يبدأ الملاك بصب الجامات. فكيف يمكن للوحش أن يضطهد بينما هو نفسه الموضوع المباشر لهذه الدينونات الأخيرة؟ نستنتج أن الأصحاح ١١: ١٥- ١٨ لا يُصور أحداثاً تأتي مباشرة تحت البوق السابع، بل بالأحرى يجمع مشاهد ألفية وأبدية، واحتفالات في فترة الحكم العالمي القريب المتوقع وانتصار الله. الملكوت يتوقع، ولكنه لم يأتِ بعد. بعد تبويق الملاك السابع تُصب الجامات على نحو متتابع. وهكذا فإن الأبواق تلي الأختام، والجامات تلي الأبواق.

ولكن قبل أن تأتي روما لتصبح الموضوع المباشر للتعامل الجزائي الشديد المكثف (الأصحاح ١٦) تدخل الله العلني يُشاهد بالرمز والكلمة (الأصحاح ١٠)، وظهر شهادة أخرى، شهادة لم تُكشف حتى الآن في أي رؤيا سابقة (الأصحاح ١١). هذه الشهادة لها طابع مميز بحد ذاتها (الآية ٤)، وهي محصورة أكثر بكثير من أي من تلك التي في ٦: ٩ أو الأشد كثافة التي تظهر في الأصحاح ٧. مدينة أورشليم، التي ستكون آنذاك مداسة تحت الأعقاب الحديدية للمضطهد الأممي، تصبح مجال العمليات للشهادة الخاصة نفسها الواردة في الأصحاح ١١.

الوصف المجيد للملاك المقتدر النازل:

١- ٣- "ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ قَويّاً نَازلاً منَ السَّمَاء، مُتَسَرْبلاً بسَحَابَةٍ، وَعَلَى رَأْسه قَوْسُ قُزَحَ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْس، وَرجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ، وَمَعَهُ في يَده سفْرٌ صَغيرٌ مَفْتُوحٌ. فَوَضَعَ رجْلَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْبَحْر وَالْيُسْرَى عَلَى الأَرْض، وَصَرَخَ بصَوْتٍ عَظيمٍ كَمَا يُزَمْجرُ الأَسَدُ. وَبَعْدَ مَا صَرَخَ تَكَلَّمَت الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بأَصْوَاتهَا". الأمور آخذة إلى الختام. نصف أسبوع الألم والمعاناة (ثلاث سنوات ونصف) يكاد يكون قد انصرم، ولكن ساعاته الأخيرة تكشف حالة العالم في تمرد مجنون ومفتوح ضد الله، وقديسيه الذين يُنزل عليهم الوحش وضد المسيح غضبه الشديد. قبل ذلك، الثُفل الأخير من انتقام الرب يكون الأمميون واليهود المرتدون قد شربوه والسُذج المغفلون يرون هذه الرؤيا المعزية خلال سُحب الدينونة المظلمة. إنها تذكير صارم للعالم أنه، ورغم ثورة غضب الأشرار، فإن حكومة الأرض هي من حق الخالق وسيُمسك بزمامها بقوة. ولكن الرؤيا أيضاً ملائمة بشكل بارز في تقوية وتعزية المؤمنين، وخاصة القديسين المتألمين، لأن القوة نفسها التي ستحطّم الأعداء سترفع المتألمين إلى المجد.

يمكن قراءة الرؤيا بسهولة. إنها إحدى الرؤى الراسخة في السفر. ورغم بساطة ووضوح ملامحها الرئيسية. إن الغموض والأسرارية في رؤى البوق تختفي هنا.

١- "مَلاَكاً آخَرَ قَويّاً" يحملنا رجوعاً في الفكر إلى الأصحاح ٥: ٢، ولكن الأمر الوحيد المشترك في كلا المرجعين هو الصفة "قوي". في النص السابق كائن مخلوق يتمتع بالقوة والقدرة يُشار إليه، بينما في المقطع أمامنا كائن غير مخلوق ذو جلال إلهي وقدرة يُشهد له. إنه الرب نفسه. لقد رأينا للتو حديثاً عن رؤيا ظهر فيها الرب في شفاعة ملائكية كهنوتية (٨: ٣)؛ وهنا يؤكد في قوة ملائكية على ادعائه الذي لا يُجادل فيه بسيادته على الأرض.

١- "نَازلاً منَ السَّمَاء" "من" لا تعني ببساطة نقطة انطلاق، بل "من خارج" السماء لكونها وطنه الأصلي (١ كور ١٥: ٤٧؛ يوحنا ٣: ١٣)؛ "السماء" توكيد على مكان معين محدد. إدخال حرف الجر "من" وحذف أداة التعريف من النص قد يبدو أمراً ليس بذي أهمية، ولكن بالنسبة لأولئك القائلين بالوحي الحرفي للكتاب المقدس، كما نعتقد أن جميع قراءنا منهم، إن أي تحريف أو إقحام أو حذف لا مبرر له ولو لحرف موحى به أو مثقال ذرة (متى ٥: ١٨) يُعتبر فقداناً له أهميته. إن الله يُحذر ويُهدد بتعابير مهيبة عادة من هكذا تلاعب بالكلمة الموحى بها، سواء كان بالإضافة إليها (رؤيا ٢٢: ١٨) أو بالحذف منها (الآية ١٩).

في نزول الملا القوي المقتدر إلى الأرض إشارة إلى انتهاء التعامل العنائي. مشهد النبوءة السابق شُوهد وكأن مصدره في السماء؛ أما هنا فمشهد العمليات يظهر بشكل واضح وصريح على أنه على الأرض. المشهد النبوي كله تحت السماء مشمول صراحة وعلانية. الرب بخروجه من مكانه ليؤسس ملكوته العالمي الأرجاء على الأرض يُغير وجهة النظر، التي هي الأرض في الرؤيا وليس السماء.

١- "مُتَسَرْبلاً بسَحَابَةٍ". في الإيحاءات القديمة كانت رموز السحاب تُمثل عموماً حضور الرب وجلاله. هناك اكتمال وجرأة في الرموز المستخدمة للإشارة إلى جلال الرب المجيد، ورموز، أيضاً، واضحة لا تحتاج إلى الكثير من التفسير والنقاش. عبارة "مُتَسَرْبلاً بسَحَابَةٍ" هي علامة علنية على جلاله.

١- "وَعَلَى رَأْسه قَوْسُ قُزَحَ". قوس قزح نفسه ٢ كما شهد الرائي سابقاً (٤: ٣). في الإشارة السابقة يُطوق قوس قزح العرش وذاك الشخص المهيب الجليل الذي يشغله، وهنا قوس قزح بألوانه المتنوعة والعديدة وأمجاده يستقر على رأس الملاك. استخدام أداة التعريف في نصنا يربط المشهد في الأصحاح ١٠ لبعض ملامحه الأساسية مع ذاك الذي في الأصحاح ٤. إنه نفس قوس القزح، هذه الصورة الزخرفية من الألوهية "التي تحيط بالعرش" (الأصحاح ٤) والرأس (الأصحاح ١٠). وسط المشاهد الرؤيوية للدينونة نلاحظ تذكر الله للرحمة مستمراً وثابتاً. قوس قزح في السحابة ٣، الذي كان إمارة قديمة على الصلاح الإلهي (تك ٩)، يعود للظهور من جديد هنا، وتماماً في الوقت والفصل الذي يُحتاج إليه للغاية.

١- "وَجْهُهُ كَالشَّمْس، وَرجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ". جوهرياً، الوصف هنا هو لمجد ابن الإنسان في الأصحاح ١: ١٥، ١٦. ولكن هناك، أقدام ذاك المجيد تُذكر أمام رزانته. كلا الوصفين ينطبقان على نفس الشخص المبارك وإن بسياق مختلف. في النص الأول (الأصحاح ١) التعبير عن شخصه ومجده كإنسان هو المقصود. وفي الأخير (الأصحاح ١٠) جلال قوته الملائكية ومجده هي التي تُشاهد. عظيم جلاله وحكمه ينعكس في وجهه، بينما "رجْلاَهُ كَعَمُودَيْ نَارٍ" يشيران إلى الرسوخ والثبات والقداسة الراسخة لسلوكه الإداني.

٢- "مَعَهُ في يَده سفْرٌ صَغيرٌ مَفْتُوحٌ" في الأصحاح ٥ يمسك الرب بيمينه سفراً أو درجاً مغلقاً ذي سبعة أختام؛ وهنا الملاك يمسك بيمناه سفراً مفتوحاً. لماذا هو مغلق في المشهد الأول ومفتوح في المشهد الآخر؟ في السابق وحتى الآن مشورات الله غير المكشوفة يُظهرها الحمل تباعاً، بينما في الأخير "السفر مفتوح كجزء من نبوءة معروفة جيداً، والآن تُكشف على أساس معروف". إضافة إلى ذلك، هذا سفر صغير، والتصغير مقصود في تضاد مع السفر الأكبر حجماً في الأصحاح ٥ الذي كان ممتلئاً جداً حتى أنه كُتب من الداخل ومن الخارج. سفرٌ أكبر حجماً ومحتوىً وأكثر امتلاءاً من ذاك الذي في يد الملاك.

٢- "وَضَعَ رجْلَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْبَحْر وَالْيُسْرَى عَلَى الأَرْض". لثلاث مرات في سياق هذه الرؤيا يُرى الملاك واقفاً على البحر والأرض، وفي كل حالة يُذكر البحر قبل الأرض (الآيات ٢، ٥، ٨)، بينما في الأجزاء الأخرى من الرؤيا الترتيب يكون معكوساً (٧: ١- ٣؛ ١٤: ٧؛ ٥: ١٣؛ ١٢: ١٢، الخ). هذا الأخير هو الترتيب الطبيعي بالتأكيد، أي الأرض والبحر. لقد لاحظنا للتو قوة هذين الرمزين؛ الأرض تشير إلى القسم المتمدن من الكرة الأرضية، والبحر يشير إلى جموع البشر في حالة غير متحضرة وغير متعلّمة. ولكن في المقطع الذي لدينا، البحر، أي الوثنيين الهائجين، يأتي ذكره أولاً. هل هي عشوائية أم دقة إلهية أن الرجل اليمنى تطأ الأمم والشعوب المتمردة، وأن القدم اليسرى على العالم المعترف ذي النور والحكم؟ كم هي قوية خطوة الملاك؟ يا له من عمل مكتمل! كم هو قوي إخضاع الجميع له! لقد وضع تلك الدعامات أو الأعمدة من النار على كل من هو تحت الشمس. الاقتدار والعدل، كلاهما في الممارسة، هما من مواصفات العمل ذي المغزى الذي يقوم به الملاك إذ يتملك على كل العالم تحت السماء.

٣- "صَرَخَ بصَوْتٍ عَظيمٍ كَمَا يُزَمْجرُ الأَسَدُ". إضافة إلى ذلك العمل الذي قام به الملاك لدينا صوت جلاله وقدرته محدثاً رعباً شديداً في كل أرجاء الأرض (هوشع ١١: ١٠؛ يوئيل ٣: ١٦). إنه صوت المسيح. "هوذا يُعطي صوته صوت قوة" (مزمور ٦٨: ٣٣). لدينا هنا زئير أسد سبط يهوذا. لقد سُمي هكذا في ارتباط مع الحمل في ذاك المشهد السماوي العظيم الذي يُكشف عنه في الأصحاح ٥. ولكن هناك نشهد عمل الحمل، بينما هنا نرى عمل الأسد.

٣- "وَبَعْدَ مَا صَرَخَ تَكَلَّمَت الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بأَصْوَاتهَا" ٤. صرخة الملاك كانت صرخة الرب التي سرعان ما تُستجاب. الجواب يتميز بالقوة والدينونة. الرعد هو صوت الله في الدينونة، التعبير عن سلطانه هناك (١ صموئيل ٧: ١٠؛ مز ١٨: ١٣؛ أيوب ٢٦: ١٤). "الرُّعُودُ السَّبْعَةُ" تشير إلى تجاوب كامل ومكتمل على صرخة الملاك. "السَّبْعَةُ" تعطي دقة وتحديداً للأصوات المتجاوبة للرعد. لم تكن صوت قرقعة كما هو الرعد الطبيعي، بل هذه الرعود عبرت ببراعة عن فكر الله في الدينونة، فقد "تَكَلَّمَت بأَصْوَاتهَا".

الرائي الممنوع من الكتابة:

٤- "وَبَعْدَ مَا تَكَلَّمَت الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بأَصْوَاتهَا كُنْتُ مُزْمعاً أَنْ أَكْتُبَ ٥، فَسَمعْتُ صَوْتاً منَ السَّمَاء قَائلاً ليَ: «اخْتمْ عَلَى مَا تَكَلَّمَتْ به الرُّعُودُ السَّبْعَةُ وَلاَ تَكْتُبْهُ»". كان النبي على وشك أن يدون كلمات الرعود. لقد سمع وفهم. هذه الرؤية مليئة بالأصوات. ففيها صوت ملاك الرعود، وآخر "من السماء". وكان هذا صوت سلطة، "«اخْتمْ عَلَى مَا تَكَلَّمَتْ به الرُّعُودُ السَّبْعَةُ وَلاَ تَكْتُبْهُ»". تلك التواصلات غير المكشوفة لنا كان يجب أن تُختم. ما كان قد آن أوان إعلانها بعد. المعنى أو الفحوى الدقيق لهذه الإعلانات لم يُكشف؛ وعلى الأرجح أنها متجسدة في التواصلات التالية المتعلقة بالنهاية بشكل مباشر. هناك أمران يوجهان إلى الرائي: الأول، أن يختم أقوال الرعد؛ والثاني، أن لا يكتبها (قارن مع دانيال ٨: ٢٦؛ ١٢: ٩). ربما يكون الأمر، كما الحال مع النبي العبري، أن هذا الجزء من الرؤى الرؤيوية، المحتوي على كلمات غير مكتوبة للملاك والرعود السبعة، "يُغلق ويُختم إلى زمن النهاية". ختم هذه الإعلانات النبوية يفترض أن النهاية بعيدة. لو كانت النهاية قريبة، لما كانت ستُختم النبوات. في هذه الحالة تُختم الكلمات، لأن النهاية بعيدة (دانيال ١٢: ٩)؛ وفي حالة أخرى لا تُختم الأقوال، لأن النهاية وشيكة قريبة (رؤيا ٢٢: ١٠).

القَسَم المهيب للملاك:

٥- ٧ - : "وَالْمَلاَكُ الَّذي رَأَيْتُهُ وَاقفاً عَلَى الْبَحْر وَعَلَى الأَرْض، رَفَعَ يَدَهُ إلَى السَّمَاء، وَأَقْسَمَ بالْحَيّ إلَى أَبَد الآبدينَ، الَّذي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فيهَا وَالْبَحْرَ وَمَا فيه، أَنْ لاَ يَكُونُ زَمَانٌ بَعْدُ، بَلْ في أَيَّام صَوْت الْمَلاَك السَّابع مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوّقَ يَتمُّ أَيْضاً سرُّ الله، كَمَا بَشَّرَ عَبيدَهُ الأَنْبيَاءَ". أحد أكثر الأعمال الرؤيوية عظمة ومهابة تُدون هنا. ويا له من أمر مقوٍّ ومعزٍ! نتحول من النزاع المضج والغاضب بين الأمم إلى الغاية الأبدية لله في ما يتعلق بهذه الأرض. إنها تخص المسيح بفضل الحق الطبيعي وأيضاً الشراء. يا لها من رؤيا! البحر والأرض تحت أقدامه، وسفر النبوءة الختامية في يده اليسرى؛ بينما رفع يمينه نحو السماء ٦ وأقسم بالله الحي أبداً والخالق ٧ بأنه لن يكون هناك "زَمَانٌ بَعْدُ"، أو في ترجمة أفضل "تأجيلٌ بعد". يبدو أنه تم استبدال خاطئ لكلمة "تأجيل" بكلمة "زمان" الموجودة في الحاشية أو الهامش. أحد الصيغتين هي الأصح وليس كليهما. بعد تحقيق قَسَم الملاك لابد أن تمر ألف سنة على الأقل قبل أن يتوقف الزمن وتبدأ الأبدية؛ ومن هنا فلا يمكن قبول فكرة أنه لن يكون هناك "زمان بعد". يعتبر كثيرون ومنهم تريغيليس، وستوارت، وداربي، وكيلي، وعدد كبير من الأكفاء المؤهلين للحكم أن القراءة الصحيحة هي "لاَ يَكُونُ تأجيلٌ بَعْدُ". والمعنى هو أن "يوم الإنسان" الذي يبدأ بصعود الرب ويُختتم بمجيئه الثاني بالقوة، يقترب من النهاية. لألفي سنة لم يتدخل الله علانية في حكم العالم. الكنيسة هي في حالة خراب، والعالم حطام. إنه زمن تكون فيه إرادة الإنسان ثائرة جامحة في كل مكان. إنه أيضاً زمن صبر الله على الشر، فترة طول أناة الله على البشر. سوف لن يكون هناك تأجيل في تأسيس الملكوت والإمساك بزمام سلطة كل الخليقة. يوم الإنسان سيُختتم بدينونة قاسية حادة، وتتأسس فترة حكم وملكوت الرب. قَسَم الملاك لا يؤكد ذلك لنا فحسب، بل يضمن تنفيذها الفوري والمباشر. سوف لن يكون هناك تأجيل من بعد في الوصول بالعصر الحاضر بكل شروره إلى النهاية.

٧- "في أَيَّام صَوْت الْمَلاَك السَّابع مَتَى أَزْمَعَ أَنْ يُبَوّقَ يَتمُّ أَيْضاً سرُّ الله". علامَ يدل سر الله ٨؟ ألا يبدو غريباً أن الشيطان قد سُمح له لـ ٦٠٠٠ سنة أن يلف ويلوي حباله حول العالم، وأن يعمل الشر ويفسد ويُخرّب عمل الله؟ يا للخراب الذي صنعه! إنه رئيس هذا العالم وأمير قوى الجو. قديسو الله كانوا دائماً موضوع حقده الشديد. أليس في الأمر سراً أن الله، إله البر والقداسة، يسمح للشر بأن يمضي بدون معاقبة وأن يتعرض شعبه للتحطيم والتكسير على كل يد؟ بالحقيقة هذا هو سر الله. هل هذا يعني أنه غير مبالٍ بالخطأ، وغير مكترث بآلام شعبه؟ أبداً، فهذا مستحيل. إن الله يصبر على الشر إلى أن تأتي ساعة الدينونة، عندها سينتقم لصرخة مختاريه، ويخرج من مكانه ليعاقب الأشرار. العراقيل والقيود على الشر لا يُرى مصدرها، وهي تطبيق جزئي فقط. كل ما في العالم وكل ما في الكنيسة هو خارج عن التنظيم ما خلا ما ينتجه الله بروح قدسه.

وها إن سر الله على وشك أن يكتمل الآن، والله بابنه، وارث كل الأشياء، سيحرر حكم العالم من قبضة الشيطان الحديدية، ويُقيده في الهاوية لألف سنة، ويلقي به أخيراً إلى بحيرة النار للعذاب الأبدي، ثم يحكم ويملك زمام السلطة والقوة على نحو جلي. الشر متساهل معه الآن ومسموح، رغم العراقيل العديدة التي تمنع وصوله إلى الذروة، ولكن عندئذ سيُعاقب بشدة. السر قد اقترب من النهاية. والمسيح على وشك أن يسود.

هذا بالحقيقة نبأ سار أعلنه الله لأنبيائه في العهد القديم، ولكن لم يعلنوه (رغم أنهم فعلوا ذلك كما نستدل من أسفارهم)، ولكن بالنسبة لهم، "إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء" (عاموس ٣: ٧). تدخل الله العلني لأجل قديسيه المبتلين لكي يحطم قوة الشر، ويطرد الشيطان المغتصب من الأرض حيث كان قد سُمح له حتى الآن بأن يُهلك معنوياً مادياً، وأن يقيم العالم بأكثر من جماله الأصلي وترتيبه الأصلي: هذا هو أمر الله. كان ذلك النبأ السار الذي حرض الطاقات، وحرك الإيمان، وأنار الرجاء، وأسعد قلوب أنبياء الله في كل العصور. هذا الرجاء المبارك نفسه مع أمجاد إضافية هو قوتنا اليوم.

سر الله سيكتمل ليس عندما يُبوق الملاك السابع، بل في أيام صوت الملاك.

السفر الصغير للمشورة الإلهية واستئناف خدمة يوحنا النبوية:

٨- ١١- "وَالصَّوْتُ الَّذي كُنْتُ قَدْ سَمعْتُهُ منَ السَّمَاء كَلَّمَني أَيْضاً وَقَالَ: «اذْهَبْ خُذ السّفْرَ الصَّغيرَ الْمَفْتُوحَ في يَد الْمَلاَك الْوَاقف عَلَى الْبَحْر وَعَلَى الأَرْض». فَذَهَبْتُ إلَى الْمَلاَك قَائلاً لَهُ: «أَعْطني السّفْرَ الصَّغيرَ». فَقَالَ لي: «خُذْهُ وَكُلْهُ، فَسَيَجْعَلُ جَوْفَكَ مُرّاً، وَلَكنَّهُ في فَمكَ يَكُونُ حُلْواً كَالْعَسَل». فَأَخَذْتُ السّفْرَ الصَّغيرَ منْ يَد الْمَلاَك وَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ في فَمي حُلْواً كَالْعَسَل. وَبَعْدَ مَا أَكَلْتُهُ صَارَ جَوْفي مُرّاً. فَقَالَ لي: «يَجبُ أَنَّكَ تَتَنَبَّأُ أَيْضاً عَلَى شُعُوبٍ وَأُمَمٍ وَأَلْسنَةٍ وَمُلُوكٍ كَثيرينَ»". السجين في بطمس يسمع من جديد الصوت من "السماء"، مسكن الله. لعل يوحنا كان مقيد الأطراف، وأن أمواج البحر المتلاطمة كانت ترتطم بسجنه الصخري، ولكن الجزيرة كانت مكاناً منعزلاً جداً لرجل كانت روحه مأخوذة في رؤى الله، وأذناه تسمع تسابيح المفديين، والعبادة الناطقة للملائكة، والذي كانت السماء تخاطبه مراراً وتكراراً. لقد أُمر أن يذهب إلى الملاك وأن يأخذ من يده السفر الصغير المفتوح. وفي الحال أطاع الأمر. لم يكن المتكلم سوى الله نفسه، ومن هنا كانت الطاعة فورية ولا يمكن وصفها. جلال الملاك لم يكن يخيف يوحنا. ودون أن تلهيه العظمة والجلالة الإلهيان لذاك الممجد فوق الجميع الذي كان يمسك بالسفر في يده، يدخل الرائي بسلطة الخالق ويطلب السفر. هذه الروح الطائعة، والتي تستجيب دونما جدال إلى إرادة الله المعلنة، تبدو بارزة في ذلك الوقت. إنه يسير ويتصرف بقوة الخالق، صانع السماء والأرض. وهو لا يعرف الخوف. الله، غير المنظور، والذي يمكن معاينته بالإيمان، يجعله لا يُغلب في طريق الطاعة، "خالداً إلى أن ينهي عمله".

يعطيه الملاك أمراً آخر. الأمر الأول كان من السماء بأن يأخذ السفر، والأمر الثاني كان من الأرض بأن يأكله. لماذا المرارة في الجوف، والحلاوة في الفم؟ النبوة مرة وحلة بآن معاً. إننا نتعامل بالرموز هنا. يجب أن لا تكون هناك أية صعوبة في فهم أكل النبي للسفر كما أن إرميا أكل كلمات الرب (إرميا ١٥: ١٦). أن تأكل شيئاً يعني أن يصبح الشيء لك، أن يندمج في كيانك (يوحنا ٦: ٤٩- ٥٨). النبي المسيحي يأكل السفر، فيجده حلواً ومراً بآن معاً، ما يُذكرنا بتصرف رمزي مماثل قام به النبي اليهودي (حزقيال ٢: ٨؛ ٣: ١- ٣). التأثير الأول للتواصل النبوي، وإذ يصير السفر في الفم، كان الحلاوة، حلاوة العسل؛ ولكن الإعلانات تزداد ثقلاً، والدينونات التي تعلنها يتم التفكير فيها، وبالتالي فالتأثير التالي هو أنها ستسبب مرارة وألماً. النبوة تسعد وتحزن بآن معاً، لأنها تشتمل على إعلانات فيها الفرح وفيها الأسى.

وأخيراً، توجب على الرائي أن يستأنف خدمته النبوية، ليس إلى "شُعُوبٍ وَأُمَمٍ وَأَلْسنَةٍ وَمُلُوكٍ كَثيرينَ"، بل بما يتعلق بهم. كان عليه أن يتنبأ لهم وهذا ما نجده يفعله في الأصحاح التالي، ومن هنا فإن الآية الأخيرة من الأصحاح ١٠ تؤدي بشكل طبيعي إلى مشاهد وظروف جديدة، يعالجها الرائي نبوياً. والآن سنتمعن في طابع هذه الخدمة النبوية.


١. انظر المقالة "النبوءة المشهورة عن الأسابيع السبعين".

٢. في الأصحاح ٤ ظهور قوس قزح هو "كظهور الزمرد"، الأخضر الذي لا يشحب أبداً، المريح جداً للعين.

٣. "قوس قزح ما كان يمكن اعتباره على الدوام، في الميثولوجيا الوثنية، كرمز دائم أو شعار لأي إله دائم. لقد كانت لديهم هكذا أفكار عنهم، وحتى أنهم اعتقدوا أنه لم يكن قوس تماماً، بل إله. افترض الإغريق أنه إيريس ابنة ثاوماس وإليكترا. واعتبره الرومان على أنه جونو. وبين البيروفيين كانت أسمى آيات العبادة تُقدم لقوس قزح؛ وذلك في معبد بالشمس في كاسكو، حيث كان قسم منه مخصص كلياً لعبادة قوس قزح، وكانت طغمة من الكهنة مكرسة لإنجاز الخدمات الاعتيادية"- محاضرات على نبوءات يوحنا"، بقلم روبيرت كيلبيرستون، المجلد ١، ص. ٣٨٧. قوس رامي السهام حول رأس بعض الآلهة الوثنية أمر مختلف عن قوس قزح. ما كان الوثنيون يستطيعون فتح السحب أو كبحها، وهكذا يضيف الكاتب السابق قائلاً: "لهذا السبب ما كان لهم الحق بارتداء شارة التمايز هذه". قوس قزح هو رمز بارز للغاية استُخدم حصرياً للدلالة على الكيان الإلهي أو على عرش الله (انظر أيضاً حزقيال ١: ٢٨).

٤. الرعود السبعة يبدو أنها استجابة للأزمنة السبعة التي فيها يُسمع صوت الرب (مزمور ٢٩: ٣، ٩). الرعود السبعة تشير إلى "كمال تدخل الله بالدينونة".

٥. "يوحي النص هنا بشكل واضح على أن يوحنا كان منهمكاً في الكتابة خلال الفواصل بين الرؤى التي يراها"- "ستوارت حول الرؤيا"، ص ٥٨٥. ونشك في صحة هذا القول.

٦. في دانيال ١٢: ٧ الرجل المرتدي كتاناً يُقسم وهو رافع كلتا يديه.

٧. "لقد كان هذا الوصف للملاك موضع إعجاب كل عالم كلاسيكي. بتجريده من معناه الروحي، والنظر إليه كنتاج أدبي فقط، نجد أنه منقطع النظير لا مثيل له لا في الأدب الإغريقي ولا الروماني". وفي ما يلي ثناء بليغ آخر. "يسرنا أن نلاحظ مظهر هذا الشخص المهيب. كل سطوع الشمس يشرق في سيمائه؛ وكل غضب النار يحترق عند قدميه.- انظر كيساءه. السحب تُشكل رداءه، وسحب السماء تطفو فوق كتفيه؛ قوس قزح يُشكل تاجه، وذاك الذي يحيط السماء بدائرة مجيدة هو حلية رأسه- وانظروا وقفته. قدمٌ يطأ بها المحيط، والأخرى على الأرض. الأرض الواسعة الامتداد وعالم المياه يُشكل أساساً لهذه الأعمدة الضخمة.- وتأملوا في تصرفه. يده ترتفع إلى عالي النجوم، ويتكلم، وتردد مناطق الجلَد صدى نبرات صوته المقتدر، كما يدوي في منتصف ليل الصحراء زئير الأسد. السموات تُطلق عنانها عند الإشارة؛ دوي سبعة رعود ينشر الرعب، ويعد الكون لاقتبال أوامره.- لإنهاء المشهد، وإعطاء أكبر فخامة وجلال إلى الصورة، فإنه يُقسم بذاك الحي إلى الأبد".- "تأملات هيرفي".

٨. سر إرادته (أفسس ١: ٩). سر الإثم (٢ تسا ٢: ٧). سر التقوى (١ تيم ٣: ١٦). سر المسيح والكنيسة (أف ٥: ٣٢). سر الله (كول ٢: ٢). سر الكواكب السبعة (رؤيا ١: ٢٠). سر المرأة والوحش (رؤيا ١٧: ٧). سر إسرائيل (رومية ١١: ٢٥). هذه الأسرار وغيرها متمايزة عن سر الله الذي في هذا المقطع أمامنا. السر يدل على شيء كان غير معروف سابقاً ولكنه الآن كُشِف: عندما يُعلن لا يبقى سر بالطبع؛ فهو عندئذ يكون "سراً مفتوحاً". كل الأسرار تُعلن في العهد الجديد. كلمة "سر" لا تأتي في المشورات الأسبق.

الأصحاح ١١

الشهادة اليهودية والبوق السابع

تمهيد:

لقد أشرنا إلى الأسرارية في الأبواق. مهما كانت الصعوبة التي نجدها لدى التفسير الدقيق لرموز وصور معينة فإن علينا أن نسلّم بأن دمار الأراضي والشعوب الأممية التي آمنت بالمسيح محفورة بلا شك في سلسلة دينونات الأبواق ككل؛ المعنى العام الذي تحمله، رغم كونه كامناً تحت رموز غنية، واضح. إنه دينونة العالم المسيحي، الذي هو بالأساس موضوع الأبواق.

ولكن الآن في الرؤيا التي أمامنا الوضع يتغير؛ ننتقل إلى نبوءة معروفة. الأنبياء والمزامير عرّفونا جيداً على حالة الأمور في يهوذا وأورشليم في الفترة الزمنية المشار إليها في أصحاحنا هذا، ومن هنا فإن التفسير بسيط نسبياً. نحن على أساس يهودي. ولكن لماذا يتحول اهتمام التعامل النبوي من الأمميين إلى اليهود، ولماذا تكون أورشليم بارزة في هذه الرؤيا، وفي مركز الحدث؟ الأسباب واضحة تقريباً. التعامل العنائي مع القسم المرتد من العالم الأممي قد أتى إلى نهايته الآن. حكومة الأرض على وشك أن تأخذ المسؤولية على عاتقها، وهي تبقى فقط لتصب جامات غضب الله المُركّز على العالم الآثم. ولكن إسرائيل هو مركز البركة الأممية والدينونة أيضاً. مسار الدينونة يقترب من نهايته. نحن في النصف الثاني من أسبوع دانيال السبعين الشهير المؤلف من سبع سنوات. في ذلك الوقت مركز الإنسان في الحكم الأرضي سيكون روما (رؤيا ١٧: ١٨). مركز الله وموضع عرش سلطانه سيكون في أورشليم. هناك مدن عديدة بارزة، ولكن أورشليم تطفو فوقهم. "هكذا قال السيد الرب: هذه أورشليم. في وسط الشعوب قد أقمتها وحواليها الأراضي" (حزقيال ٥: ٥). أورشليم هي مركز العالم الألفي، والذي منه سيحكم الرب الأمم (أشعياء ٢: ١- ٤)، "مدينة الملك العظيم". زمن الإتيان بالعالم الأممي إلى بركة ليس منفصلاً عن شعب إسرائيل بل مترابط معه بشكل مباشر. "تهللوا أيها الأمم مع شعبه" (رومية ١٥: ١٠). استقرار الأمم، الذين توزعت الأرض عليهم، لا يعود يعتمد على الغزو أو الحرب أو الشراء، بل على مشيئة العلي القدير. "حين قسم العلي للأمم حين فرق بني آدم نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل. إن قسم الرب هو شعبه. يعقوب حبل نصيبه" (تثنية ٣٢: ٨، ٩). هدف الله هو أن يجعل أورشليم المركز الذي يتجمع حوله كل الأمم، وهذا لا يفشل بل يُؤجَل. يُقدّم هذا الأصحاح بين أيدنا المراحل الأولية في تطور هذا الهدف الأرضي المجيد.

اليهود وأورشليم هم في مقدمة النبوءة، ونراهم مُداسين من قِبل الأمم، ويُعانون ظروفاً صعبة في هذه الفترة العصيبة من تاريخهم والتي نجد وصفاً لها في المزمور ٧٩. هنا نجد أولاً العاصفة ثم السكون؛ عذاب بني إسرائيل غير المؤمنين يُصور هنا، ولكن الفرج يأتي في الفجر، وعن هذا يتكلم الأنبياء العبرانيون بإسهاب وجلال.

في بداية الأصحاح يتم تقديم أكثر الرموز اليهودية أُلفةً لنا- الهيكل، والمذبح، والباحة، والمقدس، الخ.

الهيكل وأورشليم:

١، ٢- "ثُمَّ أُعْطيتُ قَصَبَةً شبْهَ عَصاً، وَوَقَفَ الْمَلاَكُ قَائلاً لي: «قُمْ وَقسْ هَيْكَلَ الله وَالْمَذْبَحَ وَالسَّاجدينَ فيه. وَأَمَّا الدَّارُ الَّتي هيَ خَارجَ الْهَيْكَل فَاطْرَحْهَا خَارجاً وَلاَ تَقسْهَا، لأَنَّهَا قَدْ أُعْطيَتْ للأُمَم، وَسَيَدُوسُونَ الْمَدينَةَ الْمُقَدَّسَةَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". "قَصَبَةً شبْهَ عَصاً". القصبة كانت أداة للقياس ١، وتُذكر مراراً وتكراراً من قِبل أنبياء العهد القديم. الهيكل، والمذبح، والمتعبدون، يقيسهم الرائي ما يدل على تكرسهم لله وحفظه لهم وقبوله إياهم. ملاك يحمل قصبة ذهبية يقيس الكنيسة الممجدة (رؤيا ٢١: ١٥). الرائي بقصبة خشبية يقوم بمثل هكذا مهمة في الهيكل. "شبْهَ عَصاً" أو عصا صلبة متينة، ترمز إلى القوة، والرسوخ، والثبات في الفعل الرمزي المشار إليه.

"قُمْ وَقسْ". كان الرائي مذعناً ومع ذلك متفرج مهتم على المشاهد التي يشهدها تحت الأبواق السابقة، ولكن الأمر يتعلق الآن بشعبه إسرائيل الذي يُطلب منه أن "يقوم" ليقيسه. إنه يُقام بأمر إلهي. وهذا أكثر من مسألة موقف عقلي.

الهيكل، والمذبح، والمتعبدون، كلهم يُقاسون. العبادة المسيحية تأتي في الوسط بين تعليق العبادة اليهودية في الماضي واستئنافها في المستقبل. المسيحيون لا يقيمون عبادة على الأرض؛ إنهم لا يدخلون إلى هيكل أرضي. قدس الأقداس في الأعالي هو مكان عبادتهم الأوحد الوحيد (يوحنا ٤: ٢١، ٢٣، ٢٤؛ عبرانيين ١٠: ١٩- ٢٢)؛ وذبائحهم هي التسبيح لله والخير العملي للناس (عب ١٣: ١٥، ١٦). ولكن هذا يختلف جداً عن العبادة اليهودية التي كانت في الماضي أو في المستقبل. الهيكل والمذبح أساسيان للعبادة اليهودية. لا يفترض الأمر وجود هيكل مادي آنذاك في أورشليم، ولكن النبوءة تتطلب تشييد هيكل حجري، وإعادة تأسيس شعب مؤمن بالله خلال الفترة الانتقالية بين انتقال المؤمنين (١ تسا ٤: ١٦، ١٧) وظهور المسيح ثانية (يهوذا ١٤، ١٥).

اليهود كشعب يبقى في حالة عدم إيمان هم وأصدقاءهم الذين يتبنون إيمانهم (أشعياء ١٨). عندها يبدأون ببناء هيكلهم ٢، ويعودون على الشعائر الموسوية. إن الله لا يكون في حركة استعادة اليهود، التي تهدف إلى غايات سياسية. بل يكون معهم عندما يصبحون بقية تقية مؤمنة صادقة مرضية لديه. القمع الأممي والارتداد اليهودي يؤدي إلى معاناة الشهود في ذلك اليوم، والتي ستُميز الساعات الأخيرة من تاريخ ذلك الشعب الجاهل غير المؤمن. "هيكل الله" يُسمى هكذا لأن الله يعترف بالمؤمنين الحقيقيين الموجودين هناك ويقبلهم. المذبح يشير إلى المذبح النحاسي الذي كان يقبع في باحة هيكل العهد القديم. إنه يرمز إلى قبول أولئك الذين يقتربون إليه بإيمان على أساس الذبيحة المقدسة. إن كلمة "هيكل" تشير إلى العبادة، وكلمة "مذبح" تشير إلى قبول البقية التقية من بني إسرائيل. إن البلاط المرفوض والواسع الأرجاء الذي يُعطى للأمميين يرمز إلى ارتداد الشعب ورفض الله لجمهور كبير من المتدينين الذين يعترفون به خارجياً ظاهرياً رغم مساعدة الوحش لهم (أشعياء ٢٨: ١٧- ٢٢). "البلاط" يرمز إلى اليهودية في تحالفها مع الأمميين، وذلك بصفتها الأشد فساداً وارتداداً.

أورشليم مُداسة:

٢- "سَيَدُوسُونَ الْمَدينَةَ الْمُقَدَّسَةَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". أورشليم كأي مكان آخر يُقال عن طابعها القدسي على أنها "المَدينَةَ المُقَدَّسَةَ" (انظر نحميا ١١: ١، ١٨؛ أشعياء ٥٢: ١؛ دانيال ٩: ٢٤، الخ). ستكون مُداسة لفترة محددة تماماً، لـ ٤٢ شهراً. هذه الفترة من الزمن يتم الحديث عنها في مكان آخر على أنها مؤلفة من ١٢٨٠ يوماً (الآية ٣؛ ١٢: ٦)، فتكون زَمَاناً وَزَمَانَيْن وَنصْفَ زَمَانٍ (١٢: ٤). يُشار إليها أيضاً في دانيال ٩: ٢٧ بالعبارة: "وسط الأسبوع". والآن تشير هذه الفترات إلى نصف الأسبوع الأخير من السنوات السبع في نبوءة دانيال (٩: ٢٤- ٢٧) ٣.

الأشهر الـ ٤٢ التي ستكون فيها أورشليم مُداسة ومسحوقة تحت أقدام الأمميين هي أشهر تتألف كل منها من ٣٠ يوماً، وبالتالي فالفترة تصبح ١٢٦٠ يوماً في شهادة المسح التي يحملها الشاهدان أو النبيان. ساعة كرب أورشليم الآتية ستكون لفترة محدودة مؤلفة من ٤٢ شهراً. ستجرع كأس غضب الرب، وتشربه لمدة ١٢٦٠ يوماً. سيدوس الأمميون على الشعب كالقذارة في الشوارع (أشعياء ١٠: ٦، الخ). وحتى أولئك الشعوب الذين سيتصادقون مع اليهود في البدء سيلتفون ويغرقون الشعب المستعاد في انتقامهم. سوف "تُترك (يهوذا التي سيستعيدها تدخل الأمم بقوة) معاً لجوارح الجبال ولوحوش الأرض فتصيف عليها الجوارح وتشتي عليها جميع وحوش الأرض" (أشعياء ١٨: ٦). وهكذا فإن الله سيختار أن يُبقي شعب إسرائيل تحت سطوة أعدائه الأمميين، وذلك في حالة عبادة وثنية وارتداد عن الله والحق (متى ١٢: ٤٣- ٤٥). "فتصير أواخر ذلك الإنسان (يهوذا) أشر من أوائله. هكذا يكون أيضا لهذا الجيل الشرير" (متى ١٢: ٤٥).

الشاهدان اليهوديان:

٣، ٤- "وَسَأُعْطي (القدرة) لشَاهدَيَّ فَيَتَنَبَّآن أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً، لاَبسَيْن مُسُوحاً. هَذَان هُمَا الزَّيْتُونَتَان وَالْمَنَارَتَان الْقَائمَتَان أَمَام رَبّ الأَرْض". المتعبدون في الهيكل هم جماعة متمايزة عن الشاهدين في المدينة. المتعبدون والأنبياء كل منهما يُمثل حقائق الكهنوت والملكية التي تتحد في المسيح خلال فترة حكمه الألفي، "يكون كاهناً على كرسيه" (زكريا ٦: ١٣)؛ وعلى هذا يُصادق الشاهدان. وبخصوص عدد الشهود ٤، تم تقديم تخمينات لا حصر لها، مثل العهدين القديم والجديد، الشريعة والإنجيل، هس وجيروم، الوُلدوويين والبيجينيين، الخ. يفترض آخرون، مع عرض سبب قناعتهم، وفي تقديس ظاهر للكتابات المقدسة، أن الشاهدان هما موسى وإيليا، استناداً على ما جاء في ملاخي ٤ ٥. "اذكروا شريعة موسى عبدي" (ملاخي ٤: ٤) لا تدل على حضور شخصي لمعطي الناموس العظيم في مشاهد الأيام الأخيرة؛ بينما تدل الآية ٥ بشكل واضح على أنها إشارة على أن النبي العظيم سيعود للظهور ثانية في فلسطين: "هئنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف" (ملاخي ٤: ٥). هناك شهادة كاملة وكافية وافية في الفكرة المقصودة عمداً من استخدام عدد الشهود. يبدو لنا أن عدداً أكبر من اثنين هم أمامنا في الأزمة هذه، وأيضاً أن الآية ٨ تفترض جماعة من الشهداء المقتولين. ولكن هذه النقطة غير هامة. الناموس اليهودي، وهنا نحن وسط الظروف اليهودية، كان يتطلب وجود شاهدين لتقديم دليل كافٍ وافٍ (تثنية ١٧: ٦؛ ١٩: ١٥). ومن هنا نجد ملاكين شاهدين على قيامة الرب (يوحنا ٢٠: ١٢)، ورجلين عند صعوده (أعمال ١: ١٠).

٣- "سَأُعْطي". الترجمة الأدق هي "سأُعطي قدرة". فالقدرة أو الكفاءة تُضفى إلى شهادة الشاهدين. وهذا ما يتوافق مع فحوى النص. أيام شهادتهما يُذكر عددها بدقة. ليست شهادتهما في حينها، بل مستمرة يومياً إلى حين استنفاد الفترة المخصصة، وليس بعد ذلك بيوم. لابد أن نلاحظ أن الـ ١٢٦٠ يوماً هي أقل من الثلاث سنوات ونصف بـ ١٧ يوماً ونصف. في نهاية الفترة المشار إليها يُبوق بالبوق السابع، وتنتهي فترة الضيقة، والقوة التي يضطهد بها الوحش قديسي الله تنتهي على نحو مفاجئ (١٣: ٥).

٣- "لاَبسَيْن مُسُوحاً" تشير إلى أن الشاهدين مبتليين بالحزن والضيق (يوئيل ١: ١٣؛ ملوك الأول ٢٠: ٣١؛ إرميا ٤: ٨).

"هَذَان هُمَا الزَّيْتُونَتَان وَالْمَنَارَتَان". لماذا يُرمز إلى هذين النبيين بهذه الرموز على نحو خاص؟ إن في ذلك إشارة واضحة أكيدة إلى زكريا ٤. فأشجار الزيتون والكرمة والتين لكل منها مغزى خاص بها. الزيتون هو الشهادة (رومية ١١). والكرمة هي الإثمار (يوحنا ١٥). والتينة هي إسرائيل كشعب (لوقا ٢١: ٢٩). الشاهدان في أورشليم يُسميان "زَّيْتُونَتَان"، لأنهما كانا يُمثلان في تلك الأيام شهادة الله، ويحفظان نبوياً حقوق المسيح الملكية والكهنوتية. يُقال عنهما أيضاً أنهما "مَنَارَتَان"، لأن نور الروح القدس فيهما. ليس لشهادتهما أي طابع محدد، لأنهما في نور الله الواضح. فالله معهما روحياً وبقوة.

وفوق ذلك، يُقال عن الشاهدان أنهما "قَائمَان أَمَام رَبّ الأَرْض"، وليس الله كما في بعض الترجمات. هناك واحد وواحد فقط هو الذي له الحق والأهلية لكل ما هو هنا أدناه. الرب، مخلّص إسرائيل، له في نفسه حق بالأرض بما لا يقبل الجدل. فهي تخصه. ولكن هذا الحق أُنكر عليه، ومن هنا كانت مقاومة اليهود المرتدين والأمم والصراعات التي نقرأ في الرؤيا تفاصيل الشهادة المؤلمة عنها. الأنبياء يقفون أمام رب الأرض؛ ويعلمون في حضرة مَن هم، وإذ ينظرون إليه بالإيمان، فإنهم يثبتون في حضرة من لا يمكن لبشري رؤيته.

ومن هنا، إذاً، فإن الشهود، سواء كانا اثنين أو أكثر، يشيرون نبوياً إلى فترة تمتد ١٢٦٠ يوماً بدون انقطاع. إن مهمتهما والظروف المؤلمة التي ينقلان ضمنها شهادتهما نجد تعبيراً رمزياً عنها في كونهما "لاَبسَيْن مُسُوحاً". شهادتهما لها قوة وتتميز بنور روحي وسط الحزن والكآبة التي تخيم كسحابة جنائزية على أورشليم المدينة الآثمة، بل المدينة الأكثر إثماً على وجه الأرض.

القدرة المعجزية للشاهدين:

٥، ٦- "وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يُريدُ أَنْ يُؤْذيَهُمَا، تَخْرُجُ نَارٌ منْ فَمهمَا وَتَأْكُلُ أَعْدَاءَهُمَا. وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يُريدُ أَنْ يُؤْذيَهُمَا فَهَكَذَا لاَ بُدَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ. هَذَان لَهُمَا السُّلْطَانُ أَنْ يُغْلقَا السَّمَاءَ حَتَّى لاَ تُمْطرَ مَطَراً في أَيَّام نُبُوَّتهمَا ٦، وَلَهُمَا سُلْطَانٌ عَلَى الْميَاه أَنْ يُحَوّلاَهَا إلَى دَمٍ ٧، وَأَنْ يَضْربَا الأَرْضَ بكُلّ ضَرْبَةٍ كُلَّمَا أَرَادَا". رأينا التركيز في النور والقوة لدى الشاهدين؛ والآن يتقويان ليحميا أنفسهما ويُجيزا مهمتهما إلى إسرائيل "المتمرد" (مز ٦٨: ١٨) بإلقاء دينونة شديدة على أعدائهم، وإظهار علامات تدل على قوة فائقة الطبيعة. فما من أحد، مهما علا شأنه، في منأى عن الدينونة. الموت هو النصيب الأكيد لكل من "يُريدُ أَنْ يُؤْذي" الشاهدين. ما من شك في أن الشهادة سيقبلها البعض، وربما كثيرين (دانيال ١٢: ٣)؛ وآخرون، يفوق عددهم ذلك العدد الكبير، سيرفضون الرسالة بازدراء وتكبر؛ بينما جماعة أخرى ستسعى لإيذاء الشاهدين بالعنف أو الافتراء. وعلى هؤلاء تقع دينونة فظيعة، ليس على الجمع، بل على كل فرد لوحده، لأن معارضة الشهود تدل على طابع عنفي. الآن تعمل النعمة في تخليص نفوس البشر، ولكن عندئذ ستكون الدينونة فعالة في تطهير الأرض من الخطأة الرافضين للمسيح. الفرق بين الدهرين التدبيريين يجب أن لا يتغاضى عنه. المبدأ واضح في المزمورين ٢٢ و٦٩. في الجزء الأول من كلا المزمورين لدينا آلام المسيح. ولكن في الأخير تأثر آلامه أو نتيجتها هي البركة حتى لأطراف الأرض ولكل الزمان المستقبلي (الآيات ٢٢- ٣١)؛ بينما الدينونة الأخيرة تُنفذ على أولئك الذين ساهموا في إيلام المخلّص (الآيات ٢٢- ٢٨). عانى المسيح لأجل الخطيئة (مز ٢٢) وأيضاً لأجل البر(مز ٦٩). عندما سينقضي يوم النعمة سيأتي وراءه يوم انتقام تأكيد.

ولكن بينما تؤكد الآية ٥ على أن الشاهدين لهما سلطة ممنوحة (الآية ٣) ليحميا أنفسهما ويبررا مهمتهما بدينونة صارمة قاسية- وبالتالي سيمارسان من دون ريب سلطة قوية- نجد الآية ٦ تشير إلى مهمة أقوى وأوسع وأشد جرأة. ونجد شهادتهما تشبه كثيراً شهادة موسى التي ترافقت مع المعجزات عندما كان إسرائيل خاضعاً للأمميين (خروج ٧- ١٢)، وكذلك إيليا (الملوك الأول ١٧؛ ١٨) عندما ارتد إسرائيل عن الإيمان بالله. ستكون أورشليم مركز هذه الآيات المعجزية العلنية. ويا لها من شهادة ستكون للشعب المرتد في ذلك اليوم! معجزات موسى التي تتكرر، على الأقل في طابعها، ستُذكرهم بعبوديتهم القديمة في مصر، وتكون نذيراً لخضوعهم للحكم الأممي من جديد؛ بينما معجزات إيليا، التي يتكرر حدوثها قبل الإعلان العلني، ستقود أفكارهم بالتأكيد وترجعهم إلى حالة ارتدادهم السابقة عن الله إلى بعل. الرب، رب الأرض، سيؤكد من جديد حقه وصحة ادعاءاته أمام شعبه المرتد. ومن هنا فإن حالة إسرائيل، وعلى الأقل في يهوذا وأورشليم، مشابهة لتلك التي في أيام موسى وإيليا- أي استعباد وارتداد يستلزمان آيات معجزية موافقة من قِبل الرب. فهنا نجد وصفاً لخدمة للشاهدين على منوال موسى وإيليا.

الوحش والشاهدين:

٧- "وَمَتَى تَمَّمَا شَهَادَتَهُمَا فَالْوَحْشُ الصَّاعدُ منَ الْهَاويَة سَيَصْنَعُ مَعَهُمَا حَرْباً وَيَغْلبُهُمَا وَيَقْتُلُهُمَا". الشاهدان خالدان ولا يُغلبنا إلى أن تكتمل مهمتهما. لقد تنبآ في أورشليم، مركز الاهتمام النبوي والسياسي خلال النصف الأخير من الأسبوع الآتي، وقليلاً بعد انقضاء الأسبوعين، والتي خلالها تُصب الجامات. ولكن الوحش الآن، أي إمبراطورية روما المنتعشة، تظهر إلى المشهد. وهذا هو أول ذكر للوحش في هذه الرؤى الرؤيوية. يُذكر اسمه كشخص معروف. في دانيال ٧: ٢، ٣ ورؤيا ١٣: ١، الوحش، أو روما، يطلع من البحر، أي من جموع البشر المتناحرة، من مشهد من الملكية والتشوش والاضطراب. يظهر ضد المسيح بعد تأسيس الإمبراطورية التاريخي، ومن حالة راسخة من الحكم المدني والسياسي، يتم الحديث عنه على أنه الأرض (رؤيا ٣: ١١). ولكن الوحش في نصنا يُقال بأنه سيأتي "صَّاعداً منَ الْهَاويَة". بمعنى أنه بينما ظهوره التاريخي بشري، إلا أن انتعاشه شيطاني. الوحش كان يخرب في العالم المسيحي، يساعده تابعه السياسي ضد المسيح (الأصحاح ١٣). يهوذا بشكل خاص شعرت باليد القاسية الصارمة للمضطهد (متى ٢٤: ١٥- ٢٨؛ رؤيا ١٢: ١٣- ١٧). ولكن الآن أورشليم نفسها هي التي تُفتقد. الشاهدان في المدينة كانا آمنين، بينما إخوتهما في الإيمان ورفقائهما في الألم كانوا يمرون بفظائع الضيقة العظيمة، فترة البلوى والمحنة التي لا نظير لها في تدوينات التاريخ (مرقس ١٣: ١٩). لقد تصاعد شر الأرض إلى ذروته في المدينة المقدسة. إنسان الخطيئة هناك. ولكن الله يتدخل ليدافع عن خدامه بآيات معجزية وإمارات تدل على القوة والسلطة والدينونة. الشهادة في أورشليم (الآية ٣) متزامنة مع وجود الوحش كقوة مضطهِدة (١٣: ٥). فترة استمرار الوحش هي على الأقل لـ ٧ سنوات، ولكن قدرته على الاضطهاد محصورة بـ ١٢٦٠ يوماً، أو ٤٢ شهراً مؤلف كل منها من ثلاثين يوماً. يُسمح للوحش عندئذ، وفي نهاية حرفته الفعالة، بأن يدخل أورشليم ويقتل الشهود؛ وهذا هو "عمله السياسي الأخير"، كما قال أحدهم. الوحش يبدو منتصراً. إنه يشن حرباً ضد القديسين، ويغزوهم، ويقتلهم.الصلاح والإيمان يبدو وكأنهما يتلاشيان عن الأرض (مز ٤: ٦؛ لوقا ١٨: ٨). السؤال يُطرح حول إذا ما كان سيكون آنذاك موجود على الإطلاق. ولكن قصة الشهود لم تنتهي بعد. دفاع الله، وإن تأجل، فهو لابد حاصل. انتصار الأشرار قصير الأجل، وعن هذا نقرأ الآن، بعد أن وافق الله على شاهديه الأمينين بان يعبرا بشكل علني وواضح. الوحش يفوق في قسوته وتجديفه كل قوة ظهرت على الأرض على الإطلاق. مصيره المشؤوم وكذلك حليفه هو مصير فظيع مريع (١٩: ٢٠).

المعاملة المزدرية التي يتعرض لها الشاهدان المذبوحان والابتهاج العام:

٨- ١٠- "وَتَكُونُ جُثَّتَاهُمَا عَلَى شَارع الْمَدينَة الْعَظيمَة الَّتي تُدْعَى رُوحيّاً سَدُومَ وَمصْرَ، حَيْثُ صُلبَ رَبُّنَا أَيْضاً. وَيَنْظُرُ أُنَاسٌ منَ الشُّعُوب وَالْقَبَائل وَالأَلْسنَة وَالأُمَم جُثَّتَيْهمَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَنصْفاً، وَلاَ يَدَعُونَ جُثَّتَيْهمَا تُوضَعَان في قُبُورٍ. وَيَشْمَتُ بهمَا السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض وَيَتَهَلَّلُونَ، وَيُرْسلُونَ هَدَايَا بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ لأَنَّ هَذَيْن النَّبيَّيْن كَانَا قَدْ عَذَّبَا السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". في هذا المقطع الذي أمامنا لدينا ذكر لجثة وجثتي الشاهدين الذين يتكلم عنهما الرائي. ونلاحظ استخدام كلمة "جثة" بالمفرد للدلالة على معاملة واحدة عامة مزدرية يتعرضان لها. أورشليم تُدعى هنا "الْمَدينَة الْعَظيمَة". وروما (المدنية) وبابل (الأسرارية)، كما كل السلطات البشرية الراسخة ضمن حدود الإمبراطورية، تتم الإشارة إليها- الأصحاح ١٧: ١٨ يدل على الأولى، والأصحاح ١٨: ١٠ يدل على الثانية، بينما الأصحاح ١٦: ١٩ يدل على الثالثة. انحطاط أورشليم الأخلاقي يتم التعبير عنه باستخدام اللقب "الْمَدينَة الْعَظيمَة". لا يُذكر اسمها، بل توصف بأنها "رُوحيّاً سَدُومَ وَمصْرَ". الأولى بسبب الفساد والفجور والشر فيها (تكوين ١٨؛ ١٩؛ يهوذا ٧؛ ٢ بطرس ٢: ٦- ٨)، والثانية لأنها كانت أول من استعبد وقمع واضطهد شعب الله (خروج ١: ١٤). الترجمة الأدق هي "حَيْثُ صُلبَ ربّهما (وليس رَبُّنَا) أَيْضاً". هذه الجملة تمنع إيجابياً التطبيق الأسراري على الكنيسة ٨. المدينة التاريخية أورشليم تحدد هنا بالعمل الذي كان قمة إثمها، ألا وهو صلب "ربهم"، أي، رب الشهداء المذبوحين.

لابد من ملاحظة أن هناك ثلاثة جماعات في هذه الصورة القاتمة: (١) الوحش الذي يقتل الشهود. (٢) أولئك "الأُنَاس منَ الشُّعُوب وَالْقَبَائل وَالأَلْسنَة وَالأُمَم" ٩، الذين ينظرون إلى جثث الأنبياء الملقاة في الشارع أو الأماكن العامة من المدينة، وهكذا يكونون عرضة لنظر الرعاع. إضافة إلى ذلك، فإنهم يُعبرون عن كراهيتهم وازدرائهم في منعهم لدفن الأجساد، هذه العملية المخزية. (٣) "السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض" ١٠، الذين هم أسوأ شعب مرتد على وجه الأرض في ذلك اليوم. كل الجماعات والفئات المذكورة هنا تسكن على الأرض حرفياً، ولكن العبارة المشار إليها هي ذات مغزى وفائدة أخلاقية كبيرة. إنهم مرتدون عن المسيحية، وقد رفضوا عن تصميم وإصرار الدعوى السماوية واختاروا الأرض بدلاً من ذلك. الله له السموات، وهم عازمون ومصممون على أن تكون الأرض نصيبهم ومكانهم. وسكان الأرض هؤلاء هم أشرار وسيئون كالوحش وحلفائه بل وأسوأ. الأمميون المتحالفون مع الوحش يرفضون دفن جثث الشهود المستشهِدين؛ وهؤلاء مسرورون ويتبادلون الهدايا والتهاني على قتل الأنبياء. نلاحظ أن الابتهاج العام هو في زمن الحاضر، بينما إرسال الهدايا هو في زمن المستقبل. إرسال الهدايا في مناسبات الفرح العامة هي عادة عالمية قديمة (أمثال ١٩: ٦؛ استير ٢: ١٨؛ ٩: ١٩- ٢٢). صوت الشهود يُسكت في صمت الموت، وهذا هو سبب الابتهاج العام. في حين أن حقوق الله للأرض عبّر عنها الصوت والآية (الآيات ٣- ٦) المرتدون المسيحيون "يُعذَبون" في ضمائرهم وربما في أجسادهم أيضاً. كلمة الله أينما كُرز بها بأمانة تجعل الناس تعساء. الخطيئة وتبعاتها المريعة هي موضوع مؤلم ومعذب حتى لأكثر الضمائر قسوة وتحجراً.

دفاع الله العلني عن الشاهدين المذبوحين:

١١، ١٢- "ثُمَّ بَعْدَ الثَّلاَثَة الأَيَّام وَالنّصْف دَخَلَ فيهمَا رُوحُ حَيَاةٍ منَ الله، فَوَقَفَا عَلَى أَرْجُلهمَا. وَوَقَعَ خَوْفٌ عَظيمٌ عَلَى الَّذينَ كَانُوا يَنْظُرُونَهُمَا. وَسَمعُوا صَوْتاً عَظيماً منَ السَّمَاء قَائلاً لَهُمَا: «اصْعَدَا إلَى هَهُنَا». فَصَعدَا إلَى السَّمَاء في السَّحَابَة، وَنَظَرَهُمَا أَعْدَاؤُهُمَا". طاقة الحياة، الحياة الأبدية، من الله تصبح فاعلة، والشهود يزدادون قوة وصموداً. يؤدون شهادتهم، ويجتازون محنهم، ويقفون بقوة وثبات في حياة لا يستطيع الموت أن يلمسها. تأثير أو نتيجة هذا العمل القيامي الذي تتم الشهادة له علانية، ثبُت في عيني وضمائر الأمميين المرتدين أنها من الله، وهي تسبب ذعراً وخوفاً. "وَقَعَ خَوْفٌ عَظيمٌ عَلَى الَّذينَ كَانُوا يَنْظُرُونَهُمَا". الأيام الثلاثة والنصف التي تُذكر مرتين (الآيات٩، ١١) هي أيام حرفية. من المستحيل اعتبارها غير ذلك. نحن هنا في مطلع أحداث تختم الأسبوع النبوي الأخير. وعلى الأرجح لن تمر أيام كثيرة قبل أن يعود الرب ليستلم بنفسه زمام السلطة والملكوت. إنه يأتي في نهاية الأسبوع، وإننا على وشك انتهاء هذا الأسبوع. ليس هناك احتمال أو حاجة لتفسير الزمن بشكل يختلف عما هو مذكور حرفياً. الفئات الزمنية الأربع المذكورة في الأصحاح هي حرفية ودقيقة، ومكانها ليس في الماضي التاريخي، بل في الأزمة المستقبلية.

١٢- ثم سمع الرائي "صَوْتاً عَظيماً منَ السَّمَاء". كان هذا صوت الرب أو صوت شخص أعطاه الرب القوة. الصوت كان موجهاً إلى الشهود القائمين في أجساد خالدة ولا تقبل الفساد (١ كور ١٥: ٥٤)، ويقفون في حضرة أعدائهم، وقد غلبهم الخوف. "اصْعَدَا إلَى هَهُنَا". عليهما أن يجدا في السماء مكانهما ونصيبهما. يا له من جواب على الازدراء والخزي والقتل في الأرض! يا له من منظر بالنسبة إلى أعدائهم! سنُختطف في السحب (١ تسا ٤: ١٧)؛ لقد صعدا في السحاب، وليس في غيمة. لماذا "في السحاب"؟ من الواضح أن الإشارة هي إلى سحابة أو غيمة معروفة خاصة، وعلى الأرجح أنها تلك التي نزل بها المسيح (١٠: ١). السحابة هي رمز لحضور الرب (خروج ٤٠: ٣٤- ٣٨). فقط هنا وفي لوقا ٩: ٣٤ نقرأ عن أشخاص يدخلون في سحابة المجد، سحابة الحضور الإلهي.

١٢- "وَنَظَرَهُمَا أَعْدَاؤُهُمَا". قيامة الشاهدين ومغادرتهما الظافرة لمشهد الشهادة والألم تتم الشهادة لها علانية (بالنسبة للأولى انظر الآية ١١، وبالنسبة إلى الأخيرة انظر الآية ١٢). ومن هاتين الناحيتين يختلفان عن تلك المتعلقة بالمسيح والقديسين السماويين. ما من عين بشرية رأت المسيح يخرج من القبر؛ تلاميذه وحدهم شاهدوا صعوده. وليس من إشارة تدل على أن قيامتنا الآتية وانتقالنا إلى السماء سيشاهدها أي أحد على الأرض. بينما نجد الترتيب الذي به قيامة الأبرار، وتحول الأحياء، والانتقال الناتج عن ذلك لكلا الجماعتين من القديسين (١ تسا ٤؛ ١ كور ١٥) نجد تتبعاً له بتفاصيل دقيقة، مع ذلك كل شيء يجري بسرعة حتى يستحيل على العالم أن يرى ما يجري. كل شيء يتم إنجازه "في لحظة في طرفة عين" (١ كورنثوس ١٥: ٥٢).

الدينونة:

١٣- "وَفي تلْكَ السَّاعَة حَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ، فَسَقَطَ عُشْرُ الْمَدينَة، وَقُتلَ بالزَّلْزَلَة أَسْمَاءٌ منَ النَّاس: سَبْعَةُ آلاَفٍ. وَصَارَ الْبَاقُونَ في رُعْبَةٍ، وَأَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء". "في تلْكَ السَّاعَة حَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ". تحت الختم السادس (٦: ١٢)، كما الحال هنا تحت البوق السادس، هناك "زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ"، عظيمة بسبب التأثير الفظيع الناتج عنها. تحت الجام السابعة تقع دينونة أشد فظاعة، تكون كارثية جداً وتفوق كل ما سبقها من دينونات (١٦: ١٨). لا بد أنها تمزق عنيف للمجتمع، بكل نظامه الحكمي والاجتماعي، ذاك الذي يُشار إليه تحت الختم السادس. ولكن هنا في المجال الضيق والموصوف أمامنا نعتقد أن المقصود بها زلزلة حرفية، ستدمر جزءاً من المدينة وتقتل سبعة آلاف- العدد الكامل المعين للموت. كانت أورشليم مشهداً لهكذا افتقادات مشابهة في الماضي، وكذلك ستكون في المستقبل (زكريا ١٤؛ متى ٢٨: ٢). سيكون هناك جيشان في قوى الطبيعة، يحمل خلال سيره تدميراً للحياة والممتلكات، سيكون له تأثير بارز بأن يطبع في ذهن البقية من السكان الآثمين الحقيقة المهيبة بأن تدخل الرب بالدينونة كان حقيقة واقعية قاسية صارمة.

١٣- "سَقَطَ عُشْرُ ١١ الْمَدينَة". ساعة الانتصار للشاهدين كانت ساعة العدالة الجزائية على المدينة التي شهدا فيها، والتي فيها سُفك دمهما بإسراف. إننا نفهم الـ "عُشْرُ" هنا على أنه يرمز إلى الدينونة الكاملة. ومن هنا فإن الضربات العشر على مصر كانت ذروة دينونات الرب المكتملة على تلك الأرض (خروج ٩: ١٤). الوصايا العشر كانت تعبر عن المعيار الكامل لمطالب الرب لشعبه- معيار إطاعتهم له (خر ٢٠).

١٣- "قُتلَ بالزَّلْزَلَة أَسْمَاءٌ منَ النَّاس: سَبْعَةُ آلاَفٍ". في ترجمة أخرى لا نجد العبارة "أَسْمَاءٌ منَ النَّاس" في النص بل نجدها في الحاشية أو الهامش. إن الدقة في الدينونة يبدو أنها كانت مقصودة بدلالة الاستخدام المحدد لعلم المصطلحات اللغوية بالإصرار على ذكر الـ "أَسْمَاء منَ النَّاس". لقد لاحظنا للتو تشابه الظروف التي كان يعيشها اليهود في أورشليم المتبدية في هذا الأصحاح مع ظروف أزمنة الارتداد التي ظهر فيها إيليا حاملاً كلمة الله. فهنا تحدث معجزات من نفس الطابع. قارنوا الجزء الأول من الآية ٦ مع يعقوب ٥: ١٧، ١٨. وبالنسبة إلى العدد "سَبْعَة آلاَف" التي تدل على عدد المعينين للموت من قِبل الله، فإن هذا يُذكرنا بالـ "سَبْعَة آلاَف في إسرائيل" الذين احتفظ الله بهم لنفسه (الملوك الأول ١٩: ١٨)، وهذا تلميح آخر بالتضاد إلى عصر إيليا. ذكر الجماعة المؤلفة من سبعة آلاف تماماً يؤكد على حرفية العدد المذكور في الأصحاح ٧: ٤- ٨؛ ١٤: ٣ في الرؤيا. ما هو أمامنا هو عبارة عن عدد كامل ومكتمل، سواء كان كبيراً أم صغيراً. عدد محدد معين قُدِّرَ له الموت.

١٣- "وَصَارَ الْبَاقُونَ في رُعْبَةٍ، وَأَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء". إن الباقين هم في تضاد مع القتلى السبعة آلاف. ومن هنا فإن سكان أورشليم الآثمين يُشكّلون فعلياً مجموعتين: المقتولين والمحفوظين. هذه الجماعة الأخيرة ترتجف خوفاً. ذراع الله قد رُفعت وها هي ذي تضرب بدينونة فتخاف البقية. تأثير الدينونة المرعبة على المدينة والشعب لا يقود الناجين إلى التوبة والإيمان، ولكنهم في خوفهم يُعطون "مَجْداً لإلَه السَّمَاء". ما لم يُسبر غور الضمير كلياً وتأتي النفس إلى النور لا يمكن أن يكون هناك شركة مع الله. إنهم يبعدونه عن عالم اهتماماتهم. وعندما يغمر الرعب أنفسهم فإنهم يبدون استعداداً ليُعطوا "مَجْداً لإلَه السَّمَاء"، لأن هذا يُبقيه بعيداً. ولكن الشهادة الخاصة لسفر الرؤيا هي لحق الله وأحقيته في امتلاك الأرض، وهذا هو موضوع الجدال مع هؤلاء المرتدين، سواء كانوا يهوداً أم مسيحيين. ومن هنا، فإلى أن يتم الاعتراف بحق الله بالأرض، ستكون هناك حاجة إلى دينونة أخرى وأشد. مطالب الله حاسمة وقاطعة، ولا يمكنه أن يزيد وينقص أي ذرة من مطالبه المحقة. المجد المعطى لإله السماء، بالطريقة التي يُقدمها أولئك المرتدون الخائفون، لا يمكن أن يُنجي من المسار الصارم للدينونة.

الويل الأولى، أو البوق الخامس، تُعلن في زمن الماضي في الأصحاح ٩: ١٢؛ أما هنا في الآية ١٤ فبعد الإشارة إلى الويل الثانية، يضيف النبي قائلاً: "هُوَذَا الْوَيْلُ الثَّالثُ يَأْتي سَريعاً"، أي أن التحقق الأخير هو وشيك الحدوث.

َمَالكُ الْعَالَم لرَبّنَا:

١٥- ١٨- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّابعُ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء قَائلَةً: «قَدْ صَارَتْ مَمَالكُ الْعَالَم لرَبّنَا وَمَسيحه، فَسَيَمْلكُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً الْجَالسُونَ أَمَامَ الله عَلَى عُرُوشهمْ خَرُّوا عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه قَائلينَ: «نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإلَهُ الْقَادرُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ، الْكَائنُ وَالَّذي كَانَ وَالَّذي يَأْتي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ وَمَلَكْتَ. وَغَضبَت الأُمَمُ فَأَتَى غَضَبُكَ وَزَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا، وَلتُعْطَى الأُجْرَةُ لعَبيدكَ الأَنْبيَاء وَالْقدّيسينَ وَالْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار، وَليُهْلَكَ الَّذينَ كَانُوا يُهْلكُونَ الأَرْضَ»". الختم السابع والبوق السابع متشابهان في هذا السياق، بأنه ما من دينونة مباشرة معلنة، وما من أحداث مباشرة ستقع تحتهما (انظر ٨: ١؛ ١١: ١٥- ١٨). التحقق الذي يُحتفل به بشكل كبير في الآيات التي أمامنا لا يُدون أحداثاً ستقع عند إطلاق البوق السابع. ما من شيء يُقال عن نتائج مباشرة تنشأ عن نفخ البوق. وهذا واضح حتى من أدنى تفحص للمقطع الذي نتأمله الآن. المملكة واستلام السلطة، تسبحة الشيوخ، غضب الأمم، وغضب الله، ودينونة الأموات، ومجازاة خدام وقديسي الله تُشكل الحقائق العظيمة والمميزة للملكوت الألفي خلال كل مساره بل وحتى إلى الأبدية. قارن القول "زَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا" بما يرد في ٢٠: ١٢. البوق الأخير يُنفخ فيه. ثم تكتمل طرق الله الحالية الأسرارية مع البشر. الله على وشك أن يتصرف علانية، ويُنزل سلسلة من دينونات قصيرة حادة حاسمة وقوية على السلطة المرتدة الواسعة الأرجاء والراسخة آنذاك التي تسيطر على الأرض، أي الوحش (الأصحاح ١٦). وهذه السلسلة الختامية من التأديبات الإلهية تُرى على أنها تنشأ عن الله نفسه. ليس فيها سر. ولكن قبل أن يبتلي الناس بها، ممالك ربنا ومسيحه العالمية تُعلن من خلال بضعة أصوات عظيمة في السماء. هذا لا يعني أن الملكوت قد جاء فعلاً، بل إنه متوقع. دمار كل القوة والسلطة المعارضة يجب أن تسبق تأسيس الملكوت، وهذا ما تشهد عليه حصرياً الأصحاحات ١٦ إلى ١٩: ١٧؛ ٢٠: ٣.

توقع الملكوت وليس تأسيسه فعلياً، هو سبب الابتهاج في السماء. عندما يتأسس الملكوت بقوة ستتحد الأرض والسماء كلاهما في تسبحة شكر وفرح. ونكرر أنه في السماء فقط يُحتفل بالملكوت الآتي. بينما الابتهاج يميز سكان السماء- أي الملائكة والمفديين- تستعد الأرض للدخول إلى آخر آلام احتضارها قبل أن يبزغ فجر نور الألفية فيبدد الظلمة. في السماء فقط يستلم ربنا ومسيحه الملكوت؛ وهناك فقط يُحتفل به. البوق السابع لا يأتي بالملكوت، بل يشير إلى اقترابه. الملاك القوي في ١٠: ٦، ٧ كان قد أقسم أنه عند إطلاق البوق السابع سيكتمل سر الله وبلا تأجيل أو توانٍ. وهنا يُظهر تحقيق قسمه وكلمته. البوق يُنفخ، فيشاهد الجميع دينونة مفتوحة وعلنية تأتي من السماء ما يدل على أن الله الآن قد قام ليتدخل علانية في أمور الناس. إلا أننا مدعوون لنرى هذه التأديبات الجزائية الأخيرة على العالم المرتد، السماء في هدوئها تتطلع إلى الابتهاج بتأسيس الملكوت القريب.

الترجمة التي لدينا هنا تقول: "مَمَالكُ الْعَالَم". ولكن هناك ترجمات أخرى تقول: "مِلْك (أو ملكوت) العالم". قد يبدو الفارق تافهاً، ولكن الواقع ليس كذلك. "مَمَالكُ الْعَالَم" توحي في الحال بعدة ملوك ومصالح عديدة متضاربة متصارعة، ومشاعر غيرة وحسد بين الدول، وما شابه ذلك، في حين أن "مِلْك (أو ملكوت) العالم" لربنا ومسيحه تشير إلى ملكوت عالمي يُغطي كامل الكرة الأرضية؛ فكل أقسام الأرض تأتي إلى خضوع لذلك الملك الوحيد الذي يسود عليها. حكم الأرض سيستلمه ذاك الذي سيسطر على كل الشر ويؤسس البر. حكمه الخيِّر سيكون على تضاد سار من كل النواحي مع الحكومات والحكّام الملكيين في الماضي والحاضر. الفكرة المقصودة هي ملكوت واحد لا ينفصم وعالمي سيشمل كل الأرض ويكون بالعدل والسخاء.

بعد ذلك، يُقال أن فترة الحكم هي "إلَى أَبَد الآبدينَ"، أي طوال كل زمن الآتي، طالما أن الشمس والقمر والأرض تدوم (مز ٧٢: ٥، ٧، ١٧). يمتد الحكم إلى الأبدية. ولن يتوقف أبداً.

الأصوات الكثيرة للقوات السماوية تجد تجاوباً لها بفعل عبادة راسخاً بشكل منقطع النظير من جهة الشيوخ أو ممثلي المفتدين. مكانهم الاعتيادي هو أن يكونوا مكللين ومتوجين أمام الله. يسجد الشيوخ مرتين في الأصحاح ٥ متعبدين لله (الآيات ٨، ١٤). أما هنا فيُكتفى بالقول : "خَرُّوا عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه". وليس من مكان آخر أو مثال آخر نسمع فيه عن الشيوخ يسجدون على هذا النحو. المناسبة تتطلب ذلك. ثم يأتي التسبيح من فم الشيوخ الذي لا يبتهجون فيه فقط بل يقدمون أسباباً عقلية تبرر قيامهم بذلك ١٢ (انظر ٥: ٥، ٨- ١٠؛ ٧: ١٣- ١٧، الخ). هناك ٧ تسابيح تُذكر في مسار هذه الرؤى الرؤيوية، والتي تشكل هذه واحدة منها. وهذه تُقدم باهتمام بالغ (٥: ١٢؛ ٧: ١٢؛ ١١: ١، ٥؛ ١٢: ١٠؛ ١٤: ٢؛ ١٥: ٢؛ ١٩: ١).

يُقدم الشكر للرَّبّ الإلَه الْقَادر عَلَى كُلّ شَيْء، هذا الجمع القوي للألقاب الإلهية. الرب الكائن بذاته؛ الله (إيلوهيم)، الذي هو الخالق أيضاً؛ القادر أيضاً بالقوة، في مصادره. ثم تُعلن سرمدية كيانه، "الْكَائنُ" (الأزلي الوجود)، و"الَّذي كَانَ" في ما يتعلق بالماضي، و"الَّذي يَأْتي" بما يشير إلى المستقبل.

١٧- "أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ وَمَلَكْتَ". من اللافت أن نلاحظ أنه بينما الملكوت هو للرب ولمسيحه أو الممسوح (مز ٢)، مع ذلك فإنه يأخذه، وليس هم الذين يأخذونه. بينما الرب والمسيح متمايزان هنا كل بمفرده، مع ذلك فإنهما يتحدان في أخذ الملكوت واستلام الحكم التالي، ومن هنا الاستخدام صيغة الضمير المفرد (أَخَذْتَ)، بينما يتوقع المرء استخدام الجمع. ونلاحظ استخدام العبارة "قُدْرَتَكَ الْعَظيمَةَ"، أي كامل القدرة الإلهية، قدرة الله الأبدي السرمدي نجدها هنا، والملكوت بأوسع امتداده يُعانق السموات والأرض، ويمتد في الزمان إلى الأبدية، وقد سُحب من قبضة العدو، ونجد استخدام العبارة "وَمَلَكْتَ" في زمن الماضي للتأكيد على الحقيقة.

بعد ذلك، نجد عبارة عرضية توجز تاريخياً شعور الأمم نحو الله وشعبه- السماوي والأرضي- ألا وهي أن "وَغَضبَت الأُمَمُ" وقد وردت في الزمن الماضي. "فَسيأتي غَضَبُكَ". لاحظوا الفرق في الأزمنة. غضب الأمم "أتى" ولكن غضب الله "سيأتي".

١٨- "زَمَانُ الأَمْوَات ليُدَانُوا" تحملنا في الفكر إلى نهاية الملكوت (٢٠: ١٢). دينونة الأمم (متى ٢٥: ٣٢) هي عند بدء فترة حكم الملكوت؛ وهي دينونة العالم، أو الأرض المأهولة (أعمال ١٧: ٣١)، خلال كل مسارها أو مدتها؛ بينما الأموات يدانون بعد أن يكون الملكوت الأرضي قد زال وانقضى (رؤيا ٢٠: ١١، ١٢).

١٨- "لتُعْطَى الأُجْرَةُ"، الدينونة والمكافأة كلاهما هي أفعال مميزة للملكوت. توزيع المكافأة عام وخاص بآن معاً. مكافأة البقية والمجد يُمنح على جميع قديسي الله سواسية. ولكن هناك أكاليل ومكافآت خاصة. وفي الملكوت نفسه هناك درجات ومستويات مختلفة من الكرامة لابد أن نفكر فيها. ولذلك فإن "الأُجْرَةُ" ليست فقط جواب الله على حالة شعبه المبتلي هنا، بل يُقابل أيضاً المواقف العديدة والمتميزة التي سيشغلونها في الملكوت. المكافأة لهؤلاء الأخيرين ستتناسب مع أمانة ومعاناة وخدمة كل قديس بمفرده.

١٨- "عَبيدكَ الأَنْبيَاء وَالْقدّيسينَ وَالْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار"، هم الأشخاص المعينون الذين تُعطى لهم "الأجرة". هناك ثلاث فئات يُشار إليها: (١) "عَبيدكَ الأَنْبيَاء" من الواضح أنهم أولئك الذين شهدوا لله في جميع العصور والأجيال. الشهداء الذين في أصحاحنا يُسمون "أنبياء" (الآيات ٣، ١٠)، ومن هنا التعبير "عَبيدكَ" يجب أن يُفهم بمعنى أضيق من ذاك المستخدم في الأصحاحات ١: ١؛ ٢: ٢٠؛ ٢٢: ٣. إنه يُستخدم في ٧: ٣ للإشارة إلى المختومين من بني إسرائيل. "العبيد" هنا يُضاف إليهم الصفة "أنبياء": "عَبيدكَ الأَنْبيَاء". أن تشهد لله في أيام مظلمة وشريرة هي خدمة لا ينساها الله أبداً. وكل من يفعل ذلك هم خدامه وعبيده على نحو خاص. (٢) "الْقدّيسينَ". هذه العبارة شائعة في العهد الجديد لتشير إلى جسد المؤمنين العام، ولا تُستخدم في نصوص العهد الجديد للدلالة على جماعة مختارة. إنها اللقب المشترك للمفديين في كلا العهدين. (٣) "الْخَائفينَ اسْمَكَ، الصّغَار وَالْكبَار". هذه الجماعة الأخيرة تضم كل من يتميزون بأنهم يعترفون باسم الرب. لاشك أن هناك كثيرين محتجبين في جميع العصور كان انعزالهم المعنوي عن العالم ضعيفاً حتى يصعب إعطاءهم لقب "قديسين" ١٣. ولكن هناك أولئك الذين يخافون اسم الرب في جميع طبقات وفئات المجتمع. العبارة الفنية "الصّغَار وَالْكبَار" تدل على الحالة الخاصة بكل واحد في العالم وأمام الله (انظر ١٣: ١٦؛ ١٩: ٥، ١٨؛ ٢٠: ١٢). ومن هنا فإن أولئك الذين يخافون اسمه، أينما وُجدوا، سواء كانوا ذي مرتبة عالية أو منخفضة، يأتون هنا لأجل أن ينالوا مكافأتهم أو أجرتهم الخاصة.

١٨- "وَليُهْلَكَ الَّذينَ كَانُوا يُهْلكُونَ الأَرْضَ". أي، حان الأوان أيضاً عندما سيُدمر أولئك الذين دمروا الأرض بأنفسهم، أي الوحش وضد المسيح وأتباعهما. الفئة الأخيرة جماعة تغاير أولئك الأموات الذين يُدانون. فعلة الشر الفعالين الذين أفسدوا الأرض انذهلوا بعملهم الفظيع، ويخضعون في الحال إلى الدينونة الإلهية. الأرض للرب، جزء من ذلك الإرث اشتراه المسيح وعلى وشك أن يُفتدى بالقدرة (أفسس ١: ١٤)، ومن هنا يجب أن يُزال منه كل من يُدمرهم، سواء جسدياً على يد الوحش أو معنوياً على يد معاونه ضد المسيح.

مراجعة الموقف:

يُفتتح الأصحاح بذكر هيكل ويُختتم بذكر الهيكل أيضاً (الآيات ١ و١٩)، والأخير فقط يستهل سلسلة جديدة من الأحداث، ويستأنف التاريخ العام. الآية ١٩ لا تشكل أي جزء من الرؤيا السابقة. مادة موضوع الأصحاح تُختتم بالآية ١٨.

وننتقل من الجزء الممتع المتعلق بالملاك المقتدر والظروف الراهنة فيه (الأصحاح ١٠) إلى الأساس اليهودي (الأصحاح ١١). نقف في أورشليم، التي تُدعى هنا "المدينة العظيمة" ١٤. قبول الله للمتعبدين الحقيقيين يُشار إليه بقياس الهيكل والمذبح بينما رفضه لليهودية المرتدة يُعبر عنه في الدار حيث هناك مَنْ طُردوا خارجاً (الآيات ١، ٢). جمع الناس يتحالفون مع الأمميين، ثم يتمردون على الله والحق علانية. يجب أن لا ننسى أن من أمامنا ليس الوثنيون بل العالم المسيحي الذي هو أسوأ بكثير. ولكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد وسط جيشان الفساد في أورشليم، التي كانت ألعوبة ودمية في يد الشيطان. تظهر شهادة خاصة في المدينة، متميزة عن غيرها ولا مثيل لها في أي مكان آخر. الشهود، أو الأنبياء (إذ يُطلق كلا الاسمين عليهما)، يُمنحون قدرة عجائبية. فيجترحون المعجزات، ويحمون أنفسهم بعلامات تدل على طابع إلهي لمدة ١٢٦٠ يوماً. الاستعباد للأمميين والمرتدين عن الله يميز الحالة العامة ليهوذا، وخاصة أولئك الذين في مدينة أورشليم. ومن هنا فإن المعجزات التي تُجرى تشابه تلك التي في أيام موسى وإيليا. إن العجائب والأشخاص كلاهما متشابهان (الآيات ٣- ٦).

الوحش الذي شق طريقه من روما- مركز القوة الأممية، المدنية والكنسية- إلى أورشليم، يقتل ويسلب وينهب مستمتعاً بأفعاله، ولكن قوته وفترة وجوده كلاهما تحت سيطرة الله. ليس الحديث هنا عن ظهوره التاريخي "طَالعاً منَ الْبَحْر" (١٣: ١)، بل عن انبعاثه الشيطاني "الصَّاعدُ منَ الْهَاويَة" (١١: ٧). توصف أورشليم على أنها فاسدة منحطة أخلاقية مثل سدوم، وحافلة بالعبادات الوثنية مثل مصر، وتضاف إليها وصمة العار "حَيْثُ صُلبَ ربُّهُم (وليس رَبُّنَا) أَيْضاً". في المدينة التي توصف على هذا النحو، تُلقى جثث القتلى خارجاً في الأماكن العامة وتُحرم من الدفن. ويجتمع في المدينة جميع الفئات والممثلين عن العالم المرتد، مركزين أنظارهم على القتلى، الذين يشمت بهم من هم أسوأ منهم، أولئك الذين يُقال عنهم بأنهم "السَّاكنُونَ عَلَى الأَرْض" (الآيات ٨- ١٠). ولكن وسط المشهد من الابتهاج العالمي، يتدخل الله ويصون شهوده بمنحهم، على مرأى كامل من أعدائهم، قيامة عامة وانتقالاً إلى السماء (الآيات ١١، ١٢). يلي ذلك وقوع الدينونة على المدينة وسكانها الآثمين. وما من خلاص يصيب البقية التي تُحفظ، بل فقط، وفي خوفهم العظيم، "أَعْطُوا مَجْداً لإلَه السَّمَاء" (الآية ١٣).

الويل الثانية، أو البوق السادس، يُعلن عنهما على أنهما في الماضي، "الْوَيْلُ الثَّالثُ يَأْتي سَريعاً" (الآية ١٤). ثم يُبَوّق الْمَلاَكُ السَّابعُ، فَتحَدَث في الحال "أَصْوَاتٌ عَظيمَةٌ" في السَّمَاء قَائلَةً: "قَدْ صَارَ مِلك الْعَالَم لرَبّنَا وَمَسيحه". أقوام مختلفة منفصلة وهيئات سياسية متنوعة قد تتواجد تحت حكم المسيح، ولكنها جميعاً تقر بحكمه، وجميعها هي تحت سلطانه، وتمارس دورها في الحكم خاضعة لذاك الذي هو "ملك الملوك ورب الأرباب". الصراع بين الله والشيطان، كما هو مفصل في سفر الرؤيا، هو ليس من أجل أي من تلك الممالك المنفصلة في العالم، بل هو على العالم ككل؛ إنه يصبح ملكوت ربنا ومسيحه. جلال العالم كله هو موضوع خلاف. حكمه الأبدي، أي إلى أبد الآبدين، هو موضوع الاحتفال، وليس ذلك على الأرض، بل في السماء. التأسيس ملكوت العالم هو المتوقع أو الحدث المستبق، ولكن لم يأتِ بعد فعلياً؛ وعندما يحصل، فعندها الأرض والسماء ستشتركان في الاحتفال بمزاياه وأمجاده: "يا جميع الأمم صفقوا بالأيادي"، أي الأمميين. إن كان هناك فرح في السماء حيث يتوقع الملكوت (الآية ٥)، سيكون هناك حزن على الأرض.

بعد ذلك يستلم الشيوخ اللحن، ويعبدون الله بعمق محتفين بعظمته وأبدية كينونته، شاكرين إياه لأنه أخذ قوته العظيمة وسلطانه. سلطة الملكوت تعتبر حقيقة منجزة، رغم أنها لم تأتِ عملياً بعد آنذاك. بعد ذلك يباشر الشيوخ إفادة تكون من الجرأة والاكتمال بمكان لا يبقى من شيء آخر يُرجى معها. تُذكر حقائق الملكوت العظيمة البارزة. الأمم غاضبة، غضب الله يأتي ١٥، دينونة الأموات، مكافأة شعبه، وأخيراً هلاك أولئك الذين يكونون فاسدين آنذاك على الأرض (الآيات ١٦- ١٨). هذه الآيات الثمانية عشر مفعمة بالفائدة، وتحتاج إلى دراسة متأنية فعلاً. فالكثير من التبصر الروحي في ما يتعلق بحالة أورشليم ومشاعر وممارسات اليهود خائفي الله داخل وخارج المدينة، في الوقت الذي يتحدث عنه هذا الأصحاح يمكن التقاطها من خلال دراسة متأنية للطابع النبوي لسفر المزامير، هذه الدراسة التي لم تلقَ الاهتمام الذي تستحق.

تذكر الله لإسرائيل:

١٩- "وَانْفَتَحَ هَيْكَلُ الله في السَّمَاء، وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْده في هَيْكَله، وَحَدَثَتْ بُرُوقٌ وَأَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَزَلْزَلَةٌ وَبَرَدٌ عَظيمٌ". سفر الرؤيا، كما لاحظنا، مقسم إلى ثلاثة أقسام- ماضٍ، وحاضر، ومستقبل (١: ١٩). ولكن بالإضافة إلى هذا التقسيم الثلاثي لدينا محتويات السفر مرتبة ضمن جزأين كبيرين. الآيات الثمانية عشر في هذا الأصحاح تُدون آخر فعل تاريخي- دينونة الأموات. ليس من تاريخ بعده. هذه الجلسة القضائية الأخيرة والأكثر مهابة وإجلالاً تُعقد بعد أن تكون السموات الألفية قد زالت والأرض احترقت، وقبل ظهور السماء والأرض الأبديتين الجديدتين إلى الوجود. دينونة الأموات (٢٠: ١٢)، إن أمكننا القول، هي الرابط بين الزمان والأبدية. في الجزء الأول من الرؤيا (١- ١١: ١٨) ينكشف لنا التاريخ العام للكنيسة وإسرائيل والعالم منذ نهاية القرن المسيحي الأول تقريباً وانتهاءً بالملكوت. الجزء الثاني يبدأ بالآية ١١: ١٩ ويحتل بقية السفر. في هذا الجزء نجد الكثير من التفاصيل الهامة الشيقة، والشيطان مكشوف أكثر في الواجهة، القضايا النهائية المتعلقة بالكنيسة وبالعالم تنكشف بشكل أكمل مما في الجزء الأول من السفر. لذلك فإن الآية ١٩ ترتبط بالأحداث التي سوف تُكشف، ولا يجب أن تعتبر كجزء أو قسم مما تم كشفه للتو. الأصحاح ١٢ يبدأ حقاً بالآية ١٩ من الأصحاح السابق. وفي ما يلي لدينا نبوءة جديدة كلياً، تبدأ بالآية ١٩ وتُختتم مع الأصحاح ١٤. إنها تتعلق بشكل رئيسي بإسرائيل، كما تظهر الرؤى الافتتاحية. في الأصحاح ١٢ تُشاهد في السماء مصادر الخير والشر. في الأصحاح ١٣ خادما الشيطان الرئيسيان على الأرض نراهما في عداءٍ شديد ضد الله وقديسيه. وفي الأصحاح ١٤ هناك سلسلة مؤلفة من سبعة أحداث تنكشف لنا وتكون فيها فعالية الله واضحة بالنعمة والدينونة.

١٩- "وَظَهَرَ تَابُوتُ عَهْده في هَيْكَله". لا شيء من ذلك، أي الهيكل أو تابوت العهد، المقدسين والكبيري الاعتبار في التاريخ اليهودي، يكون له مكان في السماء فعلياً. "لم أرَ فيها هيكلاً"، يقول الرائي في رؤيا تالية (٢١: ٢٢). فإلامَ ترمزان إذاً؟ ما القيمة المعنوية والدروس المستخرجة من أولئك "الذين انتهت إليهم أواخر الدهور"؟ الهيكل هو علامة على أن الله يشغل فكر واهتمامات إسرائيل، وعندما يُرى في السماء، فهذا يعني أن الله في السماء مهتم بشعبه الذي هو على الأرض. تَابُوتُ عَهْده علامة على حضور الرب مع شعبه الأرضي وأمانته الدائمة له. قوس قزح حول العرش (٤: ٣) والذي يحيط برأس ملاك القدرة (١٠: ١) هو علامة لكل من يرونه عهد الله مع الخليقة، هذا العهد المليء بالصلاح والخير والرحمة. تَابُوت العَهْد هنا وإذ يحوي لوحي الشريعة، والذي يعلوه الغطاء الذهبي الصافي أو كرسي الرحمة، يحكي قصة غنية بالنعمة لإسرائيل. ما كان قوس قزح بالنسبة إلى الخليقة، كان هكذا تابوت العهد بالنسبة لبني إسرائيل ١٦، بل وأكثر.

١٩- "حَدَثَتْ بُرُوقٌ وَأَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَزَلْزَلَةٌ وَبَرَدٌ عَظيمٌ". هذه التعابير تدل بشكل منفصل أو مجتمعة على عاصفة من الغضب الإلهي، مصدرها السماء. لقد لفتنا الانتباه لتونا إلى أهمية ومغزى هذه التعابير في أجزاء سابقة من تفسيرنا وعرضنا لسفر الرؤيا. البَرَد من السماء، وهنا يُقال عنه بَرَد عظيم، يشير إلى حدة وفجائية الدينونة على الأرض، وأيضاً مصدرها كما يبدو واضحاً من الله (خروج ٩: ١٨- ٢٥؛ رؤيا ٨: ٧؛ ١٦: ٢١). اتحاد العناصر المدمرة لا يُستخدم عندما يكون العرش مؤسساً. ليس من حاجة إليه، لأن الدينونة ستبدأ عندئذ من العرش على الأرض، وليس، كما هنا، من السماء.


١. في حزقيال ٤٠: ٣ عصا القياس تُطبق على الهيكل؛ ثم تُقاس المدينة نفسها (زكريا ١: ١٦). وهذان كلاهما، أي الهيكل والمدينة، مخصصة لله في الحكم الألفي. تبدو هناك فكرتان متمايزتان متعلقتان بالقياس. الأولى، هي التقديم أو التكريس لله، كما في لمقاطع الأولى السابقة؛ والثانية، المخصصة للهلاك من قِبل الله، مثل موآب (٢ صم ٨: ٢)، وأورشليم (مراثي إرميا ٢: ٨)، وإسرائيل (عاموس ٧: ٨، ٩، ١٧).

٢. في ما يلي الهياكل المادية التي تشير إليها كلمة الله: هيكل سليمان (الملوك الأول ٧) الذي دمره نبوخذنصر عام ٥٨٨ ق.م وهيكل زروبابل (عزرا ٣؛ ٦) الذي تعرض للسلب وكُرّس لإله جوبيتر الوثني على يد أنطونيوس أبيفانيس، عام ١٦٨ و١٧٠ ق.م. وهيكل هيرودس (يوحنا ٢: ٢٠)، الذي أُعيد بناؤه وبشكل رائع فائق الوصف عام ١٧ ق. م. وهيكل ضد المسيح (٢ تسا ٢: ٤)، الذي ستبنيه يهوذا المستعادة. وهيكل المسيح الألفي (حزقيال ٤٠)، الذي سيكون جديداً كلياً وضخماً ورحباً واسعاً. أي خمسة هياكل بالإجمال. أما الكنيسة (١ كور ٣: ١٦) وأجساد المؤمنين (١ كور ٦: ١٩) فتم الحديث عن كل منها على أنها هيكل لله. أورشليم هي المدينة الوحيدة على الأرض التي بُني فيها هيكل حجري لله. قوة كلمة "هيكل" في رؤيا ٧: ١٥ تشير إلى حشد هائل من الأمميين المتعبدين لله؛ وعلى الأرجح أن هؤلاء يُصلّون ويعبدون الله في الهيكل الألفي حرفياً الذي سيكون "بيت صلاة لكل الشعوب" (أشعياء ٥٦: ٧).

٣. انظر المقالة المنفصلة: "النبوءة الشهيرة للأسابيع السبعين".

٤. "أوافق في الرأي لاومان، نيوتن، وودهاوس، كنينغهام، وآخرين في أن علينا أن نفهم من الشاهدين أنه عدد كاف واف بالغرض لخدام المسيح المخلصين"- "ملاحظات على الرؤيا"- بيردر.

٥. لقد كانت هناك فكرة قديمة بأن بعضاً من أنبياء العهد القديم سيظهرون من جديد قبل المجيء الثاني للمسيح. "بالنسبة إلى هذان الشاهدين على الإيمان، لعله يمكن الافتراض، كما كان لدى جميع القدماء، أن النبي إيليا هو أحدهما، بسبب الفكرة الواسعة الانتشار، وطالما أنه قد حُمل إلى السماء بدون أن يموت، فإنه سيعود في وقت المسيح، أو كسابق له بحسب ملاخي ٤: ٥. وكان القدماء يفترضون عموماً أن الشاهد الآخر هو حنوك، خاصة لأنه كان يُفترض فيه، وبحسب تكوين ٥: ٢٤، بأنه سيُنقل إلى السماء وهو حي".- "محاضرات بليك على سفر الرؤيا". ص.٢٥٢.

٦. مثل إيليا (يعقوب ٥: ١٧، ١٨).

٧. مثل موسى (خروج ٧: ١٧).

٨. "أورشليم تشير إلى الكنيسة"-"تفسير هنغستنبرغ للرؤيا"، المجلد ١، ص. ٤٠٣.

٩. هذا التوزيع للعائلة البشرية إلى أربع تقسيمات يعبر عن العالمية (انظر أيضاً رؤيا ٧: ٩؛ ١٠: ١١). وفي هذا المرجع الأخير "الملوك" هم البديل عن كلمة "قبائل"، إذ أن الحديث عن سلطات عظيمة- للحاكمين والمحكومين.

١٠. انظر التعليق على الأصحاح ٣: ١٠.

١١. لإيضاح هذا العدد وغيره، انظر "العدد في الكتاب المقدس: المعنى الفائق للطبيعة والمغزى الروحي"، بقلم E. W. Bullinger, ‎D.D.

١٢. "الأصوات في السماء تعلن حقيقة حكم الرب ومسيحه بحسب المزمور ٢، وأنه (كما يفعل يوحنا دائماً إذ يوحد بينهما) سيحكم إلى أبد الآبدين، وهذا ما سيكون. ولكن يتم الاحتفال بكلا الملكوتين الأرضي والأبدي. ولكن الملكوت الأبدي وحده نجد فيه تمايزاً إذ لا نجد فيه ملكوت المسيح العالمي. في الشكر الذي يقدمه الشيوخ يتم الاحتفال بالرب وإيلوهيم وشداي على أنه الملك العظيم الذي سيمسك زمام السلطان ويحكم، لأن هذا هو ملكوت الله"- "موجز أسفار الكتاب المقدس"، المجلد ٥، ص. ٥٣٤.

١٣ اللقب "قديس"، كما يُستخدم في العهد الجديد، لا يُشير أبداً إلى حالة عملية ومتقدمة من القداسة- بمغزاه اللاهوتي. القديس هو المنعزل، كما تدل الكلمة التي تشتق منها، ولكن هذا الانعزال أو الانفصال عن العالم هو نتيجة دعوة من الله. القديسون المدعوون، أو القديسون بالدعوة (انظر رومية ١: ٧؛ ١ كور ١: ٢): "المدعوين ليكونوا قديسين" هي عبارة يُساء فهمها. والأصح هو القول "المدعوين قديسين". عندما وصلت دعوة الله إلى نفوسهم وضمائرهم صاروا قديسين.

١٤. يرد ذكر العبارة "المدينة العظيمة" تسعة مرات في سفر الرؤيا، ولكن لا تأتي أبداً بمعنى جيد أو قدوس. الأصحاح ٢١: ١٠ يبدو استثناءً في الظاهر، ولكن الصفة "عظيمة" يجب أن تُنزع منها كما ورد في إحدى الترجمات.

١٥. ويل الشيطان كانت بشكل خاص على اليهود؛ ويل الإنسان، بشكل خاص على أهل الإمبراطورية اللاتينية؛ هذه ويل الله عندما تكون الأمم غاضبة، وغضب الله سيأتي، وستكن هناك تصفية حساب كاملة، وانعتاق نهائي مستقبلي"- J.N.D.

١٦. لا نعرف إن كان تابوت العهد قد نال نفس مصير الهيكل، الذي كان قد احترق بعد شهر من نهب الكلدانيين لأورشليم (إرميا ٥٢: ١٢، ١٣)، أو كان قد أخفاه إرميا بحسب التقليد اليهودي (إذ كان النبي في المدينة خلال كل فترة الحصار)، أو إن كان من بين الأواني التي حملها الغزاة إلى بابل. بالتأكيد إن تابوت العهد لن يبصر النور في المستقبل، رغم كل الفرضيات والتخمينات التي تقول بالعكس. وعن هذا يتحدث إرميا بشكل يوحي بأنه غير متأكد (٣: ١٦). تابوت العهد، علامة حضور الرب وأمانته، سوف لن تكون هناك حاجة له في أيام الملكوت المزدهرة، لأن ما يرمز إليه سيكون قد تحقق آنذاك فعلياً. الرب سيكون قد منح نعمته التي لا تتبدل لشعبه، وعرشه وحضوره في وسطهم سيبطل بشكل مجيد تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل اللذين في العهد القديم. كان تابوت العهد بالنسبة إلى إسرائيل العلامة والإمارة على النعمة (يشوع ٣: ١٤- ١٧)، وبالنسبة للوثنيين غير المختونين لم يفعل سوى أنه استجلب الدينونة عليهم (صموئيل الأول ٥). في الحالة الأولى كان الشعب مفدياً، ومن هنا فإن حضور الرب معهم كان بركة؛ أما في الحالة الأخيرة فلم يكن الشعب مفدياً ولذلك فإن حضور الرب كان لا يُحتمل.

الأصحاح ١٢

الأحداث كما يراها الله

المرأة والابن الذكر:

١، ٢- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء: امْرَأَةٌ مُتَسَرْبلَةٌ بالشَّمْس، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسهَا إكْليلٌ من اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً، وَهيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخّضَةً وَمُتَوَجّعَةً لتَلدَ". قلنا للتو أن الأصحاحات ١٢ و١٣ و١٤ تشكل نبوءة واحدة مترابطة مع بعضها. إننا نعتبر هذا القسم في غاية الأهمية لدارسي النبوءات. إن فهماً عقلانياً له سيُمكن كل ذي فكر ورع من فهم الحالة النبوية بشكل واضح. يا له من امتداد! من ميلاد المسيح (الآية ٥) إلى أن يطأ معصرة غضب الله (١٤: ٢٠)- امتداد مؤلف من ألفي سنة تقريباً! من ضعف ذلك الطفل الرضيع إلى تجلي قوته العظيمة في الدينونة. وهذا التاريخ المذهل مشتمل بالرمز والكلمة ضمن نطاق الآيات الـ ٥٥.

١- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظيمَةٌ في السَّمَاء"، وليس "أعجوبة" كما في بعض الترجمات. "الأعجوبة" أمر مذهل. بينما "الآية" لها معنى وتدل على موضوع معين محدد (١٥: ١). الصفة "عظيمة" تُستخدم لست مرات في هذا الأصحاح، وهي إحدى المواضيع الهامة. أول عظيمة تظهر، في الترتيب وليس في العظمة، هي امرأة. الابن الذكر هو الموضوع البارز في هذا الأصحاح. المرأة ليست السماء فعلياً، بل على الأرض. الآية هنا فقط. لماذا عظمتها "في السَّمَاء" بينما ألمها على الأرض؟ هذا هو فكر يتعلق بالله وأهدافه في ما يختص بها في مسكنه- المكان، "السَّمَاء" المعروفة. إنه تاريخ يُقرأ ومعروف في السماء على ضوء حضور الله.

١- "امْرَأَةٌ مُتَسَرْبلَةٌ بالشَّمْس، وَالْقَمَرُ تَحْتَ رجْلَيْهَا، وَعَلَى رَأْسهَا إكْليلٌ من اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً". هناك أربع نساء يُمثلن شيئاً ما في الرؤيا، كل واحدة منهن هي تعبير عن هيئة جماعية من الأشخاص أو نظام. (١) إيزابيل (٢: ٢٠)، أو النظام البابوي. (٢) المرأة التي تتمتع بملء سلطة حكمية (١٢: ١)، أو شعب الله. (٣) الزانية الكبيرة (١٧: ١)، أو الكنيسة المعترفة الفاسدة والمرتدة والمستقبلية. (٤) العروس، عروس الحمل (١٩: ٧)، الكنيسة الممجدة في السماء. الأجرام السماوية النيّرة، الشمس، والقمر، والنجوم يُشاهدون في مجدهم المتجمع. نظام كامل من الحكم يُصور هكذا. كل سلطة سامية عظيمة كالشمس، أو مشتقة أو تابعة كالقمر، أو أقل ضياءً وصلاحية كالنجوم، تتمركز في المرأة. إن لها أيضاً كرامة ملكية، كما يدل على ذلك التاج الذي على رأسها. ولكن لماذا الاثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَباً؟ من غير شك هذا يشير إلى حلم يوسف (تكوين ٣٧: ٩)، والذي فيه رمز للمجد المستقبلي لإسرائيل، بأسباطه الاثني عشر ١. المرأة تتمتع بسلطة فخمة كاملة على الأرض، فرغم أن الآية هي في السماء فإن الواقع يُشاهد هنا.

٢- "وَهيَ حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخّضَةً وَمُتَوَجّعَةً لتَلدَ". المرأة نجدها أمامنا كملكة، والآن نشاهدها كأم. نرى مجدها وجلالها كملكة، وألمها كأم (إرميا ٤: ٣١). من هي المرأة؟ ومن هو الطفل؟ المرأة هي إسرائيل. والطفل هو المسيح. الغالبية العظمى من المفسرين يرون في المرأة الكنيسة. والآن يرتبط إسرائيل والكنيسة كلاهما بعلاقة وثيقة مع المسيح- إسرائيل كأم له، والكنيسة عروس له. إن اعتبرنا أن الآية ٥ تنطبق على المسيح، وهذه هي الحقيقة والحقيقة الوحيدة لأن الطفل هو المسيح شخصياً، يزول كل جدل حول هذا الموضوع. إسرائيل، وليس الكنيسة، هي أم المسيّا (أش ٩: ٨؛ ميخا ٥: ٢؛ رو ٩: ٥؛ مت ١، الخ).

ربما يصعب علينا أن نعتبر آلام الأمومة تنطبق على إسرائيل مع الحقائق المتعلقة بميلاد المسيح. ولكن هذه الأمور معاً هي في حكمة الله، وإن بدت متناقضة في الظاهر (إذ متى كان هناك صراخ أو مخاض أو ألم عند مجيء المسيّا إلى العالم؟)، مع ذلك، فالأمر ليس من الصعب فهمه. الحل لهذه المسألة موجود في أشعياء ٦٦: "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً" (أشعياء ٦٦: ٧). المخاض والألم يشيران إلى ساعة المحنة الآتية على إسرائيل، الضيقة العظيمة. ولكن قبل ذلك الحدث الهام، يُولد المسيا، الابن الذكر. يؤكد النبي ميخا ذلك في مقطع واضح لا يمكن أن يُساء فهمه. فبعد الإشارة إلى ميلاد المسيا (٥: ٢)، يضيف قائلاً: "لذلك يسلّمهم إلى حينما تكون قد ولدت والدة ثم ترجع بقية إخوته إلى بني إسرائيل" (ميخا ٥: ٣). المخاض الذي تعانيه المرأة يأتي بعد ألفي سنة على الأقل من ميلاد المسيا، ويشير إلى ألمها في فترة الضيقة الآتية. "قبل أن يأخذها الطلق ولدت. قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكراً". يبقى لنا أن نسأل: لماذا يوضع إذاً مخاض المرأة على سبيل المغايرة مع ميلاد المسيّا؟ أولاً، لاحظوا أن الفترة الحاضرة من رفض إسرائيل، والتي تأتي بين الميلاد والمخاض، تمر بصمت في الأصحاح أمامنا؛ إنها فترة فاصلة، لا يُذكر زمنها في النبوءة التي لدينا، ولكننا نجده في مكان آخر. وثانياً، إنها تظهر الاهتمام الكبير الذي يبديه المسيا بشعبه. لقد كان يفكر في الضيقة، وصنع تدابير شرطية معينة لكي ينير بها تلك الفترة قبل عدة قرون (متى ٢٤: ١٥- ٢٨). وثالثاً، في الفترة الزمنية التي يتكلم عنها أصحاحنا يكون الشعب على وشك أن يدخل في فترة الألم المريع الفظيع، ونجد موضوع العودة في التاريخ إلى ميلاد المسيح لربط المسيح بالشعب فيه.

التنين والمرأة:

٣- ٥- "وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى في السَّمَاء: هُوَذَا تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسه سَبْعَةُ تيجَانٍ. وَذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُوم السَّمَاء فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْض. وَالتّنّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَة الْعَتيدَة أَنْ تَلدَ حَتَّى يَبْتَلعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ. فَوَلَدَت ابْناً ذَكَراً عَتيداً أَنْ يَرْعَى جَميعَ الأُمَم بعَصاً منْ حَديدٍ. وَاخْتُطفَ وَلَدُهَا إلَى الله وَإلَى عَرْشه". الآية اللافتة التالية هي عن "تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ". الشيطان هو هنا أمامنا في أسوأ طبع له مجابهاً المرأة. انظروا الآية ٩، وأيضاً ٢٠: ٢، التي تتبين فيها تطابق التنين مع الشيطان بما لاشك فيه. لماذا يُستخدم التنين كرمز للشيطان؟ فرعون، ملك مصر، وفي قسوته على شعب الله، وفي استقلاله المتكبر والمتعجرف عن الله، يُسمى "التمساح/التنين العظيم" (حزقيال ٢٩: ٣، ٤). نبوخذنصر، على نفس النحو، يتم الحديث عنه بنفس السياق في عنفه وقسوته (إرميا ٥١: ٣٤). يبدو أن الغاية هنا هي جمع الإشارات الكتابية العديدة في سفر المزامير، وفي الأسفار الثلاثة الأولى من الأنبياء الكبار، التي تدل على التمساح، سيد البحار، الذي يتطابق مع التنين، في قسوته النهمة الشرهة. لقد كان المصريون يعتبرون التمساح، أو التنين، حسب لغتهم الهيروغليفية، على أنه مصدر الشر وصانعه، وكانوا يعبدونه باسم تيفويوس. لون التنين، الأحمر، يشير إلى طبيعته القاتلة المتعطشة للدماء. هذه أول مرة في الكتاب المقدس يتم الحديث عن الشيطان بشكل مباشر على أنه تنين. الملوك الوثنيين، فرعون ونبوخذنصر، استعبدوا شعب الله وقمعوه، وبسلوكهم هكذا بقوة شيطانية، استحقوا لقب التنين. ولكن في الزمن الذي يتكلم عنه هذا الأصحاح من الرؤيا يكون الشيطان رئيس العالم، وحاكمه العملي الفعلي. السلطة الرومانية هي الأداة التي يتصرف بها. ومن هنا يمكن استخدام اللقب "تنّينٌ عَظيمٌ أَحْمَرُ" لأول مرة للإشارة إليه.

٣- "لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسه سَبْعَةُ تيجَانٍ"، ما يُقال عن التنين هنا يُنسب أيضاً إلى الوحش (١٣: ١)، وهنا فقط تُكلّل الرؤوس بعصبة ذهبية أو تاج، رمز السلطة الطاغية المستبدة في الشرق؛ في حين أن القرون العشر للوحش متوّجة أو مكلّلة. في الحالة الأولى نجد الرؤوس بينما في الأخيرة نجد القرون. الرؤوس السبعة على التنين يجب أن لا تُفسر على أنها أبواب الجحيم السبعة لروما. التنين والوحش متمايزان، رغم ارتباطهما الوثيق معاً. الأول هو قوة روحية، والأخير قوة علنية تاريخية. الرؤوس السبعة المتوجة للتنين تشير إلى تركز السلطة الأرضية والحكمة في ممارسة قاسية طاغية. قرونه العشر غير المتوجة تشير إلى الحدود المستقبلية للإمبراطورية التي تنقسم إلى عشرة ممالك، الحكومة التي سيديرها. لو كانت الرؤوس متوجة لما كانت هناك حاجة للقرون. عندما نأتي إلى التاريخ الفعلي نجد أن القرون العشر أو الملوك يُتوجون (١٣: ١). الفكرة البسيطة من هذه هي أن رؤوس التنين متوجة، بينما قرونه العشرة ترمز إلى أن سلطته تُمارس إدارياً خلال الإمبراطورية عندما تصبح عشر ممالك. التنين يُمثل القوة غير المنظورة وراء الإمبراطورية؛ ومن هنا فإن التيجان هي على رؤوسه، وليس على قرونه. رؤوسه متوجة بعصبة ذهبية، أو شعار الملكية، كتعبير عن سلطته وحكمته الكاملتين على الأرض، المتمركزة، مع ذلك، في الوحش، السلطة الملكية التي تكون مسيطرة عندئذ على الأرض. إنه الحاكم الفعلي للمملكة الأممية العالمية الأرجاء. إنه يدير حكمها من خلال رأسه الشخصي "القرن الصغير" (دانيال ٧)، والذي هو ليس سوى أداة في يديه. طغيان وقسوة واستبداد الإمبراطورية هي نتيجة حقيقة أن الشيطان هو وراءها، ويحكمها بملء القوة والسلطة، مانحاً إياها طابعه الذاتي، المتميز بكراهية مطلقة لله ولخاصته هؤلاء.

٤- "ذَنَبُهُ يَجُرُّ ثُلْثَ نُجُوم السَّمَاء فَطَرَحَهَا إلَى الأَرْض". لقد رأينا السلطة المحترسة وحكمة التنين، "سبعة رؤوس"؛ وهنا لدينا في ذنبه رمز تأثيره الملك للنفس؛ بمعنى آخر، أكاذيبه (أشعياء ٩: ١٥). يُقال أن الشيطان قاتل وكاذب. إنه يقتل  الأجساد، ويهلك نفوس البشر. وقوته هي في رأسه؛ تأثيره المهلك في التعاليم الكاذبة والملعونة في ذنبه. القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، المشهد الذي يفوق كل المشاهد الأخرى من نور الإنجيل وامتيازاته، يبدو مقصوداً فيه العبارة "ثلث"، الذي يتوافق عموماً مع الأبواق. "نُجُوم السَّمَاء" تعني الحكام الفرادة الذين لهم علاقة خارجية مع الله في أماكن ومراكز السلطة. هؤلاء الحكام والمعلّمون المسيحيون واقعون في شرك الشيطان، ويُصدّقون أكاذيب الشيطان. "طَرَحَهَا إلَى الأَرْض" ٢. هلاكهم المعنوي والأخلاقي كامل ومكتمل. لاحظوا استخدام الزمن الحاضر، "ذَنَبُهُ يَجُرُّ"، وليس "جرّ" كما في بعض الترجمات. فعمله يُرى في الزمن الحاضر.

ثم لدينا المشهد المؤثر للتتنين يواجه المرأة كي "يَبْتَلعَ وَلَدَهَا". يا له من نور شديد الشحوب الذي يلقيه هذا على التاريخ والظروف المتعلقة بميلاد الرب كما هي مفصلة في متى ٢. لم تكن المرأة ولا إسرائيل موضع كراهية الشيطان الخاصة. لم تكن المرأة، بل نسلها هو الذي يُراد تدميره وهلاكه. في الأيام الأولى من تكوين ٣ :١٥، تم التنبؤ بعدائية الشيطان التي لا انقضاء لها لنسل المرأة. ولكن هناك نرى فقط العوامل البشرية. والآن في ضوء رؤيا ١٢: ٤ نعلم أن المحرض الحقيقي لمحاولة إهلاك نسل المرأة كان الشيطان، التنين ذي السبعة رؤوس وعشرة القرون. هيرودس، نائب القيصر في فلسطين، وممثل الإمبراطورية الرومانية، كان في الحقيقة خادم الشيطان في هذه المحاولة الماكرة ليميت الرب.وهنا تُفتح الستارة، فنجد أن الشيطان، وليس هيرودس، هو الذي يبدو مكشوفاً على أنه العدو القاتل الحقيقي للمسيح. لقد كان هيرودس ابناً حقيقياً لأبيه الشيطان (يوحنا ٨: ٤١، ٤٤). عندما أُحبطت مخططاته، وجّه غضبه الحاقد القاسي نحو الأطفال الذكور الأبرياء في رجاء أحمق بأن يكون الطفل يسوع من بين الأولاد المقتولين.

٥- "وَلَدَت ابْناً ذَكَراً". هذا التعبير المنفرد نوعاً ما لا يعني مجرد فصل في الجنس. هناك هدف أهم مقصود. اللحظة التي يُولد فيها المسيح، وخلافاً لأي طفل آخر، يُمنح سيادة كونية، ويخطو في الحال نحو أخذ حقوقه وأمجاده كمسيّا وأيضاً سيادة على مجال أوسع كابن الإنسان (انظر مز ٢ من أجل الأسبق؛ ومز ٨ للأخير).

٥- "عَتيداً أَنْ يَرْعَى ٣ جَميعَ الأُمَم بعَصاً منْ حَديدٍ". هناك أكثر من تلميح في هذه الكلمات إلى المزمور ٢: ٩. النبوءة القديمة يتم إعادة التأكيد عليها هنا، وإضافة إلى ذلك، على بدء تحقيقها تماماً. "العصا الحديدية" في يد راعي الأمم تُوضَع أولاً على الملوك الآثمين لشعوب الغرب (الآية ١٩)، ثم على ملوك شعوب الشمال والشرق (أشعياء ١٠؛ زكريا ١٢؛ ١٤). إنه يُحطم القوى الصلبة الموحدة في الأرض سواء كانت ضده أو ضد شعبه. ويُحطم الإرادة الحديدية للأمم. تقبض يداه على زمام حكم العالم، فيحطم كل قوة معارضة إلى ذرات، ويحطم إلى شظايا كل صولجان، ويحطم عروشاً وممالك إلى أن ينحني الملوك والشعوب أمامه ويقرون بسيادته عليه. في ذلك اليوم من تجلي القدرة والقوة والسلطة العظيمة التي لا تقاوم، الغالبون، وإذ يُشكلون جسداً متمايزاً بأنفسهم، كما يبدو لنا، سيكونون معه (رؤيا ٢: ٢٦، ٢٧)، ومرتبطين به في حكمه على الأمم. يا له من جلال عظيم! يا له من مشهد مشرّف سامٍ! (انظر أيضاً ١ كور ٦: ٢، ٣).

٥- بعد ذلك يأتي اختطاف الولد: "اخْتُطفَ وَلَدُهَا إلَى الله وَإلَى عَرْشه". وبالتأكيد، هذا يشير إلى الصعود، بعد ٤٠ يوماً من القيامة. ويقول مرقس هذه الحقيقة بشكل موجز في ١٦: ١٩، ولكنها تبدو بشكل أكمل واستدلالي أكثر كما يرويها لوقا، الطبيب الحبيب (الأصحاح ٢٤: ٥٠، ٥١؛ أعمال ١: ٩- ١١). إن مكانته هي الأعلى وهي الأقرب. يُقال أحياناً: "الكنيسة مُشتَمَلة في اختطاف الابن الذكر". ولكننا لا نعتقد ذلك. صعود المسيح وانتقالنا يُنظر إليهما دائماً كحادثين منفصلين. صعوده هو علامة على المجد الشخصي، الذي لا نستطيع أن نشاركه فيه. وفي الحقيقة كلمة "صعود" لا تُستخدم أبداً في ما يختص بالقديسين. لا يمكن أن نجد نصاً كتابياً يؤكد الافتراض بأن الكنيسة ستُختطف أيضاً مع الابن الذكر.

هناك ثلاثة حقائق نجدها في الآية ٥: (١) ميلاد الابن الذكر؛ (٢) مصيره؛ (٣) اختطافه. والآن ليس هناك ما يُقال عن حياته وموته. ميلاده واختطافه يُوضعان معاً وكأنه ليس من فترة ٣٣ سنة تفصل بين الحادثتين. ما سبب ذلك؟ السبب هو أنه ليس لدينا تاريخ في هذا الأصحاح. المسار التاريخي للأحداث يجب أن لا نبحث عنها داخل هذا الجزء من الكتاب المقدس، الذي يتناول الأمور من وجهة نظر الله. الهدف الروحي والغاية، كما تراها السماء وتفسرها، هي ما نراه في هذا الأصحاح. الآيات في السماء؛ والواقع والتاريخ هما على الأرض. الهدف هنا هو دمج موضوعين معاً. الأول ربط المسيا بإسرائيل، على الأقل بيهوذا التي تُوشك على أن تدخل ساعة الألم المعينة لها، ضيقة يعقوب (إرميا ٣٠: ٧)؛ والثاني، الربط بين الطفل ومصيره العجيب المدهش، ألا وهو حكم جميع الأمم. كلا هذين الأمرين مرتبطان بميلاده، وليس بحياته هنا، التي لا يأتي الكاتب على ذكرها، بحيث لا نرى إلا الارتباطات أو المفاصل الضرورية،  أعني بها ميلاده وصعوده. لربط المسيا بإسرائيل والأمم لا حاجة لذكر حياته، ولذلك أُغفِلَت. يبقى إضافة أن المسيح يُختطف إلى الله وإلى عرشه، حيث يُسمح له بالمطالبة بحقه بأن يكون وريثاً لكل شيء، وإن كان قد أُنكر عليه على الأرض. الله والعرش سيظهران حقه في ذلك الادعاء، ومن ذلك الوقت سينتقل المسيح إلى امتلاك إرثه المقدر له في زمن الله وطرقه.

هروب المرأة:

٦- "وَالْمَرْأَةُ هَرَبَتْ إلَى الْبَرّيَّة حَيْثُ لَهَا مَوْضعٌ مُعَدٌّ منَ الله لكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً". ما حدث للابن الذكر وما حدث للأم يُفترض أن يكونا حادثتان متقاربتان. ولكن الحال ليس كذلك، إذ لاحظنا أن لدينا فترة فاصلة مؤلفة من ٣٣ سنة بين ميلاد الطفل واختطافه، وكذلك فاصل زمني يُقارب الألفي سنة يأتي بين اختطاف الطفل وهرب المرأة. في الواقع كل تاريخ المسيحية يقيم جسراً في الزمن بين صعود المسيح إلى هرب المرأة إلى البرية. القول بأن تشتت يهوذا إلى "أربع أصقاع الأرض" (أشعياء ١١: ١٢) هو ما يرمز إليه هرب المرأة إلى البرية أمر أسخف من أن نحتاج لدحضه. البعض قال، وهذا أمر في غاية الغرابة، وافترض هروبين، نظراً إلى أن الآية ١٤، التي فيها تتكرر تأتي بعد الحرب في السماء. صحيح أن هناك فاصل بين القول بهرب المرأة في الآية ٦ وتكرار الكلام في الآية ١٤. ولكن الغاية هي إظهار السبب الذي اضطُر المرأة للهرب. التنين الذي يُطرد من السماء يضطهد المرأة، التي تتلقى معونة من الله بطريقة تدبيرية خلال هربها من وجه عدوها الكبير. القول الذي يرد في الآية ٦ ويقاطع، يُستأنف في الآية ١٤. بين هاتين الآيتين لدينا حادثة الحرب في السماء والابتهاج الذي ينجم عن النجاح فيه. قال أحدهم: "الآيات الست الأولى تعطينا صورة كاملة". طرد الشيطان سابق للهروب، وفي الحقيقة هو السبب المباشر لرحلتها السريعة. كان لابد من هذا التفسير لتعليل الهروب إلى البرية. قوة التعبير "برية"، كما في ١٧: ٣ أيضاً، تشير إلى حالة خالية من الموارد الطبيعية، مكان عزلة. الظروف المزعجة والمؤلمة ليهوذا خلال فترة الضيقة يمكن وصفها ببراعة بأنها "برية". إنها يوم ضيقة يعقوب العظيم (إرميا ٣٠: ٧)، "عندما تشحب كل الوجوه" (الآية ٦)؛ الزمن المريع يرسمه بالتفصيل ربّنا في حديثه النبوي العظيم على جبل الزيتون (متى ٢٤: ١٥- ٢٨؛ مرقس ١٣: ٤- ٢٢؛ انظر أيضاً الأصحاحات ١٣، ١٧ من سفر الرؤيا).

٦- "حَيْثُ لَهَا مَوْضعٌ مُعَدٌّ منَ الله. لكَيْ يَعُولُوهَا هُنَاكَ أَلْفاً وَمئَتَيْن وَستّينَ يَوْماً". تكرار الظرف "هناك" ليس مجرد حشو في الكلام في البلاغة العبرية، كما قال أحدهم، بل قد كُتبت عن عمد للإشارة إلى تحديد المكان المعد لها حيث ستتم إعالتها والعناية بها. الله يؤمن للمرأة المكان والقوت كليهما لمدة ١٢٦٠ يوماً. الفترة نفسها يُعبر عنها بصيغ مختصرة أكثر كشهور مؤلفة كل منها من ٣٠ يوماً (الأصحاح ١١: ٢؛ ١٣: ٥). ولكن هنا التعداد الدقيق للأيام يدل على اهتمام الرب الحاني بقديسيه المتألمين. إنه يعد الأيام الواحد تلوى الآخر.كل هذه الفترات تشير إلى نصف الأسبوع الأخير من الألم النبوي، الفترة الختامية في سنوات دانيال، والتي تبلغ ٤٩٠ بمجملها. اليهود المتألمين في أورشليم (الأصحاح ١١)، وأولئك الذين خارجها (متى ٢٤: ١٦)، يُشكّلون جسداً واحداً من الشهود اليهود. وإننا نعتقد أن أولئك الذين يشهدون في أورشليم نفسها يستشهدون على الأرجح، بينما الذين نجو بهربهم إلى الجبال من مختلف قرى وبلدات يهوذا لدى اندلاع الاضطهاد ينجون منه. الجماعة المُستشهدة من يهوذا هم عازفو القيثارة والمغنون على بحر الزجاج (الأصحاح ١٥). الجماعة التي حفظت من يهوذا، أخوة ورفقاء المذبوح، هم أولئك الذين مع الحمل على جبل صهيون ٤ (١٤: ١).

حرب في السماء:

٧- ٩- "وَحَدَثَتْ حَرْبٌ في السَّمَاء: ميخَائيلُ وَمَلاَئكَتُهُ حَارَبُوا التّنّينَ. وَحَارَبَ التّنّينُ وَمَلاَئكَتُهُ وَلَمْ يَقْوُوا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذَلكَ في السَّمَاء. فَطُرحَ التّنّينُ الْعَظيمُ، الْحَيَّةُ الْقَديمَةُ الْمَدْعُوُّ إبْليسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذي يُضلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ - طُرحَ إلَى الأَرْض، وَطُرحَتْ مَعَهُ مَلاَئكَتُهُ". المشهد الموصوف في هذه الآيات لا يتم الحديث عنه على أنه آية. حضور الشيطان في السماء هو واقع. من المؤكد أن حرباً ستكون هناك بين قوات الخير والشر تحت إمرة قائديهما، ميخائيل والتنين. إن القول بأن الشيطان له مكان "في السماء"، ولكن ليس في حضرة الله مباشرة، يستغربه كثيرون ولا يُصدقونه؛ ويُعتبر أمراً غريباً أن يجري الحديث عن صراع فعلي في ذلك المكان الذي ليس هناك مكان آخر مثله من حيث السلام والراحة، ذلك المكان الذي "ما من ظل ليل فيه، ولا شمس غائمة، بل ظهر مقدس عالٍ أبدي".

ولكن عند أخذنا سعة السموات في الاعتبار لا نعود نتعجب. ما من ابن في منزل الآب، وما من قديس هناك، يحتاج أبداً لأن يخاف من الصراع بين القوات المتحارب. لكن الخطيئة حُبل بها في أحشاء الشيطان. فهو لم يكتفِ بأن يحتل مكانة مخلوق، رغم أنه كان ربما من أعلى المخلوقات العاقلة الروحية (حزقيال ٢٨: ١٢- ١٧)، فتاق إلى العرش بحد ذاته. لقد خطِئَ. وسقط أخلاقياً من مكانته الرفيعة. ولكنه لم يُطرَح عندئذ من السموات. مخلوقات روحية أخرى مرتبطة معه في انحطاطه الأخلاقي. بركات القديسين هي في الأماكن السماوية (أفسس ١: ٣)، فهناك أيضاً يجلسون، ولكن في المسيح (٢: ٦). وهناك آخرون إضافة إلى القديسين في السماويات (٣: ١٠)؛ وهناك صراعنا المسيحي الآن يكون (ليس بعد الموت أو المجيء- إذ ما من حرب عندئذ) بل هو الآن ضد الأرواح الشريرة (٦: ١٢). والآن جاءت لحظة الطرد الأخير للشيطان من "السماء"، وقوات الشر معه. يجب أن يُطرح إلى الأرض، ثم إلى الهاوية، وأخيراً إلى بحرية النار، ليس لكي يحكم، بل لكي يتألم إلى الأبد، وهو أكثر الكائنات دناءة وانحطاطاً. الخطوة الأولى لتنفيذ الدينونة على الشيطان هي طرده الإجباري من الأعالي. إنه الزمان والمناسبة التي يشير إليها النبي أشعياء. "ويكون في ذلك اليوم أن الرب يطالب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض" (أشعياء ٢٤: ٢١). الرب سيوزع عقابنا إلى الملائكة الخاطئة في مكانها "في الأعالي"، وللقديرين على الأرض أيضاً. ما من أحد مهما علت مكانته أو مركزه سينجو من العقاب.

ميخائيل:

ولكن من هو ميخائيل (من مثل الله)؟ هذا الملاك المميز يُذكر اسمه خمس مرات في الكتاب المقدس (دانيال ١٠: ١٣، ٢١؛ ١٢: ١؛ يهوذا ٩؛ رؤيا ١٢: ٧). يبدو أنه زعيم طغمة الملائكة، كما يدعوه يهوذا بـ "رئيس الملائكة" ٥، وفي دانيال ١٠: ١٣، حيث يُذكر اسم ميخائيل لأول مرة، فهنا يتم الحديث عنه على أنه "أول الرؤساء". في كل مقطع من المقاطع الخمسة التي يرد فيها ذكر اسمه، وفي فحواها المتنوع، الشعب اليهودي هو صاحب العلاقة بهذا الملاك. من الواضح أنه الملاك الذي تُعهد إليه مسألة العناية والحراسة بمصالح بني إسرائيل. "وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك"، أي الشعب اليهودي (دانيال ١٢: ١). الفترة التي يشير إليها النبي هي نفس الفترة التي يراها الرائي في بطمس. الضيقة العظيمة ستأتي. ولكن ميخائيل سيسعى جهده لئلا يهلك بنو إسرائيل. "سيخلص (يعقوب) منه" (إرميا ٣٠: ٧). ميخائيل هو ملاك مقاتل. الصراعات بين فارس وبابل يحكمها في الظاهر قيادة وقوى قائد جيش فارس الشهير، كورش، الذي قالت النبوءة أنه سيكون هو الشخص الذي يهزم المملكة البابلية وسيحرر الشعب اليهودي من منفاهم الطويل الأمد الذي استمر ٧٠ سنة (أشعياء ٤٤: ٢٨؛ ٤٥: ١- ٤)، ولكن لم يكن الحال هكذا فعلاً. حركات الأمم وحروبهم وسياستهم الاجتماعية تشكّلها وتوجّهها قوى روحية أسمى. هناك ملائكة، أخيار وأشرار، يؤثّرون بشكل دائم على الناس والحكومات، والأصحاح ١٠ من دانيال هو مثال واضح على ذلك. الحروب والنزاعات على الأرض ما هي إلا انعكاس للقوى الروحية المتعارضة في السموات الأدنى. الصراعات غير المنظورة بين قوى النور وقوى الظلمة حقيقية وجدّية (١ صم ١٦: ١٣- ١٥؛ ١ مل ٢٢: ١٩- ٢٣)، وبتأثير هذه الكائنات الروحية يُحكم العالم بطريقة عنائية. القوات الملائكية التي تعتني بقديسي الله على الأرض (عب ١: ١٤؛ أع ١٢) هي حقيقة معترف بها عموماً، ولكن عملها في تحديد وتقرير مسألة المعارك وتشكيل سياسة الأمم، والاهتمامات البشرية عموماً، لا يميزها كما ينبغي. بالطبع كل شيء هو تحت سيطرة يد الله الحكيمة والقوية. هو الفيصل الأسمى والأعلى في حياة البشر وتاريخههم. في الأصحاح المشار إليه (دانيال ١٠) يذهب ميخائيل لمساعدة ملاك غُفل الاسم عمل جاهداً في بلاط فارس لإحدى وعشرين يوما (الآية ١٣). بمساعدة رئيس الملائكة تمّ توجيه مصير فارس، ما أدى إلى حقيقتين مترابطتين. بابل المُضطَهِدة تُهزم، ويهوذا المُضطَهَدة تتحرر. يظهر ميخائيل أيضاً بدور فعّال في الصراع حول جثمان موسى. اعتقد الشيطان بأن حيازة جسد موسى ستُوقع بلا شك إسرائيل في شرك عبادته، كما فعلوا بالحية النحاسية (٢ مل ١٨: ٤). ولكن ما من يد بشرية حفرت قبر موسى. فالربّ "دفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور. ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" (تثنية ٣٤: ٦). يهوذا ببضعة عبارات حيوية يُخبرنا بسبب الصراع بين الشيطان وميخائيل. والآن الصراع في أصحاحنا في سفر الرؤيا ليس مجرد صراع بين رئاستين وحسب، كما ذكر يهوذا، بل إن القوى الخاصة بكل منهما تتجمع تحت إمرة قائديهما المميزين. وهكذا "ميخائيل وملائكته حاربوا التنين. وحارب التنين وملائكته".

السموات تصفو:

مسألة الحرب بين الجيوش الروحية المتصارعة أمر لاشك فيه. الشيطان وملائكته يُهزَمون.

٨- "وَلَمْ يَقْوُوا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذَلكَ في السَّمَاء". تعرض التنين شخصياً لهزيمة نكراء، في حين طُردت كل قوات الملائكة الأشرار "من السماء " إلى الأبد. لدى عودة التلاميذ السبعين من إرساليتهم يقولون للرب وبسرور كيف أنه "حتى الشياطين تخضع لنا باسمك". لم يكن ذلك سوى ذرة من انتصار كامل ونهائي على العدو وقوته، وهذا ما تنبأ عنه الرب عندما أضاف مباشرة قائلاً: "رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء" (لوقا ١٠: ١٧، ١٨). مهما كانت مقاومته لطرده من السماء، إلا أن سقوطه سيكون له أثر كبير وفوري كمثل لمع البرق. من اليوم الذي دخل فيه الكبرياء والطموح المتكبّر إلى قلبه، عندما أخطأ، لم يعد له مكان في السماء، حيث كان يتَّهم قديسي الله بدون توقف، وإنه ينفذ إلى الأرض أيضاً خلال مهمته في الأذية. إنه زعيم الأرواح الشريرة، وكل قوة روحية آثمة من أي نوع كانت. الشيطان شخص حقيقي، وليس تأثيراً، بل كائن روحي حي. الرؤيا التي أمامنا تجد تحقيقها الفعلي في وسط الأسبوع النبوي- تقريباً عند انتهاء النصف الأول. الاتفاق الذي يُعقد بين الملك الروماني والشعب المسُتعاد، أو "الكثيرين"، أي جمع الناس، يُحترم، وتحفظ بنوده خلال نصف الفترة الداخلة في العهد المؤلفة من سبع سنوات، (دانيال ٩: ٢٧). ولكن الملك الروماني، وإذ يُحرضه الشيطان، يُخالف العهد في "منتصف الأسبوع". والمشهد أمامنا يهيئ لذلك، ويروي في الحقيقة قصة ثورة الشر الأخيرة، المدنية والدينية، على الأرض. إذ يُطرد من السماء، يمتلك الشيطان العالم الهالك، ويُمارس قدرته التي لا تكلّ في تدمير وهلاك كل من يثبت لله. الحرب في السماء تؤدي إلى انتصار ميخائيل وملائكته المعاونين. ويُطرد التنين وملائكته من السماء، ولا يعودون أبداً إليها. وعندها يُوجّه الشيطان غضبه المرتبك ضد المرأة، أو ما تُمثله أمام الله بالشهادة، أي البقية اليهودية في الأرض. الضيقة (التي تغطي في مداها كل الحقبة النووية، ولكن تؤثر بشكل خاص على فلسطين بأسوأ أشكال المعاناة وأشدها) تدون للفترة المحددة تماماً المؤلفة من ١٢٦٠ يوماً. لذلك نرى واضحاً أن طرد الشيطان من السماء وسقوطه إلى الأرض هو على أبواب الضيقة وهو في الحقيقة ما يُسبّبها.

إدانة الشيطان:

هناك ثلاث مراحل واضحة متمايزة في إدانة الشيطان. الأولى، أنه يُطرد من السماء إلى الأرض مع الملائكة زبانيته (الآية ٩)؛ والثانية، أنه يُقيد كسجين في الهاوية لألف سنة (٢٠: ٣)؛ والثالثة، أنه يُسلم إلى العذاب الأبدي في بحيرة النار (الآية ١٠). أول عمليتين في الدينونة تجري بمساعدة الملائكة؛ وأما الثالثة والأخيرة ففيها عرض للقدرة الإلهية بصرف النظر عمّن سيُنفّذها والذي لا يُذكر اسمه. وهذه ستكون في بحيرة النار. فهناك سيكون عويل ألم لا يهدأ أبداً، ودموع لا تجفّ البتة. ما من شعاع نور أو بصيص أمل يدخل على الإطلاق إلى تلك الكهوف من اليأس الأبدي. ما من فكر يستطيع أن يتخيل وما من قلمٍ يستطيع أن يصف الرعب الكائن في ذلك المصير المشؤوم. حكم الشيطان في بحيرة النار ما هو إلا حلم وهمي، وليس من ذرة في الكتاب المقدس تؤيد هذه الفكرة. فالشيطان سيعاني هناك ولن يملك أو يحكم وسيكون أكثر مخلوقات الله خسَّةً وانحطاطاً. كم هو حليم إلهنا، وكم هي أكيدة بآن معاً الدينونات التي يُهدد بها! الشيطان، وبعد سبعة آلاف سنة من الكراهية القوية تجاه الله، والعداء والضغينة نحو خاصة الله، يُحطَّم في النهاية، ويُحرم من القوة والسلطة والقدرة على إلحاق المزيد من الأذى، ويُغلق عليه مع ملائكته إلى المصير "المعد" لهم، "النار الأبدية"(متى ٢٥: ٤١).

أسماء الشيطان وعمله:

يُرى التنين هنا من حيث ارتباطه بالأرض والجنس البشري؛ ولذلك نجد هذه الأسماء الأربعة بنفس الترتيب كما في الأصحاح ٢٠: ٢ أيضاً.

(١) "التّنّينُ الْعَظيمُ"، الذي يُسمى به بسبب قسوته الوحشية. إن الأساطير والحضارة الهيروغليفية تُصور التنين كمسخٍ في الشكل والمظهر خارج إطار مملكة الحيوان، وفيه مزيج من البراعة والقسوة التي تفوق البشر.

(٢) "الْحَيَّةُ الْقَديمَةُ" تُذكّرنا بمحاولته الأولى والناجحة في تدمير الزوجين السعيدين والبريئين في عدن (تك ٣). الخداع والبراعة والمكر الشديد هي صفات مميزة للشيطان من بدء تاريخه في العلاقة مع الجنس البشري. لطالما كان قاتلاً وكاذباً (يو ٨: ٤٤؛ ١ يو ٣: ٨). الْحَيَّة "الْقَديمَة" تشير إلى اتصاله التاريخي الأول مع البشر،، واللقب "حية" ٦ يدل على مكره (٢ كور ١١: ٣). لا حاجة إلى القول أن الشيطان هو روح وشخص حقيقي.

"الْمَدْعُوُّ" يشير الآن إلى أسماء شخصية، (٣) "إبْليسَ" وَ(٤) "الشَّيْطَانَ". اللقبان السابقان وصفيان- القسوة والخداع؛ والاسمان الأخيران، إبْليسَ وَالشَّيْطَانَ، يشيران إلى التنين كشخص. الشيطان هو كائن تاريخي حقيقي، ويُستخدم اسمه في اللغة اليونانية للعهد الجديد بصيغة المفرد فقط. أما "شياطين" فيجب أن تكون "أرواح شريرة". ولأنه الشيطان، فهو المُتَّهِم، والخائن، والمُجرِّب. وكإبليس، هو الخصم الصريح والمُعلَن للمسيح والعدو العلني لله ولشعبه (انظر أيوب ١؛ ٢؛ زكريا ٣؛ مت ٤؛ أف ٦: ١١؛ ١ بط ٥: ٨).


١. ليس منطقياً أو سليماً دائماً أن نطبق رموز القدماء على تفسير الصور المجازية النبوية. بسبب تعدد وتباين الأنظمة الدينية فيها، والذي استُخدمت فيه الكتابة الهيروغليفية والرمزية بشكل كبير، وعادة في التعبير عن أفكار متناقضة تماماً، لا يمكن تطبيق علم الرمز هذا بشكل أكيد في تفسير ما في الكتاب المقدس. الكتابات المقدسة تفسر نفسها بنفسها. كل رمز في سفر الرؤيا يمكن فهمه عقلانياً بالإشارة إلى أجزاء أخرى من الكلمة الإلهية. لا يحتاج الكتاب المقدس إلى نور العالم الوثني في تفسيره. إنه يعطي النور ولا يأخذ نوراً. حول الأعداد في الكتابات المقدسة كتب الراحل و. ف. غراند دراسة معمقة؛ وكذلك فعل الدكتور بولينغر، والراحل ي. سي. بريسلاند فساهموا كثيراً في إنعاش هذا القسم الهام جداً في المعرفة الكتابية. ولكن الموضوع ليس جديداً، ولا يقتصر تفسيره على الزمن المعاصر. ففي كل العصور كان علم الرموز يشغل فكر الكثيرين من العلماء الجدّيين. الأعداد في سفر الرؤيا شغلت بشكل كبير فكر وأقلام لاهوتيين من كل العصور. العدد المقدس ٧ هو بلا شك العدد الأكثر استخداماً في سفر الرؤيا، والذي يرد ٥٣ مرةً. إنه يشير إلى ما هو مثالي أو كامل (العدد ٧ رمز الكمال). وهذا العدد عادة ما يُقسم إلى جزئي أي ٣ و٤، فيدل العدد ٣ إلى ما هو إلهي، ويدل العدد ٤ إلى ما هو بشري عموماً، أو إلى العالمية. العدد ١٢، كما هو مستخدم في نصنا، وأيضاً في أماكن أخرى، يشير إلى الحكم الإداري في أيدي البشر، كما في النظام المدني أو الكنسي أو كليهما مجتمعين كما في الاتحاد الحقيقي بين الكنيسة والدولة الذي نجده في الأصحاح  ٢١. يتكرر ذكر العدد ١٢ كثيراً في الرؤيا. وكانت الأمم الوثنية تستخدم هذا العدد للدلالة على العمل الإداري. وتاريخ الصين، ومصر، وفارس، واليونان، وروما، الخ.، فيه الكثير من الأدلة التي تؤكد هذا القول.

٢. التعبير المشابه نوعاً ما لهذا في دانيال ٨: ١٠ يشير إلى أشخاص يهود بارزين، وهو عمل ملك الشمال لفلسطين. ما لدينا هنا هو العمل المهلك للشيطان في أوربا وسط أشخاص مسيحيين بارزين.

٣. ملوك إسرائيل يُدعون رعاة (حزقيال ٣٤). داود، والمسيح، وضد المسيح يتم الحديث عنهم أيضاً هكذا.

٤. الجماعة المُستشهدة لا يُذكر عددها؛ أما أولئك الذين يُحفظون فيُقال أن عددهم ١٤٤٠٠٠، (١٤: ٣). وإن الـ ١٤٤٠٠٠ الوارد ذكرها في الأصحاح ٧ هم جماعة أخرى مختلفة. الأولى هم من يهوذا، وأما الأخيرة فهي من كل بني إسرائيل.

٥. الكتاب المقدس لا يتكلم عن رؤساء ملائكة، بل عن واحد فقط، وذلك في مقطعين من العهد الجديد (١ تسا ٤: ١٦؛ يهوذا ٩). بينما  بولس يشير إلى المسيح، رئيس السلطة الملائكية الحقيقي؛ والإشارة الأخرى ترد عند يهوذا إلى ذلك المخلوق الملائكي الذي يُوجّه مصائر بني إسرائيل. الملاكان الوحيدان اللذان يُذكر اسمهما بشكل محدد وواضح هما ميخائيل وجبرائيل. 

٦. نحن على قناعة بأن تكوين ٣ هو سرد حقيقي وتاريخي لما حدث فعلاً. أن يكون الشيطان قد تكلم من خلال حية حقيقية أمر لاشك فيه. لا حاجة للافتراض، كما فعل يوسيفوس ومترجمه العلّامة ويستون، بأن الأفاعي وكذلك بقية الزواحف من نفس النوع كانت لها ملكة التكلم قبل السقوط، ولكن فقدت هذه الملكة كنتيجة منطقية لسلوكها السيء تحت سطوة الشيطان. هناك ثلاثة أمثلة بارزة مميزة في العهد القديم عن أمور عجائبية تقوم بها الحيوانات الدُنيا: (١) فهناك أفعى تتكلم (تك ٣)؛ (٢) وهناك ذكاء معين وقدرة على الكلام عند الحمار الذي يركبه بلعام (عدد ٢٢: ٢١- ٣٠)؛ (٣) والحوت الذي ابتلع يونان يجيب على صوت الرب بأن يلقي بالنبي التائب على أرض يابسة جافّة (يونان ٢: ١٠). إننا نؤكد وبشدة على الدقة التاريخية لهذه الروايات، والتي يُستشهد بها أيضاً في العهد الجديد (انظر ٢ كور ١١: ٣؛ ٢ بط ٢: ١٥، ١٦؛ مت ١٢: ٤٠). وذاك الاستار أو قطعة العملة المعدنية التي وُجدت في فم أول سمكة أمسكت بها الصنارة (مت ١٧: ٢٧) هي مثال آخر على القدرة الإلهية والمعرفة المسبقة ما يؤكد بأن للخالق سلطة مطلقة على أعمال يديه. إن خلق الأفاعي نجده في تك ١: ٢٤، ٢٥؛ ٣: ١. واللعنة الإدانية التي يطلقها الله على الأفعى نجدها في تك ٣: ١٤. وإن انحطاط شانها حتى في الأيام الألفية نجد الحديث عنه في أشعياء ٦٥: ٢٥.

الأصحاح ١٣

الوحشين

التنين والوحشين:

تغلب الملاك ميخائيل على التنين نشأ عنه هزيمة نكراء لقوة الشيطان وتأثيره في السموات. التنين وزبانيته طُردوا إلى الأرض، هذا الحدث ذو الأهمية الاستثنائية المغزى الكبير. وصارت الأرض الآن عالماً يعمل فيه الشيطان، وصار اليهود والأمميون مُتقو الله موضوع كراهية الشيطان القاتلة. إنه أيضاً يعمي ويُظلم الشعوب والبلدان التي كانت تُشكل منارة للمسيحية على نحوٍ متألق. رغم أن الشيطان روح، ولذلك فهو غير منظور للعين البشرية، إلا أنه يعمل فعلياً على الأرض خلال النصف الأخير من أسبوع دانيال النبوي، السنوات الثلاثة والنصف. وكيلاه الرئيسيان أمامنا في هذا الأصحاح، رجلان. هذان الوسيطان يتم الحديث عنهما أيضاً كوحشين، وحشين ضاريين عنيفين ١. وهما مثل البشر، مسؤولان أمام الله، ولكن نراهما هنا كأداتين في يد الشيطان، الذي يعطيهما قدرتهما ويسيطر عليها ببراعة. الشيطان هو الفكر المدبر الذي يعمل في ومن خلال هذين المرتدين. الوحش الأول أممي يتميز بقوة همجية (الآيات ١- ١٠)؛ والثاني يهودي، يتميز بتأثيره الماكر (الآيات ١١- ١٨). فهذان، إذاً، هما وكيلا الشيطان أو خادماه الرئيسيان على الأرض، ففيهما وبوساطتهما يعمل ليحقق دمار بني إسرائيل ويخفق في ذلك ولا ينجح مع "بَاقي نَسْلهَا" (١٢: ١٧). وفي وقت لاحق يحثّ مغفليه العميان الذين يتبعونه فيُشكّل حشداً كبيراً ضد المسيح نفسه وجيشه السماوي (الأصحاح ١٩: ١١؛ ٢٠: ٣). يا لهمجية ذلك الحشد! ويا لفداحة تلك الهزيمة التي سيُمنى بها التنين.

الوحش الأول

(الآيات ١- ١٠)

الانتعاش التاريخي للإمبراطورية الرومانية:

١- "ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْل الْبَحْر". البعض يقول "وقف". في الحالة الأولى يكون الرائي هو المقصود، بينما في الحالة الثانية يكون التنين هو المعني. يقول هنغستبرغ معلّقاً: "لا يمكننا الاستناد إلى أساس خارجي لتحديد القراءة الأصح". الآراء متباينة. ولكن دراسة متأنية لفحوى النص تظهر بشكل محدد وحصري أن الرائي وليس التنين هو الذي "وقف على رمل البحر". النبي الرؤيوي يأخذ مكانه دائماً أو يقف في موقف إشراف وملاحظة بما يتلاءم مع المادة التي بين يديه. ومن هنا نجد "السموات" (٤: ١)، و"رمل البحر" (١٣: ١)، و"برية" (١٧: ٣)، و"جبل عظيم عالي" (٢١: ١٠)، كنقاط استشراف يستطيع منها أن يتأمل في الرؤى المتنوعة التي تمر أمام ناظريه.

١- "رَمْل الْبَحْر" الذي يقف الرائي عليه يشير إلى الحشود الهائلة من الناس (٢٠: ٨). هذا الرمز منتشر جداً ولذلك فكل الآداب تستخدمه. الرمل يلفت انتباهنا إلى الجموع البشرية التي لا عدد لها، بينما البحر رمز يدل على القوى والعناصر الوحشية والثورية الفاعلة في وسطهم. بمعنى آخر، يُشار إلى جمع العرق البشري هنا على أنه في حالة اهتياج واضطراب. في حالة الأشياء يأخذ الرائي موقفاً، ويقول: "رَأَيْتُ وَحْشاً طَالعاً منَ الْبَحْر".

هذا الوحش هو بلا شك الإمبراطور الروماني القديم وقد عاد للظهور مجدداً في العالم النبوي. لقد طلع الوحش على نفس المنوال كما الأباطرة الثلاثة السابقين. "صعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة" (دانيال ٧: ٣)؛ أي خارجاً من جموع بشرية غير مستقرة وغير مرتاحة. الإمبراطوريات العالمية الأربعة: بابل، وفارس، واليونان، وروما تُمثَّل بالمعادن (دانيال ٢) وبالوحوش (الأصحاح ٧) بآنٍ معاً، وليس فقط في بدء المراحل الأولية لتاريخها بل في النهاية حيث سيكونون عندما يأتي الرب ٢. القوى الثلاثة الأولى ٣، وقد جُرِّدت من قوتها، تبقى موجودة فقط في النهاية، أما القوى الرابعة (الإمبراطورية الرومانية) فستكون، وكما في الماضي، القوى المسيطرة على الأرض. لقد طلِعت روما أصلاً من مخاض الثورة والفوضى وانعدام السلطة. سرعان ما بُنيت المدينة قبل سبي الأسباط العشر إلى أشور. البشائر العديدة والأساطير المتعلقة بولادة روما تشير كلها إلى عظمتها المستقبلية. ولكن بينما دانيال ٧: ٣، ٧ يشير إلى النهوض التاريخي للإمبراطورية، ٧٥٣ ق.م.، فإن الرائي في رؤيا ١٣: ١ يشير إلى عودة ظهورها في المستقبل. لأكثر من ١٤٠٠٠٠٠ سنة انقطعت الإمبراطورية الرومانية الغربية عن الوجود ٤، ولكن انتعاشها المستقبل لاشك فيه، وإلى هذا تشير الآية الأولى من أصحاحنا. لا وسيلة لدينا للتحقق عما إذا كانت الإمبراطورية موجودة أو تشكلت فقط خلال زمن دينونات الختم. قد يكون الأمر أن الوحش ظهر من خلال الانهيار العام لكل السلطة الحاكمة تحت الختم السادس (٦: ١٢- ١٧). الشهداء الأوائل (٦: ٩- ١١) لا يُقتلون تحت اضطهاد الوحش، بل يبقون إلى أن ينضموا لأولئك الذين سيُذبحون لاحقاً، بما يُظهر أن الوحش ليس في مشهد العالم آنذاك، أو على الأقل لا يكون فعالاً، خلال الزمن الذي تغطيه الأختام.

الوحش الطالع من البحر، والصاعد من الهاوية:

الوحش يُرى أولاً خلال انتعاشها التاريخي بحيث يكون "طَالعاً منَ الْبَحْر". ولكن يُقال أيضاً أنه "يصعد من الهاوية" (١٧: ٨). كلاهما في المستقبل. الإمبراطورية ستوجد لسبع سنوات، ولكن عندما تصعد في البداية سيكون ذلك انطلاقاً من فوضى سياسية واجتماعية، بينما في المرحلة الأخيرة والنهائية يُشار إلى مصدرها وطابعها الشيطانيين. "البحر" يُشير إلى صعودها التاريخي المستقبلي، و"الهاوية" إلى حالتها تحت سلطة الشيطان. هذا الجانب الأخير من الإمبراطورية يعود تاريخها إلى الفترة من سقوط الشيطان في "وسط الأسبوع". الطبيعة والفعل الشيطاني يُميزانها خلال الفترة الأخيرة من وجودها، السنوات الثلاث ونصف.

رؤوس الوحش وقرونه:

١- ثم يوصف الوحش بأن لديه "سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونه عَشَرَةُ تيجَانٍ". نلاحظ هنا أن عدد التيجان عشرة بينما في ١٢: ٣؛ ١٧: ٣ نجد أن عدد التيجان سبعة. هذه القرون المتوجة العشرة تشير إلى عشرة ملوك (١٧: ١٢). سرعان ما ستُشاهَد عشرة ممالك متمايزة في أوربا الغربية. قد يصعب تخمين عددها أو تحديد حدودها بالضبط ولكن الله بترتيباته العنائية سيوضحها لنا بسهولة عندما سيحضرها إلى الوجود. الإمبراطورية في كل تاريخها لم تكن لها هذه الصفة. عندما اختفت من الوجود، تشكلّت عدة ممالك ودويلات صغيرة ضئيلة الشأن، كانت عبارة عن شذراتٍ من تلك الإمبراطورية العظيمة الواسعة الأرجاء، والتي كان لها رأس مستبد واحد. ولكن عندما ستنتعش ستتشكل عشرة ممالك ضمن حدودها الإقليمية. وعندها عشرة ملوك، منهكين من كثرة الصراعات الدولية والغيرة سيكون لهم "رأي واحد، ويعطون الوحش قدرتهم وسلطانهم" (١٧: ١٣). ولن يكون هناك سوى حاكم واحد على الإمبراطورية، هو "القرن الصغير" الذي يتكلم عنه دانيال ٧، الأمير الروماني الذي سيقطع عهداً مع الأمة المرتدة لسبع سنوات (دانيال ٩: ٢٧) وهذا العهد سيُقطع في منتصف الوقت، ويتلاشى أخيراً عند مجيء الرب بالدينونة (رؤيا ١٩: ٢٠).

أسماء التجديف:

١- هناك صفة أخرى ومروعة أكثر تضاف هنا ألا وهي أن "عَلَى رُؤُوسه اسْمُ تَجْديفٍ". للمراقب غير النبيه ستكون الإمبراطورية بقوتها الهائلة وانتشارها الإقليمي الواسع مذهلة، ولكن الفكر المتأمل يرى في طابع التجديف عند رؤسائها، السلطة الحاكمة فيها، رؤيا مريعة جديرة بالتأمل والتفكير. الرؤوس السبعة للوحش تُمثل، ليس أشكالاً متعاقبة من الحكم، كما في الأصحاح ١٧: ١٠، بل اكتمال وكمال سلطة الحكم التي كانت تُمنح للوحش في فترة أيامها الأخيرة. "القرون السبعة" (٥: ٦) ترمز إلى تمركز القوة فيها، و"الرؤوس السبعة" تشير إلى كمال الحكومة الفكرية (١٢: ٣).

"عَلَى رُؤُوسه اسْمُ تَجْديفٍ" ٥. هجران الاعتراف بالمسيحية (٢ تسا ٢: ٣)، والتجديف العلني والصريح بالله هو النتيجة المحزنة. سيتحدى الوحش الله علانية، ويجعل من نفسه القوة العنيدة المقاومة لكل من يخصُّون الله (الآية ٦). وهذه من الملامح الجديدة للإمبراطورية، وهي تُميز المرحلة الأخيرة من وجودها. روما القديمة كانت وثنية في طبيعتها. لعلنا توقعنا أن تلك الأسماء كانت على رأس التنين، ولكن الحقيقة هي أنها على الوحش، لأنه هو الذي سيكون الشاهد العلني للمعارضة المباشرة والشنيعة لله ولمختاريه ولكل السموات أيضاً. كل شكل وطابع يتم فيه خزيان الله في أعين الناس يُشار إليه بـ "اسْمُ تَجْديفٍ".

مواصفات الإمبراطورية:

٢- إلا أن الوحش يُصور أيضاً على أنه "شبْهَ نَمرٍ، وَقَوَائمُهُ كَقَوَائم دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَم أَسَدٍ". أي أن الوحش، أو روما الإمبراطورية، وإضافة إلى أنها تتمايز بملامح خاصة بها، إلا أنها تجمع وتُركِّز على الصفات الرئيسية للإمبراطوريات الثلاثة السابقة، و"تمتصها"، كما قال أحدهم ٦. ولأجل فهم هذه الإمبراطوريات نحتاج إلى العودة إلى النبي العبري. الأصحاح هو نبوءة مرتبطة بالموضوع معطاة بالرؤيا إلى دانيال (الأصحاح ٧)، وتمتد من مجيء غازي يهوذا إلى عرش السيادة الكونية، ومنها إلى كل الأجيال حتى صعود نجم يهوذا من جديد؛ بمعنى أخر، من حكم نبوخذنصر إلى عهد المسيح كابن الإنسان. تُوصَف الإمبراطوريات الثلاثة الأولى باختصار (دانيال ٧)؛ الإمبراطورية البابلية في الآية ٤، والفارسية الميدية في الآية ٥، واليونانية في الآية ٦. وبقية الأصحاح تكرس بالدرجة إلى التمعن في الوحش الرابع، الذي يُوصف ولا يُذكر اسمه (الآية ٧). سنلاحظ أن الرائي يذكر الحيوانات المتوحشة بترتيب عكسي خلافاً لما ورد عند النبي. عند دانيال يتطلب التتابع التاريخي للإمبراطوريات ذكر الأسد أولاً، الرمز المختار لعظمة بابل. في رؤيا ١٣: ٢ يُذكر النمر أولاً أو الإمبراطورية الثالثة. خفة الحركة والوثب المفاجئ، كانت تميز الإمبراطور اليوناني العظيم، الإسكندر، الذي كان يُشار إليه بالنمر؛ والمستبد الفارسي الطماع والساحق الذي اجتاح أقاليمها (باستثناء يهوذا ربما) يُشبَّه بقوائم الدُّب، بينما الرعب الذي يُعبر عنه زئير الأسد، كما أيضاً عنفه وضراوته في تمزيق الفريسة إلى أشلاء، يأتي ثانياً. هذه المواصفات في الطبيعة الوحشية تُرى هنا مجتمعة ومتجسدة في الوحش الرابع عند دانيال ٧، سيادة السلطة الرومانية المنتعشة.

التنين والوحش:

٢- "وَأَعْطَاهُ التّنّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظيماً". الوحش الذي تتجمع فيه بآن معاً الملامح المميزة وسمات سلفه، وأيضاً سلطته، يُشكل أداة مناسبة يستطيع التنين أن يعمل من خلالها. ولذلك فليس الوحش فقط وارثاً للسطوة على العالم الممنوحة مباشرة على نبوخذنصر، بل يُمثل أيضاً التنين بقوته الوحشية والفظيعة في العالم. مكر الحية نجد تعبيراً عنه في الوحش الثاني (الآية ١١). سلطة الشيطان من الهاوية، وعرش الشيطان نفسه وسط عالم يجحد بالله، والسلطة غير المحدودة على الأرض تُشكل هذه الصورة الفظيعة المصورة هنا. لقد رفض المسيح أن يأخذ السيادة للعالم من الشيطان (لوقا ٤: ٥، ٨)؛ وها هنا أحد يقبلها. لا يبقى سوى أن نضيف أن الفترة المشار إليها عندما يعطي التنين عرشه وسلطانه للوحش هي الزمان والمناسبة عندما يطلع الوحش من الهاوية (١٧: ٨)، الناتج عن طرد الشيطان من السماء.

الطابع الشيطاني والتاريخ الفظيع للإمبراطورية يُغطي أفظع المآسي في مستقبل العالم- السنوات الثلاث ونصف التي تسبق مجيء الرب في المجد. في نهاية هذه الفترة، الأسبوع السبعون من دانيال، الوحش ومعاونه في الشر يذهبان "إلى الهلاك"، أي بحيرة النار. الوحشان في أصحاحنا هنا يتبين أنهما في النهاية إنسانان يعملان بوحي وإلهام الشيطان. رؤساء المرتدين في الأيام الأخيرة يُقدر لهم أن يبقوا على قيد الحياة لينالوا مصيرهم الأبدي (١٩: ٢٠).

موت وقيامة الوحش وتعجب كل الأرض:

٣- "وَرَأَيْتُ وَاحداً منْ رُؤُوسه كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ للْمَوْت، وَجُرْحُهُ الْمُميتُ قَدْ شُفيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْض وَرَاءَ الْوَحْش". لدينا هنا الموت السياسي والقيامة للوحش. الرأس المذبوح والوحش متطابقان بشكل واضح. الوحش برأسه الإمبراطوري هو الذي ذُبح. اختفت الإمبراطورية عن الوجود عام ٤٧٦ م. السطوة العالمية الأرجاء للقياصرة كانت تُمسك زمام الأمور بيد من حديد وأودت إلى الموت السياسي منذ ذلك الحين وحتى الآن. ولكن الله بعنايته سيُنهض الإمبراطورية من جديد إلى الوجود طالعة من وسط شغف ثوري وصراع، كما الحال في نشوء الإمبراطورية على يد نابليون الأول- من البحر (الآية ١). "جُرْحُهُ الْمُميتُ قَدْ شُفيَ". يراه الرائي كحقيقة منجزة، ونسلم بأنه يشير إلى تلك الحالة من خلال الآية ١. ولكن قيامته كما تقدمه إلى العالم مرتبط بانتعاشه الشيطاني وسط الأسبوع (دانيال ٩: ٢٧). النهوض التاريخي للوحش واستمراره يُستأنَف أو على الأقل يكون متزامناً مع معاهدة السنوات السبع مع يهوذا. الانتعاش الشيطاني (الآية ٢؛ ١٧: ٨) هي في النصف الأخير من ذلك الأسبوع النبوي. "تَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْض وَرَاءَ الْوَحْش". سيُقدم الوحش صورة مجهولة وغير منظورة حتى الآن، صورة لا مثيل لها في تاريخ الجنس البشري. قوة بشرية تُمنح بطاقات شيطانية، تتحدى الله علانية، وتُمنح بسلطة ملوكية وسلطان عالمي الأرجاء للشيطان سيُغطي النظرة الخاطفة لكل الأرض ستُدهش الصورة النظر ليس من سبب لحصر العبارة "كُلُّ الأَرْض". انتعاش الإمبراطورية يجب أن يكون مسألة ذات اهتمام لكل الكائنين ضمن مجالها وتأثيرها. سلطة التنين وتأثيره البعيد سيتجاوز الحدود الجغرافية للمالك العشرة. الوحش الذي سيمنح الشيطان له سلطته يمارس تأثيراً قوياً مسيطراً على كل أرجاء الأرض بل ويصل حتى إلى حدود العالم الوثني.

عبادة التنين والوحش:

٤- "وَسَجَدُوا للتّنّين الَّذي أَعْطَى السُّلْطَانَ للْوَحْش، وَسَجَدُوا للْوَحْش قَائلينَ: «مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟»". هنا تمت تنحية الله جانباً، ويغتصب التنين مكانه. ليس الخالق، بل الشيطان هو الذي يصبح موضوع العبادة الكونية. الاعتراف المجرد يصبح بلا قيمة في ذلك اليوم الفظيع. وحدها الواقعية تنتشر في عالم مأخوذ كلياً إلى الشيطان. ووحدهم أولئك الذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحمل، أو، بمعنى آخر، المختارون (الآية ٨)، يمكنهم أن يجابهوا الشيطان في ساعة انتصاره الظاهر. في أعين البشر يكون التنين قد أنهى ما كان يُفترض بان الله وحده يستطيع فعله، معطياً سلطاناً سامياً عظيماً للوحش؛ على ذلك الأساس الكرامات الإلهية تُعطى له. ولكن الوحش يتم السجود له أيضاً. التعجب الذي يثيره عودة ظهوره في عالم التاريخ يليه السجود. كلا التعجب والسجود كونيان عالميان، الأخير في الطابع والامتداد يتجاوز كل ما سبق وشُوهد في روما من قبل. تحضير الأرواح، الذي كان يقطع خطوات متقدمة كبيرة في السنوات الأخيرة، يعمل لهدف واحد محدد، السجود للشيطان. تُمارس عبادة الشيطان في أوربا وأميركا بشكل كبير. في ٢ تسا ٢ نعلم أن إنسان الخطيئة، المتطابق مع الوحش الثاني في أصحاحنا، يُسجد له أيضاً. يا له من تجديف فظيع! يا له من استهزاء وسخرية بالمسيحية! ليس للثالوث القدوس: الآب، والابن، والروح القدس، بل عبادة ثالوثية للشيطان: التنين، والوحش، وإنسان الخطيئة. وإلى هذا تأتي إنكلترا التي تُعتبر مسيحية. النُقاد الضليعون يبذلون قصارى جهدهم تحت تأثير الشيطان لتسليم العالم المسيحي للشيطان، وإنهم يخطون خطوات سريعة في هذا الاتجاه. "مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟ ٧" هذه تشير إلى أن قوته وقدراته الحربية هي مواصفات باهرة تنال إعجاب العالم، ومن هنا يأتي التقدير إلى مكانته العالية، ولكن ليس السجود هو النقطة الخاصة المعينة هنا. نعتقد وعلى الأرجح، أن تلك الكرامات الإلهية يجب أن تُعطى إلى الرأس الشخصي للإمبراطورية المُستعادة؛ لتقوم بفعلها الذي هو من عمل الوحش الثاني (الآيات ١٢- ١٥).

التجديف والاضطهاد وسلطة الوحش العالمية الانتشار:

٥- ٧- "وَأُعْطيَ فَماً يَتَكَلَّمُ بعَظَائمَ وَتَجَاديفَ، وَأُعْطيَ سُلْطَاناً أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً. فَفَتَحَ فَمَهُ بالتَّجْديف عَلَى الله، ليُجَدّفَ عَلَى اسْمه وَعَلَى مَسْكَنه وَعَلَى السَّاكنينَ في السَّمَاء. وَأُعْطيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْباً مَعَ الْقدّيسينَ وَيَغْلبَهُمْ، وَأُعْطيَ سُلْطَاناً عَلَى كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَأُمَّةٍ". الوصف السوداوي المنسوج هنا حول الشر الشيطاني والكبرياء البشري يخرج منه شعاع تعزية من الله إلى قديسيه المحبوبين (الآن وآنذاك) من خلال تكرار العبارة "أُعْطيَ". فخلف الوحش هناك قدرة الرب الكلّية العظيمة رغم أنها محتجبة. ليس للشيطان قوة من ذاته. كل قوة هي من الله. تطبيق القوة هو مسألة أخرى والجميع مسؤولين عنها حتى الشيطان نفسه. القوة التي هيّجت بحر الجليل وأنشأت عاصفة ضارية لكي تغرق المركب الذي كان فيه أثمن حمولة أبحرت على الإطلاق، ألا وهي المسيح وتلاميذه، استطاع أن يُهدّئها ذلك النائم الإلهي في مؤخرة السفينة. أُعطي الشيطان لوهلة سلطاناً على عناصر الطبيعة ليُظهر لنا أن قوته، وأيضاً استمراره، يُسيطر عليه الله كلياً بما يناسب مشيئته ومسرته (متى ٨: ٢٣- ٢٧). في كبرياء قلبه يتبجح الوحش ويجدّف. ما هو عليه وما فعله يشكل حاصلة الـ "عَظَائم" التي يتم الحديث عنها، ويُضاف إلى ذلك الكلمات ذات المغزى "وتَجَاديفَ". الله، وكل خاصته في الأرض وفي السماء، محتجزون ويُجدّف عليهم بكلمات ليست مدونة، ولكنها قاسية بالتأكيد بما أوحى الشيطان من عبارات تجديف.

ومن جديد نلتقي بقدرة الشيطان المجسدة على الأرض. "وَأُعْطيَ سُلْطَاناً أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". لاحظوا أن التأكيد في نصنا ليس على وجود الوحش أو الإمبراطورية، بل على تلك المحنة العظيمة عندما سيستولي الشيطان على الحكم لمدة ٤٢ شهراً، أو السنوات الثلاثة ونصف التي تسبق هلاكه الأخير. خلال هذه الفترة سيُتابع الوحش مهنته في التجديف والعنف تحت التأثير المباشر للتنين. فترة امتداد الإمبراطورية منذ نشأتها (الآية ١) حتى دمارها النهائي على يد الرب شخصياً لدى مجيئه في المجد (١٩: ١٩- ٢١) تُغطي على الأقل كل أسبوع النبوءة الأخير (دانيال ٩). ابتداءاً من انتعاشها من الهاوية في وسط الأسبوع، ومن ذلك الوقت فصاعداً نؤرخ فترة عمله الشيطاني لمدة ٤٢ شهراً.

عندئذ يكون الله وخيمته وسكان السماء موضوع تجديف الشيطان. تُطلق كلمات نابية وبذيئة. لا نعرف ما يُقال، ولكن من المؤكد أنها تدل على الحد الأقصى من الحقد نحو الله بفعل التنين الماكر الحاقد وهذا سيكون علنياً وبصوت مرتفع. وعلى الأرجح أيضاً أن يأخذ التجديف طابعاً إضافياً من الازدراء والسخرية بالصور والمظاهر التي تعبر عن المواضيع الإلهية. ثم يقف القديسون على الأرض الذين يدافعون عن حقوق الله ضد التنين وأتباعه ويُسلمون بقوة الوحش. القديسون في هذه الأوقات ليسوا بطابع الشهود السلبيين الـ ٧٠٠٠ الذين في زمن النبي. في شهادتهم هم مثل إيليا في الجرأة ورفض المساومة. يُسمح للوحش بأن يشفي غليله وانتقامه من القديسين بأن "يَغْلبَهُمْ". انظر أيضاً (١١: ٧، ٨) المتعلقة بأورشليم. أياً كان الامتداد الإقليمي للإمبراطورية في المستقبل، فإن سلطة الوحش تبدو غير محدودة في مداها وامتدادها، إذ تشمل "كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَأُمَّةٍ"- هذه التقسيمات الأربعة للجنس البشري. ولذلك نجد تجمعاً في أورشليم من الناس من كل أصقاع الأرض مترابط مع الوحش في قتله للقديسين اليهود (١١: ٩). البلدان والشعوب خارج الإمبراطورية الرومانية سيكونون تحت تأثيره وسلطانه القويين. الوحش والمرأة (بابل) مترابطان جداً، وإضافة إلى ذلك فإن هناك أمماً أخرى لها علاقة خارجية مع الوحش وتكون له سلطة عليها (الأصحاح ١٧).

عبدة الوحش:

٨- "فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَميعُ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض، الَّذينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسيس الْعَالَم في سفْر حَيَاة الْخَرُوف الَّذي ذُبحَ". قمنا بالتعليق أكثر من مرة على المغزى الأخلاقي في التعبير "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض" بأنها تشير إلى مجموعة من الأشخاص قد رفضوا عن عمد الدعوة السماوية والذين كانوا في الواقع مرتدين عن المسيحية. إنهم متمايزون عن الأمم والشعوب واللغات والقبائل (١١: ١٠). وهنا، إن عبارة "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض" لا تشير إلى مغزى خاص، لأن الإشارة هي إلى الجميع ما عدا النخبة المُنتقون. كل الذين يسكنون آنذاك على الأرض النبوية على تضاد مع أولئك الذين أسماؤهم هي في سفر حياة الحمل، ومن هنا فإن المعنى الروحي للعبارة سكان الأرض لا يمكن أن ينطبق في هذه الحالة. في المقطع الذي أمامنا الجميع يسجدون للوحش ما عدا النخبة المنتقاة. الحمل المذبوح الذي كان قد افتداهم بدمه يكون لديه اعتبار خاص لأولئك الذين يعانون. سفر الحياة الذي كُتبت فيه أسماؤهم يخصه. في صفحاته كُتبت أسماؤهم منذ تأسيس العالم، ومن هنا فلا يمكن أن تُمحى، كما الحال مع كتاب أو سجل المعترفين (٣: ٥). الأسماء، الحقيقية أو الزائفة، موجودة في هذا السفر الأخير، إذ أن الله يأخذ بالاعتبار اعتراف كل المسيحيين. ولكن سفر الحياة عند الحمل لا يمكن أن يحوي إلا أسماء المفتدين كما كُتبت منذ تأسيس العالم، أي من بدء الزمان. إنه نفس السفر ونفس الجماعة التي يُشار إليهما في ١٧: ٨ وفقط هناك اسم الحمل محذوف. الوحش يغزو ويقتل، ولكن الحياة الأبدية هي نصيب أولئك الشهداء. الحمل افتداهم بموته، وهكذا صنع صلاحاً في زمن معين، وكشف في اللحظة المناسبة الحقيقة المشجعة والمعزية في أن أسماءهم كُتبت في سفر الحياة الخاص به، بركتنا كمسيحيين تعود جذورها إلى قبل النخبة التي يتم الحديث عنها هنا وأولئك الذين في متى ٢٥: ٣٤. نحن معروفون مسبقاً، ومختارون، وقُدِّر لنا مسبقاً منذ تأسيس العالم، وقبل أن يبدأ الزمان، أن نكون في الأبدية (أفسس ١: ٤، ٥؛ رومية ٨: ٢٩). يمكننا القول أن النخبة في متى ٢٤: ٢٢ تشكل جماعة من متقي الله، اليهود، في حين أن أولئك الذين هم في أصحاحنا والخراف الذين في متى ٢٥: ٣٤ مختارون منتقون من العالم بمجمله.

دعوة وتحذير:

٩- ١٠- "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ! إنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْياً فَإلَى السَّبْي يَذْهَبُ. وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بالسَّيْف فَيَنْبَغي أَنْ يُقْتَلَ بالسَّيْف. هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ وَإيمَانُهُمْ". الصيغة "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ" استخدمها الرب مراراً وتكراراً خلال فترة خدمته على الأرض (متى ١١: ١٥؛ ١٣: ٩، ٤٣؛ لوقا ٨: ٨، الخ). إنها في جوهرها تحمل نفس المفردات والمعنى، ولكن ينقصها ما يقوله يوحنا في مخاطبته للكنائس السبع (رؤيا ٢، ٣). فالعبارة "مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ" ليس لها تطبيق هنا، لأن الكنائس لم تعد على قيد الوجود خلال سير الدينونات الرؤيوية. الدعوة إلى السماع تفترض وجود فهم روحي، وبهذا يتمايز عن السماع الطبيعي المألوف للناس.

المبدأ إذاً ينطبق على الوحش كما على قديسي الله في جميع العصور، على الأعداء والأصدقاء سواسيةً. ومهما كبرت النعمة وقدرة الروح القدس على العمل في القديسين فإن تطبيق هذا المبدأ يبقى صالحاً. ولكن ما الحقيقة هنا التي تترك انطباعاً قوياً في الذهن؟ إنه يقين العدالة العقابية، أو كما يقول الكتاب: "بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (متى ٧: ٢). من يقود إلى العبودية، أياً كان، سيخضع لها بالتأكيد. كل من يقتل لابد أن يُقتَل. يا لها من كلمة تحذير، وملائمة وفي أوانها للقديسين الذين يكونون آنذاك قد سُحقوا تحت وطأة الحكم الحديدي للوحش! سوف لن يُقاوموا. أسلحتهم لن تكون جسدية بل روحية. "هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ وَإيمَانُهُمْ". وبهذا الشكل فقط يمكنهم أن ينتصروا. انتصاراتهم معنوية وروحية، وليست مادية. يكونون بلا حول أو قوة أو رجاء، ويكون اتكالهم على الله وحده. لن يسجدوا للوحش، ولكن من جهة أخرى يجب أن لا يقاوموا، ومن هنا فإن الأسر والموت سيكون نصيبهم المحزن. ليكن كذلك، إذ ستكون لهم حياة وراء قدرة العدو في أوجها. أسماؤهم كُتبت في سفر الحياة للحمل، وما من قوة في الجحيم أو الأرض يمكن أن تمحي الكتابة أو تحرمهم من نصيبهم الأبدي الذي يقوم على أساس موت حمل الله.

يمكننا القول أنه في رؤيا ١٣ ودانيال ٧ الإمبراطورية المنتعشة هي الموضوع البارز. ولكن في الأولى الطابع العام لقوة العالم هو الميزة البارزة، في حين نجد في الأخيرة أن الملامح المميزة هي الرأس الشخصي بشكل خاص في الإمبراطورية هي التي تُرى بشكل واضح. تجديف الوحش والاضطهاد الذي يمارسه (رؤيا ١٣: ٥- ٧) تأتي في تعابير تكاد تتطابق مع تلك المستخدمة مع القرن الصغير (دانيال ٧: ٨، ٢٥). النبي العبري والرائي المسيحي كلاهما يربطان بشكل حيوي الإمبراطورية برأسها الشخصي، الإمبراطور الأخير. طابع الإمبراطورية مجسد في رأسها العظيم الأخير. هناك ملامح أخرى في الوحش الرابع وعلاقته بالزانية كما نراها في الأصحاح ١٧ من سفر الرؤيا والذي سندخر التأمل فيه إلى أن نصل إلى ذلك الأصحاح. إن "الوحش"، أي الإمبراطور، يُصور بشكل مميز في الرؤيا على أنه القوة أو السلطة المدنية العظيمة في الأيام الأخيرة.

الوحش الثاني

(الآيات ١١- ١٨)

الوحشان في حالة تضاد:

يُمثل الوحشان في أصحاحنا سلسلة من متناقضات مذهلة. الأول يطلع من حالة غير مستقرة للأشياء- البحر؛ والثاني يطلع من حالة مستقرة راسخة من الحكم المدني والسياسي في الأرض. السابق قوة مدنية والأخير قوة دينية. الوحش الأول كان له عشرة قرون، والثاني له اثنان. في تأثير ماكر مهلك للنفس يكون الوحش الثاني أكثر خطراً من وكيلي الشيطان التنفيذيين ولكن الأول يكون أسمى وأعظم في السلطة المدنية والعسكرية. من الواضح أن الوحش الثاني تابع للأول، ويستخدم في الواقع قوى الإمبراطورية العسكرية وغيرها ليحقق هدفه- تأليه الوحش الأول. الوحش الثاني هو نائب للأول. الأول أممي؛ بينما الثاني يهودي. وزمنياً أيضاً يلي الوحش الثاني طلوع الأول. هناك تشوش كبير في أذهان الكثيرين في ما يتعلق بالعوالم الخاصة بكل من هذين الوحشين من حيث تأثيرهما. الأول في نظام سياسي وعسكري واسع، ولأنه هكذا فإنه يهلك عند مجيء الرب. بينما الامتداد الإقليمي للإمبراطورية يكون محدوداًَ أكثر مما كان في طابعها الإمبراطوري الماضي، وسلطتها وتأثيرها الذي يمتد في كل أرجاء الأرض المتحضرة والممسحنة، مشتملة على شعوب وأمم عديدة. له يعطي الشيطان عرشه وسلطته، هذان اللذان رفضهما المسيح من الشيطان (لوقا ٤: ٦، ٧). إنه يأخذه من أبيه (مز ٢: ٨). ما من قوة يمكن أن تصمد أمام الوحش. إنه القوة المسيطرة على الأرض.

الوحش الثاني يسيطر في أرض الكنعانيين، ولكن سلطته السياسية سرعان ما تتضاءل عندما يتدخل الوحش الأول، في شخص رئيسها، في الأمور السياسية والدينية لليهود، ويكون لذلك الوقت السيد الافتراضي في الأرض. يُرى ضد المسيح كوحش في بداية تاريخه، ولكنه يهلك في النهاية وكما النبي الكذاب، إذ يكون قد خسر سيادته المؤقتة. السلطان كأمير وملك على الأرض يظهر في الوحش الأول، الذي يبقى مسيطراً لفترة طويلة ويهلك في النهاية. الوحش الثاني يصبح خادماً للأول. ولكن الوحش الثاني هو الذي يخدع العالم، ويعمل لوضع اليهودية والمسيحية بين ذراعي الشيطان. العبودية الأكثر إذلالاً التي لا نظير لها والتي تعرض لها الوحش الأول هي ملمح مريع آخر لتلك الأوقات. لن تكون هناك حرية. كلا الوحشين يتشاركان نفس المصير وفي نفس الوقت في أورشليم أو قربها لدى مجيء المسيح بقوة وسلطان (١٩: ٢٠).

المحاكاة الساخرة للمسيح:

١١- "ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشاً آخَرَ طَالعاً منَ الأَرْض، وَكَانَ لَهُ قَرْنَان شبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتنّينٍ". مَن هو ذلك الوحش الذي يُشار إليه على أنه "آخر"؟ إن مظهره كشبه خروف يوحي لأول وهلة بأنه المسيح الكذاب. إن له "قرنان". والحمل له "سبعة قرون". القرن هو رمز القوة والسلطة، مادية كانت أو أخلاقية أو ملوكية. ونستنتج أن القرنين على الوحش هما محاكاة للقرون السبعة على الحمل (٥: ٦). كامل القوة هي مع الحمل؛ ولكن قوة محدودة مع الوحش. قرنا القوة ترمزان إلى المهمة المزدوجة للملك والنبي التي يُفترض في ضد المسيح توليها. كملك يملك على أورشليم، ولكن في إطاعة إلى رئيسه الأعظم "الوحش" (دانيال ١١: ٣٦). تحت هذا اللقب الرؤيوي، "النَّبِيِّ الْكَذَّابِ" (١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠)، يمارس سلطة روحية عظيمة بين اليهود وشعوب العالم المسيحي عموماً.

"كَانَ يَتَكَلَّمُ كَتنّينٍ". رغم بعض الشبه الخارجي بالحمل في انتحال السلطة الرسمية التي له حق فيها ينكشف في الحال عندما يتكلم. صوته الذي يشبه صوت التنين وكلامه يخونانه، ويظهران أنه خادم للشيطان. إنه الأداة التي يعمل بها الشيطان في تدمير اليهودية والعالم المسيحي، روحياً وأخلاقياً على حد سواء، لكونه معاونه العظيم، الوحش الأول، الذي له دور فعال في العوالم النبوية للحكم السياسي والمدني. الدمار، المادي والمعنوي، هو هدف التنين الأعظم، وفي سعيه لتحقيق هدفه يؤيده نائباه الرئيسيان باقتدار، وهما الوحشان الوارد ذكرهما في أصحاحنا.

يمكننا القول أن روما وأروشليم هما المركزان المعينان اللذان يظهران تأثير عمل الشيطان في أوربا ويهوذا وكل أرجاء الأرض.

الوحش الثاني وخادم الوحش الأول:

١٢- ١٥- "وَيَعْمَلُ بكُلّ سُلْطَان الْوَحْش الأَوَّل أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ الأَرْضَ وَالسَّاكنينَ فيهَا يَسْجُدُونَ للْوَحْش الأَوَّل الَّذي شُفيَ جُرْحُهُ الْمُميتُ، وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظيمَةً، حَتَّى إنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزلُ منَ السَّمَاء عَلَى الأَرْض قُدَّامَ النَّاس، وَيُضلُّ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض بالآيَات الَّتي أُعْطيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ الْوَحْش، قَائلاً للسَّاكنينَ عَلَى الأَرْض أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً للْوَحْش الَّذي كَانَ به جُرْحُ السَّيْف وَعَاشَ. وَأُعْطيَ أَنْ يُعْطيَ رُوحاً لصُورَة الْوَحْش، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ الْوَحْش وَيَجْعَلَ جَميعَ الَّذينَ لاَ يَسْجُدُونَ لصُورَة الْوَحْش يُقْتَلُونَ". هذه الوحوش هي منظمات سياسية أياً كانت الرئاسات التي تمثلها. الثاني هو القوة التابعة، ورئيسه الملكي التابع الفعال للوحش الأول. قد يستنتج المرء لأول وهلة أن الوحش الأول هو مجرد آلة فعالة، وأن الطاقة والقوة التي تتسم بها توجد متمركزة في الوحش الثاني الذي "يَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ الْوَحْشِ الأَوَّلِ أَمَامَهُ"، أي في حضوره. ولكن ليس الحال هكذا. الوحش الأول هو اتحاد قوي بين عشرة ممالك، تلاحمت بشكل منسجم فغدت قوة ضخمة هائلة (١٧: ١٣) تحت قيادة قائد استبدادي، فعال، وفظ، ومضطهِد، ومجدِّف. ليس للوحش الديني سلطة ملكية خارج فلسطين ولذلك فإنه يستخدم سلطة الوحش الأول وقوته ونفوذه، ليحقق مخططه الشيطاني في أن يجعل العالم المسيحي يسجد أمام الإمبراطورية الرومانية المنتعشة. الوحش الثاني ليس لديه قوة عظيمة أو قدرة عسكرية من تلقاء ذاته؛ هذا يُعطى من التنين على الوحش الأول. يؤثر الثاني على الناس من ناحية دينية وروحية، وهو أسوأ من كلا الاثنين. الوحش الثاني يشابه الأول في السوء، بل يفوقه شراً. ينتحل لنفسه الحق في العبادة كإله؛ فيجلس في الهيكل الحرفي الذي يبنيه الشعب الجاحد؛ ويقيم نفسه فوق كل سلطة، إلهية وبشرية؛ وفي الواقع، يأخذ مكانة الله ما أمكنه ذلك، ويكون كل هذا في أرض فلسطين ٨. فهناك يملك، وقد جعل عرشه في أورشليم، وهناك أيضاً يشغل الهيكل على أنه الله. هذا الوحش هو اندماج السلطتين الدينية والمدنية، المسيطر السابق. وخلافاً للمسيح، الذي جاء باسم أبيه (يوحنا ٥: ٤٣)، هذا الشخص الفظيع يدعي أنه مسيّا إسرائيل، أيضاً، كملك ونبي بين الناس الذين يكونون في حالة إلحاد. ويكون الشعب، (ما عدا البقية التقية الباقية)، قد أُعميوا جزائياً، واعترفوا بمزاعم ضد المسيح الذي سيترأس بنفسه المرتدين من اليهود والمسيحية (١ يو ٢: ٢٢). سوف يؤله ضمن حدود الأرض المقدسة. وأما خارج حدود فلسطين، في العالم المسيحي الأوسع، فإنه يفرض على الأمم والشعوب أن يسجدوا للوحش الأول، "الَّذي شُفيَ جُرْحُهُ الْمُميتُ". ويكون قد انتعش آنذاك.

١٣- "يَصْنَعُ آيَاتٍ عَظيمَةً"، وهذه لا تُحدَّد، ولكن آيةً واحدة بارزة واضحة يتم ذكرها بالتحديد، ألا وهي "أنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزلُ منَ السَّمَاء" وهذه تظهر علانية "قُدَّامَ النَّاس". إنها صفة المعجزة التي اجترحها إيليا باسم يهوه إزاء أولئك الذين كانوا يعبدون بعل (الملوك الأول ١٨: ٣٨، ٣٩). على هذا النحو، إذاً، يؤيد الوحش الثاني مزاعم الأول بأن يُسجد له في كل الكون؛ وعلى نفس المنوال فإن الشيطان يصادق على الوحش الثاني (٢ تسا ٢: ٩). إنه الوقت الذي يلجأ فيه الله وبدينونة عقابية إلى التخلي عن العالم المسيحي الأثيم، الذي أسلم نفسه للشيطان. وهنا تبدأ عقوبتهم. إن الله بقضائه سيُسلم العالم المسيحي إلى "عَمَل الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ" (٢ تسا ٢: ١١). والنتيجة هي أن الشيطان يأخذ مجلسه في بيت المعترفين بالله، وهكذا يُنحِّي الله جانباً وتنتشر عبادة شيطانية بثلاث أشكال تنتج عنها نتائج فظيعة. وتكون هذه نهاية حضارتنا المتبجحة والتطور المادي والسلوكي. فإما أن يكون الله والمسيحية، أو الشيطان والعالم المسيحي. الحق مرتبط بالأول، بينما الاعتراف المجرد، الذي لا قيمة له، يعد الطريق للأخير.

الإعلان الصريح بأَنْ "يَصْنَعُوا صُورَةً للْوَحْش الَّذي كَانَ به جُرْحُ السَّيْف وَعَاشَ"، هي صورة مُسبَّقة عما رأيناه حتى الآن. لافت للانتباه أنه في  بداية السيادة الأممية كان الناس مضطرين تحت وطأة ألم الموت لأن يسجدوا للصورة التي تمثل عظمة وجلال الإمبراطور الأول (دانيال ٣). والآن في نهاية فترة السيادة الأممية يتكرر الأمر. يا لطبيعة البشر الراسخة في الفساد! الصورة والمثال متمايزان في الكتاب المقدس. خسر الإنسان الصورة (الأخلاقية) لله (تك ١: ٢٦)، ولكن رغم سقوطه يبقى صورة الله أو ممثلاً له بقوةٍ (تك ٩: ٦). الصورة شيء يمثل شيئاً آخر، ولكن ليس بالضرورة على نفس الشبه أو مثله تماماً. إننا متأكدون من فكرة أن "صُورَة الْوَحْش" ستكون تمثيلاً فعلياً حرفياً دقيقاً في مركز العالم المسيحي بوسائل تجعل الوحش موضع سجود. لقد كانت صورة فعلية نُصبت في بقعة دورا حيث كان يُعبد نبوخذنصر.

الجرح القاتل للوحش يتكرر ذكره ثلاثة مرات هنا (الآيات ٣، ١٢، ١٤). في الملاحظة الثالثة لذلك يُقال أن الجرح هو جرح السيف، ما يدل ضمناً على أنه ليس انكساراً طبيعياً للإمبراطور، بل انهزاماً عنيفاً. قبائل البربر المتوحشة اكتسحت من الشمال الإمبراطورية المتهاوية وقضت عليها سياسياً بسرعة كبيرة.

صورة الوحش التي تُعبد تحت ألم الموت:

١٥- "وَأُعْطيَ أَنْ يُعْطيَ رُوحاً (وليس حياةً) لصُورَة الْوَحْش". ليس لضد المسيح قوة بحد ذاته. ما كان ليستطيع أن يُنشط بنفسه الصورة أو يعطيها حيوية حقيقية أو زائفة. القوة التي وراءه هي الشيطان. هو الذي يتصرف من خلال الوحشين. إنه يعطي الروح وليس الحياة لأن الله هو الذي يعطي الأخيرة ويحفظها بيده. إنها صورة "للوحش" أي لمجده؛ ولكنها أيضاً صورة "الوحش" أي تُمثله، وتسترعي انتباه العالم غليه، تجعل فكرة الوحش أمام ناظري وفكر البشر. يقول هغستنبرغ معلّقاً: "الحديث هو ليس عن صور، بل عن صورة. ولكن المقصود مشهد مؤلف من عدة صور". لا نستطيع أن نؤكد في ما إذا كانت الصورة التي يتم الكلام عنها هنا متعددة ومتبعثرة في كل أرجاء طول وعرض العالم المسيحي. الاعتراض، على كل حال، المتعلق بأن تكون صورة أم عدة صور، هو على فكرة الإتيان بالعالم إلى قدمي الوحش في سجود. الصورة تُجعل لتتكلم. وما تقوله يجب أن يعرفه فقط أولئك الذين يسمعونها. الموت هو النصيب المقرر لأولئك الذين يرفضون تقديم الكرامة للوحش كإله، أو رئيسه المتمايز، "رئيس (روما) الذي سيأتي" (دانيال ٩: ٢٦). ولذلك فبالآيات والعجائب من النوع المعجزي، التي يجترحها الوحش الثاني، يخدع الجموع المسيحية المرتدة الآثمة، ولذا فليس كل تصور للعالم المسيحي مغلوط، بل تُمارس أيضاً الميزة الأكثر فساداً ألا وهي الصفاقة والوقاحة. فيا له من مستقبل ينتظر تلك الديار!

خضوع العالم للوحش- التحكم بالتجارة:

١٦- ١٧- "وَيَجْعَلَ الْجَميعَ: الصّغَارَ وَالْكبَارَ، وَالأَغْنيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَالأَحْرَارَ وَالْعَبيدَ، تُصْنَعُ لَهُمْ سمَةٌ ٩ عَلَى يَدهم الْيُمْنَى أَوْ عَلَى جبْهَتهمْ، وَأَنْ لاَ يَقْدرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَريَ أَوْ يَبيعَ إلاَّ مَنْ لَهُ السّمَةُ أَو اسْمُ الْوَحْش أَوْ عَدَدُ اسْمه". في تلك الأيام الفظيعة الفكر والسلوك الفردي يتحطمان. ويُشاهد أبشع أشكال الخضوع مذلة ومهانة التي يفرضها أسوأ مستبد عرفه التاريخ، وما من احد يجرؤ على الرفض. الفئات المتنوعة المسماة هنا هي علامة شاملة على الجميع ضمن مجال تأثير الوحش، وتُذكر مثنى مثنى. ما من أحد، سواء كانت له مكانة رفيعة أو متدنية، يمكن أن ينجو. ليس بمقدور الأغنياء أن يشتروا أية وسيلة لتجنب الحكم الحديد للوحش ولا يستطيع الفقراء الحصول على إعفاء من هذا الحكم. الأَحْرَارَ وَالْعَبيدَ هما على حد سواء على مستوى ميت واحد- الخضوع الكامل المطلق للوحش. الجميع، من الصغير إلى الكبير، متساوون في العبودية. مقاومة إرادة الوحش تعني الحرمان من حق الحياة (لأنه يسيطر فعلياً على كل التبادل التجاري)، ونوال الموت المحتم. توضع علامة ملغزة معينة على اليد اليمنى للجميع أو على جبهة ١٠ الجميع، ما عدا الشهداء الذي يُضحون بحياتهم بسبب احتجاجهم القوي والأمين ضد الادعاءات الشيطانية. العلامة على "اليد" ستشير إلى أن الشخص موسوم كعبد فعلي للوحش؛ وإذ يوضع ختم على الجبهة سيكون إقراراً علنياً بالعبودية. في كلتا الحالتين على الجميع الاعتراف بالسيادة المطلقة للوحش وعليهم أن يسجدوا له. لقد كان أمراً مألوفاً وسم العبيد باسم أو بعلامة خاصة بمالكهم. بولس (غلاطية ٦: ١٧)، إسرائيل في أسباطه (رؤيا ٧: ٣)، المتبقين في يهوذا (١٤: ١)، القديسون السماويون والممجدون (٢٢: ١٤) يُوسمون بيد الله على أنهم خاصته، ويكون ذلك علنياً (انظر أيضاً حزقيال ٩: ٤).

لنلاحظ بعناية أن الشيطان يعطي وحدة وقوة لهذه المنظمة السياسية والاجتماعية الكبيرة والتي تسمى هنا بـ "الوحش"، ولذا فإن على الجميع أن يتبعوه في الآلام والعقوبات الناجمة عن الرفض العديم الشفقة. ضرورات الحياة، التي يتم الحصول عليها عن طريق التجارة الشرعية، سيُحرم منها أولئك الذين، بأمانتهم لله وإخلاصهم للحق، يرفضون تقديم الولاء للوحش ولمؤيده وتابعه القوي والماكر، ضد المسيح. النبذ الاجتماعي، والموت هم النصيب المعين لكل المخلصين لله في هذه الأزمة الفظيعة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. المزج والتآلف هو نمط اليوم. الدين يتطلب ذلك، والعالم السياسي يتطلب ذلك، والثروة ورأسمال يتطلبان ذلك، والعمال، ماهرين كانوا أم لا، يتطلبون ذلك. الجميع يعمل لغاية واحدة بالغة الأهمية، دمج الشيطان لكل الأحزاب الدينية تحت سلطة ضد المسيح، وكل الأحزاب السياسية والاجتماعية تحت الوحش. ومن الحشود المضطربة في الديمقراطية، ومن القوى الوحشية للثورة وفوضى انعدام الحكم التي لا تعرف أي قانون، ومن الصراعات والنزاعات بين رأسمال والعمال، ومن تحطم العروش وانقلاب الممالك، ستبزغ قوة قوية وإمبراطورية بتأثير مباشر من الشيطان، وستُحطِّم كل من يقف في طريقه أو يعترض تقدمه. والجميع دون استثناء سيخضعون لهذه السلطة أو يتحملون العقاب- ألا وهو الموت.

١٧- "السّمَةُ أَو اسْمُ الْوَحْش أَوْ عَدَدُ اسْمه" ١١. ليس لدينا ثلاث بنود محددة. فالـ "السمة" و"الاسم" و"العدد"، ليست منفصلة عن بعضها. السمة عامة، وهي مركبة من اسم الوحش أو عدده. والأخيرين مشتملين في الأولى، ويشرحان السمة. اسم الوحش ليس ممتنعاً عنا، كما اسم الحاكم الشخصي لروسيا فيا لأيام الأخيرة والذي قُرر له أن يلعب دوراً هاماً بما يتعلق بإسرائيل (حز ٣٨؛ ٣٩). لا نعتقد أنه من المستحيل معرفة من أو ما هو المقصود باسم وعدد الوحش؛ ولكن ما من شك أن الله سيلقي ضوءاً كاملاً وفهماًَ شاملاً على هذه النقاط للقديسين الذين سيكونون آنذاك في العالم، والذين ستكون هكذا معرفة ذات أهمية وفائدة كبيرة لهم بل وحتى ضرورية لكي يعرفوا شخصية الوحش الحقيقية. نترك الأمور هنا كما أرادها الله، إلى أن يوضحها هو بنفسه، ولا شك أنه سيفعل ذلك؛ إن لم يكن لنا، فعلى الأقل لأولئك الذين سيكونون في مركز يستفيدون فيه من هذه المعرفة. أولئك الذين يقتبلون سمة الوحش سواء باسمه أو بعدده يُقدر لهم البؤس الأبدي. الكلمات التي تعبر عن مصيرهم الفظيع تدل على رعب لا مثيل له. ولا نجد في كلمة الله ما يفوق هذا الوصف المخيف للهلاك الأبدي المحتوم والتام لمؤيدي الوحش. الله وحده يستطيع أن يصفه، وقد فعل ذلك بكلمات وعبارات تدل على ألم لا يُوصف (١٤: ٩- ١١). باب الرجاء مغلوق أمام الوحش، وأتباعه ورفقائه في الشر، وعبادته الكثيرين. رفض العالم المسيحي للمسيح لابد أن يليه قبول المسيا الكذاب، وذلك الفعل الذي يُشكل قمة إثم وحماقة البشر، عندما يتم، لن تكون له سوى نهاية واحدة، ألا وهي بحيرة النار.

عدد الوحش:

١٨- "هُنَا الْحكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسبْ عَدَدَ الْوَحْش فَإنَّهُ عَدَدُ إنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: ستُّ مئَةٍ وَستَّةٌ وَستُّونَ". حاول المفسرون التمعن في هذا النص وأبدوا اهتماماً كبيراً وأجروا أبحاثاً عميقة لإيجاد جواب واضح على السؤال: ما المقصود بالعدد ٦٦٦؟

ثمة حكمة إلهية في هذا العدد الرمزي- الذي يرد ذكره لمرة واحدة فقط، وهذا يتطلب فهماً روحياً لكشف اللغز فيه. ما من شك في أن الفهم الصحيح والكامل والدقيق والنهائي سيكون واضحاً أمام الحكماء أو الأتقياء في الأزمة الوشيكة عندما ستُظهر قوة الوحش مكر الشيطان الذي سيتبدى في أعلى أوجه التطور البشري من خلال الكبرياء والفحشاء وفي معارضة دينية سياسية متآزرة ضد الله وممسوحه، إذ أن هذا هو المعنى العام للعدد ٦٦٦. المعنى الذي سيكون واضحاً للقديسين المعنيين مباشرة بالأمر سيستدعي التنصل الفوري من الوحش ومزاعمه الذي سيكون الخادم السياسي للشيطان في معارضة مجدفة ضد الله.

٦٦٦ هو عدد الإنسان؛ الرقم ٦ مرتبط بالإنسان في يوم خلقه وتاريخه اللاحق. فالإنسان خُلق في اليوم السادس. وعدد الأيام التي يعمل بها ويشقى هي ٦. وكان على العبد العبراني أن يخدم ٦ سنوات. والأرض كانت تُبذر بالحب لمدة ٦ سنوات. وتحت الختم ٦ ستحدث كارثة عالمية ومرعبة تصيب الجنس البشري. بما أن العدد ٧ يشير إلى الكمال أو الاكتمال، فالعدد ٦ يشير إلى النقص ما يدل على نقص الإنسان وتعبه. ولكن خلال تطور تاريخ البشر يمضي الإنسان من سيء إلى أسوأ، ومن هنا فإن تراكم العدد ٦ يكون ذا مغزى أخلاقي إلى أن يُشاهد الإنسان في معارضة علنية مباشرة لله. جليات وأخوه العملاق كانا رجالاً ذوي قوة وطول فائق الطبيعة، وفي عداء علني صريح لله وشعبه. العدد ٦ خُتم على كليهما (١ صم ١٧: ٤- ٧؛ أخبار الأيام الأول ٢٠: ٦).

ومع المزيد من تطور الإنسان في تاريخ شره المطرد تأتي القمة كرقم ٦٦٦ المشؤوم، عدد الوحش. هناك ارتباط واضح بين قوتي العالم الأولى والأخيرة. في الطابع هما متطابقتان، ما خلا أن الأخيرة هي الأسوأ. صورة تمثال الذهب الذي يضعه نبوخذنصر لمجده الذاتي كان ارتفاعه ٦ أذرع وعرضه ٦ أذرع (دا ٣). ما من شك بأن التمثال في سهل بقعة دورا كان يُقصد به دمج وتوحيد الأديان العديدة والمتنوعة للإمبراطورية البابلية العظيمة. تحت تهديد الموت الفظيع كان لابد من عبادة التمثال الذهبي. وبالتأكيد فإن دانيال ٣ تشير إلى الشر الأكثر شدة وسوءاً في رؤيا ١٣. الواحد يُعلن عن الآخر. في كلا النصين الكتابيين، الكبرياء والإرادة الذاتية والاستقلال المتكبر عن الله لدى البشر الذي يوضع فوق الشريعة البشرية هي صورة محزنة. ولا يبقى سوى السؤال: ما مغزى هذه الثلاثية من العدد ٦ أي ما المغزى من العدد ٦٦٦؟ المغزى هو قمة تطور الإنسان واكتماله تحت سيطرة الشيطان المباشرة. إنه اندماج القوى المدنية والدينية والسياسية التي تسير بوحي الشيطان. إنها البيئة خارج الله عندما لا يجعلونه الحاكم المطلق بل يضعون إنساناً مكانه، ليس في العالم الوثني، بل في فلسطين ذاتها وفي كل أرجاء العالم المسيحي. ولا يستطيع الإنسان أن يذهب إلى ما وراء المغزى من هذا الرقم ٦٦٦ الذي يشير إلى الشر. نصل هنا إلى قمة الحماقة البشرية، والكبرياء البشري، والتعجرف البشري، وإطلاق العنان للإرادة البشرية. ونعتقد أن هذا هو المغزى من هذا الرقم الرمزي ٦٦٦. ليس أُحجية يصعب على الفكر البشري البارع حلها، ولكنه يشتمل على حكمة يستطيع الحكيم بالروح في ذلك الزمن كما الآن أن يفهمها ويستفيد من معرفتها.

النظرة إلى المكانة النبوية:

في الأصحاح ١١ اليهود وأورشليم، بينما في الأسر بالنسبة إلى الأمميين، هم في مقدمة الرؤيا، على الأقل حتى الآية ١٣. بقية هذا الأصحاح تُنبئ بشكل عام ومبهج بالنهاية. في الأصحاح ١٢ لدينا نور السموات ملقى على مصادر الخير والشر غير المنظورة، والتي هي الابن الذكر والتنين؛ ثم علاقة إسرائيل بكليهما، خاصة خلال الأسبوع الأخير من الألم الآتي. الشيطان، وقد طُرد من السموات، وملائكته معه، يسعى ليصب انتقامه على يهوذا، ويضطهد قديسي الله- اليهود والأمميين- ويجدف على الله، والسموات، وكل ما فيها. نشاطه مستمر، وطاقاته لا حد لها، إذ يعلم أن استمراره هو لفترة وجيزة فقط. إنه لأمر مثير للدهشة كيف تحتشد الأحداث خلال فترة قصيرة نسبياً مؤلفة من ثلاث سنوات ونصف. ما كان ليستغرق مئات من السنين ليتحقق في ظروف أخرى عادية يتحقق بسرعة هنا تحت زعامة الشيطان الماكر. يجب أن نتذكر أيضاً أن الموانع العديدة العنائية القائمة حالياً لإعاقة التفجر الأخير للشر ستزول آنذاك. ستُختطف الكنيسة إلى السماء، وسيكون الروح أيضاً قد غادر الأرض. "الَّذِي يَحْجِزُ (أو يسمح) الآنَ، وحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ" (٢ تسالونيكي ٢: ٧، ٨). هناك إعاقة مزدوجة: "ما يحجز" و"ذاك الذي يسمح"- الشيء هو الكنيسة، والشخص هو الروح القدس.

ثم في الأصحاح ١٣ لدينا الوحشان اللذان يسعى الشيطان من خلالهما ليحقق أهدافه في العالم المسيحي واليهودية الفاسدة. الوحش الأول هو روما بلا شك، المدنية والسياسية، القوة العالمية العظيمة التي يُعطيها الشيطان مكانه، وعرشه، وسلطته. الوحش الثاني يتصرف بقدرة فائقة تقريباً من الناحية الدينية في فلسطين، ولكن في الحقل الأوسع خارج الأرض المقدسة يطلب الشيطان خدماته، وهناك يسلك في خضوع للسلطة الإمبراطورية. لا يكفي أن نهاية الأخيرة في يهوذا تتجاوز في صنميتها كل ما مر في الماضي (متى ١٢: ٤٥)، وتتجاوز تلك الصورة المرعبة التي رسمها نبي السبي (حز ٨)، بل إن العالم المسيحي أيضاً سيُختزل إلى كتلة فاسدة مجدفة حافلة بالوثنية والشر. وهذا يحققه الوحش الثاني في حضور الأعلى منه في السلطة.

ثم نرى الأعداء الخارجيين ١٢ لشعب إسرائيل في ذلك الوقت، الذين لا يذكرهم سفر الرؤيا، والذين يرأسهم الآشوريون أو ملك الشمال، الذي سيكون أداة العقاب للشعب المسترد. ملك الجنوب، أو مصر، هو حليف الوحش ويعارض جاره الشمالي العظيم، ملك الأشوريين، الذي هو الخصم العنيد للملك المعادي للمسيحيين في الأرض (الوحش الثاني الوارد ذكره في الأصحاح ١٣) وملك الجنوب. تقبع فلسطين بين هاتين القوتين المتضادتين، وتصبح ساحة المعركة بينهما. الماضي (دا ١١: ١- ٣٥) والمستقبل (الآيات ٣٦- ٤٣)- لهاتين المملكتين في علاقتهما مع اليهود هي موضوع يستحق الدراسة الجدية. ولعله يمكننا القول أن الأصحاح ١١ من دانيال هو توسع مع تفاصيل أكثر للأصحاح ٨. يجب قراءة أشعياء وميخا ودانيال بشكل خاص

لفهم العلاقة بين إسرائيل وأعداءهم الخارجيين في الأيام الأخيرة. جوج، أو روسيا، سيّد ملك الشمال، يُخزى بشكل شائن على الجبال بعد دمار الأشوريين، وبعد أن يأتي الرب، مكملاً بذلك مجموعة الدينونات قبل أن يملك الرب في سلام ويؤسس الأرض بيوبيلها الطويل الأمد المؤلف من ألف سنة. يرأس جوج أمم وشعوب الشمال الشرقي في مقاومة ومعارضة للوحش- القوة التي في الغرب. السابق معاد سياسياً لليهود، والأخير صديق لهم سياسياً بعد استردادهم. اليهود قبل عودة الرب بقوة يكونون موضع عداء وحرب بين جوج والوحش. الأهداف السياسية لهذه الأخيرة مختلفة، وهذا ما يجعلهم في حالة صراع. تنضج الأحداث في أوربا وآسيا بسرعة نحو الصراع النهائي. فلتبقَ نفوسنا في سلام.


١. الوحشان هما قوى الممالك، ولكن التعبير يُستخدم في أحوال كثيرة للإشارة إلى رأس المملكة الشخصي، كما ينطبع بشخصية الحاكم. ولهذا ففي هذا الأصحاح نجد استخدام الضمائر الشخصية والمذكرة مع الوحش في إشارة، بالطبع، إلى الحاكم الشخصي الفعلي (انظر الأصحاح ٢٠: ١٠). ومن هنا فإن التعبير "وحش" يمكن استخدامه كبديل عن الإمبراطور أو الرئيس الشخصي أو الفعال عنده. نلاحظ أن الوحشين اللذين يذكرهما الأصحاح ٤- ٦ هما كائنان حيّان.

٢. لا يُعطي النبي اهتماماً للفاصل الزمني الذي لم تكن فيه القوة الرومانية صاعدة أو موجودة على مدى قرون. ويُظهر يوحنا انتعاشها.

٣.   الأولى لن تكون موجودة إقليميا، بل ستوجد مدمجة في خصائصها ضمن الرابعة. وقُدِّر لبابل أن لا تنهض كقوة مؤقتة (إرميا ٥١: ٦٣، ٦٤).

٤. سقطت روما عام ٤٧٦ م. آخر من كان يعتمر التاج الإمبراطوري كان يُدعى روميولوس أوغسطوس، وكان حاكماً فتياً وضعيفاً. الاسم السابق استدعى إلى الذاكرة مؤسس الإمبراطورية، بينما الأخير أول السلالة الإمبراطورية.

٥. من حيث التطبيق التاريخي، "أسماء التجديف" هي تلك الأسماء التي حملها الأباطرة غير الأتقياء، والذين أصر العديدون منهم على وجوب تقديم العبادة والتكريم الإلهيين لهم. كان الناس يُحيّون نيرون منادين إياه بـ "الخالد". وأمر كاليغولا بأن توضع صورته في الهيكل لتُعبد جنباً إلى جنب مع الرب. في الحقيقة إن تأليه أو عبادة الأباطرة كان قانوناً سارياً في الإمبراطورية الرومانية. وهذه العادة أدخلها القياصرة خلال فترة ارتقائهم للعرش الإمبراطوري.

٦. كل الوحوش العنيفة والقوية التي صورها دانيال (٧: ٣)، تأتي تباعاً إلى مشهد الفعل كممثلين عن إمبراطوريات مختلفة جمع يوحنا هنا بينها في وحش واحد.  وهناك الكثير من المغزى في هذا. الإمبراطورية الرومانية جمعت في ذاتها كل عناصر الفظاعة والاستبداد التي وُجدت في كل الإمبراطوريات العظيمة الأخرى التي سبقتها؛ وامتدادها أيضاً كان يعادل امتداد جميعها مجتمعين. ومن هنا ملاءمة الرمز المركب الذي يجمع رموز الإمبراطوريات الأخرى مع تلك التي في روما، وهذا ما يجعل الأخيرة تتمتع بقوة ووحشية فظيعتين وامتداد إمبراطوري واسع"- ستوارت على "الرؤيا"، ص. ٦٣٨.

٧. هكذا يأتي هذا التحدي الوقح والمتعجرف والجريء للزعم بالقدرة الإلهية. الوحش، وبقوة لم يسبق لها نظير على الأرض، يقف كقوة فاعلة مباشرة موجهاً القدرة الفائقة البشر للتنين- قدرة لا تدخر أحداً ولا تعرف الرحمة.

٨. يسجدون له علانية، ومع ذلك، الأمر الغريب، هو أنه هو نفسه يسجد لإله صنعه بنفسه، إله غير معروف في تاريخ إسرائيل. يحمل الإله الصنم بكرامة (دانيال ١١: ٣٨). "الملك" الذي يدخل بشكل مفاجئ إلى تاريخ الخلافات بين ملوك الأشوريين والمصريين (دانيال ١١) والذي له أصل يهودي (الآية ٣٧) هو من غير ريب المسيح الكذاب: وعلى نفس المنوال، وكمثل إنسان الخطيئة والفاجر (٢ تسا ٢)، ضد المسيح الذي يتكلم عنه يوحنا، النبي الكذاب في الرؤيا، والوحش الثاني في أصحاحنا. ينتحل لنفسه الحق بأن يُسجد له حصرياً في فلسطين ويربط العبادة مع حليفه الكبير ومع التنين في العالم خارجاً.

٩. -  "تُصْنَعُ لَهُمْ سمَةٌ" أي تُعطى لهم علامة. قارن رؤيا ١٠: ١١ "قَالَ لِي"، أي يُقال. (انظر لوقا ٦: ٣٨؛ ١٢: ٢٠؛ ١٦: ٩، تجد استخداماً مشابهاً لهذا، وهذان الاستخدامان، الأول وخاصة الأخير، هما من الآيات التي غالباً ما يُساء فهمها).- "محاضرات على سفر الرؤيا"، وليم كيلي، ص. ٤١٣، الحاشية.

١٠. البرهميون في الهند يحملون علامة على جباههم إكراماً للإله الذي يعبدونه، وبهذه العلامة يُميزهم الجميع بكل سهولة.

١١. "عَدَد الوحش"- يبدو أن المحاولات العديدة التي أُجريت في السنوات الأخيرة لحل هذا اللغز الرؤيوي الهام تظهر أن الدارسين ليسوا متفقين بعد حول هذا الموضوع. وايلاند يجد العدد في العبارة "قيصر الرومان" المكتوبة بأحرف عبرية. شميدت وذيشر يميزونه في الاسم "نيرون" كما يُكتب. بفليدرر يجده في العبارة "القيصر نيرون" وفويلتر في "تراجان أدريانوس". إربيس واسبيتا وزاهن، الذين يتبعون مثال إيريناوس في قراءة العدد على أنه ٦١٦ وليس ٦٦٦، يطابقون الوحش مع كايغولا، أي "غايوس قيصر"، ولكن هذه النتيجة يتم الوصول إليها فقط باستخدام الأحرف اليونانية وليس العبرية. يبدو أنه لم يظهر حتى الآن أي فهم كافٍ لعدد الوحش"- "المفكر"، المجلد ٥، الصفحة ٩٨.

١٢. انظر المقالة المستقلة "الفاعلون الرئيسيون في الأزمة الآتية".

الأصحاح ١٤

تدخل الله السُّباعي الجوانب بالنعمة والدينونة

لقد وصلنا إلى أشد الرؤى الرؤيوية قتامة وسوداوية. سقطت الحقيقة في الشوارع؛ دم قديسي الله أُهرق كالماء؛ تحدٍ وقح لله وتبجح متكبر نشهده ونسمعه؛ يكاد الخير يتلاشى من الأرض (مز ٤: ٦)، والإيمان بالله يكاد يختفي (لو ١٨: ٨). "إنسان الأرض"، أو ضد المسيح، ينهب ويسكب في فلسطين بين القديسين، يُمجد ويؤله نفسه في أورشليم وفي الهيكل، ويخدع العالم، ويحول العالم النبوي كله إلى ساحة ملعب للشيطان. الوحش في تكبره، واضطهاده، وتجديفه منشغل كما وكيل الشيطان الفعال في أوسع مجال مخصص له. والآن تصل صرخة البقية الباقية من اليهود إلى الرب التي طالما تكررت، وهم يعانون أكثر من الآخرين تحت وطأة محنة متراكمة مكدسة قائلين: "إلى متى؟" الاستغاثة المؤثرة تثير في قلوبنا عاطفة تجاوب إذ نشعر وكأننا نشترك في نفس الظروف: "يَا رَبُّ لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟" (مزمور ١٠: ١). الأصحاح ١٤ من الرؤيا هو الجواب على صراخ القلة البقية التقية. إنه يسجل تدخل الله بالنعمة والدينونة. قد رأينا النشاط الهائل للشيطان وانتصاره الظاهري- ولكن هل كان العالم المسيحي واليهودي هما مجال عمله الخاص؟ إن كان كذلك فهذا يفترض أن الله لا مبالٍ وأنه قد تخلى عن شعبه لرحمة عدوه الذي لا يرحم. ولكن ليس الأمر هكذا، كما تظهر محتويات هذا الأصحاح بشكل مقنع.

قلنا للتو أن الأصحاحات ١٢و ١٣ و١٤ تشكل نبوءة واحدة مترابطة. المصدر الخفي للشر يتبدى أنه التنين: هدف رجل الله هو الطفل؛ إسرائيل، أم الابن الذكر، تهرب من انتقام التنين: وهذه هي المواضيع الرئيسية الثلاثة في الأصحاح ١٢ الذي لا يُقدم كتاريخ، بل كما يُرى في السماء. ثم، وكما مواضيع الأصحاح ١٣، لدينا طابع، وتاريخ، وأفعال الوحشين الذين من خلالهما ينفذ الشيطان مخططاته الشريرة على الأرض. وبعد ذلك نجد أننا أمام سلسلة من الحوادث التي هي بيد الله (الأصحاح ١٤). هناك سبع مواضيع متمايزة في الأصحاح: (١)، البقية المتبقية من يهوذا على جبل صهيون (الآيات ١- ٥)؛ (٢)، شهادة الله الختامية، أو الإنجيل الأبدي (الآيات ٦، ٧)؛ (٣)، إعلان سقوط بابل (الآية ٨)؛ (٤)، المصير المشؤوم الفظيع لأولئك الذين يعبدون الوحش (الآيات ٩- ١١)؛ (٥)، البركة الفورية لأولئك الذين يموتون في الرب (الآية ١٣)؛ (٦)، حصاد الأرض وقد جُمع، الدينونة الحسنة التمييز (الآيات ١٤- ١٦)؛ (٧)، عهد الغضب، الانتقام القاسي (الآيات ١٧- ٢٠). ومن هنا تأتي أهمية هذه الأصحاحات الثلاث. إن موقعها بين الأبواق والجامات تفسر الكثير. إنها تظهر من هو الفاعل الحقيقي للإثم المريع على الأرض، الأدوات البشرية التي بها مُرس الإثم؛ وأخيراً تدخل الله في العالم. إضافة إلى ذلك، كما رأينا الشر عند الوحش، فإننا على وشك ان نرى إدانته الرهيبة تحت الجامات. هذه الأصحاحات أيضاً تشكل مقدمة لابد منها للتأديبات الأشد التي ستأتي متتالية بسرعة وتضرب بقوة، والتي تشكل حصيلة الدينونات الجزائية لله، والتي سيتبعها انتقام الحمل شخصياً.

البقية المحفوظة من اليهود

(الآيات ١- ١٥)

جبل صهيون، الحمل، والبقية اليهودية:

١- "ثُمَّ نَظَرْتُ وَإذَا خَرُوفٌ وَاقفٌ عَلَى جَبَل صهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً، لَهُمُ اسْمُ أَبيه مَكْتُوباً عَلَى جبَاههمْ".

جبل صهيون يأتي اسمه مرة واحدة فقط في الرؤيا. "يُذكر اسم صهيون حوالي ١١٠ مرة، تسعون منها ضمن العبارات التي تدل على محبة الرب الكبيرة للشعب، ومن هنا تكون للمكان أهمية كبيرة، وذا مغزى عظيم، والسماء تعرف ذلك أيضاً" ١. أول مرة يُذكر اسم صهيون يكون على فم داود عندما يأسرهم الْجِرْجَاشِيِّونَ (٢ صم ٥: ٧) وهذا له مدلولات في غاية الأهمية، إذ كما يقول المؤرخ القديس: "هو نفسه مدينة داود". وكان شاول، سلف داود على العرش، رجل الشعب المختار، وكان يرمز إلى "الملك" الذي يملك في أورشليم قبل أن يأتي الرب. وداود، الملك الحقيقي لإسرائيل، كان رجل الله المختار، وصهيون كرسي حكمه. لذا فهو رمز لربنا، الذي سيملك في صهيون، "وَقُدَّامَ شُيُوخِهِ مَجْدٌ" (أشعياء ٢٤: ٢٣). صهيون حافل بالذكريات المقدسة بالنسبة إلى اليهود. إنه هدف رجائهم. وصهيون أيضاً مدينة الله المختارة. "لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَناً لَهُ: هَذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. هَهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا" (مزمور ١٣٢: ١٣، ١٤). "جَمِيلُ الاِرْتِفَاعِ فَرَحُ كُلِّ الأَرْضِ جَبَلُ صِهْيَوْنَ. فَرَحُ أَقَاصِي الشِّمَالِ مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ" (مزمور ٤٨: ٢). إنه كرسي الحكم العالمي للأرض، ومركز اهتمام العالم الألفي (أشعيا ٢). إنه المكان الذي عين فيه الرب ملكه عن عمد (مز ٢: ٦). هناك ثلاثة أفكار متمايزة مرتبطة بجبل صهيون: (١) هو كرسي السلطة الملكية؛ (٢) هو تدخل الله بالنعمة؛ (٣) هو سيادة الرب المطلقة، ولكن ذلك كله هو في ما يتعلق بإسرائيل.

الرؤية مبهجة وسارة، هي بمثابة الهدوء بعد العاصفة. لم يحكم المسيح بعد في صهيون، ولكن الزمان قريب، وفي هذه الأثناء يقف الرب يسوع كحمل مع الذين اختارهم. الرؤية فيها توقعات. كل من الحشد من الأمميين المخلّصين (٧: ٩) والملكوت الألفي (الأصحاحات ١١، ١٥؛ ١٢: ١٠) هي رؤى توقعية تتحقق فعلياً في المجيء الثاني بقوة وسلطة. هنا الحمل يقف على جبل، جبل صهيون، ولكن الجامات لم تُسكب بعد. الـ ١٤٤٠٠٠ شخصاً الذين نشاهدهم هنا من يهوذا، وثمة عدد مشابه من كل إسرائيل (٧: ٤) وهذا يشكل رؤية منفصلة. هذه الجماعة لها اسم الحمل واسم أبيه (وليس أبيهم) مكتوبة على جباههم. سمة الوحش هي على كل واحد من الذين يعبدونه. اسم الحمل واسم أبيه أيضاً على جبهة كل معترف بالمسيح. هؤلاء الشهود يُنظر إليهم على أنهم قد خرجوا من المحنة العنيفة تحت الوحش. هم يهود حافظوا بثبات على حقوق الله والحمل؛ والآن يعترفون علانية به. العديد من إخوتهم عانوا حتى الموت، خاتمين شهادتهم بدمائهم. وأولئك الوارد ذكرهم هنا حُفظوا خلال فظائع الضيقة. نستنتج أن الجماعة من الأمميين التي لا حصر لها (٧: ٩) تتطابق مع الأغنام الذين يذهبون إلى الحياة الأبدية (متى ٢٥: ٣٤، ٤٦)؛ وإضافة إلى ذلك، الجماعة الثالثة، الممحصة كالفضة والممتحنة في الذهب (زكريا ١٣: ٨، ٩)، على نفس المنوال يتم الحديث عنهم على أنهم الـ ١٤٤٠٠٠ يهودي مؤمن الذين يشغلون هذا المكان المرموق من الملكوت الألفي الأرضي. إنهم يقفون مع الحمل على كرسي الملكية. يا للتبديل الذي جرى! من استبداد الوحش إلى الصحبة مع الحمل! من مكان الألم إلى كرسي القوة المجيدة!

ضاربو القيثارة والمرنّمون:

٢، ٣- "وَسَمعْتُ صَوْتاً منَ السَّمَاء كَصَوْت ميَاهٍ كَثيرَةٍ وَكَصَوْت رَعْدٍ عَظيمٍ. وَسَمعْتُ صَوْتاً كَصَوْت ضَاربينَ بالْقيثَارَة يَضْربُونَ بقيثَارَاتهمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنيمَةٍ جَديدَةٍ أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات وَالشُّيُوخ. وَلَمْ يَسْتَطعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنيمَةَ إلاَّ الْمئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفاً الَّذينَ اشْتُرُوا منَ الأَرْض". تنطلق السماء مفجرة أغنية التسبيح. كنا قد رأينا أصوات بابل على الأرض، صرخة المنتصر الممتزجة مع عويل المهزومين. شهدنا الوحش يطأ الأرض ويُفتكها (دا ٧: ٢٣)- وهذا عرض للقوة وحشي بربري- وشركاه في الجريمة، ضد المسيح، يُعتموا معنوياً ويخدعوا العالم. أما الآن فثمة مناظر أخرى تُمتع العين، وأصوات وأغانٍ أخرى تروق للأذن. نلتقي بجماعة جديدة في السماء، متمايزة عن الأحياء والشيوخ، إذ يعزفون على القيثارة ويغنون "أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الأَرْبَعَة الْحَيَوَانَات وَالشُّيُوخ".

تُذكر القيثارة ثلاث مرات في الرؤيا، وفي كل حالة تكون مرتبطة مع الأغنية (٥: ٨؛ ١٤: ٢؛ ١٥: ٢). وهكذا يُصور لنا التسبيح الكورالي للمفتدين والجند السماوي. الشيوخ، الذين يمثلون المفديين في الماضي والحاضر، كل منهم يحتفل بنشيد وقيثارة مترنمين بتدخل الله بنعمته المقتدرة المخلِّصة (٥: ٨- ١٠). ومن جديد جماعة الشهداء من يهوذا يعبرون عن سرورهم وانتصارهم على نحو مشابه للشيوخ (١٤: ٢، ٣؛ ١٥: ٢، ٣). نفهم من النص في أصحاحنا هذا أن أولئك العازفين على القيثارة وأولئك الذين هم على بحر الزجاج (١٥: ٢) هما نفس الجماعة ونفس الفئة. النشيد والقيثارة متناغمين جداً لدرجة أن الكلام عنها يكون وكأنهما "صوت" فخم كمثل "مياه كثيرة" وقوي كمثل "الرعد العظيم". ثم تنشد هذه الجماعة من عازفين القيثارة "تَرْنيمَة جَديدَة" خلافاً للترنيمة القديمة. كانت القديمة تتكلم عن الفداء؛ وأما الأخيرة فموضوعها الخلق (أيوب ٣٨: ٧). الحمل والترنيمة الجديدة متلاصقان (٥: ٨؛ ١٤: ٢). الله والترنيمة القديمة متحدان. "نشيد موسى" و"نشيد الحمل" (١٥: ٣) مترابطان في موضوعهما الأوحد وهو طرق الله القديمة في تعامله بقوة وقدرة مع إسرائيل إضافة إلى نعمته الحالية لهم ولنا. حشد الأمميين المخلّصين الذين يُشكّلون مركز سكان الأرض الألفية يُقال بأنهم "أَمَامَ الْعَرْش" (٧: ٩). ولذا فإن الجماعة ترنم هنا "أَمَامَ الْعَرْش". ولكن مكان كليهما مختلف فالأولى على الأرض والأخيرة في السماء، وبالتالي فالمكانة تختلف بناء على ذلك. الأمميون المخلّصون لهم موقف افتراضي أمام العرش، بينما جماعة اليهود الشهداء فلهم مكان فعلي أمام العرش.

٣- "لَمْ يَسْتَطعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنيمَةَ إلاَّ الْمئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفاً الَّذينَ اشْتُرُوا منَ الأَرْض". المنشدون في السماء وأولئك الذين مع الحمل على جبل صهيون هما في حالة تعاطف قوية بشكل واضح. كلاهما يشكلان معاً جماعة واحدة على الأرض. هم يهود وأتقياء. كان لهم أصحاب في الشهادة بالاجتهاد وفي المعاناة تحت قمع الوحش وضد المسيح. كثيرون ختموا شهادتهم بدمهم، وآخرون مروا خلال الضيقة، وحفظوا أنفسهم أحرار من أي فساد يصيبهم به العالم الشرير. الجماعة الأولى هم الجماعة التي ترنم وتعزف على القيثارة في السماء؛ والجماعة الأخيرة هم الذين حفظوا من يهوذا على جبل صهيون؛ ومن هنا يأتي الترابط الحميمي بين الجماعتين. ونلاحظ كم هو ملائم أن اليهود المخلّصين والمعتقين على جبل صهيون هم الذين سيكونون وحدهم من أهل الأرض الذين يدخلون في ترنيمة إخوتهم "أمام العرش" في السماء. على الأرض يتعلمون الترنيم؛ وفي السماء يعرفون الترنيم (١ كور ١٣: ١٢).

لإظهار أساس البركة رغم انتصارهم على الوحش وتملكهم في صهيون، تأتي الكلمات: "الَّذينَ اشْتُرُوا منَ الأَرْض" وليس الذين "افتُديوا" كما يأتي في بعض الترجمات. كل القديسين في السماء والأرض اشتُريوا وافتُديوا. الأمر الأول ينطبق على جميع الناس وكل الأشياء على الأرض، والأمر الأخير ينطبق على المؤمنين فقط والأشياء على الأرض لدى مجيء الرب.

الْمئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفاً على جبل صهيون:

٤، ٥- "هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النّسَاء لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هَؤُلاَء اشْتُرُوا منْ بَيْن النَّاس بَاكُورَةً للَّه وَللْخَرُوف. وَفي أَفْوَاههمْ لَمْ يُوجَدْ غشٌّ، لأَنَّهُمْ بلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْش الله". في الرؤيا الأولى لدينا ثلاث جماعات من المفديين: (١) الشيوخ، وهم قديسو الماضي والحاضر؛ (٢) جماعة التسبيح من شهداء يهوذا في السماء؛ (٣) المنتصرون من يهوذا الذين بانوا من "الضيقة العظيمة". الجماعة الأخيرة مرتبطة بالحمل في انتصاره، وتقف على جبل صهيون، مركز الملكية والنعمة المطلقة. وسط المفاسد الأفدح، الوثنية الصريحة، والكبرياء المتعجرف، والتجديف الوقح، وحتى الشر، ولكن هؤلاء القديسين لم يتدنسوا. لقد سلكوا في عالم تُرك للشيطان بدون أن يتدنسوا. لقد عاشوا وسلكوا في نقاء مطلق ٢ (٢ كور ١١: ٢). لقد "حفظوا أنفسهم بلا لطخة من العالم". ولكن ليس فقط أن هناك عذرية بتولية في الحياة، بل هناك أيضاً حب عذري، مشاعر حب من قلب صادق نحو الحمل. لقد شهدنا على نقائهم والآن نشهد على طاعتهم التي هي كاملة ولا مثيل لها؛ إنهم "يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ". وتبعيتهم له لا ريب فيها.

٤- "اشْتُرُوا منْ بَيْن النَّاس" و"اشْتُرُوا منَ الأَرْض" (الآية ٣). هؤلاء يمثلون العرق والمكان الذي أخذهم الله منهم بنعمته. شراؤهم يعتبر عملاً خاصاً للنعمة الإلهية.

"بَاكُورَةً للَّه وَللْخَرُوف". هذه بركة عظيمة على الأرض آتية. الله والحمل سيحصدون حصاداً وافراً وغنياً، وهؤلاء هم مثال. الأولوية في الزمان والبركة في هكذا شخصية نجدها مُضمَّنة في العبارة "بَاكُورَةً" (انظر رومية ٨: ٢٣؛ ١ كور ١٥: ٢٠- ٢٣؛ يعقوب ١: ١٨؛ الخ).

٥- "وَفي أَفْوَاههمْ لَمْ يُوجَدْ غشٌّ". الصدق في الكلام كان يميزهم. اعترافهم بالمسيح على أنه المسيا الحقيقي كان اعترافاً صادقاً حقيقياً (١ يو ٢: ٢١- ٢٧)، في تغاير مع الحشد الذي استسلم للأكاذيب الباطلة في اقتبالهم وإقرارهم بالمسيح الكذاب، ضد المسيح (٢ تسا ٢: ١١؛ ١ يو ٢: ٢٢).

٥- "لأَنَّهُمْ بلاَ عَيْبٍ". هذه العبارة تختم وصف الـ ١٤٤٠٠٠على جبل صهيون. تستخدم إحدى الترجمات الكلمة "رياء" بدلاً من "غش" وتضيف "بلاَ نقيصةٍ قُدَّامَ عَرْش الله". وهذا تحريف خطير. المعنى المقصود والبسيط من العبارة "أنَّهُمْ بلاَ عَيْب" هي أنهم كانوا كذلك في سلوكهم وحياتهم العملية. لقد رفضوا الخضوع لأوامر الوحش المضطَهِد المجدِّف، ولم يتبعوا الوحش ولم يعبدوه. إغواءات ضد المسيح أيضاً، التي انخدع بها الجموع، تفادوها باشمئزاز وقداسة. بهذا المعنى "كانوا بلاَ عَيْب". مع قداسة الله المطلقة، ومطالب عرشه وطبيعته، ما كان ليمكن لأحد على الأرض أن يقف ويقول: "أنا بلا عيبٍ في ذاتي". لا يتحدث المقطع هنا عن هذا، بل يقول ببساطة أن تقدير الله لهم كان كذلك في ما يختص بسلوكهم العملي تحت حكم الوحش.

مراجعة:

الرؤيا الافتتاحية هي حول الحمل يقف على جبل صهيون ويُجهّز فزراً لانتحال سلطته الملكية كملك على إسرائيل. ومعه يرتبط عدد محدد من اليهود الذين بزغوا عن الضيقة العظيمة. يحملون علانية اسم الحمل واسم أبيه، وهذا من خلال اتقاد كامل للمجد الألفي والله يعترف بهم علانية. ثم يُسمع صوت "من" السماء أو صادر من السماء فخم عظيم ومرتفع وقوي. إنه صوت يجمع بين صوت القيثارة والترنيم للكثيرين. هؤلاء المنشدون وعازفوا القيثارة هم في السماء. مَن هم؟ غنهم جماعة متمايزة عن الشيوخ، وهم الموتى الذين قاموا وتغيرت حياتهم كما يرد في ١ تسا ٤: ١٥- ١٧. جوقة عازفي القيثارات هم إخوة لأولئك الذين على جبل صهيون. لقد بذلوا حياتهم رافضين الخنوع للوحش وخادمه الذي كان يسيطر على ضمائر الجموع. يُرَوْنَ هنا قائمين بالرؤية فقط؛ وفي الواقع كل العالم يدل على توقعات تتعلق بالحكم الألفي. إخوتهم على الأرض، الذين كانوا يوماً رفاق لهم في الاعتراف والألم، وحدهم يستطيعون أن يتعلموا نشيد السماء. كم تكون السماء قريبة من الأرض في تلك الأيام! وكم هي صادقة وجدّية تلك الصداقة بين القديسين في السماء وأولئك الذين على الأرض! إنه يوم هوشع ٢: ٢١، ٢٢، ويوم يوحنا ١: ٥١.

وهنا نعرف الأساس الذي يُذكر مرتين الذي يفسر وقوف هؤلاء المخلّصين في صداقة مقدسة وملكية مع الحمل. لقد اشتُريوا بثمن غالٍ، وهو دم الحمل. ونسمع بعدئذ عن سلوكهم العملي (وليس حالتهم الداخلية)، الذي هو متطابق بالمبدأ مع سلوك كل أبناء الله. (١) الانعزال، شامل وقاطع، عن الشر والوثنية في ما يحيط بهم. لقد حفظوا بتوليتهم العذرية من أي شر ومشاعرهم العذرية نحو المسيح. (٢) الطاعة والتلمذة كملامح مميزة. لقد تبعوا الحمل أينما ذهب لفترة من الزمن وخلال الأزمات عندما انجر الجميع ما عدا النخبة وراء الوحش. اتباعهم للحمل هو أمر حقيقي مميز. لقد تبعوه خلال الرفض الذي تلقاه؛ وعلى نفس المنوال تبعوه في مجده. الكلمة التي تُترجم "يَتْبَعُونَ" هي في الزمن الحاضر. (٣) الصدق، في الكلام والاعتراف، هو صفة أخرى من الشخصية العملية لأولئك القديسين. عندما استسلم العالم المسيحي برمته إلى أكاذيب الشيطان (٢ تسا ٢: ١١) فإن هؤلاء اليهود القديسين الأتقياء تشبثوا بالحقيقة في الكتاب المقدس الذي يعلّم عن المسيا والنبي الحقيقي. (٤) اللاعيب في سلوكهم الخارجي وطرقهم أمام الناس، وليس "أمام عرش الله" وفي هذا خلاصة مركبة تدل على شخصيتهم وحياتهم العملية. لقد كانوا بواكير الحصاد الذي جُمع من إسرائيل، كانوا فرحة لله وللحمل.

إعلان البشارة الأبدية:

٦، ٧- "ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَائراً في وَسَط السَّمَاء مَعَهُ بشَارَةٌ أَبَديَّةٌ، ليُبَشّرَ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ، قَائلاً بصَوْتٍ عَظيمٍ: «خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْداً، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَته. وَاسْجُدُوا لصَانع السَّمَاء وَالأَرْض وَالْبَحْر وَيَنَابيع الْميَاه»". يكشف الأصحاح من الآية ٦ إلى النهاية ترتيب الأصحاح. الرؤية الأولى تستبق المشهد السعيد عندما ينبلج الفجر لليوم الجديد فيبدأ الأرض بالسرور بعد أن كانت غيوم الدينونة السوداء قد حلّت. الجماعة الأولى والأكثر سعادة في العالم التي تحررت من عبودية الشيطان هم الـ ١٤٤٠٠٠، البقية التقية من يهوذا التي تثبت في علاقة صداقية آمنة مقدسة مع الحمل على جبل صهيون. ولذا فإن زمان ومكان الرؤيا نفسها (الآيات ١- ٥)، يجب تمييزها عن تحققها. تسلسل الأحداث مع اقتراب النهاية إلى خاتمة تكون في الآية ٦، الإعلان للعالم كله عن البشَارَة الأَبَديَّة.

٦- "رَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَائراً في وَسَط السَّمَاء". هذا الـ "ملاك الآخر" ليس له علاقة بالملاك السابع (١١: ١٥)، ولا مع الجند السماوي الذي تحت قيادة ميخائيل في الأصحاح ١٢، بل مع النسر الرسول الذي يطير وسط السماء معلناً الويلات (٨: ١٣). لعله يمكن القول أنه ليس من متانة في القول بأن الأول نسر والآخر ملاك، إلا أن الاعتراض ظاهري أكثر منه حقيقي. "الملاك" ككلمة لا تشير بحد ذاتها إلى طبيعة بل إلى منصب ومهمة وتُستخدم مع المخلوقات الروحية والبشر على حد سواء. السياق، وليس الكلمة بحد ذاتها، هو الذي يحدد في ما إذا كان المقصود بها بشر أو أرواح. كلمة ملاك تعني حرفياً "رسول". النسر والملاك كلاهما رسل. كلاهما يُشاهد وهو يطير في جلد السماء وكأنه يمسح الأرض، حتى على أقصى حدودها ويُعلن بصوت مرتفع رسالته. النسر الطائر هو نذير دينونة، أما الملاك الطائر فهو بشير رحمة.

٦- هل سيكون هناك إعلان حرفي عن "بشَارَة أَبَديَّة" من قِبل ملاك؟ هل سيعلن كائن روحي فعلياً الخبر السار من وسط السماء خلال مساره السريع؟ الملائكة سيُستخدمون بشكل كبير في الحكم العنائي والتدبيري قبل وخلال الملكوت الألفي. ولكن الكرازة بالإنجيل، سواء عن الملكوت، أو النعمة، أو مجد الله، هو مهمة فوض الله بها البشر وليس الملائكة، في حين أن الملائكة، وبلا شك، سيُنفذون عنائياً عمل إعلان الخبر السار في الأيام الأخيرة من الأسبوع النبوي الأخير. ولكننا نفهم أن الكارزين بالبشَارَة الأَبَديَّة سيكونون يهود مهتدين بشكل رئيسي، وأن نتيجة مأموريتهم تجميع حشد هائل لا عدَّ له من الأمميين المخلّصين للبركة الألفية (مت ٢٥: ٣٤؛ رؤيا ٧: ٩). ويعتقد البعض أن أشعياء ٦٦: ١٩- ٢١ ينطبق على نفس المأمورية التي لدينا هنا، ولكن هذا خطأ. مأمورية أشعياء كان لها دور عندما يأتي الرب شخصياً ليطلب كل الأجساد، كما يُظهر الجزء السابق من الأصحاح بشكل حصري؛ في حين أن البشَارَة الأَبَديَّة تُعلن للأمم قبل مجيء الرب. الملاك الذي يطير خلال تأديته لمأموريته يدل على شهادة واسعة الانتشار وسريعة للنعمة وتحذيراً من الدينونة ستُعلن في مساء "يَوْمِ انْتِقَام إِلَهِنَا" (أشعياء ٦١: ٢). الملاك يعلن البشَارَة الأَبَديَّة فقط في الرؤيا.

الإنجيل الذي يُكرز به الآن هو عن نعمة الله المطلق والغنية نحو الخطأة الآثمين (١ كور ١٥: ١- ٤؛ روم ١: ١٦)؛ وعن إنجيل مجد المسيح (٢ كور ٤: ٤). إنجيل الملكوت كان قد كُرز به قبل موت وقيامة المسيح (مت ١٠: ٧)، وسيُكرز به ثانية بعد انتقال الكنيسة (مت ٢٤: ١٤). ونستنتج أن البشَارَة الأَبَديَّة تختص بالملكوت، وهنا توصَف بـ "أبدية" لأنها حقيقة ثابتة دائمة أن الخالق وليس المخلوق هو موضوع العبادة الوحيد. هذا أيضاً المثال الوحيد الذي يتم فيه تطبيق كلمة "أبدي" على الإنجيل. أول ذكر للخبر السار نجده في تك ١٥: ٣، وحتى خلال الدهور الداكنة التي لا تتبدد من تاريخ البشرية يبقى هذا الإنجيل لا يتغير في طابعه، لأن الله رحوم إلى الأبد، ومنذ دخول الخطيئة إلى العالم حتى دينونتها على يد الله تبقى وحدها الرجاء بمخلوقاته. الإنجيل يُعلن لخمسة مجموعات: (١) "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض". رأينا نفس الفئة من الأشخاص قد تم ذكرها في عدة مناسبات (٣: ١٠؛ ٦: ١٠؛ ١١: ١٠، الخ). غنهم مسيحيين مرتدين كانوا قد رفضوا نداء الله إلى السماء( عب ٣: ١)، واختاروا عمداً الأرض واهتماماتها بدلاً من ذلك. وتم وصفهم على أنهم "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض"، ولكن هناك تعبيراً أقوى نوعاً ما يُستخدم: "المستقرُّون في الأرض". (٢) و"كُلَّ أُمَّةٍ". (٣) "وَقَبيلَةٍ" أي قسم أو جزء من أمة أو شعب. (٤) "وَلسَانٍ" في إشارة إلى اللغات واللهجات المتعددة المحكية. (٥) "وشعب" سواء كانوا منظمين أم لا؛ جموع البشر. هؤلاء الجماعات الأربعة الأخيرة تشمل الجنس البشري، وتُشكّل صيغة عالمية (٧: ٩؛ ١١: ٩). فهؤلاء إذاً هم الأشخاص الذين يُكرز لهم هذا الإنجيل. ولا نعلم إذا ما كان البعض قد قبله أو أن البعض الآخر قد رفضه. سنعلم عن ذلك في مكان آخر.

٧- ما يُعلن علانية وبشكل واسع يرد بعد ذلك. "خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْداً، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَته". أول واجب للمخلوق هو أن "يخاف الله"، وهذا فعلاً "رأس الحكم"- وهذا يتكرر مرتين (مز ١١١: ١٠؛ امثال ٩: ١٠). إنه أيضاً دعوة للتحول عن الوحش نحو الله: من المخلوق إلى الخالق. الجموع كانوا يمجدون إنساناً آلهه الشيطان. كانوا يعبدونه. بينما الله وحده هو الذي يجب أن يتمجد على الأبد في شخصه وأعماله وطرقه. العالم يُلفت انتباهه هنا إلى هذه الحقيقة العظيمة والجوهرية، والتي يكاد الناس ينسونها كلياً: "أَعْطُوهُ مَجْداً". الأساس المهيب الذي ترتكز عليه هذه الدعوة نجده تالياً: "لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَته". يا لها من لحظة رهيبة في تاريخ البشرية! الله على وشك أن يتدخل في الدينونة وما من قوة يمكن أن تسد الضربة. غنها على وشك أن تقع على العالم الدنس والشعوب المرتدة، مسيحيين ويهود. "وَاسْجُدُوا لصَانع السَّمَاء وَالأَرْض وَالْبَحْر وَيَنَابيع الْميَاه". الحقيقة العظيمة الأساسية بأن الله هو خالق كل ما يُرى وكل وما لا يُرى (كولوسي ١: ١٦)، قد زاغ بصر الناس عنها. اغتصب الإنسان مكانة الله، ومطالبة الخالق بحقه في ولاء المخلوقات له تكاد تنمحي من ذهن البشر. حقيقة الخلق هي من أوائل المواضيع الأساسية في الإعلان الإلهي (٣٠: ١). هنا يتم تذكرها والحث على التفكير بها على ضوء الدينونة الفورية المباشرة. عبادة الخالق واجب ضروري على الناس والملائكة. كما رأينا الجنس البشري تحت تصنيفات رباعية- أُمَّةٍ وَقَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ- هنا أيضاً تصنف الخليقة بأربع عبارات متساوية كونياً مع بعضها: السَّمَاء وَالأَرْض وَالْبَحْر وَيَنَابيع الْميَاه.

كم هو عظيم ويدل على نفس سموحة عند الله، أنه وقبل أن يُلقي بانتقامه العادل على الأرض الآثمة، أن يُرسل إلى الجنس البشري بكليته هذه الرسالة الأخيرة المطرزة بعبارات قوية وجليلة! اللحظة هي في محلها، لأن كل حقيقة عن الخالق كادت تتلاشى عن الأرض. فالجميع يسجدون للوحش ما عدا المختارين والذين يكونون عند ذاك أقلية ضعيفة واهنة.

سقوط بابل:

٨- "ثمَّ تَبعَهُ مَلاَكٌ آخَرُ قَائلاً: «سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ الْمَدينَةُ الْعَظيمَةُ، لأَنَّهَا سَقَتْ جَميعَ الأُمَم منْ خَمْر غَضَب زنَاهَا»". لابد من ملاحظة أن هناك ثلاثة إعلانات ملائكية محددة (الآيات ٦، ٨، ٩). الأول والثالث صدرا "بصوت مرتفع". ولكن ليس الحال هكذا مع الإعلان الثاني. بابل، مدنياً ودينياً، تصور كثيراً في تاريخ الكتاب المقدس. عندما يُنظر إليها كمدينة (إرميا ٥١)، أو كنظام ديني (رؤيا ١٤: ٨؛ ١٧؛ ١٨)، فإنها تُصور كنظام صلب واسع الأرجاء ومستعبِد لشعب الله. بابل القديم كانت أول سلطة أممية وكانت وحيدة سلط عليها الله بشكل مباشر سلطة حكمية (دان ٢: ٣٧). مصيرها، وانعتاق يهوذا من الأسر الذي دام ٧٠ سنة كانا حادثين مترابطين متزامنين. وهكذا سيكون عليه الحال في النهاية. الوحش في سفر الرؤيا، الذي يرث السلطة المدنية والسياسية لبابل القديمة، يهلك عند المجيء (رؤ ١٩)، وشعب الله يتحرر. ولكن ما هو أمامنا الآن هو بابل السرية، ذلك النظام الضخم من الزنى الروحي والفساد الذي يبقى متسلطاً على كل العالم النبوي. نادراً ما يكون ممكننا أن نتصور نظاماً ضخماً من الشر تعتنقه بشكل كبير وحميم الأمم التي كانت تُدعى يوماً مسيحية. ولكن الأمر سيكون هكذا وللأسف. بابل هنا هي التطور الأكمل لحالة الأشياء تحت حالة كنيسة ثياتيرا (٢: ١٨- ٢٣). والبروتستانتية كنظام يُدمر عند المجيء (٣: ٣). وتسقط بابل قبل المجيء (الأصحاح ١٧).

بابل، المدينة التي في القديم، كانت قامعة للأمم والشعوب، ومركزاً وقلعةً للكبرياء والصنمية في العالم. ختم الشيطان سمته عليها. ولكن إسرائيل سيكون الشعب الذي منه تنطلق معرفة الرب. ولكن إسرائيل، حرف وشوه مكانته على الأرض بمحاولته إدراة ورئاسة الأمم، وأثبت انه كان شعباً غير مخلص لرسالته في أن يعرف الناس على شخص الله الحقيقي والوحيد ولذلك فقد نحَّاه الله جانباً. بابل هي النقيض لما سيكون عليه إسرائيل، وبخلاف ما سيكون عليه تحت العهد الجديد (إر ٣١). الكنيسة يُفترض بها أن تكون شاهداً على شخص الله كنور ومحبة، بدلاً من أن تظهر للناس كخادم غير أمين للحق، وقد أخفقت في أن تكون شاهداً لله وللمسيح. بعد ذلك، وكنتيجة تالية للدمار الأخلاقي في الكنيسة، ستكون الأرضية مؤهلة للشيطان ليدخل إلى بابل السرية، التي تمثل فساد الأرض والاستعباد الروحي للأمم التي تكون ثملة بجنون بفسقها وزناها ومفاسدها. مفاتنها المبهرجة الزائفة هي سلاسل مقيدة؛ وكأسها مترع. الأمم استسلمت لإغواءاتها، وشربت بلهفٍ من كأسها الذهبي. وهنا يُعلن عن سقوطها وبعبارات قوية. تكرار كلمة "سَقَطَتْ" يجب أن لا نظن أنها مجرد سمة في اللغة العبرية وحسب. فالإعلان عن سقوط بابل حرفياً يكون مترافق مع إعلان سقوط بابل سرياً وبنفس العبارات تقريباً (أشعياء ٢١: ٩؛ رؤ ١٨: ٢).

في المقطع الذي أمامنا لدينا الحقيقة فقط وقد أُعلن عنها بأن بابل قد سقطت. وتُعتبر دينونة محققة. أشخاص محدودون ينجون ويُحفظون. الطابع، والمصير، والأدوات البشرية في دمارها نجدها محددة في الأصحاحين ١٧ و١٨، بينما دمارها الكلي والأبدي يُحتفل به بشكل كبير في السماء في الآيات الثلاث الأولى من الأصحاح ١٩، وهذا تمهيد لعرس الحمل. الزانية تُهلك، والعروس تظهر.

٨- "خَمْر غَضَب زنَاهَا". أن تكون الأمم جميعها ثملة تعبير فريد ويتجاوز ما قيل عن المدينة الفراتية (إر ٥١: ٧). بابل التي يذكرها سفر الرؤيا بإغواءاتها وإغراءاته الفاحشة وتحريضها على الشر سحرت الأمم وفتنتها. فأثارت شغفهم على نحو مخيف، وصاروا ليس فقط مخبولين (أخلاقياً بالطبع)، بل إن علاقاتها المحظورة معهم أودت بهم إلى سعير الجنون. في قمة الاتحاد الغير أخلاقي والشرير والأحمق بين الكنيسة الفاسدة والأمم التي تساويها فساداً، تأتي الرسالة الافتتاحية إلى مسامعنا: "سَقَطَتْ سَقَطَتْ بَابلُ". من كل النواحي تُعتبر بابل التي في سفر الرؤيا "عظيمة" خلافاً للمدينة القديمة. بعض الترجمات تحذف كلمة "المدينة" من النص (الآية ٨). ولكن هناك إجماع على رفض ذلك.

المصير الفظيع للساجدين للوحش وصبر القديسين:

٩- ١٢- "ثُمَّ تَبعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالثٌ قَائلاً بصَوْتٍ عَظيمٍ: «إنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ للْوَحْش وَلصُورَته، وَيَقْبَلُ سمَتَهُ عَلَى جَبْهَته أَوْ عَلَى يَده، فَهُوَ أَيْضاً سَيَشْرَبُ منْ خَمْر غَضَب الله الْمَصْبُوب صرْفاً في كَأْس غَضَبه، وَيُعَذَّبُ بنَارٍ وَكبْريتٍ أَمَامَ الْمَلاَئكَة الْقدّيسينَ وَأَمَامَ الْخَرُوف. وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابهمْ إلَى أَبَد الآبدينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَاراً وَلَيْلاً للَّذينَ يَسْجُدُونَ للْوَحْش وَلصُورَته وَلكُلّ مَنْ يَقْبَلُ سمَةَ اسْمه». هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ. هُنَا الَّذينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا الله وَإيمَانَ يَسُوعَ". رأينا سقوط بابل يُعلن عنه في الإعلان السابق. الإمبراطورية، في أوج قوتها المتحدة للإرادة والسلطة، هي التي تهلك بابل بشرياً (١٧: ١٦، ١٧). اقرأ: "الْعَشَرَةُ الْقُرُونُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى الْوَحْشِ". هذه القرون والوحش تعمل معاً بهدف مشترك وهو تدمير المرأة أو بابل. هذا يترك الوحش غير مقيد في مسيرة شره وتجديفه كان قد حمل المرأة سابقاً، أي أيَّدها. أما الآن، فكل الكراهية والاحتقار قد حلت محل الإعجاب السابق بها على مزاياها الروحية. لابد له أن يسود ويملك بدون منافس، وأن يكون المالك الوحيد للقوة والسلطان. يتم تأسيس نظام من القوة البربرية المتوحشة، ولكن مراسيمها تُفرض بشكل قاس لا يرحم. بعد دمار بابل ينتحل الوحش أبشع شخصية له. التطور الكامل الشر، في غياب الزانية، يتم بسرعة، وسياسة عنيدة متصلبة صارمة تُفرض مع القصد أن ينحني الجميع- أغنياء وفقراء، عظماء وضئيلوا الشأن- أمام الوحش وأن يسجدوا له. الخضوع المطلق للوحش هو ناموس الأزمة القادمة. ويصدر صوت تحذير مرتفع تحت هذه الظروف المريعة نحو عابدي الوحش. المصير المريع الذي يُعلن هنا، والذي ليس له مثيل في شدته، يتناسب مع الإثم والذنب الفظيع الذي كان يُمارس علانية آنذاك.

الوحش وصورته يجب أن يُعبدا كلاهما، وسمته يجب أن تُطبع إما على اليد أو على الجبهة، وذلك سيكون تحت عقوبة الموت الفظيعة. لا مهرب. البديل عن السجود للوحش هو الموت، وعلى الأرجح في أقسى أشكاله ضراوة، وكل التجارة والتبادل والمقايضة تكون محظورة بصرامة على أولئك الذين يرفضون الإقرار بمزاعمه (١٣: ١٧).

أتباع الوحش يُحذرون هنا ويُهددون بعقوبات فظيعة جداً لدرجة أن مجرد ذكرها يكفي ليجعل بدن المرء يقشعر. ولكن ماذا عن أولئك الذي سيُضطرون باحتمالها؟ "المَلاَك الثَالث" يقول "بصَوْت عَظيم"- وذلك لكي يسمع الجميع، وهكذا يكونون بلا عذر- ذاك الذي يكون قد سجد للوحش وقبل سمته، "سَيَشْرَبُ منْ خَمْر غَضَب الله". لقد شربت الأمم حتى الثمالة من كأس الزانية (الآية ٨)؛ والآن صاروا تحت العدالة الجزائية فسيشربون كأس الله (الآية ١٠). وفي هذا الكأس ليس من مواد مخففة (مز ٧٥: ٨). إنه كأس غضب صافٍ غير ممزوج. "يُعَذَّبُ بنَارٍ وَكبْريتٍ". العذاب المريع فردي هو. كل واحد سيتعرض لبؤس أبدي في شخصه. "نَارٍ وَكبْريتٍ". (أشعياء ٣٠: ٣٣؛ رؤ ٢٠: ١٠) هما رمزان لألم وكرب لا يوصف. ومن الملامح الأخرى الفظيعة للعذاب المؤلم الذي سيبتلي به كل تابع للوحش هو أن العذاب الذي سيعانونه سيكون "أَمَامَ الْمَلاَئكَة الْقدّيسينَ وَأَمَامَ الْخَرُوف". الملائكة القديسون كانوا قد شهدوا من مكانهم في الأعالي عن الشر الفظيع للوحش وأتباعه؛ والآن سيشهدون على انتقام الله، وكل معذب سيعرف أن الملائكة ينظرون إلى الأسفل نحو العالم المليء بالعذاب الذي لا يمكن وصفه ٣، وأيضاً "أَمَامَ الْخَرُوف" ٤، الذي كانوا قد تحدوه علانية سابقاً، والذي وطئوا دمه بشهوانية. وهذا سيضيف بالطبع بشكل كبير إلى فظاعة حالتهم.

١١- "يَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابهمْ إلَى أَبَد الآبدينَ". في الجمل السابقة لهذا المقطع المهيب العميق رأينا الفرد أمامنا، كما نستدل من استخدام الضمائر الشخصية. والآن، وإذ اكتملت الجماعة، فإن الحديث هو عن "دُخَانُ عَذَابهمْ"، لتلك المجموعة المعنية. يا لها من صورة رهيبة عن دينونة كاملة ساحقة! (تك ١٩: ٢٨؛ أش ٣٤: ١٠). الزانية تُدان على نفس المنوال وتُعاقب (قارن مع ١٩: ٣).

عبارة "إلَى أَبَد الآبدينَ" تُستخدم لتعبر عن:

الوجود الأبدي لله (٤: ٩، ١٠؛ ٥: ١٤؛ ١٠: ٦؛ ١٥: ٧).

المجد الأبدي للخروف (٥: ١٣).

الملك الأبدي للمؤمنين (٢٢: ٥).

المصير الأبدي للشيطان (٢٠: ١٠).

العذاب الأبدي للضالين (١٤: ١١).

عذاب الهالكين والشيطان أبدي. "لاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَاراً وَلَيْلاً" هي الإعلان الرهيب الوارد في ١٤: ١١، وهذا النهار والليل الحافلين بالعذاب هو إعلان على نفس الدرجة يرد في ٢٠: ١٠. ما من توقف، ولا تلطيف؛ الألم لا يتوقف. الرعب الذي لا نهاية له الذي سيعانيه أتباع الوحش يفوق تصور البشر. العقاب الأبدي للضالين محفور على سجلات سفر الرؤيا التي لا تفنى. الخطيئة وعقابها تقاس بعظمة ومجد وأبدية الله. هو وحده الذي يستطيع أن يكشف من يكون وما يكون. الخطيئة ضد كائن لا متناهٍ يجب أن ينتج عنها تبعات لا متناهية وأبدية.

"هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ. هُنَا الَّذينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا الله وَإيمَانَ يَسُوعَ". في حالة الأشياء هذه، والتي ليس لها مثيل في تاريخ الجنس البشري، لا يستطيع القديسون إلا أن يثبتوا ويصبروا وينتظروا. يُمنع عليهم أن يقاوموا بالسيف، وحتى وإن استطاعوا (١٣: ١٠). ولكن الإيمان والصبر في النهاية، ومهما طالت ودة الألم، سينتصر في اليوم الأخير. الموت أمامهم، ولكن من الأفضل لهم أن يقتلهم الوحش على أن يتعذبوا مع الوحش. القديسون المبتلون يلتصقون بمطالب الله الواضحة والإيمان بيسوع. في سجل سفر الرؤيا الشهداء هم شهداء يسوع (١٧: ٦). اسم أعذب صوتٍ لا يتردد إلا قليلاً في السفر، ولكن الارتباطات إليه والتي يظهر بها ذات أهمية عظيمة (١٤: ١٢؛ ١٧: ٦؛ ٢٢: ١٦).

الميت المطوَّب الذي يموتُ في الرب:

١٣- "وَسَمعْتُ صَوْتاً منَ السَّمَاء قَائلاً لي: «اكْتُبْ ٥. طُوبَى للأَمْوَات الَّذينَ يَمُوتُونَ في الرَّبّ مُنْذُ الآنَ - نَعَمْ يَقُولُ الرُّوحُ، لكَيْ يَسْتَريحُوا منْ أَتْعَابهمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ»". يقع صوت المتحدث، وليس اسمه، على مسمع الرائي المسيحي. الإضافة "لـي" في هذه الترجمة تُعتبر تحريفاً. فلم تكن الرسالة موجهة إلى يوحنا، رغم أنه سمعها، بل هي لكل القديسين، رغم أنها تنطبق بشكل خاص على المؤمنين في تلك الساعة الحرجة التي تسبق مجيء الرب في الدينونة. مما لاشك فيه أبداً أن الذين يموتون في الرب مباركون ومطوبون هم، ولكن لماذا تُقلب العبارة بالنسبة إلى هذه الفترة الفظيعة من تاريخ البشرية؟ ولماذا تأتي الإضافة "مُنْذُ الآنَ (أو من الآن فصاعداً)؟" ولماذا منذ تلك اللحظة بالذات؟ الإجابة على هذه الأسئلة بسيطة ومرضية. الكلمة "مُنْذُ الآنَ" تدل على النهاية القريبة، والبركة على وشك أن تحل.

في ٢٠: ٤ لدينا تكملة القديسين السماويين الذين يملكون مع المسيح لألف سنة. هناك ثلاث فئات من هؤلاء: (١) جماعة مميزة ومعروفة جيداً تجلس على العروش. هؤلاء هم الموتى المقامون والأحياء المتبدلون لدى مجيء الرب في الهواء (١ تسا ٤: ١٦، ١٧؛ ١ كور ١٥: ٥١- ٥٤). عندما يُختطفون يتم الحديث عنهم على أنهم "شيوخ" طوال القسم النبوي من سفر الرؤيا. (٢) "أرواح أولئك الذين قُطعت رؤوسهم بسبب شهادتهم ليسوع ولكلمة الله". هذه الجماعة تشكل فئة من الشهداء بحد أنفسهم، الذين ذُبحوا قبل أن يُوجد الوحش كسلطة وقوة مضطهدة. إنهم شهود تحت الختم الخامس (٦: ٩- ١١). (٣) "أولئك الذين لم يَسْجُدوا للْوَحْش وَلصُورَته، وَيَقْبَلُوا سمَتَهُ عَلَى جَبْهَتهم أَوْ عَلَى يَدهم". هناك فاصل زمني لبعض الوقت، ربما سنين، بين استشهاد هاتين الجماعتين الأخيرتين. ولذلك إن كانت جماعة القديسين المالكين مع المسيح جميعها مشتملة في الفئات الثلاثة المُشار إليها في (٢٠: ٤)، فبأي جماعة منهم نضع أولئك الذين "يَمُوتُونَ في الرَّبّ؟" لاشك أنهم وسط أولئك الذين استشهدوا تحت الوحش.

هناك اعتبار آخر ومفيد يلي ذلك. إن كانت الجماعتان من الشهداء تشمل كل الذين ماتوا بعد الاختطاف، فمن الواضح إذاً أنه ما من قديس خلال "أسبوع الأزمة" للسنوات السبع يموت موتاً طبيعياً. أولئك الذين "يَمُوتُونَ في الرَّبّ" يُذبحون ذبحاً؛ ومن هنا استحالة تطبيق نصنا المحفور على حجارة وضريح في ذكرى أمواتنا الغوالي علينا. أولئك "الَّذينَ يَمُوتُونَ في الرَّبّ مُنْذُ الآنَ" إنما هم شهداء. إنهم على وشك أن يشركوا في البركة التي لـ "الْقِيَامَةِ الأُولَى" (الأصحاح ٢٠: ٦). بركتهم في شخصه وفي ملئها تفوق للغاية كل أولئك الذين ينجون بعد الضيقة. الأسبقون يأخذون مكانة مميزة في المجد السماوي، والجماعة الأخير تُمنح أعلى مكانة على الأرض؛ الأسبقون يملكون مع المسيح والآخرون يُسادون؛ السابقون ملوك، والآخرون أتباع.

يتجاوب الروح مع صوت الآتي من السماء قائلاً: "نَعَمْ"، ويضيف كلمة تعزية غنية، "لكَيْ يَسْتَريحُوا منْ أَتْعَابهمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ". على الأرجح أنه ما من أحد وسط "سحابة الشهود" قد سار على هذا المنوال في حماسة واتقاد الإيمان كهؤلاء؛ ما من أحد خدم هكذا أو عانى هكذا تحت الظروف الأشد وطأة. ولكن الآن هؤلاء الشهود الذين "لم يكن العالم مستحقاً لهم" على وشك أن يدخلوا إلى راحتهم الأبدية- وبالتالي فقد زال وإلى الأبد التعب والشقاء والمعاناة. الله لا ينسى عملهم وتعب محبتهم. عندما يُقام هؤلاء القديسون ويُصعدون فإن أعمالهم تصحبهم، ولا تأتي خلفهم، بل "معهم". أعمالهم ستُثمَّن بقيمتها الحقيقية من قِبل قاضٍ عادل بار، سيُكافئ كل إنسان حسب عمله. الراحة والمكافأة هي النصيب الفوري لأولئك الذين يموتون آنذاك في الرب.

حصاد حصيد الأرض:

١٤، ١٥- "ثُمَّ نَظَرْتُ وَإذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَة جَالسٌ شبْهُ ابْن إنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسه إكْليلٌ منْ ذَهَبٍ، وَفي يَده منْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ منَ الْهَيْكَل، يَصْرُخُ بصَوْتٍ عَظيمٍ إلَى الْجَالس عَلَى السَّحَابَة: «أَرْسلْ منْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَت السَّاعَةُ للْحَصَاد، إذْ قَدْ يَبسَ حَصيدُ الأَرْض»". الدينونة القضائية على وشك أن تحصد الأرض الآثمة بمكنسة الدمار وتطهرها من الشر. الحصاد والكرمة صور رمزية مألوفة تُستخدم للتعبير عن تعاملات الله الأخيرة. السالفة هي دينونة حسنة التمييز، الغضب القاسي الذي لا يرحم. في الحصاد تُفصل الحنطة عن القش. وفي الكرمة هذه الأخيرة، أي العصارة التي لا قيمة لها، هي وحدها في العالم النبوي، وتُشكل مواد انتقام الرب العادل.

١٤- "نظرت فرأيت". هذا التعبير يستخدم فقط في بداية مواضيع ذات اهتمام غير عادي. هناك مسألتان هامتان للغاية اختيرتا من سلسلة الأحداث السبعة المحتواة في أصحاحنا، يستدعي انتباهنا إليها استخدام الكلمة "رأيت" (انظر الآيات ١: ١٤).

١٤- "سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ". هذه العبارة تميز هذا الفعل، وكذلك الأمر العرش الأبيض في دينونة الأموات (٢٠: ١١). السحابة ترمز إلى الحضور الإلهي (١٠: ١؛ متى ١٧: ٥؛ حز ١٠: ٤)، "الأبيض" هو النقاء والبر المطلق الذي يميز ويحكم الحدث.

١٤- "عَلَى السَّحَابَة جَالسٌ شبْهُ ابْن إنْسَانٍ". يُقال أن المسيح سيأتي في سحابة (لو ٢١: ٢٧)، ولكن يُقال أيضاً أنه سيأتي على السُحُب (متى ٢٤: ٣٠). في الحالة الأولى شخصه محتجب؛ وفي القول الأخير يظهر علانية. إنه يجلس على السحابة. هذه الدينونة دينونة هادئة متروية؛ ما من عجلة أو استعجال أو تسرع. "شبْهُ ابْن إنْسَانٍ". بهذا اللقب وهذه الصفة يتعامل المسيح مع حالة الأشياء على الأرض، ويدين غير الأتقياء (متى ٢٥: ٣١؛ يوحنا ٥: ٢٧). كابن لله يُحيي الآن الموتى روحياً (يوحنا ٥: ٢٥)، كما الأموات جسدياً في المستقبل (الآية ٢٨). كنا قد لفتنا الانتباه قبلاً إلى غياب أداة التعريف في هذا اللقب المستخدم في الرؤيا وفي دانيال ٧: ١٣. كابن الإنسان يأتي ويستلم زمام سطوة كونية. ارتباطه مع الجنس البشري والعالم عموماً يُعلن عنه بلقب ابن الإنسان، ولكن بهذه الشخصية نفسها يحمل المواصفات والأمجاد الأخلاقية لقديم الأيام (قارن دا ٧: ١٣ مع الآية ١٤ من أصحاحنا وأيضاًَ مع رؤيا ١: ١٣، ١٤). ما من شك في أن الرائي قد رأى بالرؤيا ابن الإنسان، ولكن في غياب أداة التعريف فإن هذا ما يميزه معنوياً على أنه المسيطر. أداة التعريف ستجعل الأمر محدداً وشخصياً. مواصفات ابن الإنسان يتم استحضارها إلى الذهن، وإلى هذه يتم توجيهنا- إلى تلك الصفات التي تميزه على أنه الواحد أكثر منه الشخص.

١٤- "لَهُ عَلَى رَأْسه إكْليلٌ منْ ذَهَبٍ"، وهذه علامة الوقار الملكي (٤: ٤؛ ٦: ٢). التيجان على رؤوس الجراد كانت "من ذهب" (٩: ٧). ادعاؤها وانتحالها السلطة الملكية كان كاذباً. ها هنا السلطة حقيقية وممنوحة من الله. ولكن الإكليل الذهبي أيضاً تعبير عن البر الإلهي في حدث الانتصار.

١٤- "وَفي يَده منْجَلٌ حَادٌّ". ليس هذا هو تنفيذ الدينونة سواء المعنوية (عب ٤: ١٢) أو المادية (رؤيا ١٩: ١٥)، وإلا فإن سيفاً كان سيُذكر هنا. ولكن المنجل يشير إلى الحاجة لجني الحصاد. إنه "حَادٌّ" لكي يقوم بعمله بشكل دقيق قاطع، وفي "يد" الحصَّاد، والذي هو على وشك أن يبدأ بعملية الفصل- فالقمح يُجمع في الأهراء والبقية التي تفضل تُجمع في رُزمٍ.

١٥- "وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ منَ الْهَيْكَل". كلمة "آخر" تظهر تمايزاً عن أولئك الذين ورد ذكرهم سابقاً في الأصحاح (الآيات ٦، ٨، ٩). العرش والهيكل، كلاهما "في السماء" هما مصدر الدينونة على الأرض كليهما. دينونات العرش تميز الجزء الأول الكبير من السفر وتُختتم بـ ١١: ٨. وتأديبات الهيكل هي موضوع الحديث من ١١: ١٩ وإلى سكب الجامات (الأصحاح ١٦). في الجام السابع، الذي يؤتي بغضب الله إلى ختامه، يتحد الهيكل والعرش في الفعل (الآية ١٧). من اجل العرش انظر ٤: ٥؛ ومن أجل الهيكل انظر ١١: ١٩. العرش يدل على تطبيق الحكم الإلهي؛ والهيكل يشير إلى الحضور المباشر لله. في الجزء الثاني الرئيسي من سفر الرؤيا، من ١١: ١٩، تصير الدينونات ذات طابع أشد من الدينونات السابقة، إذ أن الشر الذي يجب معالجته هو من النوع القاسي المبرح، والأشد صراحة ووقاحة وتجديفاً وهو ذات طابع مدني. ومن هنا فإن الدينونة تخرج عن حضور الله نفسه، أي من الهيكل- وطبيعة الله كنور يتم تحريضها على الفعل. 

١٥- يصرخ الملاك من الهيكل "بصَوْتٍ عَظيمٍ". إنه دعوة إلى الفعل الفوري من قِبل الحاصد الإلهي. "أَرْسلْ منْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَت السَّاعَةُ للْحَصَاد، إذْ قَدْ يَبسَ حَصيدُ الأَرْض". هناك سببان وراء بدء ابن الإنسان مباشرة بالجمع في الحصاد. أولاً، الساعة المعينة للتعامل الأخير قد أتت؛ وثانياً، الحصاد نضج تماماً، نعم، لقد "نشف" (انظر ١٦: ١٢). ساعة الدينونة (الآية ٧) وساعة الحصاد (الآية ١٥) يُقال أن كلتاهما تكونان قد جاءتا، وكلاهما تشير جوهرياً إلى نفس طبيعة الفعل.

١٥- "أَرْسلْ منْجَلَكَ وَاحْصُدْ". ابن الإنسان لا يحصد بنفسه شخصياً. إنه يشرف على الأمور. إنه يحصد بالوساطة. الحاصدون الحقيقيون هم الملائكة (متى ١٣: ٣٩).

١٥- "حَصيدُ الأَرْض". له طابع سياسي (يوئيل ٣: ٩- ١٤) وديني (متى ١٣: ٢٤- ٣٠). الآنف مرتبط مباشرة بإسرائيل، ومجال تأثيره هو في وادي يهوشافاط (يوئيل ٣: ١٢)؛ والأخير أوسع امتداداً، فيشمل في مجاله كل العالم المسيحي (متى ١٣: ٣٨).

١٦- "فَأَلْقَى الْجَالسُ عَلَى السَّحَابَة منْجَلَهُ عَلَى الأَرْض، فَحُصدَت الأَرْضُ". النتيجة هي فورية، ولكن هذا في الرؤيا فقط. يجب أن لا ننظر إلى هذه الأفعال على أنها ترمز إلى أعمال قوة إلهية خاطفة. الأحداث لاحظناها في الرؤى السابقة- وهي قد تمتد لفترة زمان طويل وقد تشمل عدة وكلاء- وتظهر كأنها تكتمل بفعل واحد. في الرؤى، النتائج المكتملة مُوجزة بشكل ملخص ومختصر. ولكن في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس تكون التفاصيل على نفس الدرجة من الأهمية وتُكشف على هذا الأساس. ولكن كم هو كرم من الله أن يعرض لنا بدقة أهدافه التي ستتحقق؛ وهذه الرؤى الرؤيوية تؤكد ذلك.

لقد لاحظنا للتو أن الحصاد يميز ويفصل بين الحنطة والزؤان. "اجْمَعُوا أوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي" (متى ١٣: ٣٠). هذا إذاً هو عمل الحصاد. إنه نفس طابع عمل الفصل الذي تُجمع به الأسماك الذهبية في أواني وتُرمى السيئة بعيداً (الآية ٤٨). هذه العملية الصعبة ستكون في نهاية الزمان. ليس من تنفيذ فعلي للدينونة في الحصاد. فهذا يكتمل ويتم في قطف عنب الكرمة؛ وليس في الحصاد إكمال لبواكير جماعة العذارى في الآية ٤. ذلك الحصاد يتميز بالبركة، ويُحصد عندما يؤسس الملك الألفي. الحصاد هنا هو دينونة تمييزية تسبق تأسيس الملكوت. الحصاد هو الدينونة بنظرة مسبقة.

كرمُ الأرض ودينونته:

١٧- ٢٠- "ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ منَ الْهَيْكَل الَّذي في السَّمَاء، مَعَهُ أَيْضاً منْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ منَ الْمَذْبَح لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّار، وَصَرَخَ صُرَاخاً عَظيماً إلَى الَّذي مَعَهُ الْمنْجَلُ الْحَادُّ، قَائلاً: «أَرْسلْ منْجَلَكَ الْحَادَّ وَاقْطفْ عَنَاقيدَ كَرْم الأَرْض، لأَنَّ عنَبَهَا قَدْ نَضَجَ». فَأَلْقَى الْمَلاَكُ منْجَلَهُ إلَى الأَرْض وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْض، فَأَلْقَاهُ إلَى مَعْصَرَة غَضَب الله الْعَظيمَة. وَديسَت الْمَعْصَرَةُ خَارجَ الْمَدينَة، فَخَرَجَ دَمٌ منَ الْمَعْصَرَة حَتَّى إلَى لُجُم الْخَيْل، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَستّمئَة غَلْوَةٍ".

١٧- "مَلاَكٌ آخَرُ". في هذه الرؤى هناك ذكر لستة ملائكة (الآيات ٦، ٨، ٩، ١٥، ١٧، ١٨). الأعداد الترتيبية، الثاني والثالث (الآيات ٨ و٩)، من الواضح أن المقصود بها أن تشكل مجموعة من ثلاثة ملائكة متمايزة عن أولئك الذين يأتون بعدهم ولا يُذكر عددهم. الملائكة الذين يتم عدهم يعلنون عن أحداث محددة لها صلة وثيقة مع بعضها. الرابع والخامس يخرجان من الهيكل (الآيات ١٥، ١٧)، والتي منه تُسكب كل الجامات (١٦: ١). الملاك السادس يخرج من المذبح (الآية ١٨).

١٧- "مَعَهُ أَيْضاً منْجَلٌ حَادٌّ". هناك اهتمام بالتفاصيل الدقيقة في الوصف السابق لا نجده في هذا المقطع. هناك يأتي القول "في يَده منْجَلٌ حَادٌّ" (الآية ١٤)؛ وهنا نجد ببساطة القول: "مَعَهُ أَيْضاً منْجَلٌ حَادٌّ". في المقطع الأول نجد "صَوْت عَظيم"؛ وبينما في الآخر نجد القول: "صُرَاخاً عَظيماً" ( الآية ١٨). لابد لنا من ملاحظة هذا الفارق وفوارق أخرى دقيقة إن ابتغينا الفائدة الكاملة. وبالطبع، هناك أشياء معينة مشتركة، مثل "الحصيد" و"الكرمة".

ثم يُرى "مَلاَكٌ آخَرُ" يخرج "منَ الْمَذْبَح لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّار". هذا هو المذبح النحاسي، مذبح الدينونة. الصرخة المرتفعة والحاجة الملحة التي تصدر عن أرواح الشهداء تحت المذبح والمطالبة بانتقام عادل (٦: ٩- ١١) لم يتم الإجابة عليها إلا جزئياً. والآن المعيار الكامل للدينونة سيتم إنزاله على أعدائهم. المذبح النحاسي يرمز إلى القبول (لاويين ١)، ومع الدم على قرونه نجد مفهوم المغفرة (الأصحاح ٤). ولكنه مذبح مقدس، ومن هنا فإنه يتطلب دينونة الخطية؛ إنه أيضاً أساس المغفرة الإلهية. الفكرة هنا هي دينونة صافية غير ممتزجة- دينونة إلهية على كرم الأرض (قارن مع حز ٩: ٢). ملاك المذبح "صَرَخَ صُرَاخاً عَظيماً". إنها صرخة مرتفعة قاطعة وملحة، ولا تحتمل التأجيل على الإطلاق.

١٨- "اقْطفْ عَنَاقيدَ كَرْم الأَرْض؛ لأَنَّ عنَبَهَا قَدْ نَضَجَ". إسرائيل القديم كان الكرم الذي أُخرج من مصر (مز ٨٠: ٨)- نظام الرب الذي يحمل ثمراً على الأرض. بعد قرون من الحراثة والتهذيب والعناية أنتج الكرم "عنباً برياً" فقط (أشعياء ٥: ٢- ٤). الكرم الجيد الذي غرسه الله رب الجنود، وفي أيام النبي المنتحب، "تَحَوَّلْتِ لِي سُرُوغَ جَفْنَةٍ غَرِيبَةٍ" (إرميا ٢: ٢١). ولذلك تمت تنحية إسرائيل جانباً ليتم استبداله معنوياً بالمسيح الكرمة الحقيقية، الذي وحده كان يستطيع أن يحمل ثمراً وقد أثمر فعلاً (يوحنا ١٥). علامة التلميذ الحقيقي ليست فقط أن يكون غصناً في الكرمة (ويهوذا لم يكن كذلك)، بل أن يكون غصناً يحمل ثمراً. العبارة "كَرْم الأَرْض" تشير إلى كل النظام الديني في الأزمة القادمة، وليس اليهودية فقط. عناقيد العنب ناضجة للدينونة. إنها تُجمع في عناقيد وتُلقى إلى معصرة غضب الله. التجديف الديني الكبير على الأرض يتم التعامل معه الآن بقسوة في دينونة. "ديسَت الْمَعْصَرَةُ خَارجَ الْمَدينَة". يُلقى الزؤان الآن إلى النار ٠متى ١٣: ٤٠- ٤٢)- "أَتُونِ النَّارِ". هو أيضاً تبديد للأغصان غير المثمرة (يوحنا ١٥: ٦). ما من رحمة، وما من دينونة، بل انتقام مطلق. معصرة العنب ترمز على ذلك. إنه يوم انتقام إلهنا. إنه الوقت الذي تكلم عنه أشعياء ٣٦: "مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟" ويجيب المسيّا: "قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ. فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي. فَرُشَّ عَصِيرُهُمْ عَلَى ثِيَابِي فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي. لأَنَّ يَوْمَ النَّقْمَةِ فِي قَلْبِي وَسَنَةَ مَفْدِيِّيَّ قَدْ أَتَتْ" (الآيات ٢- ٤). كرم الأرض هو تعبير مناسب، يشمل اليهود المرتدين والأمميين والمرتدين (مز ٨٥: ٥؛ أشعياء ٣٤؛ إرميا ٢٥: ١٥، ١٦؛ يوئيل ٣).

٢٠- "ديسَت الْمَعْصَرَةُ خَارجَ الْمَدينَة". أورشليم هي المدينة المشار إليها هنا وادي يهوشافاط كان خارج أورشليم، وهناك كامل انتقام الله سينسكب، "امْتَلَأَتِ الْمِعْصَرَةُ" (يوئيل ٣: ١٣). في الواقع، الحصاد والكرم كلاهما يُطحنان مباشرة على حسب نبوءة يوئيل (الأصحاح ٣)، وبالطبع مع تطبيق أوسع. خارج المدينة، أو "خارج" ترمز على فلسطين ككل.

٢٠- "فَخَرَجَ دَمٌ منَ الْمَعْصَرَة حَتَّى إلَى لُجُم الْخَيْل، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَستّمئَة غَلْوَةٍ.". الدم، وليس الخمر أو عصير العنب، هو الذي انسكب، من المعاصر إلى عمق لُجُم الْخَيْل؛ طول جدول الدم يبلغ حوالي مئتي ميل. المغزى من ذلك دمار واسع للحياة البشرية في منطقة محددة. وبالتأكيد ما يُقال عن ربح واسع يفوق كل ما سبق وعُرف. نستنتج أن عالم الكرمة في أسوأ أشكاله هو الذي يشير إليه يوئيل في ٣: ٩- ١٤، كما وأنه المكان الذي سيُشن عليه معركة هرمجدون (رؤيا ١٦: ١٤- ١٦): العالم، أيضاً، الذي في رؤيا ١٩: ١٩. كل هذه تتركز في فلسطين. فهناك سيتمركز الشر في الأرض. الوحش وضد المسيح كلاهما يسقطان هناك وكذلك أتباعهما. جوج أيضاً وتابعه، ملك الشمال المعادي للشعب العبري يلقون مصيرهم في تلك الأرض (انظر حز ٣٨؛ ٣٩، من أجل جوج وحلفاءه؛ وانظر أشعياء ١٤: ٢٥؛ دا ١١: ٤٥ من أجل الأشوريين أو ملك الشمال). تعاملات الله النهائية في نهاية الأزمة كما يتم التعبير عنها في الحصاد والكرم ستكون متمركزة في الأرض، وستنزل أثارها على شعب إسرائيل الذي سيكون آنذاك أكثر الشعوب إثماً، وسيمتد إلى أقصى حدود العالم المسيحي. بالتأكيد لا نعتقد أن المقصود بذلك هو وادي يهوشافاط وهرمجدون فعلياً حرفياً، إذ أن كليهما ترمزان إلى مكان تجمع للأمم الذين سيتجمعون على مقربة من أورشليم وهكذا تصبح يهوذا ساحة معركة بين الأمم. فليحفظ الله المؤمنين المحبوبين من فظائع تلك الأيام.


١. "إعلان يسوع المسيح"، بقلم و. ر. هـ.، صفحة ٥٤.

٢. هؤلاء هم الذين لم يتدنسوا بالنساء، لأنهم كانوا متبتلين، إن نسبنا هذا إلى العذرية بشكل حرفي، كما يفعل البعض، إنما هو أمر يبعث على الأسى ويدل على انعدام التمييز الروحي؛ إضافة إلى ذلك، فإن الغموض في هكذا تفسير سيحصر الجماعة التي على جبل صهيون بالرجال فقط. 

٣. في الفترة المشار إليها، وخاصة في بدئها، سيكون للملائكة دور كبير في تنفيذ الدينونة الصادرة (متى ١٣: ٤٩: ٥٠؛ رؤيا ٢٠: ١- ٣). ثم نقرأ عن ذلك التعبير الرهيب عن "غضب الخروف". كلا الحمل والملائكة يكون لهما دور في تنفيذ انتقام الله القدير على الوحش وأتباعه.

٤. العذاب المحدد المشار إليه هنا والذي يتلقاه أولئك الذين يضعون سمة الوحش هو عبارة عن نار وكبري، "في حضرة الخروف"، وهذا التعبير الأخير يبدو أنه يحوي قمة اللعنة، على نفس الطريقة التي يُعبر عنها في (٦: ١٦)، والذي يعبر عن الرعب الذي سيشعر به الأشرار لدى رؤيتهم "وجه ذاك الذي يجلس على العرش"- "ملاحظات على الرؤيا"، بقلم برودي، ص. ١٣٣.

٥. الأمر بالكتابة يتكرر ١٢ مرة في سفر الرؤيا ما يدل على أن الأشياء المعنية ذات أهمية قصوى.

Pages